أحمر.. أبيض
الشرفة علّيةٌ، والحبال مشرعة، والمدى يضيق؛ يستدرج احمرار الأفق
صدى عينيه: غداً نهار أبيض..
أشاح بوجهه: وماذا يعني أو يفيد؟!
استقرت نظراته على ورود جورية قانية؛ كانت أولى الورود التي تلقاها
من امرأة، كاد يبصق؛ انتقلت عيناه إلى أصيص آخر: جوري أبيض، تلك هي الورود التي
أهداها؛ أحس برغبة بالإقياء..
أعاد نظره إلى السماء، كان نصف القمر يستعد للإشعاع، أغمض عينيه:
يكره القمر ودورته البيضاء، ودورة شهرية أخرى.. حمراء!
***
كان البياض يتجمع في رأس مطاطي دقيق، ويساق مع بقايا وفضلات في جدول
واحد، بينما كان لمتعتنا طعم بلاستيكي. وحين تخرج من رماد المتعة، تقول: أريد
ولداً.. أما آن وقته؟!
وكنت أقول: مهلاً، لا زال الوقت مبكراً، الولد يقيّد حركتنا،
والأيام قادمة. سنملأ البيت والمزرعة أطفالاً وضحكات مشبعة، ولنتابع الآن
الانطلاق إلى المستقبل الذي يجب أن يكون ناصعاً.
كنت أريد أن أبتعد عن أية ملامح من طفولتي. وفي أوقاتٍ أخرى أندفع
متوهجاً فتقول باسمةً:
-لا.. بدأت استراحتي الشهرية، الشكر لمن أراحنا!
لم أكن أحزن، بل أشغل رغبتي بمواقع أخرى..
***
تمنيت ليلتها فحسب أن تكون العادات القديمة مستمرة، لتشهد أمي
وجاراتها الدم الذي أذهلنا. لكننا كنا وحيدين، فانفرش زهوي الأحمر على الشاطىء،
حيث نقضي أوقاتنا المشتركة الأولى. واندغم مع بياض الزبد..
***
لا زال للمتعة طعم بلاستيكي، رغم عدم وجود موانع وعوازل أمام قطرات
الحياة. كان وجهها يحمر، وجسدها يتوهج، تحت وقع جنوني، وتحمر اللحظات دفئاً
ولذة وسعادة.
ويحمر الآن الجمر في مرقدي: في المكتب، في السيارة، في هذا البيت أو
في البيوت الأخرى. لازال جسدها أبيض، ويرتجف دون أن يتوهج. ولا زال جنوني
طاغياً. أحس بالتحدي، فأنهال عليها طوال الأيام البيضاء. في ما مضى كانت
تشاركني وتبادلني ردود أفعال حارة. أما الآن، فصمتها، والهلع الكامن في عينيها،
وحركاتها، واستسلامها، كلها أشياء تزيد من مرارة التحدي، وتزيد من خيبتي
وجنوني.
حين ألاحظ طفرة جديدة من التعابير القابضة والملامح المكفهرة، أشعر
أن طلائع الأحمر قد عادت، فأفقد صوابي، وأضربها وأحطم الأشياء؛ أثور على
العاملين عندي، لعدم كفاية الربح الذي يجب أن يكون أكثر فأكثر. ثم أتكسر على
مشارف الوقت الذي يعبر حاداً.
وحين أنظر إلى الشعرات البيض التي تسللت إلى رأسي، أحس أنها جواسيس
مدسوسة في واجهتي، لتنغص عليّ وقتي، وتخرب سعادتي. فأنتزعها، كما أنتزع من
تسوّل له نفسه أن يفكّر في التطفّل على سلطاتي أو مشاريعي. واستطعت بعد حين أن
أبعد هذا الاستفزاز؛ فرأسي يتلون كما أود، وقبل أن يبدأ لونه بالتحور أعيده
لمّاعاً، تماماً كما صارت مؤسستي صافية بلون واحد.
***
كل شيء طبيعي عندي، نطافاً وكثافة بيضاء.. وكل شيء منتظم عندها
مسالك وجرياناً أحمر؛ هذا ما أكده الأطباء الذين قابلتهم وسافرت إليهم؛ قلت
لهم: يمكن أن أبدلها، أو أضيف إليها مثنىً وثلاثاً ورباعاً.
أنا أحببتها، يمكن أن يكون قد حدث، عشنا أياماً حلوة، لا أنكر.
وصبرت عليها، إكراماً لأبيها الذي دلني على الطريق التي أوصلتني إلى هذا
المستوى.
ابتدأتُ بأمواله، اسمه هيّن الصعب أمامي، وحلل المحرمات؛ لكن هذا
كان في البداية، أما فيما بعد، فقد فتحتُ أبواباً احتار أو تردد في الاقتراب
منها، واكتشفتُ مغاوز لا يصلها إلا القليلون الموهوبون مثلي.
احترمتُها، وقدّرته؛ ولكني أحب نفسي أيضاً. فلها عليّ حق، كل
الحق..!
- أنتظرا! قد يحدث الحملُ في أية لحظة، لا سبب ظاهر لعدم حدوثه.
أكد الأطباء المشهورون..
- لا تيأسا. ولا تقنطا من رحمة الله.
الآن، بتُّ أقنط منها.
حاولت تصحيح ما اعوجَّ، وتعويض ما فات؛ أولمت في كل المناسبات؛
ابتنيت أكثر من مزار لا يليق موقعه ومظهرهُ بمقامه ومنزلته وقدره. تصدقتُ على
"القائمين عليها"، والباحثين عنها. لكن الرحمة استعصت على النزول. انتظرت، ولكن
إذا لم يكن من فائدة فلِمَ؟!
حاولتُ الوقوف على الحقيقة، فجربتُ المجرَّب؛ كانت موظفة عندي،
أسكنتها في الطرف الآخر من المدينة، وأغلقت عليها السبل، بعد أن تكفلتُ بابن
الشهيد، شرط السرية والغياب، وانتظرتُ النصر المؤزر. لكن الولود لم تبيّض فألي،
بل أضيف جريان آخر إلى النهر الدامي:
(كان يتخبط بدمه، لم أستطع إنقاذه، كان القصف عنيفاً، وركضت بأقصى
سرعة، مبتعداً عن الموقع، ناجياً بجلدي.. المهم أني نجوت.. بقيت صورته
المتلجلجة المحمرة تعاندني، تقلقني.. لكني ارتحت أخيراً، أنقذتُ أسرته، تزوجت
امرأته، وأعتني بابنه.. ألا يكفي هذا..؟!)..
لكن الدم لم يتركني..!
دم.. دم.. لماذا الدم يلاحقني؟! هل أنا مسؤول عن كل ما يجري في هذا
العالم؟
(عارٌ على البشرية في ذروة حضارتها، أن تجري أنهارٌ بمياه محمّرة
وأشلاءٍ وجثث..).
كانت تقول التعليقات العاجزة في وسائل الإعلام.. وأقول:
- وعارٌ أنها لا تحاول إيقافها بأي ثمن، أو أنها لا تستطيع.!
- بل نستطيع..!
قال الطبيب:
- وإن قبلتَ نلقِّح خارج الرحم، ونعيد كل شيء إلى موضعه..!
***
- شرف المهنة لا يسمح!
قال الطبيب بإصرار..
أي شرف وأية مهنة؟!
أنا لم أقل له أن يفعل، صحيح، وهل عليه أن يخبرني؟! ليفعل ما يجب أن
يُفعل! وأيّا كان المصدر! إذا كان الأمر يجري بعيداً عن العيون والأسماع، وتأكد
من لهفتي واسترخاصي أي شيء في سبيل ولد لم يعد ينقصني إلاه؛ هل كان ضرورياً أن
يسألني؟! صار طبيعياً أن أرفض؛ فالشرف لا يسمح!
شرف، شرف: شرف المهنة، وشرف العلاقة، وشرف الوظيفة، وشرف العائلة،
وشرف الأسرة..
وتحدثونني أنا عن الشرف.؟!
أنها طفرة في الشرف، شرف في غير محله، أو في غير أوانه..
أرسلت إليها السائق بسببٍ ومن دونه، ذهبا معاً في مشاوير بعيدة
ومهمات متكررة، واستمر انتظاري الشهري..
مجزرة تنتهي ومجزرة تبدأ، تنجح هدنة في مكان، لتندلع الجراح في مكان
آخر. ويعود الدم ليسقي خيبتي..
فلماذا يخيّب ظني السائق الذي طلبت منه مرات أن لا يُهندم نفسه
كثيراً، كي لا يخلطوا بيننا، كما حدث حين استقبلوه بالعناق، وحيوني..!
هي فرصة لينتقم.. فَلِمَ لا يفعل؟!
هو وسيم، وشره، ويعجبني، ويفهمني! هو لا يخونني؛ أخرجته من ورطات
كثيرة تكفي كل منها لتغييبه طويلاً، أشفقت على أمانته وصبيانه الذين يتزايدان
حولياً، وهذا ما زاد من إعجابي واهتمامي به.
وهي لم تفعل، رغم أني أوصلت خبر ضراتها إليها عن طريق السائق الوسيم
ذاته.
ولم تفعل!
الأمر ليس سهلاً، أعرف، فكرت فيه طويلاً، وبصقت في داخلي كثيراً.
وأحسُّ أن رأسي محفورٌ بأنفاق سوداء طويلة متعرجة ناتئة الحواف، لا
تنتهي. ولكن ما العمل؟
إذا كان الطبيب لم يفعلها دون أن يسألني وأرفض، أليس الذي تعرفه خير
من الذي لا تعرف عنه شيئاً؟!
الشرف منعهما؟! أم الظن أني أجربهما!! والخوف على رأسيهما؛ أنا الذي
لا يصعب عليّ ذلك، فرؤوس عديدة ضاعت بسببي، ورؤوس كثيرة لا تقوى على التوازن في
حضوري، أو حضور سمعتي.
كل الأسوار التي واجهتني لم تصمد أمامي: سور بستان جارنا، وسور
المدرسة، وأسوار تحرسها العيون. كلها تمكنتُ من اختراقها؛ ويصمد جدار بويضة لا
ترى؟! حاصرتها ملايين المذنبات ساعاتٍ وأياماً، وعجزت عن الاختراق..
لم أخبر زوجتي، وطلبت من الطبيب أن لا يفعل. وهي لا تعلم بأن كل تلك
الملايين بلا رؤوس!
***
كنت أتحسر وأخاف على كل تلك الملايين وهي تفر من بين يدي، وتتناثر
أمامي، وأقول: حرام أن يضيع الجهد، وتتبعثر الإمكانية؛ كل هذه مشاريع أولاد، أو
أولاد مع وقف التنفيذ، كما صارت تتحسر زوجتي في ما بعد، لكني كنت أتجاوز ذلك،
وأقول: الأيام قادمة، ويضحك كثيراً من يضحك أخيراً! أنظر الآن إلى صورتي في
المرآة، وعيون زوجتي، ووجوه مرؤوسي الذين بدؤوا يخمنون ويتوشوشون ويشمتون.
***
الضوء شحيح، يختصر المشاهد، ويشوه الأشكال. ونقاط بيضاء يزداد
تناثرها في سماء مشوشة ابتلعت قمرها.. كما موجات الأفكار المتلاحقة في رأسه
المسنود على حافة كرسي هزّاز. ينقض شهاب فيخترق اللوحة، ينتفض كالمصعوق، وتقفز
الأفكار حادة ضاغطة:
هل حقاً هو الحل الوحيد؟!
الحل الذي استبعدته طويلاً، وحاربه المقربون بأسهم الورثة التي
ستؤول إليهم (بعد عمر طويل)..
الأمر الذي ترغبه زوجتي التي لا مؤنس لها ولا رفيق، والتي تنتظر،
بفارغ الصبر، ذهابنا غداً من أجله إلى..
آه.. الأمر الذي يرعبني..!
ولد بالتبني؟!
أي مجهول هذا؟!
