أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب الكبير: عبد المجيد بن جلون / 1919-1981

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

عبد المجيد بن جلون (1919-1981) كاتب مغربي, اتسمت كتاباته بالتنوع بين الأجناس الأدبية المختلفة.

 

وقد ترك لنا مؤلفات ونصوصًا تعرف قارئها بالكثير عن المغرب: عن أهله وثقافته, وعن فترة الاستعمار الفرنسي, وعن مقاومة المغاربة له ونضالهم من أجل الاستقلال.

 

ولد عبد المجيد بن جلون بالدار البيضاء, لكنه قضى طفولته مع أسرته في بريطانيا, ثم عاد به والده إلى فاس, حيث التحق فيها بجامعة القرويين, ثم أرسل للدراسة في جامعة القاهرة التي نال منها الدبلوم العالي للصحافة.

 

نشر عبد المجيد بن جلون مقاله الأول في مجلة (الرسالة) المصرية عام 1936, قبل أن يصل إلى القاهرة بعامين, كما نشر قصصه الأولى في مجلة (الثقافة) المصرية, ثم ضمها ـ فيما بعد ـ في مجموعته القصصية الأولى الرائدة في الأدب المغربي, (وادي الدماء).

 

ثم تابع ابن جلون نشر القصص والمقالات والموضوعات في الصحف والمجلات القاهرية طوال إقامته في العاصمة المصرية التي امتدت لثمانية عشر عاما.

 

وفي القاهرة, أسس عبد المجيد بن جلون (مكتب المغرب العربي) عام 1947, وتولى أمانته العامة. وبعد أن نالت بلاده الاستقلال, عاد إليها ليرأس تحرير جريدة (العلم).

ثم عمل سفيرًا للمغرب في باكستان, وعاد إلى وطنه عام 1961 ليواصل العمل في وزارة الخارجية, دون أن ينقطع عن الكتابة والترجمة والنشر في الصحف المغربية.

 

من مؤلفاته:

(وادي الدماء) (قصص),

(هذه مراكش), (مارس استقلالك), (براعم) (ديوان شعري),

وسيرته الذاتية (في الطفولة) نشرت لأول مرة في حلقات أسبوعية بمجلة (رسالة المغرب), 1949.

وقد كانت السيرة الذاتية في ذلك الوقت لونا جديداً من الكتابة وفتحًا في الأدب المغربي,

الذي يعدّ عبد المجيد بن جلون أحد أهم رواده المحدثين.

وكانت آخر أعماله المنشورة قبل وفاته قصيدة بعنوان (زورق ينساب)(1961).

نماذج من أعمال الكاتب

 

 

في الطفولة2 

في الطفولة1

في الطفولة6

في الطفولة5

في الطفولة4

في الطفولة3

في الطفولة10

في الطفولة9

في الطفولة8

في الطفولة7

في الطفولة14

في الطفولة13

في الطفولة12

في الطفولة11

في الطفولة18

في الطفولة17

في الطفولة16

في الطفولة15

في الطفولة19

في الطفولة20

في الطفولة21

في الطفولة22

 
 

في الطفولة

 

 

1

 

 

لو أنني كنت أعرف شيئًا عن الأفلاك والأبراج وطوالع الكواكب لما نفعني ذلك في معرفة هل اليوم الذي ولدت فيه كان يوم سعد أو يوم نحس, ذلك أنني لا أجهل هذه الأشياء فحسب, ولكنني أجهل اليوم الذي ولدت فيه أيضًا.

 

ولست حانقًا في ذلك على أحد, لأنه يتناسب مع الغموض الذي أحسُّه كلما حاولت أن أتذكر أيامي الأولى, وماذا يفيد الإنسان أن يعرف الساعة واليوم والشهر والسنة التي ولد فيها, ما دامت السنون التي سوف يقضيها في الحياة مجهولة, وما دام هناك مقياس للطفولة والشباب والكهولة والشيخوخة, وهو أصدق في الدلالة على عمره من أيام يشغل نفسه بعدِّها.

 

لا أستطيع أن أتذكر بالطبع كيف شرعت في الحياة, ولكن لا شك في أنني كنت أرفع صوتي بالعويل في الشهر الأول, ولا شك أن ملامحي كانت رخوة ليتمكن الناظر إليها من تخيل الشكل الذي سيتخذه في النهاية هذا المخلوق الجديد. ولا شك في أن أول ما أحببته من الدنيا الجديدة التي أقبلت عليها كان هو الرضاع, وأن أول مكروه أصابني هو الفطام.

 

إنني كلما انحدرت مع الماضي أفضت بي الحوادث في النهاية إلى عالم غامض, مثل الذي استفاق من حلم نسيه قبل أن يستفيق, لا يمنعه هذا النسيان من تذكر العاطفة التي كانت مسيطرة عليه أثناءه, فهو يستطيع أن يقول إن الحلم كان مزعجًا أو هنيئًا, بالرغم من أنه لا يتذكر منه شيئًا. أما العاطفة التي أكاد أشعر بأنها كانت مسيطرة على نفسي في ذلك الحين, فهي مزيج مبهم من الاستغراب والخوف والتطلع. كنت كالذي اكتشف حدود مدينة قديمة فجأة, أستغرب للفجأة, وأخاف مما قد يكون في داخل المدينة, ولكن تطلعي الممزوج بالفضول يدفع خطواتي إليها.

 

حتى إذا كبرت قليلاً واستأنست بالمحيط الذي ولدت فيه بدأ الأمن يعود إلى نفسي. ولكن هذه المرحلة أيضًا لا تدخل في دائرة الذكريات. قيل إنني ولدت في مدينة الدار البيضاء ثم قضيت في تلك المدينة بضعة أشهر, ثم ركبت البحر بين ذراعي أمي إلى إنكلترا. وقد كان ذلك بعد الحرب العالمية الأولى, أي أنني مررت في بلاد حديثة العهد بالحرب, ومع ذلك لا أذكر منها شيئًا يدل على أنني كنت أنتفع بالنظر أو التمييز.

 

وقد عرفت الحياة لأول مرة في مدينة منشستر, ولا بد أن وقتًا ليس بالقصير قد مر قبل أن تبتدئ ذاكرتي في اختزان الصور. والصور الأولى القديمة التي أحتفظ بها في نفسي قليلة تعد على أصابع اليد.

 

فتحت عيني فإذا أنا في منزل قديم يحيط به الغموض والإبهام, كانت حديقة كبيرة تقع خلفه كثيرا ما أشرفت عليها من النافذة, وتقع أمامه حديقة صغيرة يحدها حاجز حديدي طويل يقوم بين المنزل والشارع ويخترقها ممشى قصير يفضي إلى بوابة عالية من حديد. كان البيت يتألف من ثلاثة أدوار, كبير الأبهاء والغرف ضخم النوافذ ملون الزجاج. وكانت هذه الأوصاف تجعلني لا أطمئن إليه أبدا. ولم يكن للحديقة الخلفية الكبيرة بستاني, ولذلك كانت وحشية النباتات, تنتهي بأشجار ضخمة تبعث رعباً مبهما في النفس. وكنت أرى من آن لآخر هرّا أو كلبا يجري خلال الأعشاب, ثم يقفز فوق الحاجز ويختفي . وكثيرا ما ساءلت نفسي عن هذه الأشياء التي تتحرك ومع ذلك فهي ليست في شكل الإنسان, وما أزال أذكر أن هرًّا عظيم الهامة داهمني ذات يوم, فصرخت حتى كاد يغمى عليّ. ومما زاد في يقيني بأن هذه المخلوقات مخلوقات شريرة أن أهل المنزل كانوا يطاردونها. وكانت النوافذ الضخمة ذات الزجاج الملون تثير في نفسي القلق لضخامتها وللأضواء الملونة الحزينة التي كانت تنفذ منها, أضف إلى هذا الضباب والثلوج وشدة البرد, فقد تعاون ذلك كله على إثارة خيالي العاجز, حتى تأصل الرعب في نفسي.

 

أما الأشخاص الذين كانوا حولي فهم أبي وأمي والمربية. وكانت علاقتي بالمربية أمتن من علاقتي بأبي الذي كان يغيب عن المنزل طول النهار فلا أراه إلا ليلاً, وأمتن من علاقتي بأمي فقد كانت شابة ضعيفة; لا تمكنها صحتها الواهية من الاهتمام بي.

 

وكانت المربية مثلنا من مراكش, ولم أكن أفارقها لا في الليل ولا في النهار, وكنت أستغرب لكثرة ما تعرف, فهي لا تنفك تحدثني عن بلاد بعيدة تقول إننا جئنا منها, بلاد تشبه أحداثها أحداث الخرافات والأساطير, وكانت تروي لي كذلك أقاصيص الصغار. وقد كان لمثل هذه الأساطير عليّ تأثير شديد حتى نشأ عندي بعد ذلك ميل إليها, وقد أثارت في نفسي عالما يعج بالأشباح والحيوانات والمخلوقات الخيالية.

وقد كنت متأكدا من أننا أربعة أشخاص نعيش في هذا المنزل, كما كنت متأكدا من أنني أعرف كل غرفه ومداخله ومخارجه, بحيث لم يكن عندي أي شك في أنه لا يمكن أن يكون هناك أحد لم أره, فما راعني ذات يوم إلا أننا أصبحنا خمسة أشخاص! فمن أين أتى هذا الشخص الخامس?! هو طفلة صغيرة اندست بيننا وأزعجتنا بعويلها وصراخها. وقد كنت أعرف أن الذين يزوروننا ليسوا منا, فلا داعي للاستغراب من وجودهم, ولكن هذه الطفلة منا وهم يقولون عنها إنها أختي.

 

راقني جدّا أن تكون لي أخت. ولست أستطيع أن أنسى الغبطة التي شعرت بها عندما رفعوني لأنظر إليها وهي نائمة في مهدها. ومن يدري?! لعلها أعادت إلى ذهني ذكريات كانت قريبة مني يومذاك, ولكنها ضاعت مني الآن بعد أن تراكمت عليها الأيام والسنون.

 

واقترن بهذا الحادث حادث آخر كاد يُطير صوابي, ذلك أننا تعارفنا مع عائلة إنكليزية تدعى (آل باترنوس) وهي تشمل أمّا وثلاث فتيات وشابين, وكثرت بيننا الزيارات حتى توثقت وشائج الود بيننا, وكان هؤلاء الأفراد يحبونني برعايتهم ومحبتهم, وربما قضيت في منزلهم اليومين أو الثلاثة. وكان منزلهم الصغير يذهب عن نفسي ما أحس به من الوحشة في منزلنا, ولذلك كنت أحرص على أن أصحبهم إليه كثيرا, ثم بدأت أشعر بأنهم يتحاشون مصاحبتي معهم, وبدأت أسمع أن الأم مريضة, ثم قيل ذات يوم إننا سنزورهم. وما كدت أقترب من البيت مع المربية حتى شعرت بأن سحابة من الحزن تظلله. ودخلناه فإذا بجو غريب مكتئب يملأ أرجاءه, وإذا بالدموع الصامتة تنحدر من العيون, والذهول مرتسم على الوجوه, وقضينا بعض الوقت لاحظت خلاله حركة غير عادية محورها غرفة في الدور الثاني. حاولت أن أفهم ولكنني لم أستطع, حتى إذا انصرفنا سألت المربية ونحن في الطريق:

 

- لماذا يبكون يا ماما?

 

- مسز باترنوس.

 

- ما لها?

 

- كانت مريضة.

 

- هل يبكون لأنها كانت مريضة?

 

- لا.

 

- وإذن لماذا يبكون?

 

- لأنها سافرت وسوف لا ترجع أبدا, فلا تستغرب إذا أنت زرتهم ولم تجدها. سافرت إلى بلاد بعيدة, لا يرجع منها من يسافر إليها.

 

ثم قالت وكأن الكلمة قد أفلتت منها: ماتت يا بنيّ.

 

ماتت! إنه فعل أسمعه لأول مرة. وبالرغم من أنني لم أعرف مدلوله, فقد أحسست بقشعريرة تسري في جسمي الصغير, فسألت:

 

- ماذا يعني ماتت?

 

- ذهبت عند الله.

 

- ومن هو الله?

 

همست بنزعتها الدينية: اسكت.

 

ثم بعد هنيهة أردفت:

 

- حينما نجلس في المساء إلى المدفأة سأحدثك عنه.

 

وجلسنا إلى المدفأة في المساء وقد استولى على نفسي هذا الحوار منذ سمعته فلم أفكر في شيء غير الله والموت.

 

وكانت الغرفة كبيرة ذات نوافذ عالية تظهر من ورائها الحديقة الموحشة, وذات أثاث ضخم عتيق. وكانت النار تلتهب في الموقد بألسنة لافحة حمراء, ولست أدري هل كانت ماما - وهكذا كنت أدعوها - تروي لي قصصها, أو كنا في صمت. ذلك أنني كنت أرنو إلى النار وقد استولى عليّ ما سمعته في الصباح.

 

وبدأ الليل يسدل أستاره, وأخذت ذراته السوداء تتسرب إلى الغرفة الكبيرة فتشيع فيها مسحة من الغموض, ويزيدها ضوء اللهب الأحمر رهبة وجلالاً, وكذلك الأشجار الموحشة التي كانت تبدو وكأنها أشباح شوهاء قائمة في الحديقة. وانتظرت من مربيتي أن تحدثني عن الله والموت فلم تفعل. وأخيرا سألتها دون مقدمة:

 

- لماذا لا يرجع من يسافر إلى الله?

 

- لأنه لا يستطيع الرجوع.

 

- ولماذا يسافر?

 

قالت وقد انعكس على محياها ضوء اللهب الأحمر, وبدت تقاطيع وجهها الحادة كأنها تمثل صرامة القدر, وكانت معانيها تتسرب إلى نفسي مجردة فيخيل إليّ أن صوتها يأخذني من كل مكان:

 

- هناك عالم آخر يا بني خفي عن الأنظار, ونحن نقضي في هذا العالم عمرنا, ثم نموت فتدفن أجسامنا في الأرض وتنتقل أرواحنا إلى ذلك العالم الآخر. ويخلقنا الله حتى إذا متنا حاسبنا على الأعمال التي نقوم بها. فإذا كنا أخيارا أرسلنا إلى الجنة حيث نعيش دائما في سعادة, وإذا كنا أشرارا أرسلنا إلى نار نحترق فيها, ولذلك فلا بد من أن تحاسب نفسك وألا تقوم بالأعمال التي لا يحبها الله, حتى لا يحكم عليك بالاحتراق حينما تموت.

 

لست أذكر أن حديثا أثار نفسي مثل هذا الحديث, فقد كانت كل كلمة من كلماته تهزني هزّا عنيفا, ولم أفكر في الجنة ولا في السعادة الموعودة وإنما فكرت في النار, وكنت أنظر إليها بعينين ضارعتين متوسلتين كما لو كان في استطاعتها أن تنقذني من هذا المصير المروع الذي ينتظرني. فقلت لها لكي أتأكد مما تقول:

 

- وهل سأموت أنا أيضا يا ماما?

 

- أنت وأنا وكل من في الدنيا.

 

- ولكن الله لن يبعثني أنا إلى النار?

 

- إذا فعلت الخير.

 

- وإذا فعلت الشر فسيأتي أبي وتأتي أمي وأنت فلا تدعونه يرسلني إلى هذه النار. أليس كذلك يا ماما?

 

- لا يتدخل أحد في شؤون الآخر هناك يا بني. ثم سمعتها تقول باللغة العربية دون أن أفهم. "لا إله إلا الله, محمد رسول الله, عليها نموت وعليها نحيا."

 

شعرت بيأس رهيب يتملكني , وكانت عيناي مثبتتين في اللهب المضطرم الراقص أمامي, وخيل إليّ أن ألسنته تتطاول لتلتهمني, وكان تفكيري مركزا في النار حتى إنني كنت أحس بروحي تصرخ بين ألسنتها.

 

يا لليأس! لا مفر من أن أموت في يوم من الأيام, فيلقى جسمي في التراب المظلم ويظل هناك إلى الأبد يصرخ ويبكي, وتلقى روحي في النار وتظل هناك تصرخ وتبكي إلى الأبد أيضا, فلا أظفر بمساعدة أبي ولا أمي كما أظفر بها في الدنيا, ولا يأتي لإنقاذي أحد.

 

منذ ذلك اليوم أقتطع من نومي جزءا ليس بالقليل, وعجّت أحلامي في النوم واليقظة بصور مرعدة مبرقة. كنت أتمنى من صميم قلبي أن أجد شخصا يقول لي إن هذا غير صحيح, فلم أجده, وكان كل واحد يروي نفس الخبر ويختمه بدعوتي إلى عمل الخير, الأمر الذي ضايقني. فكيف أستطيع أن أفكر في الخير وأنا مهدد بكل هذا الويل والثبور?!

 

وأبت الحياة بعد هذا الحادث مباشرة إلا أن تصيبني بحادثة أخرى أشد وأقسى.

 

 

2

 

 

كانت أمي كما قلت من قبل شابة ضعيفة, فكثيرا ما كنت أراها طريحة الفراش, وما أزال أذكر أن أياما كاملة كانت تمر دون أن أراها. وقد كنت أشعر نحوها بعطف خفي, بالرغم من أنني كنت أميل كل الميل نحو المربية, لأنها كانت مستأثرة بليلي ونهاري كما قلت, ولكن صورتها ضاعت من ذاكرتي تماما, ولست أذكر إلا حادثة واحدة تقترن بها.

 

كنت ألعب ببعض اللعب وحيدا في الغرفة. وإذا انصرفتُ إلى اللعب, انصرفت إليه تماما كما لو كنت أزاول عملاً من الأعمال. وكانت عندي لعبة تتطلب مني جهدا كبيرا, وهي عبارة عن قطار يجري على قضبان من حديد, وكانت هذه القضبان طويلة ومتشعبة تشغل أرض الغرفة كلها تقريبا, يستغرق تركيبها مني وقتا كبيرا. وقضيت وقتا طويلا في تركيبها, ثم في إنزال العربات فوقها, ثم في شد العربات إلى القاطرة. وأخيرا تم ما كنت أرمي إليه, وبدأ القطار يجري فوق قضبانه في سهولة ويسر.

 

دخلت أختي إلى الغرفة في هذه اللحظة بالذات وهي تحبو, وما كادت ترى القطار يجري حتى حبت إليه مغتبطة به, ولكنها لم تكتف بذلك وإنما وضعت يدها الصغيرة على القضبان ورفعتها فتفككت أجزاء القطار وانقلب على الأرض, وتبعثر في لحظة ما جمعت في ساعات, فلم أطق صبرا على هذا الاعتداء, ولم يكفني أن أصرخ وأستغيث وإنما خرجت من الغرفة أجري ثم رجعت وأنا أحمل عصا كبيرة أخذت أضربها بها, فبكت المسكينة بكاء مؤلما, وسمع أفراد العائلة في الغرفة المجاورة بكاءها فأقبلوا مسرعين وأقبلت أمي ورفعتها من الأرض, ثم ناولتها إلى المربية وأرادت أن تضربني فهربت فتبعتني, ولجأت إلى أبي الذي حماني. وما تزال صورتها إلى الآن أمامي وهي تحاول عبثا أن تضربني, وهو يهدئها, فتقول له إنه بحمايته يشجعني, وإنه لا بد من تربيتي حتى لا أتعلم الاعتداء على غيري مرة أخرى. هذه هي الصورة الوحيدة التي أحتفظ بها لأمي.

 

ثم أحتفظ لها بالصورة الأخيرة, وهي الصورة التي لا يمكن أن أنساها ما حييت. اختفت أمي وبدأت أرى شخصا غريبا يحمل في يديه حقيبة يزورنا كل صباح ويصعد إلى غرفتها, ثم شعرت بالعيون تتعلق بهذا الشخص, ثم بدأت الأحاديث تنقلب إلى همس, وساد البيت جو من الكآبة والحزن ذكرني باليوم السالف الذي زرت فيه آل باترنوس, ولكنني لم أفهم من الحقيقة شيئا ولم يحدثني أحد عنها.

 

بدأ القلق على أبي بشكل واضح, فقد أصبح يقضي اليوم كله - على غير عادته - في المنزل, ولست أدري كم طال هذا الشذوذ الذي ساد المنزل ولكني أذكر ذات يوم أن مربيتي بدأت تغير لي ثيابي كما اعتادت أن تفعل حينما نكون على أهبة الخروج, وكانت الدموع في عينيها. ثم جاءت (ميللي باترنوس) وأخذتني إلى منزلها, ودخلت المنزل فإذا بالإخوة يعانقونني ويتحدثون عن عمري. وقضيت معهم بقية اليوم في هذا الجو الغريب. وأخيرا في المساء سمعت ميللي تقول لإخوتها:

 

- إن هذا لا يجمل, لا بد من أن يرى المسكين أمه للمرة الأخيرة. كيف يمنعونه من هذا?! إن في إخفاء الأمر عنه قسوة لا تطاق.

 

ثم التفتت إليّ ورفعتني إلى المائدة وعانقتني, ثم قالت: لا تثق بكل ما يقال لك, إنهم يضللونك, لقد ماتت أمك المسكينة, وسآخذك الآن لرؤيتها على فراش الموت, ولكن عدني بألاّ تبكي ولا تخاف.

 

لست أدري هل وعدتها أم لا, ولكنها أخذتني من يدي ورجعت بي إلى المنزل, فوجدنا فيه أناسا كثيرين, وتقدمت إليهم قائلة: إنه لا بد من أن يرى أمه.

 

ما أزال أذكر هذا الموقف الرهيب, حينما أخذنا طريقنا إلى السلَّم المظلم, وبدأت أصعده بخطوات مضطربة, وهذه الفتاة الإنكليزية النبيلة آخذة بيدي, وكانت عيناي مركزتين في أعلى السلم, كما لو كان شبح الموت يطالعني منه. لم أكن أدرك تماما جلال الموقف, ولكنني كنت حزينا مغموما يخيل إليّ أن المنزل يكاد يطبق عليّ, ودلفنا قليلاً إلى باب الغرفة, ثم وقفنا أمامها وهي مقفلة, ثم فتحتها ميللي, فإذا بي أرى من خلال فُتحة الباب غرفة ساكنة كما لو كان كل شيء فيها قد مات أيضا, ولم أر أمي جالسة في السرير تستقبلني على عادتها بوجهها البشوش المستبشر, وإنما رأيت أمامي سريرها وقد ظللته سحابة رهيبة, وتدلت إلى جانبه أغطيته الساكنة حتى كادت تلمس الأرض, ولم تكن حركة تبدو منه, حتى الصدر كان هادئا كما لو كان قطعة من السرير.

 

ثم تقدمت ميللي وأخذتني من يدي, وبدأت تسعى بي إلى داخل الغرفة. كان كل شيء يغرق في الصمت ويغرق مع مرور الوقت, حتى خيل إليّ أن الحياة قد انهارت وأصبحت أطلالاً صامتة لا حراك بها ولا رِكْز.

 

واقتربنا رويدا من السرير, ثم وقفنا إلى جانبه, وقد تعلقت به نظراتي حتى لم أعد أرى ولا أحس في الغرفة بشيء سواه, ورفعتني ميللي فرأيت من وراء ثوب شفاف ملامح وجه أمي الباهتة, وكأنه عنِّي بعيد بعيد, يبدو وراء ضباب الموت. ثم تقدمت إلى هذا الوجه بيد مضطربة وكشفت عنه الثوب الشفاف, وإذا بوجه واضح هو وجه أمي بعينه قد علته صفرة ذهبية هامدة, وتدلت على جانبي رأسها خصلات شعرها الكستنائي الكث الطويل, وقد غار فيه ما كان يحفل به من حيوية وبشر, وحل محلهما الهدوء والاطمئنان والرحمة. وقربتني ميللي إليها لأقبلها, فلمست بشفتي المرتجفتين خدها وأحسست وأنا أفعل ببرودة الموت تسري في أوصالي المضطرمة, واغرورقت عيناي بالدموع.

 

وأخيرا أعادتني ميللي إلى وضعيتي, فلم أعد أرى وجه أمي, وهكذا اختفى عني إلى الأبد. وكانت تلك النظرة هي النظرة الأخيرة إلى ذلك الوجه الذي أحس نحوه اليوم بحنين غريب.

 

ثم خرجنا من الغرفة ونزلنا السلم بنفس الخطى الوئيدة التي صعدنا بها, واستقبلتنا في أسفله وجوه مكتئبة ونظرات تائهة, ولكن ميللي أبت أن تسلمني لأحد, مخافة أن يكون للمنظر تأثير سيئ على نفسي, وإنما أخذتني إلى الحديقة الخلفية حيث جلست معي على مقعد خشبي لكي تسلّي عني.

 

كنا في فصل الصيف من السنة, وكانت الليلة صافية والقمر الكبير يتلألأ في كبد السماء, فتتسلل أضواؤه خلال الأغصان وتضيء الحشائش, وتمتد تحتها على الأرض ظلال الأشجار الباسقة, فامتلكني المنظر بجلاله ورهبته, ولكن ميللي صرفتني عنه بحديثها, إذ سمعتها تقول:

 

- لا تحزن يا صغيري, فهذه هي الحياة. إن أمك لم تغب ولن تغيب لأنها كانت امرأة خيرة, ولذلك فسوف تظل معنا بروحها, وسوف يجازيها الله على طيبتها فتعيش في جنات النعيم. فلا تخف عليها, وحاول ألاّ تحزن. انظر إلى السماء.. إن الجنة هناك وراء القمر, ووراء النجوم, فإذا أردت أن تراها فانتظر بزوغ القمر, ثم انظر إليه, فستراها هناك تطل عليك مبتسمة مستبشرة! انظر, انظر, ألست تراها?

 

ورفعت عيني إلى القمر, وتحت تأثير إيحائها خيل إليّ أنني أرى من خلال دموعي وجه أمي يطل عليّ من السماء داخل صفحة البدر الكبيرة. وكان إيحاؤها قويّا حتى إنه ما يزال يخيل إليّ إلى الآن أنني أراه كلما رفعت عيني إلى القمر, فأقول إنه وجه أمي.

 

خفف من كآبة نفسي ما قالته لي ميللي في الحديقة ذلك المساء, وعزاني قليلاً, ذلك أنني منَّيت نفسي بأن أمي معي في العالم وأنها تزورنا من آن لآخر بواسطة تلك الصفحة المضيئة التي تنير سواد الليل البهيم.

 

ولست أدري كيف انتهت تلك الليلة, ولكنني أذكر أن هذا الحادث كان له تأثير كبير على المنزل وعلى حياتنا. فلم يمر وقت طويل حتى فارقنا هذا المنزل الضخم المستوحش الذي ما تزال ذكراه إلى الآن تشيع في إحساسي نوعا من الرهبة والاضطراب.

 

وقد أخذتني المربية في اليوم التالي إلى الحديقة العامة وحاولت أن تصرف نفسي عن ذلك الحادث, وأخذت تحدثني عن حبها لي وعطفها عليّ, وتحاول أن توحي إليّ أنها أمي, حتى كدت أقتنع. وقد استمرت بعد ذلك تلح في إقناعي حتى اقتنعت بأنها أمي وبأن المرأة التي ماتت كانت أختها.

 

وهكذا قضيت - ومعي أختي الصغيرة - الأيام التالية من طفولتي, وأنا أعتقد أنها أمي. ومما رسَّخ عندي هذا الاعتقاد رعايتها لنا وحدبها علينا, فقد جعلت من حبها العميق لنا بلسما سحريا شفى نفسينا من ذلك الجرح الممض الذي أصابنا. فإذا قلت بعد هذا "أمي" فإني فخور بأن تكون هي المرأة التي أعني.

 

 

 

3

 

 

كان المنزل الجديد الذي انتقلنا إليه على عكس القديم صغير الغرف حديث الأثاث أمام واجهته حديقة صغيرة منسقة, ولم يكن فيه شيء يثير في النفس الرهبة والخوف, ولذلك فقد استأنست به ورأيت فيه خلاصا من ذلك المنزل الغامض القديم.

 

كان المنزل الجديد يقع تماما أمام منزل آل باترنوس, ولذلك لم أعد في حاجة إلى أحد إذا أنا أردت أن أزورهم, فنحن معا نسكن شارع "بارك فيلد" وليس عليّ إلا أن أقطع الشارع لأصل إلى منزلهم, وما أزال أذكر أن رقمه كان (47) بينما كان رقم منزلنا الجديد (40).

 

سرعان ما ترعرعت وبدأت الحياة تتفتح أمامي, فلم تعد محدودة في بضع غرف وحديقة, وإنما اتسعت وبدأت أتعرف إلى العالم الواسع, وقد اتسعت بشكل جعلني أتعطش إلى متابعتها واكتشاف ما لا أعرفه منها, وشجع آل باترنوس هذا الميل عندي, لأن الحياة معهم كانت أوسع أفقا.

