مشاركة المرأة في
اتخاذ القرار
بقلم:
يسرى الأيوبي
المرأة لم تكن نفسها أبداً،
وكبتت دائماً إمكانياتها المبدعة هناك حيث سادت أجواء العنف التي تحكم عالم
الرجال أكثر مما تحكم عالم النساء. والى هذه النقطة بالذات يجب أن نوجه
اهتمامنا عند معالجتنا معضلة ابتعاد المرأة عن المشاركة في اتخاذ القرار بشأن
ذاتها، وبشأن أسرتها ومجتمعها، وبشأن الإنسانية بأسرها، وهي التي صاغها الخالق
وشرفها بإعطائها الدور الحاسم في تجديد الحياة الإنسانية والمحافظة عليها.
المرأة جنس يتكامل مع الرجل ولا
يتميز إلا بكونه له خصوصية في إبداع الحياة ورعايتها. ولكن هذه الخصوصية تعطي
عالم المرأة تمايزاً لا يمكن تجاهله. فليس من صالح المجتمع الإنساني أن يعزلها
ويشترع لها دون أن يشركها في قراره، فتكون دائماً ظلاً وتابعاً دون مراعاة
لحاجاتها وخصوصياتها، مما ينعكس سلبياً على حاضر المجتمع ومستقبله. فلا توجد
هناك أسرة تكون المرأة مسحوقة فيها ويكون الأبناء أسوياء. والمجتمع الذي يبدأ
فيه التمييز منذ سني الطفولة المبكرة بين الجنسين، ليجعل للذكر اليد العليا
وللأنثى التبعية، وتتجدد دورة الحياة والأجيال فيه دون تطور كبير في وضع المرأة
في الأسرة والمجتمع، يحكم على نفسه بالقصور والتشوّه.
لم يكن تحرير المرأة غاية منعزلة
قائمة بحد ذاتها في ديانات التوحيد، كما لم يكن تحرير العبيد أو إنصاف
المستضعفين غاية منعزلة في هذه الديانات. وإنما حكم وضعها، كوضع العبد أو
المستضعف، بالأهداف البعيدة لديانات التوحيد، في توحيد المجتمع داخلياً بإزالة
أسباب الانشقاق والصراع وإشاعة العدل فيه، وتوحيد المجتمعات الإنسانية فيما
بينها بمنع العدوان والظلم، أصل الحروب، واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، والحض
على التعارف والتعاون بين الأمم. واعتبرت ديانات التوحيد إخاء بني البشر
أفراداً وأمماً بغض النظر عن لونهم أو قوميتهم أو ثرائهم ونفوذهم أو تمايزهم
بين ذكر وأنثى، وتساويهم المبدئي أمام الله، وبالتالي بداهة تساويهم أمام
القوانين، وتكافؤ فرصهم، وتمايزهم فقط بصالح أعمالهم، ركناً أساسياً في
عقيدتها. وانطلقت تحارب دون هوادة الأنانية والجشع الوثنيان اللذان يؤديان إلى
تأليه البشر قويهم على ضعيفهم، وطغيانهم بعضهم على بعض، أفراداً كانوا أم
جماعات ودولاً، وطغيانهم على بيئتهم من حولهم.
يا أيها الناس إنا خلقناكم من
ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله
عليم خبير" (الحجرات 13)
ولم تكتف ديانات التوحيد بوضع
القوانين الناظمة للعلاقات في مجتمعات التوحيد، وهي قوانين متغيرة على كل حال
بتغير الظروف والأزمان، وتجسيد هذه القوانين بمؤسسات. بل وجهت عناية مماثلة
للتربية الأخلاقية للفرد للارتقاء بضوابطه الضميرية الذاتية، وللارتفاع بمستوى
وعيه إلى الحد الذي لا يسيء فيه تطبيق هذه القوانين العامة، ولا يلتف حولها
ويمسخها لخدمة أهداف أنانية بعيدة عن جوهرها، فينحط بها إلى وثنية ظالمة جديدة.
على هذا الجوهر الخالد لديانات
التوحيد يجب أن تستند حركة تحرير المرأة، بل تحرير الإنسان قاطبة أينما كان
مكانه على سطح أرضنا الواحدة.
وهنا لا بد أن أنوه أن خروج
المرأة إلى ميدان العمل المنتج في عصرنا الراهن لم يحررها ويجعلها سيدة قرارها،
كما لم يحرر من قبل العمل العبيد والمستضعفين، وكما لم يحرر حالياً المستغلين
في الشعوب المحكومة بأنظمة الربا العالمية. فقط الإرادة الواعية لغاية وجود
الإنسان على هذه الأرض، والنابعة من الالتزام الأخلاقي الفردي والجماعي بمثل
التوحيد، قادرة على تحرير العمل والإنسان.
عندما توضع الأهداف الكبيرة
أمامنا، سرعان ما يخطر ببالنا أن نجزئها، ونعمل على إنجازها بخطوات صغيرة
متتالية. فما هي الآليات العملية المقترحة، حسبما أرى، التي توصل المرأة إلى
حقها في المشاركة في اتخاذ القرار في العصر الحديث؟ حيث نالت كثيرات من النساء
التعليم والثقافة والتدريب، ونزلن إلى العمل الإنتاجي خارج المنزل، ومارسن
المهن المختلفة الحرة والفنون، واستلمن الوظائف، وقمن بالخدمات، ومع ذلك بقي
مستوى مشاركتهن في اتخاذ القرار متدنياً حتى في الدول المتقدمة.
1– في المجتمعات التي تسود فيها
فلسفة العنف والتسلط، في الخارج بالهيمنة والحروب، وفي الداخل بالقمع الظاهر
والمستتر، بدءاً بأشكاله
المتطرفة كالدكتاتورية والمخابراتية وانتشار المافيا والفتن بسبب غياب العدالة
الاجتماعية لجماهير الناس، وحتى أشكاله الأرقى حيث تمارس النخب الاستغلال في ظل
حريات مشوهة، تُطلق أيدي الناس فيها حسب علو
مراتبهم في هرم النفوذ
الاقتصادي السياسي الاجتماعي، وتغل كلما دنت واقتربت من قاعدة الهرم، تصبح
القوة هي
مصدر القرار ويتقلص دور المرأة.
إن منطقتنا المبتلاة بأنظمة ليس
لها صفة ديموقراطية تحتل مرتبة متقدمة في سلم المجتمعات التي تمارس العنف
ويمارس عليها. ومن البديهي أنه لا يمكن لمجتمع أن يعطي حرية اتخاذ القرار
للمرأة بينما لا يملك عامة الرجال مثل هذه الحرية. وخصوصاً حين تكون البنى في
مثل هذا المجتمع غير متطورة، وغير مستعدة أن تتواكب مع التطور بسبب الأفكار
الاجتماعية السائدة. فالشرط الأولي لتحرير الرجل والمرأة أن تكون المجتمعات
ديموقراطية. وهذا يعتمد على كفاح مشترك لرجال ونساء مجتمعاتنا لتشكيل جماعات
ضغط تعمل لصالح الديموقراطية.
وعلى المؤسسات الدولية كمنظمة
الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها، كذلك على الدول الديموقراطية التي
سبقتنا في هذا المجال أن تساند هذا الاتجاه الذي يعمل في سبيل إرساء أسس
الديموقراطية في منطقتنا. وكي تكون هذه المساندة فعالة فلا بد للدول
الديموقراطية، وغالبيتها من دول الغرب التي تملك مصالح استراتيجية في بلادنا،
أن تعتمد في علاقاتها معنا مبدأ أخلاقياً إنسانياً بعيد المدى بدلاً من المبدأ
النفعي الآني الضيق الذي تعتمده حاليا.
ولا بد من التنويه أن تشريع
القوانين الديموقراطية وبناء المؤسسات الديموقراطية لا يكفيان لجعل المجتمع
إنسانياً توازن فيه مصالح وحاجات مختلف فئاته ومن ضمنها نساؤه. وكما أشرنا
سابقاً يبقى الارتقاء بالضوابط الضميرية الذاتية، والارتفاع بمستوى وعي الأفراد
والجماعات، الضامن لحسن تطبيق القوانين، والانتفاع بالمؤسسات الديموقراطية بما
يعود بالخير على الناس كافة.