إذا كان الأولاد من صلب آبائهم يعقّون ويتكبرون وينسون؛ فكيف بالابن
الذي لا تعرف رأس أبيه من أين؟! ولا أين ستصل شجرة نسبه؟! هل تحمل مورثاته
إمكانية اختراق الأسوار، أو تسلق الجدران، أو استحمائها. أم أنه يهوى التبذير،
وبعثرة كل شيء؛ خاصة إذا كان من دون تعب؟! ابن أية مجزرة أو كارثة أو هزيمة
هو؟! ابن أي سفاحٍ أو اغتصاب أو حب مغدور؟! ابن أي احمرار ضاع في غفلة، أو أي
انتقام؟!
إذا كان الأبناء يرمون آباءهم الحقيقيين في الوحدة والخيبة
والانتظار العقيم، فما الذي سيفعله بي هذا المجهول؟!
وما البديل؟!
جريانات الدماء لم يستطع أن يوقفها من رغب بذلك، فتغافل عن عجزه
وتعهداته، وأغض الطرف عنها. وتوقفت من نفسها في بعض المجاري، بعدما جفت اللهفة،
وتبدل الحس، وحل اليأس، وكادت تغمض العيون.. وتناثر الأبيض بإصرار وعناد على
حدود الوجه المثلم، ولم تَعُد الملايين سوى أشلاء بيضاء تُجَرْجَرُ دون ضجيج،
ولم يبق إلا أن تتأرجح الرايات البيض على الحبال المشرعة في كل اتجاه..
علاقة..!
كان كل شيء يوحي أنه الأمر الذي يجب أن يتحقق؛ إذ إنه الوضع الأمثل..
وأن ما أقيم من أفراح، حتى الرقص المجنون، والغناء الماجن،. لا يداني قيمة ما
تحقق. ولا يعطي المناسبة حقها، وكل ما وصلني من ردود أفعال، كان مؤيداً
ومباركاً ومهنئاً. وقرأت حسداً في عيون كثيرة. وهذا ما زاد من تعلّقي.
كان وضعاً يبدو معه أنه يستحق أن يترك كل شيء من أجله، فتركتُ،
أغلقت النوافذ والأبواب الأخرى.. رفضت كل الاحتمالات الممكنة، أو مجرد التفكير
بها، واقتنعتُ أنها احتمالي الأخير..
***
أحسستُ بحلاوة الفوز ونشوة الوصال وطعم العسل.
فترة من الزمن مرت، تستملكني حمى من نوع مختلف، وتسيطر على مشاعري
قوة تدفعني للطيران حتى لأحسَّ أني أطير فعلاً، وأحلق عالياً، ولا يمكن أن يكون
لي صلة بهذا العالم الأرضي البائس.
هي ليست غريبة عني؛ أعرفها، سمعت عنها الكثير، حتى شغلتني عن كل
شيء، وغدت سيدة الأحلام ومحورها.
لم أنشغل كثيراً بتفاصيلها، صورتها في خيالي زاهية، لدرجة تبدو معها
كالوردة التي لا يصح أن تفكر بوريقاتها أو فرعها أو مَيْسَمِها على نحو منفصل.
صارت مركزاً لدائرة حياتي، أغيب قليلاً لأعود إليها، أقوم بأعمال
كثيرة لأرضيها. وسرعان ما أجدني مشدوداً إلى المركز، مقدماً لها ما جنيت،
وتاركاً من أجلها مشاريع واحتمالات.
لكن ما حيّرني، وزاد من إثارتها وفتنتها، عدمُ تلهفها للقائي، وعدم
انشغالها الكبير بي. لقد وافقتْ منذ البداية. أو أنها لم تعارضْ. وقد فسرتُ هذا
حياءً وخجلاً وعذرية. وقلت: غداً حين نصبح معاً يضمنا حيّز واحد، تظهر عواطفها
المكبوتة، وتعلن عن حقيقة مشاعرها.
أنا لم أشك لحظة بها، ولم أفكر أنها يمكن أن تفكر في سواي. لأني لم
أجد نفسي مرة واحدة، على الرغم من تعلقي الشديد بها، أقل منها شأناً. ولم أسمح
لنفسي مرة واحدة، أن أتصوّر أنّ لدى أحدٍ آخر، أياً كان، إمكانية أن يحتل
مكاني.
هذا ما يقره سراً وعلانية، الكثيرون من معارفنا.. ولكني كنت حريصاً
دائماً على إظهار توددي وتعلقي، كي لا تفكر أني يمكن أن أنشغل بسواها، كما
يحاول أن يُفسد الحاسدون.
غير أن السؤال الذي بدأ يفرض نفسه هو: هل كان ذلك حقاً؟! وهل عشت
تلك الفترة بالفعل؟! أم أن كل شيء كان هلوسة وهذياناً ليس إلاّ!
حين أستعرض مراحل حياتي معها، أصل إلى حالة من الذهول:
فأنا لا أذكر منها حركة ودية، أو مشاركة حميمة. ولا أحتفظ، حين أفتش
في ذاكرتي القريبة والبعيدة،مواساة أو تعويضاً أو عجزاً، بأي مشهد لها علاقة
به، يعيد إلي توازني الذي بدأ يضطرب، أو يبرر لي ما مرّ، ويدفع عني شياطين
اللوم وعفاريت الندم. حتى أني صرت أشك إذ أتساءل: هل هذه حقاً هي؟! أم واحدة
أخرى؟!
ولكني حين أسترق النظر إليها، وأرى تلك الصورة أمامي، أعترف بأنها
تستحق التعب والإرهاق والتضحية، ويحق لها التباهي والدلال؛ فما لديها مميّز
ومثير ومُشتهى.. فأندبُ حظي، ويدور الشك، ينخر عظامي، ويتركني فاقد الأمان
والمتعة.
أزمنة مرت، ونحن معاً، ولا زالت عواطفها غامضة، ومشاعرها مخبوءة؛ لم
تعلن صراحة عن حبّها، ولم تبدِ تشوُّقاً لإقامة الطقوس المشتركة المستمرة. وفي
كل مرة، تصطدم حماستي ببرودتها، وشوقي بصمتها، وشبقي بلا مبالاتها.
حتى لأظن أحياناً، أن هذا ليس إلاّ احتلاماً ليلياً، أو مشهداً
ابتدعه الخيال. وأنها ليست إلا صورةً، لا كائناً من لحمٍ ودم.. وهذا ما جعلني
أفكر بأنها غير مقتنعة بي، وغير مرتاحة معي، وأنها تفكر في أمر آخر، أو أحد
آخر!
وعلى الرغم من الأوراق العديدة، والوثائق التي بحوزتي، والتي تقرّ
وتؤكد، بشهود، وتواقيع، وأختام، أن العصمة في يدي، وأنني حرُّ التصرف بها،
وأنها ملك يميني وحدي. وعلى الرغم من طاعتها لي، وانصياعها لأوامري؛ فإن
إحساساً غريباً تسلل إليّ، جعلني أنسحب من حال الطمأنينة التي توهمتُ، وترك
أوقاتي شروخاً بدأتْ تتزايد مع تزايد شكيّ ومراقبتي وتوتري.
خجلتُ من السؤال عنها، عن تاريخها، أصلها وفصلها؛ فليس من أحد يمكن
أن يعرف هذا أكثر مني. وترفعتُ عن استشعار علاقاتها السابقة، هي التي لم تستقرّ
لأحد، رغم المحاولات التي لم تنته.
وسمحتُ لنفسي التي صارت تتقلّى بتصوراتها وشكوكها، أن تقوم بأشياء
لم أتصور أنها يمكن أن تحدث:
فتشت أوراقها ورقةً ورقة.. محافظها، جيوبها؛ لم أجد شيئاً يثير
الشك. وهذا ما يدعو للارتياح. وفي الوقت ذاته، لم أجد لديها أيَّ شيء يتعلق بي.
حتى رسائلي إليها، التي كنت أبثها نيران أحاسيسي، لم أجدها. صورتي التي أبدو
فيها في حال سعيدة، ليست معها. أو أنها في مكان آخر.. هداياي البسيطة في
مادتها، القيّمة في مغزاها - كما كنت أعتذر- لم يظهر أيٌّ منها.وهذا ما يدعو
للعجب والاستغراب: هل أحرقت كل هذا؟ هل ألقت به في بئر مهجورة؟ هل أعطته لعابر
سبيل؟! أم أنها تخفيه في مكان عزيزٍ صوناً واحتراماً؟!
لم أصل إلى جواب، وليس من المعقول أن أسألها؛ في هذا الوقت على
الأقل. استحكم بيَّ القلق، أخفيته رغم اعتقادي أنه يظهر على ملامحي، ازدادت
طلباتي الزوجية مرات في اليوم، لم ألحظ أي نفورٍ أو استياء. صرت أقوم الليل،
بينما تنام وعلى وجهها ذلك الشعور، الذي يمكن أن تفسره رضى واقتناعاً إن كنت في
حال جيدة، ويمكن في حال أخرى، أن يكون قرفاً أو إفلاساً أو استسلاماً. كنت
أتمنى أن تتكلم في أحلامها؛ رحت أقضي ساعات الليل الشاق في التنصتِ، وانتظار أن
تقول شيئاً، أن تبوح بأي شيء، أن يصدر منها أي كلام يجعلني أفهم شيئاً عنها.
لكن ذلك لم يحدث؛ كانت أنفاسها رتيبة، ونومها هادئاً؛ لا كوابيس ولا توتر ولا
انقطاع..
بادرني شعور أن هناك أحداً غيري. وبدأتُ بتوجيه سياط اللوم على ثقتي
العمياء بها، وتضحياتي من أجلها. وقبل ذلك وبعده، بثقتي المطلقة بنفسي، وأن ما
من أحدٍ يتجرأ الاقتراب من حدودي، أو التطاول على عريني. وأنهم جميعاً ليسوا
أكثر من أقزام أمام شموخي، وحشرات في جحور مملكتي.
ومن يكون هذا الذي استطاع أن يدير رأسها نحوه، ويحتل جزءاً من
مشاعرها، أو مشاعرها كلها؟! وصرت أؤكد لنفسي أنها، لابد، في حال جيدة معه،
وأنها تلتقيه في غيابي، فتصل إلى حال من الإشباع يصبح عندها أي شيء أقدّمه لا
معنى له، أو زائداً عن الحاجة. وقلت: لعلّ ما يؤمن ذلك، ويسهّل أموره، أني أغيب
عن البيت زمناً محدداً، أخرج في ساعة معروفة، وأعود في وقت معلوم؛ حتى إذا ما
رآني أحدٌ أخرج أو أعود في مواعيد مخالفة، سرعان ما يبادرني بالقول: تأخرتَ، أو
بكّرتَ يا أستاذ، خيراً إن شاء الله..!
فغيرت مواعيد خروجي من البيت، وعودتي إليه، وصرت أغادر وأؤوب في أي
وقت. علّني ألاحظ أمراً ما يريحني.. مهما كانت نتيجته. ويجعلني أضع يدي على
الحقيقة. لكني لم ألحظ أي شيء غريب.
وما كان غريباً أكثر، أنها لم تعلّق على هذا الأمر، ولم تتعجب.
وفكرتُ: هل هي من الذكاء بحيث يمكنها أن تخفي نفورها واستياءها؟!
ربما لأنها تعلم أن قلقها سيوقع بها، ولكن كيف تمكنتْ من الوصول إلى حل؟!
والتكيّف مع الوضع الجديد بهذه السرعة؟! ومتى استطاعت إخباره؟! وكيف توصلتْ إلى
الاتفاق معه على تأجيل اللقاءات بعض الوقت حتى تستقر الحال؟! لا هاتف لدي، ولا
عمل لديها لتخرج؛ كل شيء يصلها إلى البيت، وزوارها نادرون.. فأنا أكفيها، هذا
ما أحسبه، ومالم تعترض عليه البتة.
ومع تفاقم الحال، وتزايد الإحساس بالتعاسة والعجز، فكرتُ بالقيام
بأفعال أخرى مريعة. قلت: سأضربها، وأطردها. لكن قبل أن أنفذ، فكّرتُ بالأولاد:
ماذا سيحل بهم؟ّ كيف أربي الكبار؟! وكيف سيعيش الصغار؟! معها؟! هي التي لم أحسّ
أنها تتعلق بهم كثيراً؛ حتى أني صرت أشك أن هناك مبالغة في تقدير حال الأمومة،
وأنها تعطى أحياناً أكثر مما تستحق، وهي ليست أكثر من قيمة مثالية مطلقة نظرية،
والواقع شيء آخر؛ وكذلك حال الأبوّة، وحالي معهم؛ إذ لم تختلف على عددهم، ولا
على أسمائهم، ولا على تربيتهم، ذكوراً أو إناثاً، أصحاء ومشوّهين، مشغولين
وعاطلين..