 

كثيرا ما كانت ميللي تقبل عليّ وتخبرني بأننا سنخرج, فعليّ أن أذهب إلى أبي ليزودني بالنقود, فأذهب إليه وأطلب منه ذلك, فإذا دفع إليّ بورقة مالية أرجعتها إليه وآبي إلا أن يعطيني (بنسات), ذلك أنني كنت أعتقد أن البنسات وحدها هي النقود الثمينة, فيضحك أبي ويعطيني ما أريد. ولكن ميللي تصيح بي أول ما نخرج وتحذرني من مثل هذا التصرف, وتقول لي خذ منه الورقة ولك عليّ من البنسات ما تشاء. وكان نفس الشيء يتكرر في المرة التالية لأن قول ميللي لم يكن مقنعا.

 

بواسطة هذه الفتاة بدأت أتعرف إلى الحياة, واتسع أفق وجودي, فكان من أول الأماكن التي عرفتها السينما والمسرح, والحديقة العامة وحديقة الحيوان, وكانت لها منزلة خاصة لأنها كانت تشبع عندي غريزة حب الاستطلاع.

 

كانت السينما تخلق أمامي مثلاً عليا, وكانت هذه المثل العليا تدور حول القوة العضلية التي تهب للشخص القدرة على السيطرة على ما حوله, وكنت أغتبط إعجابا بركوب الأفراس والملاكمة والقفز والسباحة, وكل ما يعبر عن تلك القوة العضلية, وكنت أنفعل عند رؤيته انفعالاً شديدا أنسى معه كل ما حولي. وقد كانت الأفلام السينمائية في ذلك الوقت حافلة بهذا اللون من التمثيل.

أما المسرح فكنت أشعر فيه بشيء آخر. كانت الأنوار الملونة التي يذوب بعضها في بعض تفتِّر إحساساتي, وتخلق عندي نوعا من الاستعداد للشرود والهيام, فينقلب المسرح إلى سحابة شفافة ترقص فيها فتيات من نور قد أفرغن في قوالب سحرية يتابعن الألحان في رشاقة تخلب الألباب, فيخيل إلى الناظر إليهن أنهن موسيقى مجسمة أروع تجسيم, ناضجات الصدور ناعمات الأجياد, خفيفات الخطى, مستبشرات الثغور, تتحرك صفوفهن حركة واحدة مع الألحان الراقصة الناعمة. ويتناثرن ثم يجتمعن ثم يتتالين زمرا كأنهن الأحلام. كنت أحبهن حبّا بريئا, وأعجب كيف لا نقابل مثلهن في الحياة, وأعتقد أنهن أمثلة لصفاء النفس, ونقاء الضمير, وحب الخير, وأن الله خلقهن من الرحمة المجردة.

 

ولا يعني هذا أنني كنت أطمئن تمام الاطمئنان للمسرح. ذلك أنني كنت أعرف أن الممثلين أحياء مثلي, وأنه يمكن لمسهم ومعاملتهم, على عكس الممثلين في السينما فقد كنت أعرف أنهم لا يعْدون أن يكونوا مجرد خيالات, لذلك كنت أخشى المناظر المثيرة في المسرح. ظهر أمامي ذات يوم فجأة على المسرح فهد خيل إليّ أنه هائل, فما كدت أراه حتى دب الخوف في قلبي, ولما رأيته يتحرك كما يشاء بدأت أحس أنني في خطر, وشعرت بأنه إذا رآني وأراد أن يلتهمني فليس عليه إلا أن يقفز ويتخطفني, ولذلك أحسست بفيض من الإرهاب لم تتحمله أعصابي, فصرخت وظللت أصرخ إلى أن اضطرت ميللي إلى الخروج معي.

 

ومما أذكر عن المسرح أننا ذهبنا إليه مساء أنا وأمي وميللي وأختاها, وكانت الرواية هزلية, ولكن شيئًا منها لم يبعثني على الضحك, فقد كانت حركات الممثلين تبدو لي سخيفة فاستثقلتهم ومللتهم, ثم بدأت أحقد عليهم, وأنظر إليهم في عبوس. وفطن النظارة حولي إلى عبوسي إلى درجة أنهم بدأوا يتهامسون به, وأخيرا استطاع أحد الممثلين أن يبتسر مني الضحك ابتسارا. وما كادت شفتاي تنفرجان بالضحك حتى علت حولي عاصفة من الضحك المماثل. وانتبهت فإذا بالعيون كلها متعلقة بي, فبعثني ذلك على أن أتضاءل في مكاني, فقد كنت أكره كرها شديدا أن تتعلق بي الأنظار أو أن أكون محورا لحديث بين جماعة من الناس.

 

وربما ذهبنا إلى إحدى الحدائق العامة, حيث كان يتمثل لي تفتح الحياة وازدهارها. وكنا نذهب إليها غالبا في فصل الصيف أو الربيع, فلا نكاد نقبل عليها حتى أحس بنفسي تنشرح وكأنها تنطلق من عقال. ألتفت يمينا ويسارا فتأخذ عيني الزهور المتفتحة ذات الألوان البهيجة التي تخلق حَواليّ جوًّا من الخيال وتستقبلني حيث التفت رائحة الأريج المنعشة التي كانت تثمل روحي الصغيرة, وتحيط بهذه الزهور خضرة الأرض والأغصان, وفوقها زرقة السماء الصافية, تسطع فيها أشعة الشمس الدافئة.

 

كنا نقابل أصنافًا من الناس يعلو البشر وجوههم جميعا على تباينهم, ومن بينهم أمثالي من الأطفال. وكنت أنتبه لكل شيء, لأن كل شيء كان جديدا بالنسبة إليّ, ولكن هؤلاء الأطفال كانوا يسترعون انتباهي أكثر من الآخرين, فلا تكاد عيني تقع على واحد منهم حتى أتابعه بنظراتي إلى أن يغيب. كنت أنتبه للباسهم ولعبهم وتصرفاتهم, وكنت أشعر بأن المخلوقات الأخرى التي تقع عيني عليها بعيدة عني فلا يمكن أن أفكر فيها, وكأنها شيء لا يتعلق بي. أما هؤلاء الأطفال فشأنهم شأن آخر, كنت أشعر بأنني ندّ لهم, ولذلك فلا بد من متابعتهم ومعرفة الجو الذي يعيشون فيه حتى أستفيد من ذلك. كنت أستمتع بكل ما أرى استمتاعا مجردا عن الأغراض, أما الأطفال فكنت أتابعهم بدافع من تلك المصلحة, ولم أكن أحسّ نحوهم بعاطفة مجردة. كنت أتتبع عندهم ما استحدث من المخترعات في عالم الألعاب, فلا يقر لي قرار حتى أقتنيها, وأتتبع عندهم كل ما يكون جديدا بالنسبة لي فأنتفع به في حياتي.

 

وكان في طليعة ما يأخذني كثرة ما يوجد من الناس في العالم. فأنت لا تستطيع أن تذهب لأي مكان دون أن تقابل فيه أناسا وأناسا كثيرين من كل لون ومن كل صنف, فكانوا يشغلونني فأعجب لكثرتهم واختلافهم: الطويل والقصير, النحيف والسمين, الجميل والقبيح. أضف إلى ذلك أنني كنت مغرما بتتبع اختلاف الثياب التي يرتدونها, فإذا رأيت منها جديداً لا عهد لي به من قبل وقفت وأطلت إليه النظر في استغراب حتى ينتبه إليّ صاحبه, وحتى ينبهني من قد يكون معي إلى أن مثل هذا التصرف معيب لا يليق بالطفل المهذب.

 

وأمتع منظر كان يثير إعجابي في تلك السن المبكرة, هو منظر فتاة تأبطت ذراع فتى, وكل منهما منصرف إلى الآخر يحادثه ويضاحكه. ولست أدري ماذا كان يبعثني على الإعجاب بهما إن لم يكن ما يبدو في طلعتهما من عافية وشباب وجمال.

 

لقد كنت أوقن بأن ما أعرف من الحياة ضيق ومحدود, وأن ما أجهله منها واسع وبعيد. ولذلك فقد كانت هذه الحدائق العامة بالنسبة لي كالمعرض الذي يحوي هذه الأشياء الجديدة التي لا أعرفها. ومن الأمكنة التي كنا نزورها حديقة الحيوان, ولعلي لست في حاجة إلى أن أقول إن حديقة الحيوان كانت أوقع في النفس من أختها حديقة الإنسان. فإن كل شيء فيها لم يكن جديدا بالنسبة إليّ فحسب, ولكنه كان غريبا أيضا.

 

أليس غريباً أن تنظر لأول مرة إلى هذه المخلوقات المخيفة في أمان منها, وهي وراء قضبان الحديد في الأقفاص, وأن تطيل أمامها الوقوف دون أن يَمسَّك منها سوء?! أضف إلى ذلك حاجتي إلى رؤية نماذج من هذه المخلوقات التي كنت أسمع عنها كثيرا في القصص, دون أن يستطيع خيالي الصغير تصورها.

 

كانت الحيوانات والطيور مختلفة, منها الجميل الذي يُستأنَس برؤيته, ومنها المخيف الذي تهز رؤيته الجَنان. أما هذه الأخيرة فقد كنت أقف أمامها في تمام الحذر, فلم يكن عندي من المستحيل أبدا أن تتمرد هذه الأجسام الجبارة في أقفاصها, وتندفع في قضبان الحديد, فتتساقط كأنها من زجاج. وكنت أحاول أن أتصور بخيالي مدى ما يحدث من الكوارث لو أنها فعلت ذلك, وكان من المرعب أن تنتقل مثل هذه الهواجس من رأسي إلى رؤوسها... وكنت أقف أمام الأسد فأسمع الناس يقولون عنه إنه أقواها جميعا, فأرفع إليه بصري لأتأمله في حذر, فإذا بهامته الضخمة وتفاصيل جسمه القوية تثير الرعب, وأبصره يحرك عينيه البطيئتين البراقتين ثم ينزل بهما حتى يستقر نظره عليّ, فتكاد تلك النظرات الثابتة المغمومة تصعقني. ولم يكن يخفف من هذا الإرهاب إلاّ أن تلك النظرات كانت شاردة لا تقف عند شيء تقع عليه, ولذلك فإنه لم يَبد عليه وهو يخترقني بنظراته أنه يقيم لي أي وزن.

 

وقد أدفع إلى ركوب الفيل مع جماعة من الأطفال, ولولا أنني كنت أستأنس بهم لارتميت من فوقه دون تردد, لأنني لم أكن عاجزا عن تصورهم جميعا داخل تلك البطن العظيمة التي كانوا يوجدون مباشرة فوقها.

 

حتى إذا تكررت زيارة حديقة الحيوان بدأت آمن ما فيها, وبدأت أستطيع الوقوف دون خوف أمام الحيوانات الشديدة الافتراس وأتأملها. وكنت كلما وقفت أمام حيوان منها تصورته طليقا في الغابات, ثم أقارن حياته الحرة تلك بحياته السجينة هذه, فأرثي لحاله ولحال أقربائه الذين فقدوه في الغاب.

 

هذه هي الأشياء الجديدة التي عرَفتها بعد انتقالنا إلى المنزل الجديد, فإذا لم أذهب لزيارة أحد هذه الأمكنة فأنا في منزل آل باترنوس القريب.

 

 

 

4

 

 

لا أستطيع أن أتذكر اليوم الذي تعارفنا فيه مع آل باترنوس, فإن ذلك أبعد من متناول ذاكرتي. وآل باترنوس عائلة إنكليزية من أصل يوناني, نزحت إلى إنكلترا فيما غبر من الزمان, وهي تتألف من أخوين اسم أحدهما جورجي, وهو شاب أنيق اجتماعي, قلّ أن يوجد في البيت. واسم ثانيهما أندريه, وهو أيضا شاب, ولكنه يختلف عن أخيه بكثرة صمته وشروده وميله إلى العزلة. فهو لا يكاد ينتهي من عمله حتى يهرع إلى البيت, ويقضي فيه الساعات الطوال, إما جالسا وحده في غرفته وإما أمام المدفأة يقرأ الصحف.

 

ثم تأتي بعد ذلك الأخوات الثلاث. وكبراهن ميللي, وهي قصيرة القامة ذات شعر فاحم كث, وحاجبين كثيفين أسودين, تحتهما عينان عميقتان. ولها شخصية مرحة عابثة بريئة. ثم ألليني, وهي أطول منها قامة وأدق جسما, يميل شعرها إلى الحمرة, دقيقة الملامح زرقاء العينين, تميل كل الميل إلى الجد. ثم بعد ذلك صغراهن, واسمها أنجي, وهي أجملهن وأحفلهن بالحياة, ذات قوام رشيق, لها بشرة صافية, وجيد طويل ناعم, وتقاسيم واضحة, لا تستطيع أن تعبرها بعينيك إذا ما رأيتها, ولها ميل إلى الترف والظهور بمظهر المعتز بنفسه وجماله.

 

وكانوا يقيمون جميعا في هذا المنزل الذي ورثوه عن أمهم الراحلة, ويشغل أربعة منهم وظائف كتابية, أما الخامسة وهي ميللي فمتفرغة للإشراف على شؤون المنزل, ولذلك فقد كانت أقربهم إليّ, وكذلك أندريه الذي كان يقضي ساعات طويلة من النهار في المنزل. وكانت المائدة تجمعهم في الساعة السادسة مساءً, فيتناولون طعام الغداء ثم يستريحون, ثم يخرج معظمهم وتظل ميللي وأندريه غالبا في المنزل وحدهما, وقد يظلون حيث هم يتسامرون إلى أن يحين وقت النوم.

 

يتألف المنزل من دورين وتوجد في الدور الأول غرفة الاستقبال, ذات المقاعد الوثيرة, وقد زينت جدرانها بالصور. وتقع فيها العين هنا وهناك على تمثال صغير أو باقة من الزهور أو تحفة صغيرة تسترعي الأنظار. ويوجد بها إلى جانب ذلك حاكي ومجموعة كبيرة من الأسطوانات, ثم تليها غرفة الجلوس العادية, وبها بعض المقاعد والكراسي, ومنضدة قد تراكمت عليها الصحف, وفي الزاوية رفوف عليها كتب. ثم غرفة المائدة وفيها مائدة كبيرة مربعة تحيط بها الكراسي, وعلى أحد الحيطان رفوف طويلة ملأى بمستلزمات المائدة, وفي الزاوية قفص كبير به ببغاء. ويتألف الدور الثاني من ثلاث غرف, لكل من الشابين غرفة والثالثة وهي أكبرها مخصصة للأخوات الثلاث.

في هذا المنزل قضيت الكثير من أوقات الطفولة, وكنت أقطع الشارع إليه في الصباح فأجد ميللي منهمكة في عملها فأؤنس وحدتها, وربما انصرفت عن عملها لتلاعبني قليلاً, وربما جلست إلى جانبها في المطبخ لتحدثني عن شيء أو تحكي لي قصة. فإذا وجدتها في الدور الثاني تعيد ترتيب الأسرة فقد ترفعني وتلقي بي على أحدها فوق ظهري وهي تداعبني.

 

وعندما يحين وقت عودة الجميع في المساء أسرع إلى ميللي لأستقبلهم فيغتبطون بي, فإذا حدث ما يمنعني من ذلك, قالت ميللي في الصباح إنهم سألوا عني وافتقدوني. وقد أخرج مع إحداهن يوم الأحد فأذهب معها إلى المسرح أو السينما أو الحديقة العامة.

 

كان أروعهم جميعا بالنسبة إليّ هو أندريه المتصوِّف, فقد كنت أقضي الساعات إلى جانبه أنظر إليه وهو يقرأ, كان يجلس إلى المائدة دون سترة, وقد نزع ربطة عنقه, وفك عُرى قميصه, ثم يفتح الصحيفة أو الكتاب وينكَبّ عليه يلتهمه. كان يفنى فيما يقرأ, وكان منظره رائعا حينما أراه وقد غابت أصابعه بين شعوره الطويلة الكثة الفاحمة, وأخذ يداعبها دون شعور, حتى تدلت فوق صدغه. كنت أجلس صامتا إلى جانبه أرنو إليه فأراه مرة يبتسم, ومرة يضحك, ومرة أخرى يعبس, وربما نهض إلى الغرفة المجاورة, ورجع منها حاملاً كتابا ضخما, فيفتحه وينظر فيه قليلاً ثم يعيده إلى مكانه. كنت أشعر أن القراءة جزء من حياته, وأنه كان يحيا فيها, وأتمنى أن أعرف لماذا يبتسم أو يضحك أو يعبس, وأرجو أن أعرف لماذا يأتي بالكتاب الآخر, ولماذا كان ينظر فيه. وكنت أسائل نفسي وهو يقرأ: ماذا في هذه الكتب? عم تتحدث? ومن الذي يضعها? ولماذا يضعها? وكنت ألح عليه في السؤال, وأخيرا جاءني ذات يوم بكتاب يحتوي على قصة مصورة, تمثل كل صورة مرحلة من مراحل القصة, فشرحها لي, فاغتبطت بها وخيل إليّ أنني فهمت المراد من هذه الكتب.

 

كان أندريه سريع الانفعال, حطمت مدافع الحرب العظمى الأولى أعصابه, فهو يغضب بسرعة, ويضحك بسرعة. وكنت أنظر إليه وهو يدخن ويرنو إلى نار الموقد, ثم فجأة أرى أوداجه قد انتفخت, وإذا به ينتفض وينهض في اضطراب ليذرع الغرفة جيئة وذُهُوبا, ثم يقف فجأة, ويغرس أصابع يديه المنفرجة في شعره, ويضغط بيديه على رأسه بشكل عصبي مثير, فأتضاءل في الكرسي خوفا منه, ولكنه لم يكن يلتفت إليّ, وكانت لحظات طويلة تمر عليه وهو على هذه الحالة. وقد عرفت فيما بعد أن الحوادث المرعبة التي شاهدها وهو جندي, سكَّنته بأشباحها وأتلفت كيانه, وهيمنت على شعوره, فهو لا يستطيع أن يتذكرها دون أن تتوتر أعصابه, وتغمره موجة من الانفعال الشديد. ولكنني بالرغم من ذلك كنت أحبه وأعجب به, لأنني كنت أشعر وهو يتحدث إليّ بقلبه الكبير.

 

أما ألليني فكنت أشعر بشيء من البرود وأنا معها. فهي فتاة يضل الابتسام طريقه إلى ثغرها, وهي تقيم وزنا كبيرا للتقاليد, وقلما تنطلق من قيودها لتداعبني. لقد كانت تحبني حبا محترما.

 

والأخ جورجي كان يشبع فضولي وحبي للاستطلاع, فهو دائما محاط بالأشياء الجديدة, وقد كنت ألتقط منه حركاته وعاداته, لأنني كنت معجبا بأناقته, فكنت أتتبع تصرفاته, وأنتبه لما يلبس وكيف يلبس, ولم يكن أحب إلى من أن أتسلل إلى غرفته وهو يستعد للخروج, لأنظر إليه وهو يتأنق, وكنت في خلال ذلك أتمنى من صميم قلبي أن أكبر حتى أستطيع أن أكون مثله. فإذا أتم تأنقه ثم لبس القبعة وسعى إلى المرآة يتأمل نفسه يمينا وشمالاً, خرج إلى الباب وشيعته بنظرات كلها إعجاب, حتى يغيب عنها في الشارع الطويل الذي ينطلق فيه. وفي يوم الأحد صباحا يرتدي جورجي بذلة (الجولف) ويخرج حاملاً أدوات اللعب, ثم يركب سيارة تكون في انتظاره عند باب المنزل.

 

كان هناك تجاوب ودي بيني وبين ميللي, أما أنجي فقد كنت أحبها وأستظرفها. كانت جميلة حقّا, ولكن جمالها لم يكن جمال ضعف واستكانة, وإنما كان جمال قوة وسيطرة. كانت مثلاً للعافية والرشاقة والجمال, وكنت أشعر وأنا إلى جانبها بأنها تمتلك قوة سحرية تسيطر بها على من يكون معها. وهي أصغر إخوتها وأبعد ما تكون عن القيود والتقاليد, مرحة النفس طيبة القلب, ذات ميل طبيعي إلى الروائع وما ثمن من الأشياء, فكل ثمين في المنزل ملك لها, ولكن هذا الميل فيها لم يكن يدفع بها إلى الكبرياء.

 

كانت تناديني في بعض الأحيان وهي جالسة وحدها في غرفة الاستقبال, حتى إذا ما أسرعت إليها أخذتني بين ذراعيها تحدثني في دعابة وخفة. وكان وجهي يحاذي وجهها فأشعر بدافع غريب يرغمني على تأمل محاسنها: عيناها الدعجاوان الواسعتان الضاحكتان, جيدها الناعم الطويل الذي طالما دفنت فيه وجهي, خدها الأسيل المورد, صفحة وجهها الساحرة الملساء, وشعرها الكستنائي المتموج, ووجهها المشرق الصبوح.

 

كنت أذهب معها في بعض الأحيان إلى المسرح فيقابلنا شاب أنيق عند مدخله, ولست أستطيع أن أنكر أنني كنت أضيق بهذا الشاب وأستنكر وجوده, خصوصا حينما أجدها منصرفة إليه في الحديث, فقلت لها ذات مساء بعد أن فارقناه:

 

- أنجي, من هذا الرجل?

 

- لماذا تسأل عنه? إنه صديقي, ألا يروقك أن يكون لي صديق?

 

- نعم يروقني, ولكن هذا الرجل لا يعجبني.

 

- ولماذا لا يعجبك?

 

- لست أدري لماذا.

 

- ألم أقل إن الطفل المستقيم يحب الناس جميعا?

 

- بلى, ولكن الطريقة التي يكلمك بها!

 

- ولكنه صديقي.

 

- إنني أخاف أن يهرب بك فلا تثقي به, ألم تنتبهي إلى الطريقة التي يكلمك بها? إنه ماكر.

 

ما كدت أنطق بهذه الكلمات التي كانت تعبر عن شعوري نحو هذا الشاب, حتى لاحظت عليها الشرود, وكانت قد أثرت فيها, ولذلك ضمتني إلى جانبها قائلة:

 

- يا لك من طفل مشاكس.

 

ولما رجعنا إلى المنزل, سمعتها تحدث أختيها عن هذا الحوار, وختمت حديثها قائلة: إنها تخشى أن يكون ذلك إنذارا على لسان الطفل الصغير.

 

هؤلاء هم آل باترنوس, وذلك هو منزلهم الذي قضيت فيه وقتا ليس بالقصير من الطفولة, فإذا لم أوجد عندهم فأنا في منزلنا.

 

 

 

5

 

 

كان منزلنا أيضا يتكون من دورين, تقع في الدور الأرضي منه غرفة الاستقبال وغرفة المائدة وغرفة الجلوس, وتقع في الدور الثاني غرفة جعل منها أبي مكتبا له ثم غرفة نومه ثم غرفة ثالثة أنام فيها أنا وأختي.

 

وقد عرفت في هذا المنزل كثيرا من صور الحياة عن طريق أبي وأمي وأختي, وعن طريق هؤلاء الذين كانوا يزوروننا. وقد كان أسلوب الحياة يختلف عندنا كثيرا أو قليلاً عن أسلوب الحياة في منزل آل باترنوس.

 

وأول هذا الاختلاف أن منزلنا قلما كان يخلو من زوار, وكان هؤلاء الزوار غرباء تمام الغرابة بالنسبة إليّ أنا الذي لا يعرف إلاّ قليلاً عن اختلاف طبائع الناس وألوانهم باختلاف الشعوب. لم يكن الذين يزوروننا من الإنكليز الذين ألفتهم وإنما كانوا مراكشيين, وقد كنت أتتبع حركاتهم وسكناتهم فأجد فيها دائما شيئا جديدا. وكنت أصغي إلى كلماتهم وهم يتخاطبون فأستغرب لهذه الحروف الضخمة التي يلفظونها في سهولة ويسر. أي أناس هؤلاء!! إنه لا يكاد ثلاثة أو أربعة منهم يجتمعون في غرفة حتى يملأوا جوّها بأصواتهم العالية وضحكاتهم الصاخبة. وكانت عندهم قدرة غريبة على التقاط الأصوات المختلفة إلى درجة أنهم كانوا يتكلمون جميعا مرة واحدة, فيكون الواحد منهم متكلما وسامعا في وقت واحد!

 

كانت النساء يزرن أمي في أثناء النهار فيعلو ضجيجهن وهن يتكلمن حتى إنك لتسمعهن من الشارع! كن يرفعن أصواتهن بحيث يخيل إليّ أنهن يتنازعن, ولكن ذلك لم يكن يتلاءم مع الضحك الذي يتخلل حديثهن, فأبقى في حيرة من أمرهن. ولم أكن أعرف حرفا واحدا مما يقلن, وكنت أعجب للزي الذي كن يرتدينه في المنازل, وأعجب من صنع هذا الزي, ولكنني في نفس الوقت كنت أطمئن إليهن اطمئنانا غريبا, لأنني كنت ألمس طهارة نفوسهن حينما يداعبنني, كما كنت ألمس قوة شخصيتهن في تصرفاتهن. ولكنني كنت لا أطيق النظر إلى بعضهن, وهن الخادمات السود, كنت أخشاهن من أعماق قلبي, وأزعم أنهن أمثلة حية لما يرد في أقاصيص أمي من مخلوقات مشوهة قاسية, وإنهن قد حشوا أجسامهن السوداء نفوساً سوداء كذلك, كلها قسوة وحنق وبغضاء. ولذلك فلا تكاد إحداهن تدخل المنزل حتى أتسلل منه وأهرع إلى منزل آل باترنوس عبر الشارع فلا أعود إلاّ بعد أن أتأكد من أن منزلنا قد خلا منهن. وعبثا كانت أمي تحاول أن تطمئنني إليهن, وكيف تستطيع ذلك بعد أن أرعبتني بأقاصيصها عن أمثالهن?

 

هناك شيء بالذات حيرني دون أن أجد له تفسيرا, ذلك هو ابتعادهن عن الرجال حتى خيل إليّ أن بين الجنسين عداوة لا تمحيها الدماء, ولكن ذلك كان يضيع حينما تكون الواحدة منهن مع زوجها. وإذن فما السبب في ابتعاد النساء عن الرجال والرجال عن النساء? كنت ألاحظ في بعض الأحيان أن إحداهن تدخل غرفة تحسبها خالية, حتى إذا وقعت عينها على رجل خرجت مسرعة وقد احمرّ وجهها, وربما صرخت, ولم تكن تكتفي بذلك وإنما كانت تسرع إلى غرفة أخرى وتقفل خلفها الباب.

 

لم يخطر ببالي أن ما كنت أراه كان لعبة الظهور والاختفاء يلعبها هذان الجنسان دون ملل على النحو الذي خطر على بال أحد الأدباء الأوروبيين حينما زار مراكش - كما علمت فيما بعد - لأن عقلي كان أصغر من أن يتصور أن أمّة بأسرها تلعب لعبة خالدة لا نهاية لها. وإذن فما السر? حاولت أن أجده عند أبي وعند أمي وعبثا حاولت أن أفهم تفسيرهما, وأخيرا انصرفت عاجزا عن الفهم حينما قيل إن ذلك من تقاليدنا, وتخيلت أن التقاليد شيء مبهم ليس من الضروري أن يُفهم.

 

كنت معجبا بوجوههن النضرة وجمالهن الغض, ولكنني كنت أرثي لحالهن. فهن مثل أنجي في الجمال, فلماذا تكون أنجي ساحرة تشيع حولها الغبطة والبهجة? ولماذا تكون - دونهن - رشيقة أنيقة وكل شيء فيها رائع جميل? كنت أرى من الواضح أنهن جميلات ولكنهن لم يكن أنيقات, وكنت أعرف أن ذلك يرجع إلى الزي الذي كن يرتدينه, إذ لم يكن فيه ذوق ولا أناقة. فبدلاً من رأس أنجي العاري ذي الشعور المتموجة كنت أرى كومة من الحرائر والمجوهرات تعلو رؤوسهن, وبدلاً من جسم أنجي اللدن المتكسر, كنت أرى الثياب المدلاة كأنها الستائر, وبدلاً من قوام أنجي الرشيق كنت لا أرى شيئا على الإطلاق, وبدلاً من وجه أنجي المتفتح العاطل كنت أرى وجوها ملطخة بالأصباغ فأرثي لحالهن, وقد أراهن عاطلات فأشعر بسحرهن ثم أتفقد هذا السحر والجمال بعد ذلك وأستغرب أين ضاع. ولكن لا تسل عن عجبي حينما أبصرت ذات يوم إحداهن وقد ارتدت وهي تعبث زيًّا مثل زي أنجي, فبدت رائعة ساحرة مثلها, لا تقل عنها رشاقة ولا أناقة ولا جاذبية, وبذلك استطعت أن أنفذ إلى سر جمال أخفته عني الحجب والأستار والأصباغ, وساءني بعد ذلك جداً أن أعود فأراها في زيها القديم.

