ياقات حمراء
عرفنا أنه ابن ناس من أول وهلة . بنظراته الواثقة ، ووجهه الخمري
المستدير الذي لم تلوحه شمس بعد ، وبتلك الابتسامة العريضة التي استقبل بها
خبر توزيعه على سلاح المشاة .
كنا على ثقة أنه لا يكذب علينا – في نوبات الراحة – حين يحدثنا عن
أعمام له ، وأخوال يحملون رتبة اللواء أو العميد ، ويمكنهم بإشارة إصبع أن
يوزعوه على أسلحة الخدمات التي لا مشقة فيها ولا تعب .
تأكدنا أن سراج مصطفى ، والذي سيصبح في الأيام التالية محامي
المعسكر له مخ مختلف . لقد أراد أن يخدم بجد ، ورغم بكاء الأم ، وتوسلات
الأب بالتوسط له عند أصحاب الأمر والنهي كي يتم توزيعه في وحدة مناسبة إلا
أنه رفض رفضاً تاماً .
وها هو بيننا ، واحد منا وعلينا ، يضع يده في جيب سترته فتبرز علبة
سجائر " الكنت " ، يعزم علينا عزومة مراكبية ، ويشعل سيجارته بكل ترفع
وكبرياء .
وسراج مصطفى القرانفلي ، ابن الناس ، أخذ في أول يوم خدمة درساً لن
ينساه ، عندما سأله الأومباشى عويضة عن مؤهله ، فرد بثقة بانت في نبرات
صوته : ليسانس حقوق . . يا أفندم .
لحظتها ارتبك الأومباشى ، لعلها ثوان قليلة ، وانطلق كالمدفع "
المتريوز " مهاجماً العسكري المستجد : عليك أن تدفن شهادتك هذه في أقرب
حفرة . وانس الليسانس ، وإلا ستتعب .
وجعله يتحرك خطوة للأمام ، ويقلع طاقية الرأس ، ويختبر صلابته بأن
ضربه في كتفه ضربتين قويتين ، وسأله على الفور : بماذا شعرت ؟ ، على الفور
رد المحامي سراج : لا شيء يا أفندم .
وقبل أن يكمل جملته جاءته اللكمة في بطنه مفاجئة ، قوية ، ولقد حاول
العسكري المستجد امتصاص الصدمة ، لكن تقلصات الوجه فضحت ألمه الذي أخفاه في
حشرجة مكتومة .
أمره بالرجوع للصف ، واستمر طابور التدريب الأولي : صفا . . انتباه
. . الخطوة المعتادة ، للخلف در ، استرح . والشمس تصب حممها ، اقترب
أومباشى آخر لم نكن نعرف اسمه ، لكن قسمات وجهه ، وطريقته في الحديث دلت
على أنه متطوع ، استلم الطابور بعد راحة خمس دقائق ، وهمس الأومباشى عويضة
في أذنه . وهو – بدوره – لم يكذب خبراً فجأر صوته في الخلاء : سريعاً جري ،
مع الوثب لأعلى .
وانطلقنا في جري دائري حول وتد خشبي تم دقه في ساحة التدريب ، والكل
يلهث ، وينساب العرق خيوطاً ، تنحدر تجاه العينين ، فنتألم من الملوحة ،
ونهمهم : كفى . . يا أفندم .
والأومباشى المتطوع لا يكفيه إلا أن نطب ساكتين ، وقد صعّب الأمر
علينا بأن جعلنا نصعد التبة الصناعية ونهبط مرات ومرات ، وعساكر منا تتساقط
، وهو يجذبها بعنف ، ويدفعها للطابور من جديد ، حتى تقطعت أنفاسنا ،
وامتقعت وجوهنا .
نظرت للعسكري سراج ، كان يغالب ألمه ، والعرق يصنع دائرتين واسعتين
تحت الإبطين . وجاء الأمر صارماً كالسيف : قف . . لليمين حذا . .
لحظات التقاط الأنفاس . انتظرنا الأمر استرح لنمسح بالمناديل
الكاكية عرقنا دون جدوى . خبط الأومباشى المتطوع سراجاً في كتفه : ما هذا
البلل
لم يرد المحامي المنخرط في الخدمة حديثاً ، فالسكوت في الجيش من ذهب
.
ونظر إلى البنطلون الواسع الفضفاض ، كانت هناك خيوط لا تكاد تبين من
عرق : هل عملتها على نفسك ي عسكري ؟
تقدم سراج خطوة للأمام ، ونطق بقوة : أنا متظلم . . ما يجري هنا ضد
أبسط حقوق الإنسان .
شخر الأومباشى ونخر ، وأطلقها كالقذيفة : نعم ، يا روح أمك .
ثم بدأ الأمر بالزحف الثعباني ، والأرض قطع من حصى ، لها سخونة لا
تطاق . ولم يجد سراج مصطفى القرانفلي مفراً من تنفيذ الأوامر بكل دقة
وبعد انتهاء طابور الزحف ، سأله الأومباشى المتطوع : ما شعورك الآن
؟
تأمله العسكري من قدميه إلى أعلى الرأس بنظرة كلها غل وأسى ممتزجين
: شعوري أنك جاهل!!
ضج الموقع كله بالضحك ، حتى أن بعضنا ضرب كفاً بكف ، فقد كانت
ملاحظته صائبة ، وعرفنا فيما بعد أن الأومباشى الذي يكدر سراج ، ما هو إلا
راسب إعدادية .
توقف الهرج والمرج حين جاء الأومباشى عويضة واستلم الطابور ، وشكر
الأومباشى المتطوع : شكراً يا أومباشى فؤاد .
كان الأومباشى فؤاد المنصوري – وهذا اسمه الذي عرفناه فيما بعد –
يمضي نحو " الكانتين " ساحباً خجله خلفه ، وكانت الهمهمات المكتومة تعلو ،
وتنخفض طيلة الربع ساعة المتبقية من طابور التدريب .
وقت الراحة تحلقنا في مرح صاخب حول العسكري سراج ، المحامي الذي
يتحدث عن حقوق الإنسان . غمز لطفي فرو بعينه الحولاء ، وهو يسأله : أتدافع
عن نفسك أم عنا ؟
بنبرات صادقة ، لا اصطناع فيها : أنا مثلكم .
خبطه توفيق مصيلحي الأهبل في كتفه بمودة : أصيل يا ولد . اعطني
سيجارة " كنت " .
في لحظة لم تبق في العلبة إلا ورقة السلوفان المفضضة ، فطوى العلبة
، فركها في يده ، اتجه نحوي : الجيش هذا . فيه من الحياة كثير . لا يمكنك
تفصل بين النبيل الرفيع ، وبين الدنيء الوضيع . فيه معاناة وتعب ، لكن له
قانونه . عليك أن تفهمه . ستخسر كثيراً إن فرضت عليه شروطك .
شردنا جميعاً ،وصاح فيه العسكري صبري الأرناؤوطي : أهي مرافعة يا
أستاذ ؟
عاد الضحك من القلب ، وعمنا صفاء نقي ، غسل أرواحنا المجهدة .
بعد أسبوع واحد ، زارت الكتيبة سيارة جيب ، ارتج لها المعسكر كله ،
ونزل منها ضباط كبار ، بشارات أركان حرب الحمراء المثلثة على طرفي الياقة ،
ودوىّ صوت البروجي ، وتم جمعنا في غير وقت طوابير التدريب . واهتم الصولات
بالزي ، ونظافة الخيام ، ورفع علم جديد على سارية ساحة التدريب الأساسية .
وجاء الضابط أنور عدواً ، وهو يسأل : أين الباشا سراج مصطفى ؟ ضحكنا
جميعاً للفظ " الباشا " . تقدم من العسكري ، وهو يسأله في ود كذوب لا يخفى
على عاقل : مبسوط يا سراج ؟
هز العسكري سراج رأسه ، فلم يعرف الإجابة بالضبط . إلا أنه أخذه من
الصف ، وهمس في أذن الأومباشى عويضة : يبدو أننا ستأخذنا داهية .
وفي خيمة القائد ، جلس سراج مصطفى مع أقاربه ، قدموا له لفائف طعام
وحلوى ، وقروصة سجائر " كنت " ، وسأله قريب له عن الحال ، فرد على الفور :
هي تجربة .
نظر إليه عمه اللواء ، وهو يختبر عناده : أننقلك إلى السرية الطبية
لتكون قريباً منا ؟
تجهم العسكري مصطفى ، ونسي الرتبة التي يتحدث معها : قلت أنني
مستريح هنا .
