بسمة
الجيوكندا
انطلق شيطان يبحث عن دور له في الحياة.. كان فتياً مفعماً
بالحيوية بعيد الطموح، وقد أجهد نفسه ليجد له مكانة تجعله مرموقاً في عشيرته،
فالمرتقى صعب، والمنافسة شديدة، وقد سبقه إلى اعتلاء المناصب الحساسة كثيرون من
المتقدمين في السن عليه، من المحنكين ذوي الألقاب اللامعة. فمنذ جدد الشيطان
الأكبر العجوز شبابه كثر نسله وتكاثر نشاطهم وقوي نفوذهم.
في يوم من الأيام جمع كبير الشياطين رهطاً من خواص عشيرته وقال
لهم:
- إن الإنسان انتصر علينا في معارك ثلاث: يوم اخترع الأبجدية،
ويوم صك النقد، ولما أبدع بسمة الجيوكندا. فإذا كنا نريد أن نقهره فيدب
الانحلال في نسله وننتزع منه إرادته، فعلينا أن نطور أساليبنا فقد عفا عليها
الزمن.
وتنحنح قليلاً ثم أردف:
- مرت بنا فترة عصيبة، ونزلت بنا ضربة كادت تكون قاضية علينا،
حتى ظن البعض أن زماننا ولى وعشيرتنا اندثرت وأصبحت مجرد ذكرى موحشة في بطون
التاريخ.. ولكنني لم ألبث أن وجدت دواء عجيباً أعاد إلي الشباب وسأضعه في
متناول يد من يتفوق منكم تفوقاً ملحوظاً في تخريب ما تبدعه عبقرية الإنسان
الخيرة وأجعله خليفة من بعدي. ولكن عليكم منذ الآن أن تغيروا من سحنكم وتحرصوا
كل الحرص على أن لا يظهر لكم ذيل فيكشف أمركم.. إن عشيرتنا قهرت بذلك الذيل
الذي لا نستطيع الخلاص منه، والذي أنبته الله لنا عقوبة ظالمة لا نستحقها
ليفضحنا به مع أن هناك من البشر من يفوقنا إثماً وشراً. وهذا الذيل كما نعلم،
لا تنفع معه عملية جراحية لاستئصاله، إذ ينبت من جديد وهو أطول، وأغزر فروة،
وأنعم ملمساً، وأكثر توهجاً وحيوية.
انطلق الشياطين من الاجتماع وكل منهم يطمع أن يكون الدواء
العجيب من نصيبه فيعيش شاباً للأبد ويخلف الشيطان الأكبر في حكم العشيرة. وهكذا
اندفعوا للعمل بحمية ونشاط لم يعهدا من قبل، وتنافسوا مع بعضهم البعض بضراوة،
فمنهم من زور التاريخ، ومن شهر بالمخلصين من بني الانسان، ومنهم من جرد الكلمات
من مدلولاتها الحقيقية وحرف معناها فبلبل عقول الناس الذين اصبحوا يتحدثون
بلغات مختلفة فلا يفهم بعضهم بعضاً ويتشاحنون ويتنافرون فلا يستتب بينهم سلام
ابداً. ومنهم من زيف النقد وجرد الناس من ثمار عرقهم وجهدهم، واغدق بالمقابل
على المشعوذين الهبات.
ولكن اولئك الأعوان فشلوا فشلاً ذريعاً أمام الجمال الذي توحيه
بسمة الجيوكندا، فحيثما حلت يتحول الكوخ إلى قصر أحلام، وقضبان السجن الى أوتار
قيثارة وعواء الذئب إلى غناء عندليب. كانوا يندسون في الجماعات التي تطالب
بالحرية والعدالة والتآخي ويخضعونها بسلاسل خفية. ولكن ما تكاد تظهر صورة
الجيوكندا الجميلة وتشع في الجو المشحون بالبغضاء ابتسامتها حتى تنفتح العيون
على ذيولهم المختبئة ويفضح تنكرهم ويكشف تآمرهم وتحريضهم على الفتن فتتحول
الأسلحة الى محاربتهم وطردهم.
