عمة رفيق
تطلعت من النافذة, غابة خضراء غامقة, بقايا شمس لا تحيلها إلى سواد. سكوت عميق
يغطي الكون برداء لا انثناء فيه.
عادت تجلس على الكرسي الهزاز, حركته فاهتز هو ولكنها هي لم تهتز " ليس لكرسي
اليوم زقزقته المعتادة. من أين تأتي بالصوت في هذا الصمت?". فتحت المذياع,
فارتفع الصوت بالكلام الغريب " ماذا يقول المذيع? وماذا يعلق على هذه الموسيقى
الغربية? هل تستطيع أن تجيبه الأصوات الأخرى? أما من صوت عربي في هذه الغربة
السحيقة?.
الليلة آخر الليالي في هذا البلد الغريب. صباح اليوم انتهت الحمّامات المعدنية,
وانتهى التدليك وأفرغت العاملة آخر وجبة من أكداس الطين الأسود على الأنحاء
المريضة من جسمها.
قال لها الطبيب, عبر لغتيهما الغريبة المكسرة, إنها تحتاج إلى راحة جسم وراحة
فكر وراحة عواطف " راحة جسم! راحة فكر! وراحة عواطف!!".
أجابته أنها غير قادرة على توفير أي من هذه الراحات التي يصفها. سأل: ولم,
فبماذا تجيب? وكيف تفهمه من هي? هل تستطيع أن تعلن عن المهمات المعلقة على
كتفيها ورأسها وذراعيها? وهي التي حاولت أن تحجب شخصيتها الحقيقية في هذا البلد
الغريب? هي التي حاولت أن تتخفى فلا يعرف أحد أنها هنا تريح جسدها وفكرها
وعواطفها?
قال أخوها يوم قرر الطبيب في بلدها أنها مرهقة إلى حد الانهيار وبحاجة إلى جو
جديد, إلى منتجع لا تقوم فيه بأية مهمة أو عمل, إلى الاسترخاء والنوم وتجميد
التفكير.
قال أخوها بعد تفكير طويل ودراسة عميقة: " ومن سيساعدني?" عاد الطبيب الغريب
يسأل: ما تراها تعمل حتى أصيبت بكل هذا الإجهاد? وهذا التوتر? واحتارت ماذا
تجيب? هل تشرح طبيعة عملها? هل تقول إنها أخت أخيها?
لو تعرف عليها السواح العرب, يقول أخوها, فسيقولون تبرجزوا وهم المناضلون,
تبرجزوا وهم المسؤولون, تبرجزوا وهم المكافحون. " نعم هي أخت المناضل وهي أخت
المسؤول وهي أخت المكافح يجب أن لا تتبرجز. الحس بالتعب برجزة. وانهيار الجسد
أمام المسؤوليات برجزة. وضعف الأعصاب أمام الإرهاق والسهر برجزة ".
نذر أخوها نفسه للقضية. رهن حياته لمسيرة هذه القضية. كان مندفعا متحمسا منذ
أول إدراكه لهموم الوطن وكانت هي أصغر سنا منه, وهو شاب البيت الوحيد, فتأثرت
بأقواله وآمنت بأعماله وتحمست لقوة شخصيته فصارت تدعو لآرائه وتكرر أقواله وصار
هو يشرح لها ظروف القضية. جعلها كاتمة أسراره وهي الشابة الوحيدة في البيت, لم
تدر إلا وهي تخوض عملا نضاليا كبيرا. ووجد أخوها فيها رفيقة النضال فازدادت
حماستها وشغلت كل أوقاتها بالعمل.
ولكن أخاها وجد خلال كل هذا الاندفاع ومع كل هذا النضال وبجانب كل هذا العمل,
وجد رفيقة أخرى, رفيقة من نوع آخر. رفيقة أخيها الجديدة صارت زوجته. دخلت حياته
من بابها السهل. وصارت الزوجة المدللة " وبقيت هي.. هي أخته رفيقة النضال".
الناس يعرفون هذا تماما, يعرفون كاتمة أسراره, هي وحدها كاتمة كل هذه الأسرار
الكبيرة. ويعرفون أن وراء شخصيته الفذة الأخاذة أخته نذرا للقضية وأنه يستشيرها
في كل تصريحاته وخططه.