2- إن تغيير الوعي الاجتماعي
بالنسبة لدور المرأة في المجتمع يتحقق بالتقدم الطبيعي العام، الاقتصادي
والاجتماعي، في المجتمع. وتتطور تبعاً لذلك مؤهلات النساء أنفسهن. ولكن يجب أن
لا نقلل من شأن التثقيف الجماهيري لوسائل الإعلام ودور العلم لتغيير تصورات
تقليدية عن دور المرأة في المجتمع. وهذا الأمر يسرّع عملية اقتناع الرأي العام
قبل أن يتطور بشكل طبيعي في صالحها.
3- إن تشكيل جماعة، نابعة من
جماعات الضغط الديموقراطية، لتدافع عن حقوق المرأة، وتؤلف فرعاً ينتسب إليه لا
علاقة مباشرة له بالأحزاب السائدة بتياراتها المختلفة والمتصارعة في أحيان
كثيرة، يعتبر أمراً حيوياً في الانتقال، بمسألة مشاركة المرأة في اتخاذ القرار
خصوصاً وتحرر المرأة عموماً، من الأدبيات إلى مجال التطبيق. وتستمد هذه الجماعة
قوتها من خصوصية دور المرأة في المجتمع، ويكون لها وزن في دعم القرارات
والتشريعات التي تكون في صالح المرأة بشكل عام، عبر تنسيق مصالح كل القوى التي
تمثلها. وتنسق هذه الجماعة أعمالها مع جماعات حقوق الإنسان، وحماية البيئة،
وحقوق الأقليات، وغيرها من الجماعات الديموقراطية، لتشكيل الرأي العام.
يكون للجماعة الديموقراطية
المدافعة عن حقوق المرأة دورها التوفيقي بين مختلف وجهات النظر، ودورها الضاغط
في منع الظلم الاجتماعي لأي فئة كانت، ودورها التقدمي في نشر الديموقراطية
وتعميمها لتشمل كل بنى المجتمع، ودورها الإنساني العام في تقارب المجتمعات
الإنسانية. وتدعم الجماعة المدافعة عن حقوق المرأة طموحات الأجيال الجديدة من
الشباب. وتدافع عن حقوق الأطفال والمتقدمين في السن. وتعمل على استكشاف وممارسة
أساليب الخلاص من التخلف دون ممارسة العنف الاجتماعي، وعلى إحداث التراكم
المادي الضروري لذلك بالوسائل السلمية القائمة على التعاون والتكافل والتضحية
المتبادلة. ويكون لها دور في شجب الظلم والممارسات التخريبية واللصوصية والفساد
في المجتمع وفضح القائمين بها، وفي إعادة المجتمعات إلى توازنها الطبيعي على
النطاق الطائفي والطبقي، من مبدأ أن المجتمع هو للجميع ويتقدم الأصلح في
كفاءاته، ليس على أساس المنافسة الشرسة بل المسؤولية المتبادلة، كل من موقعه
المؤهل له. وتعمل على شفاء السيكولوجية المشوهة والمنتشرة على نطاق واسع التي
تدفع الأفراد للحصول على الامتيازات بالتكتلات المغلقة، الطائفية أو الطبقية أو
القومية أو الجنسية، أو بالتقرب من صانعي القرار في مجتمعات القوة
والدكتاتورية.
4- إن التنسيق بين عمل المرأة
المنتجة وبين دورها في الإنجاب ورعاية الأطفال هو أمر في غاية الأهمية، إذا
أردنا الحديث بجدية عن مشاركة المرأة باتخاذ القرار. وتحدد واجبات المجتمع تجاه
المرأة في توفير حضانات على مستوى لائق من الرعاية، دون أن يحرم الأطفال من
الخصوصية التربوية للبيت، وتحتفظ الأسرة بالدور الرئيسي في هذه العملية. ويجب
أن ينظم المجتمع بشكل يسهّل للمرأة العمل والتنقل دون إسراف في تكليفها فوق
طاقتها بساعات عمل طويلة أو إضافية، فيكون هذا الإرهاق عبودية جديدة لها.
والغاية هي الوصول إلى الشكل الأمثل للأسرة المتعاونة، المصونة الحقوق، الراعية
لجيل سوي. إن عمل المرأة، وبناء علاقات حيوية لها بالمجتمع، تساعد على تحقيق
ذلك بشكل أفضل من عزلها وقصرها على مهام البيت والأولاد والزوج فقط، مهما كان
الرجل منصفاً في ضمان حقوقها، ومهما كانت ظروفه الاجتماعية تكفل لها ولبنيها
الرخاء.
5- السعي إلى رفع المستوى
التعليمي والثقافي والتدريبي لكافة النساء بحيث يصبحن في مستوى الرجال. لهن
مثلهم الحد الأدنى من العلم، الذي لا يجب أن يقل عن تسع سنوات دراسية لكلا
الجنسين كحد إلزامي أدنى، وتتاح لهن فرص الدراسات العليا إن أبدين أنهن كفؤات
لذلك.
6- الحث على خلق وتنويع فرص
العمل المأجور داخل المنازل وتشجيع هذا التوجه في المجتمع. وتبرز بشكل متزايد
إمكانيات جديدة للقيام بكثير من الأعمال من المنازل مع انتشار الكومبيوترات
الشخصية وشبكات الاتصال.
7- على التيار النسائي
الديموقراطي في منطقتنا أن يعبر عن مصالح إنساننا ضمن الإطار الإنساني العام.
فيتبنى وجهات النظر التي تعبر عن مصالحنا المشروعة، ولا ينجرف وراء الدعوات
التي تطلقها جهات أخرى دون التمعن فيها لتبين مدى صلاحها لنا. فمثلاً تحاول بعض
الجهات الغربية المتنفذة في الأمم المتحدة أن تسخر الحركة النسائية في بلادنا
لتنفيذ سياستها في تحديد النسل في العالم الثالث وفي عالمنا العربي والإسلامي
بالذات. ولا يدفعها إلى هذا حرصها على مصالح إنساننا ورخائه، أو المصلحة
الإنسانية العامة، بل تصورات ضيقة عن خطر مزعوم يهدد مصالحها الاقتصادية الآنية
ويهددها ثقافياً. إن مثل هذا الأمر لا يمكن تنفيذه قسراً، ولكنه يحدث بشكل عفوي
حين تشعر المجتمعات بالاطمئنان، وتزداد ثقافة المرأة.
8- وحتى في حال حصول تقدم على
صعيد التحولات الديمقراطية يجب مواصلة الضغط، كي تضمن الدساتير تخصيص نسبة دنيا
للنساء في المجالس التشريعية، لا تقل عن عشرة بالمائة حسب اعتقادي. إن النسبة
الطبيعية لبرلمان ديموقراطي حقاً، في مجتمع يساوي المرأة بالرجل، هو أن يكون
لها نصف المقاعد كما للرجل. ولكن ظروف المرأة في كثير من بلدان عالمنا المعاصر
لا سيما العالم الثالث لا تسمح بأن تكون هذه النسبة واقعية، فنسبة عشرة بالمائة
كحد أدنى، لإيصال وجهة نظر النساء إلى التشريع، تعتبر بداية محتملة خجولة،
وتكون نسبة 50 بالمائة رقماً مثالياً للتطور الطبيعي في المجتمع.
9- يجب العمل بجد على فتح باب
الاجتهاد في التشريعات المعاصرة المتعلقة بالمرأة. فيتم استيعاب التغيرات التي
حدثت في المجتمعات التي انتقلت من الطور الحرفي إلى الطور الصناعي، ومن ضمنها
المجتمعات الإسلامية، والتغيرات الحاصلة في مرحلة الانتقال العالمية إلى طور
أعلى. ويجب القيام بجهد تثقيفي وتنظيمي جاد كي توضع هذه التشريعات بمتناول
النساء والرأي العام.