أما الرجال فكانوا في الغالب يجتمعون في المساء, فإذا اجتمعوا فلا بدّ من أن أقضي معهم أكبر وقت مستطاع, لأنني كنت أجد لذة في ذلك. كانوا أبرع من النساء في رفع الأصوات والاستماع في وقت واحد, وكانوا أكثر صخبا وأشد حرارة, كان حديثهم صيحات وقهقهات, وكانوا يكثرون من العبث حتى يخيل إليك أنهم لا يعرفون الجد, ويكثرون من الجد حتى يخيل إليك أنهم لا يعرفون العبث.

 

وربما اجتمع أربعة منهم للعب الورق, اثنان ضد اثنين, وكان لعبهم غريبا, فأرى اللاعب يتناول ورقة بين أصابع يده ثم يلوح بها في الفضاء مرات, ثم يتناولها بإبهامه ووسطاه ويضربها ضد سبابته بضع مرات أخرى, ثم يحولها يمينا أو يسارا, كل ذلك وصاحبه منتبه إلى هذه الإشارات كل الانتباه, ثم يلقي بالورقة إلى الأرض في قوة ويرنو إلى صاحبه محاولاً أن يتأكد من أنه فهم عنه ما يريد, فإذا حصلت غلطة بسيطة ضجت الغرفة بالصياح. وويل للمغلوب, فإنه كان يحكم عليه بلبس قلنسوة من الورق كانت تروقني جدا, ولا يجوز له أن ينزعها إلا إذا محا عن نفسه الغلب.

 

لم يكن ليغيب حتى عن طفل صغير مثلي أن كل ما يحيط بهؤلاء الناس مبالغ فيه, فهم يبالغون في صياحهم وفي ضحكهم وفي أكلهم وفي لباسهم وفي غضبهم وفي عبثهم وفي كل ما يتصل بهم. كل ذلك في بلاد لا تعرف المبالغة إليها سبيلاً. كانوا يصيحون بين قوم يهمسون ويقهقهون بين قوم يبتسمون, ويحركون أطرافهم بين قوم لا يكادون يتحركون. ولست أدري: هل كان الهمس والابتسام والسكون يزيد في تشويه الصياح والقهقهة والحركة, أم أن هؤلاء الناس كانوا حقاً مبالغين?!

 

حدث ذات مرة أن بلغت أحَدهم رسالةٌ بوفاة والدته, فرفع صوته بالعويل في منزله, وكان السكون يسود الشارع بحيث سمعه أهل الحي جميعا, فأقبلوا كلهم وأحاطوا بالمنزل يستفسرون عما حدث كما يفعلون عند ما يشب حريق أو تنزل نازلة!! وحدث مرة أخرى أن داهم هذا الرجل نفسه كلب ضخم في وسط الشارع فانطلق يصيح ومن ورائه الكلب ينبح, وأسرع سكان الحي إلى نوافذهم فإذا بهم يرون منظرا عجيبا ربما كان الأول من نوعه في تاريخ القطر كله!

 

كان هذا حالهم أيضا عندما يخرجون, فهم قوم تعلموا في بلادهم حب الربيع وأيامه النضرة, وعلى ذلك فقد كانوا يتقابلون في عشاياه ويخرجون إلى الحدائق العامة ليتملوا مفاتن الطبيعة الجميلة, وطالما صاحبتُهم في مثل هذه النزهات. لم يكونوا يسيرون على الأرصفة وإنما كانوا يسيرون في صف طويل يضم أكثر من عشرة أفراد في طريق السيارات والعربات وهم يتحدثون بأصوات عالية, دون أن يكون لوجودهم في الشارع تأثير على صياحهم وقهقهاتهم وحركاتهم, ولكن سكان الحي كانوا قد ألفوهم فلم يعودوا يستغربون لتصرفاتهم. كانوا يُعرفون بين الأطفال "بذوي القبعات الحمر" وبالرغم من ذلك كانت سمعة ذوي القبعات الحمر هؤلاء بين السكان سمعة حسنة لما لمسوه فيهم من عزة النفس وحب الخير وحسن السيرة, ولذلك أحبهم جميع من عرفهم من الإنكليز.

 

وإذا قدم منهم شخص لأول مرة فلا بد من أن يتعرض لبعض الصعوبات لجهله بلغة البلاد وشوارعها, ولكن لم يكن لجهله هذا المؤقت أي تأثير على تصرفاته, فهو يخرج وحيدا ويبتاع ما يريد ويتفاهم مع الناس. أما كيف كان ذلك يتم وبأي لغة, فالله به عليم!

 

حدث أن أقبل زائر جديد من مدينة الدار البيضاء وأقام عندنا, وكان أبي مريضا لا يستطيع الخروج ولذلك كان عليه أن يخرج وحده. ولما خرج لأول مرة خرجت معه أختي لتتكفل بمهمة التعبير, وأعطاه أبي ظرفا كتب عليه عنوان المنزل ليستطيع أن يدلي به إلى الشرطي عند الضرورة فيهديه الطريق. خرج صاحبنا مع أختي وانطلق في الشوارع الواحد تلو الآخر, وركب السيارة العامة فابتعد تماما عن المنزل, فلما قضى ما كان يريد وأراد الرجوع ضل السبيل. سأل أختي هل تعرف الطريق فلم تعرف ما يقول, ثم أخذته إلى أحد الدكاكين ظانة أنه يريد أن يبتاع شيئا, فتضايق بعدم فهمها واستقر رأيه على أن يتصرف وحده. وأخيرا تقدم إلى أحد المارة وابتسم له محييا, فرد عليه هذا الابتسامة بمثلها, ثم أدخل صاحبنا يده في جيبه وأخرج الظرف, فناوله الرجل الذي أدرك من هيئته أنه غريب, فأخذ منه الظرف وقرأ العنوان ثم أخذه إلى أحد الدكاكين واشتري منه طابعا للبريد لصقه على الظرف, ثم أشار له بأن يتبعه, ولشد ما كانت دهشته حينما رأي الرجل يدنو إلى أقرب صندوق بريد ويلقي فيه بالظرف! ووقف الرجل مدهوشا حينما رأى صاحبنا يكاد يستلقي على قفاه من الضحك, ولم يسعه إلا أن ينصرف في استغراب.

 

لم تكن مهمة هؤلاء الناس التجارة فقط, وإنما كان عندهم أيضا ميل غريب إلى الاستمتاع بالحياة, تلك الحياة الضاحكة التي تقدمها إليهم مدن إنكلترا ومصايفها.

 

 

 

6

 

 

كان الشتاء يطول في منشستر, وكان هذا الطول يبعث الحنين في النفوس إلى الأيام التي تعود فيها الطبيعة إلى نضارتها وجمالها, وتبدو الشمس الدافئة سافرة في السماوات. وكان الشتاء إلى جانب ذلك عنيفاً مزمجرا, فيتجاذب البرق أطراف السحب الكثيفة السوداء, وينتقل الرعد وصداه في الأجواء غاضبا مخيفا, وتمطر السماء فإذا بالمدينة تكاد تسبح في سيل طام, وإذا هي مبللة من أقصاها إلى أقصاها, وكل شيء فيها يتقاطر منه الماء, ويتراقص المطر على أرصفة الشوارع فيحدث موسيقى رتيبة ذات لحن واحد مستمر, وتنطلق الرياح معولة نائحة يُسمع لها في بعض الأحيان صفير مزعج فتقصف الحواجز الخشبية وأغصان الشجر ويتوجع في مهبّها الصفصاف الباسق, أو ترجم السماوات الحالكة المدينة بوابل من البرَد ينقر زجاج النوافذ نقرات متتالية سريعة, كأن أسرابًا من الطير تحاول عبثا أن تخترقه بمناقيرها, أو يمتلئ الجو بنفايات الثلج تهفِت في بطء وقد ازدحم بها الفضاء, فما هي إلا لحظات حتى ترتدي المدينة السوداء إزارا أبيض ناصعا, فإذا بالشوارع والبيوت والأشجار وكل شيء فيها يبدو كأنما لمسته عصا سحرية. وقد أنهض في الصباح وأطل من النافذة فإذا بالشوارع وما فيها قد اختفى فلا أرى إلا ضبابا في ضباب قد يجثم على صدر المدينة طول النهار, فيضطر الناس إلى إضاءة المصابيح كأن الليلة الماضية ما تزال مستمرة, وتبدو مصابيح الشوارع خابية باهتة كأنها نجوم بعيدة تكاد تغور, وحولها هالة سوداء من الضباب الكثيف يحاصر النور لكي لا يتسرب منه شيء.

 

كان هذا الشتاء العنيف يثير في نفسي صورا من الجبروت لن أنساها ما حييت, وكان الرعد من أبرز هذه الظواهر التي تثير خيالي فبدأت أفهم أن السماء تضج بالمخلوقات كما تضج الأرض, وأن السماء بالنسبة إلى الأرض في العالم مثل الدور الثاني بالنسبة إلى الدور الأول في المنزل, فهذا الرعد ضجيج أهل الدور الثاني, وإذا كان الرعد ضجيجهم فلا بد أن يكونوا عمالقة جبابرة تُحدث أقدامهم على السقف كل هذه الضوضاء وهم يجرون أو يعبثون, وربما كان أبناؤهم فقط هم الذين يجرون أو يعبثون. ثم بدأ صوت الرعد يقترن بالصوت الذي تحدثه العربة وهي مارة في المَحَجَّة يجرها جواد مطهم جموح, فبات يخيل إليّ كلما عبر السماء هزيم أن جماعة من هؤلاء العمالقة قد ركبوا عربات جبارة وانطلقوا يتسابقون في جنون وبأقصى ما يستطيعون من سرعة فترتجف أنحاء العالم من تحتهم.

 

كانت الريح هي الظاهرة الثانية في إثارة هذا الخيال. كنت أصغي إلى عويلها في ظلمات الليل وأنا مدثر في الفراش, وطالما ساءلت نفسي: ما معنى الريح? دون أن أظفر بجواب, وعندئذ ألجأ إلى الافتراض, فيخيل إليّ أنها مقبلة من مكان سحيق, وأنها تهبّ منه كلما رفعت بينه وبين العالم السدود, وكان صوتها يحدث في نفسي نوعا من التشاؤم والتطير, فإذا بها ترتجف وكأنها شجرة صغيرة في مهبها, كما كان يخيل إليّ أن هناك سببا لهذا العويل, وأن كارثة خفية قد حدثت في مكان ما من مجاهل العالم فانطلقت الريح تندب الأطلال والخرائب. وكان يخيل إليّ أحيانا أخرى أن الفضاء الرحب يضج بآلام وأحزان مبهمة وأن هناك كائنات خفية بَرح بها العذاب فامتلأت الأجواء بالأنين والعويل.

 

كانت هذه الظواهر الطبيعية العنيفة التي لم أكن أعرف معناها تترك في نفسي صورة مخيفة للعالم, حتى إنها أصبحت - لطول ما سمعت من أساطير - رموزا لحياة أخرى خفية يعيش فيها أناس أضخم وأقدر من بني البشر لأن كل ما يتصل بهذه الرموز عنيف وجبار.

 

ولكن هذا لم يكن كل شيء في هذا الشتاء الطويل, فقد كان له جانب آخر يحببه إليّ وينسيني هذه الصور المخيفة التي كانت تداعب مخيلتي. وكان البرد القارس يملأ جسمي الصغير نشاطا فيدفعني إلى العدو والوثب والانغمار في اللعب. واللعب حقّا مظهر من مظاهر اغتباط الطفل بالحياة فيرى صدره يعلو وينزل بأنفاسه المجهدة وقد تلألأ وجهه بشراً وبرقت عيناه رضا واحمرّ خداه احمرارًا بهيجًا, فإذا به يشيع البشر والرضا في نفس كل من يراه.

 

وكان من أحب الأشياء إليّ في الشتاء أن أجلس إلى المدفأة أستمع إلى الأقاصيص الغريبة التي كانت أمي ترويها لي, وإلى مدفأة آل باترنوس أستمع إلى أحاديث أفرادها وهم يتحدثون عن تقدم الحضارة والتغير الذي غمر الحياة فلا تستقر في ذهني من ذلك إلا صور باهتة لا تمت إلى الحقيقة بسبب, ولكنني كنت مع ذلك أستمتع بتلك الأحاديث.

 

مثل هذا الشتاء الطويل القارس العنيف كان يصرف الناس إلى أعمالهم الجدية. وقد كان المراكشيون ينهمكون في أعمالهم انهماكًا كليّا ولكن ذلك لم يمنعهم من أن يسمروا في منازلهم ليحيطوا جدهم هذا بشيء من اللهو والمرح. فإذا كانوا يسمرون في منزلنا سمعت ضحكاتهم من الغرفة المجاورة التي كنت أنام فيها أنا وأختي ووصلتني أحاديثهم تلك التي لم أكن أفهم منها شيئا.

 

أما هذه الأعمال التي كان هؤلاء المراكشيون النازحون ينصرفون إليها انصرافا تاما في أثناء فصل الشتاء, فقد كانت أعمالاً تجارية لم أكن أفهمها ولا أقيم لها كبير وزن في تلك السن المبكرة. وأستطيع الآن أن أقول إنه كان يبدو عليهم جميعا ترف ومرح لا شك أنهما مظهر من مظاهر النجاح. ولكن هذه التجارة - كما علمت فيما بعد - لم تكن تستند إلى دراية أو إلمام بالشؤون التي لا بد من الإلمام بها لتسيير الدفة في أثناء الزوابع الاقتصادية, ولذلك عصفت بهم جميعا أول زوبعة صادفوها بعد ذلك.

 

كان أبي كبقية القوم يزاول أعماله في مكتب, فإذا مللت من الحياة الرتيبة طلبت بعض التغيير في الإلحاح عليه بأن يصحبني معه, حتى إذا ما قبل انتظرت صباح اليوم التالي بفارغ الصبر.

 

كنا نغادر المنزل في حوالي الساعة الثامنة صباحا بعد تناول وجبة الإفطار مباشرة فنقابل في الشارع جمهورا من جيراننا الرجال والأطفال الذين يغادرون منازلهم مثلنا ذاهبين إلى أعمالهم أو إلى مدارسهم, فكانوا يغمرون الشوارع بجو من الحيوية والنشاط بعد الراحة التي أصابوها في أثناء الليل.

 

حتى إذا ما ركبنا قطار الترام انصرفت أنا إلى نافذته أتأمل المدينة التي تزداد حركة ونشاطا كلما توغلنا في شوارع الأسواق والعمل, وكان يخيل للمرء أنها هي أيضا قد استيقظت باستيقاظ سكانها, فلم تكن العين تقع إلا على حركة دائبة متزايدة تغريني بأن أتحرك وأعمل ولكنني لم أكن أعرف ماذا يمكن أن أزاول.

 

وأتبع والدي في نشاط ونحن نغادر الترام وأسير إلى جانبه متوثبا لنخترق باب إحدى البنايات ونصعد سلالمها, ثم نقف عند أحد الأبواب ليدير فيه والدي مفتاحا قبل أن ندخل المكتب, ولم يكن يفوتني أن ألقي نظرة على الحروف السوداء المنقوشة على زجاج الباب, وكنت أعرف أنها حروف اسم والدي (مستر ت. بن جلون) الذي كنت أميزه بالرغم من أنني لم أكن أفهم القراءة بعد لكثرة ما رأيته مطبوعا على الظروف التي يستعملها والدي في مراسلاته بالمنزل.

 

وسرعان ما يفتح السكرتير الإنكليزي الباب وهو يخلع معطفه ويحيينا تحية الصباح, ثم يجلس لمكتب مقابل لمكتب والدي ويبدأ العمل. فأجلس على كرسي إلى جانبه وأشرع في محاولة جديدة فاشلة لفهم ماهية العمل الذي يقومان به. وكنت أبدأ هذه المحاولة بتأمل ما في الغرفة, علني أعثر على شيء يهديني إلى الفهم: الدفاتر والملفات والمطبوعات وورق الكتابة والظروف والأقلام والمحابر والرسائل وآلة الضغط الناسخة, وطوابع البريد, والصور, والخزانة الحديدية والمفاتيح وسلة المهملات ونماذج الأقمشة... إلخ.

 

عبثا كنت أحاول أن أربط بين هذه الأشياء المختلفة لأخرج بفكرة واضحة عن عمل والدي, وعبثا كنت أحاول أن أفهم الألفاظ التي يستعملها والدي وسكرتيره لأستعين بها على الفهم.

 

كنت أفهم الغرض من وجود أدوات كثيرة كأدوات النجارة والحلاقة والخياطة مثلاً. فهل يعقل أن يكون لهذه الأشياء التي تحيط بي أغراض مماثلة? وإذا كان الأمر كذلك فما هذه الأغراض? ثم أيأس من الفهم في ملل وأنصرف إلى الحركة والتنقل بين هذه الأشياء متأملاً لها تارة ولامسا لها بيدي تارة أخرى.

 

شيئان فقط كنت أدرك الصلة بينهما: القلم والورق. فهل كان ذلك يرجع إلى رغبة صبيانية في العبث, أو كان إيذانا بأنني سأبتلى بهما هذا الابتلاء العظيم فيما يستقبل من أيامي?

 

كان والدي ذات مرة منهمكا في عمله مع السكرتير, فمللت من تأمل هذه الأشياء ومحاولة فهمها, ولذلك تناولت جريدة عربية كانت موضوعة على المكتب وأخذت أتأمل حروفها, ثم تناولت القلم وبدأت أحاول أن أقلد الكتابة على ورقة بيضاء دون جدوى.

 

وهنا خطرت ببالي أول فكرة في حياتي خيل إليّ أنها براقة, فقد وضعت الورقة البيضاء على الصحيفة المكتوبة فإذا بي اكتشفت أن حروفها واضحة تحت الورقة الشفافة, فتناولت القلم وأخذت أعيد على الدوائر والخطوط والنقط. ثم رفعت الورقة فإذا بها مكتوبة, وكان سروري عظيما إذ بدا لي أنني وضعت يدي على أسرار "العمل" الأولى, وازداد يقيني بذلك حينما قدمت الورقة التي كتبتها إلى والدي فبرقت عيناه ببريق الغبطة والإعجاب.

 

ثم فجأة أملّ من هذا كله بعد مرور فترة قصيرة من الوقت, فقد كانت الأشياء محدودة وإمكانيات العمل ضيقة, يضاف إلى ذلك الانقباض الذي تصاب به النفوس في فصل الشتاء الداكن حينما يوجد المرء في مكان ليس فيه ما يغري بالمرح, فأطلب العودة إلى المنزل, ثم ألح في الطلب إلى أن يضيق والدي فنعود إلى المنزل قبل الميعاد وهو يقول إن هذه هي المرة الأخيرة التي يصحبني فيها معه إلى المكتب. وكنت أقول ذات الشيء في نفسي, وأستغرب كيف يقضي كل يوم هذه الساعات الطويلة المملة في مكان يعج بأدوات لا أفهم الغرض منها. ولكن إن هي إلا أيام حتى تعاودني الرغبة في زيارة مكتب عمل والدي لتجديد المحاولة.

 

هذه صورة من حياة الشتاء في تلك الأيام الذاهبة. وقد كان حنين الناس إلى الصيف يزداد كلما ازداد الشتاء طولاً, فليس من الغريب إذن أن يحدث الصيف حينما يقبل تغييرا في الحياة. وكان من أشد الناس احتفالاً بالربيع وبالصيف هؤلاء المراكشيون الذين كانوا ينظمون أعمالهم بحيث تسمح لهم بأن ينصرفوا إلى الحياة الجديدة التي حملها إليهم الفصل الجديد. ومن ذا الذي يستطيع أن يظل في منشستر وقد أقبل الصيف? وقد كنت أتطلع أنا أيضا بفارغ الصبر إلى الصيف لا لشيء أكثر من أننا سنترك هذه المدينة وما قاسيناه فيها من غم إلى الشواطئ مع آل باترنوس ومواطنينا المراكشيين.

 

 

 

7

 

 

وأخيرًا أقبل الصيف بنضارته وجماله, فإذا بي أتطلع إلى اليوم الذي نبرح فيه المدينة, ولكن صبري لا يطول فقد آن لنا أن نبرحها. بيد أن هناك عقبة صغيرة كنت أحسب لها ألف حساب تلك هي محطة القطار. لقد كنت أكرهها كرها شديدا إذ لم أكن أطيق النظر إلى القاطرة وهي تدخل المحطة, كان منظرها يفزعني وهي تزفر وتتنهد وترسل الدخان الأسود الكثيف ويكاد صفيرها الحاد يطير صوابي. كان الطغيان في أبشع صوره يتمثل لي فيها حينما أراها مقبلة في عبوس بشكلها الكالح الأشوه وحجمها الضخم البشع, وحينما أرى عجلاتها الغليظة القاسية تدور كأنها جائعة إلى السحق, وحينما تمر بالقرب مني وأرى جوفها يضج بألسنة من اللهب الأسود يتطاير منه شرار أحمر فيخيل إليّ أنها ألسنة من الحقد يغلي بها جوف ذلك الحيوان الآلي البغيض. وما تزال القاطرة تمثل لي إلى الآن الحيوان الآلي الذي خلقته الحضارة في أبشع صورة. إنها مثال للقسوة والصرامة والعمي والجبروت, وهي صفات لا شك في أن قلوب الصغار لا تطمئن إليها.

 

فإذا انطلقت بنا من المحطة انطلقت بطيئة تنفخ وتزفر كأنها تستجمع قواها ثم لا تلبث سرعتها أن تزداد ثم تنطلق بعد لحظات فإذا بها تلتهم قضبان الحديد التهامًا كأنما برّح الجوع بعجلاتها, ثم تهيم على وجهها لا تلوي على شيء. وكان يخيل إليّ أن لها نفسًا تنشط كما تنشط نفس الجواد إذا أطلق له العنان فإذا العجلات تحدث صوتا رتيبا راقصا كما لو كان ذلك تعبيرا عن رضاها عما هي فيه من جهد, وإذا بالقاطرة ترسل من آن لآخر صفيرا طويلاً تعبر فيه عن اغتباطها بكل هذا العنف, وهو صفير لا يمت مطلقا إلى ذلك الصفير المعتم الذي أرسلته من قبل وهي داخله إلى المحطة.

 

على أنه سرعان ما تتلاشى هذه الإحساسات حينما يخرج القطار إلى فضاء الطبيعة الواسع. ومن ذا الذي يستطيع أن يذكر شيئا كهذا وهو يخترق حقول إنكلترا في القطار? على الشمال واليمين بساط سندسي أخضر تنافس روعة خضرته روعة زرقة السماء, ولا ترى العين إلا الألوان البهيجة في كل مكان, ألوان الزهور والطيور والأشجار, ألوان الأغنام والأبقار والأفراس, ألوان يخيل إليك لشدة انسجامها أنه قد أشرف على تنميقها فنان قدير.

 

وهذا هو الجو الذي يعيش فيه الناس وهم يصيفون, ولقد اختلطت الآن في ذهني كثير من الصور, ولم يعد في استطاعتي أن أرجع كل صورة إلى مكانها من الجزيرة الجميلة, ولكنني أذكر أنها ترجع في جملتها إلى المسافات الواقعة بين منشستر من ناحية ومدن بلاك بول وسنت آنز وويلز من ناحية أخرى.

 

كلا إنني أذكر بلاك بول مدينة الملاهي الجبارة, فهذه عجلتها الضخمة العتيدة تدور في الفضاء وهي تحمل عالماً من الناس, وهذا برجها الضارب في السماء لا أكاد أطل من أعاليه حتى أتراجع خوفا وحذرا. ماذا جرى لذلك القطار الذي أرعبني في المحطة? لقد أصبح مثل دودة صغيرة مستطيلة تزحف في بطء وهي شبيهة بتلك اللعبة التي اعتدت أن ألعب بها في المنزل, أما الناس فيخيل إليك أنهم بقع صغيرة سوداء تضطرب على صفحة الأرض كما لو كنت تراهم تحت مجهر... بقع سوداء تجتمع وتفترق في غير نظام كما لو كان هناك من يعبث بها. تلك هي الحياة حينما نشرف عليها من الأعالي.

 

مازلت أتصور نفسي في مدينة الملاهي المتلألئة (بلاك بول) فبينما أجد نفسي صاعدا إلى السماء كأنني سهم قد انطلق من قوس, إذا بي أنزل ثانية في سرعة جنونية, حتى إذا كدت أرتطم بالأرض ارتفعت مرة أخرى في اتجاه السماء وأنا ذاهل أحاول أن أسيطر عبثا على أعصابي الصغيرة, وأعقد العزم على أن لا أركب هذه اللعبة الجهنمية مرة أخرى, ولكن لا يكاد اليوم التالي يقبل حتى يعاودني الحنين إليها من جديد.

وها هو ذا رجل يطلب مني أن أجلس على بساط صغير فلا أكاد أفعل حتى يرفع صوته بصيحة مدوية وهو يدفع بي نحو الهاوية فيكاد قلبي يقفز من بين ضلوعي. نعم نحو الهاوية, وماذا تكون الهاوية إن لم يكن هذا السرداب المنحدر الضيق الملتوي الأملس? وأكاد أصيح, ولكن ماذا يجدي الصياح? وأرفع عيني فإذا بالأعمدة والأخشاب والحواجز وقطع الحديد تتراقص من فوقي كما لو كان قد أصابني جنون, ولكنني لا أرتفع من جديد حينما أقترب من الأرض هذه المرة, وإنما ينتهي السرداب فأندفع في الفضاء, ولا أكاد أفيق حتى أجد نفسي أتدحرج فوق الرمال, فأنهض وقد أفلت مني زمام نفسي وأحاول أن أتبين عبثا ما حولي, إن العالم يتراقص, وأنا أيضا أتراقص, ثم أسقط مرة أخرى, لقد أصابني الدوار.

 

ثم بعد ذلك تختلط الصور, فهذا شاطئ البحر قد عج بالفتيات والفتيان حيث تسمع الأذن هدير الأمواج قد اختلط بصياح الأطفال وضحكات الشباب فأحدث ذلك كله موسيقى مستحبة بليغة. إنني أتسابق أنا وأختي فوق الرمال وخطواتنا الصغيرة تندفع نحو البحر اندفاع المتهالك الظمآن.

 

وتختفي هذه الصورة فإذا بنا نتسلق جبلاً منيعاً فنمر برعاة وهم مضطجعون في الظلال وكأنهم يستمتعون بالثغاء والبغام حتى إذا وصلنا القمة وأردنا النزول عجز أحد أصدقاء أبي عن ذلك فلم يكن له بد من أن ينزل جالسا يدبّ قليلاً وينحدر كثيرا.

 

ثم تأتي صورة أخرى, فإذا بنا نسير في المساء على شاطئ البحر, وكانت الطريق خالية موحشة نمر فيها من آن لآخر بحصن قديم يرجع إلى عصر الرومان, ولقد سرنا فيه المساء بأسره نحاول أن نجد فيه منفذا نرجع منه إلى المدينة دون جدوى, والطريق خالية من المارة وكل ما يمكن أن يركب, ولذلك ظللنا نسير ونسير إلى أن عجزنا عن السير, ولكن لم يكن لنا بد من أن نستمر في السير إلى أن خيم الظلام بأسدافه على العالمين, وأطلت النجوم تتلألأ فوق الطريق الرومانية المكتنفة بسورين عظيمين, وبدأ هدير الموج يملأ هذا الجو الموحش بالأصداء الغامضة, ومازلت أذكر أننا قضينا شطرا غير قصير من الليل ضالين ولم تنقذنا إلا سيارة مرت بنا بعد منتصف الليل.

 

لن أنسى تلك الأيام الرائعة التي قضيناها في مصايف إنكلترا الجميلة, لقد استيقظت فيها على بهجة الحياة, وعلى جمال الطبيعة. فهذا هو البحر المتلاطم تتكسر أمواجه على الشاطئ الصخري وقد أثار هذا العالم المائي الدهشة في نفسي. ما هو البحر? عالم من الماء محفوف بالغموض يضيع خلف الأفق دون أن يدرك مداه البصر. وقد سمعت أن وراء هذه المياه عالما آخر, وقيل إنني سأعود مرة أخرى فأخترق هذه المياه عائدا إلى بلاد زعموا أنني جئت منها.

 

والناس في هذه المصايف غير الناس في المدينة, فهم هنا جميعا مستبشرون ضاحكون, يرتدون الثياب البيضاء الناصعة فتزيدهم بشرا ووجوههم محمرة مترعة بالصحة والعافية.