ولأن الناس ينتظرون من المرأة أن تكون أكثر كلاما من الرجال صاروا يلاحقونها
أين وجدوها بأسئلة مباشرة أو غير مباشرة, ولكنها نجحت في الامتحان وصمدت أمام
إغراء السؤال, حتى أصبح مريدو أخيها ومؤيدوه يسمونها أخت الرجال, " منحوها شرف
الاعتراف بأخوّتهم "!
هي, كانت تدري أن القضية أهم من أية مغريات بشرية, وقاطعت لأجل هذا عوالم
النساء. فلا ارتياد لصالونات حلاقة أو دار أزياء أو تجول في الأسواق أو زيارات
صباحية. " هذه عوالم تضييع الوقت وهي تدري أهمية الوقت في العمل".
واستغربت أن ترى أخاها وقد وضعت زوجته ولدا وصار ينادى أبا رفيق, استغربت أنه
أصبح يمضي جزءا من وقته الثمين في ملاعبة ابنه وازدادت المسؤوليات عليها. أما
هي فصارت تنادى عمة رفيق, منحوها حق عمومة رفيق ولم تعد تنادى أخت الرجال, صار
الرجال طفلا صغيرا".
" لو كانت كنيتها أما لرفيق? فكرة لم تساورها من قبل " كل ما تعرفه من عروض
الزواج, خطبتها في أول صباها لرجل لم تره إلا من خلال الهدايا التي قدمتها لها
أمه وأخته ثم... قرر أبوها أن الخطيب لا يناسبها فأرجعت الهدايا. وتساءلت لمَ
ناسبها? ولمَ لم يعد يناسبها? لم يجب أبوها أبدا عن هذا السؤال لا من خلال
تساؤلها لنفسها ولا من خلال استفسارها من أمها: أبوك يرى أن هذا هو الأفضل.
" ماذا جرى لتلك الهدايا? من يلبسها الآن?".. حين يعود أخوها من أسفاره يحمل
لزوجته ولرفيق ولبقية الأولاد هدايا. وهي.. هي يحمل لها عددا جديدا من الكتب
السياسية.
ذات مرة رأت زوجة أخيها في جلسة مع زائراتها وإحداهن تكشف لها المستقبل في
فنجان القهوة.. فتقدمت لها بفنجانها. وفي المساء.. تساءل أخوها باستنكار: أهذا
هو مستواها الفكري? أتسف هي إلى حد انتظار معرفة المستقبل من فنجان قهوة? نحن
نصنع المستقبل, نحن الذين نبنيه, فهل نلجأ إلى فنجان يخبرنا عما يجب أن نعمل,
عما سيحدث? وتساءلت ما كان يحدث لو وقفت أمام المرآة تتبرج كما تفعل زوجة
أخيها? قال جدها: إنها زوجة ويجب أن تتزين لزوجها لترضيه, أما أنت فهل ترضين أن
تتزيني لأصدقاء أخيك? وماذا يقول الناس لو اهتم بك أحد هؤلاء? ولو... ولو لا
سمح الله, قال أخوها, أحبك واحد منهم, فهذا معناه أنني أشركتك في مهمتنا
الوطنية لأجد لك زوجا. أنت محصنة ضد كل هذا بتصرفك الرصين وكفاك فخرا أنك أخت
الرجال... وضحك فرحا: أليس كذلك يا عمة رفيق?
عادت تطل من النافذة, ازدادت الغابة المحيطة بالفندق عتمة. غابت الشمس من مدة.
مرت فترة الغروب وجاء الليل الطويل. هذه آخر ليلة لها في هذا البلد الغريب.
حاذرت فيه أن ترى وتشاهد ويتعرف عليها. هذه آخر ليلة في هذا البلد الغريب ولم
تتعرف هي على الليل فيه. شاهدت الشوارع المؤدية للمصح في النهار وشاهدت هناك
غرفة التدليك بالأيدي والتدليك بالماء وغرفة الطين " ماذا رأت في هذا البلد
الغريب غير صور مائه المعدني?".. " وغرفتها ماذا فيها غير جدرانها وسقفها
ونافذتها الوحيدة تطل على غابة خضراء صباحا, معتمة مساء, سوداء ليلا, موحشة وقت
الأرق".