في الماضي كانت التشريعات
الإسلامية المتعلقة بالمرأة متقدمة على مثيلاتها في أنحاء أخرى من العالم،
وكثير من الحقوق التي تمتعت بها المرأة المسلمة لم تحصل عليها نظيرتها الغربية
مثلاً حتى القرن التاسع عشر ومطلع هذا القرن. وأسوق مثالاً على ذلك مبدأ انفصال
الملكية الزواجية في الشرع الإسلامي. فالشرع قام على أساس انفصال ثروة الزوجة،
التي تأتي بها من أهلها أو من زواج سابق أو تحصل عليها بعملها أو يهبها إياها
زوجها، وليس للزوج سلطان عليها. ومثل هذا الحق ضمن العدالة في الأسرة المسلمة
حتى في حال تعدد الزوجات. ومع ذلك فان انتقال المجتمع الإسلامي من الطور الحرفي
إلى الطور الصناعي جعل هناك فجوة في التشريع، لا تستوعب وضع المرأة المسلمة
المعاصرة. هذه الفجوة لابد من سدها بالاجتهاد آخذين بعين الاعتبار النواحي
الإيجابية في تجارب الآخرين. ولا بد أن يفتح هذا الباب لتشارك المرأة فيه،
فتشارك من لها الكفاءة والعلم الكافيين في الاجتهاد لسن تشريعات جديدة، تكفل
حقوق المرأة ضمن الروح الإسلامية، التي تتوخى في غاياتها العدالة في الأسرة
وسلامة المجتمع.
10- إن الجهل بالتشريعات
والقوانين يعيق الفرد عن ممارسة حقوقه، ولا شك أن التعريف بالتشريعات والقوانين
ووضعها في متناول المرأة والرأي العام يلعب دوراً هاماً، ليس فقط في جعل مشاركة
المرأة في اتخاذ القرار أمراً واقعياً، بل في اتخاذ القرار الصحيح أيضا. وتبرز
هنا أهمية وسائل الإعلام في رفع مستوى الثقافة الحقوقية عند النساء. كذلك قد
يكون من المفيد إقامة مراكز استشارية تتعهدها الجماعة الديموقراطية النسائية
تقدم النصح والعون العملي لمن تحتاجه.
11- تعزز جميع حقوق المرأة
المسلمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كفلتها لها أصلاً
الشريعة الإسلامية، وتراجعت عنها الممارسات الواقعية في المجتمع المسلم. إن
المرأة المسلمة شاركت منذ اللحظة الأولى في الجهاد العظيم لنشر الإسلام والدفاع
عنه. وغنية عن التعريف سير أولئك النسوة اللواتي خلدهن التاريخ، وكثيرات غيرهن
لم يعرفن وخلدن بعملهن الصالح وجهادهن في سبيل الدعوة الجديدة عند رب العالمين.
وتاريخنا مليء بهذه السير التي أذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر، فمن جهاد
أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها، إلى ابنة الصديق أسماء ذات النطاقين،
إلى أم عمار بن ياسر التي عذبت مع زوجها وابنها فماتت وزوجها تحت العذاب دون أن
يتراجعا عما آمنا به. وزنيرة التي عذبت في سبيل الله حتى عميت فلم يزدها ذلك
إلا إيماناً، والخنساء الشاعرة أم الشهداء التي كانت تحض أولادها على الجهاد في
ساحة المعركة، فلما بلغها نبأ استشهادهم قالت "الحمد لله الذي شرفني بشهادتهم
جميعا". نساء لولاهن لم يكن للإسلام وجهه الخالد المضيء نفسه. وقصة زوجة أبان،
التي قتلت حامل العلم الرومي في معركة اليرموك، وأوقعت جيش الأعداء في الفوضى،
وساهمت في صنع النصر، شهيرة في تاريخ الفتوحات. وكذلك قصة خولة بنت الأزور
ورفيقاتها اللواتي خلصن أنفسهن من الأسر والعبودية لجيش الروم. إن المرأة
المسلمة كانت تمارس ما اعتادت عليه في الجاهلية من مرافقة الرجال في الغزوات
والدفاع عن نفسها ببسالة إن هوجمت، وفي أوائل الإسلام أخذت النساء المسلمات
يطالبن الرسول في أن يكون لهن الحق بممارسة الحرب واكتساب الأجر حتى يكن
مساويات للرجال. وروي أن أم سلمة زوجة الرسول ومعها نسوة قالت"ليت الله كتب
علينا الجهاد كما كتبه على الرجال، فيكون لنا من الأجر مثل ما لهم"، فنزلت
الآية "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا
وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله بكل شيء عليم" (النساء
32). لقد أعفى الله النساء من فرض الجهاد في ساحات المعارك واعتبر جهاد المرأة
السلمي في بيتها بإنجاب الأطفال، وهي عملية خطرة، وتربيتهم تربية صالحة، وهو
أمر شاق، يماثل في أجره جهاد الرجل مقاتلاً. وأما من اختارت القتال فهو تطوع
وزيادة في التضحية، إذ يعرض المرأة المسلمة للقتل، أو أن تؤخذ أسيرة وتصبح أمة
. وبعد نزول هذه الآية استمرت النساء المسلمات في التطوع بمرافقة الجيوش
المسلمة التي غيرت فتوحاتها مسار تاريخ البشرية. والمرأة المسلمة كانت تشارك في
السياسة. وانتقدت النساء المسلمات الخلفاء، وتوسطن في حاجات الناس . والنساء
المسلمات قمن بمختلف أعمال البر، من بناء المساجد والمدارس والمشافي، وجر
المياه من أموالهن الخاصة، وروين الأحاديث الشريفة، ودرّسن الفقه، ومارسن الطب
والفنون، ونظمن الشعر. والمرأة المسلمة في الطور الحرفي الإسلامي كانت على
العموم منتجة، تقوم بمختلف المهن التي يتيحها الاقتصاد المنزلي، وتؤجر على
عملها، وتحتفظ بأجرها لها ولأولادها. ولم تتوقف عن الإنتاج إلا حين اكتسحت
السلع الآلية السوق، وانهارت الحرفة في الشرق، وانهارت معها مقوماتها. فعاشت في
بطالة، حتى انتقلت بعدها إلى مجتمع جديد. فقامت بأعباء جديدة خارج المنزل، دون
أن يسعى المجتمع المسلم إلى تحسين وضعها وإنصافها بسبب غياب الاجتهاد.
حتى تكون المرأة نفسها وتشارك في
صنع القرار يجب أن تسبح في بحر الحياة بإمكانياتها فليس سوى السمك الميت يمكن
أن يجرفه التيار. أما امرأة وزيرة وبضع نساء يعملن في السياسة وحفنة من النساء
الموظفات فما هي إلا صور سرابية لتحرير المرأة يعطيها المجتمع المتبجح الكاذب
المتخلف في ما يحيط به نفسه خجلاً من المتطورين.
لقد آن الأوان للمرأة أن تتفتح
وتأخذ دورها، فالعصر معها. والإمكانيات الجديدة وتكنولوجيا العصر تساهم في
تطوير قدراتها، وتهيئ الظروف كي تصل إلى مراكز اتخاذ القرار فيما يتعلق بذاتها
وبأسرتها وتجاه مجتمعها. وحتى تجاه جملة المجتمعات الإنسانية التي تتقارب
اليوم، فتتقارب الأفكار، ويتوحد الاقتصاد، وتتوحد مشاكل الناس وطموحاتهم في
بناء عالم جديد.
أضيفت في24/10/2005/ خاص
القصة السورية (
للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول
أدب المرأة )
بعضهن رفض تصنيفه
الأدب النسائي.. بين مؤيد ومعارض
بقلم:
أمينة عباس
مازال مصطلح الأدب النسائي موضع شك وارتياب
بالنسبة للكثيرات من المبدعات، ومازال بالنسبة لبعضهن تهمة تلصق بما يكتبنه..
ومن هنا بقي هذا المصطلح يتأرجح بين مؤيد ومعارض، وسط مناقشات في الأوساط
النسائية الأدبية بشكل خاص.