ثم تناسيت الأولاد وقلت: إن أسرة مغلفةً بالنفاق والشك أشد خطراً من
افتراق بمعروف أو من دون معروف. لكن حتى هذا الأمر عزّ علي؛ إذ كيف سأتركها
تذهب دون أي جزاء أو عقوبة؟! وأينَ ستذهب؟! ليس لها أهل معروفون تعود إليهم.
وهذا ما كان أمراً اعتبرت عدم أخذه بالاعتبار فضلاً مني، وإيجابية تضاف إلى
إيجابياتي وتضحياتي..
لاشك أنها ستذهب إليه، وهل هذا معقول أو مقبول؟!
كيف أسمح لنفسي أن أفتح لها السبيل الذي يوصلها إلى من فضَّلته
علي؟!
أليس في هذا خيانة تستحق عليها القصاص، بحجم ما كنت أعلّق عليها من
آمال، وما قدمتُ من أجلها من تنازلات، وتركتُ من أجل عينيها من فرص واحتمالات،
كانت ستجعلني شخصاً مختلفاً؟! لا، هذا لا يمكن أن يحدث، ولن أحلّ قيدها، الذي
يربطها بي إلاّ بعد أن أشفي غليلي منها..
***
أعددتُ كل شيء للخلاص منها إلى الأبد، بعدما تحوَّل حبي الجارف لها
رغبة عارمة في تدميرها..
أرسلت الأولاد إلى بيت جدّهم، لنحتفل معاً بذكرى التحامنا الأول
وحيدين تحت سقف واحد. هذه كانت حجتي التي لم تبدِ حيالها أي رضى أو استغراب.
أعددت كل شيء مشحوناً بأحاسيس قاتلة، ومدفوعاً بألف رغبة بالانتقام، ومسلحاً
بطريقة مبتكرة للقيام بالفعل، الذي سيعيدني كائناً حراً مستقلاً قادراً على
التحرك والانطلاق، في اتجاهات أخرى..
وعدتُ إلى البيت، كان على ما تركتُه عليه، دون أية حركة أو أنفاس،
فتشت عنها في كل الغرف والأركان..
كان كل شيء صامتاً بارداً شامتاً..
الشاي البارد
نوم لزجٌ يعتصره، وفراش شوكيٌّ يدفعه للنهوض.
وجع متعدد الأشكال والأسباب، يتواقت، ويتناوب مع كل حركة من حركات
جسده، أو أي عضوٍ فيه..
صخب الخارج لم يترك فضاء في الغرفة العتيقة قليلة الفضاءات، حتى لو
لم تكن كل حاجات وأغراض رجل خمسيني وحيد منتصبةً أو معلقة أو ممدودة؛ كما هي
حال سليم.
طقطق السرير طوال تحركه فيه، كما لو أنه يغالب الأصوات الداخلة عبر
الجدران، والباب الوحيد، والنافذة اليتيمة المعلقة قرب السقف، الذي يضاعف بقربه
وقتامته الشعور بالارتصاص؛ مما يحول، إضافة إلى وجع الرقبة المدمَّلة، دون بقاء
العينين مفتحتين قبل النوم وبعده، أو آناء القلق الليلي المتكاثف.. ويحرمه من
عادة قراءة خرائط السقف ومتاهاته؛ تلك العادة وريثة متعة متابعة أشكال الخشب
والدخان، ومواقع انسراب الدلف، وثقوب الحشرات، وأصداء الحركات. بما تحمله من
مشاعر الخوف والحذر من تراب، أو ماء يغافل التحديق، أو حيّات وأحياء أخرى،
تتطاول على الأوقات الحميمة. على الرغم من كل ذلك فقد كان فيها ما يشعر بالإلفة،
لأن حياة تسري غير بعيد عن الرأس المشحون بألف حلم وأمنية وهم.. خطا متثاقلاً
يحاول لملمة همةٍ ورغبةٍ. الأصوات لازالت تتزاحم في رأسه، قادمة من جهة الساحة،
متنفس الحارة الوحيد. لاشك أنها الآن، كما تصورها دائماً، تشبه رئة مدخنٍ
مزمن..
بحث عن كبريت لإشعال سيجارة، لم يجد التبغ "هذا الصديق اللدود الذي
لا يحترق بمفرده..!".
جلس على كرسي مقلقل، تناول الكأس من على الطاولة حائلة اللون، شرب
بقايا الشاي، كان أسود بارداً، أحس بانتعاش، وبحركة في الأمعاء، ورغبة بالإقياء:
كانت عادة غريبة أخرى لم يبرأ منها منذ أن كان يغرقه العمل، وحين كان يرفض
تجديد الشاي، يهز المستخدم رأسه، وهو يراقبه، يدلق ما بقي في الكأس دفعة واحدة
في فمه، ثم يلحس شفتيه ويناوله إياها؛ كان هذا يتكرر. ولم يتعودْه ذاك الرجل،
ولم يكف عن سرد ذلك على سبيل التندّر، منذ المسؤول التالي.
***
عملية ضبط الإيقاعات، ودوزنة الطبول، واستظهار المحفوظات، لم تهدأ
منذ وقت، لاشك أنه ليس قليلاً، ولم تنم طويلاً..
إنهم في طريقهم إليها، استعدوا لهذه المناسبة السنوية منذ موعدهم
السابق، وها هو الموعد الجديد للاحتفال بمولودها الجديد. يعرف هذا من هرجهم
وصياحهم، من تصويتهم المتأخر في الذهاب الصباحي، والمبكر في الإياب، بما لا
يتناسب مع مواعيد العمل اليومي.
هو لم يعلم بالاحتفال من الدعوات التي وجهت؛ فليس له دعوة؛ دعوه قبل
الآن، بنيّة غير مؤكدة السلامة، وضعوا تلك الدعوة على الباب الخشبي. لم يذهب،
لأنه لم يقرأْها؛ فهو لايخرج إلاّ في العتمة، آلى على نفسه أن لا يرى أحداً،
وأن لا يراه أحد..
ولكن هل يمكن أن يذهب حتى لو دعوه صادقين؟!
هل يقوى على حضور المراسم؟!
هل يستطيع تحمل احتفالها بأولاد..؟!
***
(يتضاحك بين ساعديه، يضرب الهواء بيديه الدقيقتين، يناغيه، يقترب
بوجهه ليقبله بين عينيه: "ليستا خضراوين".. ارتدادٌ قابض، تصور غائم، "برودتها
أوقفت حماستي، زوغان عينيها عن عيني أسدل الستار عن العرض البهيّ، لم تتأوه كما
كانت تفعل أوكنت أتخيل، أيام الحب العذري، ليست ملامحي هذه التي تبرز على وجه
الطفل، ليس ولدي..".
اتركه لها، اتركهما واخرج..!)
فتح الباب بسرعة، وبلمحة بصرٍ صار في الشارع..!
***
الشوارع مقفرة كما في كل مرة يخرج فيها أو يعود، لكن الوقت مختلف؛
كان يحدث ذلك في الظلام، أما الآن فالنهار ملبد بالغيوم والصقيع. لم يخرج مساء
أمس، كان الشارع مضاءً.
تنقل بين شارع وشارع، بين حي وآخر، بين صف من الحوانيت وصف مواز؛ لم
يعترض مسيره أحد، ولم يُعثره عائق؛ فالبيارق مرفوعة، والأقواس المزينة
واللافتات عالية، اللوحات المضيئة تتراقص؛ أسماء كثيرة جديدة، أسماء غير معروفة
تماماً بالنسبة إليه، وغير بعيدة عنه؛ لوقعها صدىً يتردد في قاع الذاكرة، فتعود
شزرات صور وهياكل وأقوال.. إنها أسماء لأناسٍ يعرفهم، كان يعرفهم حق المعرفة:
"غريب، هل صار أبناؤهم ما صاروا؟! كم يمر الزمن". أحس بوهنٍ وضياعٍ
ويأس: "كنا معاً!".
هزّ رأسه مرات....
لو كان تزوج منها، لكان لأولادهما أمكنة تليق.. لو كان تزوج من
سواها، لكان لأولاده سجلات ومواقع وربما لوحات:
"لو كنت أعرف أن هذا سيحصل لي.. ما خرجت من قبوي..!!".
***
ألا تخجل من قبوكَ هذا؟! لماذا لا تتركه لأصحابه؟! أمن أجل الأجرة
الزهيدة التي تدفعها؟! يا للؤمك يا سليم! لماذا لا تخرج إلى الحياة؛ يا لغبائك
يا مناضل؟! الأراضي منبسطة، والمدينة تتوسع، والموافقات رهن الإشارة، والأيدي
المليئة الممدودة لا تعد؛ اغتنمْها قبل أن تغير الريح اتجاهها..!
موجات ريح تصر آن عبورها الزينات واللافتات المثقَّبة، والرداء
المهلهل، فتصر المفاصل والأسنان والأفكار:
- لماذا (لا تأخذها)؟!
- يكفيني ما نحن عليه، ويكفيها..!
- هل أنت متأكد من مشاعرها؟!
- كل ما لديها من خيري..!
- وما ليس لديك أليس بسببها؟!
- لن تفرقوا بيننا؛ غيارى حاسدون..!
- اخرج من قبوك تحظَ بها..!
- حين أخرج منه سأخرج من حياتها؛ لأني حينئذٍ لا أستحقها!
شتيمة عجوز عمياء تخلفت عن الركب الاحتفالي، قهقهة واثقة قادمة من
داخل أحد البيوت في غياب أصحابها المحتفلين، آهاتٌ تتردد من زوايا ميتةٍ يختلط
فيها العذاب بالنشوة:
"هل تأوهت معه؟! لا شك أنها كانت تتصورني؛ هل يصح أن تنساني؟! أنا
مفجر طاقاتها، مبدع انطلاقتها وأحلامها، محفز مواهبها و.. من منهم حظي برضاها؟!
من منهم اغتصبها؟!
كانوا يتنافسون عليها وينافسونني، وكنت في أوقات استراحتي القليلة
أصلح ذات البين..".
- لماذا لم تصلح هندامك؟!
***
تكاد الأفكار تسرقه من نفسه، والطرقات تعثره؛ أم أن أقدامه نسيت
أبجدية السير تحت أشرعة الضوء، وعلى إيقاع الحياة.
في ما مضى لم يتعود أن يفكر بحاجاته؛ كانت مقضاةً ولم يفكر برغباته؛
كان لها اتجاه واحد، منبع واحد، وغاية واحدة: رضاها! أما الآن فعليه أن يفكر في
كل شيء، ويحضر أي شيء بنفسه:
"مقطوع من شجرة، ومقطوع عن الجذر، أين المفر؟!".
ترك قريته البعيدة، انشغل عن أهله. ومن جاء بهم إلى هنا ينشغلون
الآن عنه؛ مات الذين يذكرون، ونسي من ظلَّ هناك! لكن أولياءها لم ينسوه، تذكروه
في الليالي القاسية تذكر المنتقم!
الأصوات تأتي من كل الجهات، يسيرون في الشوارع الهامة قبل أن يعودوا
إلى الساحة الرئيسة، حيث الساعة منتصبة دون أن تدور عقاربها منذ تدشينها..!
(كانوا يدورون بالعروس في طرقات القرية كلها قبل أن تدخل بيت عريسها
الذي قد لا يبعد أكثر من سماكة جدار واحد!).
إنهم مبتهجون يرقصون لزينة الحياة الدنيا؛ الأولاد وأشياء أخرى، هي،
يؤكدون أنها منتشية، وهم مسرورون بالولادة دليل خصوبة وفروسية وأصالة:
"خصوبتها وفروسية من؟!
آه لو يصدقونني..!"
"آهٍ لو لم يصدقوني..!".