 

وهكذا يمر شهر في السنة نتسلق فيه الجبال ونجوب الشواطئ ونرود الحقول ونرتاد الملاهي. شهر ضاحك راقص بهيج كان له أكبر الأثر في نفسي, فقد كنت أصبح بعده قادرا على تصور ما يدعى بالرضا على الحياة أو إن شئت ما يدعى بالسعادة.

 

وينتهي الشهر هكذا فنقفل راجعين إلى منشستر وقد خلفنا وراءنا تغريد الطيور وفوح الأزهار والورود وهدير البحر. وعدنا إلى منشستر بسوادها وكآبتها مرة أخرى لكي نكون في استقبال الشتاء الكالح العبوس حينما يعود.

 

 

 

8

 

 

كانت الغرفة تسبح في ظلام دامس ندير فيها عيوننا الصغيرة فيخيل إلينا أنها قد اختفت من شدة الظلام. كنا نأوي إلى الفراش منذ الساعة السابعة مساء فيستعصي علينا النوم مرات كثيرة. لم تكن لنا حيلة في هذا النوم المبكر. كنا نقضي الساعات الطويلة في أثناء النهار نتوسل إلى أمنا أن تؤخر نومنا ساعة أو بعض ساعة, ولكن ذلك كان عبثا. وحينما يبتدئ المساء تتعلق عيوننا بالساعة الكبيرة ودقاتها, نعد الثواني والدقائق فتتعلق أنفاسنا بها وهي تتقدم نحو الساعة المحتومة. لقد عرفوا في نفسي كراهية النوم المبكر منذ ذلك الحين, كنت أتمنى اليوم الذي تصير فيه أموري إليّ لكي يكون أول ما أتصرف فيه هو أن أسهر كما أشاء.

 

كانت رهيبة تلك الساعة التي أقضيها بين الوقت الذي آوي فيه إلى الفراش والوقت الذي كنت أنام فيه, أفتح عيني في الظلام الدامس وأحدق فيه إلى أن يكلّ بصري. وحينئذ تلوح أمامي بقع مختلفة الألوان تبرق ثم تسبح قليلاً ثم تنطفئ, حمراء صفراء خضراء, وكان ذلك إيذانا بأن الحياة قد دبت في الظلام, ثم يقفز أمامي عبد أسود يمرق كالظل العابر, وعن يميني وشمالي وفوقي وجوه كالحة تكشر لي عن أنيابها, بارقة العيون منفوشة الشعور متقلصة العضلات, عشرات من الوجوه الكالحة تقترب من كل اتجاه حتى تكاد تطبق عليّ وأفتح فمي بالصراخ ولكني لا أسمع لي صوتا, وأشعر بأنفاسي تختنق فلا تنقذني إلا حركة عنيفة آتي بها, فإذا بي قائم فوق السرير أحدق في الظلام من جديد. وتبدأ البقع الملونة سيرتها مرة أخرى, فأنادي أختي ولكن قلما كانت تجيب لي نداء, فلا ينقذني إلا أن أستلقي ثانية وأدفن وجهي بين الوسائد.

 

لذلك لم أكن أحتمل مطلقا أن تنام أختي قبلي. ولذلك أيضا كنت أكثر من الكلام قبل النوم وأحاول دائما أن أحدثها في الموضوعات التي تهتم بها لئلا تتركني أتكلم وتنام, وإلا فويل لي حينئذ من تلك الأشباح.

 

ثم إن التحدث إلى أختي كان متعة بالنسبة إليّ, ذلك أن مسحة من الغفلة كانت ترتدّ على فكري, فلم أكن أحسن الانتباه إلى ما حولي بل لم أكن أشعر بأن هناك أشياء يحسن أن أنتبه إليها. كنت بواسطتها أعيش لأنها هي التي كانت تنقل إليّ ما يحيط بي. ولقد طالما تبرمت بي وهي تتحدث إليّ دون أن أستطيع متابعتها. كان من المسلم به فيما بيني وبينها أن أعرض عليها كل مشكلة تعترضني, فأنا دائما السائل وهي دائما المجيب. كنت أصدق كل ما يقال لي دون أن أحاول تمحيص أي شيء, ويخيل إليّ الآن أن نظراتي حينذاك كانت تعلوها مسحة من السذاجة لم يكن يجمل بي عدم الإنتباه إليها هي أيضا.

 

طال الليل وطال الحديث, ولكنني كنت صاحيا تماما. إن أخوف ما أخافه هو أن تنام أختي وتتركني فريسة للأشباح. والغريب أن هذه الأشباح كانت ترهبها فلم يسبق لها أن رأتها قط, كما أنها كانت تتبدد سريعاً حينما أناديها فتجيب.

 

ما العمل إذن وأنا مهدد بمواجهة تلك الصور الغريبة? لأحاول أن أثير ذلك الموضوع القديم الذي تحدثنا عنه ساعات وساعات دون أن نصل فيه إلى جواب.فسألت:

 

- لشد ما أتمنى لو كان لنا أخ يؤنسنا في هذا الظلام.

 

- أخ, ومن أين لنا بأخ?

 

- نوصي مسز شلمداين فتقطف لنا واحدا من حقل الكرمب, ألم تقل لنا إنها تأتي بهم في حقيبتها من هناك?

 

- بلى, قالت لنا ذلك.

 

- إذن فالمسألة بسيطة, لنكرر رجاءنا غدا, إن مسز شلمداين امرأة طيبة القلب.

 

- إنني أعجب لقولها. كيف يمكن أن ينبت الطفل داخل الكرمب? هل تصدق أنت ذلك?

 

- فمن أين إذن?

 

- لست أدري ولكنني متأكدة من أنه لا يأتي من هناك, لأننا كلما سألنا أحدا عن ذلك أجابنا جوابا مختلفا عن جواب الآخرين. قال أندريه: إن الطفل يولد وحده في مدخنة المدفأة. وقالت أنجي: إن الأطفال يباعون في السوق. وقالت ألليني: إنهم يأتون في البريد. وقالت أمي: إنها لا تعرف من أين تأتي مسز شلمداين بهم. وقالت مسز شلمداين: إنها تأتي بهم من حقل الكرمب. وهكذا كلما سألنا أحدا أجابنا إجابة جديدة, فماذا تظن?

 

- لست أدري.

 

- وأنا أيضا لست أدري, ولكنني لاحظت أن الأم التي تريد ولدا لا بد من أن يرتفع بطنها. رأيت مسز فلتشر منتفخة ثم رأيت معها توءمين, ورأيت فاطمة منتفخة ثم رأيت معها ولدا أيضا, فلماذا ينتفخن هكذا كلما أردن أن يكون لهن ولد?!

 

- هل رأيتهن أنت ينتفخن? يا ليتني كنت معك!

 

- لم أرهن ينتفخن وإنما رأيتهن منتفخات ورأيتهن أنت أيضا. كنّ كذلك هنا معنا في المنزل, ألم تلاحظ ذلك?

- أبداً لم أر شيئا مما تقولين.

 

وحاولت بكل ما أوتيت من قوة أن أتذكر ذلك ولكن دون جدوى ولكنني صدقتها. لقد كانت لها عينان.

 

وسألتها بعد ذلك: إذن من أين يأتي الأطفال? إنني أريد أخا.

 

فقالت: لا أدري, ولكن لا بد لنا من أن نهتدي إلى طريقة نحصل بها على أخ صغير نلعب معه.

 

ساد الغرفة صمت عميق مرة أخرى, لقد انصرفنا معا إلى التفكير في الجواب عن هذا السؤال العويص, فلم نستطع أن نجد له جواباً, والذي تساوى أمامه ذكاؤها بغفلتي, ذلك السؤال الذي طرحناه على كل من نعرف. والغريب أن المسألة بسيطة فلماذا يحرصون على إخفاء سرها عنا? ويا ليت الأمر كان مجرد جواب عن سؤال! ولكنه كان أمر رغبة ملحة تملكتني أنا وأختي زمنا طويلاً, فلم نكن في غنى عن معرفة الحقيقة. لم يكن الأمر أمر معرفة وإنما كان أمر مصلحة نريد تحقيقها. إننا نريد أخا صغيرا.

 

وطال صمتنا في الغرفة, ونحن نفكر, علّنا نهتدي إلى حقيقة نرضي بها هذه الرغبة في نفوسنا. وقلبت أنا الأمر على وجوهه ولكن لم أر فيه إلا مثل ما أرى في الغرفة من ظلام. وحاولت ثم حاولت......... ثم تذكرت بأن هذا الصمت حري بأن يكون قد حمل النوم إلى أجفان أختي, وحلق بها في سماء الأحلام.

 

- ما العمل إذن يا آمنة?! كيف نستطيع أن نظفر بأخ... آمنة, ماذا? هل أنت نائمة? لا, لا تفعلي يا آمنة!

 

لقد نامت وتركتني وحدي لتطبق عليّ الأشباح مرة أخرى ولكن لأحاول إيقاظها.

 

- آمنة, آمنة, آمنة!

 

يا ويلتاه لقد أطبقت أختي جفنيها, واستسلمت لنوم هادئ مريح. وانتقلت من العالم الذي كانت تبصر فيه عيناها: عالم النور. وبقيت أنا في العالم الذي كانت عيناي تبصر فيه : عالم الظلام.

 

 

 

9

 

 

عاهل المملكة المتحدة وإمبراطور الهند! أليس هذا لقبا جديرا بأن يثير إلى النهاية خيال طفل يذهب به الوهم كل مذهب عند ذكر الأباطرة والأقطاب وأرباب الصولجان والمستحوذين على أسمى ألقاب المجد والسعادة?! فكيف إذا ذكر اسم من لا تغيب الشمس عن ممتلكاته وضياعه في سائر أنحاء العالمين?!

 

نعم لقد بدأ الطفل يسمع عن جورج الخامس عاهل المملكة المتحدة وإمبراطور الهند أحاديث كلها إجلال وإكبار, ولقد طالما سمع عنه مثل هذه الأحاديث فكان يخيل إليه أنها تدور حول شخص لا يُلمس ولا يُرى لجلاله وسمو مكانه. لقد كانت الصورة التي تركتها في نفسه تلك الأحاديث قريبة من الصورة التي تركتها في نفسه الأحاديث التي سمعها عن الله جل جلاله.

 

وأسأل القارئ عن شعوره لو سعى إليه ساع وأخبره أن الله تقدس اسمه سوف يمر بالشارع الذي يقيم به في الساعة الخامسة من مساء يوم معلوم. إنه نفس الشعور الذي تملكني حينما سمعت أن ذلك الرجل العظيم جورج الخامس الذي تسبل الأجفان مهابة عند ذكر اسمه سوف يمر بشخصه في الشارع الذي نقيم فيه في الساعة الخامسة مساء, بعد يومين.

 

وقد حاولت أن أستنجد بالمنطق لاستبعاد ما لا أستطيع فهمه كما تعودت أن أفعل كلما وقفت وجها لوجه أمام خرافة جديدة ...... ولكن هذه ليست خرافة, فإن جيراننا ماضون في إقامة معالم الزينة التي سوف يستقبلون بها العاهل العظيم حينما يزور مدينتهم التجارية العتيدة وينزل من عليائه ليمر بشارعهم المتواضع البعيد في أسفل سافلين.

 

وترك الجيران وسكان الشوارع ماضين في إقامة معالم الزينة وانزوى في اندهاش يحاول أن يعطي لذلك الشخص الخرافي المجيد صورة يقبلها العقل وتنسجم مع كل ما سمعه من سمو وجلال. وأخذت الألوان الناصعة تبرق أمام مخيلته ثم بدأت الأشكال والصور تتلاحق في نفسه, فهو يتصوره مرة مخلوقا سامي التكوين ينبعث من جسمه نور ساطع لا يمكن العين من إطالة النظر إليه, ثم يتصوره عملاقا هائلاً قديرا يقبل في عربة هائلة تمر بين السماء والأرض, لا بل سيقبل ممتطيا سحابة من نور تنزل به من عليائه ثم تمر به في فضاء الشارع ليسعد الناس بإلقاء نظرة خالدة على وجهه النوراني.

 

كان في استطاعته أن يسأل أحد أهل المنزل أو أحدا من آل باترنوس.

 

ولكنه خجل من أن يظهر جهلاً بهذا الشخص الذي لا يصح أن يجهله أحد. وهو لا يزال يذكر تلك النظرات التي كان يقابل بها كلما حاول الإمعان في السؤال عن الله وصفاته لكي يستطيع أن يتصوره, ولذلك آثر أن يتريث, وسوف يدرك الحقيقة كاملة في الساعة الخامسة من مساء الغد.

 

وقضى ليلة مفعمة بالأخيلة البراقة الناصعة لا يميز بين ما رآه منها وهو نائم وما رآه منها وهو صاح يرنو إلى السقف قبل أن يدركه المنام, وكانت كلها تدور حول شكل الملك العظيم الذي سوف يراه في الساعة الخامسة من مساء اليوم التالي.

 

ولقد كنت أشعر دائما بانفعال الغبطة كلما أقبلت على رؤية شيء جديد, وأستوي في ذلك مع جميع الأطفال - وإن كل امرئ منا لا يزال يذكر الشعور الذي تملكه حينما رأى هذا الشيء أو ذاك لأول مرة في الحياة, فما الرأي إذا كان هذا الذي أنا مقبل على رؤيته مخلوقا لا ثاني له, وربما لن يتاح لي أن أراه مرة أخرى مدى الحياة? وهكذا استقبلت صباح اليوم التالي على أنه صباح أروع يوم في حياتي, وازداد إيماني بذلك حينما أشرفت من النافذة على الشارع فبدا لي كما لم أره من قبل وهو يرفل في أزهي الحلل, وبدأت الأحداث تتوالى فازداد إيماني قوة واقتناعا.

 

ظهر في الشارع هنا وهناك رجال الشرطة الإنكليز بقاماتهم المديدة وبذلهم السوداء المرصعة بقطع نحاسية براقة وأحذيتهم اللامعة, أما رزانتهم التي تضرب بها الأمثال فقد ازدادت روعة. إنه ليخيل للمرء أنهم رجال جدد صنعوا منذ نصف ساعة فقط بهذه المناسبة الكريمة.

 

كانت تمر في الشارع من آن لآخر عجلة بخارية يمتطيها ضابط من رجال البوليس بلغ انسجامه معها مبلغاً كان يخيل إليّ معه أنه هو وعجلته قطعة واحدة.

 

ولم تزل المظاهر الرائعة تبدو الواحد تلو الآخر كما هو مألوف في مثل هذه المناسبات إلى أن اقترب موعد الزيارة, وإذا برصيفي الشارع يكتظان قليلاً قليلاً بالناس, ثم توقف مرور السيارات والعربات, وازدحم السكان وضيوفهم في النوافذ والشرفات على طول الشارع. حقّا لقد كان منظرا رائعا بالنسبة لمن يراه لأول مرة...

 

وبدأت حرارة نفسي تستعد للارتفاع إلى درجة الغليان حينما أخذت فرق الشرف تمر بالشارع في ملابسها المزركشة على أنغام مختلفة من الموسيقى منها الحماسي الذي يلهب المشاعر ومنها الناعم الذي يثير الأخيلة. ولشد ما كنت غرا وأنا أبتهج بالمناظر التي رأيتها حتى الآن على خشبة المسرح, فأين هي من هذا المنظر الحي الرائع الذي تشعرك كل حركة فيه بأن دم الحياة والحقيقة ينبض فيه?!

 

ثم أخذ المشهد يدخل في أدواره المثيرة, فبدت الفرق العسكرية في الشارع وهي ترتدي ملابسها البهيجة وتخطو على نغمات الموسيقى العسكرية ولكن دون عنف.

 

ولما ألقيت ببصري على الرصيفين من نافذتنا - وكان يحف بي عدد كبير من الناس يزداد عددهم مع مرور الدقائق دون أن أحفل بمعرفة من هم - خيل إليّ أنهما اختفيا وراء آلاف من علم المملكة المتحدة, العلم العتيد الذي أتعب الشمس وهو يغازلها دون ملل في دورانها حول الأرض...

 

وبدأت أشعر بموجة غير عادية بين الجماهير المتلاطمة تؤذن بأن الساعة المرموقة قد آن لها أن تحل. فسرت فيهم موجة حماسية ما لبثت أن اكتسحت صفوفهم جميعا وانتقلت إلى النوافذ والشرفات.

 

ثم بدأت الموجة تتحول إلى هياج عاطفي غامر. وإذا بالناس يصيحون وهم يصفقون أو يلوحون بالأعلام. وفجأة شعرت بكل الجلوس في الشرفات وأمام النوافذ قد وقفوا وانطلقت من أفواههم تعابير وأصوات تعرب كلها عن الإعجاب.

 

وشعرت هنا بأن موجة الحماسة قد أخذت تكتسحني وأنني بدأت لشدة وطأتها أفقد التمييز بين الأشياء, فقررت أن أنفثها عن نفسي لكي أتملى بالنظر إلى نصف الإله وهو مار بالشارع, فأخذت أتتبع كل ما يحيط بي.

 

وكنت متأكدا من أنني تتبعت كل ما جرى أمامي, وأستطيع أن أقول إنني رأيت كل كف صفقت وكل فم هتف وكل علم صغير لوح به وكل حركة مهما كانت صغيرة وقعت في المحيط الذي يدركه بصري. وكان انتباهي في ترصد ما يجري دقيقا جدّا بحيث لم أشعر إلا بعد لأي بالذين كانوا يصيحون بي في الشرفة: انظر! الملك! الملك!

 

واستدرت إلى الصائحين لأتأكد من سلامة عقولهم, ثم أخذت أتتبع إشاراتهم إلى أن وقع نظري على "الملك"! وتأكدت من أنني رأيت الشخص الذي يشيرون إليه على أنه "الملك".

 

وفي سرعة البرق مسحت يد خفية الجماهير من الشارع كما لو كانت مرسومة بالطباشير على سبورة, واضمحلت الهتافات واختفت الموسيقى وبدا لي أن أكذوبة كبيرة تنتفخ وتنتفخ إلى أن انفجرت واضمحلت مرة واحدة.

 

وبارحت الشرفة في كآبة لا تخلو من غضب, كنت كمثل الطفل الذي مناه والده بلعبة رائعة حار خياله في تصور مباهجها ثم قدمها إليه بعد ذلك لعبة من لعبه القديمة!

وجاءني والدي يسأل:

 

- أرأيت الملك?

 

- لا

 

- ألم تستطع أن تميز الشخص الذي كنت أشير إليه?

 

- نعم, ولكنه شخص وليس الملك!

 

فتضاحك والدي ولعله أدرك ما يدور في خلدي, وما كان يدور في خلدي هو "حضرة صاحب الجلالة جورج الخامس عاهل المملكة المتحدة وإمبراطور الهند, له رجلان ويدان وصدر ورأس ووجه وأنف وفم وعينان. إنك تسخر مني يا أبتاه, وإلا فنحن جميعا حضرة صاحب الجلالة جورج الخامس عاهل المملكة المتحدة وإمبراطور الهند"!

 

قل شيئا غير هذا يا أبتاه!!!

 

 

 

10

 

 

دق الجرس وفتح الباب, وإذا بصوت وقور يقول:

 

- صباح الخير يا سيدتي, أليس عندكم طفل قد بلغ سن المدرسة ومع ذلك لا يزال لم يلتحق بها? فهل هو مريض?

 

- لا يا سيدي الشرطي, إنه في تمام العافية.

 

- هل والده موجود فأكلمه?

 

- لقد خرج إلى عمله.

 

- إذن فأخبريه يا سيدتي أنه لا بد من أخذه غدا في الصباح إلى إحدى المدارس المحلية, وأكدي عليه في ذلك, لأن من المحظور في هذه البلاد عدم الالتحاق بالمدرسة في مثل سنه.

 

- سأخبره بالطبع.

 

- شكرًا يا سيدتي, عمي صباحًا.

 

هكذا فتح أمامي باب جديد أخشى أن يكون ما يزال مفتوحا إلى الآن! إن الأمر لا يتعلق في هذه المرة بأبي, ولو كان يتعلق به لهان, ولكنه أمر الشرطي, هذا الشخص المستقيم الذي لا يضحك, والذي كان يمثل لنا الصرامة مفرغة في قالب من الرحمة. كنت أراه من النافذة وهو يذرع الشارع بخطاه المتزنة وقامته المديدة وأزراره اللامعة, فكان يثير في نفسي معنى غامضا, ولكنه كان جليلاً.

 

هذا شخص لا يُعصى له أمر, وإذن فلا مفر مما لا مفر منه, ولقد أخبرني أبي في المساء بأنه سوف يتأخر عن عمله صباح اليوم التالي ليأخذني إلى المدرسة.

 

لم أنم طول الليل. المدرسة! مررت كثيرا قبل الآن بالمدرسة فكانت تملأني حواجزها الحديدية وبوابتها المقفلة وبنايتها الهامدة بنوع من الارتياب والخوف, فكنت أحمد الله على أنني لا أرتادها مع الأطفال الصغار, ومع ذلك كنت أستغرب كيف يقضون أوقاتهم هناك. قيل إنهم يتعلمون, ولكن ما معنى أن تتعلم?

 

حادثت أختي كثيرا قبل أن أنام, فقالت لي: إن الأطفال يتعلمون في المدرسة القراءة والكتابة.

 

ففهمت, ولكني مع ذلك تساءلت في نفسي: لماذا يتعلم الناس القراءة والكتابة?!

 

وبالرغم من هذا فإن مسحة من الحزن كانت تسود حوارنا, لأنني سوف أعيش بعيدا عنها منذ الآن ساعات طويلة من كل نهار.

 

وجاء الصباح, فإذا بي أرتدي ثيابي وأسير مع أبي إلى المدرسة. لقد تملكتني الرهبة وأنا أخطو معه عتبة الباب, ثم رأيتني أدخل بهوا فسيحا وأتقدم إلى جانب أبي نحو مكتب جلست خلفه سيدة جليلة, فحيت هذه أبي وابتسمت لي ابتسامة ذات مغزى, كأنها تريد أن تقول لي "وأخيرا ها أنت ذا !"

 

ورأيت بعينين مندهشتين دفترا يفتح وقلما يرفع. وبدأت السيدة تسأل أبي عن اسمي وسني ومولدي, وتعقب السؤال بكتابة الجواب. ثم رأيت أبي يخرج ويتركني وجها لوجه أمامها في زاوية من هذا البهو الكبير. كنت أريد أن أصرخ وأن أتمرد ولكنني أدركت أن الأمر جد, وأنه لا توجد قوة تستطيع أن تنقذني, ولذلك فالأجدر بي أن أسيطر على أعصابي وأحاول أن أساير المقادير.

 

ذهبت السيدة بي إلى أحد الفصول, وما كدت أخطو عتبته حتى أخذتني عيون الصغار من كل مكان وهم يتطلعون في شيء من الفضول نحو هذا الزميل الجديد, فكدت أصعق لأنني كنت أكره أن أكون محط الأنظار. وتسلمتني المدرِّسة فأخذتني إلى مكان من الفصل وهي تحاول أن تهدئ من روعي.

 

ما اللغة التي يتكلمها هؤلاء الناس يا رب?! إنني لا أفهم شيئا, فما الفائدة من مجيئي إلى هنا?

 

ضاعت حريتي, وكان لضياعها ألم عظيم في نفسي, فمنذ ذلك اليوم لم يعد في استطاعتي أن أعبر الشارع إلى منزل آل باترنوس كما أريد, ولا أن ألعب مع أختي, ولا أن أستمع إلى أقاصيص أمي, ولا أن أجلس إلى جانب ميللي. كل هذا قد ضاع, فمتى أسترد حريتي يا رب لأفعل ما أشاء حينما أشاء?!

 

راقني في المساء أن تكون الأسئلة لأول مرة من جانب أختي والأجوبة لأول مرة من جانبي, ولكن ذلك لم يعزني عن ضياع حريتي.

 

لقد تحقق ما كنت أخشاه وأصبحت تلميذاَ, ولكن اعتيادي للمدرسة بدأ يهون الأمر مع تقدم الأيام, وبدأت أشعر بأن لهجة الناس قد تغيرت حينما يوجهون الحديث إليّ, فماذا حدث?

 

كنت أجد الأشياء المقلدة بسيطة التعلم, فتعلمت الحروف بسرعة وتعلمت أن أشد بعضها إلى بعض بسرعة كذلك, ولكنني كنت أجد صعوبة في الأشياء التي تفهم. كنت أسمع ميللي وأختيها يتحدثن بأنني أستفيد بسرعة من المدرسة ولكنني لم أكن أصدقهن, لأنني لم أكن أشعر بأنني فهمت شيئا واحدا مما يتحدث به هناك, وكنت مصرّا على ذلك بيني وبين نفسي.

 

وفي المدرسة عرفت شيئا جديدا أزعجني. حضرت يوم الأحد الصلاة مع التلاميذ, فلما رجعت إلى المنزل وحدثت أمي عن ذلك اربد وجهها, وسمعتها تقول إنها لا تسمح لي بالصلاة مع هؤلاء الأطفال. ثم وصفتهم بصفة المسيحية ووصفتني أنا بصفة أخرى لم أتبينها إلا في اليوم التالي حينما صحبتني إلى المدرسة لترجو من الناظرة أن تعفيني من الصلاة, لأنني لا أدين بالمسيحية, وقالت لها إنني مسلم. كنت أتوقع أن ترفض الناظرة حرماني من الصلاة وهي التي سمعتهم يقولون عنها إنها مقدسة, ولكنها على العكس من ذلك قبلت رجاء أمي ورأت أنه واضح ومعقول.

 

كنت أعرف أنني أختلف عن هؤلاء الناس في جنسيتي, وكان ذلك يؤلمني, إذ لماذا لا أكون مثل سائر الناس? فلما عرفت أنني أختلف عنهم في الدين - ولو أنني لم أكن أعرف ما هو الدين - أزعجني ذلك كثيرا. أما في أثناء الصلاة فقد أصبحت بعد هذا اليوم أنتظر المصلين في ساحة المدرسة.

 

وما أزال أرى نفسي إلى الآن والتحسر يملأ قلبي! خرجت من البناية أسعي بخطى بطيئة مطأطئ الرأس, حتى إذا وصلت إلى الباب جلست على السلم القصير وأمامي ساحة المدرسة خالية صامتة تملأ النفس رهبة ووحشة. لماذا أنا سيئ الحظ هكذا? ما لزوم التحاقي بالمدرسة ما دمت أختلف عن سائر التلاميذ? كيف أواجههم إذا ما خرجوا ووجدوني واقفا وحدي هكذا وعرفوا أنني لم أحضر معهم الصلاة? هل أنا كافر شرير طريد من رحمة الله? آه يا رباه!

عرفت أن المدرسة حظرت على التلاميذ أن يفاتحوني في هذا الموضوع, وفعلاً لم يفاتحني أحد فيه, ولكن كانت مسحة من الاندهاش تعلو نظراتهم إليّ كلما خرجوا من الصلاة ووجدوني واقفا أنتظرهم.

 

كانت المدرّسة تروي لنا الأقاصيص الدينية بلغة استطاعت أن تلمس قلوبنا وتفهمنا معنى الدين. كنت شغوفا بهذه الأقاصيص إلى حد بعيد وأتمنى لو كانت الدروس كلها هكذا. إن صورا منها ما تزال عالقة بذهني إلى الآن, وهي نفس الصور التي تقوم أمام مخيلتي كلما قرأت هذه القصص اليوم:

 

يوسف وهو ملقى في الجب بعد أن حسده أخوته, والشرور التي تعرض لها ومحنة أبيه وهو شيخ كبير, ثم انتصاره على الشر وعدم انتقامه من أخوته بعد ذلك الانتصار. والنبي موسى يرهبه البحر فينشق له عن طريق حتى إذا نجا انطبق على فرعون وجنوده ذلك الملك الشرير. والنبي عيسي وهو يرحم الضعفاء والمساكين, في أقاصيص ضاعت مني الآن. كانت مثل هذه السير توحي إلينا بمعنى جليل للخير وتجعلنا نرهب الشر ونخشاه. ثم أقاصيص قوم كانوا يعبدون الحجارة والتماثيل: قوم كافرون جاهلون. وعلى ذلك فالناس قسمان: مؤمنون يعبدون الله رب العالمين فيبارك حياتهم, وكافرون يعبدون تلك الصور الحجرية الضخمة, وهذه صورتهم أمامنا, لقد كانت صورة أبي الهول وعنده جبال قائمة وجباه في الرمال.

 

فهل أنا من هؤلاء الكافرين يا رب? لقد تحدثت إلى أمي بوساوسي فنقلتها إلى أبي. ومنذ ذلك اليوم بدأ يعلمني أنا وأختي ما معنى الإسلام, فعرفت أنني لست من أولئك الكافرين الذين يعبدون الحجارة, ولكن من يبلغ ذلك إخواني التلاميذ الذين يستقبلونني بالدهشة كلما خرجوا من الصلاة?