الكاتبة دلال حاتم تقول ليس هناك أدب نسائي وآخر رجالي، بل هناك أدب
وموهبة، مع اعترافها بأن هناك مواقف وقصصاً تكون فيها الكاتبة أقدر على سبر
أغوار المرأة لكونها امرأة، كما أن الرجل يكون قادراً على توصيف حالات وضع
الرجل أكثر من المرأة على الرغم من وجود نماذج من أدباء استطاعوا الدخول إلى
العوالم الأخرى مثل الكاتب يوسف إدريس الذي كان بارعاً في وصف عالم المرأة
لكونه طبيباً، وعلاقته مع النساء جيدة، فنجح في سبر أغوار المرأة.
وتستطرد حاتم قائلة: ما يؤخذ على ما تكتبه المرأة أن الهم النسائي
مازال موجوداً في كتاباتها، رغم أن هذا الهم هو جزء من هموم عامة، ولا يفترض أن
نختصر الهموم في هذا المجال فقط.
د.ناديا خوست
تقول: برأيي هناك مدارس أدبية في العالم، وبين تلك
المدارس لا يوجد مدرسة تدعى الأدب النسائي، وبالتالي يصنف الأدب الذي تكتبه
المرأة في مدرسة من هذه المدارس الأدبية التي يشترك فيها النساء والرجال على حد
سواء، لأن المرأة إنسان ذو موقع اجتماعي واقتصادي، وذو علاقات إنسانية بالمجتمع
الذي نعيش فيه، ومن هذا الأساس تعبر عن مبادئها وعن رؤيتها إلى الحياة، وهي في
ذلك تتفق مع بعض الكتّاب، وتختلف مع بعضهم الآخر، لذلك وعلمياً لا نستطيع أن
نطلق اصطلاح أدب نسائي نجمع فيه كاتبات مختلفات تماماً في الأسلوب والاتجاه
والرؤية الفكرية.
يمكننا أن نستخدم كأسلوب عمل ونقد مفهوم أدب المرأة بدلاً من الأدب
النسائي وذلك إذا كان التقييم لدراسة ملامح معينة في واقع معين وبشروط واضحة
ومحددة وتحت عناوين واضحة، وهذا ما أقبله أنا، أما مفهوم الأدب النسائي فأنا
أرفضه تماماً، وأعتقد أن ترديد هذا المفهوم ليس لزيادة قدر المرأة ورفع شأنها
وإنما لتصغيرها وإعادتها إلى الحريم بحريم الأدب النسائي .
القاصة
لبنى ياسين
تقول:
في البداية يجب أن نحدد معيار التصنيف, أن نقول أدبا نسائيا هل هو تعبير معياره
الأسلوب؟ أم الإبداع أم انتقائية المواضيع أم خصائص تبرز في الكتابة النسائية
تجعلها مختلفة عن الأدب الذكوري أو الرجالي أو الآخر مهما كان؟؟.
من ناحية الإبداع لا أجد فرقا في الكتابة معياره الجنس بل الاختلاف هنا شخصي
تماما, أما من ناحية الأسلوب فقد تكون المرأة اشد حياءً في معالجة أمور العاطفة
واكثر شفافية ورقة في التعبير عن المشاعر التي تنتابها أو تنتاب أبطال قصصها
مثلا من نظيرها الكاتب الرجل وبالطبع ستسيطر عليها خصائص شخصية المرأة وخاصة إن
كنا نتحدث عن المرأة الشرقية, لنأخذ الغزل مثلا ...قصيدة حب لامرأة تغازل فيها
حبيبها تختلف تماما عما يكتبه رجل لحبيبته, فمثلا قد تجدين الكثير من القصائد
أو القصص النسائية التي تحمل معنى (متى سيشعر هذا الرجل بمشاعري ويدنو ويبوح لي
بمشاعره) ولكنك لن تجدي مثل هذا الموضوع عند الرجال لأنه هو المعني بالبوح
والمصارحة وهذا فارق في شخصية المرأة والرجل أساسا, نحن لا نخلع شخصيتنا جانبا
أثناء الكتابة مهما حاولنا أن نكون حياديين, هناك شئ منا يتسلل خفية بين السطور
لكن القارئ يلاحظه بوضوح لذا قد تجدين هذا الفارق في تناول موضوع الحب والعواطف
وما إلى ذلك كما في حال تناول موضوع الخيانة الزوجية في قصة كتبها رجل ستجدين
تلويحا ما بان تقصيرا لدى الزوجة اجبر البطل على الارتماء في حضن أخرى بينما في
قصة تكتبها امرأة ستتعاطف مع الزوجة غالبا وتظهر سمة الخيانة بوضوح وتصفها بشكل
قاس.
أما في الهموم الوطنية والإنسانية فلن تستطيع على الأغلب أن تفرقي بين كتابة
امرأة ورجل لأنها هموم إنسانية وهما أمامها سواء تماما لا فرق بينهما.
قد يطرح تعبير أدب نسائي كمعيار تصنيفي كما نقول أدب المهجر مثلا المقصود هنا
دراسة آثار النساء الأدبية وخصوصية طرحهن ورؤيتهن للقضايا المطروحة وقلة
تواجدهن العددي على الساحة مقارنة بتواجد الرجل, وأنا لا أجد في هذا التعبير من
هذا المنظار أي ضير فبالنتيجة هنالك تعابير تصنيفية كثيرة في الأدب كما أسلفت
(أدب المهجر, أدب الانتفاضة, أدب النكسة)، وطالما أن المعيار لهذا التصنيف ليس
بقصد الإقلال من شأن المرأة بل بقصد إظهار خصوصيتها واختلاف رؤيتها فلم لا
اقبله بل وارحب به أيضا؟!.
الروائية
د.هيفاء بيطار وهي طبيبة انتقلت إلى عالم الكتابة في فترة التسعينيات
وعرفت بغزارة إنتاجها بين قصة ورواية تعترف بأنها ليست ضد هذا المصطلح
لاقتناعها بأن الكتابة النسائية لها خصوصيتها كما يمتلك الرجل الكاتب خصوصيته
حيث تقول: أنا كامرأة عبّرت في روايتي (امرأة من طابقين) عن مشاعر شديدة
الخصوصية لا تستطيع أن تشعر بها إلا الأم ولا يمكن للرجل مهما كان قادراً
التعبير عنها بصدق، إضافة إلى أن المرأة تفهم العالم بصورة مغايرة لما يراه
الرجل، فالمرأة لديها قدرة أكثر على الاحتضان والاستيعاب والتعمق في تفاصيل
الأمور، وهذا لا ينتقص من قيمتها إذاً.. أنا مع أن يوجد مصطلح أدب نسائي ولكنني
ضد أن يطرح هذا المصطلح على أساس أنه أدنى مستوى من أدب الرجل، وتضيف : أنا
عندما أكتب لا أفصل بين كوني كاتبة وامرأة، فعندما بدأت الكتابة كان همي أن
أعبر عن هموم ومعاناة شخصية، وبعد انتهاء هذه المرحلة بروايتي (يوميات مطلّقة)
لم يعد الهم الشخصي هو محرضي بل أصبح هناك هم عام.
القاصة سمر شيشكلي قالت: طالما كان الإنسان بشكل عام كيانا تصوغه
عوامل عدة تتباين بتفاعلها النماذج البشرية باستمرار وإلى نهاية هذا الوجود
عوامل خارجية تتمثل في البيئة بأبعادها المتعددة, الاجتماعية منها أو الثقافية
أو حتى الجغرافية وعالم الإنسان الداخلي تساهم في صياغته جيناته فتحدد قدراته
وطاقاته ميوله ورؤاه إشعاعاته في ممارساته العقلية والنفسية من هنا والفكرة
تتخذ أبعاداً أعمق مما ذكرت عندما تبحث بعلمية وموضوعية نجد اختلافاً وتنوعاً
في الأنساق الفكرية والإبداعية بين البشر بين الرجل والرجل حتى في الوسط البيئي
والثقافي الواحد فما بالنا بينهما في الأوساط المتباينة, وما بالنا بين الرجل
والمرأة تحديداً.
مؤكدة أن طبيعة المرأة الإنسانية الأنثوية تختلف عن طبيعة الرجل
ولكن ليس بمفهوم الأدنى والأعلى وليس على المرأة أن تدافع عن كيانها بالتغاضي
عن اختلافها الطبيعي وتنكرها له وتشبثها بفكرة التماثل الإنساني بقدر ما عليها
فهم طبيعتها واحترامها هي أولاً لتبدأ بالإشعاع برؤاها الفكرية والإبداعية
النابعة من خصوصيتها المتمايزة عن خصوصية الرجل, علها تقدم للإنسانية نسقاً
جديداً يحمل العالم إلى منعطف جديد من تاريخه, منعطف أكثر عدلاً وإنصافاً,
إشراقاً وصحة.