***
غير بعيد عن أطياف البهجة، وعلى أصداء الهتافات والطبول، وأنغام
الأناشيد والمزامير، وقف محتضناً جذع شجرة. كان يبحث بنظراته عنها.. كان يترصد
طيفها، يتسقط نأمة منها، رغم اعتقاده أنها لن تقول شيئاً.
وقع المطر على أغصان الشجرة الفتيّة، وخيوطه الواصلة بين السماء
والأرض، أحالا الحالة إلى شبه وهم، والمشهد إلى شفيف حلم، أحس أن نبضه تسارع؛
هل هو القلب التعب؟! أم تخيُّلها وضحكتها تغرّد على شبكة الخيوط المتلاحقة،
وخفق الأعلام الملونة، والأصوات واللافتات التي تؤرجح الوقت والمتعة.
دفءٌ لذيذ بدأ ينغل في مساماته:
كانت أياماً ماتعة. حب وهيام وولع، ولا شبع!
قرقرةٌ في جوفه؛ الجوع أم آثار الشاي البارد؟! أم التساؤل القارس:
لماذا؟!
تغضُّنٌ يعرج الخيوط المائية: ما الذي يلزمك البقاء هنا؟!
الآخرون ملزمون أو مستفيدون، لم أنت هنا؟!
حركات أقدامه وجسده كله زادت. هل المشاركة مع إيقاعات المحتفلين تحت
المطر؟! أم الحنق الذي يتضاعف في خلاياه؟! أم آثار البرد والبلل المتساقطين من
بين وريقات شجرة الزينة؟!
(ما الذي يبقيك تحت سطوة المطر والبرد، وهيمنة القلق؟).
"إنها تستحق، لا أستطيع نكران ذلك، لا أستطع نسيانها؛ لم أعد
مراهقاً ولم أزل أهيم بها؛ لم يعد لي موسمٌ ولم يبق لي سواها؛ لديها الكثيرون
وليس لها سواي..".
أحس تعباً في ظهره، وتحجراً في عنقه، مدَّ يده إليه، كان بارداً
رطباً.. هل هو الرقاد المتطاول؟ أم وسادة القش الخشن؟ أم سرير الخشب الذي
يتآكله السوس، أم أنها آثار نير الفلاحة التي وُعد بها يوم كان لاهياً:
(هذا وعد الأولياء الذين لهم الليل والأراضي البور)! من كان مثلك
كيف له أن يفكر بها؟! أمامها كل هذه القامات والانحناءات، فهل من المعقول أن
تتذكرك بعد؟! حتى إن رأتك، فلن تنال منها إلا قهقهة وسخرية.
هذه قوافلهم تتشرذم، إنهم يعودون، عليك بالإسراع قبل أن يروك،
فتتحول إلى فرجة ومشجب..
لا يحتاج هذا السيرك إلاّ رجلاً على هيئتك..).
***
لم يستطع الاستمرار منكباً؛ رائحة القش المتعفن، وأنفاسه التي تحرق
وجهه، والغطاء الرطب العفن الذي لفه حول رأسه، دفعه كل هذا لأن ينقلب على قفاه،
لم يستطع أن يبلع لعابه، أحس برغبة بالإقياء، وجعٌ في عنقه، وثقل في عينيه،
وصوت تحفّر الخشب المتقاطع مع نبضات قلبه، وأصوات العائدين من المهرجان؛ كل ذلك
جعله ينسى أنه مستلق على ظهره. وقذف ما كان في فمه نحو الأعلى..!
الموت حق..!
للموت رهبةٌ وخوف، انشغال وتوتر، تأمل واجم وأفكار سود وصدى قاتم؛
لكن عادة سليم جعلت للموت طعماً مختلفاً..
إذا كان هذا يعمم على حالات الموت المتعددة التي تحدث، ونحضر
طقوسها، أو نسمع بها، فكيف سيكون الحال اليوم، وفي هذا الظرف الاستثنائي؟
فقد ماتت أخيراً!
لاشك في هذا، فالخبر وصل إلى كل بيت، والناس بدؤوا يتقاطرون إلينا
معزّين وعارضين المساعدة، وسليم في الصالون يستقبل الوافدين، وأنا هنا في هذه
الغرفة أبادل القبلات بأحسن منها!
***
لم تكن علاقة سليم بأمه، كأية علاقة بين أم وولدها؛ عرفت هذا منذ
الليلة الأولى لزواجنا، وما حدث وقتها: حين راحت تضرب الباب والنافذة بقوة فور
أن أصبحنا وحيدين، وفي كل مرة يخرج سليم، ليهدئها ويرجوها أن لا تسمع الجيران
المتيقظين. وما إن يغلق الباب من جديد، حتى تعود إلى هياجها وصياحها. حتى صارت
ليلتنا تلك سيرة مخزية وذكرى جحيمية.
على الرغم من أنها - كما أكد سليم والجيران في ما بعد- هي التي ألحت
عليه أن يتزوج، وسعت بكل الحجج والتبريرات، ووساطات الأقارب، لكي يصبح رجلاً
صاحب أسرة وأولاد تراهم قبل أن تموت. ولم تبدِ أي اعتراض على اختياره لي. وقد
حاولتُ مراراً أن أبرر الأمر، وأضع له أسبابه الوجيهة: فهو وحيدها وكل شيء في
حياتها- هكذا كانت تقول- بعد أن غاب والده دون رجعة، ولم يمضِ من مشوارهما
المشترك غير سنين قليلة؛ وهي أمه التي سخّرت حياتها، وضحت بكل شيء من أجله؛
حتى طلبات الزواج العديدة، كما كانت تكرر دائماً، بمناسبة أو من دونها. لكن هذا
لم يمنع من أن يجعل ما بيني وبينها، لا يختلف عما يُعرف عن علاقة اثنتين في مثل
وضعينا؛ فهي أمُّه، وهو وحيدها، وأنا شماعتهما التي تنوء تحت أحمالهما. لذا فإن
نفوري لم أستطع مقاومته، رغما ما سببه لي من خلاف مع سليم، وما تعرضت جراءه
لإهانات..
ليس هذا مهماً الآن، فقد ماتت وانتهى الأمر، لكن المهم شيء آخر، فهل
سيبقى سليم على عادته الغريبة تلك؟ أم أن هذا الظرف الخاص سيلقي بثقله عليه
ويشغله عنها؟
وعادة سليم التي قاومتها وحاولت تغييرها في البداية، جعلت الإحساس
لدى سماع خبر الموت يختلف عن الإحساس المتوقّع أو المألوف، فالموت كارثة
الإنسان المحدقة، أنّى كان وحيثما حلّ. ومجرد حضورها في القرية أو المنطقة أو
العالم الذي أصبح صغيراً، يجعل من الناس المختلفين بتفكيرهم أو سلوكهم أو
أوضاعهم، متساوين في خوفهم واستلابهم وعبادتهم وإخلاصهم وتقواهم؛ أما عند سليم
فالأمر مختلف إلى درجة الغرابة والشذوذ كما فكرت طويلاً.
***
كانت أم سليم تقول:
(في ما مضى، وحين كان يموت واحدٌ من العائلة المهمة التي تملك الماء
والسماء والهواء، كان ممنوعاً على جميع الناس الاغتسال، أو غسل الثياب. ويعتبر
حبل الغسيل شاهداً على الجريمة التي تستحق العقاب. أما إذا كان الميت خارج تلك
العائلة، فكل شيء جائز، حتى حفلاتهم وأعراسهم وولائمهم التي لا تنتهي؛ والدك لم
تكن تلك الأوامر تعجبه، فيقول لي حين يسمع بوفاة تخصهم: ردّي الغسيل!
حاولت كثيراً أن أمْنَعَه أو أن نخبىء الأمر، ونغسل الغسيل داخل
البيت. لكن حبل غسيلنا كان يمتلىء عن آخره؛ هددوه، وعاقبوه، وما نفع ذلك؛ أبوك
كان عنيداً. وماذا كانت النتيجة؟ انهار سقف محفارة التراب الأبيض البعيدة، حيث
كان يحفر وحيداً فوق رأسه "اليابس قضاء وقدراً" ومات. هذا ما قالوه: وأقنعوا
الناس به).
وهذا سليم عند سماعه خبر الموت ينتفض ويقول: إنا لله وإنا إليه
راجعون.. ثم ينظر إليّ نظرة خصبة، وطيف ابتسامة يوشيّ وجهه المحمرّ، ويتابع:
كلنا على هذا الطريق.. يا حسرتي.. !! وأعلم أن وليمة عامرة وليلة حمراء في
طريقها إلينا.
قاومت هذا الأمر كثيراً، وفكرت في أن أعرض قضيته على طبيب، أو آخذ
رأي أحدٍ فيها . ولكني خجلت، وخفت، وفكرت بالعاقبة إن علم سليم بذلك.ثم ندمتُ
لأني فكرت في مثل تلك الأفكار؛ فقد بدا في ما بعد، أن الأمر لابأس به على أقل
تقدير، بل ربما اقتنعت أنه افضل وسيلة لمواجهة مواقف محبطة ومأساوية. ومغالبة
الشعور بالعدمية والفناء والخسران، كما يحدث في حالات الموت. وأحس الآن أنه
جميل و وماتع ، دون أي اعتبار آخر؛ فالموت حق، والحي أفضل من الميت!! لكن ماذا
سيحدث اليوم؟ وماذا سيكون موقف سليم المنشغل الآن باستقبال الملتاعين الحزانى،
وتحضير الجنازة، ومتابعة أمور الإخبار، وتحديد ساعة الدفن، والشيخ الذي سيقوم
بتقديم النصائح لأمه للمرة الأخيرة، والتي لن تسمعها، كما كل الكلام الذي تردد
على مسامعها، في عمرها الذي طال كثيراً، حتى حسبتُ أنه لن ينتهي.
صحيح أن سليماً حين اكتشف وفاتها في الصباح، لم ينظر في عينيّ، ولم
أر على وجهه طيف تلك الابتسامة التي أشتهيها..
لكن أقول: الميت أمه؛ فهل من المنطقي والمعقول أن يكون الحال
معادلاً لكل مناسبات الموت الأخرى؟! وهل من المعقول أن يفكر الآن بمثل هذا
الأمر؟! وهل لديه الوقت والرغبة في ذلك؟!.
ولكني أعرف سليماً. فما كان يقوم به، والحالة التي تسكنه تلك
الليالي، والهياج الذي يستولي عليه، تجعلني أظن أن مثل هذا لا يغيب عن تفكيره.
وهل سيقول لي إن فكر به ولو للحظات؟!
تُرى، هل تغافل عن الأمر ليختبرني؟! ليرى إن كنت أكره أمه، أو
أحبها؟!
لا.. لا أعتقد ذلك؛ فهو متأكد من مشاعري نحوها إلى أبعد حد، وليس
الأمر يحتاج إلى أي اختبار.
ربما يكون قد خجل أن يبوح به أو يعلنه، وهل كان عليّ أنا أن أسأله؟!
هل ينتظر ذلك ويحسبني نسيت؟!
أنا لم أنس؛ وهل يعقل أن أنساه، وفي مثل هذه المناسبة النادرة؟!.
لكنني ترددت من أجل مشاعره هو؛ مهما يكن فقد كانت أمه، على الرغم من سلوكها
الغريب، وطبعها الحاد، ولسانها الأكثر حدة. هل أستعد لهذا دون أن أسأله؟!
ولكن ماذا يقول الناس، إن لاحظوا ذلك، هل هو احتفال بموتها؟! كما
علّقوا في مرات عديدة، وهل أتناسى الموضوع، ونغيّر الطقس هذه المرة؟! لكني لا
أستطيع أن أتناساه؛ بل إن شعوراً دافئاً يستولي على كياني، وهسيساً عذباً يطوف
على مسمعي، وأطيافاً زاهية ملونة ترفرف أمام ناظري، ورغبة حارة خصبة تدغدغني،
فأكاد أضحك، لولا ضرورة الولولة والنواح، وضرورة اعتصار الأعضاء الداخلية
والخارجية لترسل بعض السوائل التي تبيّض الوجه. الآن أنا راغبة أكثر من أي وقت
مضى؛ أحس أنها مناسبتي وحدي، ولا يمكن أن أفكر بتفويتها.
