أوراق قليلة عند المنحنى
(أخذني عائد ـ الزوج ـ من يدي وشدني خلفه وأوقفني أمام صفيحة القمامة وراح يخرج
تلك الكتلة المؤلفة من أوراق وفوارغ وتفل وقهوة وورق (كلينكس) وبقايا تنظيف
خضراوات وفاكهة كانت ورقة الجريدة التي مسحت بها زجاج نافذة الصالة مبلولة
ومطوية وداخلة ضمن نسيج الكتلة وماذا في ذلك إن أمسح زجاج البيت بورق الجرائد
..كانت نظراته تنتفض بشرر لا تطفئه إجاباتي اللامبالية كما تبدو له وكنت لا
أزال أحتفظ ببعض من وداعتي في استقبال هوس الآخرين وولعهم بتفاصيل غريبة..
أخبرني بصوت مبحوح أن صورة السيد الرئيس تتصدر صفحة الجريدة .
ـ لم أقصد شيئا مما تخشاه..
مسح الزجاج بالجرائد طريقة أكثر شيوعا بين الناس في بلدي، وبلاد أخرى. بدا عائد
وكأن حشدا من كوابيس اليقظة يداهمه.. صفوف من الخوف والرعب والفزع، فراح يفرد
لي الصفحة لأرى صورة السيد الرئيس المبلولة والمخدوشة مثل وجه مكرمش ومشوه..
وفي لحظة وكأنه تذكر شيئا، جرى كموسوس إلى باب البيت، يفتحه وينظر يمينا
ويسارا، ثم إلى النافذة ليفتح ضلفتيها ويتبصص في كل اتجاه ثم يرفع سماعة
التلفون يحدق فيها ويضعها، حدث هذا أكثر من مرة وكأنه يرغب في التأكد من شيء
ما. بدا الخوف نابحا فوق ملامح وجه عائد وحركته المشدودة إلى كل أرجاء البيت لم
أكن بحاجة إلى أن أستعطفه إن يهدأ ويرتد عن مخاوفه وكوابيسه هذه مكتفيا بإلقاء
الورقة في سلة قمامتنا أو سلة قمامة الشارع وليختتم هذا العرض الكابوسي من
مهزلة قاتمة. وفي لحظة رأيته يسخر من فِطنتي مؤكدا أن هناك الكثيرين ممن يسيرون
في الشوارع، يلتقطون للناس أسبابا لسحقهم كنت أرى رعبة يكاد يطفر من عينيه
وينزل على الأرض ليصير كائنات وحشية تضحك كثيرا..).
الدجاجة المرحة
جاءني صوتها عبر الهاتف..ياااااه.... بعد عشرين عاما... نعم بعد عشرين عاما
من الغياب في السفر والبعد والتنائي. ورغم الغياب ظلت حاضرة في روحي مع زمنها
الجميل.
سرني أن بادرت أروى بالرغبة في اللقاء وحددت يومه وساعته، ناولت السماعة لزوجها
ليحدثني ولم أكن عرفته قبلا.. علمت من أختها بأنها تزوجته سريعا وسافرت..
كلمات مثل مانشتات دون أدنى تفاصيل, وكنت وأروى نعشق سرد التفاصيل الصغيرة عن
ابن الجيران واختناقات الروح والهوى في مساءات الصيف البعيدة, ونحن نرى
النوافذ مرصوصة فيها القلل الفخارية, تلقي بظلالها على البيوت المقابلة لترسم
رؤوسا صامتة لرجال ونساء, فنتجرع ضحكات صغيرة..
كانت أروى رفيقة الطفولة والصبا والحلم والتجارب المحبطة في الحب والغرام وبدايات
الدهشة مع حقائق الحياة في البيت والشارع والوطن, لتبدأ رحلتنا مع الوعي
والإدراك والسياسة ومظاهرات الطلبة والقنابل المسيلة للدموع والفرار عبر
البوابة الخلفية للجامعة, لتجاوز جنود الامن المركزي الذين نشفق عليهم
ويضربوننا.
سمعتها تقول أكثر من مرة وهي تبتسم إنهم لايقصدوننا تحديدا, وكنا نضحك من براءة
الزمن الذي لانعرف إلى أين سيأخذنا, وتخرجنا في الجامعة وتزوجنا وسافرت كل
واحدة إلى بلد وحياة وغربة, والذي عاد أولا راح يبحث عن الآخر دون جدوى,
وربما آثر أن يركن إلى ضفاف الصمت والنسيان.