تنفس القائد في راحة ، وجاءت زجاجات المياه الغازية ، ودارت على
الرتب ذات الياقات الحمراء . والغريب أن العسكري سراج ظل واقفاً كالألف عند
باب الخيمة التي تدور المروحة في سقفها ، والتي يشغل الركن الأيسر جهاز
تليفزيون . حتى أنه رفض زجاجة المياه الغازية .
وحين أوشكت الزيارة على الانتهاء ، قال خاله المقدم : أنت تعرف
تليفون كل منا ، حدثنا عند أي مشكلة .
قال لهم ، وهو يستدير عائداً إلى الطابور : لا مشاكل لديّ . .
المشكلة عندكم في الجيش نفسه .
وقد ركبوا سيارة الجيب الأنيقة ، وهم يتابعون سيره إلى الجمع المصطف
، ولم يدهشهم حديثه ، فقد كانوا يعرفون أنه متمرد بطبعه . لكن لديهم إحساس
لا يخيب في أنه سيعرف الكثير من أمور الحياة في هذا المكان الموحش ،
المنقوع في الخلاء .
من مجموعته : شمال .. يمين ـ سلسلة كتاب ( موجة ) ـ القسم
الأول
بعض ما جرى في الأساس
*
التزحيف
نحن في الأساس . والأساس 45 يوماً ، لا تزيد ولا تنقص . تستلم
مهماتك ، تحمل المخلة ، تتحول من فرد مدني عادي ، إلى عسكري لا يتحرك إلا
بالأوامر .
والجيش متاهة . الداخل فيها مفقود ، والخارج مولود . من كل جنس ولون
، وهيئة وشكل ستجد البشر : حانقين ، سعداء ، ممرورين ، لاهين ، عدميين ،
متفائلين . من النقيض إلى النقيض . لكن الزمن ممتلئ بأمثال هؤلاء وهؤلاء .
كل شيء كان يتوقعه خليفة مرسي الشموطي إلا موضوع التزحيف .
لقد بحث له عن سبب أو علة دون أي فائدة . فما الدافع الذي يجعل
عساكر الأساس يقومون من النجمة ، وقبل شروق الشمس ، ليغسلوا وجوههم بما
تيسر من ماء الجراكن ، قبل أن يخرجوا مشمعاتهم المتينة ، بلونها البني
الغامق ، وتيلها المنسوج راقات ، يثبتون الطرف بقطع الزلط والحجارة ، ثم
يمسكون الطرف الآخر ، ويمضون لتسوية أرض الميدان الواسع الذي لا نهاية له
.من مربط خيام الأفراد ، وحتى السور البعيد البعيد الذي تعرفه الكلاب ، فلا
تتجاوزه إلا بنباحها الواهن .
هناك عدة طرق للتزحيف ، أبسطها أن يُحدد لكل فرد مقطوعية يسويها
بمعرفته ، ويتحمل خطأ وجود أي مساحة فيها نتوءات أو تعريجات . هذا هو
الشائع والمعمول يه في أساس 2 ، 4 .
لكن هناك معسكرات تدريب أخرى تأخذ بنظرية " الجشتالت " فتقوم كل
سرية بالتزحيف الجماعي ، فكأنك في حضرة رتل من سيارات الميدان تمضي في ذات
الاتجاه ، وبنفس السرعة ، دون أن تترك بوصة فراغ واحدة .
كل شيء مقبول ، ومعقول ، ومحسوب في ذهن خليفة إلا هذا الأمر ، وهو
يسأل كل من يقابله في صوت هامس خشية التبليغ عنه من أي واحد ابن حرام :
أريد أن أعرف ضرورة التزحيف ؟
ظل يسأل ، ولا أحد منا يجاوبه ، ويضع له العقل في رأسه .فليس من
المعقول أن نسأل في كل كبيرة وصغيرة . هناك في العسكرية تكتيكات
واستراتيجيات ، وما نحن إلا عساكر بلا ظهر أو سند . بل الغريب أن يصدر مثل
هذا السؤال عن خليفة بالذات ، وأبوه كما علمنا منه يُصلح الأحذية عند أبواب
جامع السيد البدوي . يضع السندان على الأرض ويبدأ عمله قبل الظهيرة كل يوم
وحتى يشطب آخر فردتين ، وكله برزقه .
مرسي الأب – والله أعلم – عوّد ابنه على التلصص على الحديث ،
والسؤال عن كل أمر ، من طقطق إلى السلام عليكم .
ربما كان لحوحاً في مسألة التزحيف ، أما أن يحولها إلى قضية عمره ،
فهذا معناه أن دماغه
" جزمة " قديمة .
وهذا ما حدث له من جراء اللت والعجن في موضوع مفروغ منه . فقد حوله
الأومباشى إلى الصول ، لما سأله الصول عن السبب . أشار الخبيث إلى العسكري
المستجد الذي لم يكن له خبرة بأمور الدهاء : أسأل عن التزحيف . لماذا نقوم
به ؟
والصول عرفة أبو غزالة الداهية وجدها فرصة للتنكيل بنا جميعاً ، بأن
يوقع الأذية بهذا الأبله ابن " الصرماتي " .
والمثل قال : " اضرب المربوط ، يخاف السايب " . ولكن للأسف كلنا
مربوطون من أعناقنا منذ اليوم الذي دخلنا فيه منطقة الفرز ، وجردونا من
الثياب إلا ما يستر العورة ، وبحثوا عن الفتق والبواسير والسل و . . . . .
. . .
عندما انتهوا ، وختموا الورق بالكودي الأسود بكلمة " صاغ " صرنا لا
نسأل ، ولا نجرؤ على رفع الحنجرة بصوت حتى لو كان واهناً .
الضابط أنور – وهو ضابط مخلة ، لا قلب له – ربت على كتف العسكري
الغلبان ، وسهاه في الكلام : خير يا دفعة ؟ ، ابتسم الغر ، وبانت نواجذه :
فقط ، أسأل عن التزحيف . هل كل جيوش العالم تزحف مثلنا؟
الضابط أنور ، تركه ، وراح يقلب السكر في قعر كوب الشاي ، وعاد إلى
مكتبه في وسط الخيمة ، وقد أدرك أن الفأر قد وقع في المصيدة . شجعه على
الكلام أكثر ، فأضاف ابن مرسي الشموطي : التزحيف تضييع وقت . أريد أن يصل
صوتي للقيادة .
لسان حال الضابط : اللهم طولك يا روح .
لكنه يطلب المزيد من الكلام السائب ، ربت على كتفه بتشجيع ماكر :
قل كل ما عندك . . يا عسكري .
وضع الكوب على حافة المكتب – وهو منضدة ملخلعة قوائمها ، أما سطحها
فمن خشب جميز مسوس – وسوى أطراف شاربه ، وأمر بطابور ذنب 8 ، 9 .
وقبل أن ينصرف ، وخزه في صدره : ها . . أتريد أن تعدل الكون . . يا
روح أمك !
ربما فكر في صفعه ، لكنه تراجع ، وقرر حرمانه من الإجازة الشهرية ،
وخدمتين " كينجي " زيادة .
وحين رجع العسكري خليفة ، بان عليه الإرهاق بعد دورانه في ساحة
التدريب حاملاً المخلاة ، والعرق يشر منه ، وهو يلهث وصوته يطلع بصعوبة :
لن يقنعني أحد بأن التزحيف ضروري ، حتى لو قصفوا عمري .
وفي الخيط الأول من فجر اليوم التالي ، كنا نزّحف رمال الموقع بهمة
أقل ، وكان العسكري خليفة يشاركنا الأمر متعباً ، موجوع القلب ، فقد قضى
نوبة الكينجي وهو يكلم نفسه : التزحيف خطأ .
كان أغلبنا يرى الأمر نفسه ، ولم يكن أحدنا على استعداد لذلك العقاب
الصارم ، فالجيش له عبرة حفظناها مراراً وتكراراً : " نفذ الأمر ولو خطأ
ولقد رأينا مصير من جرؤ على مناقشة الأمر ، فما بالك لو رفضه .
استمر التزحيف ، وحين سوينا الأرض ومهدناها ، هبت عاصفة صغيرة ،
فمسحت كل ما فعلناه . ضحك العسكري خليفة وهو يشير إلينا بيده : زحف يا
عسكري ولو خطأ . .
كانت ضحكته منقوعة بمرارة وحزن بلا حدود .
* من مجموعته : شمال.. يمين ـ سلسلة كتاب ( موجة )ـ القسم
الأول
بعض ما جرى في الأساس
*
الهدف
كانت أسنانه تصطك ، وقلبه يرتجف ، وهو يقبض على بندقيته ، ويستعد
للتقدم نحو التبة ، كي يرقد على بطنه ويستعد لإصابة الهدف .
