-ولدت فدوى طوقان في مدينة نابلس الفلسطينية سنة
1917 م لأسرة مثقفة وغنية لها حظوة كبيرة في المجتمع الاردني وهي تحمل
الجنسية الاردنية. ابنة عبد الفتاح آغا طوقان وفوزية
أمين بيك عسقلان.
-ذكرت بعض المصادر، بأن
آل طوقان (في فلسطين والأردن) هم أسرة من
عشائر التركمان الذين استوطنوا جنين ونابلس قديماً منذ العهد السلجوقي، وقد
استعربوا من حيث اللغة حتى باتوا يعرفون في فلسطين بـ(عرب التركمان)، وأن
الغالبية العظمى من سكان جنين هم من هؤلاء التركمان، ومنهم آل طوقان وطوقان
كلمة محرفة عن دوغان (دوكان) وهو اسم تركي لنوعٍ من الصقور، ومنه اسم "أر
دوغان" كان آل طوقان زعماء عشائريين منذ استيطانهم في فلسطين، وقد
أصبحوا في العهد العثماني في القرن الثاني عشر الهجري أمراء نابلس و حكامها
المحليون.
-وفي مصادر اخرى، فأن آل
طوقان من عرب الموالي الذين كانوا يتخذون من معرة النعمان قرب حلب وطناً،
وينتسب الموالي لقبيلة طيء المشهورة.
-تلقت تعليمها حتى المرحلة الابتدائية حيث اعتبرت
عائلتها مشاركة المرأة في الحياة العامة أمراً غير مقبول فتركت مقاعد
الدراسة واستمرت في تثقيف نفسها بنفسها ثم درست على يد أخيها الشاعر
إبراهيم طوقان الذي نمى مواهبها ووجهها نحو كتابة الشعر ثم شجعها على نشره
في العديد من الصحف العربية.
-فقد أخرجت من المدرسة لأسباب
اجتماعية قاسية، جعلتها تتلقى أول ضربة في حياتها عندما ألقى القدر في
طريقها بشاب صغير رماها بوردة فل تعبيراً عن إعجابه بها، وقد وصفت فدوى تلك
الحادثة: "كان هناك من يراقب المتابعة، فوشى بالأمر لأخي يوسف، ودخل يوسف
علي كزوبعة هائجة (قولي الصدق)... وقلت الصدق لأنجو من اللغة الوحيدة التي
كان يخاطب بها الآخرين، العنف والضرب بقبضتين حديديتين، وكان يتمتع بقوة
بدنية كبيرة لفرط ممارسته رياضة حمل الأثقال.
أصدر حكمَه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي كما هدد بالقتل
إذا ما تخطيت عتبة المنزل، وخرج من الدار لتأديب الغلام.
قبعت داخل الحدود الجغرافية التي حددها لي يوسفـ، ذاهلةً لا أكاد أصدق ما
حدث. ما أشد الضرر الذي يصيب الطبيعة الأصلية للصغار والمراهقين بفعل خطأ
التربية وسوء الفهم".
-عانت فدوى طوقان قسوة الواقع الاجتماعي الذي قذف بها بعيداً بين جدران
البيت السماوي في البلدة القديمة من مدينة نابلس، تنظر إلى نفسها بشيء من
الخجل والاتهام، لقد فقدت أحب شيء إلى نفسها (المدرسة) التي أرادت أن تثبت
نفسها من خلالها، وحرمت منها وهي في أمس الحاجة لها تصف فدوى طوقان موقف
أبيها منها الذي لا يخاطبها مباشرة على عادة الرجال في زمانه- وإنما يخاطب
أمها إذا أراد أن يبلغها شيئاً، ثم تقوم أمها بعد ذلك بتوصيل ما يريده
أبوها منها، تقول:
"عاد أبي ذات صباح إلى البيت لبعض شأنه وكنت أساعد أمي في ترتيب أسرة
النوم. وحين رآني سأل امي: لماذ لا تذهب البنت إلى المدرسة؟"
قالت: تكثر في هذه الأيام القصص حول البنات فمن الأفضل وقد بلغت هذه السن
أن تبقى في البيت . "قال أبي:" حسناً" وخرج!
كان أحياناً إذا أراد أن يبلغني أمراً يستعمل صيغة الغائب ولوكنت حاضرة بين
عينيه، كان يقول لأمي: قولي للبنت تفعل كذا وكذا... وقولي للبنت إنها تكثر
من شرب القهوة، فلا أراها إلا وهي تحتسي القهوة ليلاً ونهاراً وهكذا.
-كان أشد ما عانيته حرماني من الذهاب الى المدرسة وانقطاعي عن الدراسة.
كانت أختي أديبة تجلس في المساء لتحضير دروس اليوم التالي، تفتح
حقيبة كتبها وتنشر دفاترها حولها، وتشرع في الدراسة وعمل التمارين
المقررة.
وهماً
كنت أهرب إلى فراشي لأخفي دموعي تحت الغطاء، وبدأ يتكشف لدي الشعور الساحق بالظلم.
-وفي وقت متأخر من ليل الجمعة الثالث عشر من ديسمبر لعام ألفين وثلاثة رحلت
فدوى طوقان عن عمر يناهز الخامسة والثمانين من عمرها، بعد رحلة عطاء طويلة
أصلت فيها لمرحلة جديدة من تاريخ الشعر الفلسطيني بشكل خاص والشعر العربي
بشكل عام.
علاقة فدوى بأخيها إبراهيم:
بدأت علاقة الشاعرة بأخيها إبراهيم منذ وقت مبكر من حياتها، وكان بالنسبة
لها الأمل الوحيد المتبقي في عالمها المثقل بعذابات المرأة وظلم المجتمع،
ورأت فيه الضوء الذي يطل عليها من خلف أستار العتمة والوحشة والوحدة.
وشكلت عودة إبراهيم من بيروت إلى نابلس، في تموز 1929 ، بعد أن أكمل دراسته
وحصل على شهادته من الجامعة الأمريكية ببيروت، عاملاً مساعداً لإعادة بعض
الفرح، إن لم نقل الفرح كله، إلى حياة فدوى طوقان، ورأت في قربه منها
عاملاً مساعداً في إعادة ثقتها بنفسها، وترسيخ خطواتها على درب التعليم
الذاتي الذي ألزمت نفسها به بعد أن أجبرت على ترك المدرسة، تقول:
“كانت عاطفة حبي له قد تكونت من تجمع عدة انفعالات طفولية سعيدة كان هو
مسببها وباعثها.