دق جرس المطعم يعلن ساعة تناول العشاء, وهي عادة لا تنزل إلى القاعة بل تطلب
العشاء إلى غرفتها " اليوم, هذه الليلة هي الأخيرة في هذا البلد الغريب. ستنزل
إلى المطعم وتختار مائدة منزوية بعيدة عن نظرات الفضوليين".
في طريقها إلى المطعم شاهدت غرفة مضاءة محشورة بالناس. غرفة تراها لأول مرة
مكتوب على بابها بالضوء الأحمر ( بار ) بكل اللغات التي يمكن أن تميزها.
كانت الغرفة موجودة ومقفلة ساعات النهار. الليل عالم ثان لم تتعرف عليه طوال
هذه الأسابيع " فهل أراحها قضاء الليالي الطويلة في غرفتها تطالع الكتب
السياسية?" عالم المطعم جديد. فكيف حرمته كل هذه الليالي? ما الذي أغراها
بتناول العشاء في غرفتها? ما الذي يخيفها كل هذا الخوف من الليل? وهي المناضلة
أخت الرجال, عمة رفيق? والنهار هل كانت أكثر جرأة فيه? أنسيت أنها تتناول
غذاءها في مطعم ( المصح ) المملوء بالشيوخ والعجزة والمرضى? وفطورها? مقصورة
على الماء المعدني يصلها من حنفية الشرب الطالعة في غرفتها?
ورددت بصوت عال رجال ونساء رجال ونساء " أنسيت أنها أخت الرجال, أنها عمة
رفيق?".
" ما معنى أن لا تنادى باسمها? أبعد كل هذا النضال ونكران الذات والتضحية لم
تتوصل حتى أن تسمى باسمها?".
" أتراه شرفا أن لا تكون امرأة? فقط? لمَ هي أخت الرجال? ولم هي عمة طفل
وليست.. وليست زوجة رجل?".
كانت تأكل الحلوى, القسم الأخير من وجبة العشاء ولا تذكر ما تناولت قبله من
أصناف.
تأملت من حولها.. هناك طاولات عليها رجال وأخرى عليها نساء وثالثة عليها من
الجنسين " وهي.. هي وحدها لا تدري إلى أي من الجنسين تنتمي".
وعادت تتأمل الموائد, ترى هل يأكل الناس نفس الأصناف التي قدمت لها? على بعض
الموائد أنواع من الشراب. العالم الذي لم تدر أنه موجود حقيقة. وأنه مباح
للجنسين. فتشت بعينيها عن النادل. لتطلب شيئا. تسمرت على الكرسي وعيناها تبحثان
عنه. وجدته يتنقل بين الموائد, يحاور جالسيها يتبادل معهم الحديث وتعلو أحيانا
ضحكات وكذلك.. قهقهات!!
مر بها النادل مسرعا. لم يلتفت إليها. لم يحس بوجودها. " وهي التي تخفت طوال
هذه الثلاثة أسابيع! هي التي حجبت نفسها كل هذه السنوات التي لا تريد أن تتذكر
كيلا يتبعها فضول الآخرين", لا يعيرها هذا النادل, حتى هذا النادل, اهتمام
التفاتة?!
صوت ارتفع. اكتشفت بعد لحظة أنه صوتها وأنها تنادي. وجاءها النادل. طلبت منه ما
تريد. تطلع إليها بتعجب واستنكار. عادت تكرر طلبها قال: الآن وبعد انتهاء
العشاء? نحن في مطعم ملحق بالمصح وقد انتهى وقت تقديم الطلبات. هناك, على يمينك
وأنت خارجة من الباب الرئيسي, يلبون طلبات الزبائن إلى مطلع الفجر.