للمرة الأولى في حياته التي يقيض له أن يضرب ناراً ، أو يسمع صوت
الذخيرة الحية ، وهي تخترق الشاخص ، وتصطدم بقطعة المعدن الصغيرة بالحائل
الصخري العنيد .
يسمع كثيراً عن حوادث الثأر بالصعيد ، لكنه من بحري ، وقد شرب مهنة
الأب ، التي أخذها عن سابع جد ، ويده تلك التي تحفر زهوراً في الخشب الزان
والسويدي تُلف في حرير .
هو الآن يستعد لتلك اللحظة الفارقة في حياته ، وعليه أن يفعل
المستحيل كي يكتم أنفاسه ، ويضبط زاوية التنشين حتى لا تطيش طلقاته .
ليس عليه أن يفكر في الورشة ، ولا في عدة الشغل التي تركها في البنك
، ولا في صورة ´سعاد حسني " التي تضحك لزهور النرجس من حولها ، وتغني بصوت
كله مرح " الدنيا ربيع "
الرمل الأصفر يحاصره ، بلونه الأخرص ، وخشونته ، والشمس تسقط وراء
ظهرها ، فتثير حنقه .
ركب السيارة إلى التبة منذ الصباح الباكر ، وراحت العجلات تنهب
الطريق ، ومفاصل المقاعد الحديدية تتكتك ، وترجه رجاً ، فيستند بمرفقه على
ساق من يجاوره . غشيه حزن لا يعرف دوافعه ، وفي انحدار خيط العرق على رقبته
تأكد أنه لا يحلم ، فاليوم هو ختام الكلام النظري ، والدخول بكل ثقة في
معمعة الفعل .
في أفلام السينما التي يحرص على مشاهدتها صباح كل جمعة ، كان يبسطه
أن يشاهد المعارك الحربية ، والجيوش تتحرك في جحافل مرعبة ، بينما الرصاص
يفتك بالجنود من الطرفين .
كانت البنادق والمسدسات في أيدي المتحاربين ، وكان يجلس مسترخياً في
كرسيه المعتاد آخر الصالة ، وبالقرب من الحائط ، تتثاءب ، وهو يغالب وخمه ،
ومنديله المطوي بعناية في جيب السترة ، يمسح به وجهه ، فتملأ أنفه رائحة
"سيكريه " . هو الآن في قلب الفعل ، والصول يرفع يده بالعلم الأحمر ،
ويأمره بالتقدم ثلاث خطوات للأمام .
" انتباه " . لأول مرة يعي أهمية هذا اللفظ ، فيحلله إلى حروفه قبل
المزج ، ويدرك أن حالة الانتباه للهدف تعني له الكثير .
حمل السلاح الآلي ، وشعر بأن ثقله لا يحتمل ، والسونكي المدبب
للأمام في غطرسة ثقيلة ، أكدت له خطورة الأمر .
خشخشة الصدور من حوله ، يسمعها ، وتسقط نظراته على أسراب نمل تتحرك
يمين المدق ، ثم ما تلبث سحابة خفيفة أن تعبر فوق الهدف ، فتظلله لثوان
معدودة ، قبل أن ينكشف عن ضوء صريح ، لا ريب فيه .
" انبطح " . أمر لا مجال فيه للتراجع . على نفس الخط الوهمي ينبطح
البوطسى ، والأرناؤوطي ، وسراج القرنفلي .
كل يقبض على سلاحه في استماتة ، يلصق الدبشك بكتفه لصقاً ، ويغمض
عينه اليسرى ، وتحط ذبابة على أنفه فيكاد يجن ، لكنها تبعد – ربما رأفة به
– فيضع كل همه في الخط الواصل من فوهة البندقية إلى أسفل منتصف الهدف .
" استعد " . تنفتح في هذه اللحظة طاقة نور لتأخذه إلى عالم آخر ،
حيث عليه أن يثبت رجولته . هي لحظة أشبه بلحظة الجنس ، واكتشاف عوالم
الأنثى ، وسحرها الخفي .
ربما كانت اللحظة بقسوتها ، وخشونتها ، على النقيض تماماً . لكن
الاصبع سيضغط ضغطته القوية بلا أي إحساس بالذعر . وقتها يدخل دنيا أخرى .
" اضرب " . وقف شعر رأسه ، ويسراه تحتضن مقدمة البندقية الملساء ،
وصدغه يضغط بقوة على الدبشك الأملس ، ورائحة عرق تنفذ إلى نخاشيشه .
" اضرب " للمرة الثانية . اكتشف أنه لم ينفذ الأمر بعد ، وحينئذ هصر
الزناد ، فشم رائحة البارود ، وارتج صدره فبادر ، بإطلاق رصاصات تلو رصاصات
، وعينه المفتوحة تدمع ، لكنه يواصل الرمي حتى نفذت طلقات الخزنة .
" انهض " . كان انساناً آخر لا يعرفه ، يهب من انبطاحه القسري ،
وثمة رائحة بارود تختلط بعرق يتصبب من جبهته ، في تلك اللحظة لم يعد لديه
شك في أنه قد ترك خلفه كل مفردات الماضي .
لم ينفض عن ثيابه بقايا الرمال العالقة بنسيج القميص ناحية المرفقين
، داخت رأسه لزمن يقترب من اللحظة ، وجد ساقيه تتحرك للمؤخرة مع زملاء
الرمي .
ولقد شعر أنه أطلق رصاصاته الأولى ، وصار خفيفاً ، قادر على التحليق
، والارتفاع في الفضاء الفسيح إلا أن روحه البريئة أشعرته بالذنب .
تفادى النظر في عيون الزملاء ، وفي الليل ناوشه شعور خفي بالرضا عن
نفسه ، ولاحظ الشعيرات التي بدأت تنبت في صدره أسفل وأعلى الثديين ، وحول
السرة !
في الليل شعر بأن روحه تنتحب نحيباً خفياً ، وكان عليه أن يضع رأسه
على الوسادة الخشنة ، ويخفي دموعه التي تسللت على غير إرادة منه !
* من مجموعته : شمال.. يمين ـ سلسلة كتاب ( موجة )ـ السم
الأول
أضيفت في15/10/2005/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب
على حافة الليل كان
اليمام
( حين يصير
الحنين يماما على الكف ،والراقصون مدائن لا تقفل الليل أبوابها ، والصباح*
) (( *إلى
علي الدميني ، والمقطع السابق من ديوانه بياض الأزمنة))
هذا بالضبط ما لم يفكر فيه البارحة . لقد نام خالي البال من أي شيء
يكدر صفو هدوئه ، صحيح هو مسجون ، ولكنه يشعر بالراحة الأكيدة أن رأسه لم
تعرف الانحناء . تذكر كلمات سبارتاكوس الأخيرة ، وابتسم لطيف الشاعر الذي
هده المرض ، ومات في الغرفة رقم 8 . كان أمل دنقل جنوبيا مثله . عبر البحر
الأحمر الذي شقه موسى بعصاه يتسلل التمرد من بين الشعب المرجانية ، وأسماك
الكنعد وسلاسل الجبال المنحدرة في انكسار مميت .
دق بقبضتيه الباب الحديدي الثقيل ، فأتي الحراس شداد القامة ،
أزاحوا غطاءا معدنيا ثقيلا ، ونظروا من خلال الكوة شديدة الضيق .
كان قد ابتعد عن الباب بمسافة بوصتين ، رمقوه في غضب أن أزعجهم ،
لكنه حدق في ملامحهم بشيء من المرارة ، وهم انتظروا أن يتكلم ، ويفصح عن
سبب استدعائه لهم في هذا الوقت المتأخر من الليل بتلك الجلبة التي لم
يعرفوها عنه.
كانت ليلة توافق منتصف الشهر العربي ، لكن القمر بان مختنقا بغلالات
الغيوم التي تتكاثر في مرورها البطيء ، أما زنزانته فتطل من الخلف على ساحة
واسعة أشجارها خرساء وصامتة .
تمهل وهو يتراجع عدة خطوات ليلاصق الجدار ، حدجه كبيرهم فيما تصلصل
المفاتيح في خطاف معلق بجيبه : ماهذه الجلبة؟
قال وهو يرتب الكلام ، وذاكرة الجبلي تناوشه وتلح عليه أن تكون
عبارته سهلة ومفهومة : اليمام ؟
يتأكد له الآن حقيقة أن الروح هي التي نادته أن يرى اليمام في زرقته
، وهو الشيء الذي أفاق عليه من نوم قلق ، وشعر بالحاجة إليه بصورة لم يمر
بها من قبل أبدا . غالبه خاطر أنه مجرد حلم ، وعليه أن يحتفظ به لنفسه ، أو
أن ينتظر طلوع الصباح ليحكي ما رآه لرفاقه ، لكن شيئا أقوى منه دفعه أن
يكون في حضرة اليمام .