أول هدية تلقيتها في صغري كانت منه
أول سفر من أسفار حياتي كان برفقته
كان هو الوحيد الذي ملأ فراغ النفس الذي عانيته بعد فقدان عمي، والطفولة
التي كانت تبحث عن أب آخر يحتضنها بصورة أفضل وأجمل وجدت الأب الضائع مع
الهدية الأولى والقبلة الأولى التي رافقتها.
إن تلك الهدية بالذات، التي كانت قد أحضرها إلي من القدس أيام كان تلميذاً
في مدرسة المطران، تلك الهدية التي كانت أول أسباب تعلقي بإبراهيم ذلك
التعلق الذي راح يتكشف فيما بعد بصورة قوية.
كان تعامله معي يعطيني انطباعاً بأنه معني بإسعادي وإشاعة الفرح في قلبي،
لا سيما حين كان يصطحبني في مشاويره إلى الجانب الغربي من سفح جبل عيبال”.
وبعد إقامة إبراهيم في نابلس بدأ سطر جديد في حياة فدوى طوقان فنذرت نفسها
لخدمته والاعتناء به، وتهيئة شؤونه، ورأت في ذلك غاية سعادتها ومنتهى
طموحها، وقد بلغ من تعلقها بأخيها أنها كانت تخاف عليه المرض والأذى، فهو
الهواء الذي تتنفسه رئتاي كما تقول وكان إبراهيم يبادلها حباً بحب، يأخذ
بيدها، ويحاول تخفيف معاناتها، بخاصة عندما عرف بقصتها، وما حل بها من
فقدان المدرسة والتزام البيت، تقول: "كان قد علم من أمي سبب قعودي في
البيت، لكنه وهو الإنسان الواسع الأفق، الحنون، العالم بدخائل النفس
البشرية، نظر إلى ذلك الأمر نظرة سبقت الزمن خمسين سنة إلى الأمام لم
يتدخل، ولم يفرض إرادته على يوسف العنيف، لكنه راح يعاملني بالحب والحنو
الغامر.
وظلت
تتجمع الأمور الصغيرة لتصبح جسراً ينقلني من حال إلى حال".
ولم يترك القدر لفدوى هذا السراج الذي لاح مضيئاً في سمائها المظلم، فقد
أقيل أخوها من عمله في القسم العربي في الإذاعه الفلسطينية وغادر مع عائلته
إلى العراق بضعة أشهر مرض فيها هناك، ثم عاد إلى نابلس ومات فيها، تقول
فدوى: "وتوفي شقيقي إبراهيم فكانت وفاته ضربة أهوى بها القدر على قلبي ففجر
فيه ينبوع ألم لا ينطفئ ومن هذا الينبوع تتفجر أشعاري على اختلاف
موضوعاتها:".
وانكسر
شيء في أعماقي، وسكنتني حرقة اليتم.
فدوى طوقان والشعر:
كانت فدوى تتابع أخاها إبراهيم في كتابته للشعر، وتوجيهه للطلاب الذين
كانوا يكتبونه، وقد سمعته مرة وهو يحدث أمه عن تلميذين من تلاميذه قد جاءا
إليه بقصائد من نظمهما خالية من عيوب الوزن والقافية، فقالت "نيالهم".
وعندما سمعها إبراهيم، وهي تتكلم بحسرة، كأنها تلومه على عطائه مع تلاميذه
وتقصيره معها، فنظر إليها وصمت، ثم قال فجأة: سأعلمك نظم الشعر، هيا معي.
كانت أمي قد سكبت له الطعام، ولكنه ترك الغرفة، ولحقت به، وارتقينا معاً
السلم المؤدي إلى الطابق الثاني حيث غرفته ومكتبته. وقف أمام رفوف الكتب
وراح ينقل عينيه فيها باحثاً عن كتاب معين. أما أنا فكان قلبي يتواثب في
صدري، وقد كتمت أنفاسي اللاهثة، دقيقتين، وأقبل علي وفي يده كتاب الحماسة
لأبي تمام، نظر في الفهرس ثم فتح الكتاب عند صفحته بالذات، قال: هذه
القصيدة سأقرؤها لك وأفسرها بيتاً بيتاً ثم تنقلينها إلى دفتر خاص
وتحفظينها غيباً، لأسمعها منك هذا المساء عن ظهر قلب.
ولم يكن اختيار إبراهيم مجرد اختيار عشوائي فقد اختار لها شعراً لامرأة
ترثي أخاها، ثم يقول: لقد تعمدت أن أختار لك هذا الشعر لتري كيف كانت نساء
العرب تكتب الشعر الجميل، وبدأت رحلة فدوى طوقان مع الشعر تحفظ القصائد
التي يختارها لها إبراهيم، وبدأت تتعلم من جديد في مدرستها التي فتح
إبراهيم إبوابها، تقول:
“هـا أنا أعود إلى الدفاتر والأقلام والدراسة والحفظ، ها أنا أعود إلى جنتي
المفقودة، وعلى غلاف دفتر المحفوظات تلألأت بعيني هذه الكلمات التي كتبتها
بخطي الردىء، خط تلميذة في الثالثة عشرة من العمر، الاسم: فدوى طوقان.
الصف: شطبت الكلمة وكتبت بدلاً منها المعلم: إبراهيم طوقان. الموضوع: تعلم
الشعر. المدرسة: البيت.
وبدت مرحلة جديدة في حياة فدوى طوقان، مرحلة تشعر فيها بذاتيتها وإنسانيتها
وحقها في التعلم، وتجدد معها ثقتها بنفسها "أصبحت خفيفة كالطائر، لم أعد
مثقلة القلب بالهم والتعب والنفس، في لحظة واحدة انزاح جبل الهوان وابتلعه
العدم. وامتدت مكانه في نفسي مساحات مستقبل شاسع مضيئة خضراء كمروج القمح
في الربيع".