ولكني حائرة ومتوترة وضائعة وخائفة من نتائج أي تصرف..
تُرى هل أفاتحه بالأمر؟! أم أنتظر؟!
الفحيح
انخطف في الطريق المتعرجة، بعدما لم يعترض أي كائن متحرك نظراته
التي أدارها في الجهات كلها خاصة جهتي الطريق العام. احتضنته الظلمة المتكاثفة
وألبسته رداءً آخر، يتكفل بإخفائه عن العيون المتربصةِ المسافةَ التي تفصل
شعشعة ذلك البيت عن أنوار الطريق الرئيسة. لكنها لا تستطيع إبعاد خطر حيّاتِ
هذا الصيف القائظ، التي يمكن أن تحضر في أي حيّز يضع قدمه فيه؛ بيد أن توتره
وحَذَرَه وانشغال تفكيره بأشياء كثيرة، تجعل التقدم ممكناً، بفواصلِ ترددٍ
وتساؤلٍ وتصارعِ رغبتين أحلاهما مرة.
***
- هل سيكون هناك؟! ما الذي يفعله ذلك الفظّ الثقيل؟!
- وما الذي تفعله أنت؟!
- أنا؟! حقاً! لا.. أنا قادم لأطمئن على البنت؛ اليوم كان امتحان
الرياضيات، لابد من التأكد عن قرب إن كانت الدروس التي أعطيتها إياها قد
أفادتها..
- وهو يطمئن عليها كذلك؛ أليس المدير الذي يحب طلابه/ أبناءه؟!
- من مثله لا يعرف معنى البنوّة!
- أليس هذا ظلماً؟! أليس هو من طلب منك إعطاءها الدروس؟!
***
قابلني بحذر؛ قال متردداً: أعرفك تحب عمل الخير!
قلت: من يكرهه؟ هنيئاً لمن يستطيع فعله دوماً!
قال: صفاء ابنة توفيق (أبو سعيد) المستخدم، تحتاج بعض المساعدة في
الرياضيات، أستاذها من قرية بعيدة ،وهي غير مرتاحة من طريقته في الشرح، وأنت لا
يضرّك أن تزيد مواردك قليلاً.
- أنت تعرف رأيي في الدروس الخصوصية، لو كنت أوافق على مثل هذا، كنت
في حال أخرى. ولكن من أجل أبي سعيد لابأس، لكن دونما أجر.
قال مدارياً وجهه، متجاوزاً إهانتي:
هذا ليس مهماً، من أجلي أو من أجل أبي سعيد، ولَنْ يضيع أجرك؛ عند
الله على الأقل.
اختارني لثقته بي كما قال وأكد..
***
لبريق عينيها معنىً كيف لمثله أن يفهمه؟!
وطفولة وجهها كيف لا تنخدش من جلافة منظره؟!
وبراءة ملامحها وسكينة تفاصيلها ووداعة حديثها والتفاتتها وحركاتها
كيف تصمد أمام جحوظ عينيه وفظاظة حضوره وجرشِ كلماته؟!
إنه الكارثة الأخرى بعد أبي سعيد/ زوجها!
ما الذي يريده منها؟!
زوجته وأولاده في أحسن حال، أملاكه لا تقدر عليها تقارير وعيون
الحساد، مركزه لا ينافسه عليه أحد في هذه البلدة، ومرشح لمراكز أعلى!
ماذا يريد من زوجة مستخدم في مدرسته/ خادمٍ في منزله؟!
وما الذي أريده أنا منها؟!
من حاله كحالي يجب أن يكره حواء من أصلها..!
***
واقف على حدود الظلام ومشارف الضوء كبعوضة تنتظر غفلة الساهر. ركن
الفرندة الواسعة يظهر من موقعه: صوته مسموع، ورأسه مرفوع، وكرشه مستقر. دخان
يتصاعد من فتحات وجهه، حركة دؤوبة لأولاد منشغلين.
فاجأه خروج أبي سعيد لاستكمال مهمة حراسة المدرسة ليلاً، حلف على
الزائر أن يبقى؛ إذ لا غريب إلا الشيطان! الشيطان الذي لعنه محمود ألف مرة حين
اضطر لمعانقة جذع الشجرة القريبة، لكي لا يلفت انتباه الحارس النبيه إلى جذعٍ
دون أغصان في عقر داره.
***
من حاله كحالي يجب أن يكره حواء من أصلها..
أنا لست الصغير بين اخوتي، ولكني الوحيد القادر على تحملها. هي التي
استطاعت إفراغ رأس أبي من الآمال، وحياته من لحظة هناء واحدة، وصلبه من الخير
الذي أنتج عشرة أولاد، عدا من مات قبل الولادة وبعدها. وكان يقول عند كل زغرودة
من القابلة: الحمد لله! وتضحك أساريره.
وحين يسألونه: ألهذه الدرجة تحب الذكور؟!
يتنهد ويقول: لا أريد جنس حواء.
وينظر إليها، يهزّ رأسه ويصمت..
حين استدار إلى القبلة، ونام، برزت على وجهه علامة الارتياح؛ لقد
تمنى الموت طويلاً، وإن كان يؤمن أنها قصاص منه في الدنيا، سيوفر عليه الكثير
في الآخرة. تقاذفها الأولاد وأولادهم، واستقرت عندي؛ أسكنتها إحدى الغرف
وتصاممت عن شكواها واعتراضاتها وحدة لسانها، وتغافلت عن معاركها المتواصلة مع
حميدة زوجتي، والتي لا يمكن لأيّ وسيط قوي أو ضعيف، نزيه أو متعاطف، أن يوقف
سعير الحرب بينهما.
أحياناً، أقول في سري: الحق مع حميدة، فأمي من طينة فريدة:
تقاتل الدجاجات إن بضن أم (قطعن)؛ إن أكلن أم امتنعن، إن رغبت
إحداهن في أن تكون أماً، شنت عليها حرباً من الشتائم والدعوات، وأغطستها في
برميل ماء لتبريدها، وإن قضت بذلك.
تحارب الفئران والقطط والكلاب والبعوض الذي لا يتركها تنام، ولا
تدعه يستقر، ولا يمكن أن يتم أيُّ من طقوس الحياة في البيت دون أن يحسب حسابٌ
لوجودها؛ حتى لقائي الغريزي مع حميدة، يجري تحت هيمنة شبحها فما إن أقوم إلى
الحمام في أية ساعةٍ من الليل، محاذراً إصدار أي صوت، حتى تظهر على باب غرفتها،
تهمهم وتدمدم، وأغض الطرف عن نظرات زوجتي التي تذكرني بالدليل؛ زوجتي المحترمة،
والتي تصغرها بنصف قرن تقريباً، لا ترضى للحق أن يستقر إلى جانبها، فسرعان ما
ترد الصاع صاعين، وتواجه الحملة بأشرس منها. وهي لا تنسى أن تُحضر لي كل حين
وجبة، فيها كل ما يخطر على بال أية زوجة من أساليب وأقوال وأفعال تجعل اللحظات
أشواكاً، والأمكنة مسامير، والرؤى ضباباً أسود مقيماً. وتقوم بكل هذا، غير
عابئة بتهديدي وإنذاراتي التي تعددت، وخرسي الذي يستمر أياماً، فهي صاحبة
البيت، ولا فضل لـ أحدٍ عليها، حتى أنا الذي تحول البيت /بيتي، الذي بنيته
بأموال المصارف، إلى ساحة عراك لا تهدأ إلا استعداداً لحرب أخرى.. ودخلتْ صفيةُ
البنتُ الكبرى وأخواتها الخمسةُ الحلبةَ إلى جانب أمَّهن حيناً، وأخرى إلى جانب
أمي، وقد ينقسمن ليزداد أوار النار.
حين أخرج من البيت، أسمع الجوقة تردد مقطعاً واحداً مُشَدّداً: إلى
أين؟! وحين أعود تواجهني النغمة ذاتها: أين كنت؟!
ولا أجيب في الحالين، فيستتبع ذلك بملاحق من التذمّر والشكوى والحنق
والرقص غير المنظّم، والذي لا ينتهي إلا بعد إجهاد وتعب، وعجز عن الفوز بحملي
على الكلام.
مسلسل اعتدت حلقاته التي لا تنتهي، ولم يرحني صمتي أو هروبي إلى
الكتب والقراءات، حتى أني كرهت جنس النساء، وصوت النساء، وحديث النساء حتى كلام
شهرزاد المباح.
أمي، والناس الحريصون على مستقبلي، يلحون علي أن أتزوج مرة أخرى
ليحيى ذِكْري، وليسمع صوت ذكوري في هذا البيت الذي لا يدور في فضائه غير
الفحيح..
إنني أشتاق صوتاً ذكورياً، ولكنْ: ألا يعني هذا إحضار واحدة أخرى من
جنسهن؟! إن هذا لوحدهِ كفيل بإبعاد أية فكرة من قبيل ذلك، أو أية خطوة قد تؤدي
إلى التقرب من إحداهن؛ حتى زملائي وزميلاتي في المدرسة يستغربون حالي ويتهمونني
بالتعصب الذي لا يشرفني. ولكن الحساسية تجاه أية امرأة، تجعل أمر الدفاع عن
نفسي متعذراً. وحين طلب مني المدير ذلك الطلب (الإنساني)، استعذت بالله، وحاولت
التهرب والاعتذار، لأنني لا أطيق الجلوس إلى أنثى، وإن كانت في مثل عمر ابنتي
صفية، وهذا ليس حباً في متأكدة أمي التي فرحت لهذه السيرة.
وليس خوفاً من زوجتي التي طار صوابها؛ لقد ضحكتُ كثيراً من أفكار
النساء، وعقول النساء، وأوهامهن، وأضحك الآن من نفسي وأفكاري وحالي؛ من يراني
هنا الآن ماذا سيقول؟! هل سيجد لي أي عذر؟! سيظنون أني ألاحق الفتاة، سيحكون
وينتقدون، لكنهم يظلمونني إن فعلوا ذلك، أنا لم آت من أجلها، يمكن أن أحلف لهم
صادقاً. ولكن هل يمكنني أن أفسر لهم وجودي؟! هل يمكن أن أقول أنني آتٍ من أجل
يا الله.. هل هذا معقول؟! وهل يُصدق؟! وهل أصدق نفسي؟! ما الذي
يستحق التضحية والمغامرة والعناء؟!
نظراتها؟!
هل أنت مراهق؟! وهل نسيت حالها؟! ثم إنها تجلس إليه الآن، ألا تنظر
إليه النظرة ذاتها؟! وإلى سواه أيضاً؟! وماذا تسمي امرأة ترضى أن تظل مع رجل
آخر؟! لماذا لا تطرده؟! إذا كان أبو سعيد خجل أن يفعل ذلك، أو ضعف أو تردد، كيف
تقبل هي؟!
ستقول: هي لا تستطيع أن تفعل مثل هذا، الحق على أبي سعيد، وليسا
وحيدين، هناك أولاد؛ وكيف يقبل على شيبته أن يظل معها؟!
وكيف تقبل أنت بسمعتك واتزانك وإخلاصك أن تذهب إليها؟! أنا لا أريد
منها شيئاً، لا أريد، لا أريد..
إذن ماذا تفعل هنا؟ وماذا تسمي وقوفك في الظل كلص عتيق؟!
- أنا لا أفعل شيئاً، لا أريد شيئاً، أنا ذاهب.. ذاهب..! لكن إلى
أين أذهب؟! إلى جحيم الأسئلة وجنون الغيرة وشوك الاستفزاز..
ألف مرة فكرت بطريقة للخروج من هذه الدوامة التي وجدت نفسي فيها منذ
السنة الأولى لزواجنا، أحسست حينئذٍ أني بدأت أعضُّ أصابعي التي أمسكت - وهي
تحاول التعلق بجذع آمن- شيئاً رخواً نتناً، وإلى هذا اليوم، أحس أن هذه الرائحة
تلاحقني من كل جهة وأي صوب..
وفي كل مرة يراودني هذا التفكير، أنظر حولي، لأرى أي جحرٍ أندس فيه.
وأفكر: ماذا سيحدث إن تركت كل شيء ومشيت، ماذا سيقول الناس؟!