ثم تركها قبل أن يسمع تعليقها. " أيتحداها هذا النادل? أيدري من هي? إذا كانت
قد تخفت فليس معنى ذلك أنها مهملة. هناك في بلدها ألف شخص وشخص يتمنون لو
يتبادلون الحديث معها, لو يمكنهم أن يعرفوا أخبارها وبعض شؤونها, بعض القضايا
عن.. عن.. عن أخيها".
ولأول مرة وجدت نفسها تسأل: أخوها نذر نفسه للقضية, وهي? هي نذرت نفسها لمن?
للقضية أم لأخيها?
النادل أمامها يقدم لها الفاتورة لتوقع عليها. كان هذا إعلانا واضحا عن انتهاء
فترة العشاء. قامت وسارت باعتزاز بثقتها المعروفة عنها في بلدها. غدا ستكون في
الوطن, في بلدها الذي يعتز بها وينتظر منها أن تتفوه بكلمة.
قربت من المصعد وإذا به موجود, واقف, فارغ, صامت. دخلته وقبل أن تمد أصبعها
تكبس زر طابقها, عادت ففتحت الباب واتجهت صوب الكلمة المكتوبة بالضوء الأحمر
المتعددة اللغات.
كان البار مزدحما والدخان يملأ سماءه والموسيقى تنبعث لا تدري من أين.
مشت بين الموائد المشغولة. ليس من يرشدها إلى طاولة شاغرة. هناك في أقصى
الزاوية طاولة صغيرة سارت إليها وجلست على كرسي. " بقي الآخر فارغا فأحست
بارتياح. لا يعرفها أحد".
" هل تطلب كأس شراب?".
تطلعت حواليها. لا أحد ينظر إليها. ستطلب ما تريد, لا أحد ينظر إليها " هل هذا
مريح?".
الضوء الخافت وسحب الدخان ستغطيها فلا يراها أحد " أتريد ألا يراها أحد?".
هل يصيبها دوار إذا تناولت شرابا? وإذا أصابها الدوار " من يسندها?" وإذا سندت
هل يسمع الناس هناك في بلدها هذا الخبر? سمعت شخصا يقف ويده تشير إلى الكرسي
الفارغ. أشارت برأسها أن تفضل. فتفضل رجل تشبه ملامحه ملامح أبناء بلدها فأدارت
وجهها عنه. كانت صفحة الخمور أمامها في قائمة المشروبات فأغلقتها بسرعة.
" أصابع يدها المعروفة تشبه أصابع الرجال" فسحبتها. رفعت رأسها, كان جليسها
يتأمل كل الآخرين. كان يدير رأسه هنا وهناك بخط سير متدرج فتتبعت عينيه. وقعت
على فتاة فارعة الطول شقراء. جميلة الوجه تحمل صينية عليها كؤوس وقناني.
تأملت وجهه, فيه لهفة وشوق. قربت فتاة البار من مائدة مجاورة لهما وقبل أن تضع
صينيتها هناك وصلت إليهما وضحكت للجليس ثم عادت إلى الطاولة الأخرى تنزل
الصينية وتفتح القناني وتسكب المشروب.
عادت إليهما فتاة البار وأسرت في أذن الجليس كلمة. كلمة لم تفهمها, كلمة بلغة
أهل هذا البلد الغريب. جليسها غريب, هذا أفضل" ولكن.. لم هذا أفضل? عينا الجليس
تمشيان مع فتاة البار وفتاة البار تجد لحظات بل لحظة أو أقل لتصل إلى الجليس
تسر في أذنه كلمة غريبة جديدة. في جولتها التالية وقفت فتاة البار لحظات وفي
جولتها الأخرى دقيقة.. ثم دقائق. وهنا... تطلع الجليس إليها... إليها هي,
تأملها.. تأمل الطاولة الفارغة أمامها " وتساءلت عيناه, سألها هل انتهيت من
شرابك? أحنت رأسها: أن نعم".
المصعد لا يزال هناك موجودا واقفا فارغا ولكنه كان يتكلم.
الآن.. صارت ملكي
حان موعد إذاعة النشرة الإخبارية. أدارت التلفزيون.
كانت بقية برنامج لا تدري ما أوله ولكن الصورة لم تشدها إلي الشاشة.