 

زاد اطمئناني في السنة التالية, لا لأنني اعتدت المدرسة فحسب, ولكن لأن أختي بدأت تصحبني إليها أيضا. فقد مرت بنفس الدور الذي مررت به, فأفضى بها إلى نفس المصير. ومنذ ذلك الحين, بدأ الجيران يروننا كل صباح نفتح باب المنزل وننحدر معا إلى الشارع, فنسير فيه جنبا إلى جنب, إلى أن نغيب عن الأنظار, وكانوا يروننا كذلك حينما نعود.

 

ضاع مني الآن ما كنت أتعلمه في تلك الأيام, إلاّ أن درسا واحدا لا يمكن أن أنساه أبدا, ذلك هو درس النحو. وكنت أساير المدرسة في كل دروسها, لكنني في درس النحو كنت أنقلب إلى تلميذ بليد لا حيلة له. الاسم, الفعل, الحرف, كلمات - وياما قاسيته منها - تترك في الذهن صورا مشوهة ملتوية لأشياء لا تحديد لها. كنت أحاول دائما ألا تلاحظني المدرسة في دروس النحو, ولكنها فطنت إلى أنني لا أسايرها. آه ترى أين هي الآن تلك الآنسة الرصينة ذات القسمات الحادة, والشعور السوداء, والوجه الجميل?! فطنت إلى عدم مسايرتي, فحاولت أياما أن تفهمني باللين فعجزت, ثم حاولت أن توقفني على كرسي أمام التلاميذ وتصيح في وجهي غاضبة بمصطلحات نحوية كانت تزداد غموضا كلما ازداد صياحها. ومنذ ذلك اليوم صار وجهي يحمر خجلاً كلما سمعت أحدا يقول عني إنني تلميذ ناجح, وهذا الخجل نفسه هو الذي منعني من أن أذكر لأحد ما أقاسيه من عنت في درس النحو هذا. ولذلك لم يُعد لي بد من أن أتجرع صامتا كؤوسا مريرة من الحسرة, دون أن يعلم بذلك أحد.

 

ومع هذا لم أستطع أن أقول إن المدرَسة كانت شرّا كلها. فهناك زمالة هؤلاء التلاميذ المهذبين, ومصاحبة أختي, ورضا الناس عنا, واللعب في أثناء الاستراحة, واللعب قبل افتتاح المدرسة في الصباح, وخصوصا الانزلاق على الجليد, والتقاذف بكور الثلج أيام الشتاء.

 

كان باب المدرسة هو نفس باب الحياة, فإن حياتي كانت ضيقة محدودة, وكانت صورها مستمدة من نفسي أكثر مما كانت مستمدة من الواقع. فلما اجتزت عتبة باب المدرسة, لاحت لي الحياة في صور أخرى. ولم يكن ذلك بفضل الدروس, ولكنه كان بفضل البيئة التي أصبحت أقضي فيها جزءا غير قصير من النهار.

 

 

11

 

 

إن مسز شلمداين تزورنا كثيرا في هذه الأيام على غير عادتها, ولما كنا ننتظر بفارغ الصبر رؤيتها لكي نتوسل إليها ونحن نطلب منها أن تأتي لنا بأخ صغير فإنه لم يكن لنا حديث معها سوى هذا.

 

هل تريدان أخا صغيرا? إنني على استعداد للإتيان به, لكن ذلك يكلفكما شططا. لا شك في أنكما تتعهدان بأنكما ستحبانه وترعيانه, ثم إن عليكما بعد ذلك أن تشترياه من مالكما الخاص, فعليكما منذ اليوم أن توفرا نقودكما حتى يتجمع لكما المال الكافي لشراء طفل جميل يكون لكما أخا. هل فهمتما إذن ما أريد?

 

كنا نخبرها في كل زيارة بعد ذلك بما تجمع لدينا من هذه النقود وهي تستزيدنا, ثم قالت لنا ذات يوم: إنها قدمت عند صاحب حقل الكرمب, فحدثته عنا وعن استقامتنا, فرضي أن يمنحنا طفلاً حينما ينبت, ولكنه يشترط أن نظل مستقيمين, وإلا فإنه سيسحب منا وعده, ويبيع الوليد الجديد لعائلة أخرى يكون أطفالها أكثر استقامة.

 

رحمتك يا صاحب حقل الكرمب ! إننا نرسل إليك تحياتنا كلما رأينا المسز شلمداين, وإننا لندعو الله في سرنا وفي جهرنا أن يهب لك البركة في عملك, وكثرة الأطفال في حقلك, فارحم هذه الخلجات التي يخفق بها قلبانا الصغيران. إن الأيام لتمر موشكة أن تنقلب إلى سنين, ونفسينا تذوبان شوقا إلى ثمرة من ثمرات حقلك الخصيب. يا صاحب حقل الكرمب, ليت لك أذنا تسمع حوارنا كل ليلة قبل أن ننام! لقد استبطأنا هبتك الموعودة فمتى تتكرم بإرسالها?! ارحم أملاً في قلبين أوشك أن يعصف بهما اليأس. جمعنا نقودنا ولم نعد نشتري ألعابا ولا حلوى, واستقام سلوكنا فكل واحد منا رقيب على نفسه وعلى الآخر, وإننا لا نسمح للنفس بأن يختلج فيها ما لا يرضى. ليت المسز شلمداين تقبل أن تقودنا إليك, وإذن لسفكنا دموعنا عند قدميك, ولجعلناك ترق لنا بهذه الدموع! ولكنها تقول عنك إنك لا تستقبل المشترين إلا بواسطتها, وهي ماضية في تسويفنا, وإن كانت قد وعدتنا وعدها, فمتى تصلنا هديتك يا صاحب حقل الكرمب?

 

مناجاة نفسين برّح بهما الشوق إلى أخ صغير, لقد زادنا وعد المسز شلمداين شوقا إلى شوق, وإنا لنعلم إنه لحقّ ولكن صبرنا قد نفد.

 

وكثرت زياراتها فكنا نفتح باب الغرفة لنرى تلك السيدة الجليلة تخطو بخطواتها الوئيدة, وقامتها المديدة التي لم تستطيع الأيام أن تثنيها, نحو السلم إلى الطابق الثاني حيث توجد أمي التي لم نكن نراها في هذه الأيام لمرضها, وكنا دائما ننتبه إلى حقيبتها لعلمنا أنها لا تحمل المواليد في الحقيبة العادية, وإنما تحملهم في أخرى جديدة ممتازة أكبر من الأولى.

 

طرقت الباب ذات مساء ففتحت لها الخادم, وما كادت أختي تسمعها حتى أسرعت إلى باب الغرفة تطل منه, لقد كانت على البيت مسحة غير عادية, ولا بد أن ذلك هو الذي دفع أختي إلى الحرص على شدة الانتباه. ثم أقفلت الباب مرة أخرى, واستدارت نحوي تنظر إليّ نظرات غريبة, للأمل فيها بريق شديد.

 

رأيتها تقترب مني وهي تغافل ميللي التي كانت معنا في الغرفة ثم تجلس إلى جانبي صامتة وقد احتبست أنفاسي وأنا أترقب كلامها وأستطلع أساريرها. ثم خرجت ميللي مسرعة كأن صوتا دعاها.

 

لم تكد تقفل الباب حتى استدرت نحو أختي لأسألها, ولكنني لم أجدها إلى جانبي, لقد قفزت في الهواء ضاحكة مستبشرة, ثم دنت مني وهي تقول:

 

- مسز شلمداين!

 

- مالها?

 

- احرص على ألا تقول شيئاً كيلا نفسد الامر.

 

- ما للمسز شلمداين? سوف لا أقول شيئا.

 

- رأيتها تحمل الحقيبة الكبيرة, لقد صعدت بها إلى أمي!

 

- رباه! هل صحيح ما سمعت? أيمكن أن تكون تلك الحقيبة المرموقة ذات الجلد اللامع دخلت إلى منزلنا وفيها أخ صغير?! كنا نتحدث همسا خوفا من أن يسمعنا أحد, وبودنا لو كان في استطاعتنا أن نملأ المنزل ضجيجا من شدة الفرح. ولكن شعورا غريبا استولى علينا معاً, هو أنه يجب ألاّ نسبق الحوادث حتى لا نفسدها, فقد يغضب صاحب حقل الكرمب ويسترد هبته إذا كان قد بعث بها حقّا.

 

قضينا ليلة قلقة ننام ونستيقظ لننام على صوت يهمس تحت الوسادة: أخ جديد! أخ جديد! تحدثنا عنه ما شاء لنا الحديث, ولم أسمع أختي تخبرني بأنها تريد أن تنام, ولم أر أشباحا في الظلام, لقد تبددت تلك الوجوه الكريهة, ولم يعد هناك خوف يملأ نفسي, فلقد ملك عليّ حواسي أن يكون لي أخ جديد. وظللنا هكذا ساعات إلى أن حملني النوم إلى عالم الأحلام الوديع.

 

من هذا الذي ينادينا من عالم الأحلام في الصباح المبكر: استيقظا! استيقظا! لقد أصبح لكما أخ جديد! إنها ميللي توقظنا لتبشرنا بالحادث السعيد.

 

فركنا عيوننا, وتبينا ما يقوله الصوت, فطارت الوسائد في الهواء وطرنا نحن في أثرها نثب ونصيح ونغني, واندفعنا نحو الباب في سباق نحو غرفة أمي لكي نري أخانا الجديد.

 

لا ليس الآن, إنه نائم, سوف لا تريانه إلا بعد يومين, إنه متعب.

 

جلسنا إلى المسز شلمداين وهي تحدثنا عنه وعن صاحب الحقل, وكيف رضي أن يبيعه لنا, وماذا قالت له وماذا قال لها, وعن رضاه عنا وعن سلوكنا. ولكنني لم أكن أستمع إلى شيء مما تقول. كنت أتأمل وجهها الطافح بالبشر والخير, وجهها الطويل المتغضن الذي كان ممتلئا في يوم من الأيام, وفوق رأسها الغطاء الأبيض الناصع حوله شريط أزرق عريض. كان خداها غائرين بعد سقوط أسنانها, وكانت شفتاها ترتعشان وهي تتحدث إلينا فيغمرني حديثها بإحساس كله رحمة وخير. إن هذه السيدة الجليلة ذات الخطى الوئيدة تسحب خلفها تاريخا طويلاً كله عطف وإنسانية. لطالما سهرت الليالي لكي ينام الآخرون, وما تزال إلى الآن تبذل المجهود الجبار على ضعفها لكي تسدي الخير إلى الناس, وتغمرهم بعطفها. إنها فوق السبعين من عمرها. ولكن روح الخير فيها شاب يافع لا يعرف الكلال إليه سبيلاً. وحول رأسها هالة المجد, مجد الأيام الغابرة التي لا تشوب شائبة ما ذكراها.

 

هذه السيدة الجليلة المحطمة هي التي تنهض من فراشها متحاملة على نفسها لكي تسوق السعادة إلى البيوت. إنها تسعف الأمهات, وتواسي الأرامل واليتامي, وتعزي الشيوخ والعجزة, وتحمل الغبطة إلى الأطفال, دون أن يهدأ لها بال إلا إذا قامت بكل ما في استطاعتها لكي تشرق الحياة في بيوت الآخرين.

 

وها هي ذي جالسة معنا وقد انصرفت عن الكبار إلينا, سعيدة لسعادتنا, مغتبطة لاغتباطنا. لقد حققت لنا أملاً, وتحدثت إلينا. وها هي ذي تقوم قائلة: لقد أطلت معكما الجلوس, والآن يجب أن أقوم لأبحث عن الأطفال الآخرين الذين يريدون الحصول على أخ جديد كما كنتما تريدان, أليس كذلك?

 

خرجت متحاملة على نفسها كما دخلت متحاملة على نفسها, ولكن لم يكن يبدو عليها أنها متعبة لأنها كانت تجد لذة في القيام بواجبها, وعند الباب وعدتنا بأن تزورنا في وقت قريب.

 

أما الأخ الجديد فقد رأيته أخيرا, حملوني فأشرفت عليه, فإذا بي أمام مخلوق غريب: أعضاء تافهة, رأس أملس, عينان صغيرتان, أنف أفطس. وما كدت أشرف عليه حتى أرسل في وجهي صيحة كأنه يريد أن يقول: "أنت الذي كتب عليّ أن أكون أخا له?" فما لك تتأملني يا أخي الصغير? ألا تقبل أن أكون لك أخا? لا تخف, سوف نبذل كل ما في استطاعتنا أنا وأختي لكي تكون سعيدا. فرأيته يبتسم ابتسامة كادت تنقلب إلى ضحكة كما لو كان سره أن يختلج قلب أخيه بمثل هذا الشعور, وشد بيده الصغيرة على إصبعي, كأنه يقول: هل أنت متأكد من هذا? فابتسمت له كأنني أقول: وهل تشك في أخيك?

 

ملأنا زهوا وفخرا أن يكون لنا أخ, ولم يكن لاغتباطنا نهاية, أحببناه قبل أن يولد, فلما ولد جنّنا به جنونا. وكان الناس يداعبوننا بهذا, ولكنهم كانوا معجبين لشدة اهتمامنا به وحبّنا له.

 

فيا صاحب حقل الكرمب! لقد وهبت لنا السعادة ممثلة في هذا الأخ الصغير, فكيف ننساك بعد ما رزقنا به?! لقد وصلنا الأخ الجديد ودفعنا للمسز شلمداين النقود التي جمعناها, ولكنها رجعت إلينا بعد يومين قائلة أنك أرجعتها إلينا لأنك راض عن سيرتنا, وإن الأخ الصغير هدية خالصة منك إلينا, فكيف نشكرك على صفاء نفسك وطيبة قلبك?

 

سوف نذكرك ما سعدنا بهذا الأخ الصغير يا صاحب حقل الكرمب, وندعو الله دائما أن يبارك لك في تجارتك, ويهبك دائماً ما تريد. وسنوصي الأطفال الذين يريدون أخوة بأن يشتروا أخوتهم من الحقل الذي تعامله مسز شلمداين, فإن صاحبه لا نهاية لطيبوبة قلبه وحبه للخير.

 

ولكن مع هذا كله لا نستطيع أن نفي بما نحن مدينون به لك ولو ظللنا نسدي لك الخير طول حياتنا. ولذلك نرجو أن تقبل ما يستطيع أن يقدمه إليك طفلان صغيران بعد أن أرجعت إليهما نقودهما, وهو أن يشكراك آناء الليل وأطراف النهار, يا صاحب حقل الكرمب.

 

 

 

12

 

 

وأخيرًا أقبلت ليلة الميلاد, تلك الليلة المرموقة التي انتظرناها طويلاً وانتظرنا ما فيها من ابتهاج وانفعال وغبطة, لقد قابلنا "شيخ الميلاد" وحدثنا في لطف وبشرنا بأننا سوف ننال هداياه ما دمنا محافظين على الاستقامة, وأنه سوف يسعى بها إلينا ونحن نيام في هدوء الليل البهيم. سوف ينحدر إلينا وهو يتنقل بين النجوم ثم ينزل إلى غرفتنا من خلال المدخنة ويتحفنا بما كنا نتمناه خلال السنة. سوف يحقق لنا أحلامنا, تلك الأحلام التي يعرفها جيدا ويعرف كل ما يتعلق بها. أجل قابلناه, ورأينا لحيته البيضاء الطويلة البهيجة, وصافحناه فمنّانا, وهو لا شك ساع إلينا بما نريد, فهو أبو الأطفال جميعا, أبوهم الرحيم الرؤوف الذي خصص حياته الطويلة لأجل إدخال السرور على قلوب أبنائه الأبرياء.

 

أقبلت ليلة الميلاد واحتوتنا غرفتنا لنستيقظ في الصباح على المفاجأة المحبوبة ولكننا لم نستطع النوم من فرط الابتهاج والتوقع, والاطمئنان إلى الأمل البراق. كنا نحاول أن ندفع الأفلاك ونستعجل الصباح الجديد لنحتضن أمانينا.

 

وبدأنا نتحدث كما كنا نتحدث دائما, ولكن حديثنا هذه الليلة كان يمتاز بالحرارة والسرور. كان تفكيري أنا مختصرا في الأماني التي سوف أستيقظ فأجدها حقائق ملموسة, غير أن تفكير أختي تحوَّل فجأة عن هذا الموضوع حينما تساءلت:

 

- كيف يستطيع شيخ الميلاد أن يدخل علينا غرفتنا ونحن نائمون, والباب مقفل?! أليس هذا غريبا?

 

- لا شك في أنه يدخل, وإلا فمن ذا الذي يأتي بالهدايا?

 

- نعم إنك لا تلاحظ ما يحيط بك, أنا أيضا كنت أظن ذلك, ولكن تبين لي أن في الأمر سرّا.

 

- أيّ سرّ?

 

- ألم تلاحظ أن لحية شيخ الميلاد ناصعة البياض دائما وأن ثيابه نظيفة?! كيف لا تسودّ لحيته وتتسخ ثيابه لكثرة ما ينحدر مع المداخن, ثم كيف يستطيع رجل في مثل حجمه أن ينحدر من المدخنة الضيقة? هل تصدق أنت هذا?

 

- كيف لا أصدقه والناس جميعا يتحدثون إلينا بذلك? وإلا فمن يأتي للأطفال بهدايا الميلاد?

 

- آباؤهم وأمهاتهم, يفتحون عليهم الغرفة وهم نائمون, ويدسون الهدايا الصغيرة في الجوارب المثبتة في مؤخرة الأسرّة, أما الكبيرة فيضعونها على الأرض. وإذا كنت لا تصدق ذلك فلنظل صاحيين إلى أن نري من يأتي بها.

 

- ولكن شيخ الميلاد سيغضب إذا وجدنا صاحيين ويرجع دون أن يترك لنا هدايا, فأنت تعلمين أن الأطفال المستقيمين يجب أن يناموا مبكرين.

 

- إذا كنت لا تصدقني فاسمع ما رأيته هذا الصباح: طرق الباب فلما فتح رأيت حمالاً يدخل وبين يديه رزمتان كبيرتان, فأمرتني ماما أن أصعد إلى الدور الثاني حتى لا أرى ما يحمله.

 

- وأي شيء في هذا?

 

- لقد كان يحمل الهدايا التي سوف تجدها هنا في الصباح, فهي معنا في المنزل الآن! وإذن فليس شيخ الميلاد هو الذي يحمل إلينا هذه الهدايا!!

 

- أين هي إذن?

 

- إنها في غرفة الجلوس, فقد ظلت هذه الغرفة مغلقة منذ الصباح, ومنعتني ماما من دخولها حينما حاولت ذلك.

 

- وكيف نستطيع أن نتأكد من أن ما تقولينه صحيح?

 

- ألم تطلب من شيخ الميلاد أن يهدي لك دراجة صغيرة, وطلبت أنا منه أن يهدي لي عربة صغيرة لأضع فيها دميتي?!

 

- هذا صحيح.

 

- العربة والدراجة في غرفة الجلوس, وإذا كنت تريد أن تتحقق من ذلك فهيا بنا ننزل إليها.

 

- إنني أخاف.

 

- ليس هناك ما يخيف. هيا انزل معي, فإنه يجب أن نكتشف الحقيقة!

 

وترددت كثيرا قبل أن أوافق على اقتراحها, فلقد كان رأيا جريئا بالنسبة لي, كان تحديا مخيفا للحقيقة التي كنت أشفق على نفسي دائما من مواجهتها, وتحديا للظلام الذي لا أحتاج إلى أن أقول إنه كان يرعبني. أضف إلى ذلك أنني كنت أخشى أن يكون ما قالته صحيحا فتنهار في نفسي خرافة لذيذة, وتفقد هدية الميلاد بهاءها ورونقها.

وما زالت تقنعني إلى أن قمت معها, وسعينا إلى الباب في بطء على أطراف الأصابع إلى أن وصلناه, ثم عالجناه باللين إلى أن انفتح دون حس, ثم وضعت يدي في يديها وانحدرنا مع السلم بأقدام حافية, وبدت لنا المدة التي قضيناها في سبيلنا إلى الغرفة المقصودة أطول بكثير مما كانت في الواقع لكثرة الهواجس التي شغلتنا خلالها. كنا في أثناء ذلك نضغط حتى على أنفاسنا مبالغة في الحذر. كان عملاً شعرنا بفداحته في أعماق نفوسنا شعورا دقيقا. كنا نخترق القانون ونشعر لأول مرة بما في اختراق القانون من إحساس بوخز في هذا الموضع الذي عرفنا فيما بعد أنه يدعى بالضمير.

 

ظللنا نسمع منذ كان لنا سمع بفداحة الحركة في الظلام, وإننا لنأتي اليوم عملاً لا نستطيع غدا أن نقول إننا أتيناه. أتينا عملاً لا بد من أن نخفيه, وهذا في الواقع تصرف مروع. هيمن هذا الشعور على نفسين ما زالتا بريئتين من كثير مما في الحياة. كنا نضطرب ونقشعر ونكاد نتداعى, ولكن الرغبة في كشف الحقيقة ومواجهة الواقع كانت أكبر من هذا كله, فلقد تمكنا من الوصول إلى غرفة السر وكشف الغطاء عن الحقيقة. فتحنا بابها في حذر, فإذا نحن وجها لوجه أمام الواقع... الواقع الذي شعرنا لأول مرة بمرارته...... كان مصباح الشارع يضيء ظلام الغرفة فرأينا السر على ضوئه الباهت وبدا لنا مرعبا. لم نستطع أن نواجهه وإنما انقلبنا على أعقابنا ورجعنا إلى غرفتنا في صمت.

 

استيقظنا في الصباح على صوت أبي وأمي وقد جاءا ليقدما إلينا هدية عيد الميلاد... فقفزنا نعانقهما وقد أسرع كل واحد منا إلى الهدية التي عرف سرها في أول الليل, عرفها في الظلام, ولكن بالرغم من ذلك كله وجدنا حقيقة الصباح أروع من حقيقة الليل. كم كنت سعيدا بأن تصبح لي دراجة, وكم كانت أختي سعيدة بأن تصبح لها عربة تضع فيها دميتها.

 

كان يوم الميلاد يوما بهيجا كله غبطة وسرور. فلقد زرنا آل باترنوس في الصباح واستمعنا إلى الحاكي الذي كان يغرد بالأغاني الرائعة في هذه الغرفة التي ازدانت بالزهور والصور الجميلة والأثاث الأنيق. كان يوم عيد الميلاد حقيقة يوما جميلاً, وهو يوم جميل في كل سنة, لأنه يحفل دائما بالألعاب والهدايا والزينات والأغاني والابتسامات.

 

وحضرنا هذه الحفلة التي أقامها أصدقاء المراكشيين لأطفالهم ولأصدقاء أطفالهم. ودخلنا بهو الحفلة فتعلقت عيوننا المشدوهة بشجرة بديعة لعيد الميلاد وقد أثمرت بالهدايا واللعب, واشترك الأطفال جميعا في اكتشاف لعبة السر, وهم يتضاحكون ويتلاعبون, وأحطنا بعد ذلك بالمائدة الحافلة باللذائذ والطيبات, ثم ودعنا صاحب الحفلة لنقضي العشية في الحديقة العامة, وفي المساء ذهبنا ضمن جماعة لمشاهدة إحدى الروايات.

 

ابتهجنا بعيد الميلاد ابتهاجا أنسانا قصة الليلة السالفة, وكانت حَرية بأن تنغص علينا بهجتنا وسرورنا.

 

ولكنا تذكرناها خلال الليل, قبل أن نصعد إلى غرفة نومنا, فقد قالت لنا (ماما) ونحن جلوس حول مائدة العشاء:

 

استمعا إليّ. إن شيخ الميلاد يبلغكما تحياته, وهو يعتذر إليكما لأنه لم يستطع أن يزوركما في غرفة نومكما خلال الليلة الماضية فسلمكما هديتكما عن طريقي... راجيا مني أن أنوب عنه في تسليمها إليكما, كما رجا مني أن أوصيكما على لسانه بالاستقامة وحسن السلوك. هل فهمتما?

 

كانت تحدثنا بلهجة غريبة, ولكننا لم نفطن إلى هذا آنذاك, وإنما تبادلنا النظرات أنا وأختي وقد طاف بنا طائف من الاستغراب.... ثم رفعنا عيوننا إلى (بابا) فرأينا بريقا مريبا في عينيه.

 

كانت أختي أكثر اضطرابا مني, فقد كانت هي التي أوحت إليّ بالفكرة في أول الامر, ولكن غمرنا معا شعور من الندم صرفنا عن الكلام, ولم تنبس أختي حينما صعدنا إلى غرفة النوم ببنت شفة خوفا من أن ألومها... دون شك.

 

لم نتبادل أي حديث, ولكن أرقنا طال. فلقد كانت أختي تفكر دون شك فيما دفعتني إليه وما ارتكبناه من جرم, كما كنت أنا أيضا أفكر في نفس الحادث. لقد أسأنا النية بعيد الميلاد..... وتسللنا في الظلام...... واتهمنا والدينا ... ولذلك فقد احتضننا النوم بين ذراعيه الرحيمتين ونحن نتضرع إلى الله من أعماق قلبينا أن يغفر لنا خطايانا في ليلة عيد الميلاد.

 

 

13

 

 

لم يكن هناك ما يدعو إلى الاهتمام بفواجع الحياة, فقد اندمل الجرح الذي أحدثه موت الأم في نفسي, واندفعت في الحياة ألعب مع أصدقائي الصغار ومع أختي وأتردد بين منزلنا ومنزل آل باترنوس والمدرسة.

 

كان لنا أصدقاء صغار يلعبون معنا في الشارع والمنزل لا أزال أذكر منهم ريجي وارن وأرين فليتشر, فماذا يا ترى صنعت الأيام بهما بعد هذه السنين الطويلة? ولست أعرف لماذا علق هذان الاسمان بفكري دون غيرهما خلال هذه المدة الطويلة.

 

لا أريد أن أتحدث عن هؤلاء الأصدقاء هنا, وإنما أريد أن أذكر على سبيل المثال رأيهم في وفي أختي. ذلك أنني كنت ضعيف البنية, وكانت أختي تبدو أقوى مني وأنضر جسما. وعندما كنا نلتقي بعد الخروج من المدرسة لنعدو ونمرح في طريقنا إلى المنزل كان هؤلاء الأصدقاء يشيرون دائما إلى صحة أختي وعافيتها ثم يقيسون ذلك إلى ضعفي وشحوبي. أضف إلى ذلك أنني كنت أمرض كثيرا دون أن تصاب هي بشيء, ولذلك كان الناس الذين يقابلونها بالابتهاج يقابلونني أنا بالعطف, وكانت هي في الواقع أكثر بشاشة وحركة ونشاطا.

 

لست أدري كيف حدث ذلك, ولكنني وجدتني وحيدا بين هؤلاء الأصدقاء. وكان لاختفاء أختي من بيننا تأثير عميق. لقد غابت عن اللعب لأول مرة لأنه لم يعد في استطاعتها أن تبارح المنزل.

 

أقض مضجعي هذا المرض, لأن الناس كانوا يتهامسون حوله, ويكثرون من التأسف. وجاء الطبيب, وهو رجل لن أنساه أبدا, فقد كان مهيبا وقورا يقبل إلى المنزل في سيارته السوداء اللامعة وكان كل من يراه يحترمه ولا يجرؤ أحد على رفع الصوت في حضرته. والواقع أن منظره كان يفرض الاحترام على كل من يراه. وكثرت زيارات الدكتور وادل, وأخيرا أعلن أنه لا بد من أن تذهب إلى المستشفى لتجري لها عملية جراحية.

 

خيم الصمت على المنزل من جديد, وأعاد ذلك إلى ذهني تلك الأيام الكئيبة التي ماتت فيها أمي. وأبي والدي أن يوافق على مثل هذه العملية وطلب من الدكتور وادل أن يجد طريقة لإنقاذها دون إجرائها, وبكت أمي بكاء حارا وخلوت أنا إلى نفسي فإذا بالحادث يتمثل لي في أبشع صورة.

 

لست أدري ما نوع المرض الذي أصابها, ولا أريد أن أعرف, وكل ما أدري هو أنها أصيبت بانتفاخ في عنقها, وكان انتفاخا بشعا, ومع ذلك كنت أطيل النظر إليها ونفسي تكاد تذوب حسرات عليها. ولم أنس منظر أولئك الأصدقاء حينما كانوا يقبلون إلينا لعيادتها, وكانوا يقبلون صامتين مهمومين ويدخلون إلى المنزل في حزن وحيرة, ثم يدخلون الغرفة التي توجد فيها الطفلة المريضة شاردي الأبصار, وهم يخطون في بطء إلى أقرب كرسي أو مقعد, ثم يسأل أحدهم: كيف حالك يا طفلة? فتجيبهم هي في ثبات ويقظة بأنها بخير وأن ما أصابها لا يلبث أن يزول. ويتكرر هذا السؤال من زائر آخر وتتكرر الإجابة وتبدو على الوجوه مسحة غريبة من الحيرة والعطف والخوف, ثم يسود الصمت, ويتبادل الأطفال نظرات كلها ألم وحسرة, ثم يستأذنون في الانصراف ويخرجون وهم يدعون في سريرتهم أن يشفي الله صديقتهم الصغيرة.