سمع الشيطان الفتي بقصص كثيرة عن تجارب أبناء وبنات عشيرته، وما
واجهوه من كره حين فشلوا في إخفاء ذيولهم. وذكر من تلك القصص ما جرى لغانية لفت
ذيلها الطويل الجميل على رقبتها، فبدا كفراء ثعلب. وذهبت إلى دار السينما
لمشاهدة فيلم كان قد أخرجه أحد عشاقها القدامى وكان مختصاً في حرق المدن وإبادة
المدنيين لتجربة سلاح نووي جديد. ولقد جلس خلفها لص اخذ بمداعبتها لسرقة ذلك
الفراء الثمين، ولكنه اكتشف ان الفراء مثبت في مكان ما من جسدها وانه ليس فراء
بل هو ذيل حقيقي: لقد شده شدة قوية فاوجعها وجعاً أليماً وقامت تولول هاربة وهو
يلحق بها ويصيح ”إنه ذيل حقيقي، انه ذيل حقيقي.“
كانت فضيحة شبيهة بفضيحة إيرانجيت ذكرتها الصحف في حينها و
أثارت حولها ضجة كبيرة ولكنها ما لبثت أن تلملمت وأصبحت همساً كما أصبحت جلسات
تلك سرّية.
وذكر قصة محسن كبير جاء بنفسه ليوزع أكياس الدقيق على أمة من
الجياع فشاهد ذيله وهو ينزل من الطائرة طفل صغير فصاح ”انظروا إليه! إن له
ذيلاً، أقسم أنني شاهدت له ذيلاً“، ولكن الجوع كافر فلم يأبه أحد بتحذير الصغير
حتى الذين راودت أنفسهم الشكوك. وكانت عقوبة الطفل أنه حرم من الغذاء حتى مات
جوعاً مثل ملايين الأطفال الذين سبقوه.
كان ذلك المحسن ممن اختصوا في جر الأنهار من منابعها وأحواضها
الطبيعية لتروي عشيرته وقد ترك الخصب على ضفافها قحلاً وخلف شعوبها جياعاً.
أما الشيطان الفتي فكان أسعد حظاً. كان ذيله ضامراً صغيراً
لايكاد يبين، و إذا ارتدى ملابس البشر اختفى تماماً. ومع أن هذا الأمر كان
يسبب له إحراجاً في عالم الشياطين ويثير في نفسه غيظاً مكتوماً عندما لايعامله
أبناء جلدته بالاحترام والجدية اللذين يرغب بهما بل كفتى صغير لاخبرة له ولم
يقترف بعد من الشرور ما يحمل شيطاناً ناضجاً ذا ذيل طويل غزير الفروة أن يعامله
معاملة الند، إلا أن الأمر كان مختلفاً في عالم البشر، فلم تواجهه مشكلة إخفاء
ذيله. بل إن شكله كان لطيفاً في ملابس البشر، ولا نبالغ اذا قلنا أنه كان
وسيماً، تلاحقه النساء بنظراتهن أينما حل.
* * *
لم يجد الشيطان الفتي راحة البال أبداً وعذبه طموحه وأشواقه دون
هوادة. وفي سرّه سخر من كل الأدوار المهلهلة المفضوحة التي قام بها العديد من
أبناء عشيرته فتعرضوا بممارستها الى أخطار جسيمة. وشعر في قرارة نفسه بأنه رغم
صغر سنه، أكثر كفاءة من الشياطين الآخرين، ولولا الظروف اللعينة التي كانت
تعاكسه ولم تفسح له المجال ولو لمرة واحدة ليثبت كفاءته لبزهم جميعاً. وكانت
أعذب أحلامه إلى نفسه هي عندما يتخيل كيف سيسلمه الشيطان الأكبر العجوز الجائزة
التي وعد بها ثم يأخذه من يده ويجلسه على كرسيه. والحق يقال أنه لم يجرؤ أن
يكاشف أحداً بأحلامه وإلا لسخر منه. ولم يكن الشياطين الآخرون أكثر تواضعاً منه
في أحلامهم ولكن أين سجلاتهم السوداء الحافلة من سجله النظيف تقريباً؟ ومع ذلك
فشل الجميع في الحصول على الجائزة ووعد الخلافة من فم الشيطان العجوز الخبيث.
وهكذا راح يطوف أنحاء العالم وهو يبحث عن دور له في الحياة،
منقباً عن مهمة مشرفة ترفع قدره في عشيرته وتخلد اسمه بينهم حتى كلت قدماه،
ووهن جناحاه، وفلت عزيمته، وكاد اليأس يغلبه. فليس الأمر هيناً يسيراً وهو
يحتاج إلى عمل مضني وصبر لاقبل له بهما وهو الطموح، العجول، المتوقد الذكاء،
النافذ الصبر.