المهم ان تستمع إلي الأخبار لعل جديدا آت. فمنذ متي وهي تنتظر هذا الجديد؟ طوال
سنوات حرب لبنان وهي تنتظر، إلي متي سيطول الانتظار؟ وما هو الجديد؟
ظهر علي الشاشة صورة ساعة تدور عقاربها، ومع الدورة لحن يغني إعلانا
لنوع من السكاير.
بدت صورة شاب وشابة ضاحكين يركبان سيارة يناديان المشاهدين لتدخين ذلك
النوع من السكاير.
مدت يدها إلي الطاولة وولعت سيكارة.
كان الشابان في غاية السعادة. شعر الفتاة يطيره الهواء لينساب علي
كتفيها ويغطي قسماً من وجه الفتي.
هل في الدنيا سعداء أو غير سعداء ينطلقون في الشوارع بصورة طبيعية لا
يخافون قذائف ولا متفجرات ولا صواريخ أو قناصاً؟
وهذان اللذان يبدوان محبين أهي عاطفة حقيقية تربط بينهما أم أنهما
أجادا تمثيل دوريهما؟ هل بقيت هناك محبة؟
لتستعجل عقارب الساعة علي اكمال دورتها، ما الذي ستحمله أخبار الليلة؟
خوفا جديدا؟ تطمينا جديدا؟ تخديرا جديدا؟ أكاذيب جديدة
علي الشاشة كلمة الأخبار مع موسيقاها المعهودة التي اقترنت بكل الأحداث
المفجعة أتراها ستحمل الليلة أخبارا أفضل؟
بدت صورة المذيع ببسمته الوديعة المؤدبة فتفاءلت ليته يحمل اخبارا
مطمئنة.
بدأ بأخبار لبنان فتحدث وهو لا يزال يحاول رسم البسمة المطمئنة، عن بعض
حوادث اخلال بالأمن حدثت هنا وهناك، في مناطق متفرقة شملت معظم أنحاء لبنان.
متفجرات وهجوم بالدبابات وقنص ورد علي الحوادث.
هذا الذي حدث اليوم وظنته نهارا هادئاً أو هكذا خيل اليها كم بيتا شرد
أصحابه؟ لم تكن قد سمعت اصوات ولا أخبار كل هذا الذي حدث اليوم وظنته نهارا
هادئا أو هكذا خيل اليها ولكن الآخرين؟ الآخرون المنكوبون ما احساسهم الآن؟
سحبت الوسادة من خلفها وانزلت قدميها خجلت أن تجلس جلسة مريحة في بيتها
وهناك.. هناك من لم يعد لهم بيت ولا يعرفون مصيرهم أو مصير احبائهم.
علي الشاشة صورة لفيضانات ساحق تغمر البيوت بالمياه والناس يركبون
زوارق هاربين من بيوتهم الغارقة بالسيول.
هناك يهربون خوفا من غضب الطبيعة وفي لبنان يتركون بيوتهم هربا من
القتال.
ما اتعس أن يكون الخلاص بإمكانية الهرب من البيت طفل يبكي نسيه أهله في
زحمة الهرب. كيف استطاع المصور ان يلتقط صورة هذا الطفل دون ان يحاول انقاذه.
فضل مهنته علي تخليص هذا الصغير العاجز من الغرق.
تبقي الطبيعة أقل قسوة من البشر.
يظهر انها شردت عن تتبع الاخبار لأن الصورة التالية كانت لمتظاهرين. لا
تدري أين. تلاحقهم الشرطة بسلاحها وهم يقتلعون حجارة الجدران والرصيف ليردوا
علي الشرطة.
يقتلعون الحجارة؟ هنا.. هنا لا حاجة لهذا الجهد الكل مسلح. سلاح الجيوش
يملكه أفراد والشرطة هي التي تخاف المتظاهرين.
كل المتظاهرين شبان في سن الفوران والمغامرة ولا يهمهم الرصاص ولا
القتال. هذا هو العمر الحقيقي للبدء.
كل رجال الثورات بدأوا هكذا متظاهرين يطاردهم القانون وواحد منهم صار
يحكم البلد. خيط رفيع جدا كان الحد الفاصل بين موته بتهمة الخيانة أو صعوده إلي
كرسي الرئاسة.