كانت أروى جميلة للغاية وكنت دونها في كل شيء؛ في الجمال والفتنة والمرح والذكاء
واشياء أخرى, وكنت أحاول جاهدة تجاوز كل الفروق من أجل ود جميل وكذلك كانت
تحاول.
لم يكن صوت أروى جميلا على الإطلاق لكنها تحب الغناء وتمارسه نكاية بنا. هكذا
قالت وأعلنت على الملأ في الفصل أمام كل البنات كانت تصر علي أداء اغاني
عبدالحليم ونجاة وأم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش بنفس دفء ورومانسية
الأيام. كنت أمضي وقتا كبيرا في بيت أروى المفعم بالمرح فأمها عاشقة للضحك
والنكتة وأبوها حنون بشكل مبالغ فيه يتابع أبناءه وبناته بمنتهى الود والمرح.
كان يمنح كلا منهم حصته في الحنان اليومي مثلما يمنحهم مصروفهم, وكنت كثيرا ما
أقف عاجزة عن تصور ما أراه يوما في بيتنا كانت أروى نفسها تقول لي كلما طالبتها
بالمذاكرة في شقتنا بيتكم نكد، وكنت أدرك ذلك جيدا, فقد كانت جدتي لأبي
لاتجعل فرصة تمر دون أن تبعث فيها من روحها غما ونكدا, وللحق كانت امرأة
متفردة في ذلك, ودائما الأشياء تتسابق أمام عينيها لتمنحها فرصة عظيمة لتحقيق
مأربها. ربما كان هذا سر عشقي لبيت أروى التي صرت مع الوقت أدعوها بالدجاجة
المرحة لقصرها وبدانتها, وكثير من المرح الذي تبتعثه كلما طلت أكثر النكات
التي مازالت عالقة في ذاكرتي هي من صنع بيتها, وهي التي حين تقابلني في
الصباح لابد وحتما أن تلقي علي بآخر ما أنتجه بيتهم من النكت.. ومع الوقت صرت
أتخفى في النوم أو القراءة حتى لايسألني أحد عن أسباب هجري لبيتنا وحبي لبيت
أروى.
الآن قررت أن أفتح لأروى قلبي وأعيد لها مالم تعرفه طيلة غيابها.. سأحكي لها ما
حدث لي بالضبط, وسأخبرها عن الالوان التي مازالت ـ برغم أنف المحن ـ ساطعة في
نظرتي للعالم. ربما صارت إحدى وسائلي في الدفاع والمقاومة ظللت طيلة عشرين
عاما أقاوم الألم والمرارة بالبهجة كي لا أموت أو أجن. لا أرى تحديدا ربما
لذلك الإيمان العظيم بسعادة آتية, وربما لتلك الوراثة البيولوجية كانت جدتي
لأمي تكره الحزن والكآبة وتسعى للفرح سعيها للحياة هذا غير الأغاني والحكايات
التي كانت تحفظها وتحكيها لأطفال العائلة في كل ليلة تفرش تحت رأسي الصغير
وسائد أحلام .
سأخبر أروى بحبيبنا المشترك مراد والذي لم أفتح له أذني وقلبي إلا بعد زواجها جاء
متململا يبثني أوجاعه بزواجها وسفرها ظل يفرط في الحديث معي لفترات طويلة,
ويرافقني في كل خطواتي, بعدها جاء يبثني غرامه ورغبته في الزواج مني.
الغريب أنه مع الوقت تسللت إلى نفسي المشاعر نفسها.
يومها طفا في الافق وجه أروى وأرجأت مراد قليلا لأنه فاجأني وأنني للآن لا ادرى
إن كان كل منا قد أحب الاخر لفقده لأروى, أم أن العالم خلا علينا من بعد
سفرها يومها نسى معي مفاتيح بيته وسيارته ودرج مكتبه, ثم توالت الأحداث بطيئة
ومملة حين جاءني بعدها يسترد المفاتيح ويحكي لي عن رئيسه في العمل الذي يفوت
عليه فرصة التثبيت كلما حانت.