الطبيعة الأنثوية ليست شيئا دونياً لتتنكر له المرأة, إنه جزء كبير
من ذاتها, ولابد أنه سيلون إبداعها, سواء أكتبت عن شؤونها كامرأة, أو عن شؤون
الإنسانية كجماعة تشترك بالعيش معا على هذا الكوكب, أو عن شؤون الرجل حتى إنها
بذلك ستقدم العالم, بما فيه الرجل, برؤية تلونها ذاتها الخاصة, مما سيكون فرصة
تنوع أصيلة للفكر الإنساني.
وإن بدأت المرأة بوعي ذاتها وإخراج تفاعلاتها الخاصة, إلا أن منطق
العدل معها مازال قاصراً من جهة الرجل, ومازال السعي حثيثاً من جانبها لربح
مواطنة حقيقية في مجتمعاتها والمقاومة ضد هذا المشروع شديدة سواء كان من جهة
الجهل كخصم أول لها الجهل بإمكانياتها وخصوصيتها وقيمة هذه الخصوصية, أو من جهة
الرجل باعتباره استمتع ويستمتع بدهر أزلي من التفوق الذكوري بكافة تجلياته.
والآن هل يمكن لنا أن نقارن أدباً أو فكراً تكتبه امرأة بما يكتبه
الرجل؟ وكيف نقيمه؟
أظننا لو تكلمنا عن المعايير الفنية والتقنية فالأمر طبيعي أن تتم
المقارنة بغض النظر عن الجنس, أما لو اتجهنا إلى خصوصية الرؤية فأظن أنه من غير
العدل اعتبار أدب الرجل وفكره معياراً حاسماً.
ولا يمكنني أن أنسى مع كل هذا بأن الرجل هو أبي وأخي وصديقي وزوجي
وابني, هو جزء عظيم من عالمي الذي أحبه والذي ساهم في تكويني بشكل أو بآخر,
والذي أساهم في تكوينه أنا بدوري بشكل أساسي.
الناقدة الأدبية د.ماجدة حمود تقول: يبدو لنا أن مصطلح النسوية
مازال يثير تساؤلات كثيرة، منها: هل هناك خصوصية في الخطاب النسوي؟ هل يعني
استخدامه تمييزاً مطلقاً بين أدب ذكوري وأدب أنثوي؟ بمعنى هل يقصد من استخدامه
التمركز حول الذات الأنثوية؟ هل هو مصطلح عادي يختزل دلالات متعددة عبر مفردة
أو هو مصطلح بإمكانه أن يحمل دلالات خارجة عنه؟
لذلك مازال استخدامه يثير حساسية دعاة المساواة بين المرأة والرجل،
كما يثير استخدام اسم المرأة حساسية التقليديين .
يبدو أن أي مصطلح يخص المرأة لا بد أن يثير الحساسية والجدل، مع أن
المقصود من استخدام النسوية التعرف على الإبداع الذي تكتبه المرأة، وتلمّس مدى
خصوصيته .
النسوية تعني جملة ما تكتبه المرأة من أدب، ولا شك أن مثل هذه
الدراسة التي تحاول أن تختص بأدب المرأة تستطيع أن تمنحنا الدقة في الحكم،
وبالتالي فإن استخدام مصطلح النسوية مثله مثل أي مصطلح لا يحمل دلالات تفضيلية،
أما عزل أدب المرأة عن أدب الرجل فتقتضيه الضرورة المنجية البحتة، ولا يعني
الانطلاق من رؤية ضيقة عنصرية غايتها التمركز حول الأنوثة.. هذه الحركة التي
شاعت في الغرب وتبنت نظرة أحادية الجانب تغذي العداء بين الجنسين .
صحيح أن الأدب النسوي يتمحور حول العلاقة مع الرجل في أغلب الأحيان،
فقد بدا هاجس الإبداع النسوي إبراز خصوصية هذه العلاقة، لكن هموم المجتمع
والأمة كانت جزءاً من هم المرأة .
إذن لا يُقصد من استخدام هذا المصطلح الإشادة بتفوق جنس على جنس أو
عزل الإبداع النسوي عن الإبداع الذكوري، وإنما الانطلاق من حقيقة الإبداع لابد
أن يكون من نبض المعاناة الخاصة أولاً ثم يكسوه الفنان حلة عامة، ولا شك أن هذه
المعاناة تتجلى عبر جماليات اللغة التي يمتزج فيها الفكر والشعور والتخيل،
فيتجلى عبرها الشكل الفني، عندئذ نستطيع أن نلمس جماليات خاصة للرواية النسوية
التي لخصتها بريجيت لوغار عبر أربعة محاور : الجنس وإدراك الجسد والتجربة
الحياتية واللغة.
أضيفت في24/10/2005/ * خاص
القصة السورية المصدر
الكاتبة:
لبنى محمود ياسين
(
للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول
أدب المرأة )
الأناقة والإغراء في لغة
أحلام مستغانمي
بقلم:
عبد السلام صحراوي*
تفردت الكاتبة والشاعرة الجزائرية "أحلام
مستغانمي" وتميزت في تجربتها الكتابية لكونها أول كاتبة جزائرية وتميزت في
تجربتها الكتابية لكونها اول إمرأة تخوض مغامرة الكتابة الروائية باللغة
العربية، وهي دون شك مغامرة صعبة سيما حين نعلم ان جل الأدباء، والأديبات في
الجزائر (الجزائريين) كتبوا بالفرنسية وترجمت أعمالهم بعد ذلك الى العربية.
والأديبة "أحلام " تشير الى هذا الموضوع اشارة بليغة للغاية حينما تهدي روايتها
الأولى "الى مالك حداد.. ابن قسنطينة، اذ تقول في اهداء روايتها "ذاكرة الجسد":
"الي مالك حداد.. ابن قسنطينة " الذي أقسم بعد استقلال الجزائر الا يكتب بلغة
ليست لغته.. فاغتالته الصفحة البيضاء.. ومات متأثرا بسلطان صمته ليصبح شهيد
اللغة العربية، واول كاتب قرر أن يموت صمتا وقهرا وعشقا لها": وتقول أيضا في
هذا الاهداء: "والى أبي.. عساه يجد هناك من يتقن العربية، فيقرأ له أخيرا هذا
الكتاب.. كتابه " ا`ا. وليس عبثا ان تضمن "أحلام " هذا الاهداء لروايتها فالامع
لا محالة متعلق بعشقها وحبها للغة العربية وهي تبعا لهذا تتجه نحو خرق القاعدة
وتصدر روايتها الأولى باللغة العربية في الجزائر سنة 1993عن دار الآداب ببيروت،
ويعاد طبعها عام 1996 في طبعة ثانية وفي طبعات أخرى فيما بعد. غير إن الطبعة
الثانية لرواية "ذاكرة الجسد" يكتب مقدمتها الشاعر العربي الكبير نزار قباني..
وبعد سنوات من كتابتها "ذاكرة الجسد" تعود فتطل علينا من جديد برواية ثانية هي
"فوضى الحواس" هذا العنوان الثاني لأعمالها الروائية الذي ارادته الكاتبة
عنوانا للمرحلة الثانية من عملها الروائي الذي اشارت الكاتبة الى انه سيكون على
ثلاث مراحل أي في شكل ثلاثية. فهي بذلك تعد بعمل روائي ثالث في المستقبل. اما
"فوضى الحواس" فقد كان صدورها عام 1998 عن دار الآداب ببيروت (2). وقد اعتمد
هذان العملان الروائيان للتدريس في كثير من الجامعات والمعاهد العربية، منها
جامعة بيروت الامريكية وكذا معاهد الآداب في الجامعات الجزائرية من خلال اجتهاد
بعض الاساتذة والطلاب.