وحاول المعلم أن يختبر رغبة أخته الصغرى في تعلم الشعر، فتوقف عن مراجعتها
لفترة محدودة دون أية كلمة عن الدروس، وفي اليوم الرابع راجعته بصوت مرتعش:
هل غيرت رأيك؟ ويأتي الجواب منه سريعاً: لم أغير رأيي، ولكنني توقفت لأتأكد
من صدق رغبتك في التعلم، سنواصل اليوم الدرس.
بدأت فدوى طوقان تكتب على منوال الشعر العمودي، ومالت بعد ذلك إلى الشعر
الحر.
آثارها الشعرية:
صدرت للشاعرة المجموعات الشعرية التالية تباعاً:
1-ديوان وحدي مع الأيام، دار النشر للجامعيين، القاهرة ،1952م.
2-وجدتها، دار الآداب، بيروت، 1957م.
3-أعطنا حباً، دار الآداب، بيروت, 1960م.
4- أمام الباب المغلق، دار الآداب، بيروت ، 1967م.
5-الليل والفرسان، دار الآداب، بيروت، 1969م.
6- على قمة الدنيا وحيداً، دار الآداب، بيروت، 1973.
7-تموز والشيء الآخر، دار الشروق، عمان، 1989م.
8-اللحن الأخير، دار الشروق، عمان، 2000م.
وقد ترجمت منتخبات من شعرها إلى اللغات: الإنجليزية والألمانية والفرنسية
والإيطالية والفارسية والعبرية.
آثارها
النثرية:
1-أخي ابراهيم، المكتبة العصرية، يافا، 1946م
2-رحلة صعبة- رحلة جبلية (سيرة ذاتية) دار الشروق، 1985م.
وترجم إلى الانجليزية والفرنسية واليابانية والعبرية.
3-الرحلة الأصعب (سيرة ذاتية) دار الشروق، عمان، (1993) ترجم الى الفرنسية.
الأوسمة والجوائز:
1-جائزة الزيتونة الفضية الثقافية لحوض البحر البيض المتوسط باليرمو
إيطاليا 1978م.
2-جائزة عرار السنوية للشعر، رابطة الكتاب الأردنيين، عمان، 1983.
3-جائزة سلطان العويس، الإمارات العربية المتحدة، 1989م.
4-وسام القدس، منظمة التحرير الفلسطينية، 1990.
5-جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، ساليرنو- ايطاليا.
6-جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة - إيطاليا 1992.
7-جائزة البابطين للإبداع الشعري، الكويت 1994م.
8-وسام الاستحقاق الثقافي، تونس، 1996م.
9-جائزة كفافس للشعر، 1996.
10-جائزة الآداب، منظمة التحرير الفلسطينية، 1997م.
نتاج فدوى طوقان الأدبي في الرسائل العلمية:
أ
- الدكتوراة:
1- إنتاج فدوى طوقان الشعري، د. عبدالله الشحام، جامعة مانشستر، انجلترا.
2- سيرة فدوى طوقان الذاتية، مايا فان درفلدن، جامعة امستردام،هولندا.
3- فدوى طوقان: أغراض شعرها وخصائصه الفنية، د. ابراهيم العلم، الجامعة
اللبنانية.
ب - الماجستير:
1-الصورة، أثر الوجدان الإسلامي في إنتاج فدوى طوقان، يحيى الأغا، جامعة
القاهرة.
2- فرجينيا وولف وفدوى طوقان في السيرة الذاتية لكل منهما (دراسة مقارنة)،
سيرين حليلة، جامعة لندن.
3- الصورة الشعرية عند فدوى طوقان، خالد السنداوي، الجامعة العبرية.
4- فدوى طوقان في سيرتها الذاتية، ناديا عودة، جامعة بون، ألمانيا.
5- سيرة فدوى طوقان وأهميتها في دراسة أشعارها، رمضان عطا محمد شيخ عمر،
جامعة النجاح الوطنية، نابلس.
6- هذا عدا أبحاثٍ ودراساتٍ كثيرةٍ نشرت في الكتب والمجلات والدوريات
العربية والأجنبية. وثمة دراسات علمية أخرى صدرت مؤخرا ولم يتسن الاطلاع
عليها.
قالوا عن فدوى طوقان:
-"فدوى طوقان من أبرز شعراء جيلها، وما من شك في أن ما أسهمت به في دواوينها
يعد جزءاً هاماً من التراث الشعري الحديث".
من تقرير لجنة تحكيم جائزة البابطين للإبداع الشعري، 1994م
-"تميزت فدوى طوقان بروح إبداعية واضحة، وضعت شعرها في مقدمة الشعر
النسائي الفلسطيني إن لم يكن في مقدمة الشعر النسائي العربي".
شاكر النابلسي، من مقدمة كتابه "فدوى
طوقان تشتبك مع الشعر"
-"فدوى طوقان شاعرة عربية بديعة الأنغام، والتصاوير، والموسيقى، صاحبة
موهبة فنية رفيعة بين شعراء وشاعرات الوطن العربي المعاصرين"
د. عبدالمنعم خفاجي، من ملف جريدة البعث السورية عن فدوى طوقان
-"كان شعرها صوراً حية لتطورالحياة الشعرية بعد النكبة، ومن يمض في
قراءته، ويتدرج معه من حيث الزمان، يجد صورة وجدانية لحياة المجتمع
الفلسطيني وتطورها بفعل تطور الأحداث المشتملة عليه".
د. عبدالرحمن ياغي، من ملف جريدة البعث السورية عن فدوى طوقان
-"كانت قضية فلسطين تصبغ جانباً هاماً من شعر فدوى بلون أحمر قان، وكان شعر
المقاومة عندها عنصراً أساسياً وملمحاً رئيسياً لا يكتمل وجهها الشعري
بدونه...
من ملف جريدة البعث السورية عن فدوى طوقان
-"منذ أيام الراحل العظيم طه حسين لم تبلغ سيرة ذاتية ما
بلغته سيرة فدوى طوقان من جرأة في الطرح وأصالة في التعبير وإشراق في
العبارة"
الشاعر
سميح القاسم
فدوى طوقان
ورسالة "اللحن الأخير"..!