مكث يغالب هذا النزوع القوي الذي ألح على وجدانه ، حتى أنه تصور
يماما جبليا بالذات له ريش بني غزير حول الهيكل الضئيل ، وزغب خفيف يكسو
الرقبة . أكمل بنبرة بدت محايدة منزوعا عنها أي إحساس بالرجاء أو التمني:
أريد أن تأتوا لي باليمام .
هل هذه هي مطالبه فقط في هذا الوقت الذي يخلد فيه الجميع للنوم
الثقيل والراحة الأكيدة ، أعاد الحارس إطلالته ، أما هو فقد راح يمسح بيده
غبارا خفيفا كان يحجب الرؤية كاملة عن عدستي نظارته ، وأتاه صوت الحارس
محتجا : أي يمام تقصد ؟
بروق العامرية لوحت للسجين لحظة وتمددت في فضاء شكلته أيد خفية ثم
ما لبثت أن تبددت : ألا تعرف اليمام؟
كان المكان يعبق بدخان سجائر انطفأت منذ فترة ، والزنازين غارقة في
صمتها الليلي . في الخارج تهبط قطرات مائية لا تكاد ترى ، وتتكثف على أوراق
الأشجار وبتلات الأزهار كقطرات ندى : أعرفه . وهل كل هذه الجلبة لآتي به في
هذا الوقت؟ وهب أنني أحضرته ، فهل القوانين هنا تسمح بذلك ؟
عدل بيده ياقة سترته البيضاء التي تثنت أطرافها ، ورنا نحو الفضاء
الذي كان قمره يجاهد بقوة حتى تبتعد تلك السحب الرمادية البليدة .
بدت قضية عمره أن يرى اليمام ، وينصت لهديله . هكذا كانت الرؤية أن
والده قد ناداه كي يجلس معه تحت شجرة تين عملاقة ، في ظل فروعها المتشابكة
، وفي جلستهما حطت يمامة على المقعد الخشبي المستدير .
قال العجوز : لا تحزن .
رد بنبرة الواثق : إن الله معنا .
امتدت يدا العجوز ولامست تقاسيم وجه الابن الذي تذكره صبيا يلهو في
أزقة القرية:أصبر يا بني .
رأي الغضون تهتز تحت الجفنين : سأفعل يا أبي .
مسح بعينين سوداوين صافيتين خضرة المكان الذي لم ير أجمل منه في
كسوته العشبية الزاهية ، وانجابت أحزان حسبها لن تتزحزح يوما : ما أجمل
زيارتك . لا تتركني هنا بمفردي كن معي .
رقت حواشي الكون ، وأسراب من الطيور تمر فوقهما مغردة ، فيما تساقطت
بعض أوراق من الشجرة الكثيفة ولم تكن صفراء أبدا ، بل كانت بنفس خضرتها
الداكنة : أنظر أبي ؟
قبل أن يجيب اختفى أبوه تماما ، لكن نظرات وجهه التي بدت باسمة
ومضيئة ظلت تخايله فيما سمع هديلا متناغما لليمامة التي طارت بعيدا بعيدا.
تحتم عيه أن يطلب اليمام في الغرفة الضيقة . لا كتب معه ، ولا أوراق
. سحبوا دفترا صغيرا تم تهريبه إليه وتركوه في عزلته مع نوبات الحراسة .
لقد ألف وجوههم ، وتعود تجهمهم . كان يعرفهم بسعال بعضهم ،
أوبطريقتهم في الخطو ، أوبلهجاتهم التي غالبا ما تنم على كونهم جنوبيين ،
لكنه جنوبي مثلهم وإن دفعته ظروف الدراسة ونزوح الأهل منذ سنوات بعيدة أن
يتجه شرقا . طلع صوت الحارس وهو يسوي شاربه : بالله عليك لا تلهو بنا . أي
يمام هذا الذي آتيك به؟
تململ قبل أن ينسحب عائدا ومن خلفه تابعه الأصغر رتبة : خذ سيجارة
دخنها ، ثم أكمل نومك .
في تلك اللحظة بالذات والتي مد فيها الحارس يده بسيجارة من الكوة
تناهى إلى الجميع صوت خافت للهديل ، راح يتصاعد ، ويتصاعد .
بقت اليد معلقة لحظات ، ولما لم يمد السجين يده كي يأخذها مضى
الحارس مع زملائه نحو مكان خدمتهم ، فيما حطت يمامة بنية اللون بريش ناعم
على حافة النافذة الضيقة المشغولة بالسلك .
كان عليه أن يصعد على حافة مقعد خشبي كي يمسد شعرها ويحط بيده
الأخرى على جسمها الدافيء ، حاولت اليمامة أن تدخل الحجرة عبر ثغرة في
الحديد المشغول ، لكنه أبعدها برفق ، وأبقاها حيث هي . كمنت لحظات ثم هدلت
من جديد وهي تعاود انطلاقها . طيرانها في هذا الليل الطويل الذي يبدو أنه
على وشك أن يتبدد .
القاهرة 5/ 4/ 2005
مشيرة
البنت مشيرة أم ضفيرتين صغيرتين سارحتين على الظهر ماتت اليوم .
مشيت في الجنازة البسيطة وكان قلبي يبكي ، ووجهها يلوح لي طوال
المسافة الممتدة من جامع البحر التي خرج منه جثمانها وحتى قرافة الست
الوالدة قرب " تعاليق شيحة ". بنت صغيرة بغمازتين ، ووجه باسم تستقر به
عينان يسكنهما غيط برسيم أخضر في موسم النوار .
نعم هي البنت مشيرة ابنة خالتي خيرية التي تغلبني في المذاكرة
بنباهتها ، وعيونها التي تضحك وبشرتها البيضاء حتى إنني كنت وسط الأولاد
كلهم والبنات القادر أن أخطف يدها وأضعها على حافة الشباك وبجوارها يدي
السمراء ، وأهتف بها : مصر والسودان ، وعلى ضحكنا تأتي خالتي خيرية بكوبين
من الشاي المحلى بالسكر وروح النعناع ، تسألني : أمك فين ؟
وهو سؤال لا تنتظر إجابته إذ هي تعرف أنها لابد أن تأتي في موعدها
قبل أن تبدأ حلقات المسلسل الإذاعي في الخامسة والربع مساء ، ثم تمتد
السهرة والضحكات ، والفرفشة حتى موعد القرآن ، وقتها يسكت الجميع ، وكأن
على رؤوسهن الطير ، وتبدأ التلاوة ، فتقوم مشيرة بدخول المطبخ لتعمل فناجين
القهوة المحوجة بالحبهان ، وتكافئني بفنجان قهوة سكر زيادة ، ويكون من
واجبي أن أفتح الأطلس ، واشرح لها تضاريس دول العالم التي تدرسها ، وأفهمها
للمرة المليون مقتاح الخريطة : الأخضر يعني سهول ، الأزرق بحار ، البني
جبال . تضحك وتقول : مفروض البني يبقى بن !
النعش فوق سيارة مكتوب عليها بخط منمنم " سيارة تكريم الإنسان " ،
لكن الأكتاف شالتها داخل الخشبة وأودعوها المنحنى المعدني الأبيض . لمحتها
تشير بيدها أن أجلس أمامها بالضبط كي تشرح لي محيط الدائرة ومساحتها . قال
لي الأستاذ بشرى بندلي أنني لن أفهم شيئا طالما لم أحضر المنقلة والمثلث
قائم الزاوية والفرجار . وصدقت نبوءته ، فحين كبرت قليلا ، وامتنعت عن
ارتداء الشورت ، ودخلت الإعدادية لم أفهم مطلقا لماذا نركز بسن الفرجال على
المركز ، وندور بقوس واسع يصنع هذا المحيط المنحني . كنت في رعب أن يجذبني
المركز كقاع جب بلا قرار إلى عمقه المستحيل . فضلت دائما أن أكون بعيدا عن
هذا المركز ، بل بذلت محاولات مستميتة كي أخترق المحيط نفسه بأي طريقة
وأهرب من الدائرة اللعينة ، وقد كانت نبيهة وذكية ، تعرف أن المساحة = ط
نق2، وهو الأمر الذي لم أفهمه بسهولة ، مع قانون المحيط الذي هو 2 ط نق .