وكيف أترك كومة اللحوم المشتهاة؟! والتي لا أحتاج حدة نظر لألاحظ
عدد الفوهات المصوبة، والأصابع الجاهزة للإطلاق، فأغرق في الطمي أكثر بصراخ
مولود جديد، لا تصطدم أصابع القابلة المتلهفة للتبشير، بأي نتوءٍ صغير يشرع
ضحكتها، وأجد شوك الدائرة يتزايد، وضرورة تحضير دفاعات أخرى وتحصينات جديدة
تتضاعف، وأفكر في كلام أمي حين تكون غاضبة على اخوتي وعليّ: لا خير في
الصبيان.. لو كانت لي بنت واحدة لسترت آخرتي.
وكنت أقول، إذ أتذكر اخوتي وقرار تراجعهم عن الاستعداد لتمويل
البعثة في اللحظات الأخيرة قبل انطلاق الطائرة - معها حق؛ الصبي أناني لا يشبع.
لكني، بعد تناثر هذه الموجة وحين أفكر في أقوال أبي، وحين أتذكر أن أمي وحميدة
وصفية وأخواتها إناث، أقول: ولا خير في البنت أيضاً.. تُرى أية مرارة أوصلتني
إلى هذه القناعة؟! وأي صبي حالم طموح كنت؟! وأية قدرة على الحب والعطاء والثقة
والانطلاق تلاشت؟! حتى صرت أشك أني أحب نفسي؛ وهل هذه النفس التي ترضى أن تقف
مثل هذا الموقف، وفي هذا المكان، ومن أجل تلك الغاية، يمكن أن تُحب؟!
***
الوقت يوالي انضغاطه فوق رأسه مضاعفاً إحساسه بالضآلة، والظلام
يتكاثف في الجهات الأخرى، كأنما يسد عليه المنافذ، ويبرر استسلامَه، لعجزهِ عن
التصرف، كما لو كان عالقاً في فخ قد تؤدي أية حركة إلى انغراز الأسنان في جسده
أكثر، فجعل يشاغل الحال، محدقاً صوبها، يراقب أدنى حركة منها، ويترصد أي ملح
يمكن أن يستنتجه.. ويفكر ويتساءل: ما الذي يجعلك منجذباً إليها؟! ما كنت تبحث
عنه وتنتظره من حميدة أماناً من كمائن الحياة وسهام الترصد؟! أليست هذه الصفات
هي ما تجعلها تحجم عن طرد هذا الضيف الثقيل، أو التصرف حياله أي سلوك ينم عن
نفور أو امتعاض، بعد خروج أبي سعيد إلى مهمته في حراسة المدرسة فترة الامتحان؟!
ألا تظن أنها تحتاج بعض القساوة والخشونة لطرده؟! تلك التي لا
تَعْدمها حميدة، لو تصرفت حميدة مع أي مخلوق مثل هذا التصرف المهذب؛ مع أي
مخلوق آخر؛ رئيسك، أو صديقك، أو مدرس ابنتك، هل كنت ترضى عنها؟! ألا تقيم
الدنيا ولا تقعدها فوق رأسها!!
وأنت؛ ألا تحتاج قدراً كبيراً من الشراسة لصد الرياح التي تقتلعك؟!
لو كنت قاسياً مع أمك، وسيداً على زوجتك، وخشناً مع بناتك هل كنت في مثل هذي
الحال؟! وهل كنت تعيش في دوامة الصليل والفحيح واللدغ..؟!
آه.. ما الذي يصوّت قربك الآن؟! هل هذا فحيح؟! هل يلاحقك الفحيح إلى
هنا؟! هل الحق على الأفاعي أم عليك؟! هل هذا الوقت المكان لها أم لك؟! وإذا ما
لدغتك إحداها، ماذا ستفعل؟! ماذا سيحل بك؟! ماذا سيقول عنك الناس؟! هل سيترحم
عليك أحد؟! هل سينقذك سوى المدير إن سمع صراخك أو اصطدم بجسدك بعد انتهاء فصول
زيارته!
ومتى ستنتهي هذه الفصول الدهرية؟!
وماذا ستفعل أثناء خروجه، هل ستحتضن جذعاً آخر؟! أم تتكور جوار هذا
الحائط الحجري القديم الذي يمكن أن تستوطنه قبيلة من الحيات، أو بين هذه
الشجيرات الكثيفة التي يتفصّد منها الفحيح..!
وماذا ستفعل إذا ما نجوت؟! هل يمكن أن يُزار أحد بعد هذا الوقت؟!
وهل ستستقبلك بالبراءة ذاتها والوداعة عينها؟! أم أنها ستغير من هذه الصفات
وتستعير صفاتٍ أخرى من زوجتك أو أمك أو بناتك؟!
وعندها.. ألن يكن معها الحق؟! هل تلومها؟! وماذا ستفعل بخيبتك؟!
الصليل يتصاعد، والفحيح يتضاعف قرب قدميه، في رأسه، في كل خلايا
جسده. تحول المكان والوقت إلى أزيز، وطنين، وأصوات حشرات من كل الأنواع التي
تمتاز كلها بسمية قاتلة..
سيعود أدراجه، لن يبقى أكثر، لن يعرض نفسه لموت رخيص، ألا يكفي أن
الحياة نفسها رخيصة؟!
أدار ظهره، مشى بتثاقل، نظر نظرة أخيرة، كان الجلف يتحرك، البراءة
والوداعة واللطف تتضاعف أثناء توديعه.
توقف محمود، ماذا سيفعل بعد أن حان ما كان ينتظره؟!
هل سيذهب محله؟! هل هذا يليق؟! وفي مثل هذا الوقت.؟!
لا.. انتهى الأمر، ما فات فات، لن يحتضن جذعاً، ولن يندس في جُحْرٍ
شجري، سيذهب خارج هذا الجحيم..
عليه أن يسرع، ماذا لو لمحه، أو شاهده، سيخسر أكثر فأكثر.. سيركض..
عليه الآن أن يركض كي يسبق ذاك الذي خبر الطريق..
ماذا أوقعه؟! حجرٌ أم غصنٌ نافر أم أفعى؟!
ما الذي يسري في دمه؛ رعبٌ أم ندمٌ أم سم زعاف؟!
ما الذي يضج في خلاياه كلها؟!
أضيفت في 31/03/2005/ خاص القصة السورية من
مجموعته أحمر أبيض الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب
المطمورة
بحذر مددت يدي ؛ أصابعي
راغبة مشككة ..الملامح لا تفصح، والوقت غائم مغبر…
الندبات والصدوع التي
أعثرتني ، لم تكن قادرة على إيقافي، فانثال دبيب مخرش ، نمال دافئ الوخز، سلس
الصدى …
هي المطمورة إذن؛ لم
أخطئ؛ أخيراً..!
لست متأكداً ِلمَ أريدها
الآن، بعد كل تلك السنين..ما حاجتي إليها..؟! هل سأضع فيها شيئاً آخر ؟! وهل
لدي المزيد؟! لا أعرف ..هل سأخرج منها شيئاً؟! وما أحتاج ؟! وهل لا يزال فيها
ما يفيد ؟!
هي التي دعتني ؟! ربما !
هي لا تفصح ، وأنا لا
أستطيع التأكيد، قبل أن أتأكد ..
لا بأس ! عل المحاولات
التالية تفيد ..!
* * *
خبئ قرشك الأبيض ليومك
الأسود ..!
\" القروش تنزلق من بين
يدي ، والأيام سوداء تترى ..\" .
لكن لك حصة في المطمورة
..!
\" أية مطمورة ..؟! أنا
؟!
* * *
تمشي.. تركض.. تطلق
ساقيك للجهات، دون رغبة أو تدبير ..تعبر الثغور والمفازات ، تترك ثقوبك تتصرف
بحرية ، تدخل وتخرج ما تشاء …تستنشق هواء مغايراً، تضطرب أمامك الجهات ، وتضطرم
في يديك المقابض ، وفي رأسك الأفكار…
- لماذا لم تمد يديك
إليها ؟! هل أضعتها ؟! أم تنتظر أياماً اً أكثر حلكة ؟! أم …
* * *
تمد يدها إلى صدرها عبر
طيات الثياب، تخرج قبضة حائلة اللون، معقودة بإصرار، مربوطة إلى عنق ينحُلُ،
ويتجعد:
- اذهب إلى الدكان، اشتر
لي بهذه حلاوة سكرية؛ أولادي لا يذكرون أن لهم أماً ؛ يخافون أن تضيع منهم
مؤخرات زوجاتهم… يطمرون فيها أعمارهم وعقولهم وعواطفهم.. أنا لا أعتب على أبيك
، ليس معه ، على الأقل يزورني؛ لا تأت بالشوشية ، لا أستطيع لوكها ؛ اشتر بهذه
لك ؛ لا تخلط بينهما فتتوه..! ليس معي كفاية، كنت أعطيتك..لم يبق الكثير، ماذا
سأفعل حين ستنتهي هذه المطمورة..؟! أعمامك لا يشبعون من مطموراتهم، يخافون
عليها؛ يظن كل منهم أنه ينام مع الجازية، أو سعدى الزناتية..! كيف لو كان لديهم
ما يعبئ العين ؟!العميان لا يأتون بما يقتنون، وليتهن يرضين ! لو يطمرون في جب،
لكانوا أغنى، وأولادهم أفضل ..! اذهب لا تتأخر ..ها !!أحب الحلاوة؛ أشتهيها، إن
كنت أقدر أن أشتهي ، بعد.!
- اعطيني لأذهب !
- سأعطيك، حين تنفك هذه
العقدة ال…
- هاتي لأساعدك ..!
- لا .. تساعدني ؟! ألا
ترى أنها مربوطة في رقبتي .؟!
خيوط عديدة حائلة اللون
نازلة من جانبي العنق، تضيع نهاياتها تحت الثياب.
- ناوليني من المطمورات
الأخرى.!
- المطمورات الأخرى.؟!
تحسب أن عندي كنوزاً ..آ.؟!لست وحدك ؛ كلكم تظنون ذلك ..ومن أين لي ؟! يا حسرتي
..لولا عمتك، لكان المشترى بقلع عيني ؛ أحب الحلاوة، ماذا أفعل ؟!
- وماذا ستفعلين حين
تنتهي المطمورة ؟!
- أتشمس ..أنتظر الفرج
..وأتوكل على الله ، وهذه المطمورات؛ لولاها لنهشتني الأمراض ، بفضلها لا زلت
أقوم، وأقعد…
أخرجت بيدها اليمنى بضعة
أشكال: مثلثية ومربعة ومدورة، قبلتها واحدة واحدة، وأعادتها إلى عبها :
- مالك تنظر.. تتعجب ؟!
أنت لا تعرف قيمتها ؛ غداً حين تكبر، ستعرف ..! لأنك مطيع ، وعقلك في رأسك،
وأمين، لهذا ناديتك أنت؛ أولاد أعمامك سرقوني، أعرف من أرسلهم؛ أتركهن لله
..أنت لست مثلهم ؛ خذ ..اذهب؛ سلمتك لسيدي الخضر بو العباس، وسيدي المقداد،
والشيخ أحمد قرفيص، وأسيادي ….
* * *
في ذلك الحوش المجلل
بالمهابة، والمطوق بجدار حجري مضعضع، تُتَوِّجُهُ أغصان الغار، فتعبق رائحة
طيبة، مع روائح متكاثفة أخرى، تنبثق من بضع مجامر موزعة على أطراف صندوق حجري
مغطى بقماش مخضر…
-خذ هذه ، وضعها هناك .
أمسكت قطعة النقود
بإحكام ، واتجهت حيث أشارت أمي:كانت جرة تكاد لا ترى، متربة كثياب الرجل الذي
استقبلنا وودعنا بخشوع، وفتحة مدورة بغطاء حجري تعلو عنقاً متطاولاً، وشبه
استدارة بارزة .. صدى رنين التقاء النقود في الجوف الغامض ظل يتردد في ذهني
المبلبل، حتى ما بعد أن خرجنا - كما دخلنا- محنيي الرؤوس والقامات ، رغم أن
الباب الذي قبلنا جنباته في الدخول والخروج، كان من دون عتبة …!