أحمد دحبور*
في الخطاب العربي السائد، يتردد، أحياناً، قول من نوع: "وأخيراً لا آخراً"،
وهو شكل من مماطلة الكلام تجاه الموضوع. من حيث كونه تعبيراً عن قطوف
النهايات، مع وعد بأن آخر كلمة لم تقل بعد. وهذا يعني أن الحوار مستمر،
ونهر الحياة متصل..
كانت شمس هذا اليقين تلزمنا، لنجرّ لحظة التفاؤل إلى منطقة الضوء، وعندما
وقفنا، بين الدهشة والغبطة، أمام شاعرتنا الكبيرة فدوى طوقان، وهي تتحدى
رهاب الزمن وقد تشبث بها الشعر، فتقدم "اللحن الأخير" في العام الألفين،
لتكون تلك مجموعتها الثامنة بعد "وحدي مع الأيام ـ وجدتها ـ أعطنا حباً ـ
أمام الباب المغلق ـ الليل والفرسان ـ على قمة الدنيا وحيداً ـ تموز والشيء
الآخر".. وعلى هذا فإن مجموعة "اللحن الأخير" تؤخذ بوصفها حركة في إيقاع
متصل نابض بالألم والفقد والعناد والاكتشاف. وتمدنا المصادفة الزمنية ببعد
رمزي، عندما نصحح خطأ شائعاً حول العام الألفين، فهو آخر القرن العشرين
وليس بداية الألفية الثالثة، وعلى هذا فإن "اللحن الأخير" هو خلاصة لتصفية
حساب مع قرن من الزمن، إيذاناً باستقبال عصر جديد.
ومما له دلالة أن آخر مجموعات الشاعرة في أعمالها المنجزة، هي "تموز والشيء
الآخر"، وتموز هو المنتصر على الموت، بما هو رمز للقيامة واستئناف الحياة.
وتؤكد فدوى طوقان هذا المعنى، موضوعياً، وربما من حيث لا تدري، في حديثها
المثير المدوي ـ في رأيي ـ الذي أدلت به لمجلة الوسط ـ العدد الصادر في
17/9/2000 كاشفة عن أن "اللحن الأخير" خلاصة تجربة حب عاشتها وهي في هذا
العمر مع رجل أحب عينيها وأحبت روحه. فهذه الفراشة المهددة بلهب الشرق
المميت منذ عقابيل الحرب العالمية الأولى، ظلت روحها الفولاذية قادرة على
الصمود، والانتقال من موقع إلى موقع في معركة الحياة. إنها هي هي الفتاة
التي أنشدت قبل زهاء نصف قرن "ألف انفعال ألف عاطفة ـ محمومة بدمي بأعراقي
ـ ماذا أحس؟ أحس بي لهفاً ـ حيران يغمر كل آفاقي" وها هي، أميرة الشعر
التي تقول هذه الأيام: "مازلت أحاور مالم يوجد ـ كي أعطيه وجود"، لا بمعنى
أنها تراوح في المكان، بل على النقيض، إنها تتقدم وتسأل وتتحقق، لكن الزمن
المكسور هو الذي لم يتقدم في شرقنا ووطننا إلا قليلاً.
لقد غيرت مجموعة "اللحن الأخير" خطتي الطموح. فقد كنت ـ بعد قصيدة
بانورامية كتبتها من وحي تجربتها وأهديتها إياها ـ أفكر في إعادة قراءة
مشروعها الشعري كله. وكانت الشاعرة الكبيرة قد طوقت عنقي بحوار أجراه معها
الكاتب المصري طلعت شاهين لجريدة أخبار الأدب" قالت فيه إن ما كتبته عن
شعرها هو الأهم، على كثرة الدراسات والرسائل الأكاديمية المكتوبة في شعرها.
لكن "اللحن الأخير"، مع التصريح الأخير بقصة الحب الأخيرة، أملى حضوره
الطاغي، فكان لا بد من هذه الوقفة المسترسلة. فما الذي أرادت فدوى طوقان أن
توصله إلينا، قبل ورقة النعي التي لم تستطع ست وثمانون سنة من منعها عن أن
تكون مباغتة لنا جميعاً؟
صداقــة الحياة
علينا أن نأخذ تصريح فدوى طوقان بالحب الأخير، على محمل الرمز لا المجاز.
هو رمز لأن قوة الحياة لا تعترف بوطأة الزمن. والحب علامة قوة، بل إنه لحظة
مصالحة مع الحياة وإنشاء صداقة معها بعد طول نبذ وصراع ومعاناة:
وعلمتني كيف تصبح دنيا المحال
البعيد المنال حقيقة
فتغدو الحياة صديقة
وهو ليس مجازاً مادام الواقع قادراً على أن يمدنا بالرموز من صميم حياتنا
اليومية. فنحن البشر، نولد ونكبر ونحب ونتألم، ننكسر وننتصر، فلكل منا
قصته، ولكن ذهاب هذه القصة إلى لحظة الإبداع، يعني الارتفاع بها من الشأن
الشخصي إلى الرمز العام. ودور الشعر، في أحد مستوياته، هو الحفاظ على سهم
الخلق الصاعد من الذات إلى الآخر. فالحب حالة خاصة بين حبيبين، لكن عندما
يكون أحدهما مبدعاً، فإنه، من خلال منطوقه الإبداعي، يتحول إلى ناطق باسم
المحبين الذين على شاكلته في العالم. ولقد كانت شاعرتنا تصدر عن هذا
المنطق من غير مواربة، فتؤكد "أنت المعنى، أنت الرمز" وعلى هذا فإن الحب
"يسع الأرض وأطباق السما"، بل أن هذا الحب أصبح ترسيخاً لوجود الذات المحبة
المبدعة "تأكيداً لوجودي ظل صديق العمر ونبض العمر". لكن هذه المعاني
المتسامية للحب لا تخرجه من سيرورة الحياة إلى المجاز المقارب للأفكار
والأحلام والأمنيات، بل إنها تتكثف وتتجسد في مشهد عياني. هكذا لن تهرب
الشاعرة إلى النفاق الاجتماعي فتدعي أن قصيدتها في الحب تنهل من لحظة أمان
معترف بها، بل تصدع بحق الحب على الصدق: "تحكي في همس عن حب، هو أغرب حب ـ
حب الأخت أخاها ـ حب الأم لواحدها ـ حب صديق لصديق ـ يا سيد قلبي هذا حبي
الطاهر لكن ـ في قلبي شيء آخر ـ يختبئ وراء الصمت" وإذا كانت لا تأبه
بالضاغط الظلامي الذي يسفه الفرح، ويعترض على صداقة الحياة، فإنها ليست
ملزمة بكشف أكثر مما تريد. إن من حق "الشيء الآخر" أن يظل محتجباً في صمتها
الحميم. وهذا ليس جديداً عليها. ألم تؤكد لحبيبها قبل خمس وأربعين سنة في
"القصيدة الأولى" من مجموعة "أعطنا حباً":
لا لا تسلني، لن أبوح به سيظل حبك سر أسراري
على أن السرّ المكنون لا يلبس قناع المسكوت عنه. فهي تعتصم بالصمت لا خوفاً
ولا حذراً، بل لأن الصمت مملكتها الجوانية المقدسة. وإذا كان من بوح فمن
خلال الفرح أو الأسى اللذين يتوهجان في الملامح، وينقلان رسالة المشاعر
الذاتية إلى الملأ الموضوعي:
.. كيف عبرت حقول الصقيع
بهذا التوهج ، هذا السطوع البديع؟
ولأن هذا التوهج منوط بالذات، فقد يومض وينطفئ، يقول ولا يقول، لكنه ينطوي
على المعنى الجميل. معنى أن نحب فنكون أكثر ألفة مع الوجود، وأكثر صداقة
للحياة حيث "طفل الحب يمضي سادراً في غيه لا ينثني عن عنفوانه".. وأي
عنفوان! إنه القلب الأخضر المعافى شاباً في ريعان ما بعد السبعين.