وظل سوء الفهم يلازمني وسوء الحظ يتبعها ، والدائم هو الدائم ولا إله إلا
الله .
شقت الجنازة شارع الحدادين ، وعرصة ساحل الغلال ، في شهر رمضان
كانت تنزل في هذا الزقاق تلعب بحق الورنيش القديم لعبة " الأونة " وكنت
أراها تحجل بسرعة ، وتقفز برشاقة ، وأنا محمل بأطقم كراسي السفرة والحز فوق
رقبتي يؤلمني ، تراني فتتوقف خجلى ثم يدب فيها روح التحدي وتكمل لعبتها ،
ولما كانت أمي قد وصفتني بالمؤذي فقد كان من الخطأ ألا أفسد توقعاتها . من
السهل أن أستند لجدار بيت قديم وأزحزح الكراسي واحدا واحدا بزعم أني أستريح
، وما علي كي أبدو شريرا إلا أن أمحو بقطعة البطانة التي تسند كتفي حتى لا
تدمى وأوقف اللعبة .
وقتها تندفع البنات الصغيرات : والنبي .. نكمل الأونة !
وأمتنع حتى تحضر هي ، وتضع حقلي البرسيم في عيني مباشرة فأتصنع
الغضب : صغيرة أنت حتى تلعبي معهن .
أشعر بالنوار يتفتح فتزهزه الدنيا ، وتطير فراشات مبرقشة وتحط على
كفي : نعم صغيرة ، لكنني أطول منك .
تشب على أمشاطها فتطولني ، وتنحدر الجنازة نحو شارع البدري
ببلاطاته المربعة البازلتية الصغيرة ، ونهم بأن ندخل الدرب الضيق من ناحية
الحدادين فتوارب المقاهي أبوابها ويقوم الرجال ، ويصوبون السبابة في
مواجهة النعش الموضوع بالسيارة ، ويتلون التشهد فيما تخفف العربات المنطلقة
من سرعتها ، وتركن بجوار الطوار حتى يمر المشهد .
في ركن الحجرة وجدتها تصفف شعرها ، كنا قد كبرنا ودخلنا الثانوي ،
والسطح ضاق بألعابنا القديمة ، داخت أمي في علاج سعال الصدر ، لكنها تذكرت
أن أمها قد حمصت قشر الرمان ،فاندفعت نحو العش الخيزراني الأعواد وسحبت
حفنة من القشر ، وذهبت به للوابور الذي أشعلته ، ثم غلت القشور ، ومدت يدها
بالكوب . كان شعرها أسود ، وضفيرتاها قد طالتا وانسدلا على كتفين صغيرين ،
وكانت السماء في انحدارها البعيد تذكرني بالدائرة ، ويشغلني أن يكون هناك
حد للأفق . راهنتها : من يمكنه أن يجري ويجري ليبلغ الأفق ؟
قالت وهي تستعيد أسماء الأبطال في ذهنها : السندباد .
قلت وأنا بين الشك واليقين : ولا هذا أيضا . تعالي نجرب أن نبلغ
الأفق . أن نطول الانحدار البعيد بأيدينا . ركضنا مسافات بعيدة ، ونال منا
التعب واكتشفنا أن هناك أشياء لا يمكن أن نطولها أبدا .
تابعت الجنازة سيرها ، وصرنا في صرة الميدان الشهير ، ومن بعيد كان
دكان الأب تاجر الحبوب مغلقا من سنوات بعيدة بنفس القفل الضخم النحاسي ،
وقد صدأت المفصلات ، لمحت ابن عمنا الدكتور لطفي وقد جاء مغبرا من السفر ،
أصبح في أول صف والشمس تلهب الوجوه ، ونداءات الباعة تأتي واهنة . كان
باعة المشمش قصير العمر ، والبرقوق فاكهة الذوات ، وكانت بشائر البطيخ ،
وأنا أخفي عرج خفيف يناوش قدمي .
سألتني وأنا أحمل جمجمة أخيها طالب الطب بيدي : ألا تخشى أن يطلع لك
صاحبها في الليل .
تفحصت الفك واستدارة الصدغين ، ووضعتها بجوار مزهرية بها وردة قرنفل
بيضاء : أنا لا أخاف . فقط لعلي حزين .
فقد كانت الأحلام تتبخر ، والحجرة الملحقة بالسطوح تكشف عن شرخ كبير
في السقف والجدار . قالت لي خالتي خيرية : لو انهد البيت أين نذهب ؟
وجمت للسؤال ، والتفت للسلم الخشبي الحلزوني الذي كان يسرسب بعض
التراب في تكتم شديد : لا تخافي يا خالتي .
وفي لحظات الغروب تسرب إلى قلبي شجن عظيم ، وأنا أرى الإرهاق في
وجهها وهي تذاكر دروس الكلية . كانت قد انعتقت من الجغرافيا ، والأطالس ،
لكنها تسأل هذه المرة عن دورة حياة الكائنات . أطلعتني على فراشة محنطة وقد
كتبت اسمها باللاتينية ، ومجموعة صخور ة صلبة لها أسماء عجيبة . ضحكت في
وجهي وهي تسألني : هل نصير في يوم ما مثل هذه الأشياء . قبل أن أجيب سمعنا
صوت ارتطام عنيف . كانت طيارتان ورقيتان قد تشابكت خيوطهما وسقطتا فوق
السطح في لحظات الغسق الشاحبة . لم أجب عن السؤال المحير فقد انهمكنا في فك
الخيوط المتشابكة وتخليص الطيارتين من مشكلة صنعتها الرياح .
مدخل شارع صلاح الدين مكتظ بالباعة والدراجات والسيارات المسرعة ،
تتقدم الجنازة ببطء ونهر النيل الذي خلفناه وراءنا يعكس ضوء الشمس ، وخالتي
خيرية تشتكيني لأمي ، لأنها تعتقد أنني أغويت ابنها نصحي وشجعته أن يعبر
النهر جيئة وذهابا ، كان رهانا قديما وقد كسبه ، حين أمسك برهان الفيومي
ثيابنا ، ولما خرجنا خفنا سوء العاقبة فجلسنا نتشمس ، ولكن الجنايني طردنا
فارتدينا ملابسنا على عجل ، وكشفت البقع المبتلة جريمتنا النكراء ، كان
الرهان على من يستطيع أن يعبر النيل ، ويمكنه كذلك أن يحفن بيديه بعض أسماك
الشبار . عبرنا بسهولة ، وتبقت المغامرة الأخيرة صعبة التحقق حتى انتزع
نصحي القميص وجعل منه " شلبا " لاقتناص سمكتين . كانت الزعانف مشرعة ،
والقشور الفضية تلتمع ، وقد غلبني .
وفيما كانت خالتي خيرية تكيل لي الاتهامات رأيت مشيرة تبتسم في
سرها فقد عرفت أن شقيقها قد كسب الرهان ، وأصبحت في نظرها خاسرا ، ولكي
أفوت عليها فرصة الشماتة والتلذذ بانهزامي أخبرت خالتي بأنه قد حصل مني على
خمسين قرشا كاملة بعد عبور النهر ،ثم انطلقت اهبط السلم ممسكا بالدرابزين
، واللعنات تلاحقني ، ونظرة الانتصار رأيتها تذبل ومشيرة تحدجني بنظرة
محتجة ، تمزج الصمت بالاستنكار ؛ فهي تعرف أن " علقة " ساخنة ستكون بانتظار
شقيقها أما أنا فمدرب على مثل هذه الأمور . تابعتني وأنا أمرق كالسهم من
السلم ، رمتني بدعائها : يا رب تموت !
اقتربنا من الجبانة ، وراح باعة السمك علي الجانبين يلمون طاولاتهم
ويزحزحزنها إلى الخلف قليلا ، وقد قالت لي ، أنها اختارت أن تتزوج من مهندس
معماري يعمل بالعراق ، وهي فرصة لتغير نمط حياتها . رحت أحدثها عن الحر
الشديد ، وقرص الشمس الذي يلتهم البدن ، وينخر العظام . كانت مصممة ، ضحكت
: العمر واحد والرب واحد .
في فرحها كانت جميلة بثوب أبيض يزيدها رقة ، وجاء نصحي وعقد حاجبيه
، ومنحني سيجارة ، فسألته عن حـُـق النشوق الذي كانت أمه تفضله . لكزني
بكوعه ضاحكا ، في حين دقت الدفوف ، وشعرت أن خالتي تكاد تطير من الفرحة ،
كانت أمي تزغرد ، وهي تنظر للسماء البعيدة . وقتها تذكرت الدائرة بمركزها
الممعن في مشاكسته ، والمحيط الذي فشلت دائما في العثور على بداية مؤكدة له
.