وذات يوم أمضاه بالتسكع كعادته، قادته قدماه الى مكان علقت فيه
لوحة امرأة، توقف أمامها وحدق فيها. لقد عرفها على الفور.” إذاً هذه هي أنت.
”همس الشيطان الفتي. ومن إطار اللوحة أطلت عليه المرأة بثقة، لم تكن باهرة
الجمال، ولكن سحراً لايقاوم كان ينبعث منها، من تلك النظرة الذكية الحنون،
والبسمة المطمئنة النابعة من صفاء السريرة، الموحية بالأمل والخير والجمال في
أكمل صوره، في ذلك الوجه المنسجم القسمات،المتناغم الألوان، المفعم بالحياة.
أما اليدان الجميلتان المتشابكتان بلطف فكانتا تشيعان في النفس سلاماً وهدوءاً
لا يستطيع المرء مغالبتهما. خفض الشيطان بصره عن عيني الجيوكندا، اللتان
تتغلغلان برقة في أعماق الناظر إليهما، ولعن في سرّه تلك الحيرة التي انتابته
وجعلته صغيراً تافهاً ملعوناً أمام نفسه الحافلة بالشر. ثم عاد ينظر إليها
بتحدٍ وكلما أطال النظر ازداد غيظه واضطرابه. لقد شاهد وجوهاً أخرى في متاحف
كثيرة لنساء جميلات رسمها مشاهير العصور، لكنها لاتوحي بمشاعر نبيلة كالتي
توحيها الجيوكندا الآسرة بروعتها وجمالها وأصالتها وبسمتها.. تساءل كيف لاتتلف،
كيف لايتطرق إليها بعض الشحوب والإعتام؟ كيف لاتتفاعل فيها كيماويات الأصبغة،
وتبقى هكذا باهرة الألوان كاليوم الذي ضرّج فيه خالقها وجنتيها بحمرة خفرة،
وثوبها بلون قرمزي قان. وتنهد وهو يتذكر أنه حتى هذه الساعة لم يتمكن أحد من
أبناء عشيرته أن يؤثر فيها أو يشوهها. وبقيت دهراً طويلاً تنشر سحرها في كل من
شاهدها، وتتملك نفوس عشاق الجمال وتغمر قلوبهم بالغبطة والسكينة.
ونظر باستغراب إلى الناس من حوله كأنه يراهم للمرة الأولى، وقد
انتزعه ضجيجهم من عالمه الذي كان غارقاً فيه. اجتمع هناك خليط غريب من البشر
المختلفين في أصولهم ومشاربهم وأهوائهم. مصورون يحاولون أن يلتقطوا بآلاتهم
ذلك القبس الالهي، وخبراء فنون يتمعنون في الجمال ويقيسون النسب فيه، وعلماء
وفلاسفة يحاولون أن يكتشفوا سر بسمة الجيوكندا ويتجادلون دون كلل فيما بينهم،
ومجرد عشاق تتلقف قلوبهم دفعة واحدة فيض الجمال فتتطهر مما علق بها من أدران
الحياة، وبسطاء جاؤوا يطلبون العون من الجيوكندا لتخلصهم من أمراضهم أو فقرهم
أو حتى مشاكلهم العائلية. ووقف طلاب مدارس الفنون يستمعون لشروح أساتذتهم قبل
أن يتفرقوا في كل اتجاه : فمنهم من يرسم نسخة للجيوكندا قد تشبهها في شيء وتقصر
عنها في أشياء، وآخرون يعزفون موسيقى مستوحاة من بسمة الجيوكندا، وغيرهم يمثلون
مشاهد جيوكندية.. ووجد باعة صور الجيوكندا الفوتوغرافية لهم مكانا في أروقة
المتحف قرب اللوحة الأصلية وأخذوا يروجون لبضاعتهم، وكان هناك مجرد فضوليون،
يطلون برؤوسهم ثم يذهبون مسرعين، وغيرهم الكثير.. وفوق هؤلاء وأولئك شمخت
الجيوكندا ببسمتها السرمدية.