وذات يوم جاءني بصورة لفتاة وعقد عمل في الخليج, كان قد التقى بأسرة مصرية صار
لها في الخليج اكثر من عشرين سنة ورأى ابنتهم فصار الكلام والوئام, فقرر أن
يعالج أوجاعه سريعا بما فعلته أروى... الزواج والسفر, ويوم اوصلته للمطار
عدت وقد جرحت يدي, لاأدري كيف في الموعد المحدد جلست انتظر أروى وبهجتها
ومرحها, فكرت أنني وبعد عشرين عاما سأراها وأجلس إليها وأبدد معها كآباتي,
سوف نستعيد حكاياتنا بالتفاصيل الدقيقة, سوف نضحك من قلوبنا ونمرح, سوف
نريق النكات على قارعة الطريق وفي مفترق الطرق, ربما ترغب مثلي الكلام عما
فعلته ـ جملة وتفصيلا ـ العشرين عاما الماضية.
في الموعد المحدد دق جرس الباب وحين فتحته حدث شيء غريب.. رأيت من تدخل عليَّ
مثل امرأة عجوز, جفت روحها ونشفت نضارتها وبح صوتها وانطفأ بريق عينيها الذي
كنت أميزها به من بين كل بنات الحي والمدرسة والجامعة لم أر إلا عجوزا هشة بها
مسحة من بقايا شكل وصوت ونظرات عرفتها من قبل.
أخبرتني أن زوجها يركن السيارة في الشارع وسوف يصعد.. لم أكن قد رأيته من
قبل... حين دق جرس الباب ودون أن تتحرك قالت لي إنه هو.. وشعرت بوطأة
اللحظة, ولا أدري لماذا داهمني شعور حاد وكثيف بأنني أمام قزم ضئيل الحجم
بعينين ضيقتين غير عميقتين وفم كبير وأنف ذي فتحتين كبيرتين بوسعهما شفط هواء
البيت والحياة.
بدت أروى تتفحص المكان مستهجنة تفاصيله الصغيرة... نباتات ظل وكتب وتماثيل
فخارية صغيرة وقطط تتوارى وتظهر بدا أيضا أنها لم تكن تشتاق لي مثل شوقي لها,
ولم تتحدث عن شئ خارج إطار تعب السفر والغربة ودرجة الحرارة التي تتعالي هناك
حتى تشعر أن لها قواما تمسكه بيدها.. حكت أيضا عن الشقة الفارهة التي أثثاها
بطريقة حديثة فاخرة.
حكت أروى أنها ودت لو يكون لها ابنة وتسميها باسمي, لكنه لم يحدث صمتت وجاءت
نسمة سرعان مامرت وشعرت بقدر هائل من البرودة، وصديقتي تواصل نظرات استنكار إلى
لوحاتي على الجدران وإلى كتبي المتراصة بعناية في مكتبات خشبية صغيرة في أنحاء
الشقة حتى النباتات المتراصة بعناية إلى جوار الكتب لم تلق من عينيها ترحيبا
ربما لا تتذكر أروى أنني كنت أهوى الرسم, والقراءة والزرع.
استغربت نظراتها وكلامها واستهجانها لكثرة اللوحات والكتب وأن الزرع يجتذب النمل
وحشرات أخرى والكتب تجتذب الفئران.
كنت أرى وطأة نظراتها وهي تختزل عمري معها إلى تلك النظرات الباردة والحامية في
آن واحد، تحرك زوجها نحو الشرفة ممسكا فنجان الشاي وهو يتأمل تفاصيل المشهد
الذي تطل عليه شرفتي اقتربت من أروى ورحت أتاملها.. نفس العينين ونفس لون
البشرة ونفس الفم ونفس الصوت أدركت فيما بعد وعلى نحو ما أنه حتى تبدلات الجسد
نحولا وسِمنة على جسدينا لم تشفع للذي حدث أن يحدث.
سألتني أروى عن مراد وهل يرسل خطابات وسألتها بنفس البرودة وحدة الصوت: وما
الجدوى... تذكرت أن جرح يدي الذي حدث يوم أوصلته للمطار التأم تماما. حين
فرغ زوجها من الشاي طالبني في ود مفتعل بفنجان من القهوة وكذلك فعلت وهي تتحدث
عن السكر والضغط.