وفي العراق انقطعت أخبارها ، لكنني علمت أنها أنجبت البنين والبنات
، ومثلها فعلتُ .
في مرة كنت أصعد درجات بنك مصر . وجدت امرأة متلفعة في الأسود
الغطيس ، كانت تشير لأحد خلفي ، نظرت ورائي لم يكن سوى الجدار ، ولوحة
التعامل بالدولار تضيء بأسهم صاعدة هابطة . مددت يدي ، متسائلا في حيرة :
حضرتك . تقصدينني أنا ؟
اقتربت ، وهي تعنفني : أترى خيالك ؟
كانت مشيرة بشحمها ولحمها ، وقد تغيرت كثيرا وانحنى ظهرها بعض
الشيء ، وكانت معها فتاة رائعة الجمال بفستان أزرق مشغول بورود كبيرة :
أنسيت مشيرة يا نساي.
سبحان الحي الواحد القيوم ، وحدبات القبور تظهر على البعد ،
والخوص الأخضر في أيدي النسوة ، والبكاء الخافت يتصاعد ببطء درجة درجة .
سلمت عليها بحرارة : لكنني لم أعرفك .
مالت تضم الفتاة من منكبيها : مشيرة الصغيرة .
ضحكت : بدون حقلي البرسيم .
كانت جميلة وبرسيمها أفتح قليلا ، ولم يكن النوار قد تفتح بعد ،
فموسمه لم يقبل .
قلت لها وأنا أشير إلى السواد : ما بك؟
زوجي الله يرحمه مات في العراق . خبطت رأسي بكفي : البقاء لله .
وعليها نادى صراف البنك ، فتبادلنا العناوين وأرقام الهواتف التي
لن تطلب أبدا ، وتقدمت السيارة حاملة الجثمان فتوقفت بجوار الطوار ، وأنزل
النعش ،فحملته الأيدي بخشوع وورع ، وكان من المستحيل أن أنسى يدها وهي تربت
علي حين فصلوني من الخدمة لدخولي دائرة السياسة بدون أن اعرف أن ط نق 2 غير
ممكنة هناك ، حملقت في الأفق البعيد : أبتعد عن مكائدهم .
ضحكتُ والكتاكيت تتقدم نحوها وهي تصوصو ، وخالتي تقدم لي شايا قليل
السكر ، وهي تشتمني : فوق لنفسك . حرام عليك أمك .
ولقد أكدت لها أن الدائرة لم تصنع كي نسجن فيها ، وأن علينا واجب
دائم أن نصنع ثغرة مهما بدت ضئيلة فهي ضرورية لتحرير أرواحنا .
قالت وهي مهمومة : الحكومة ستبهدلك .
وحين جاءت أمي وذكرتني بلعبة مصر والسودان ، كانت حافة الشباك
مشغولة بصبارات ونباتات زينة ، وقلل قناوي بغطيان من الفخار المحروق ، فلم
نمارس لعبتنا القديمة رغم أن قلوبنا ضحكت .
اتجهنا للمدفن ، وداست أقدام المشيعين الخوص القديم الأصفر ،
وتفادينا طوبات فارقت قبور قديمة ، فيما رأيت المدخل على هيئة نصف دائرة ،
وسـَّـع اللحاد الحفرة بيدين مدربتين ، صرخ في الواقفين : تصريح الدفن .
امتدت يد مرتعشة ، فتح الورقة وقرأ الاسم ، بهدوء وروية كشفوا
الغطاء ، وحملوا الجثمان ، ودلدلوه ، ثم أهال اللحاد التراب ، ووقف الملقن
يمارس عمله ، وكانت هي مشغولة في هذا الوقت بالذات في إفهامي أن مساحة
الدائرة ط نق 2 . وكان الوجع يملأ قلبي أن الأفق هناك بعيدا وبلا انتهاء ،
ربما انحدرت دمعة فقد عجزت عن رؤية الصخرة وهي تسد الحفرة واللحاد يثبتها
بالجبس وخليط الأسمنت ، ولقد رأيتها تلوح لي : إذهب ، سأكون بخير ، ولم يكن
ممكنا إلا أن أرى حقلي البرسيم مليئان بخضرة زاهية ، وكان النوار يهتز
بتأثير الريح ، وأوشكت أن أفقد اتزاني فسمعتها ، أوقن أنها لم تكن تكذب
عليَّ : لقد بلغت حد الأفق . هناك نهاية مبرقشة بالتعب والزرقة يا بن
خالتي .
استعدت خضرة حقلي البرسيم وأنا أمضي وحدي نحو الشوارع المأهولة
بالبشر المحزونين . كنت أعرف أنك ستدركين غايتك . وضعت رأسي على كتف خالتي
التي ماتت من ربع قرن مضى . قالت لي وهي تنخرط في نحيب مؤثر : لقد سبقتك
إلى هناك . أنا جهزت لها الأرائك!
دمياط 19/ 5/ 2005
صورته
ما الذي جعلني بغير إرادة مني أفز من نومي قبل أن تدق السادسة صباحا؟ أتحسس
ذقني النابتة كشوك القنفذ . أرفع عن بدني الغطاء ، وأتجه من فوري إلى
الحمام . أوارب ضلفتي الشباك ، وأضغط زر النور مغمضا عيني عن الضوء الباهر
، أمد يدي شبه منوم باحثا عن ماكينة الحلاقة على الرف الزجاجي ثم بعد دقائق
أخرج مشدود القامة لأبصر أجسادهم الصغيرة ملتفة بملاءات رقيقة تعتذر للشتاء
عن تأخره ؟
أصفق الباب خلفي ، وأتحسس عظام الترقوة ، وثقل البيادة التي خلفتها منذ
أزمان ؟ هل هو نداء خفي أم توق عارم أن أذهب إليه وأحدثه مثلما كنت أفعل
حينها ؟
لماذا هذا العسف وروحي مثقلة بنظرته المحددة ونداء متخاذل يشدني إلى قاع
الجب؟
حين انشق الصمت بقذيفة عمياء ، واجهت الموت والعجز ، إذ غلت الرمال ، وغطى
وهجها وجهي . لم أر منه سوى أشلاء منثورة تصرخ مطحونة في كمد وغيظ ،
والجنازير تدور ، والتروس العملاقة تصخب .
يدي تهتز بفنجان القهوة البني ، وشمس الصحراء تدبغ جلدي . قالت لي نظرته
الوجلة : " لا تنس أن تكفنني !" .
لم أفعل لأن الزرقة بانت آفاقها المحترقة تضغط على صدورنا بنيران كثيفة .
همس الشاويش فتحي :" ننقل الموتى ازاي ، والرمل الطاهر يتاويهم ؟"
قماش الأفرول الكاكي تمزق تحت الأبط . إندلع ألم هائل في الحلق ومرارة ،
قلت ولم يسمعني أحد : " نكفنهم ، ده لحمنا الغالي " .
ارتجفت شفاههم اليابسة ، قال الشيخ يحيى : "الرمل غسيل طاهر، والرمل كفن ".
إلتف شريط أسود حول الصورة في إطارها الخشبي . كانت نظرته حزينة ، وضعت
يدها في حجرها وهزت الرأس : ربنا يغفر له . ولم تمسح الأم دمعة تسللت للوجه
الشاحب الهضيم .
هي ـ المرأة الشابة ـ التي تقدمت مني ، جلست في مواجهتي تماما : " محارب حس
بألم ؟ ندهني قبل ما يودع ولا نده العيال ؟ " .
شفتان يابستان تتحركان باللوعة والأسئلة . اختلط لحمه في النقطة 145 بالأرض
الرملية وشجيرات الصبار القزمية ، وخنافس سوداء تجري مجنونة بالضجيج
،وأربطة الميدان ، وجثث الدبابات الخرساء تفوح منها رائحة تزكم الأنوف .
على عتبة البيت رفعت وجهه الصغير أتأمله . من فرط تشابهه مع أبيه أنكرته !
ضحك نفس الضحكة لكنها كانت خالية من خشونة ألفتها ، سألني : "معاك حاجة
حلوة ؟ " .
ندت عن صدري تنهيدة ، أخذته من يده وهبطت السلالم . عند البقال كانت صورته
أيام الشباب مع أولاد الحتة بنفس ابتسامته الأخاذة خلف الزجاج مثبتة .
تأملتها ، قلت لصاحب الكشك : " إديني شيكولاتة بسرعة " .