 

وأيقنت بسبب هذا الجو الذي بات يحيط بنا أن الأمر جد خطير. وجثم الخطر على صدري وانتابتني هواجس رهيبة, وكنت أشعر بفداحة العجز عن التصرف في مثل هذا الموقف وفي نفس الوقت أشعر بأن هناك واجبا ملقى على عاتقي لا أعرف ما هو, ولكنني أعرف أنني عاجز عن القيام به.

 

وأخيرا أعلن الدكتور وادل أنه لا بد من العملية الجراحية, وأن تأخيرها ليس في مصلحة المريضة. وحاول أبي أن يقاوم لكنه أفهمه في وقاره الصارم - وكأنه يتكلم بلسان القدر - أن نصيحته التي لا يملك غيرها هي أن يضحي الأب بعواطفه في سبيل مصلحة ابنته, وأن الطب تطور تطورا لم يعد معه خوف من العمليات الجراحية, وأنه مندهش لتردد أبي وهواجسه.

 

وذات صباح رهيب في جو يطفح بالدموع والزفرات والألم, نقلت أختي إلى المستشفى وهي ثابتة الوعي, وأقل أفراد العائلة جزعا. وما أزال أراها خارجة من المنزل لتواجه الخطر بجبين مرتفع, وخطوات ثابتة, وهي تؤكد لأمها أن كل شيء سوف يتم على ما يرام.

 

خلا المنزل من البهجة ومن الحركة ومن النشاط ليخلفه جو كله صمت وتوقع, كما لو كانت أنفاسه محبوسة, وحواسه مرهفة لسماع أخبار الطفلة الموجودة في المستشفى. خلا المنزل كما لو كان قد غادره سكانه جميعا, وعششت فيه الوحشة والأحزان, وخصوصا حينما رجع أبي وأعلن لنا أننا لن نستطيع رؤيتها إلاّ مرة في الأسبوع, وأن العملية ستجري بعد بضعة أيام.

 

وانتظرنا على أحر من الجمر موعد الزيارة, وأصبحت أنام وحدي, في غرفتنا, ولكنني في الحقيقة لم أكن وحيدا. لقد كانت ذكراها تملأ الغرفة, وكانت صورتها تتداعى في مخيلتي في أوضاعها المختلفة, وفي صمت الليل وظلامه كانت أنفاسي تحتبس من فرط التأثر حتى لأكاد أختنق.

 

وأخيراً جاء موعد الزيارة, وذهبت مع أبي إلى المستشفى. يا للمكان الرهيب! في هذه الزاوية الهادئة من أطراف المدينة, تقوم تلك البناية الضخمة الغريبة, وإن منظرها ليثير في النفس معنى كله إبهام وغموض. في هذه البناية أرواح في خطر. وأناس مهددون بالموت في كل حين, وقد تركوا لمقاديرهم وأبعد عنهم الناس ليلقوا مصيرهم وحيدين في هذه الغرف الهادئة الصامتة التي تطفح برائحة غريبة كأنها رائحة الأرواح التي احترقت هناك.

 

دخلنا الغرفة فوجدنا أختي جالسة في السرير تستقبلنا بوجه باشّ, وقد كادت تبكي من شدة الفرح. كانت محاطة بالرحمة ولذلك لم تكن منزعجة, ولكن وحدتها في ذلك المكان كبرت عليها. وقد تحدثت إلينا في مثل ذلك الوعي الذي فارقتنا به عن وحدتها, وما تشعر به, والمعاملة الحسنة التي تعاملها بها الممرضات. وانقضى نصف الساعة الذي كان مخصصا للزيارة في لمح البصر, ونبهتنا إحدى الممرضات إلى أن موعد الذهاب قد أزف. وهناك سادنا الصمت, وبدأ الانزعاج على وجه أختي. ولما تحركنا للقيام خانها ثباتها فانفجرت باكية, فلم يكن بد من إنهاء الموقف كيلا تستمر في تأثرها, ولذلك انحنى عليها أبي وقبلها فتعلقت به ترجوه ألاّ يفارقها, فعانقها وهو يطمئنها بصوت مختنق, ويؤكد لها أنه سوف يبذل مجهودا للحصول على إذن بزيارتها كل يوم. ثم خلص نفسه من بين ذراعيها في رفق, وأسرع نحو الباب. وكنت أنا أبكي بكاءً مرّا في أثناء ذلك, فسحبني من يدي, وخرجت معه دامع المقلتين وأنا أشير لها بيدي الأخرى مودعا.

مرت الأيام بطيئة متثاقلة إلى أن جاء موعد العملية, وتأخر أبي عن العودة إلى منتصف الليل, وجلسنا ننتظره وقد خلا كل واحد بهواجسه في صمت. وامتلأ المنزل بفتيات آل باترنوس وبعض الصديقات المراكشيات وهن يواسين أمي ويبعثنها على الاطمئنان, وكررن الكلام الذي قلنه وطال الوقت, وبدا الصمت يسود الجميع, وتعلقت الأنفاس, وتطلع الجميع إلى يد القدر التي توشك أن تطرق الباب, لتحمل الخبر على لسان أبي. وطرق الباب, فقفزت أمي بأسرع ما تستطيع إليه, وتبعتها النساء فدخل أبي وهو مبتهج الوجه ليعلن أن العملية قد نجحت, وأن أختي بخير.

 

وهكذا انتهت تلك الأزمة التي خيمت على المنزل أكثر من شهرين, وعادت أختي إليه بعد نحو أسبوعين, ولكنها عادت شخصا آخر, ضعيفة البنية, شاحبة الوجه, يثير منظرها الرأفة في أقسى القلوب. بيد أن شيئا واحدا لم يفارقها هو ثباتها وإيمانها ودقة ملاحظتها, بالإضافة إلى لمعان لم يفارقها أبدا بالرغم من كل ما أصابها, وكان ما يزال يشع بقوة في فكرها وعينيها.

 

واستقبلها الناس يوم عادت في بشر وحبور, ولكن شخصا واحدا ظل مضطربا هو أنا, ذلك أنني شعرت في غموض منذ أن وقع نظري عليها للمرة الأولى أن أختي التي ذهبت إلى المستشفى ظلت هناك إلى الأبد, أما هذا الذي احتفلنا بعودته فليس سوى شبحها.

 

 

 

14

 

 

وانطلق بنا القطار ينهب قضبان الحديد, وهو يزفر ويصرخ, كما لو كان قد انشرح لأنه أسرنا. كنت جالسا إلى جانب والدي وإلى جانب أحد أقربائي وهو شاب في نحو العشرين من عمره, عاش مدة طويلة في منشستر. وكان وجه أبي منشرحا أما وجه الشاب فكان مغتما, وكانت عيناه تقدحان بمزيج من الحزن والغضب, وأما أنا فكنت خائفا, إذ لم أكن أعلم فيم هذا السفر ولا المكان الذي نقصده, فقد حرصت أمي على ألاّ تخبرني, ولكن أختي منذ يوم واحد فقط قالت لي: إن أبي سوف يأخذني وحدي إلى مراكش, تلك البلاد البعيدة.

 

كان ذكر مراكش يثير في ذهني صورا متعددة من الخرافات التي كنت أسمعها. لقد اختلطت في فكري ببلاد الزنوج, البلاد التي تسكنها المخلوقات الشاذة في كل شيء, في حجمها ولونها والأعمال التي تأتيها. ولم أصدق أختي بالطبع, إذ لم تقل لي ذلك على أنها مؤمنة به, ولكنها ألقت إليّ بالنبأ المروع على أنها فهمته فحسب. فقد قلقت إذ لم أكن أتتبع أنباء البلاد من أمي وحدها, ولكنني كنت أسمعها في المدرسة أيضاً. وكانت أخبارها مثيرة حقا, يلذ للأطفال أن يسمعوها, ولكن لم يكن مما يرضيهم أن يشدوا الرحال إليهم.

 

لم أستطع أن أصدق أننا ذاهبون إلى مراكش, هذه البلاد التي طالما روت لي أمي أعاجيبها. ولكن كل شيء كان يدل على أن أختي صدقت في حدسها, فقد قالت إننا سنسافر بعد يوم واحد فسافرنا بعد يوم واحد, وقالت إنني سوف أسافر مع أبي وحده وهذا ما حصل بالفعل, وهكذا بدأ يداعبني الإيمان بصحة تبينها.

 

ونظرت إلى قريبي الشاب فوجدته يقف ويتحدث بهذه اللغة التي يقولون عنها إنها اللغة العربية. وبالرغم من أنني لم أكن أفهم ما يقول, فإنه كان في استطاعتي أن أدرك أنه غاضب ثائر على هذه الرحلة التي حمل عليها حملاً, وأدهشني أن أرى أبي يرد على هذا الغضب وعلى هذه الثورة بضحكات طويلة تعبر عن الاستهانة والسرور. فكان الشاب يقوم ويجلس في ديوان القطار, ثم يضع رأسه بين يديه في حزن عميق, ولكن أدهشني أن أرى أبي مستمرا في ضحكه الذي لم يكن يخلو من عبث لم أفهمه.

 

كل ذلك والقطار يلتهم الطريق في نهم كما لو كان قد أصابه جنون. وبالرغم من أنني كنت ألاحظ ما يدور بين أبي وقريبي, كنت في نفس الوقت منصرفا إلى التفكير في الغاية من هذا السفر, فقد كنت أتصور أن تحقيقها سوف يكلفنا المخاطر. لم أعد ذلك التلميذ المنسي في مؤخرة الفصل, وإنما أصبحت فتى نهض مع والده ليقتحم قلب إفريقيا بلاد الأساطير. وهذا ما أطار صوابي, ولقد زاد في قلقي غضب الشاب وثورته, فقد عرفت أنه من هذه البلاد التي ننتسب إليها جميعا, ولكنني أعرف أنه لم يعد ينتمي إليها لأنه لم يكن هناك ما يدل على ذلك في الحياة التي يحياها, فهو يعيش بين الإنكليز كأنه واحد منهم, وهذا ما لم ألاحظه في المراكشيين الآخرين.

 

وإذن فأنا على صواب, وإذن فهذا الشاب على صواب, إننا في الطريق إلى بلاد مرعبة مخيفة اعتادها أبي وعرفها, ولذلك فسوف لا يصيبه مكروه. أما نحن الأجانب عنها - أنا وهذا الشاب - فسوف نقاسي منها الويلات بدليل هذا الغضب وهذه الثورة.

 

ولكنني استقررت في آخر الأمر على أن المقاومة عبث في مواجهة ما لا بد من مواجهته. استسلمت للمقادير وتركتها تجري كما تشاء دون أن أحاول أن أكفكف من دموعي.

 

ولست أدري هل كان ذلك في هذا المساء أو في مساء اليوم التالي, وكنت قد هيأت نفسي لقبول المفاجآت ولكنها لم تتحمل ما أرى. هذا جبل من نور في عرض البحر يتلألأ في كبد الليل تلألؤا أعاد إلى ذهني ذكرى مدينة الملاهي (بلاك بول), ولكن هذا التلألؤ يمتاز بالضخامة والجبروت. وإذن فنحن على حدود بلاد الأساطير, وهذا جبل من نور سوف نخترقه ونحن في سبيلنا إليها, وهنا لم أطق صبرا فرفعت صوتي بالعويل, وحاول أبي عبثا أن يهدئ من روعي, فقد تحملت أعصابي فوق ما تستطيع في هذين اليومين. وركبنا زورقا - وأنا أصرخ إلى جبل النور, وصعدنا سلالم واخترقنا هذه الأضواء, ودخلنا غرفة صغيرة, كل ذلك وأنا أصرخ.

 

لم يكن جبل النور سوى الباخرة في الليل, فقد استيقظت في الصباح وأنا مرعوب, وخرجت من الغرفة مع أبي وقريبي, ويا لروعة ما رأيت! حقّا لقد دخلنا في حدود مملكة الأساطير والأوهام, مياه تمتد في كل اتجاه لا تحدها سوى زرقة السماء الشاسعة المترامية. زرقة في زرقة, فكان يخيل إليّ أنني أسمع شيئا عرفت فيما بعد أنه الموسيقى التي تعزفها الطبيعة كلما اختلت إلى نفسها في عرض البحر, وفي أعماق الغابات, أو بين التلال البعيدة, فهدأ ذلك من روعي. دخلنا منطقة الأساطير فإذا كل شيء - على عكس ما كنت أتوقع - مستحب رائع, وإذن فقد كان تخوفي في غير محله. اخترقنا حدودا يدل كل شيء إلى الآن على أن ما وراءها ممتع وجميل.

 

وآن ميعاد تناول وجبة الإفطار, فرأيت رجلاً في ثياب البحارة التي راقتني يتقدم إليّ, ويطلب مني أن أتفضل إلى الغرفة التي يتناول فيها الأطفال وحدهم وجباتهم.

 

وأمرني أبي أن أتبعه فتبعته, فقد استسلمت للمقادير, وبدا لي أن لا بأس من الاستسلام لها. ودخلت خلف البحار غرفة امتدت فيها مائدة طويلة ضج حولها الأطفال, فأخذت مكاني بينهم وراقني أن أوجد في مملكة كل ما فيها من أقراني. وكان زهوي عظيما حينما أقبل إليّ رجل مديد القامة وانحنى عليّ يسألني عن أصناف الطعام التي أريد أن أتناولها في وجبة الإفطار.

 

ورجعت ببصري إلى الوراء فانتهى بي التفكير بسرعة إلى أن أحب شيء لدي هو البيض, وهو ما كان يحظر على أن أتناول منه أكثر من بيضة واحدة فقط, فقلت وعلى صوتي مسحة من التعالي:

 

"البيض!"

 

فقال الرجل الذي كان يبدو لي أطول مما هو في الواقع:

 

وكم بيضة?

 

ولما كنت قد استأنست إلى أنه طوع أمري, وإلى أنه ليس عليّ سوى أن أطلب وعليه أن يطيع, فقد خطر ببالي أن أطلب عشر بيضات أو عشرين, ولكن خيل إليّ أن في هذين الرقمين كثيرا من المبالغة, وأخيرا استقر رأيي على أن أطلب أربعًا.

 

وفي لمح البصر وضعت أمامي أربع بيضات تتراقص في السمن كأنها أربعة من النجوم فالتهمتها التهاما وأنا راض عن نفسي وعن الحياة.

 

ودق جرس عند انتهاء الإفطار, فرأيت الأطفال يقفون فوقفت, ونظرت يمينا وشمالاً فرأيت وجوها صغيرة تبتسم لي فلم يكن لي بدّ من أن أردّ عليها الابتسام, وسرنا إلى غرفة الألعاب, وأي غرفة! مملكة من الممالك ازدهرت بحضارة من اللعب لا يمكن وصفها. ولم تمر سوى لحظة صغيرة حتى اختلط القافزون باللاعبين, والضاحكون بالصارخين, والمشدوهون بالمعجبين, فلم يكن لي بدّ من أن أختلط بهم اختلاطا أنساني كل همومي وأنا أخترق في هذه الباخرة العتيدة عرض البحار, ولم يعد يهمني المصير الذي سوف تنتهي إليه الرحلة.

 

وهكذا نسيت الشاب القريب واستغربت لاكتئابه في عالم الماء هذا اللاعب الضاحك المفتون, ولكنني لم أهتم له بعد ذلك. وقد عرفت فيما بعد أن سرّ غمّه كان يرجع إلى أن والده قد أرسله معنا إلى مراكش ليتزوج, وكان هو يريد أن يتزوج فتاة إنكليزية لا فتاة من هذه البلاد التي لم يعد ينتمي إليها بسبب من الأسباب.

 

ولست أدري أين انتهت هذه الرحلة: هل انتهت في جبل طارق أو في الجزائر? ولكنني لا زلت أذكر أنني نزلت إلى البر من هذه الباخرة التي أذكرها بكل خير, وأنا أسبل من دموع الحنين إلى ذكرياتها القريبة ما يوازي الدموع التي أسبلتها خوفاَ منها وأنا أصعد إليها.

 

وأذكر أننا ركبنا باخرة أخرى لمدة قصيرة لا تتجاوز اليوم الواحد, كانت خالية من كل المتع التي عرفتها في الباخرة الأولى, فرغبت عن الحياة فيها, وبدأت مخاوفي تعود إليّ مرة أخرى, خصوصا بعد أن وصلنا إلى الدار البيضاء - ولم أكن أعرف أنها كانت مسقط رأسي منذ بضع سنوات, ومن يدري? فقد أكون شعرت بأنها ليست غريبة عني, ولكنني بالرغم من ذلك أحسست بأنني بدأت أخترق الحدود المهمة من عالم الأساطير.

 

ولم أكن أعرف يومئذ مقادير الشعوب وتقلبات الأيام, ولكن راعني أن أرى بشرا غير البشر ووجوها غير الوجوه. لست أعرف الآن ما فعل الله بهذه المدينة, ولكنني أذكر أنني رأيت فيها وجوها ارتسم عليها حزن لا يمكن أن يغيب حتى عن الأطفال. حزن مروع يعبر أصدق التعبير عما يعانيه أصحابها بعد مجد الماضي الذاهب من بؤس مقيم, فأصابني نوع من الذهول. لقد بدأ الأمر يعود إلى طبيعة الجد والصرامة, هذه الوجوه الكالحة والثياب الممزقة, والأجسام العارية, لا بد أنها تنتسب إلى فصيلة أخرى من البشرية غير التي أعرفها.... وقد دخلت في عالم المفاجآت حقّا... فما لي أرى قوما آخرين على بعد خطوات من هؤلاء البؤساء يعيشون نفس الحياة التي كنت أعرفها فيما مضى. ولكن أليست هذه بلاد الأساطير?

وشيء آخر استثار خيالي, ذلك أنه لم يكن يخطر على بالي أن هناك رجلاً آخر يشبه أبي إلى هذا الحد, ولكن هذا ما حدث. نقلت بصري من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين فإذا الشخصان شخص واحد, هذا الرجل الذي طالما أحببته يوجد رجل آخر يشبهه هو أخوه.

 

ورفعني الرجل وقبلني وقال لي بلغة إنكليزية ركيكة وهو يضحك: "أو تتكلم الإنكليزية?" قال لي ذلك كما لو كان قد ضبطني متلبسا بجريمة فخجلت, ولكن خجلي ضاع في ضحكاته المتواصلة وهو يداعبني.

 

قال وهو يضاحك أبي دون أن يمنعه ذلك من توجيه الكلام إليّ:

 

تعال, تعال لا ضرورة لإضاعة الوقت هنا في هذه المدينة الخربة. هيا إلى القطار لآخذك إلى فاس, حيث تجد جدك وجدتك, وحيث تتعرف إلى الحياة كما ينبغي أن تكون. يا لك من طفل هذبته المدنية الغربية! هيا هيا, سوف أعلمك أن هؤلاء الفرنجة لا يعرفون شيئا عن الحياة في أبهى صورها, صورها البراقة الممتعة, هيا إلى فاس أرض آبائك وأجدادك, حيث أقدمك إلى الحياة التي لا شك في أن هؤلاء الفرنجة أفسدوا رأيك عنها.

 

 

 

15

 

 

رحم الله تلك الأيام, فلقد كانت مفاجآتها سريعة متلاحقة, بحيث لم يعد في المستطاع متابعتها. فلنتجاوز السفر من الدار البيضاء إلى فاس, ودعنا ندخل سريعا إلى المدينة لنخترق شوارعها الضيقة, التي كانت أكبر هذه المفاجآت. أهذه هي المدينة التي كان عمي يقول منذ يوم واحد إنها تمثل البلاد على حقيقتها? لا بد أن الناس لا يستطيعون السير في شوارعها إلا وهم يتصادمون بالأكتاف. دخلنا في أثناء الليل, فرأينا مصابيح الشوارع الباهتة الحزينة كما لو كانت مصابيح تركت في مكانها بعد مأتم...... أي مدينة خربة هذه التي وصلنا إليها?! انتهت الشوارع ووصلنا إلى المكان المقصود, واخترقنا الباب, فإذا بوجوه عديدة تستقبلنا, وجوه نساء ورجال خيل إليّ لأول وهلة أنني أعرفها. واختلط الحابل بالنابل, واختلط المهنئون بالمسافرين, فإذا بي أبحث عن أبي فأجده ضاع بين الأذرع, وأبحث عن نفسي فأجدها ضاعت بين الأذرع أيضا. هذا يرفعني إلى الفضاء فإذا اطمأننت إلى الأرض رفعني آخر. وهكذا صار الموكب في ممشي طويل وكل من حولي يقولون: دعنا ننطلق إلى الجد والجدة فقد برح بهما الجوى.

 

وبين من رأيت أطفال صغار, قيل لي هذا ابن عمك وابن عمتك, إلى أن وصلت إلى أحدهم فقيل لي: هذا أخوك. ثم قيل لي: هذه أختك; فهل فتح لي صاحب حقل الكرمب حقله على مصراعيه أقتطف منه ما أشاء? أخي? أختي? لقد كان يخيل إليّ أن أبي يراضيني وهو يقول لي ذلك, ولكن هذا الصبي وهذه الصبية أخي وأختي, أجدهما أمامي حقيقتين تتحركان وتسعيان. ووضعت يدي في يد أخي الذي لا أعرفه, وفي يد أختي التي لا أعرفها, فشع في نظرهما بريق غريب خيل إليّ أنه شع في نظري أنا أيضا.

 

ثم فجأة ساد الجميع صمت غريب, ورأيتني أدلف بخطى وئيدة إلى هذا الشيخ القابع في زاوية الغرفة الكبيرة, واقترب مني أبي ليشجعني ويقول: "هيا يا فتى! هذا جدّك فضع يدك في يده."

 

شعرت لأول مرة بالغبطة لأن لي جدًّا, ثم ازدادت هذه الغبطة حينما رفعت نظري إليه, كان يبتسم في سخرية وهو يتطلع إليّ بعينيه الذابلتين, كأنه يريد أن يقول: يا لتقلبات الأيام! لقد جعلوا منك إفرنجيا يا صغيري, ولكن لا بأس, اقترب, فسوف أعلمك كيف تكون مراكشيا.

 

وهمس أبي: قبل يده يا فتى, قبل يده, فهذا جدّك.

 

فاقتربت منه في ذعر وقد نسيت كل من حولي وما حولي, ولثمت بشفتين مرتعشتين يدا مغضنة, فأخذني الشيخ من يدي وهو يقربني إليه قائلاً: وأخيرا ها أنت ذا, اقترب, اقترب يجب أن تخلع هذه الثياب الضيقة وتستبدل بها ثيابا فضفاضة واسعة. هل أنت خائف مني?! اقترب, اقترب.

 

كنت أرتعش كالريشة في مهب الرياح, وأنا أنظر إلى هذا الرجل الصارخ الذي قيل إنه جدي أي أنه والد والدي. هذا هو الرجل الذي ربى والدي وعلمه, هذا هو الرجل الذي أتساوى أمامه أنا وأبي, ولكن خيل إليّ أن أبي يحتفظ بشيء من شخصيته ونحن أمامه, فاستغربت لهذا.

 

كان يبدو لي أن جدّي سوف يصيح في وجه ابنه الذي هو أبي: أين تأخرت كل هذا الزمن الطويل? وفيم كان تأخرك? لقد كان يجب أن تكون هنا منذ زمن بعيد, ولكنك تأخرت.

 

ولم يكن من المستبعد عندي أن ينهض جدي مهددا وأن يهرب أبي خائفا, ولكن شيئا من هذا لم يحدث.

 

وإذن فإن العلاقة بين جدي وأبي شيء آخر غير العلاقة بيني وبين أبي. ولكن بينما كانت هذه الأفكار الصبيانية تتداعى بسرعة في فكري شق الصفوف عمي الذي استقبلنا في الدار البيضاء وهو يصيح:

 

هذا هو الفتى الذي نشأ في بلاد الإنكليز, ألست ترى ثيابه? ألست تشعر بأنه فتى غريب? فلم يجب الشيخ ببنت شفة, وإنما اقتصر على نقل نظره منه إليّ ومنه إليه كأنه يسخر منا معا.

 

قال عمي: هيا تحدث إلى جدك بالإنكليزية.

 

ولكن جدي ضحك ضحكة ممطوطة استغربتها منه, فخيل إليّ أن من الواجب أن أرفع صوتي بالعويل. واستولى عليّ شعور مرعب هو أنني خلقت لأكون غريبا! ففي البلاد التي أتينا منها كان الناس ينظرون إليّ على أنني غريب, وفي البلاد التي يقال إنني منها نظر الناس إليّ أيضا على أنني غريب! ولذلك فقد أصابني شعور يشبه الشعور بالاضطهاد.

 

وصاح جدي في غمرة من الصمت: غيّروا هذه الثياب! إنها ثياب الكفرة, هيا افعلوا شيئا لأراه في ثياب المسلمين. ثم أقبل عليّ وهو يضحك ليقول: سأعلمك, سأعلمك كل شيء أيها الصغير حتى تصبح جديرا بأن تنسب إلى الإسلام والمسلمين. وكأن الكفر يتمثل له في الثياب التي أرتديها, وكأن الإيمان يتمثل له في الثياب التي أمر بأن أرتديها في صرامة ممزوجة باللين.

 

بيد أنني لم أكن أهتم كثيرا بفهم ما لم أفهمه من حديث الشيخ. هذه الوجوه! هذه الوجوه قبل كل شيء, لقد ارتسمت عليها ألفة محببة استطعت أن أسبر غورها لأول نظرة. شعرت بأن الجميع كان يرثي لحالي, ولكنني في نفس الوقت - وهذا غريب - أشعر بأنني كنت أرثي لحال الجميع. إذ خيل إليّ أنهم في أشد الحاجة إلى شيء فقدوه, لا أدري ما هو.

 

لا أعرف ماذا حصل بعد ذلك, ولكنني أذكر أن صعوبة شديدة قامت بيني وبين هؤلاء الناس من حيث التفاهم. وأذكر أنني أعجبت بحياتهم إعجابا شديدا كما لو كنت قد انتقلت بلمسة من ساحر إلى عالم من الخيال. واسترعى نظري كثرة ما يوجد في هذه البلاد من الثمار المختلفة الألوان والطعوم. ولا أكتم القول بأنني بدأت أنظر إلى الإنكليز بعد مدة قصيرة بشيء من الاستخفاف, لأنهم لا يعرفون كيف ينتجون مثل هذه الألوان من الثمار, وخيل إليّ بالضبط أنها مصنوعات محلية يجهل الإنكليز طريقة إنتاجها.

 

وبهرتني الدور, الدور المزخرفة الواسعة الأرجاء. ويا لتفاهة هؤلاء الإنكليز وتفاهة الدور التي يسكنونها! وبهرني البذخ, البذخ الممتع البراق, ويا لتفاهة ما يفهمه هؤلاء الإنكليز عن الحياة وما فيها من روائع.

 

وهكذا بدأت حياة جديدة كلها متعة ترضي الحسّ حقيقة وتزري بحياة منشستر الفاحمة السوداء... وقد قضيت في فاس ستة أسابيع لا أظن أن في استطاعة أي مدينة في العالم أن تقدم لي حياة شبيهة بها في الروعة.

 

كنت أستمتع بكل شيء, بما يرتسم على وجوه الأطفال من غبطة وسرور وعزيمة, وبما كنت أجد في الأسواق من هذه الأشياء الرائعة الهائلة التي كانت تبعثني على الاستغراب. ولقد طالما استمعت إلى أقاصيص والدتي وهي تحدثني عن مراكش, ولم يخطر ببالي أن في استطاعة الحقائق أن تتحدى الأحلام إلا حينما حللت في هذه البلاد.

كنت أحسب حنين والدتي إلى مراكش ضربا من الحنين إلى مسقط الرأس, ولكنني وجدته في محله, وما زلت أشعر بهذا إلى اليوم, ولن أستغرب إذا حل بها غزاة وتمسكوا بها إلى الأبد إذا كان في استطاعتهم ذلك.