في المطبخ كنت أنظر إلي طريقة ترتيبي لأواني المطبخ بعشق خاص وأدرت مؤشر راديو
المطبخ لينساب صوت أغانٍ شبابية لم أكرهها كالآخرين كنت أستعجل الوقت أن يمضي
والحر أن يزيد من طأته وأروى تنظر إلى أثاث مطبخي بكثير من التأفف والاستعلاء
قالت: بيتك بسيط.
فرددت: لقد صنعته قشة قشة وضمتني جدرانه جيدا بعد انكسارات كثيرة وعزوفي حتى عن
الارتباط بآخر.. شربت أروى قهوتها وكذلك زوجها وخرجت خلفها أوصلهما بكلمات
قليلة مقتضبة على شاكلة... شرفتونا... آنستونا... لاتقطعوا الجوابات..
أتذكر أنني وأروى لم نر بعضنا بعد ذلك اليوم, حدثتني مرة تليفونيا لتخبرني
بأنها وزوجها تشاركا وأنشآ "مول" كبيرا وأن عليَّ عمل دعاية له بين جاراتي
أتذكر أن هذه آخر مرة أسمع صوتها ولم يكن هناك مجال يرغب في التفتح؛ مثل زهور
أغلقت أوراقها إلى الأبد؛ إلى غير رجعة...
الضوء الآخر
هكذا يوحي ليل المدينة, وعشرات العمارات واقفة مثل أشباح أسمنتية, تترقب لحظة
الانقضاض, حتى وهي مغمضة العيون. والعيون مغمضة بشيش مترب. كل ذلك وغيره يجعلني
أفرط في تفادي مواجهة حقيقة لاذعة المرارة, أنني أسكن وحدي في الطرف الأقصى من
الدنيا, فعندما تحتقن السماء بسحب داكنة, وتغرق المدينة في صمت مؤسٍ, أشعر وكأن
شيئا يسلبني الحياة, وإحساس جميل بالبهجة, ذلك الذي صرت أحسه منذ صار لي بيت
وجدران في الحياة. صرت أسمع أشباحا ليلية, تجادلني بصمت وحشي, وتحاصرني بأسنة
الأسئلة. (أي بيت, وأي جدران, وأي حياة في مدينة الدمار والصمت هذه?). لكنني مع
الأيام تمرست على تجاهل رائحة بقايا البناء والظلمة والصمت الوحشي وظمأ
المدينة, فرحت أغلق النوافذ والشرفات, لأرى تخوم الدنيا, تبدأ من جدران شقتي,
التي فرشتها - بعد الانكسارات - بحصير وسجاجيد القصاصات الملونة وجموح الرغبة
في الحياة وما تبقى من أحلام. في النهار بدا الفرار طبيعيا إلى العمل.
أتجاوز فيالق الكلاب وفصائل الصقور وكتائب الذئاب وتشكيلات الغربان والحدآن وهي
تتربص بالحمام الذي أقام غيّته في الطوابق العليا من العمارات. وفي طريق العودة
تبدو المدينة مثل عشة دجاج, تغلق أبوابها, ولا من خروج إلا في نهار اليوم
التالي. حتى إذا جاء الليل راح يحرك في الفم طعما مرا ورائحة العزلة والبعد
والتنائي, مع خرفشة ورقة تتطاير في الشارع, تحملها الريح من هنا إلى هناك. ذات
مساء وأنا أهم كعادتي بغلق النوافذ قبل أن يزحف الليل, ملتهما ما تبقى من نهار
في الروح والذاكرة, رأيت بكلتا عيني المتشوقتين للألفة والبشر نافذة مضاءة في
الطرف الأقصى من المدينة. وفي سرعة فتحت نافذتي لآخرها وأسرعت أضيء المصباح,
فقد بدا في البعد النائي بشر, شخص, كائن ما يقف في النافذة. لم يكن من السهل
تحديد نوعه, ولم يكن هذا مهما على الإطلاق. بعد قليل أطفأ مصباحه وأضاءه, ففعلت
مثله بلهفة وشوق. ثم أطفأ مصباحه مرة ثانية وأضاءه, وللمرة الثانية أفعل. بعد
قليل بدا أن ذلك لم يكن إلا وسيلة للتعارف. وفي برودة الليل والنافذة مازالت
مفتوحة لآخرها. لفحني الهواء, ولكنني شعرت بأن الدم الذي يتدفق في عروقي, دافئ
يخلو تماما من الشوائب.