كانت اللوحة بدون غلاف زجاجي، إذ أن رواد المتحف احتجوا يوم
وضعها خبراء الصيانة خلف زجاج لحمايتها من لمسهم أو مما يعلق في الجو من رطوبة
أو أثر لغبار أو دخان أو عثة أو غيرها من كائنات صغيرة متلفة.. فلقد كان الزجاج
يزغلل عيونهم ولا يمكنهم من أن يتملوا من جمال اللوحة المجرد. وغير الخبراء
وسائلهم لإرضاء الرواد ووضعوا في المتحف مكيف هواء يحتفظ برطوبة نسبية معينة،
واستخدموا أجهزة لتنقية الهواء، وأضافوا أخيرا جهازاً يحمي اللوحة بأشعة إكس.
ابتسم الشيطان وتملكه شعور مرح لمرأى هذه الجمهرة الصاخبة،
وكادت عاطفته الفتية أن تدفعه للمشاركة في هذا المهرجان، وأراد أن يمازح الحضور
ببعض ألاعيبه، إلا أنه أقلع فجأة عن الأفكار الصبيانية التي راودته، وعاودته
كآبته عندما التقت عيناه بعيني الجيوكندا. كان من المستحيل عليه أن يصل إليها،
أو يلمسها، فضلاً عن أن يمتلكها.. وأحس بالغضب لأنه لاسلطان له عليها. فهي خارج
دائرة نفوذه، ونفوذ أي من أبناء عشيرته..
وهكذا صار الشيطان الفتي يقف يوماً بعد يوم في الطابور الطويل
لعشاق الجيوكندا الذي يزداد طولاً كل صباح جديد، غير عابئ بمشقة الانتظار
وعندما يصل أمام اللوحة يقف حابساً أنفاسه وقد أصابه الإحباط حتى اليأس، قبل أن
تدفعه بعيداً الأفواج المتتالية من الناس الذين أمضهم الانتظار واللهفة لرؤية
البسمة السحرية. ويوماً بعد يوم أخذ يكبر في قلبه شعور غريب، مزيج من الكره
والعشق، ورغبة التملك والاحتواء.. ولعل الأمر ليس غريباً الى هذا الحد!
فالشيطان كان في ريعان شبابه، وكلنا يعرف كم من الأفكار والمشاعر الغريبة تراود
المرء عندما يكون شاباً يافعاً، والشياطين ليسوا استثناء في هذا.
وفي أحد الأيام والشيطان الفتي يقف في الطابور كعادته يعذبه
عشقه والانتظار الطويل، وعندما اقترب من حبيبته، حدث أمر لايصدق. لقد انحل
الشيطان وأخذ يتفكك ويختفي بالتدريج الى أن غاب عن الأنظار تماماً. واندفع
الناس المصعوقون من هول المفاجأة هاربين من المتحف، لايلوون على شيء، يدوس
بعضهم بعضاً.
أغلق المتحف لبعض الوقت، وتحدثوا في الصحف طويلا عما حدث فيه.
وأجريت ندوات ومقابلات في الإذاعات والتلفزيونات بثتها الأقمار الاصطناعية.
وتحدث بعضهم عن حادثة (فوق طبيعية)، بينما رجح آخرون أن تكون محاولة سرقة،
وتضاربت الآراء والناس بين مصدق ومكذب. وعاين الخبراء مكان الحادث طويلاً، ولما
لم يجدوا شيئاً غير مألوف، افتتح المتحف من جديد، مع بيان رسمي مدعوم بشهادة
علماء النفس، يؤكد بأن ما حصل في المتحف في ذلك اليوم عبارة عن هستيريا
جماعية، تسمى في علم النفس الاجتماعي ”برعب القطيع“ سببها إنذار كاذب، وهيأ لها
الجو العاطفي المشحون وإرهاق الانتظار، كما قد تكون هناك مسببات أخرى مباشرة
وغير مباشرة، كارتفاع درجة الحرارة، والتوترات الاجتماعية وغيره.. ولم يستبعد
البيان دافع السرقة إلا أنه أكد على فشل المحاولة في حال وجود مثل هذا الدافع.
وتلقى الناس هذا البيان بارتياح، رغم وجود بعض المشككين المشاكسين الذين يحبون
الإثارة، فالعقل البشري المعاصر المبني على المنطق العلمي الصارم لا يرتاح إلا
اذا أعطى لجميع الظواهر التي يصادفها تفسيراً ”منطقياً“.