امتدت يدي بالنقود ، نسيت في اضطرابي أن آخذ الباقي . قلت في نفسي سوف أظل
حريصا على زيارته .
اليوم كم من الأعوام مرت ولم أره ؟ جاء الجرسون وتناول حسابه سألني : "
تطلب حاجة تانية ؟ " .
نظرت حولي ، كان يوم عطلة ، والراديو يذيع أغاني حماسية ، وحناجر تصرخ ،
فتنهمر كلمات زنة ألف رطل . تناثرت شظاياها في عقلي ، تطحن مشاعري بضراوة
لا قبل لي بها .
هبت ريح باردة ودقت ساعة الميدان السابعة ، قلت : " لعله انتهى الآن من
الجامعة ! "
ناوشتني الذكرى ركبت المترو على غير إرادة مني ، وقهوة الصباح البنية حركت
أحزاني القديمة .
هبطت في الميدان ، وتهيأت لرؤية البيت . تفحصت المكان فلم أجد له أثرا .
سألت وعلمت أن صاحب البيت استخرج رخصة بالهدد ، وأن الأسرة التي كانت تسكن
بالإيجار نقلت عفشها منذ أعوام ورحلت إلى جهة غير معلومة .
في المنحنى واجهني كشك البقالة . كانت الصورة مازالت مثبتة ، وقد أكلت
الشمس نضارة الوجوه ، ومحت الملامح . اشتريت قطعة الشيكولاتة ، وسرت على
غير هدى أبحث في الطرقات ...
الزلنطحي
الولد فرج مختار العفشة جاءه الأعور وهو في عربة الترحيلات ، فظل
يمسك بطنه من ناحية تحت السرة ، ويعض على شفته السفلى ، وهو يقول بينه وبين
نفسه أنه مغص خفيف . مجرد مغص جاءه من التهام نصف حلة المحشي التي جاءت "
زيارة " لخميس الخرم زميله في التخشيبة .
لذا فقد كان كل ما فعله أن جلس القرفصاء ، وراح يئن أنينا خفيفا ،
ومحركات السيارة تدور ، والعادم يحجب رؤية من هم تحت الصاج المولع ، ثم
ارتفع الأنين شيئا فشيئا حتى أدرك زملاؤه أن الموضوع جد لا هزار فيه ،
فراحت القبضات تدق الصاج الغليظ دقا ، والسيارة تمرق من تحت سفح تل المقطم
، متجهة إلى مقر النيابة في السادسة صباحا وخمس دقائق فقد كان صوت الشيخ
محمد رفعت يخترق الغبش الخفيف بغبرة صفراء ، ويطلع من جوف " الرداوي " كي
يعلن عن مولد يوم جديد.
كانت عربة قديمة متهالكة يزحف الصدأ في أركانها حتى يوشك أن يأكل
الهيكل كله ، ومن الطبيعي أن تكون هناك مقاعد خشبية غير أن الحكومة رأت
توفيرا للنفقات وتوسعة على المساجين ومن دفعته أقداره لركوب الرزايا أن
تلخلع الألواح ، وتبقي على الزوايا والصواميل حتى إذا ما جاءت لجنة حقوق
الإنسان للتفتيش كان من السهل تركيب تلك الألواح على عجل ، بل والإسراع
بمسحها بقطعة جوف خضراء من بقايا مكتب الباشا الكبير .
الولد فرج مختار العفشة ـ وشهرته الزلنطحي ـ أمسكوه من أسبوعين وكان
هاربا من قضية مخدرات ، ورغم أنه قد تفنن وحلق شعر رأسه ، ونتف حاجبيه حتى
صار أقرب للعفريت فقد أوقعوا به ، وعرف الجميع أنه لا يقع إلا الشاطر ،
وأن دليلة التي حلقت لشمشون شعره بالحيلة لم تكن تفعل ذلك صدفة فدماء
الدهاء تسري في عروق صنف النساء .
النساء أحباء الله إلا في ساعات الغضب وهي قليلة ، فهم لا يطقن أن
يجمع البعل بين زوجتين رغم أن هذا من شرع الله ؛ فما أن يشتموا أن الرجل
سوف يفعلها ويتزوج على " القديمة " ، وينسى العشرة ، ويرفس النعمة ،
ويتغاضى عن العيش والملح حتى يفور هذا الدم ، ويغذي اليافوخ بعشرات الحيل
التي تسقط الغريم سقوطا مدويا .
الولد فرج مختار العفشة عيناه زائغتان ؛ فزوجته حلاله قمر 14 ، ولها
عينان ما بين الأزرق والبنفسجي ـ فشر اليزبيث تايلور التي كان يضع صورتها
فوق فراشه مباشرته قبل أن يتزوج و يخش دنيا ـ لكن القلب وقع ، ورفرف في
الصدر ، واندبح بنظرة قتالة .
فراح إلى بيت دلال وطلب اليد بالحلال ، ووضع على الصينية جنيهين من
الذهب اللماع طراز الملكة فيكتوريا ، وفتل شاربه ، وهو يسمي ساعة أن جاءت
بالشربات ، فكانت تخطر كالغزال ، حينها رنت الزغاريد في الحي كله ، وبرفة
رمش جاء الصبيان بالكبش فعقروه ، وأسالوا دمه على العتبة التي تتصدر مدخل
البيت في الزاوية ، وجاءت النسوة العواقر اللاتي ينتظرن مثل هذه اللحظة
فغمسن أصابعهن في الدم اللزج الساخن ، ورسمن خيوطا فوق الجبهة وحول دائرة
الثديين ، وبعيدا عن العيون البصاصة فوق السوة طلبا للخلفة وجلبا للذرية
التي تسند الضهر.
ما أن علمت محاسن ابنة عمه ، والتي هي ستره وغطاه بالفعلة النكراء
حتى أصابها الخفيف ، ولأنها ماكرة وتلعب بالبيضة والحجر ، فقد كتمت في
قلبها وهشت وبشت في وجه زوجها وهو راجع ، وبسطت المائدة في العصر ، وقبل أن
يخطف الأربع ركعات الفرض راحت تطوف بالمنقد حجرات البيت وفوقه البخور
الجاوي لتطرد الحسد والعيون الصفراء التي تندب فيها رصاصة .
في الليل هجم رجال المباحث ، وقلبوا البيت عليه ، لكنه كان قد قفز
من شباك مفتوح على المنور ، وذاب في الظلمة الحالكة ، أما كبير البصاصين
فقد دس يده تحت المرتبة وأخرج طربة حشيش تزن حوالي كيلوجرامين ، وقبل أن
يحرزها جاء الباشا المتوسط فقطع بالسكين قطعة للذكرى ، وضعها في جيب الساعة
،ثم لفوا الحرز في السلوفان ، وكانت تقف بالقميص الشفتشي تلوك اللبانة في
فمها ، فدقت على صدرها وهي تتمتم في حسرة : ماقدروش على الحمار قدروا على
البردعة .
لم يسألها الباشا المتوسط عن زوجها فهي ليست غريرة لتدل على مكمنه
، لكنه نظر نحوها في ارتياب ، وحدجها باحتجاج خفي : هنجيبه!
ورأتها فرصة لتعلن عن شعور كان يتنازعها بين الأسى العميق والإحساس
بالتشفي : أبقى قابلني .
والولد فرج مختار العفشة الذي ركع يلحس التراب الآن في أرضية العربة
صار بوجه ممتقع يصرخ كالنسوان ، ويجأر بصريخ متقطع : يا أولاد الكلب .. يا
حكومة .
وسّـع له الزملاء في الأرضية مكانا ، وأناموه على جنبه السليم ،
ودلكوا بأصابع خفيفة الجانب الموجوع ، ثم بدأت دقاتهم تشتد على الصاج حتى
صارت القلعة التي كادوا ينتهون من المرور تحت سورها ترتج .
تمهلت السيارة ، وتوقفت فيما أطل وجه صول مخضرم : جرى أيه يا أولاد
المجانين ؟
لوحوا له بإشارات يفهمها من وراء الشبك السلك أن فرجا يموت من الوجع
، فاختفى لحظات ، وأطل وجه باشا لطيف الوجه أراد أن يبدأ بالهجوم قبل أن
يأكلوه : فيه أيه يا أولاد ستين كلب؟
قال أقدم المساجين والملمومين رتبة : يا أفندم الزلنطحي تعبان قوي.
أشار الضابط أبو دبورتين بيده أن يوسعوا له ليلقي نظرة ، فصعب ذلك
جدا ، وتصاعدات أصوات الاحتجاج : مفيش في قلبك رحمة ؟
وصاح آخر وهو يخفي وجهه في عتمة الهيكل المشحون بالأجساد : حكومة
بنت حرام .