التقاط الفرصــة
ولأنه حب حقيقي، لا مجازي، فهو يتعرض كأي حب، للعواصف والصدمات، و يتطلب
استحقاقات الأرق والحيرة والألم: "النوم عصي ـ والليل تطول مسافته ـ والصمت
رفيق". ويأخذ الحب معادله الموضوعي من البحر، هذا الشاسع الذي ضاق بما رحب
"ويا بحر فات أوان اتساعك" لأن الحب يقلص المسافات زماناً ومكاناً فيكون
البحر هو "اللازمان" أما ماؤه فهو ملح الموت. لكن هذا ليس إلا أحد وجوه
البحر بما هو معادل للحب. لأن ثمة وجوهاً تسفر عن الصخب والسكينة، بل عن
المتناقضات جميعاً:
وأنت التوتر، أنت التمزق
أنت اختلاط العقول
وأنت الصراع وأنت الضياع
وحين تعبر الشاعرة عن خوفها من هذا المجهول "القوي العتي" المفعم باللا
أمان واللا نهاية يهدهدها البحر ـ أو الحب ـ فهو "عبقر الشعراء، مبدع
المعجزات" بل إنه يوشي نسيج الوجود بدر المحار وبمرجان القلب ومذاب
اللازورد. البحر هو الماء، وجعلنا من الماء كل شيء حي، والماء ميعاد وردة
الروح مع الحياة "أنا الماء محيي الموات" وإذ تطمئن الشاعرة لهذا المدى
المائي، تستسلم لقوة جاذبيته. فالبحر، كالحب، شيء كالقدر:
وأدخل في جسد الماء،
يا قوة الجذب أنت
فلبيك لبيك
وهي لا تكتفي بالذهاب إلى هذا البحر اختياراً نهائياً. بل تمنحه الصفة التي
يستحق: أنه سيد الأرض. وأن يكون البحر معادلاً موضوعياً للحب، يعني أن
الطبيعة شريكة في اختلاجات القلب واختلاط المشاعر. لقد كان البحر مفتاح
الربيع، ولكن للشتاء دورته أيضاً" وأقبل ديسمبر الجهم نحوي يحث خطاه ـ يلفع
بالثلج جسم المساء الكئيب". فمادام الحب بحراً، فهو مد وجزر. وينسحب هذان
النقيضان على قوانين الطبيعة كلها بحيث يغدو القمر "على طرف الكون يزحف
واهي الخطى نحو كهف المغيب". هكذا تأخذ مانوية الحياة بعديها المتضادين من
نواميس الوجود. فإذا كان ربيع، فإن ثمة شتاء "وريح الشتاء تعري الوجود ـ
وتفرغه من هبات الحياة" لكن المحبة لا تستسلم. فهي الوردة المعجزة القادرة
على استحضار بشاشة الربيع، بل وتغيير منطق دورة السنة:
وغيرت طقس الفصول
ولامست معجزة الخلق والمدهش المستحيل
وتحتفل اللغة في شفتيها ومع مداد قلمها فثمة انتشاء وارتواء وجمال وثراء
وكل ينابيع هذا الفرح، وكل ابتسامات قوس قزح. فالشاعرة التي تدرك محدودية
الحياة، تدرك أيضاً أننا نستطيع أن نوسع هذه الحياة، وأن نجعلها أكثر
جمالاً، بالتقاط الفرصة حيث يغرق هذا العالم في الموسيقى ونغني أصفى أشعار
الحب المتوهج: "ما أحلى الحب وما أبهاه ـ يحيا بين يديه رميم".
الصمت والصــوت
تبدو حاسة السمع، التي لا بد وأن نشفعها بما يمكن أن نسميه السمع الحدسي،
وكأنها بوابة الشاعرة لولوج العالم. وقد يصعب إحصاء المرات التي تتواتر
فيها كلمتا الصمت والصوت. فالصوت هو رائحة الحبيب، وهو أيضاً أفق الخيال:
ما الذي يجعل من صوتك أفقاً
خارج الأرض إذا ارتاد
فضاءات القصيدة
وللصوت أيضاً بعده غير المحسوس، هذا الذي يلتقط سمع الشاعرة حدساً
وتخميناً: "إنك إيقاع حياتي ـ والنغم الأحلى في عمري" ومادام كذلك، فإن
لصوت الحبيب مستوى ميتافيزيقياً لا نعرف من أين تستقبله هذه المحبة
السعيدة: "يأتيني صوتك من أقصى أقصى الدنيا" وليس هذا الصوت الحبيب آمراً
ناهياً يترك الشاعرة في موقع المتلقي السلبي، فهي تتلقف هذا الصوت لتصبح
إنسانة مختلفة بحس مختلف ورؤيا قادرة على الكشف وصولاً إلى لحظة الإبداع.