كما ان للكاتبة بعض الاصدارات الاخري خارج الرواية وفي الشعر تحديدا
منها "على مرفأ الأيام "- الجزائر 1973، و"الكتابة في لحظة عري" عن دار الآداب
1976، وكتاب صدر لها في باريس يحمل عنوان "الجزائر- المرأة والكتابة
"(سنة1985).
والمقام لا يتسع هنا للحديث عن مضمون هذين العملين الروائيين لهذه
الكاتبة، فليس موضوعنا هوا لتعرض للمضمون وانما أردناه حول: "لغة الكاتبة في
كتابتها الروائية كما هي واضحة في عمليها الروائيين "ذاكرة الجسد" و"فوضى
الحواس ".
ولعل أفضل ما يلخص مضمون العملين ما قاله نزار قباني عن "ذاكرة الجسد"
وهو ينطبق على "فوضى الحواس" لكونها استمرارا ومرحلة ثانية لـ"لذاكرة الجسد"
قال نزار عن "ذاكرة الجسد". وعن الكاتبة "أحلام ": "روايتها دوختني. وأنا نادرا
ما أدوخ أمام رواية من الروايات، وسبب الدوخة ان النص الذي قرأته يشبهني الى
درجة التطابق فهو مجنون، ومتوتر، واقتحامي، ومتوحش، وانساني، وشهواني.. وخارج
على القانون مثلي. ولو ان أحدا طلب مني أن أوقع اسمي تحت هذه الرواية
الاستثنائية المغتسلة بأمطار الشعر.. لما ترددت لحظة واحدة ". ويتابع نزار
قباني قائلا: "هل كانت أحلام مستغانمي في روايتها (تكتبني) دون أن تدري.. لقد
كانت مثلي متهجمة على الورقة البيضاء، بجمالية لا حد لها.. وشراسة لا حد لها..
وجنون لا حد له.
الرواية قصيدة مكتوبة على كل البخور.. بحر الحب، وبحر الجنس، وبحر
الايديولوجيا، وبحر الثورة الجزائرية بمناضليها، ومرتزقيها، وأبطالها وقاتليها،
وملائكتها وشياطينها، وأنبيائها، وسارقيها..
هذه الرواية لا تختصر "ذاكرة الجسد" فحسب ولكنها تختصر تاريخ الوجع
الجزائري، والحزن الجزائري والجاهلية الجزائرية التي آن لها أن تنتهي..."(3).
والذي يعود الى"ذاكرة الجسد" و" فوضى الحواس"سيقف على مدى صدق نزار
قباني عندما علق على ما كتبته أحلام بهذه الكلمات الموحية، ويقف على الأحداث
التي ضمنتها الكاتبة روايتها، وهي الأحداث التي طبعت تاريخ الجزائر أثناء
الثورة الجزائرية المظفرة، وبعد الاستقلال وصولا الى الأزمة والمأساة التي لطخت
تاريخ هذا البلد الشامخ باسم الديمقراطية والتعددية وايديولوجيات شرقية وغربية
دفعت بأبناء البلاد الى التناحر، والتطاحن والقتال والاقتتال والسبية كانت
"الجزائر" هذا البلد العزيز على قلوب الوطنيين والغيورين، والبلد المقدس في
عيون الشهداء الأبرار.
ان ما يهمنا في هذا البحث المتواضع هو الوقوف على لغة الكتابة الروائية
لهذه الكاتبة التي فاجأت القواء بعملين روائيين هما مفخرة الأدب الجزائري
الروائي..
اذ تمثل الكاتبة نموذجا فريدا للكتابة الروائية "النسائية " في
الجزائر. وهي التي ترفض أن تحاكم ككاتبة وتعتبر مصطلح "الأدب النسائي" نوعا من
الاهانة للمرأة اذ تقول في حوار أجرته معها مجلة "زهرة الخليج ": "أنا أريد أن
أحاكم ككاتبة بدون تاء التأنيث وأن يحاكم نصي منفصلا عن أنوثتي، ودون مراعاة أي
شيء"(4).
وتقول في موضع آخر: "ان الكتابة بالنسبة لي متعة، ولا أمارسها الا من
هذا المنطلق..." غير ان من أجمل ما كتبته فيما يتعلق باللغة والكلمات والكتابة
يرد في نصوصها الروائية ومن ذلك ما تحدثنا به في رواية "فوضى الحواس" اذ تقول:
"
يحدث للغة أن تكون أجمل منا، بل نحن نتجمل بالكلمات، نختارها كما نختار
ثيابنا، حسب مزاجنا ونوايانا". وتتابع قائلة: "هنالك أيضا، تلك الكلمات التي لا
لون لها ذات الشفافية الفاضحة كامرأة خارجة توا من البحر، بثوب خفيف ملتصق
بجسدها إنها الأخطر حتما لأنها ملتصقة بنا حد تقمصنا". ان عناية الكاتبة بلغتها
الروائية يفوق كل توقع، حتى ليخيل للقارئ ان لغة الخطاب الروائي عند "أحلام" هو
موضوع النص ذاته، وهذا ليس غريبا حين نعلم أن الكاتبة عاشقة للغة العربية وهي
تريد أن تصل باللغة الى مجدها أو تعيد لها فطرتها الاولي بعيدا عن الدنس
والابتذال.
وهذا الاحتفال والاحتفاء باللغة في الكتابة الروائية عند أحلام يتبدى
في كل مقاطع النصوص التي يصدم بها القارئ وهو يقرأ في "فوضى الحواس" أو في
"ذاكرة الجسد". ان "أحلام " يمتد بها سرورها باللغة الى جعلها "بطل" النص كما
يذهب الى القول أحد الباحثين.(5)
وقد ذهب عبدالله الغدامي في ترضيه العلاقة بين الكاتبة أحلام ولغتها
الروائية الى حد القول ان الكاتبة استطاعت ان تكسر سلطة الرجل على اللغة، هذه
اللغة التي كانت منذ أزمنة طويلة حكرا على الرجل واتسمت بفحولته، وهو الذي يقرر
ألفاظها ومعانيها فكانت دائما تقرأ وتكتب من خلال فحولة الرجل الذي احتكر كل
شيء حتى اللغة ذاتها. واذا كانت أحلام تريد أن تحاكم ككاتبة بدون تاء التأنيث
فان روايتيها ملتصقتان بالأنوثة وهذا الالتصاق هو الذي جعل عملها الروائي يحظى
بالتقدير والتفوق، حيث استطاعت ان تصنع من عادتها اللغوية نصوصا تكسر فيها
عادات التعبير المألوف المبتذل وتجعل منها مواد اغراء وشهية، وراحت وهي تكتب
تحتفل بهذه اللغة التي أصبحت مؤنثة كأنوثتها، وأقامت معها علاقة حب وعشق دلا
على أن اللغة ليست حكرا على فحولة الرجال بل تستطيع أن تكون أيضا الى جانب
الانوثة، فصارت اللغة حرة من القيد والثابوهات وصار للمرأة مجال "لأن تداخل
الفعل اللغوي وتصبح فاعلة فيه فاستردت بذلك حريتها وحرية اللغة. وكل ذلك من
خلال علاقة جديدة حميمية بين المؤلفة واللفة وبالأحرى بين الكاتبة ونسغ الخطاب
اللغوي المتألق والمغري كما يبدو عند أحلام. "فأحلام" هي مؤلفة الرواية، وأحلام
هي ايضا بطلة النص، واللغة فيما كتبته أحلام هي الأخرى بطلة، بحيث ان اللغة
الروائية في هذين العملين تطغى على كل شيء وتتحول الى موضوع الخطاب وموضوع
النص. فامتزجت بذلك انوثة اللغة المستعادة مع انوثة المؤلفة وكذا انوثة "أحلام