ولكن ماذا حدث لشيطاننا؟ ببساطة ذاب حباً.. وهذا تعبير مألوف
لاداعي لشرحه، ولكنه لم يفن، فالشياطين لاتفنى، بل تتحول من حالة إلى حالة، لقد
عاد الى شكل الطاقة الأصلية التي خلق منها. وعندما حلق في الفضاء فوق رؤوس
الجموع المذعورة، لم يعبأ بها بل اندفع نحو الأشعة المسلطة على اللوحة واختلط
بها تحركه قدرة هائلة لا يقوى على مقاومتها، مبعثها هذا الوجد والألم الذي ينوء
قلبه تحت ثقلهما. وكأنما يعبر نفقاً متوهجاً من أشعة إكس، بدا لا نهاية له وهو
يركض به في سرعة مجنونة، استسلم الشيطان العاشق لتيار جارف. وخيل إليه أن
الزمان امتد وصار لا نهائياً، رغم أن الساعة في الخارج لم تلحق أن تجتاز جزءاً
من الثانية. وأخيراً بعد أن حسب أنه طاف الكون في هذا النفق، انفتحت في نهايته
طاقة أخذت تجتذبه بقوة لا يقوى على الفكاك منها. وعندما عبرها توقف كل شيء،
وأحس بالسلام يغمره. كانت هذه هي الجيوكندا!.. واندفع الشيطان لاهث الأنفاس
يتغلغل وينتشر فيها حتى تعشق كل ذرة من ذراتها، من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.
* * *
بعد افتتاح المتحف عادت طوابير الناس تصطفّ من جديد أمام لوحة
الجيوكندا، بل إن الطوابير ازدادت طولاً. فالضجة التي أثيرت نجحت في اجتذاب
مزيد من الناس إلى المكان حتى غصّ بهم المتحف وفاضوا إلى الشوارع المحيطة به.
لم يلاحظ أحد حتى مرور وقت طويل أي تغيير في الجيوكندا فقد كانت بهية رائعة
كعادتها. ولكن اللوحة أخذت بالتحول التدريجي.. أخذ اللون القرمزي يتحول الى بني
كالح بفعل الأكسدة، والسطح الأملس صارت تملأه الشقوق الصغيرة والتجاعيد.. وتعطل
مفعول الأجهزة فاذا بالغبار والدخان يعلوها. وحط عليها الذباب وترك آثاره،
وأحدثت العثة فيها ثقوبا، وأظلم النور المنبعث من العينين والجبين، وشحبت
البسمة الفاتنة ثم أخذت تتلاشى.. وعبثاً حاول خبراء الصيانة أن يعيدوا إلى
اللوحة رونقها وبهاءها.. لقد أعيد طلاؤها بالبلسم، وشدت التجاعيد على سطحها،
وملئت الثقوب بكتان مقو لصق على قفاها بالشمع المذاب. ومر رسام قدير بفرشاته
عليها بألوان تنسجم والألوان الأصلية، ولكن التحول والتآكل وانحلال اللون كانت
تعيد دورتها كلما تم إصلاحها. ولم يدر أحد السبب. وكانت اللوحة تحير رواد
المتحف. أين البسمة؟ في البداية لم تعد تظهر في الصور الفوتوغرافية. وعزا
بعضهم هذه الظاهرة الى عدم كفاءة أجهزة التصوير والنسخ الآلية التي يستخدمونها.
ولكن غياب البسمة المطمئنة غدا واضحاً لمشاهدي العيان.. لقد حلت محلها بسمة
مصطنعة، شبه تكشيرة، وأحياناً تتحول الى بسمة ساخرة شيطانية.
وزار المتحف يوما شيطان خبير باللوحات، وأمام لوحة الجيوكندا لم
تكن الجموع تتزاحم كعادتها. نظر الشيطان الخبير بإمعان ثم رفع حاجبيه، وتمتم
وهو لايرفع عينيه عن اللوحة :
- لقد أنجزت عملاً رائعاً متفوقاً تحسد عليه يا بني.. اليوم
اختلط الأمر على الناس، نعم لقد اختلط عليهم الأمر!
سأله رجل يقف الى جانبه:
- عفواً، ماذا قلت؟
- لاشيء، أرجو المعذرة. كنت أحادث نفسي.
* * *
ومنذ ذلك اليوم أخذت الجيوكندا الأخرى تتكاثر نسلاً مزيفاً يغمر
الأسواق.
|