إن صوت الحبيب "يعمق فيّ الحس ـ يوسع فيّ مجالات الرؤيا ـ يفتح لي آفاق
الكشف ـ يشرع لي أبواب الشعر"، وعلى هذا فإن الصوت هو معراج باهر الضوء،
يتحول إلى فرح دائم "يحتضن القلب كما فرح البنت بثوب العيد". وإذا كان شعر
فدوى يرفل بالضوء عرساً بصرياً، والزهر فاكهة الرائحة، والنكهة طعماً
وذوقاً، فإن الصوت يبقى الأهم. لأنه وسيلة عناق الروحين والعقلين معاً.
والشاعرة لا تفسر الظاهرة، بل بها تحتفل، وفي فمها سؤال معروف الجواب:
ما الذي يجعل من صوتك نهرين
يفيضان بأعماقي حنيناً وشجن
والحنين يصلها بالماضي. أما الشجن فهو اللاحم بين الماضي و الحاضر. وحين
نتذكر، في شعر فدوى أن الصوت يأتي من الأقاصي البعيدة، فهو أيضاً رباط
المستقبل. وبهذا يكون صوت الحبيب سيداً لزمان شاعرة تعرف كيف ترد على الصوت
بالصوت. والشعر صوت وكذلك الغناء. بل إن الكتابة بحد ذاتها هي صوت الروح.
وحين تكتب صمتها فإنما تعيد إنتاج الصوت على طريقتها وبمقاسها الوجداني "في
صمتي رؤيا تتسع وتكبر ـ والكلمات تضيق". لهذا فإن ذروة المعاناة هي في صمت
الشعر. لقد أدارت حوارها مع العالم بالشعر، وحين يصمت الشعر فمعنى ذلك أنها
تضرب عن الاتصال بالوجود، فيمحي الحب ويختفي الصوت: "صمت الشعر فلا رجع
صدى" والشعر عندها علامة حياة بل علامة الحياة، فإما الشعر وإما "أنني ما
زلت أحيا خارج الموت البطيء".
بهذا لا يكون التعارض بين الصوت والصوت ترفاً مانوياً في عالم فدوى طوقان.
بل هو جدل الكينونة في ارتقائها إلى لحظة الصيرورة: يأتي الصوت فيولد الصوت
الآخر، وقد ينبئ صوت الشاعرة عن صمت شفاف، هو استمرار الجدل. أما الصمت
المطبق. صمت العدم، فهو انكسار التجربة الذي يعبر عنه موت الشعر.. ولن يموت
الشعر في اللحن الأخير.
الطفلة وردة المرأة
لئن نجحت فدوى طوقان، من حيث لم تخطط، في إنشاء هذا الجدل الخلاق بين
الصمت والصوت، لقد نجحت كذلك في الجدل بين الطفلة التي تسكنها وبينها وهي
في سن الحكمة والنضج والخبرة الكبيرة. ولهذا تلزمنا وقفة خاصة مع قصيدتها
أنشودة الحب التي تستقصي رحلة العمر منذ أن:
كان وراء البنت الطفلة عشرة أعوام
حين دعته بصوت مخنوق بالدمع:
حنانك خذني
والطفلة التي لم يتشكل وعيها بعد. ولم تنضج مساحة شعورها، تظل مخطوفة إلى
الغامض المجهول. إلى الآخر. وليكن أباً وأماً أو أهلاً لا على التعيين. لأن
ما تحس به هو أنها "وحدي أنا ـ لا شيء أنا ـ أنا ظل". ومشروع الشاعرة
المشروع، فيما تتحول الطفلة إلى أنثى، هو أن تخرج من لا شيئيتها، وتتحقق
بكيانها، لا بكونها ظلاً للآخر. إلا أن السد الكتيم تمثل في انقطاع الحوار
مع العالم. وكيف يكون حوار والكون مهجور "فيه الحب تجمد ـ فيه الحس تبلد"
أما سهمها الصاعد باتجاه كينونتها، فهو بحجم وعيها الطفلي "وأنا الطفلة
تصبو للحب وتهفو ـ للفرح الطفلي الساذج ـ للنط على الحبل ـ وللغوص بماء
البركة ـ للهو مع الأطفال". ولأنها تكتب شعراً ولا تسرد حكاية، فهي لا تخبر
أن ثقافة مجتمع الذكور كانت تمنع هذا الصعود التلقائي. لكنها تشير إلى ذلك
بالتجريد والتعميم: "القمع يعذبني – والسطوة ترهبني" وإلى ذلك يبدو جسدها
ضعيفاً أمام التحديات "والجسم سقيم منهار". من هنا كانت حاجتها إلى الآخر،
هذا الغامض غير المحدد ، فتدعوه بما يشبه الصلاة:
أغثني
خذني من عشرة أعوامي
من ظلمة أيامي خذني
وها هي "لوليتا" تتهجى أبجدية الآخر فقد تسللت مفردات من نوع الحضن والصدر
ولكنها محروسة باللغة العامة التي تبعد شبح الإحساس الغريزي ـ أنثى لرجل ـ
فتحوم حول خلاص المطحونين والمنبوذين والمحرومين، مع الضرب على وتر: خذني،
خذني.. إلى أن ننتقل إلى المقطع الثاني مع نهر الأيام، حيث "يمر العام وراء
العام ـ الطفلة تكبر والأنثى ـ وردة بستان" وتتفتح الوردة، ويصبح للأطيار ـ
بما هي رموز للذكر ـ معنى ملموس. فقد ابتسم الحب وفاض عليها "من كل جهات
الدنيا ـ ليطوقها بتمائمه ـ ويباركها بشعائره ـ ويساقيها من كوثره" وهي لم
تحصل إلى هذه اللحظة إلا بعد "تخبطها في ليل متاهة" ولكن القلب انتصر على
العقل والفكر والأفهام. بتعبير آخر، على النواهي والزواجر. فهي إزاء "كون
مكتمل ومعافى ـ تتماهى فيه أنا مع أنت"، ولها أن تندى الأرض. وتخضر حتى
العظام، أما الزمن المسحور فيقاس "بدقات القلب المبهور". إنها قصيدة
احتفالية. نشيد للحب والحياة. لكن مأساة فدوى، وبنات جنسها ووطنها، أن
العالم ليس مغلقاً على قصيدة واحدة، فلا بد من انكسار يتلو هذا الفرح، ولن
ننحو باللائمة دوماً على الظرف الموضوعي. فهذا الظرف الموضوعي أنتج كوابح
وضغوطاً على الذات، حتى أصبح للذات مشكلاتها المركبة. وقد وعت الشاعرة هذه
الحقيقة في وقت مبكر، فكتبت منذ عام 1959 في تقديم قصيدتها "لا مفر" تقول
بوضوح:" لا أومن بجبرية تأتينا من الخارج، وإنما الجبرية تكمن في داخل
الذات، هي جزء لا ينفصل عن النفس.. ومن هنا مأساة وجودنا الإنساني" وهكذا
فإننا إذا فرحنا بإقبالها على الحياة، بعد أن تفتحت الطفلة وردة في بستان
الأنثى، فلن نلبث أن نرى كم في هذا البستان من الجراح التي خلفتها الأشواك.