" البطلة في الروايتين ووحدة العلاقة بين الانثى خارج النص والانثى التي في
داخل النص تعني عضوية العلاقة بين المؤلفة ولغتها. وتمتد هذه العلاقة من خلال
"اتحاد الانثى (أحلام مع كل العناصر الاساسية في الروايتين فأحلام هي أحلام،
وهي المدينة وهي قسنطينة، وهي البطل وهي الوطن وهي الذاكرة وهي الحياة، لأنها
في البداية كان اسمها حياة، وهي النص وهي المنصوص، وهي الكاتبة وهي المكتوبة
وهي العاشقة وهي المعشوقة وهي اللغة وهي الحلم وهي الألم لأن الحلم والألم:
أحلام تساوي حلما وألما.(6)
في الروايتين تحررت المرأة "البطلة " وتحررت معها "اللغة" وتولد من ذلك
نص روائي جديد يمجد اللغة بالدرجة الأولى ويحتفي بها. الأدب فن اداته اللغة،
فاللغة هي الاداة الرئيسية لكل خطاب أدبي، وكيفية وأسلوب التعامل مع اللغة هو
الذي يحدد قيمة وطبيعة الخطاب، فعلاقة الأديب باللغة هي في كل الحالات علاقة
خاصة واستثنائية ومن هنا تصبح هذه العلاقة الخاصة، عبارة عن ممارسة للغة (
Une pratique ) ,تكتسب ابعادا مختلفة وترتقي الى مستوى الحميمية (
L'intirnite
) ومن ثم فان الخطاب الأدبي من هذا المنطلق، ومن كونه يعتمد على اللغة بل هو
اللغة ذاتها يصبح خطابا خاصا باعتبار خصوصية العلاقة ما بين اللغة وصاحب
الخطاب، ومادام الأدب فنا، فالفن ينتج عادة للتأثير في الآخرين شعوريا وجماليا،
والجمالية (
L'esthétique ) لا تتأتى للخطاب الأدبي الا من خلال لغته، ومن ثم فان الكتابة
الأدبية تتحول لدى الأدباء الى عملية إغراء (
Séduction
) طريق اللغة(
discours séducteur ) التي هي الأداة الاساسية لديهم. وهذه العلاقة الخاصة مع اللغة تكتسي
أهمية خاصة في التأثير وجلب انتباه الآخرين واهتمامهم ثم تقديرهم. ان الأدب لا
يتأتى له ذلك الا بفضل ما للغة من امكانيات هائلة في التعبير التي مصدرها
الأساسي هو (المجاز) داخل الاستعمال اللغوي في مجال التعبير الأدبي. ففي
الكتابة الأدبية تتحول اللغة من كونها تؤدي وظيفة الاتصال والابلاغ فحسب الى
مستويات تعبيرية أخرى، وذلك بتفجير طاقاتها الكامنة عن طريق المجاز وبطرق لم
يسبق لها مثيل. ولو ان الأدب كان مجرد كلام عادي لكان ككل كلام. غير أن الادب
هو ان تعبر عن الأشياء على غير منوال سابق وهو "السمو بتعبيرية الأشياء والسعي
الى احداث عملية تشويش مقصودة في قاموس اللغة..." (8).
والأديبة الروائية "أحلام مستغانمي" تمارس علاقة خاصة مع اللغة، هذه
العلاقة الخاصة مع لغتها تجعلها تكسر تلك المعادلة التقليدية والكلاسيكية بين
الدال والمدلول، ناهيك ان اللغة في كتابات "أحلام" تتحول الى أداة "اغراء" (
Séduction ) ان "احلام " تتألق في "ذاكرة الجسد" وفي "فوضى الحواس " بل انها
تتأنق وتمتاز بلغتها الساحرة المغرية للقارئ، حيث تمارس نوعا من العشق والمحبة
للغة، وتصنع من هذا العشق وهذه اللغة أشكالا تعبيرية مريعة ومغرية للقارئ.
والأكثر من ذلك أنها - ولا شك - تستمتع وهي تكتب وتبدي نوعا من اللذة
والاشتهاء للكلمات والأشياء بغريزة الأنثى التي تعرف قيمة الكلمات المؤثرة..
ويمتد بها الأمر الى حدود المتعة والسرور بالكلمات وباللغة. وهي لا تريد ان
يخصها هذا الأمر وحدها.. بل انها تلقي به الى المتلقي- القارئ- حيث تستدرجه
بلفة رائعة، صافية، كالحب، كالمتعة، كالشهية.. تستدرجه الى ساحات الريع
الكلامي، وساحات الحبور والاحتفاء بالكلمات. أكثر ما يميز كتابتها الروائية هي
هذه اللغة الأسرة، التي تأخذك على حين غرة وتأسرك وتمتعك، وتحاول دائما ان
تشبهك، حتى تنال منك.. وتغريك بالمزيد من المتعة والجمال.. فهي منذ الوهلة
الاولي تمارس دور "الـداندي" (
Dandy ) الذي يختار لنفسه الصدارة والمنصة البارزة، المتمرد ضد الزمان
والمكان وأفكار الآخرين، والبدع للجماليات، والمتمرد على القوالب الجاهزة
المأخوذة باناقته وتألقه والذي يشع كشمس غاربة او ككوكب مائل " (9)
ولا يمكن الوقوف على ظاهرة "الاغراء" في لغة "أحلام" الروائية الا
بالعودة الى بعض النصوص من روايتيها "ذاكرة الجسد" و "فوضى الحواس" فهي في
الاولي ومنذ الصفحة رقم 1 تبدد كل وهم وابتذال وآلية اللغة المحيطة بنا اذ تقول
في دعوة مغرية الى مرافقتها وقراءة روايتها: "الحب هو ما حدث بيننا، والأدب هو
كل ما لم يحدث... يمكنني اليوم، بعدما انتهى كل شيء أن أقول: هنيئا للأدب على
فجيعتنا اذن فما أكبر مساحة ما لم يحدث، انها تصلح اليوم لأكثر من كتاب، وهنيئا
للحب أيضا.. فما أجمل الذي حدث بيننا، ما أجمل الذي لم يحدث.. ما أجمل الذي لن
يحدث". (10).
وهذا الكلام يفري بسرد الحكاية وهو نفسه الذي تعيده الكاتبة عند خاتمة
الرواية:
"الحب هو ما حدث بيننا والأدب هو كل ما لم يحدث" ص 403.
ويعلق أحد الباحثين مشبها أحلام بشهرزاد موحيا بما كانت تغري به شهريار
من حكاية وسرد وقصص ورواية، يقول: "بين ما لم يحدث وما حدث يقع النص بين جملتين
امتد الفاصل بينهما ما يقارب 400 صفحة، وامتد زمنيا على مدى سبع سنوات وستة
أشهر(11) أي لمدة ألفين وسبع مائة وأر بعين يوما (أو ليلة) مما يجعله
يعادل حكايات ألف ليلة وليلة مرتين ونصف المرة أو أكثر. انه النص الذيس ينقض
ليالي شهرزاد ليضع مقابلها أيام أحلام...".(12)
ولكن في ألف ليلة وليلة تحكي المرأة ويدون الرجل وفي "ذاكرة الجسد"
يحكي الرجل
(خالد) وتدون المرأة "أحلام " وهل كانت شهرزاد غير امرأة تحسن القصص
وتغري بالمزيد؟ وكذلك كانت "أحلام " ومن أول صفحة امرأة تحكي على لسان رجل
وتغري القارئ بالمزيد، فيرافقها على مدى 404 صفحات دون كلل ولا ملل وهو مأخوذ
بلغة ساحرة أخاذة لم يعهدها في الرواية والقصص.