كيف يعامل الظافر المتظاهرين الآن ضد بعد توليه الحكم؟ هل يتذكر أول
عهده برفض الحكم السابق؟ هل أنساه الكرسي العدل الذي كان يطالب به!
وهذا الحبل الغليظ هل سيشنق به أحدا؟
يقول المذيع الآخر بوجه صارم عبوس: عثرت السلطات علي جثة المخطوف بعد
ان دفعت اسرته ثمن الفدية لأن الأسرة اخبرت الشرطة عن مكان اللقاء بطالبي
الفدية.
كيف أحس المخطوف؟ هل كان يتوقع النجاة؟ اتراهم عذبوه كثيرا قبل القتل؟
ماذا تقول أسرته وقد فقدته مع انها دفعت الثمن المطلوب لبقائه حيا؟
المخطوف عاد؟ المخطوف يعود؟؟؟ وفي لبنان صارت قاعدة إلا يعود
المخطوفون. فكلمة اختطاف مرادفة للموت. الأمل مات.. الانتظار مات. كم تمني أهل
المخطوف لو طلبت منهم فدية؟ لو دفعوا أرواحهم فداء من يحبون؟
ماذا تفعل أسرة المخطوف؟ ماذا تفعل زوجته؟ أولاده؟ هل ينتحرون حزنا هنا
ندما هناك؟ ام أن الحياة بجبروتها هي دائما أقوي من الموت؟
خارطة أفريقيا علي الشاشة مشاكل جديدة في أحد أقسام القارة. هؤلاء
الزنوج الذين لازلنا نسميهم عبيدا، كأنما العبودية هي جنسيتهم الحقيقية كيف
انفجروا بهذه القوة ؟
هذه القارة السوداء صارت محط اهتمام الدول الكبري الكل يحاول جذب قسم
إليه الصراع الدولي علي اشده هنا وبالأمس كانوا يباعون ويشترون كالسلع. اتراهم
تحرروا حقيقة؟
وهنا في لبنان الناس ليسوا زنوجا ولكنهم عبيد.. عبيد فاشستية الحرية.
علي الشاشة صور أيد تحسب أوراقا مالية. قيمة بعض العملات علي هذه الأرض
تهبط علي حساب صعود غيرها وبورصة الأمم تتلاعب بتكتيك يعمل لحسابها.
أسعار العملات العالمية علاقتها بلبنان؟ أهو الذي يتلاعب بمصيره؟ أم ان
هذه الأوراق هي قدره؟
وصاحب الاصابع، هل يفرح بما بين يديه؟ أم أنه مجرد آلة حاسبة تحسب
الأوراق لفرزها لغيره، وغيره لغيره، وتندلع النيران مشعلة ليس أوراق النقد.
يبتسم المذيع قائلا أنه يترك وقتا للإعلان.
إعلان عن خطوط نقل جوية.. والمسافرون من لبنان. لماذا يهربون؟ تمتعا
برحلة، لملاقاة احبة. هل سيجدون بديلا لبلدهم.
ما اتعسهم ان يضطروا إلي الهرب من الوطن ما...
المضيفة الانيقة تساعد إحدي الراكبات علي حمل طفلها إلي اين تسافر
السيدة؟ ولم هي وحدها وهذا الطفل اهو مهاجر ام عائد؟ والمضيفة كم من أطفال
للآخرين تحمل، وكم تقدم من صواني طعام؟ وكم تحاول إراحة المسافرين، وحين تنتهي
السفرة ويذهب كل في طريق تعود لتلاقي آخرين. ما هي مشاكل المضيفة؟ وما هي مشاكل
المسافرين؟
أتراهم يستعجلون إنهاء الرحلة ام انهم يتمنون لو انها لا تنتهي؟
لو أنهم لا يصلون؟ هل هناك من يتمني ان يحدث للطائرة حادث فتكون هذه
وسيلة مجبرة علي الانتحار الذي يبحثون عنه؟
ليتها تغمض عينيها ولا تحدق إلي الشاشة كفاها اختناقا في هموم لبنان.