* * *
عادت بعد يوم من الدفن،
بكت ، ولولت، ونادت رفيق عمرها الذي أفنى حياته خداماً للمزار وزائريه-كما كانت
تقول- لم تودعه، لم تتوقع أن هذا يمكن أن يحدث؛ بهذه السرعة على الأقل؛ كان في
عافية حين ذهبت إلى ابنتها البعيدة الوالدة …لطمت وجهها كثيراً، وشدت شعرها
أكثر ، وهي تنبش التراب، وتقلب الحطب:
-يا ويلي عليك ، ويا
شقائي بعدك ..!ذهبت بلا رجعة،مت ولم تقل لي أين المطمورة ..!
* * *
حين مدت يدها إلى صدرها،
نهض قلبي؛ لم أكن أصدق أنها يمكن أن تفعل، حين سألت:
- أراك مهتماً به؛ هل
أريك إياه ؟!
ضحكت بتردد، وحين همت
بإخراجه، أو هكذا حسبت، وقفت مديراً ظهراً يكاد ينحل، مستعداً للهروب؛ شدتني
بقميصي من دبر:
- اقعد؛ لا تخف؛ كنت
أمزح..!
لم أتأكد من مشاعري ؛ هل
أحزن أم أفرح ..؟!
كانت شبه الاستدارة
البادية خلل ثوبها الشفيف، تنثر فيّ مشاعر غامضة، تذكِّر بما كنت أحسه تجاه تلك
الكتلة الفخارية شبه المستديرة،أيضاً، بحجم قبضة اليد، تلك التي كانت في حوذة
أخي الكبير؛ كان يحرص أن يخبئها في مكان قاتم بعيد؛ كنت أهزها في غيابه،
مستمتعاً بالرنين،محاولاً إنزال بعض ما فيها..وفي بداية غيابه العسكري الذي
سيطول، بحثت عنها؛ آن وجدتها، نهض قلبي، وكدت أبكي؛ تحسستها بحنو ورهبة، هززتها
لأستمع إلى أصوات خشخشة النقود الكثيرة التي كان يحظى بها زيادة عن حصتي؛ حاولت
إخراج بعض منها؛ أدرت شقها نحو الأسفل، وضربتها على يدي الأخرى. أفلتت، تكسرت،
وتبعثرت: أزرار وشكلات شعر وخرزات صغيرة وصور وأوراق تقاويم مصفرة….
* * *
قال صاحبي؛ وكنا نسير في
مساء شتوي، مختتمين دروساً نظرية وعملية مضنية:
-ما رأيك بهذه ال …
كانت تسبقنا بخطوات..
- هنيئاً لك ؛ باستطاعتك
أن ترى وتميز.
- لو كانت استدارتها
مكتنزة، كنت لاحظت، وانشغلت ..!
- أنا ..؟!
من أين يعلم ذلك ؟! لم
أقل له، لم أتحدث في مثل هذه التفاصيل مع أحد بعد .!
* * *
إناء دائري ذو لون حائل،
كان أبي يخفيه في آخر لا يبزه زهو لون أو حجماً، مما يجعل عملية إخراج أحدهما
من الآخرعصية؛ فهل كان ما فيه يعادل الجهد المبذول لتفقده كل حين: بضع أوراق لم
أستطع فك طلاسمها،سندات بيع وشراء، دفتر صغير مجلد بعناية، ومكتوب بخط مميز،
سرعان ما ينتقل من شفتي أبي إلى جبينه ثلاث مرات آن يظهر، وحين يعاد. ومحرمة
صغيرة،كانت تنقبض أمي من مرآها، ولا تمل من سؤاله عنها، ولا يمل من التجاهل،
دون أن يرتفع صوته على غير العادة، ربما _كما صرت أفسر- للخشوع الذي يبثه ذلك
الدفتر المسود .
* * *
هل العلة في الاستدارة
أو شبهها؟! أم أن مطمورة ، أية مطمورة، وبأية هيئة، لا مناص منها..؟! لم يعد
مهماً شكلها، ولا لونها، ولا حجمها؛ بل أن تكون مطمورة تستطيع أن تحمل ما أود،
أو تهبني ما آمل، أو أكون مقتنعاً بذلك على أقل تقدير . هل هناك حل مغاير ؟! هل
من سبب آخر يبرر كل هذا الجدب، ويتجاوزها إلى أي اتجاه ..؟!وإن كان...
* * *
لو أنك تستحق مطمورة،
لأتيتك بها! لكنك …!!
هل هو على حق ..؟!
كنت وراءه في كل أمر،
أتلقى فتات ما يأتيه: ظل، أو تابع، أو صدى..يسهر خارج البيت، وأُحبَس داخله؛
يرفع صوته في وجه أبي وأمي، ويرفع والدي يده علي؛ يستمع إلى أغاني الغرام من
المذياع المحرم علي لمسه؛ يسير مختالاً ببارودة الصيد التي اشتراها له أبي، رغم
الفاقة. و علي إخفاء المقلاع المطاطي، بعيداً عن استشعاره؛ ألبس قمصانه التي لم
تعد تليق به ألوانها، أستخدم أمشاطه المعطرة، وجواربه المعفرة، وأحذيته
المواربة؛ سراويلُه التي تقصر، أشدها على خصري بيدي، كي لا تنحدر، فتنكشف
سراويله الداخلية..!أعطاني مرة حزامه، فرحت بحرية يدي طوال الطريق الذي يفصلنا
عن القرية البعيدة. وحين هممنا بالدخول، استرده، وعادت يداي إلى سروالي.
كان علي أن أدبك
لسعادته، وأتنهد لاكتئابه. وكنت أتمنى لو أستطيع إقناع الكثيرات اللواتي ذكرن
إلى جانب اسمه، بالموافقة على مايريد، وأقنع أبوي بذلك ، لكي أستريح …!
حادثة لا يني يذكرها كل
آن للتدليل على دقة استنتاجه: لحقته باكياً في عرس موسمي، كان يقام حول المزار
القريب، نقدني حانقاً قطعة معدنية، أعطيتها لأول سائلة ..!
كنت أخبئ أشيائي في أي
مكان لأتوه عنها ، وأصرف جهداً كبيراً لإيجادها؛ أشياء كثيرة فقدتها؛ الدفتر
الأسود المكتوب بخط مميز والذي صار لي، لم أعثر عليه.
شياء عزيزة لا زلت أبحث
عنها، غير متأكد أنها كانت لي ذات وقت، وهل حقاً قطعت المفازة الضارية بين
الحلم والواقع..؟! وإن كان ذلك قد حدث، فهل كنت لا أزال على ما أنا عليه ؟!أم
أن تاريخاً آخر، تاريخاً شخصياً، إنسانياً كان سيسود ..ربما تغير وجه العالم،
ومسار البشرية..! ألا يليق بي ذلك ؟! ألا أستحق دفئاً مستطاباً لأوقاتي الباردة
؟! هي شبه استدارة ككل الأشباه التي شغلتني، والتي لا تزال تدور بي عبر مدارات
الجري المبهم، منذ القذف الأعظم؛ شبه استدارة احتضنتها بكل ما أوتيت من عزم
وحرمان؛ كانت تبتلع نشوتي، وتركلني بعيداً. حتى أنها عجزت عن رد اعتباري بشبه
استدارة أخرى تحفظ ماء الوجه، تحمل شارتي، فيحيا ذكري كما يحصل لكل الناس؛ حتى
الذين لا يخبئون، ولا يطمرون إلا في وضح النهار، وفي علن الرغبة ..!
قلت لها ذات نشوة؛ وكانت
تئن ، وكنت أضاعف انشغالي؛ والصدى ذاك يذكرني بذلك الرنين في المطمورات العديدة
العنيدة التي ضاعت في الطريق:
- أنت مطمورتي ..!
نظرت بانشداه، تقبضت حتى
ركلتني:
-تريد التعويض إذن ..؟!
- وما المشكلة إذا كنت
كنزي؟!
تحركت أعضاؤها بلا
اتساق:
-وأنا، أعيش فقيرة..؟!
* * *
كنت أكثر الناس انشغالاً
وأسى، حين تداعوا من كل فج، لينالوا حصصهم المجزية من الجرار التي تكسرت في
قبور اعترضت طريق العمل الشعبي؛ لم يداوم في بدايته طواعية إلا القليلون ..!
ولم يصدقوا أنها كانت فارغة، فانهالوا على بقية الطريق بقية الأيام..
\" سأكتب بطاقة أسف في
قبري، لمن سأخيب ظنهم…!!\"
* * *
أمد قدمي بحذر، تنزلق
ساقي الأخرى…
الوقت غائم
مغبر..والملامح لا تفصح…!!!
الثمرة
1-لا.. لا أظن أن ذلك
لأنها في أراضي الجيران!
إذن؟!
لدينا أشجار منها؛ كان
لدينا. تهرأت جذوعها، غصونها التي اندفعت من هنا وهناك، لم تثمر. ولم تتعلق بها
تلك الثمار الصلبة. حتى البرية منها لم تعمر طويلاً؛ نداهمها، دون أن يعفيـها
أنها من دون طعم.
*
" … صلبة أيضاً، هذا ما
كان يبدو، ولم تكن تهتز إلا قليلاً.. لم يكن باستطاعتي التأكد من نضجها. لم
أجرب.. لكنها شهية أيضاً، شهية كثيراً!".
-2-يقول أبي: نقطفها،
ونخمرها في التبن؛ لو كانت لدينا!
ونقول: لا.. لا يمكننا
الانتظار. تناولها عن الشجر أطيب، حتى لو كانت غير ناضجة؛ تنضج في أيدينا!
وتقول أمي: حظنا هكذا.
انظر إلى ثمرات بيت الحمدان!
ونقول: أمي.. أولادهم لا
يعرفون أن يأكلوا، أم أهلهم لا يسمحون؟!
" أنظر إلى ثروات بيت
الحمدان وأقول: حظ.. وهل نعرف أن نأكل؟! هل نستطيع؟!"
تضحك أمي: حظ يا ولدي؛
الدنيا حظوظ!
وتنظر صوب أبي الذي
أطرق، وفي عينيها ظلال حسرة!
-3-ليس شجره كثيراً، لم
يعد كذلك، ولا موسمه وافراً، لكن طعمه لا يضاهى. هذا ما نستشعره حين تأتي حصتنا
من ثمرات شحود في رحلته الحولية إلينا، أواخر المواسم؛ تلك التي ننتظرها بتلمظ.
كان أقرب أقربائنا، رغم أنه البعيد، وسواه لا يبعد بعضهم عنا أكثر من سماكة
جدران. ولذكره صدى كثيف الحلاوة، لا يخفف منه توالي تردده من فم والدي مفاخراً.
ذاك الطعم لا ينافسه إلا
طعم ثمرات آل الحمدان. ننتشي ونحن نتحسسه في سرد الحكايا، ونخطط للحصول على
حصتنا منه، وحين نتذاوق ما اقتسمناه بعد مغامرة مضنية.
*
" هي حصتي وحدي. لا أريد
اقتسامها مع أحد، ولا حكايتها. وكنت أتضايق من ذكرها، أحاول الهروب بالحديث إلى
أية فاكهة أخرى. ولن يصدقوا إن رويت لهم:
(كان دوري في رد
الإهانة. ذهبت إلى الحدود. كان دورها أيضاً؛ بدأت أتفُّ صوب الجهة الأخرى،
وجاهرتْ بالفعل ذاته نحونا. واقتربنا أكثر. الشجرات المكتنزة بالثمار قريبة،
تلك التي نحيك الخطط لاقتناصها. والثمرات الأخرى أقرب. كنت أمني النفس بالنظر
إليها ، وانتظار فرصة أصعب للوصول. شهية كانت، وناضجة رغم أن شكلها لا يوحي
بذلك. هذا ما اكتشفت بعدما صرت آخذ دور إخوتي. وفرحت أمي لحماستي في رد الضيم
في الحرب المتواصلة مع آل الحمدان منذ سنين. لكنها سرعان ما اتهمتني بالخيانة،
وسحبت مني المهمة، وصارت ترسل أخي. لست متأكداً أنها رغبته، أو رغبة أخيها في
الجهة الأخرى.).