في تلك الليلة نمت نوماً هادئاً وأنا مطمئنة أن في المدينة بشراً. وفي النهار
تجولت في خلاء المدينة, غير آبهة بفيالق الكلاب, وفصائل الصقور وكتائب الذئاب
وتشكيلات الغربان والحدآن, تلك التي استباحت خلاء المدينة من البشر, حيث
النوافذ مازالت مغلقة على الغبار والصمت, وجميع العمارات متشابهة كالعادة. في
ذلك اليوم لم أذهب إلى العمل, احتفالا بذكرى أول يوم أرى فيه بشرا في المدينة.
بعدها رحت أحفظ عن ظهر قلب مفردات لغة جديدة, فغلق النافذة يعني الخروج من البيت,
وترك ضلفة شيش واحدة يعني الرغبة في تناول قسط من الراحة, وإضاءة المصباح ثم
إطفاؤه, يعني الرغبة في تبادل الحوار.. أي حوار. مع الوقت رحت أعيش تفاصيل
المدينة دون كآبة, فقد صار هناك في الطرف الآخر ضوء آخر. وذات ليلة وأنا أأتنس
بالضوء الآخر تمنيت لو أخرج إلى الشارع غير آبهة بفيالق الكلاب وفصائل الذئاب,
لأرى من بعيد الضوءين مثل عينين لامعتين لامرأة زنجية جميلة, غير أن السير ليلا
في المدينة وسط مزيج بالغ القسوة من الريح والبرد, ونباح الكلاب وعواء الذئاب
كان يكثف معنى مخيفاً للوحدة. في الصباح لم تعد المدينة خالية على الإطلاق.
وحين ذهبت إلى العمل بعد تجاوز بضعة كيلومترات, سيرا على القدمين, حكيت لزميلاتي
عن سحر المدينة والضوء الآخر, كن يسخرن مني, ورحن يلقبنني بامرأة غريبة, تسكن
مدينة للأشباح والخرافة, وكنت أسخر من وجوههن الشاحبة, وأجسادهن المترهلة
بالكسل والبلادة. في طريق العودة حيث مساحات من الصحراء مازالت, ومعسكرات الجيش
ونباتات الصبار الوحشي, وحيث لا رفقة على الجانب الآخر, عدا السيارات المتعجلة
عبر الطريق الإسفلتي السريع. وحين أصل البيت تبدو النافذة أجمل رفيق تمتد إليه
يدي. في الليل أترك النوافذ مفتوحة, وأتحرك في الشقة دون خوف من ذلك الشعور
الغريب بأن ضوء نافذتي هو الوحيد وسط الظلمة الحالكة للمدينة مثل هدف واضح,
فأمضي إلى عملي المنزلي في حماس ونشاط. وفي سرعة غريبة أفرغ من تنظيف البيت
وطبخ الطعام وغسل الثياب وتجفيفها وتطبيقها ورصها مثل الأحلام, وري نباتات الظل
والشمس التي أأتنس بها, مثل كائنات حية تطلب الهواء والري, وقدراً من الضوء
والكلام.
وبعد التعب أكافئ نفسي بالنظر مرة أو مرتين وربما أكثر إلى الضوء الآخر, فتبدو
النافذة المضاءة هناك مثل طاقة نور ودفء وبهجة, ومع الأيام صار بيننا ميثاق غير
مكتوب, فإذا ما بدا الضوء الآخر وأطفئ مرة ومرات, فهذا يعني الرغبة في مزيد من
التعارف, وإذا ما أسدلت الستائر, غير حاجبة للضوء, فهذا يعني أن الطرف الآخر
مشغول بشيء ما. وإذا ما....
صارت بيننا لغة ومساحة من الفرح. بعدها صرنا نستخدم الألوان وحركة السحب وضوء
القمر وأشعة الشمس والمرايا العاكسة وأزيز الطائرات التي تستخدم المدينة معبراً
دائماً لها, ومن الأرض صرنا نستخدم نباح الكلاب وعواء الذئاب وكلاكسات السيارات
العابرة, لأن العصافير لم تكن قد عرفت المدينة بعد.
|