الخبر الآخر صورة جماهير غفيرة تحمل تمثالا بحجم عمارة مصنوع علي صورة
كاريكاتورية يصرخ الجمهور ويهتف بلغة لا تفهمها ويسحبون التمثال صابين عليه
تنكات من النفط. يولعونه بالنار صاحب هذا التمثال الذي كان ولا شك رمزا قائما
في أحد الميادين. كيف تحولت عواطف الجماهير عنه إلي حد تشويهه إلي تمثال مسخ
يحرق.
هل يستحق هذه النهاية؟ هل كان يستحق امجاده السابقة؟ وفي لبنان كم
تمثالا بقي؟
دمروا! خربوا! قتلوا! نكلوا! شوهوا! شردوا! عذبوا! احرقوا! و... وخلقوا
اصناما جديدة.
عارضات الأزياء اللواتي ظهرن علي الشاشة يرتدين آخر صرعات الأزياء.
الكاميرا تدور بين متفرجين ومتفرجات. ما الفصل الآن؟ ما لهم يعرضون أزياء
الصيف؟ السنا في فصل الشتاء؟ يقولون ان هذا ما أعد للصيف القادم!
الصيف القادم! يضمنون ان يعيشوا إلي ذاك الفصل؟ يضمنون يوما قادما!
ساعة قادمة! نسيت... نسيت انهم ليسوا في لبنان.
هؤلاء المتفرجون والمتفرجات لديهم الوقت الكافي والمال الفائض لتضييعه
علي التفرج علي الأزياء الجديدة. وفي لبنان آلاف من المشردين والجائعين؟
والعارضة ما نصيبها من كل هذا؟ تحاول اظهار جمال الفستان بكل مفاتنها
الطبيعية والاصطناعية. أهذا هو كل دورها في الحياة؟ ارتداء ثياب لترتديها
الأخريات. توفر عليهن وقت تجربة الفستان.. والرجال.. الرجال لماذا جاءوا؟
ليشتروا للنساء؟ كانوا يشترون النساء، في الماضي، في زمن الرقيق، مباشرة فصاروا
يشترون لهن الثياب بعد تطور أسلوب البيع كله واحد الرجال يدفعون والنساء
يستلمن.
القسم الأخير من الأخبار مخصص لعالم الرياضة فرقة فازت وأخري خسرت تقدم
الخاسرون والرابحون يتصافحون هذه تقاليد الروح الرياضية هل يمكن ان تنتهي أحداث
لبنان بهذه القبل وهذا العناق والمصافحة؟ وهل كانت مباراة لتنتهي هكذا؟
المذيعة ترتدي اليوم فستانا جديدا لكنه لا يناسبها أما تسريحة شعرها
المستعار فجعلتها تبدو أفضل شكلا.
لا تستطيع المذيعة تغيير ما حولها، لا تستطيع المذيعة تغيير مادة
الأخبار فلم تحسن غير تغيير مظهرها الخارجي.. متي نصبح قادرين علي تطوير
الاعماق وتغييرها.. متي؟ ... متي؟ .... متي؟....
البرنامج الذي سيتلو الأخبار فيلم تتذكر انها شاهدته منذ سنوات خلت قبل
ابتداء الحرب في لبنان.. تذكر نهايته تماماً حين تموت البطلة ويحملها حبيبها
غير آبه لوجود زوجها ويأخذها إلي الشرفة مطلا علي الأماكن التي كان فيها
الحبيبان السابقان يلتقيان ينتهي الفيلم، والبطل يقول بصوت واهن حزين: الآن
صارت ملكي.
وتذكر يومها كم بكت كم ذرفت دموعا اغرقت مناديل.
كانت ترعي مادة الأفلام شركة سكاير أخري.
تذكرت هي سيكارتها بين اصابعها فلتر مطفأ السيكارة احترقت ورمادها
يتناثر علي يدها وعلي فستانها.. والكرسي.. والأرض.. وكل ما حواليها.
مدت أصابعها تتحسس خديها لم يكن عليهما دموع ولا آثار دموع ولكنها احست
ذرات الرماد بين أهدابها.
وشفاهها تحسست طعم الرماد.
|