 

لقد طالما ارتسمت في ذهني صور مضحكة عن هذه البلاد, وذلك بسبب الجو الذي عشت فيه, ولكنني حينما حللت بها, حينما ذقت ملذاتها واستمتعت بما فيها من أطايب, حينئذ بدا لي أن العالم الحي هو مراكش, وأن مراكش هي العالم الحي. وأنا أحذرك من أن تحسبني مبالغا فإن في حسبانك هذا إضاعة لروعة ما كنت أحس به, ذلك أنني كنت أشعر حقيقة بأن سكان هذه البلاد قد ألم بهم طائف من البؤس, ولكنني لا أستطيع مع ذلك أن أنكر أن الصور التي بعثت في ذهني عنها هي نفس الصور التي بعثت في ذهنك عن الجنة بعد كل ما سمعت عنها.

 

ولست أعني بمراكش الوجوه البائسة التي تقابلها, ولا هذه العقول التي تكمن وراء هذه الوجوه, ولكنني أعني مراكش الخالدة, تربة مراكش الخصبة, وضميرها الواعي وعقلها المفكر. لشد ما أتمنى الآن حفنة من ترابها أستنشق منها العبير الزكي الفواح.

 

وما من شك في أنني أستعين بتجاربي في الحياة بعد ذلك لتحديد الصور على الشكل الذي حددتها, ولكنني كنت أشعر بهذا كله شعورا مبهما.

 

وهكذا قضيت ستة أسابيع لن أنساها ما حييت في هذه البلاد الخالدة. رجعت إلى إنكلترا بعدها أحمل لها من الشوق والحنين ما لم أحمله للبلاد التي عشت فيها منذ ولدت, وقد كان عمي في توديعنا كما كان في استقبالنا في مدينة الدار البيضاء, وكان يلوح لي بيده وهو يقول:

 

ستعود أيها الصغير فأطلعك على ما لم تتح لك الفرصة للاطلاع عليه من بلادك هذه. إنك راجع إلى بلاد الإنكليز ولكن هذه هي بلادك, وسوف ترجع إلينا مرة أخرى لتعيش هنا إلى الأبد. دعني أقبلك قبل أن تصعد إلى الباخرة, ولكن تذكر بعد هذا كله, تذكر دائما أن هذه البلاد هي بلادك مهما ابتعدت عنها وفرقت بينك وبينها الديار.

 

 

 

16

 

 

رجعنا إلى منشستر, واستقبلتنا أمي وأختي عند عتبة باب المنزل ومعهما آل باترنوس وآخرون. ولاحظت الانشراح على وجه أمي ووجه أختي لعودتنا, ولكنني لاحظت شيئا آخر على أختي هو هذا الشيء البغيض الذي بات يطالعني في وجهها منذ عودتها من المستشفى, ولذلك بت أتلافى النظر إليه لأن هذه المسحة الكريهة التي علته كانت تفزعني وتبعث فيّ إشفاقا غريبا.

 

وما كدت أطمئن إلى أن الجميع أخذ مكانه من غرفة الاستقبال وانصرف إلى الحديث مع أبي وأمي حتى تملكتني رغبة لم أستطع مقاومتها, فانسللت رويدا رويدا من الغرفة وانطلقت أبحث عن دراجتي الصغيرة.

 

وجدتها قائمة إلى جانب الحائط وقد مالت عجلتها الأولى نحوه وعلاها الغبار, وهي في وضعية حزينة كأنها تشكو إلى أسفل الحائط ما أصابها من غبن في هذه الأيام الأخيرة, فأقبلت عليها أنفض عنها الغبار وأنا أكاد أعانقها من شدة الحنين إليها, كما فعلت يوم قدمت لي هدية في عيد الميلاد, فخيل إليّ أن الحزن يزايلها قليلاً قليلاً, ولم تمر سوى لحظات حتى كنت قد ركبتها وانطلقت عليها كالسهم في الشارع.

 

تملكني خلال ذلك شعور غريب - وقد تملكني منذ دخلت المنزل - ذلك أنني كنت أتأمل الشارع فإذا كل شيء فيه على سابق عهده: النوافذ والأبواب والأرصفة وأعمدة النور وكل شيء في مكانه القديم كما كان. ولكن بالرغم من أن الجزئيات كانت تامة فإن مظهرها قد تغير. وهذا ما لا أزال ألاحظه كلما غبت عن مكان ورجعت إليه - ولعل الناس جميعا يشعرون بذلك - ولا بد من مرور وقت كاف لأجل أن يعود هذا المظهر العام إلى سالف عهده. فهل للأمكنة كما للإنسان نفوس, أم أن العيون لا تدرك الأشياء على حقيقتها إلا بعد أن يتكرر النظر إليها? سؤال لا مجال للبحث عن الرد عليه هنا.

 

وبينما كنت أستغرب لهذا سمعت صفيراً حادا فالتفتّ فإذا بالصديق ريجي واقف عند باب منزله يلوح لي بيديه ويدعوني, فخففت من السرعة ثم عرجت عليه.

 

قال وأنا أترجل إلى جانبه: متى رجعت? لقد غبت عنا مدة طويلة. وبعد أن تبادلنا بعض العبارات فهم أن الرحلة كانت مهمة فأقبل عليّ يقول: لنجتمع غدا في الصباح في الشارع الخلفي حيث نستطيع أن نتحدث عن رحلتك وما رأيت فيها: فوافقت, وافترقنا.

 

كنا جالسين حول مائدة الإفطار حينما انطلق الصفير في الشارع الخلفي فاحمر وجهي لأن تنادينا بالصفير كان لا يعجب آباءنا وأمهاتنا, فقد كانوا يعلمون أن في هذا التنادي ما يدعو إلى الظن بأننا نفعل ذلك للقيام بعمل لا يحبونه. ونظرت إلى أبي ثم إلى أمي فخيل إليّ أنهما لم يسمعا, ثم نظرت إلى أختي فأبصرت بريق الإدراك في عينيها, وقد كنت قلت لها من قبل إننا سوف نجتمع في الشارع الخلفي لأحكي للأصدقاء الصغار ما رأيت. وبدأت أتحرك لأنزل من الكرسي, ولكن بينما كنت أفعل انطلق الصفير مرة أخرى, ونظر إليّ أبي وقد شك في العلاقة بين الصوت وحركاتي, فقفزت - تلافيا للحرج - إلى الأرض وانطلقت أعدو.

 

فتحت الباب وخرجت فوجدت جماعة كبيرة من الأطفال تطوع ريجي باستدعائهم بالصفير لأجل أن يستمعوا إلى القصة التي سوف أرويها عن هذه البلاد البعيدة التي كنت فيها. جلست على عتبة الباب العالية وجلس الأطفال حولي يصيحون ويتساءلون وينظرون إليّ نظرات لا تخلو من الإعجاب والتقدير.

 

قال ريجي: ما اسم هذه البلاد التي كنت فيها?

 

قلت: "مراكش".

 

قال: هيا, لا داعي لإضاعة الوقت, حدثنا عن مراكش.

 

قلت: بلاد جميلة شمسها ساطعة, ومناظرها بهيجة, ولكنها حافلة بالغرائب.

 

وما كدت ألفظ هذه العبارة حتى برقت العيون ومالت الأعناق بالرؤوس الصغيرة وتطلع إليَّ الأطفال.

 

هيا حدثنا عن الغرائب, حدثنا عن الغرائب!

 

فكرت قليلاً وأنا أحاول عبثا أن أجد مفتتحا للحديث, وأخيرا أنقذني أحدهم حينما سألني: هل يذهب الأطفال إلى المدرسة في هذه البلاد التي تقول إن اسمها مراكش? - آه المدرسة, نعم يذهبون إلى المدرسة, ولكن هل تعرفون ما المدرسة? غرفة مظلمة مفروشة الأرض بما يشبه التبن, يجلس عليها الأطفال وأمامهم المدرس في مكان عال بارز يحمل عصا طويلة في يده, وهو يحث التلاميذ. هل تعرفون علام يحثهم? على إحداث الضجيج, على رفع الصوت والصياح, وويل للتلميذ الذي يتوانى في إحداث الضجيج!

 

- هل يتعلمون إحداث الضجيج?

 

- لست أدري, لا بد أنه الضجيج, فإن كبارهم يبرهنون دائما على أنهم تلقوا في صباهم دروسا قيمة وبليغة الأثر في هذا العلم. دعنا من هذا, ولنفرض أن أحد التلاميذ ارتكب ما يستحق عليه العقاب, هل تظنون أن المدرس يطلب إليه أن يمد يده ليضربه? كلا. بل يوجد في كل مدرسة عادة تلميذ قوي لا يكاد المدرس ينظر إليه نظرة ذات مغزى حتى يخف الضجيج فجأة, وينقض ذلك التلميذ القوي على المذنب في لمح البصر, وبحركة واحدة رشيقة يطرحه أرضا ويرفع باطن رجليه إلى المدرس, وهنا ينفخ هذا الأخير في يديه وهو يختار من بين العصي التي يضعها إلى جانبه أمتنها عودا وأحدّها وقعا, ثم يأخذها وهو يشمر عن ساعده الأيمن, ثم يضرب بها الهواء في خبرة - كما يفعل الحوذي - وذلك لكي يتأكد من جودتها. وهنا تبدأ عملية الضرب, الضرب الشديد المتواصل فيتعالى صوت المسكين بالصراخ. ثم يهدأ الضرب لينحني المدرس على التلميذ يوبخه ويتوعده. ثم تبدأ العاصفة مرة أخرى إلى أن يعجز المضروب عن الصراخ وتنهك قواه. وهنا يأمر المدرس بأن يطلق سراحه وهو يضربه ضربة أو ضربتين إضافيتين على يافوخ رأسه, وقد ينبثق منه الدم. فإذا انتهت الدروس الصاخبة خرج المضروبون يعرجون.

 

وهنا قال طفل صغير لم يستطع أن يكتم شعوره: آه آه هذا مروع!

 

وقال آخر متسائلاً: أليست هذه بلادا غريبة?!

 

فاستأنفت: تلك هي الكلمة: بلاد غريبة, كل شيء فيها غريب: أطفالها, نساؤها, رجالها, أكلها, بيوتها, كل شيء! هل تعرفون قصة الأكل هناك? إن الناس يأكلون وينامون في غرفة واحدة, ويجلسون وينامون على مخدات كبيرة. في وقت النوم تنقلب إلى غرفة النوم, وفي وقت الإفطار والغداء والعشاء يقبل الخدم بمائدة قصيرة الأرجل يضعونها على الأرض ثم يضعون حولها المخدات, ثم تقبل خادم صغيرة وهي تحمل آنية صفراء في يد وفي يدها الأخرى إبريق تطوف بهما على الجلوس لغسل اليدين - نحن نسعى إلى الحنفيات, أما هم فتسعى الحنفيات إليهم - ثم يجلس الناس حول المائدة على المخدات ولا يوضع عليها إلاّ طبق واحد كبير وقطع الخبز, ثم ينكب الجميع على ذلك الطبق الواحد بأيديهم يلتهمون ما فيه.

 

قال أحد الأطفال: عرفت تلك البلاد الآن, عرفتها, لقد رأيتها في السينما, إنها بلاد الزنوج.

 

قلت: تعني البلاد التي يسكنها السود? كلا فأهل هذه البلاد وإن كانوا غرباء في كل شيء إلا أن بشرتهم بيضاء, وهم في أشكالهم مثلنا تماما, إنهم يزاولون جميع الأعمال التي نزاولها ولكن بطريقة غريبة.

 

وهنا احتدم نزاع علمي بين الأطفال. فقد راحوا يختلفون حول موقع هذه البلاد, وكانوا يستقون معلوماتهم من السينما, فترددت على ألسنتهم شعوب هي: الغجر, الهنود الحمر, الإسكيمو, الزنوج, كل واحد يروي ما رآه في السينما ويزعم أنه يعرف البلاد التي أتحدث عنها. فوقفت أنظر إليهم وأنا أنتظر أن يصلوا في نزاعهم إلى قرار.

 

واستطعت أن ألتفت وأرى إلى جانبي أختي تتطلع إليّ في صمت, وقد علت وجهها تلك المسحة الغريبة التي كنت أكرهها. ولعلي ضقت ذرعا بنزاع الأطفال, فقد تعلقت نظراتهم بي وهم يخشون أن أنصرف دون أن أتمم لهم حديثي عن الغرائب التي رأيتها. حينئذ جلست مرة أخرى.

 

قال طفل: هيا حدثنا عن الحرب, كيف يتقاتلون? قلت: هذه بلاد ليس فيها حرب ولا قتال, ولا أظن أن أهلها يغامرون, فإنهم مسالمون ينزعون إلى نعومة الحياة ورغدها, وهذا يكفي في الدلالة على أنهم ليسوا من الغجر ولا الإسكيمو ولا الهنود ولا الزنوج. إنهم لا يعرفون القتال, ولكنهم يعرفون الأفراح, ويعرفون الأكل الجيد, ويولعون بالأشياء البراقة.

 

حضرت حفلة زواج حينما كنا هناك, وسوف أروي لكم ما شاهدته فيها حتى لا تسيئوا بها الظن مرة أخرى.

 

كان المنزل واسعا ضخما مزخرفا, ذا أعمدة كبيرة, تتراقص في وسطه نافورة من الماء الصافي, فرشت أرضه بتلك المخدات الكبيرة, وجلس عليها في شكل دائرة جوق الموسيقى وقد حف به المدعوون. وفي الدور الثاني يطل عشرات من النساء يستمعن إلى الموسيقى التي كان يعزفها الجوق وهو يغني. وكان الجميع يوقعون بأيديهم على ركبهم وقد اشتد بهم التأثر. وكان الحلاقون يطوفون بهم - نعم الحلاقون فإنهم يقومون بالخدمة في الأفراح لا ليحلقوا الرؤوس ولكن ليوزعوا الشاي الأخضر والحلويات في أدوات من فضة - وقد سطع المنزل كله بالأنوار وكثر الضجيج وعلا صوت الموسيقى, وأقبل كل موسيقى بوجهه على وجه الموسيقى الذي إلى جانبه, فأقبل عليه هذا أيضا بنفس الحركة وغنيا معا وهما على هذه الوضعية مدة قصيرة, ثم يفترقان وينصرف كل واحد إلى الموسيقى الذي على جانبه الآخر بنفس الحركة.

ثم تصف الموائد القصيرة الأرجل وينقلب المنزل كله إلى قاعة للأكل ويقبل الخدم بتلك الأطباق الكبيرة الملأي بقطع اللحم الكبيرة والدجاج وصنوف غنية من الأطعمة.

 

كل ذلك في منتصف الليل. وعندما تنتهي هذه الحفلات في المنزل يجتمع الناس ليخرجوا إلى عُرض الشارع ويسيروا في موكب كبير ينشدون الأناشيد بأصوات عالية ويضحكون ويمرحون إلى أن يصلوا إلى منزل آخر, حيث يجتمعون حول بابه ويرفعون الأصوات بكلام إلى ساكني هذا المنزل الجديد. وبعد مدة طويلة, يفتح الباب ويخرج فوج من النساء فيحيط بهن المحتفلون وقد ازدادت أصواتهم ارتفاعا ثم يعود الموكب كله إلى المنزل الأول.

 

هكذا يأتون بالعروسة إلى منزل زوجها. وهنا ينصرف الرجال وهم يتصافحون ويتعانقون, ويُقفل باب المنزل بإحكام. وعندئذ تنزل النساء من الدور الثاني لاستقبال العروسة, ثم يحطن بها ويرفعنها في السماء ويطفن بها داخل المنزل وهي مغمضة العينين وقد أثقلت بالذهب والجواهر.

 

 

وفي خلال ذلك كله ترسل النساء صراخا غريبا متواصلاً يعبِّرن به عن اغتباطهن بالحفلة والعروسة, ثم ينتهي هذا كله, فتقف امرأة ضخمة الأنحاء إلى جانب العروسة وهي تسرد كلاما لم أكن أفهم له معنى, ولكن النساء كن يقبلن عليها وينفحنها النقود كلما انتهت من عبارة.

 

ويستمر هذا كله إلى الصباح, فينصرف الناس إلى النوم, لتبدأ الحفلات في اليوم التالي, لا لمناسبة جديدة, ولكن يوما واحدا لا يكفي للتعبير عن الانشراح في هذه البلاد, بل لا بد من ثلاثة أيام أو سبعة.

 

وهنا انطلق صوت ممطوط يصيح: ريجي! ريجي! إنها والدته تناديه, فهب واقفا وهو يقول: يجب أن أذهب, إن أمي تناديني, لقد نسيت أن أنفذ ما طلبته مني, ولكن لا تستمر, أريد أن أسمع البقية... هل نجتمع هنا بعد الظهر? قولوا إنكم موافقون لأجل أن أنصرف.

 

كان يلقي كلماته في سرعة وهو يبتعد عنا, ولذلك لم يسعنا إلا أن نوافقه فقد كان حرصه شديدا, وكان هذا الاجتماع فوق ذلك قد عقد بناء على دعوته هو دون بقية الأطفال.

 

 

17

 

 

عقد اجتماع آخر بعد الظهر في نفس المكان من الشارع الخلفي, وأخذ كل طفل مكانه حولي, فراقني أن يرتفع مقامي هكذا, وكان حديث الصباح قد أزال عقدة لساني فانطلقت أتحدث مرة أخرى عن مشاهداتي في بلاد الغرائب, والأطفال ينصتون في اهتمام.

 

قلت لكم أيها الأصدقاء إن البلاد التي كنا نتحدث عنها في الصباح - وأذكركم مرة أخرى بأن اسمها مراكش - بلاد غريبة. ولست أحب أن يتبادر إلى ذهن أحد منكم أن أهلها غرباء في أشكالهم, كلا بل هم مثلنا تماما كما قلت لكم في الصباح, ولو نقلتهم جميعا إلى منشستر ودفعتهم في حياتها لما كان في استطاعتنا أن نفرق بيننا وبينهم, ولهذا يجب أن تنسوا الزنوج والهنود الحمر والإسكيمو والغجر... وأنا أتحدث إليكم عن أمر هذه البلاد, فهي شيء آخر.

 

قال الطفل الصغير صاحب الصوت الدقيق الذي أثار هذا الموضوع في الصباح: أسمعنا الغرائب, نريد أن نسمع الغرائب.

 

قلت: حسن, دعني أتذكر. إن الحمَّام من هذه الغرائب. هل تظنون أن الناس في مراكش يدخلون على انفراد إلى الحمام حينما يريدون أن يغتسلوا? كلا فليس الحماَّم غرفة ضيقة بها حوض, وإنما هو مكان شاسع يحتوي على أبهاء دامسة يدخل الناس إليها زرافات بعد أن يكونوا قد نضوا ثيابهم, ولا يوجد به حوض, وإنما يقدم إليها الماء في جرادل كبيرة مصنوعة من الخشب, فيجلسون بينها... وهو مكان شديد الدفء يخنق الأنفاس. فإذا دخلت إليه رأيت الناس في الضباب وهم عرايا كأنهم أشباح هزيلة مخيفة, وهم لا يقلعون عن الكلام حتى في الحمام بل قد ينصرفون إلى العبث ورواية القصص والأحاديث كأنهم في بيوتهم.

 

كل شيء موجود في هذه البلاد أيها الأصدقاء, ولكن على طريقة غريبة. ففيها الأسواق ولكن أسواقها ليست مثل أسواقنا, بل هي تشتمل على صناديق كبيرة تكدست فيها البضائع, وقد جلس التاجر وسطها, وهذه الصناديق الكبيرة مصطفة على جانبي الطريق الضيقة, وقد جلس فيها التاجر أو استلقى وأصابعه تعبث بعقد كبير الحبات وانطلق يتمتم بكلام مهموس سريع وهو يحرك حبات هذا العقد على عجل, وأبواب هذه الدكاكين الصغيرة غريبة حقا, فهي لا تفتح بالطول وإنما بالعرض كأنها بابان, باب ينزل من أعلى وآخر يصعد من أسفل. وهي تحتوي على بضائع رائعة وخصوصا دكاكين الفاكهة. ولكن أغرب هذه البضائع هو السكر, هل تستطيع أن تشير إلى حجم قطعة السكر عندهم?

 

قال أحد الأطفال وهو يشير لي بحجمها ويقترب مني ليسمع ما سأقول: هل هذا هو حجمها?

 

قلت: هذه قطعة من السكر صغيرة جدّا, آه لو رأيتم قطع السكر في مراكش! إنها في هذا الحجم - قلت ذلك وأنا أفتح ذراعي بأكبر ما أستطيع - قطع كبيرة من السكر لم يكن يخطر على بالي أن لها مثيلاً في الحياة.

 

قال طفل مشهور بالملاحظات الدقيقة: وكم يضعون من هذه القطع في فنجان من الشاي?

 

قلت: دعك من هذا العبث; فإنه لا يوجد فنجان ولا إبريق يسع مثل هذه القطع الكبيرة من السكر. إنهم يأخذونها إلى منازلهم, ويكسرونها بواسطة مطرقة وسكين, فيجتمع الأطفال مثلنا حول من يقوم بهذه المهمة, ويلتقطون فتات السكر الذي يتطاير بعيدا ثم يأكلونه وهم يتضاحكون. والأطفال يترقبون هناك يوم تكسير السكر بفارغ الصبر, لأجل أن يلتقطوا ذلك الفتات.

 

قال الطفل المشهور بالملاحظات الدقيقة: ولماذا لا يشترون السكر وهو مكسور?! إنهم يتعبون أنفسهم.

 

قلت: لست أدري, لقد قلت لك إن عندهم كل شيء ولكن لكل شيء طريقته الخاصة. خذ مثلاً قصة الشَّعر عندهم, فهم أناس عندهم الشعر كما عندنا فوق رؤوسهم وفي ذقونهم. أما نحن فنحلق الذقن دون شعر الرأس, أما هم فيحلقون شعر الرأس دون شعر الذقن! إن ذقونهم في رؤوسهم, ورؤوسهم في ذقونهم!! هل أدركتم ما أريد أن أقول?

 

قال أحد الأطفال الكبار: هذا شيء ممتع حقّا, سوف يكون أول عمل أقوم به حينما أكبر هو الذهاب إلى هذه البلاد. ماذا قلت إنها تسمى?

قلت: مراكش.

 

فقال: مراكش, مراكش, مراكش لا بد من زيارتها, إن هذا الذي تحكيه عنها غريب وممتع: ذقونهم في رؤوسهم ورؤوسهم في ذقونهم! يا للروعة!

 

قال ذلك وهو يصفر ويهز رأسه إعجابا.

 

قلت: دعني أسرد عليكم ما رأيت دون تعليق, لأننا نريد أن ننصرف إلى ألعابنا, أليس كذلك? إذن فاسمعوا, هل تظنون أن الأطفال هناك يهتمون بلبس الأحذية? إنهم ينطلقون في الشوارع حفاة فيطأون الأحجار وقطع الزجاج وتسيل الدماء من أقدامهم وهم يعْدون. لقد رأيت إصبع أخي- فإن لي أخا في مراكش كما لا تعلمون - رأيت إصبع قدمه محطماً يسيل منه الدم وهو يتسلق شجرة.

 

وهل تظنون أن النسوة يتأنقن في الشوارع, ويهملن أنفسهن في المنزل كما عندنا? إن النساء يتأنقن في المنزل, أما في الشارع فهن يجتهدن في تشويه أنفسهن تشويها غريبا, فهن يتلففن في أزر بيضاء من الرأس إلى القدم دون أن يظهر منهن شيء. وأما في المنزل فهن يلبسن الثياب المزركشة الرائعة, ويتفنن في الزينة على عكس ما عندنا تماما.

 

ولا يجتمع النساء والرجال, بل يعيش كل فريق على حدة, يهرب الرجل من النساء وتهرب المرأة من الرجال.

 

- لا تقاطعوني ودعوني أحدثكم عما رأيت.

 

تصوروا أن الناس هناك لا يتقنون القراءة والكتابة, مثل الأطفال الصغار, فإن من بينهم من لا يعرف إلى ذلك سبيلاً. فقد استوقف رجل أبي ونحن في الشارع, وأشار له إلى رقم فوق باب إحدى المنازل وهو يسأله عنه, فأجابه أبي. ولما سألت أبي ماذا كان يريد, قال إنه كان يسأل عن رقم المنزل لأنه لا يعرف القراءة والكتابة. ولم يكن طفلاً صغيرا, وإنما كان رجلاً كبيرا.

 

كل شيء موجود في هذه البلاد أيها الأطفال حتى الجنائز. إن الناس يموتون هناك كما يموتون هنا, ولكنهم يسيرون إلى مقابرهم على طريقة غريبة. نحن نسير في الجنائز صامتين, أما هم فيسيرون فيها وهم ينشدون, وأيّ نشيد موقّع رائع! نحن نحزن للموتي فنصمت, وهم يفرحون لهم فينشدون.

 

وهل تظنون أن هناك ما يدعي العربة تشد إلى الحصان فيركب الناس العربة? كلا, إنهم يركبون الحصان مباشرة - والحمير في بعض الأحيان - دون أن يكونوا في حاجة إلى عربة تشد إليه. هذا ولا يركب الحصان إلا الممتازون من العلية.

 

وكل الألعاب التي توجد عندنا توجد عندهم, أعني عند أطفالهم, ولكنهم يلعبونها تبعا لأصول غريبة غير التي نعرفها.

 

ومنازلهم غريبة كذلك فنحن نحرص على أن تكون منازلنا شيقة في مظهرها الخارجي والداخلي معا, أما هم فمنازلهم لا قيمة لها من حيث مظهرها الخارجي, ولكنها في الداخل شيء آخر, إنها رائعة بما تشتمل عليه من بدائع وزخارف. ولا يمكن أن تصدقوا أن خلف هذه الأسوار العتيقة منازل في منتهى الروعة, الأعمدة المزخرفة, والطنافس, والحرائر, وكل ما يمكن أن يخطر على بال من الروائع.

 

وأحب أن ألفت النظر إلى التطيب. إن من الغريب جدا أن ترى هؤلاء الناس يتطيبون. فهذه الخادم تقبل إليهم بمضخات يحملونها في أيديهم, ثم يرشون بها ثيابهم, وفي أثناء ذلك تكون خادم أخرى تلهب النار في آنية من الفضة, فإذا ما انتهوا من الرش نصبوا ثيابهم الفضفاضة وقدمت لهم الخادم آنية النار فيضعونها تحت ثيابهم, ويتصاعد منها دخان ذو رائحة زكية منعشة, فيحرصون على أن يبقى هذا الدخان داخل ثيابهم, حتى إذا ما انتهت هذه العملية الطويلة, فاحت منهم رائحة الطيب. إن العطر عندهم دخان لا سائل.

 

ولست أستطيع أن أحدثكم عن لغتهم, لأنني لم أكن أفهم منها حرفا واحدا, فقد كان أبي ينقل إليّ كلامهم, ولكنني أستطيع أن أقول بصفة عامة إنهم يرفعون أصواتهم وهو يتحدثون, ويستعملون حروفاً غريبة يصعب...

 

كنت لا أزال مستمرّا في الحديث, ولكن فجأة تطاير الأطفال من حولي وهم يصيحون ويضحكون دون أن أدرك السبب, ولكنني لم ألبث أن أدركته, حينما وجدت نفسي وجها لوجه أمام منظف المداخن, هذا الرجل الذي كنا نذوب فزعا ورعبا حينما نسمع صوته وهو يمر بالشارع الخلفي. كنا نذوب خوفا من هذا الصوت المديد الذي كان يرسله ونحن في مأمن منه, فما الرأي وأنا أمامه الآن وحيدا وقد أطبق عليّ بشكل لم يعد لي معه مجال للالتحاق بالأطفال?!

 

تضاءلت في مكاني وأنا أرفع إليه بصري لأرى وجهه الذي علاه السُّخام كما علا ملابسه كلها. وكانت عيناه تبدوان من خلف السخام الأسود شديدتي البياض يتراقص في كل منهما إنسان قلق.

 

ورأيته يبتسم فبدت لي أسنانه أشبه بالتكشير, إذ لاحت لي من فرجة فمه أسنانه البيضاء البراقة كما لو كانت تتراقص في أمكنتها شوقا إلى السحق... وقد خطر ببالي أن أرفع صوتي بالعويل أو الصراخ. ولكن تبين لي أن ذلك لن يجدي فتيلاً, فقد أصبح في استطاعته أن يخنق صوتي قبل أن ينطلق من فمي. وبدت على وجهي أمارات الرعب وازداد هذا الرعب وهو يقترب مني ويقول بين أسنانه: ماذا تفعلون هنا في الشارع الخلفي أيها الأشقياء?!.. ألم ينهكم ذووكم عن اللعب في الشوارع الخلفية?!... هل يليق هذا بالأطفال المستقيمين?.. وعمّ كنت تحدثهم? هيه?