وتعاركنا طويلاً..".
-4- في أول دخل لي، فكرت
بوليمة منها. بحثت عنها في أسواق عديدة. لم تكن كثيرة ولا طيبة. لها طعم التبن،
أو الماء. نكهتها شبيهة ثمرة أخرى. لم أكن قد تذوقتها قبل ذلك. أثارني شكلها
حين رسمه لي في الهواء صديق آيب من السفر، بشفاه ملمظة، وحركات ذات معنى.
لم يكن شجره معروفاً في
منطقتنا، ولا الشكل الشهي لثمره. فلباسهن لا يفصح، ولا كلامهن.
حتى طعمه الذي تلهفت
إليه في أول مناسبة، لم يكن على قد الشهية. فارتسمت غصة أخرى، أقل من غصة ثمرتي
الخانقة حتى قبل نضجها!
*
-5-لم تعد الحدود
ميداناً لمعارك حادة؛ كبرتُ على القيام بتلك المهمة، وكبرتْ أيضاً، واقتربنا
أكثر في مواجهة مشروعة. لم يعد لتلك التخوم معنى، بعدما تداخلت الحدود وتشابكت
حتى لم يعد ممكناً، لو مر سيف بيننا، معرفة أي الدماء تهرق! لكنني عرفت أن شحود
مات، وضاعت سلته الشهية..
وقعدت أتلمظ طعماً يغيب.
-6-حين صار لي متسع من
الإمكانية. قدرت أنني أستطيع أن أزرعها، وأهيئ لها كل ما يلزم. جعلتها اختصاصي،
قرأت الكتب، وسألت الخبراء، وانتظرت أولى الثمار. قلت: ربما أصابتها العيون
التي لا أشك في أنها تتشهاها. كتبت لها عند الأولياء، ونذرت. منعت المرور جوار
البيت. حتى الضيوف الذين امتدحوا خضرتها ونضارتها، قاطعتهم حين بدأت تزهر.
*
كان لها طعم الماء.
عطشتها..
بدأت تذبل أمام عيني،
وتحت أنفاسي.
يئستُ، أهملتها. وعدت
أنظر في الجهات كلها.
سُرقتْ..
من يمكن أن يقوم بذلك؟!
ماذا يجد فيها؟!
أين منها ذاك الطعم؟!
حزنت، لم أحزن..!
نظرت في كل اتجاه..
ما تزال الغصة في قلبي!
الصداع
-1-كارثة لا تنتهي،
كابوس يهيمن كل وقت اليقظة، وفي أي مكان؛ موجات حادة متتابعة تحس معها أن
تصدعاً هائلاً يصيب المخ، فتفور الأوجاع، وتمور الأحاسيس، وتتوالى المشاهد
ضارية قارسة..
( فوهة معتمة تغوص
عميقاً، سرعان ما تبتلع الصرخة اليتيمة التي تند عنه بعد الطلقة الوحيدة في
الرأس المعصوب المسنود على الحافة..)
ها أنا أعيد كلامه ذاته
وقد بدأت موجات الصداع بالتحرك منذ البارحة، وها هي تشتد مع مرور الوقت وتطاول
المسافة..
-2-حين أمرته أن يردم
تلك الحفرة، بدا كأن جبلاً انهد على صدره؛ أطرق، مشى ببطء وتثاقل، تردد في
الصعود إلى الجرافة، دار حولها مرات.. طلبت منه الإسراع بردمها قبل أن يهطل
المطر فتتضاعف خطورة الاقتراب منها. همّ. تراجع. وقبل أن يتقدم توقف ضجيج
المحرك.. سألته:
- ما الأمر.؟!
قال مطرقاً ماسكاً رأسه
بيديه:
- لا أدري يا أستاذ؛
رأسي يوجعني؛ انطفأ المحرك..
- ما علاقة رأسك
بالمحرك؟!
- لا أدري.. توقف
المحرك، رأسي يوجعني، الصداع عاد إلي..
- وما العمل الآن؟!
- نريد ورشة الكهرباء من
المديرية.
*
( أبرر للأستاذ قلقه
وانقباضه، فأغلب آليات المشروع لا تدور من نفسها. وتحتاج ورشة من الفرع كل
صباح. وهي قد غادرت مشروعنا منذ قليل، وسيمضي وقت طويل قبـل أن
يكون بإمكانها العودة
إلينا، بعد أن تنهي جولتها على آليات المشاريع المبعثرة في بقاع المحافظة.
وأبرر صراخه:
- سيضيع النهار دون أن
ننجز شيئاً..
وسيصرخ في اليوم التالي
أكثر. حين أتوقف بالجرافة غاصة بالتربة والحجارة على حافة الحفرة، وأصرخ أيضاً
ماسكاً رأسي باليسرى، ضارباً باليمنى على السواقة:
- رأسي يوجعني، لا
أستطيع.. لا أستطيع.. توقف المحرك رأسي يوجعني؛ هاتوا آلية أخرى.. سائقاً آخر..
لا أستطيع..!
لا أدري كيف قلت ذلك.
حين يداهمني الصداع، أكاد أفقد الوعي. الأستاذ يعلم ذلك؛ الكثيرون يعرفون..
-أنت تعلم أنه ليس في
المؤسسة آلية أخرى بجنزير..
- جنزير أو دولاب..
هاتوا سائقاً آخر.. آلية أخرى.. رأسي يوجعني.. لا أستطيع..!).
-3-( كنت أتمنى لو أني
معصوب العينين، أو مسدود الأذنين، أو مخدر الأحاسيس.. لكن الوقت المتروك
لاستعادة الهدوء وامكانية السيطرة على الطلقة التالية لا يلبث أن ينتهي، ويبتعد
زميلي مفسحاً الدور لي..
صرخت:
- لا.. لا أستطيع..
كان الرأس التالي
صغيراً، وقامته ستضطرني للانحناء..
لكن صوتاً زلزل كياني:
-إن لم تفعل، سترافقه..
كانا اثنين، حصة كل منا
واحد..!
وعلى الرغم من أن أيام
الحادثة وسواها تغور بعيداً في هوة التاريخ، فإن نيرانها ما تزال تلفحني.
قال الطبيب المهم
المعالج:
-ستنسى حين تنخرط في
الحياة. تزوج فتنشغل بالهم والاهتمام، وتنسى..
لم يكن على حق؛ هل يعرف
ذلك ويحتال على صداعي؟!
هذا الصداع الذي يعود
ضارياً. منذ أن علمت أن زوجتي حامل، لا أطيق رؤيتها، لا أحتمل تصور ولدي.. كيف
يمكنني أن أربيه؟! كيف سأعامله وأنا أرى في الحلم مرات مسدسي مصوباً إلى رأسه
على حافة هوة غامضة..؟! ).
-4-الطريق تبتعد عن
المشارف المأهولة، ويزداد الاتساع قفراً، واللون يشحب مع نوسان في لون الأخضر
الذي يتلاشى.. الصومعة المتعالية آخر البنيان الممتد، والذي يظل بادياً لمسافات
طويلة: ها هي هزات متتالية من التصدع تعيد الفكر إلى تحرقه، والجسد إلى توفزه،
والوقت إلى بساط من شوك خبير:
- قبل أن تباشروا الصب،
تأكدوا من أن أحداً ليس في الجدار..!
ضحك النجارون والحدادون
وعمال البيتون..
- لا تستغربوا.. حدث مثل
ذلك في أحد الأعمدة الطويلة في سكة الحديد.. نزل الخبير ليتأكد من سلامة تحضير
أحد العناصر؛ تأخر؛ نسي العاملون ذلك؛ أُعطيت الأوامر بالصب.
-وماذا حل بالخبير..؟!
-5-- أستاذ! أرجوك.. لا
أستطيع..!!
كان يمسك رأسه بيديه
مكفهراً! سألته باهتمام:
- ما بك يا سعيد؟!
لا أستطيع يا أستاذ؛
الصداع سيقتلني.. أرجوك. انقلني إلى مكان لا يوجد فيه بيتون. ارفع اقتراحاً
بنقلي خارج المؤسسة، خارج الوظيفة..
-لماذا؟! وما حكاية هذا
الصداع؟!
أمسكت رأسي بكلتا يدي:
- البيتون قاتل يا
أستاذ، قاتل. البيتون… آه! لماذا يعصر الإنسان؟! يضغط على جسده فيتفصد من كل
فتحات وجهه، من كل رأسه.. الإنسان حياً؛ رأيتهم يضعونه في برميل، يصبون حوله
المجبول البيتوني إلى رقبته..!! تصور! لا.. لا أستطيع.. لماذا يفعل البيتون
ذلك؟! لا أقدر أن أتحمل البيتون؛ أكرهه، أمقته؛ أكره نفسي.. أكره الحياة..
أستاذ! أرجوك ابعدني عنه، انقلني أرجوك..!!
-6-الشساعة، وامتدادات
الآفاق، ورقص السراب يقاطعنا من بعيد.. أصداء شروخ إضافية. أسئلة وترددات
وأصداء:" لماذا هذا البعد؟! ما هذا المشروع الذي يتطلب رجالاً ثقة، أناساً من
فصيلة الأوادم؟! ربما من جناح الصم البكم العمي الذين يفقهون، فتزداد خصالهم
قتامة، ومساماتهم كثافة تتناسب مع هذا البعد، وهذا الرشد الضائع في صحراء تبدو
من دون نهاية..
تلكم بعض أناس يحفرون
شيئاً ما. لعله خندق يخدم ذلك المشروع.. المشروع الذي نساق إليه!
بدت أدواتهم أكثر قرباً.
يحفرون بنهم.. القيظ والغبار والبعد ظروف تجعل منهم فرساناً في معركة مغلقة، لا
مناص من التخويض فيها بكل العزم والشراسة..".
هذا ما خطر في باله
المشـوش؛ هل هو في طريقه إلى خضم تلك المعركة؟! وماذا هناك؟!
الوجع يتصاعد، والإحساس
العارم بالألم يتضاعف:
( - ما رأيك بهذه
الحفرة؟!
- مناسبة؛ أكيد أنها
تناسب الأحجام المطلوبة..!
- أوه.. وتزيد.!
- هذا جيد؛ على كل
الزيادة أفضل من النقصان، وإن كان في هذا خسارة مضاعفة: جهد الحفر وكميته،
وكمية البيتون، وجهد تنفيذه، وكلفته..)
*
( _ لا أحتاج بيتوناً،
التراب يكفي..!!
- لا.. مستحيل؛ الأساسات
أصل البناء، واستقراره من قوتها واستنادها الصحيح على أرض صلبة..
- أما سمعت يا أستاذ؟!
- ماذا؟!
- كانوا يطلبون من
الأسير أن يحفر حفرة على طوله. وحين ينهيها يتكوم فيها بطلقة واحدة في الرأس..
طلقة واحدة.. ليس إلا..!!).
*
( - ما رأيك بهذه
القواعد يا أستاذ؟! ألا تصلح أساساً لأفعال ومبادئ وتحركات لو كانت تستحق..!!
يضرب على رأسه، ويقفز من
أرض الحفرة:
- لا.. لا أستطيع.. لا
أقدر..! ).
- لا أستطيع لا
أستطيع..! لا يمكن..!!
- أستاذ ..أستاذ..
مالك؟! لماذا تصرخ هكذا؟!
- آه عفواً.. لا شيء..
لا شيء!! هل مازال المشروع بعيداً؟!
- لا لا.. بضع دقائق..
دقائق ليس غير..
"ليتها لا تنتهي.. أو
أنتهي!"
- هل نجد هناك حبوباً
لوجع الرأس..؟!
" يكاد يدمرني ويتضاعف؛
أحس أن مطارق تعصف بي ومخارز تشرخني. لم أعد أستطيع تحمله. وزوادتي فرغت من
الحبوب.!"
-7-بضع آليات تتحرك في
بحر من السراب.. بضع عمال ينصبون براكات.. عند أول محرس قال الواقف هناك محيياً
بضحكة مصفرة:
أهلاً برئيس مشروع الـ…..!!
كأن صاعقة نزلت على
رأسي. دارت بي الأرض طويلاً.. حتى ضاع الإحساس بالوجود..!!
|