الاغراء قوة جذابة، وهنا الاغراء تمارسه الروائية بلغتها الساحرة
وتقترن اللغة بالانوثة في النص فتصير شباكا وجمالا خالصا يعد بالمتعة والجمال،
وتعرف صاحبة القلم كيف تطرز لغتها ونصها فتزيح الكآبة واليأس عن القارئ وتعده
بالنجاة والسلامة والدفء. ومهما قالت أحلام وصرحت، فاننا لا نزال نعتقد بقوة ان
لغتها مغموسة ومعجونة بأنوثتها يفوح منها عطر الانوثة ودفئها، وأريج خدود
المرأة، ورائحة مواد التجميل، ومسحوق الزينة، ان النص الروائي هنا هو مريب من
سحر الانوثة وسحر اللغة حيث يمتزج الاثنان فيصبح النص اغراء بالحب وبالعطر
وبالشوق وبالرغبة وبالذاكرة وبالصدق والكذب. انظر الى هذا المقطع من "فوضى
الحواس " كم هو "اغراء" وسيلته اللغة الساحرة المغرية بالبوح: "في ساعة متأخرة
من الشرق، يداهمها حبه. هو رجل الوقت ليلا، يأتي في ساعة متأخرة من الذكرى،
يباغتها بين نسيان وآخر، يضرم الرغبة في ليلها.. ويرحل. تمتطي اليه جنونها،
وتدري: للرغبة صهيل داخلي لا يعترضه منطق. فتشهق، وخيول الشرق الوحشية تأخذها
اليه. هو رجل الوقت سهوا، حبه حالة ضوئية، في عتمة الحواس يأتي. يدخل الكهرباء
الى اهازيج نفسها، يوقظ رغباتها المستترة، يشعل كل شيء في داخلها، ويمضي. هو
رجل الوقت عطرا، ماذا تراها تفعل بكل تلك الصباحات دونه ؟ وثمة هدنة مع الحب،
خرقها حبه، ومقعد للذاكرة، مازال شاغرا بعده، وأبواب مواربة للترقب، وامرأة،
ريثما يأتي، تحبه كما لو انه لن يأتي، كي يجيء. لو يأتي.. هو رجل الوقت شوقا،
تخاف ان يشي به فرحها المباغت، بعدما لم يثر غير الحبر بغيابه. ان يأتي، لو
يأتي. كم يلزمها من الأكاذيب، كي تواصل الحياة وكأنه لم يأت كم يلزمها من
الصدق، كي تقنعه انها انتظرته حقا.."(13). ان اللغة هنا تتحول الى مفاجأة
مدهشة، وهي لم تعد "نظاما علاماتيا محايدا، لقد تحولت الى انثى مغرية قاتلة مع
سمات انثوية قوامها الشعرية والسردية وجرعات زائدة من الذاتية والانفعالية
والوجدانية.."، وما يبدو في هذا النص وفي نصوص ومقاطع كثيرة من الروايتين ان
أحلام تتحكم في لغتها، تتقنها وتتأنق في استعمالاتها، وتذهب بها الى حدود بعيدة
من الشعرية والأدبية، تمارس مع لغتها الغرابة والانزياح حينا والدهشة والفرحة
والسرور حينا آخر، تلاعبها، تعانقها وتنتشي بها ولها، وتلامس الكلمات كما تلامس
الورود والعطور في دفء، وفي عشق وفي نشوة عارمة تغري وتغري بالبوح دون ان تقول
شيئا محددا تماما.
ان ملامسة الكلمات على هذا النحو، يذكرنا بقولها في الرواية، في الصفحة
الاولي
منها: "هو الذي يعرف كيف يلامس أنثى، تماما، كما يعرف ملامسة الكلمات..
الى ان
تقول: "يحتضنها من الخلف كما يحتضن جملة هاربة بشيء من الكسل
الكاذب..".(14)
لقد اختلط ما هنا حب اللغة بحب الجسد، وصارت اللغة جسدا للمغازلة
والملامسة والاحتفاء، صارت اللغة والكلمات موضوع عشق ومحبة ومصدر متعة وروعة،
وجمال ونشوة، بجمالية لا نجدها الا عند كبار من قالوا بالدهشة والغرابة في
الأدب، وذلك في تراث الشكلانيين الروس في بحث مضن عن الأدبية والشعرية والجمال
في الخطاب الأدبي.. وهم الذين أكدوا على "الاغراب" او "نزع الالفة ": "فالشيء
النوعي بالنسبة للغة الأدبية - ما يميزها عن أشكال الخطاب الأخرى- هو انها
"تشوه " اللغة العادية بطرق متنوعة. فتحت ضغوط الادوات الادبية، تتكثف اللغة
العادية، وتتركز، وتلوى، وتنضغط، وتتمدد، وتنقلب على رأسها، انها لغة جعلت
غريبة، وبسبب هذا الاغراب يصبح العالم اليومي، بدوره، غير مألوف فجأة.."(15).
وتزخر رواية "ذاكرة الجسد" وكذا رواية "فوضى الحواس"، بلغة الكاتبة
التي صنعتها لنفسها وصنعت أدبها بلغة خاصة هي لغتها التي أحبتها وصارت عندها
أداة إبداعية ووسيلة إغراء بالجمال الأدبي والفني والمتعة الفنية التي تسحر
القارئ وتأخذه إليها طمعا في مذاق جديد للكلمة وللغة الأدبية التي كثيرا ما زج
بها في خطابات مبتذلة سميت أدبا تجاوزا أو قهرا. وفي ختام هذا البحث نقدم هذا
المقطع من "ذاكرة الجسد" الذي يختلط فيه الشعر بالنثر واللغة بالجسد جسد المرأة
وجسد اللغة، وقسنطينة المدينة، وذاكرة الوطن، والرغبة بالخجل، والحب بالحلم،
والحرائق والعشق، والمقطع على لسان خالد بطل الرواية: "أكان يمكن أن أصمد طويلا
في وجه انوثتك ؟ ها هي سنواتي الخمسون تلتهم شفتيك وما هي الحمى تنتقل الي وها
أنا أذوب أخيرا في قبلة قسنطينية المذاق، جزائرية الارتباك.. لا أجمل من
حرائقك.. باردة قبل الغربة لو تدرين، باردة تلك الشفاه الكثيرة الحمرة والقليلة
الدفء... دعيني أتزود منك لسنوات الصقيع، دعيني أخبئ رأسي في عنقك، اختبئ طفلا
حزينا في حضنك. دعيني أسرق من العمر الهارب لحظة واحدة، وأحلم أن كل هذه
المساحات المحرقة، لي فاحرقيني عشقا قسنطينة شهيتين شفتاك كانتا، كحبات توت
نضجت على مهل، عبقا جسدك كان، كشجرة ياسمين تفتحت على عجل. جائع أنا إليك.. عمر
من الظمأ والانتظار.. عمر من العقد والحواجز والتناقضات، عمر من الرغبة ومن
الخجل، من القيم الموروثة، ومن الرغبات المكبوتة، عمر من الارتباك والنفاق. على
شفتيك رحت ألملم شتات عمري..(16) وهذا النص الأخير أبلغ مثال على عنوان البحث
وأشد تأكيدا على ما ذهبنا اليه..
*
أكاديمي من الجزائر
الهوامش:
- أحلام مستغانمي: ذاكرة الجسد، دار الأدب بيروت، ط 5، 1998. ص
5.
أحلام مستغانمي: ددفرضى الحواس"، دار الأدب، ط 1، 1998م.
انظر غلاف رواية أحلام مستغانمي: "ذاكرة الجسد" (بقلم نزار
قباني، لندن) ط 5، 1998.
أحلام مستغانمي: "فوضى الحواس"، ط 1، ص 32.
عبدالله محمد الغدامي. المرأة واللغة، ط 1، 1996. المركز
الثقافي العربي، الدار البيضاء، ص 191.
انظر في هذا عبدالله الغدامي: المرأة واللغة ص 192، 193.
Séduction
: Action de séduire -voir les sens du mot séduction et du mot séduire pour
pouvoir assimiler et comprendre ce terme dans la littérature et I'art.
عبدالله حمادي: "ماهية الشعر". مقدمة ديوان "البرزخ والسكين "،
وزارة الثقافة، دمشق 1998،ص 6.
أنظر عبدالله حمادي: مساءلات في الفكر والأدب (مقال بعنوان.
طاهرة الدايديزم في الأدب العرمي) ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر 1994
"ذاكرة الجسد"، ص 7.
عبدالله الغدامي: المرأة واللغة، ص 185. لا بدأت أحداث الرواية
في ابريل 1981 (ص 65) واستمرت حتى عام 1988، "ذاكرة الجسد".
"فوضى الحواس " ص 10، 11.
عبدالله الغدامى: المرأة واللغة.
فوضى الحواس، ص 1.
تيري انجلطون: مقدمة في نظرية الأدب، ترجمة: أحمد حسان، ط 2،
القاهرة 1112، ص ا 1.
16 - ذاكرة الجسد، ص: 172- 123
أضيفت في30/05/2005/ * خاص
القصة السورية/
عن موقع الكاتبة
(
للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول
أدب المرأة )
|