مـوت الحب
لا أذكر اسم الشاعر الفرنسي الذي قال إن تراجيديا الحياة تتمثل في أنك إن
مددت يديك على وسعهما لاحتضانها، فإن ظلك سيرسم على الأرض شكل الصليب.
والصليب هو رمز العذاب. وها هي شاعرتنا الممتلئة بالحب، تكتشف أن الحب لم
يكن إلا "ومضة وانطفأت في أفق العمر ولم تترك أثر ـ عبرت لمح البصر ـ
وتلاشت في تلافيف الزمن" بل إن الزمن ميت لم يسفر إلا عن "زفرة أو عبرة أو
بعض لوعة ـ خيط حزن، غصة، ظل شجن" وقد تنحني الشاعرة أمام التحدي فتعترف
بالانكسار شيئاً، أمام "هجمة العمر ومن وطء السنين" فقد هنأها الحب بمساء
الخير ومداعبة الأجفان إذا الصبح تنفس واحتل مساحة ليلها ونهارها "فلسفة
لوجودي ظل، ونبعاً" لكن عطباً ألم بالتجربة.
وصحوت على
حلم كابوس جهم ذات صباح
ولأن الشاعرة إحدى ملكات الصمت والأسرار، فإنها لا تبوح، بل تكتفي بلوم
القدر، هي التي تحدثت من قبل عن الجبرية الذاتية، ولن تخبر عن سبب هزيمتها
الجديدة إلا بأن الحب اغتيل" طعنته سكين الأقدار ـ وسقته كأس الموت المرة"
بل إنها تشيع هذا الحب كما نشيع ميتاً عزيزاً "أكذا تغتالك صاعقة القدر
الهوجاء ـ أكذا تذروك رياح القدر المشؤوم ـ يا أجمل ما خلق الله ـ فليرحمك
الله". على أن الحب الميت لا يكتفي بما يورثه من حسرة ، بل إنه يترك مكانه
بغضاً ومقتاً:
كل شيء عاد ، لا شيء سوى بغض عنيف
طلعت نبتتة السوداء من حب عنيف
هكذا يصبح الحبيب غريماً بعد أن ظللها بما يشبه شجر الجنة. ولا جنة الآن
بل "تقلبت على نار الجحيم". لقد تلاشى الوهج الذهبي، وانقشع الوهم ليكون
الحصاد المر تعبيراً عن نهاية عمر. فالحب هو مسوغ العمر وحين يتلاشى فما
جدوى العمر؟ بل إن الحب رحلة نوعية في تجربة تسفر عن اعتراف أليم: "رجعت
بخفي حنين ـ بكفين فارغتين". ولا يبقى إلا أن تلوم القدر الذي يلوح من بين
السطور أنه ليس الملوم الوحيد، فالمشكلة في الأرض بمعنى المكان، وفي الفراغ
وفي المتاهة:
قدر رماك على فراغ
لا تقلك فيه أرض
لا تظلك في متاهته سماء
بل إنها حين مدت يدها لمصافحة الحياة التي عقدت معها ـ كما كنا رأينا ـ
صداقة، فإن الذي صافحها هو الهواء. فثمة خلل ما. خلل في المدى المحيط، حيث
يمتد الفراغ: "هذا الفراغ هو الحقيقة ـ ما من أحد ـ ما من أحد".
مواصلة الصراع
على أن الفراشة الفولاذية جديرة ببنية روحها. فبقدر ما يبدو الجسد هشاً
ويتجلى الجرح عميقاً، تظل الروح مشدودة إلى الأقاصي. عصية على الترويض
و"يظل الشعر والحب قريبين من الجن لصيقين به لا يبرحانه" لأن طفل الحب لا
ينثني عن عنفوانه. وحين تبرز المحبطات، يبرز، بموازاتها، بأس الأعماق
والاستعداد للجولة الجديدة:
وراءك شوط طويل المدى
سفحت عليه سنين العمر
لقد عركت الحياة وفلسفتها، ذاقت حلوها ومرها، وصابرت على الوجه المكفهر.
لكن ذلك الشيء الصلب، الداخلي، ظل عصياً على الهزيمة:
فحسبك أنك لم تهزمي
ولا حطمتك سهام القدر
وإلى أن تبرأ الجراح، ويتحامل الجسد للنهوض فالمسير فالوصول، ستظل تواسي
قلبها الغوي ولا تتأسى على الحب، بل تخادع حزنها العصي بالضحك. فبعد كل
شيء، يظل هناك كوكب "لم يزل مجراه يجري باتجاهي". لقد افتتحت الشاعرة
مجموعتها هذه بأغنية تختزل الأسى والخيبة والهزيمة لكنها تنتهي بصيحة الأمل
الخفي. ربما كان أملاً في أرض غير موجودة. لكنه كائن:
يبقى الأمل المنشود
بعيداً جداً
يستوطن أرض اللاموجود
ولهذا فهي تستحث "أخا الروح" ألا يموت، وتراهن على الضوء والنكهة والمعنى.