فيما وضع السجين عرفة فص أفيون تحت لسانه ، وطوح برأسه وهو يبحلق
في الولد الشاب الضابط الذي يخب في الميري : ألحقوه يا باشا . باين عليك
ابن ناس صحيح ومتربي.
ولكن الولد فرج مختار العفشة رغم أن وجهه كان مصفرا وجسده كله يرتجف
جاب الكلام من صرمه وهو يوشك على الموت : أحملكم المسئولية.
وكان يعرف في محنته هذه أن محاسن هي التي فعلتها ، فمن يعرف أنه قد
حلق شعر رأسه ( زيرو ) غيرها ، ومن رآه منتوف الحاجبين كالبرص سواها ،
وكونهم جاءوا له في الليل الغطيس ، وكمنوا في المدخل حتى صعد وبيده سطل
اللبن ليبيع للزبائن ، وما أن طرق الباب حتى أحاطوا به وامسكوه .
قال بقلب ميت : أنا سعد بياع اللبن .
كشف الضابط وجهه فكان كالمسلوخ ، سأل محاسن وهي تلوك اللبانة: هو
ده جوزك؟
وجف قلبه ، وهي راحت تتأملته من فوق وتحت ، وراحت تقلب فيه كأنها
تشتري كيلوجراما من الطماطم من فوق عربة خضار ، ومدت إصبعيها الإبهام
والسبابة ، ونتفت شعرتين : مش عارفة .
لكن الضابط كان مصرً ان هذا هو فرج ، سألها وروحه تكاد تصل للحلقوم
: هو ده جوزك يا ست محاسن ؟
وهنا وجد المخبر صابر فرصته ليعلن للباشا أن كل شيء بالأصول ، فصوب
الكشاف في وجهه ، ومع التماعة الضوء رأته يهز رأسه متوعدا ، فحدجته بنظرة
مستاءة : أهو كلهم زي بعض . قطيعة الرجالة .
وهو هنا بعد الفيش والتشبيه ، ومضاهاة البصمات مقطوع تماما في
رقدته على الألواح الملتهبة في عز حر أغسطس ، والوجع يتصاعد حتى كاد يصل
إلى اليافوخ .
أطل الضابط وهو يحاول أن يفهمهم وجهة نظره : جواب المأمورية من
التخشيبة للنيابة . ده خط سير مستحيل أعدله .
رد خميس وقد تناسى حلة المحشي التي طارت في بطن هذا الجشع : يعني هو
خط السير أنزل من السماء . غيـّـره!
امتقع وجه الضابط ، وسمعوه يتصل بالمأمور الذي كان نائما بجوار
زوجته طرية اللحم ، فالساعة لم تتعد السادسة والنصف ، وقد زجره المأمور :
أتصرف يا حضرة الملازم أول .
وهو ابن ناس ، رباه أبوه على احترام مشاعر الناس ، يعرف أن هؤلاء
بشر ، لكنهم بشر ملاعين ، وفي سنوات الكلية علموه الشخر والنخر وقولة "
نمرة " وهي الأخف في العرف السائد . لقد قرر أن يعدل خط سير العربة نحو
أقرب مستشفى ميري، وليكن ما يكون .
كاد يبكي وهو يحدثهم بقلب مفعم بالطيبة مع نبرة شر متصنعة : يا
رجالة . أنا هاوديه المستشفى بس أسمع منكم كلمة شرف.
ردوا جميعا في صوت يكاد يكون واحدا : واحنا رجالة مع الرجالة .
تهادت العربة في طريق معاكس باتجاه المستشفى ، ومن كان يرقب الطريق
فقد رأى أصحاب عربات الفول يكشفون القدر النحاسية عن أفواه يتصاعد منها
البخار ، ورأوا الأمهات يهبطن بقمصان الباتستا الخفيفة من البيوت لشراء
الأرغفة الساخنة ، وملأ الأطباق بالفول المدمس محلى بقرون شطة خضراء .
كان الشيخ محمد رفعت قد ختم التلاوة ، و جاء الصول ، وأمام الباب
الداخلي حرك المزلاج الحديدي ، وتقدم من الباب الموارب ، قال بصوت أقرب
للرجاء منه إلى الأمر : وسعوا له من فضلكم .
تقدم خميس الخرم وهو يسحب جسد المريض ، وكانا مكبلين في " كلبش "
واحد " ورفع للصول معصمين أحدهما ساخن مستعفي ، والآخر بارد متخشب : بسرعة
يا صول حمودة .
وأعمل الصول مفتاحا صغيرا في "الكلبش" فانفتح الترباس وحرر المعصم
من الأسورة الحديدية .
كانت فرصة للمرحلين كي يشتروا سجائر ، ويشربوا ماءا مثلجا من أولاد
الحلال ، وامتدت أيد كثيرة بسندويتشات الفول والفلافل ، وعلى " التروللي "
تمدد جسد فرج مختار العفشة ، وقبل أن يذهب معه الضابط ربت برفق على كتف
الصول والإثنين عساكر المصاحبين للترحيلة : فتحوا عنيكم . دول اولاد حرام .
بعد الكشف الظاهري أمر الطبيب المناوب بتجهيز حجرة العمليات ،
وشخـّـص المسالة بأنها انفجار الزائدة الدودية . هرعت الممرضات لتجهيز
الحالة ، وتعقيم المشارط ، ولم يقبل الطبيب الجراح أبدا بدخول الضابط حجرة
العمليات ، حتى وهو يهمس في أذنه : لو هرب سيادتك هاروح في داهية .
ما كان من الطبيب إلا أن صرخ فيه : يا سيادة الملازم باقولك عملية
. فيه عملية تنفع تتم على أيدي البوليس .
وفي الخارج كان الصباح يشقشق ، والأولاد مع البنات ـ حيث لا مدارس
ـ يذهبون إلى ورشهم ، وكانت الشمس تخترق ما تبقى من سحب متناثرة قليلة ،
ووجد الولد عرفة مساحة من الشباك تبلغ 50 سم 2 ليشير بيده عدة مرات لمريضة
بالصدر كي تهبط نحوه ، وتضع بين يديه علبة بسكويت بالفراولة ، مع وردة
بيضاء فيما كان سعالها يشق صدرها الضعيف .
لم يعرف أحد من الذي أبلغ أسرة الزلنطحي بما حدث ، فقد أتت محاسن
وهي تلطم خديها ، والكحل يسيل من عينيها من أثر البكاء ودخلت من الباب
الرئيسي بعد أن سجلت بياناتها ودفعت رسوم الزيارة ، وبعدها بدقائق جاءت
دلال العروس الجديدة ، وهي بملاءة لف سوداء محبوكة على جسد يضح بالأنوثة ،
ومن الباب الخلفي دخلت بعد أن دفعت المعلوم .
التقت الضرتان أمام الباب المغلق ، وكان الضابط يزرع الطرقة ذهابا
وإيابا في قلق واضح ، وهما تبادلتا نظرات حانقة متفجعة .
وحين صعد الصول حمودة السلم ليسأل الضابط عن شيء يريده ، وجد
المرأتان جالستين في مقعد خشبي على مقربة من حجرة العمليات يتكلمان بحميمية
واضحة .
أشار له الضابط أن يشتري له علبة سجائر ، فاستغرب الصول : لكنك ـ
سعادتك ـ لا تدخن ؟
هز رأسه بأسى : من اليوم سأدخن .
وخرج الطبيب ليعلن للضابط أن العملية انتهت بخير ، وأن الحالة
استقرت ، فاندفعت المرأتان نحوه لمزيد من الاستفسارات ، فما كان منه إلا أن
أشار للضابط : سيادته يطمئنكم .
أعطى لهم ـ للمرأتين والضابط ـ ظهره ، واتجه لحجرته ، وبعد أن أفاق
الزلنطحي من البنج ، تحرك متوجعا ، وقعت عيناه على الضابط الذي كان يرمقه
بحيرة ممتزجة بغضب متكتم ، فهز رأسه ممتنا ، فيما أغمض عينيه عن عمد رغم
توسلات دلال ونحيب محاسن .
بصعوبة أراح الزلنطحي رأسه على الوسادة ، وقد علم كل أفراد
الترحيلة ـ بعد شهر من حدوثها ـ أن الضابط قد خصم منه 15 يوما من راتبه ،
وتم نقله لشرطة المرافق لأنه قد أخل بمقتضيات العمل الوظيفي .
القاهرة 12 /6 / 2005
|