بل إن هذا الحب ـ لا إخفاقه ـ نوع من القدر، ولو حاولت أن تنأى عنه فسيظل
في داخلها ما "يشدك قسراً إليه ـ بأي جناحين أنت تطيرين هاربة منه.."، وهي
تستجيب لهذا القدر الجميل، فلا فرار من مواصلة الصراع مادامت محكومة
بالشعر. والشعر، كالحب، علامة حياة، وله على قلبها "سطوة السيد والمولى
الأمير" حتى لتتساءل أن تتساءل ونحن نعرف الجواب" ما الذي يمكن أن يفعله
قلب يحب الحب للحب وللشعر وللمعنى الجميل". بهذا لا يفوت أوان اتساع البحر.
وسيظل اللحن يعزف أخيراً لا آخراً. لتكون رسالة الشاعرة هي مواصلة الحضور
في العالم. قد يكون هذا العالم بيتاً موحشاً. قد لا يكون أماً وليس فيه
أهل. بل إن الحبيب يختفي صوته والصمت يسود، لكن للروح احتياطياتها الدفاعية
الهجومية "فرحاً وموسيقى وأعياداً وأشعاراً وشمساً أشرقت في جنح ليل
زمهريري طويل".. ولم ينتصر الزمهرير على شمس فدوى طوقان الدافئة، بل إن هذه
الشمس من شأنها أن تحرس بدفئها تجارب الأجيال الراهنة والقادمة.
شجـون اللحن الأخير
حين دفعت شاعرة فلسطين الكبيرة فدوى طوقان، بمجموعتها هذه إلى النور، لم
تكن تطلب تأكيد وجود هو مؤكد بألف علامة وإشارة. وكما قلت في البداية، لم
تضع لحناً أخيراً لاختتام الرحلة، بل كانت في صميم سيرورتها التي أدت إلى
هذه الخلاصة الشعرية. لقد ابتدأت حياتها الوجودية والشعرية بالقول: حياتي
وعود، وحزن وديوان شعر وعود. وظل الحزن وديوان الشعر علامتيها المتجددتين
باستمرار، حتى ليمكن للقارئ المجرب أن يعرف أن هذه القصيدة أو تلك، من شعر
فدوى حتى لو لم يكن اسمها مطبوعاً، ولا يعني هذا أن في الأمر تكراراً، بل
هو العمل على ثيمة فنية ذات خصائص مميزة. لكنها تحمل ثراءها في داخلها من
خلال اتساع التجربة الوجودية والثقافية. على أن فدوى المرتبط اسمها بجملة
التجديد في الشعر العربي المعاصر، تبدو في هذه المجموعة أحياناً، وقد خفت
قبضتها التي لم تكن متسامحة مع العبارات التقليدية، فوقعنا على كلام من نوع
"الأمل المنشود ـ وهزيم الرعود ـ المساء الكئيب ـ أخو الروح ـ النبراس
المضيء ـ الغيث همى ـ حبي الطاهر ـ شغاف القلب ـ رجع الصدى ـ سهام القدر ـ
كأس الموت المرة ـ انقشع الوهم" وقد يكون من حق الشاعر الحديث أن يستخدم
أمثال هذه الكليشهات، لكن في إطار النص الغائب، حيث يستحضر المألوف شاهداً
أو مفارقاً لغير المألوف. أما أن يتم استخدامها كما يستخدمها الذين ثار جيل
فدوى عليهم، فهو نوع من التساهل الذي يحرج حساسية الحداثة. إلا أنه من حسن
حظ الشعر أن مثل هذه العبارات كانت تمر لماماً في "اللحن الأخير"، ولم
تتنازل الشاعرة عن أي انتصار جوهري مما أحرزه الشعر الحديث، فضلاً عن أنها
أنجزت مجموعة شعرية متجانسة، حتى لتبدو قصيدة درامية يحكمها الصراع بين
المد والجزر، والشد والجذب، والحزن والفرح، واليأس والأمل. وقليلة هي
المجموعات الشعرية (مما نقرأ هذه الأيام) التي تنشغل بالوحدة العضوية لا
داخل القصيدة، فذلك من تحصيل الحاصل إذا كنا نطلب شعراً حقيقياً، ولكن من
داخل المجموعة كلها. بل إن شعر فدوى كله، بهذا المعنى، هو قصيدة متصلة
تتجوهر وتتأصل وتتجدد. إنها لا تركن للمناسبة، لكنها تستطيع أن تفجر من
المناسبة فضاء شعرياً عابراً للزمن، كما فعلت في رثائها لأخويها إبراهيم
ونمر، وفي قصائدها المرتبطة بفلسطين نكبة وسؤالاً وثورة وانتفاضة. وإذا لم
تمر فلسطين بهذه المجموعة الأخيرة، فلأن السياق لم يقتض ذلك. ولكن: منذا
الذي يزعم أن فلسطين لن تكون ساطعة الحضور لمجرد مرور اسم فدوى طوقان؟
ثم ماذا؟ قد تفاجئنا فدوى، بعد غيابها، بأشعار كانت تخبئها ضمن ما وصفته
بسر أسرارها. وقد لا نجد في أوراقها جديداً. وإن كنت أراهن شخصياً على
"الكنوز" التي احتفظت بها من الأشعار "المحظورة" لشقيقها الشاعر الكبير
ابراهيم طوقان. ومع ذلك تعالوا نعترف بأن هذه الثمانينية الرقيقة قد حرست
الطفلة في روحها، وأبعدتها عن لواقط فضولنا. فهي التي قالت في واحدة من
أجرأ ما كتبته النساء في الحب: حزني أعز وأقدس من أن يقال..
من حقها أن تأخذ حزنها معاً.. ولكن من ينكر أنها تركت لنا حزناً غير محسوب،
لأن علينا منذ 12/12/2003 أن نواصل الحياة وليس فيها من فدوى طوقان إلا
أشعارها التي توجتها باللحن الأخير.
*شاعر فلسطيني
|