 

فلم أجبه, وكيف أستطيع الإجابة في هذا الجو الإرهابي الذي أحاطني به منظف المداخن? لذلك بدأت الدموع تتصاعد إلى عيني فقال: إذن أنت لا تريد أن تجيبني. حسن, وايْم الحق لأعلقنك وزملاءك في إحدى المداخن إذا وجدتكم تلعبون في طريقي مرة أخرى! والآن انطلق واحذر أن أراك ثانية هنا! دفعت الباب ببطء وأنا أنسحب مخافة أن يغير رأيه, فلما أصبحت في مأمن صككته في قوة وانطلقت أعدو وفي إثري ضحكاته العالية, ثم انقطع الضحك وبدأ يصيح مرة أخرى بصوته الحاد: (تنظيف المداخن! تنظيف المداخن!).

 

وظل يبتعد إلى أن فني صوته.

 

 

 

18

 

 

كل ما يحيط بنا حزين في هذه الأيام, وإننا لنحاول - أنا وأختي - أن نقارن بين هذه الحالة الجديدة والحالة التي اعتدناها فنجد الفرق كبيرا محزنا. إن أبي هذا الذي كان يقابل الحياة بصدر رحب وثغر باسم, هذا الرجل الذي تقمصه الجلد في معركة الحياة فخاضها غير هياب ولا وجل. هذا الرجل أصبح اليوم حزينا تثير رؤيته الأشجان.

 

ولم تكن الأم أقل حزنا من الأب. فهذه المرأة التي لم تكن تحفل كثيرا بما تجري به الأيام, هذه المرأة التي كان يترع صدرها حنينا إلى أرض الوطن, والتي كانت تعيش ضاحكة مستبشرة, لأنها تنتظر يوم العودة إليه, هذه المرأة أيضا أصبحت حزينة.

 

وأختي, لم تكن أختي - وأنا أيضا - تعرف شيئا عن هذا السر الخفي الذي أحال البهجة إلى حزن عميق. لقد أصبحت أختي أكثر من أي وقت مضى تبعث على الحزن والشفقة, فهي تزداد ضعفا ونظراتها تزداد شرودا. إنني أحس كلما نظرت إليها أنها تبتعد عني شيئاً فشيئاً وكأن سحابة رهيبة تبتلعها فتزداد بعدا كل يوم.

ولو أطل علينا شخص من وراء النافذة وأبصر هذه الوجوه الأربعة التي كانت منذ مدة قريبة ضاحكة مستبشرة لأنكرها اليوم وقد أصبحت تحيط بالمائدة حزينة واجمة. وقد كنت أعرف أن المرض ما يزال يمتص الحياة من أختي رويدا رويدا, ولكنني لم أكن أدرك سر ما يحيط بأبي وأمي.

 

بيد أنني لم أكن أصدق حرفا واحدا مما كنت أسمعه أحيانا من حديث يدل على أن هناك فكرة ترمي إلى العودة إلى الوطن مرة أخرى, العودة النهائية التي لا رجوع بعدها. فقد كنت مؤمناً بكلمة طالما رددتها ميللي وهي: إن جميع المراكشيين يمكن أن يعودوا إلى مراكش, أما مستر بن جلون فسوف يظل معنا مدى الحياة, لسبب واحد هو أنه لا يميل إلى التغيير, فقد اعتاد الحياة هنا ولن يستطيع أن يتركها.

 

وكانت ميللي تلفظ هذه العبارات بلهجة الواثق مما يقول, ولذلك لم يكن بد من أن أصدقها وأومن بهذه النظرية التي بدا لي في ذلك الحين أنها على جانب كبير من الحكمة.

 

كنت بالإضافة إلى ذلك قد سمعت أمي تتحدث إلى أبي حديثا مسهبا ترجوه فيه أن تعود إلى بلادنا, وكانت تكيل الشتائم إلى هذه البلاد السوداء التي تعج بالأشرار والكفرة من بني البشر. فكان أبي يستمع إلى كلامها في كثير من التأمل ثم يبتسم وهو يحول مجري الحديث.

 

ولذلك استقر في روحي أن مستر بن جلون لن يفارق هذه البلاد أبدا, فاطمأننت إلى أن مكروها لن يصيبنا. ولكن هذه الظروف الجديدة تشم منها رائحة التصميم على القيام بعمل فاصل. فهل يمكن أن يكون عامل جديد قد دخل على الموضوع فغير الاتجاه القديم? إن نظرة واحدة إلينا من خلال النافذة ونحن جلوس إلى المائدة أو حول الموقد لكافية الدلالة على أننا مقبلون على قرار حاسم يوشك أن ينفذ. أي قرار? هذا ما لم أدرك له كنها.

 

رجع كثير من المراكشيين إلى بلادهم قبلنا. فهؤلاء مستر أبو عياد ومستر قرطبي ومستر ابن وحود ومستر برادة قد رجعوا إلى بلادهم مع عائلاتهم منذ زمن بعيد. ومنهم من اشتركت في توديعهم مع أبي, وكم كنت أرثي لحالهم. ولم يكن يخطر على بالي أن الرحى, الرحى الجبارة التي تطحن العزائم, سوف تطحن عزائمنا نحن أيضا. لقد عرفت مراكش وعرفت كل ما يتعلق بها خلال الأسابيع الستة التي قضيتها فيها, وأعجبت بكثير مما فيها, بل كان يخيل إليّ في بعض الأحيان أن الكرة الأرضية حرمت من كثير من المباهج التي توجد فيها, ولكنني بالرغم من ذلك لم أكن أتمنى أن أرجع إليها لأعيش فيها مدى الحياة. وكان يخيل إليّ أن من الممكن أن أرجع إليها كسائح, ولكن لم يكن يخطر ببالي أنني سوف أرجع إليها لأقيم.

 

لماذا? لم أكن أتبين السبب يوم ذاك, ولكنني أتبينه الآن: حسك في هذه البلاد طليق ومرهف ومستمتع ولكن روحك مقيد, ولكن كيف كان يمكن أن أعرف هذا في تلك الأيام من طفولتي الذاهبة? ولذلك لا داعي للتفصيل, ويكفي أن أقول إنني كنت مؤمنا بأننا لن نرجع إليها كما كنت مؤمنا بأنه لا خير في هذا الرجوع.

 

ومهما يكن مصدر هذا الحزن الذي يخيم على العائلة فإنه ذكرني بأيام الماضي الذهبي. لقد ذكرت يوما واحدا مضى, يوم أقبل أبي من عمله في جلبة كبيرة وكنت منصرفا إلى ألعابي, فنبهتني الجلبة التي أحدثها, ولذلك أقبلت أبحث عنه فلم أجده في جميع الغرف, فقالت أمي إن أبي موجود في المنزل فإذا عثرت عليه فلي جائزة.... وبحثت ولكن دون جدوي. وبينما كنت مارّا من أحد الأبواب قفز أبي من خلفها جذلاً مسرورا ورفعني في الهواء وهو يوبخني لأنني لم أستطع الاهتداء إلى مخبئه, ثم صاح بي في غبطة:

 

- دعنا نمتحن خيالك, أرنا ما تستطيع أن تطلب, اطلب ما يخطر على بالك يكن بين يديك حقيقة تتحرك وتسعى.

 

وراقتني الفكرة فليس عليّ إلاّ أن أفتح فمي بأمنيتي فأجدها أمامي حقيقة ماثلة. فتخيلت بسرعة وأبي يستحثني ـ كل ما يمكن أن يمر بمخيلة طفل مثلي من الحلويات والألعاب فبدت لي كلها سخيفة, ثم بدأت أتصور الأشياء الكبيرة ولكنها بدت لي أيضا مبالغا فيها. ثم فجأة تذكرت... تذكرت أنني حينما كنت مارا بالأمس في طريق العودة من المدرسة رأيت سيارة للأطفال معروضة للبيع, وتذكرت أنني أطلت الوقوف إلى جانبها وأنا أغازلها في شوق, ثم انصرفت عنها لأنساها بعد ذلك.

 

إنها مطلب ضخم, ولكن لماذا لا أجرب وأطلبها, وهكذا صحت:

 

سيارة! أريد أن تشتري لي السيارة التي رأيتها بالأمس.

 

- أين رأيتها ? وأي سيارة?

 

- سيارة معروضة للبيع في دكان قريب من المدرسة.

 

- هيا بنا إليها, لا غداء إلاّ بعد أن ننطلق إلى صاحب الدكان الذي يعرض في واجهته السيارة التي تريدها, سنشتريها ولو طلب فيها صاحب الدكان النجوم بدلاً من الدراهم.

 

وهكذا انطلقنا إلى صاحب السيارة الصغيرة, واشتريناها في لمح البصر ورجعنا وأبي يظهر من الفرح والاغتباط بها أضعاف ما أظهرته أنا, بالرغم من أنني عدت إلى المنزل راكبا وعاد هو إلى جانبي راجلاً.

 

عادت إليّ تلك الصورة المرحة فزادت شجوني وأنا أقابل بينها وبين هذه الصور القاتمة التي أصبحت أراها صباح مساء: وجوه كالحة لا تبتسم, وعيون مسهدة لا تطرف. ماذا جرى?

 

ولست أدري لماذا تذكرت بسبب هذا الجو البائس الذي يسود المنزل تلك الأيام التي قضيناها في مراكش, فقد بدا أبي فيها يفقد مرحه يوما بعد يوم, ورأيته يشتبك مع عمي في مناقشات طويلة لا نهاية لها, وأمامهما دفاتر أترعت بالأرقام والعمليات الحسابية. لقد كان كل يوم يمر منذ ذلك الحين يزيد في اكتئاب أبي, ولكنني بالرغم من ذلك لم أستطع أن أتبين حقيقة هذه الظروف التي تكتنفنا وتزيد وطأتها مع مرور الايام.

 

قلت لأختي ذات ليلة ونحن في عتبة الكري:

 

- لست أدري ماذا أصابنا.

 

فقالت بصوتها الضعيف الذي كان ينتهي إليّ في الظلام:

 

- إننا سوف نعود جميعا إلى بلادنا, إلى مراكش, وسوف نقطع كل علاقة بيننا وبين منشستر. وأي شيء في ذلك?

 

إن أمي تقول إن مراكش بلاد رائعة يجب أن نرجع إليها, والأمر جد كل الجد, ولذلك فلا بد مما لا بد منه. إن أبي يطلب رأي أمي ولكنه لا يطلب رأينا, ولو طلب رأيي لوافقت على الذهاب لأنني ضقت ذرعا بهذه البلاد السوداء, وإنني أريد أن أعيش في تلك المدن التي تقول عنها أمي إنها مدن بيضاء.

 

ولا أحتاج إلى أن أقول إن أختي كانت تقصد المدن ذات الأسوار البيضاء, وإنها لم تكن تدرك السواد الذي يعلق بالأعناق, وهو السواد الذي لم أدرك أنا نفسي كنهه إلا أخيرا.

 

قلت: و من ذا الذي أنبأك بذلك?

قالت: ليس من المهم أن تعرف من أنبأني, ولكن يجب أن توطن النفس على نسيان كل شيء في هذه البلاد, وتقبل تلك الحياة التي حدثت عنها الأطفال منذ قليل في الشارع الخلفي.

 - آمنة, ماذا تقولين?!

 - هذه هي الحقيقة التي لا بد من الخضوع لها.

كان بودي ألاّ أصدق حرفا واحدا مما قالت, ورجعت بفكري إلى الوراء أتصور الماضي وأنا مطمئن إلى كلمة ميللي التي حفظتها عن ظهر قلب, وهي أن مستر بن جلون لن يسافر أبدا, لقد أصبح قطعة من هذه البلاد.

 

بيد أنني كنت أعرف أن لأختي عينين نفاذتين وأذنين مرهفتى الحس. وهذا ما لا أستطيع أن أشك فيه, ولذلك بت أخشى مواجهة هذه الحقيقة الرهيبة التي أصبحت قاب قوسين أو أدني.

 

ظللت أفكر مدة طويلة تلك الليلة في البلاد البعيدة النائية التي سوف يكتب عليّ أن أكون أحد أبنائها, دون أن أعلم على التحديد ماذا سيكلفني ذلك. إن عليّ أن أفكر بعد اليوم في الرأس الحليق والقدم الحافية والثياب الفضفاضة, وكيف يمكن أن يكتب لي مثل هذا الامتحان القاسي دون أن يطير صوابي.

 

وكنت أكثر إلماما بحزن أبي من أن أنطلق إليه وأستفهمه, فقد كنت أعرف أنه سوف يرفع إليّ عينين حافلتين بالألم دون أن يجيب.

 

وكانت أمي حزينة لحزن أبي, ولكنها كانت في نفس الوقت مطمئنة إلى هذه الحوادث التي كانت مؤمنة بأنها سوف تضع حدا لهذا الظلام الذي قضينا فيه نحو ثماني سنوات. لقد آن للطواف أن ينتهي بنا إلى أرض الوطن الأبيض الحبيب, ويخلصنا من منشستر الكريهة السوداء.

 

ولم يكن في استطاعتي أن ألحف على أختي بالسؤال, فقد كانت مستسلمة لعملاق المرض الجبار الذي مضى يمتص منها الحياة امتصاصا لا يخلو من نهم... وكانت هي أبعد نظرا من أن تقيم وزنا كبيرا لما يحيط بنا.

 

وهكذا بقيت وحدي في الليل البهيم أفكر في المصير, ولم تكن هناك صور ولا أشباح. لقد كنت أحدق في الظلام وأنا صاح فلا أرى إلا صورة واحدة تبعث على الرعب والرعب الشديد. وانتابني شعور رهيب وأنا أعيش في هذا الجو الخانق, وهو أنني أصبحت غريبا عن عائلتي نفسها, وهو الشعور الذي كان يضايقني حينما كنت أحس به في منشستر وفي مراكش معا.

وأخيرا تملكني الحزن أيضا, فقد أصبحت أؤمن بأنني سوف أنقطع عن كل شيء ألفته منذ كنت فتى ناعم الأظفار إلى حياة جديدة - أكبر الظن أنها مرعبة - لا تطمئن إليها قلوب الصغار.

 

 

19

 

 

لقد انتهى كل شيء, ولم يعد هناك أي شك في أننا راحلون. ولقد أصبحت الحوادث تتعاقب بعد أن أعلن إليّ الجميع خبر هذا الرحيل المفاجئ الذي لا عودة بعده. وقد استولى على نوع من الذهول منذ ذلك الحين, فكنت أتتبع حركات الاستعداد الدائمة بعين قلقة وقلب واجف.

 

بدأت أشعر لأول مرة أنني غريب عن البيئة التي عشت فيها ما يقرب من ثمانية أعوام, وهي البيئة التي لم أعرف غيرها خلال الفترة التي عشتها.

نسيت والدي ووالدتي وأختي وأخي الصغير, فقد انصرفت عنهم لأتأمل ما حولي محاولاً أن أشبع روحي بالنظر إليه. فقد أصبحت موقنا بأنني أراه للمرة الأخيرة, وأنني لن أراه بعد ذلك إلى الأبد. كنت أطيل النظر إلى أفراد عائلة آل باترنوس وأنا أسترجع الذكريات القديمة, وكنت أشرف من النافذة على شارع بارك فيلد وأتأمل المنازل والنوافذ والحدائق والوجوه, ثم أتجه ببصري يمينا لأتأمل الطريق الطويلة التي طالما سرت فيها إلى المدرسة, ثم أتجه به شمالاً لأتأمل الطريق الطويلة التي طالما سرت فيها إلى الحديقة العامة, وأنحدر ببصري إلى هذه الشجرة الفرعاء القائمة في زاوية حديقة منزلنا الأمامية, فتتراءى لي مزدهرة وقد أصبحت كلها مثل زهرة كبيرة بيضاء في أيام الربيع, وتتراءى لي مرة أخرى عارية الفروع قد عصفت بأوراقها الذابلة رياح الخريف. وأمامي الشارع تنبعث من كل مكان منه ذكريات فتنبعث لكل منها في قلبي حسرة من الحسرات.

 

ما أغرب الحياة! فبعد أيام قصيرة سوف يضغط أصبع القدر على الزر ليغير منظر فصل من رواية الحياة تغييرا كاملاً شاملاً عاجلاً. ولقد سرت حياتي في قافلة راقصة ضاحكة, وبدلاً من أن أسير معها إلى النهاية وجب عليّ أن أنحرف عنها لأسير في قافلة أخرى لا أعرف عنها غير النزر اليسير.

 

أما الأيام الذهبية الذاهبة, الأيام التي أوشكت أن تصبح من الماضي, فيطيب للحياة أن تضرم فيها النار...... وتحيلها إلى رماد...... ولكن أثر النار سوف يظل عالقا بقلبي إلى الأبد.

 

تقول ميللي. : إنني أعرف أنك سوف تنسانا كما نسينا سائر المراكشيين الذين عادوا إلى بلادهم من قبل, فهل تنسانا أنت أيضا أيها الصغير?

 

فأبتسم لها منكرًا, ولكن كان بودي أن أصرخ من الألم وأنا أحس بلفح الحسرة يأخذ بمجامع نفسي. واستغربت في ذات الوقت لهذه الملاحظة التي كانت في رأيي قريبة إلى الإلحاد. ولا أحتاج إلى أن أقول إنني كنت مازلت طفلاً صغيرا لا يعرف أن ستار النسيان ينسدل عقب كل فصل من فصول المهزلة...... ليرتفع عن فصل آخر منها لا يلبث النظارة أن ينصرفوا إليه لاهين ضاحكين.

 

وكنت أتطلع إلى وجهي في المرآة فأري مسحة غريبة من الحزن والغضب والحسرة, وكنت أتطلع إلى وجوه أفراد العائلة فلا أرى لتلك المسحة أثرا, كان الجميع فرحا بالعودة ومستسلما لها, فضايقني ذلك.

 

انقطع أبي عن العمل, وانصرف إلى الاستعداد للسفر, وأقبل أصدقاؤنا يودعوننا وحفل بهم منزلنا. وأخيرا حان آخر يوم لي في المدرسة, ومر النهار مسرعا, فإذا بي أجد نفسي جالسا في الفصل أستمع درسي الأخير في هذه البلاد. ولم أكن أسمع منه حرفا واحدا, فقد انصرفت إلى وجوه زملائي أتأملها, وإلى كل شيء في الفصل أتزود منه بالنظرة الأخيرة, إلى أن يستقر نظري على هذه الآنسة الوسيمة التي كانت تحدثنا عن التاريخ وما مضى من العصور. وكان الزملاء ينظرون إليّ من آن لآخر مشفقين.

 

ثم انتهى الدرس, فتقدمت مني الأستاذة تربت على كتفي وتوصيني بأن أظل حيثما حللت متشبثا بأسباب الاستقامة, فلم أحر جوابا, وإنما تقدمت إليها وصافحتها وانطلقت ذاهلاً صوب الباب وأنا أودع زملائي الصغار, ثم سرت مطرق الرأس خلال البهو الكبير إلى الباب, واخترقت ساحة اللعب الخالية. وعندما استدرت, رأيت جماعة من التلاميذ واقفين بباب المدرسة يشيعونني بنظراتهم, فرفعت لهم يدي مودعا, فردوا جميعا عليّ, ثم اتجهت إلى الطريق العام لأسير فيه للمرة الأخيرة وأنا عائد من المدرسة. لم أكن أعي مما حولي شيئا, كنت أسير ورأسي مثقل بالهموم والحاضر كله يتراقص أمام بصري كما تتراقص الذكريات. إن التيار يبلغني والشاطئ يبتعد عن بصري قليلاً قليلاً.

 

وصلت إلى المنزل فإذا به غاص بالمودعين, فهذه ليلتنا الأخيرة في منشستر. ومر زمن طويل أو قصير لا أدري, فإذا بي أرى ميللي تأخذني إلى منزلها حيث أصرت على أن أقضي ليلتي الأخيرة, وجلسنا حول مائدة العشاء, وكان أفراد العائلة كلهم حاضرين وهم يتحدثون عن مراكش, وما سوف يصادفني فيها من المتاعب بعد أن قضيت في منشستر كل تلك السنين. ولكنني لم أكن أهتم كثيرا بالمستقبل, فقد كانت روحي تتطلع إلى الماضي الذاهب وتذوب عليه حسرات دون أن تقيم للمستقبل أي وزن.

 

وأذكر أنني سمعت ميللي تقول: إنها مع تقديرها الكامل للأسباب التي تدعونا إلى العودة ترى في عودتي خسارة لا تعوض. وسمعتها تروي أنها ذهبت إلى والدي وطلبت منه أن يتركني معهم, أي مع آل باترنوس, لأستمر في دراستي, وأنها ألحت عليه في ذلك, ولكنه لم يقبل. والواقع أن التأسفات التي أبداها آل باترنوس زادت مخاوفي, ولكنني حمدت عدم موافقة أبي على الفكرة, فقد بدا لي فراقه أفدح من فراق منشستر. ومهما يكن من شيء فإنني قضيت الليلة الأخيرة في منزل آل باترنوس.

 

وفي الصباح رأيت عربة النقل واقفة أمام باب منزلنا والعمال ينقلون الأمتعة إليها. وهكذا بدأت حياتنا في منشستر تقطع بسرعة خطواتها الأخيرة وهي في طريقها إلى النهاية.

 

وأسرعت بي ميللي إلى ذلك المنزل الذي لن يظل منزلنا بعد لحظات, فإذا كل شيء على استعداد للرحيل, وقد ارتدي جميع أفراد العائلة ثياب الخروج لا ليذهبوا إلى المنتزهات العامة, ولا ليقضوا حاجاتهم ثم يرجعوا إلى المنزل, بل لأجل أن يذهبوا بعيدا فلا يعودوا إلى هذا المنزل أبدا.

 

كنت ساهما أتتبع الحوادث وهي تتتالى بسرعة, فتأملت الجميع وهم يخرجون إلى عرض الشارع, ورأيت أبي يقفل باب المنزل لآخر مرة. ولما انحدرنا مع الممشى رأيته يرفع إليه بصره كأنه يودعه, فبالرغم من صفات الجد التي كان يطيب له دائما أن يتحلى بها حتى كان يخيل إليّ في كثير من الأحيان أنه لا يتأثر بشيء, بالرغم من ذلك كان من المستطاع أن تدرك في نظراته مسحة من التأثر.

 

وركبنا السيارة الكبيرة التي كانت تنتظرنا بالباب, وبينما كان السائق يدير مفتاحها الأمامي استعدادا للانطلاق كما كان السائقون يفعلون في ذلك الزمان, كنت أتأمل المنزل الخالي المغلق النوافذ الذي كان منذ لحظة واحدة فقط منزلنا, وخيل إليّ في لمح البصر أن أناسا خياليين قد دخلوه وفتحوا النوافذ وأطلوا علينا, وأن الباب يفتح, وأن أطفالاً آخرين قد خرجوا منه ليلعبوا في الشارع. إن منزلنا سيصبح منزل آخرين بعد أيام, وسوف يقيم به بعد الآن أب آخر وأم أخرى غير أبي وأمي ومعهما أطفال غيري أنا وأختي وأخي الصغير.

 

وتحركت السيارة فدق قلبي دقات سريعة ونحن نبتعد, فألقيت على المنزل نظرة أخيرة وهو هادئ ساكن كأنه حزين لفراقنا. واخترقنا الشوارع وأنا أذكر في كل مكان ذكري من الذكريات الذاهبة, إلى أن وصلنا محطة القطار.

 

نعم محطة القطار, هذه البناية الضخمة التي طالما أرعبني الدخول إليها, ولكن الرعب الذي تملكني في هذه المرة كان من نوع آخر. رأيت عشرات من القطر تزفر وتصفر وتصرخ, فلم أتأثر بها, بل لم أشعر لها بوجود, وإنما كنت أسير وقد أمسكت ميللي بيدي فاستولى على نوع من الاستغراب أننا سنفترق بعد لحظات مع آل باترنوس إلى الأبد, فلماذا لا أبصر دمعة واحدة في أي مقلة?! إن هؤلاء الكبار ذوو قلوب صلدة كالحجارة, لا ترى منهم أحدا يبكي ولا يشكو ولا يتأثر. إنه يخيل إليّ من فرط تأثري أن اللهب قد علق بروحي, وأن يدا جبارة تعصر نفسي عصرا. وكنت أشعر برغبة شديدة في أن أنزوي في ركن بعيد وأنصرف إلى النحيب ساعات تلو ساعات, ولكن ما بال هؤلاء الكبار ما يزالون كما كانوا? فهل حنكتهم الأيام, وجعلتهم أقدر في السيطرة على مشاعرهم, أو بترت مشاعرهم بترا ? هذا ما لم أستطع أن أفصل فيه في تلك الأيام.

 

وأخذنا أماكننا في ديوان عربة القطار, فأقبلت عليّ ميللي تقبلني وتحذرني من النسيان, وانصرف الجميع إلى تبادل عبارات الشكر والتأثر, وذكر الأيام السالفة, وتمني اللقاء مرة أخرى. وكانوا يتكلمون في هدوء عجيب أثار خلجاتي. ولكنني حينما رفعت بصري إلى وجه ميللي وقد سمعنا الصفير المؤذن بقرب انطلاق القطار, رأيت دمعتين كبيرتين في عينيها السوداوين العميقتين, ولا أذكر أنني رأيت في حياتي ولا أحسبني سوف أرى دمعتين أعمق منهما فيما كانا يعبران عنه من رقة وإنسانية ونبل.

 

نزل الأخوات الثلاث من العربة, ووقفن يؤكدن علينا في ضرورة الكتابة, وهنا اهتز القطار, ثم تحرك, ثم سار رويدا رويدا. فلوحنا بأكفنا, وسارت ميللي إلى جانب النافذة تقول: إياكم أن تنسونا, إنني أنتظر رسائلكم إلينا أيها الصغير. فقفزت إلى النافذة وعيناي تدمعان كما لو كنت أريد أن أرمي بنفسي إلى الأرض وأرجع إلى الماضي, ولكن سرعة القطار ما لبثت أن ازدادت إلى أن عجزت ميللي عن متابعته فتوقفت وظللت ألوح لها بيدي إلى أن بارحنا المحطة, وظللت أنظر إليها وهي واقفة إلى أن عجزت عن رؤيتها, ومع ذلك ظللت أرنو في نفس الاتجاه.

 

ولما رجعت إلى مكاني كان الصمت يسود الجميع وكانت النظرات ثابتة, وقد انصرف أصحابها - ولا شك - إلى التفكير في الماضي والمستقبل معا, أما الحاضر فلم يكن له وجود. وقد أعفى القدر شخصا واحدا من هذا العناء هو الأخ الصغير الذي لم يكن تجاوز سنته الأولى إلا بقليل, فقد كان يرفع عينيه في كل شيء وهو يستغرب لهذه الأشياء الجديدة التي يراها, حتى إذا تعب من النظر إليها عاد فألقى رأسه على صدر والدته.

 

وكانت أختي ساهمة أيضا, تنظر بوجهها الشاحب إلى الأمام, ولم يعد مع شحوبها مجال لظهور التأثر على وجهها... وقد بدا عليها منذ أجريت لها العملية الجراحية أن سنها تتقدم كل ساعة, فكان يخيل إليّ أنها أصبحت بين عشية وضحاها من هؤلاء الكبار الذين لا يحفلون بشيء. كان نوع من اليأس القاتم قد سيطر على كيانها فأخمد ابتسامتها وأكسبها حكمة مبهمة من عدم المبالاة, ولذلك لم يبد عليها أي انزعاج منذ تقرر السفر إلى هذه البلاد التي لم تكن تعرف عنها شيئا, ومن يدري?! فلعلها بتلك الحاسة الغريبة التي كانت تتمتع بها قد استطاعت أن تستشف ما يضمره لها الغيب...

 

أما أمي فكانت مراكش بالنسبة لها أرض الميعاد... ولذلك كان من السهل أن تلاحظ في وجهها نوعا من الغبطة, لأنها كانت على باب تحقيق أمل من آمالها الكبرى في الحياة, وهو الذي ظل يداعبها منذ حلت بهذه البلاد.

 

أما أبي فلم تظهر على وجهه سوى مسحة الجد, تلك المسحة التي كان يخيل لي معها دائما أنه منصرف إلى معالجة عملية حسابية عويصة..... ولم يكن من السهل أن تعرف هل العملية التي يعالجها الآن تتعلق بالماضي أو المستقبل.

 

كل ذلك والقطار يلتهم القضبان التهاما. إن هذا الحيوان الآلي الذي طالما أرعبني قد تمكن أخيراً من أن يأسرني ليقذف بي خارج حدود هذه البلاد إلى الأبد.

 

وتطلعت من نافذة القطار, فرأيت حقول إنكلترا الجميلة وقد سادها الخريف كأنها تستعد لاستقبال ذلك الشتاء العنيف الذي أوشك أن يعصف بها, فكاد قلبي يذوب حسرات وأنا أودعها بنظراتي الشاردة.

أيتها البلاد الجميلة الرائعة! أيتها البلاد التي امتزجت بها نفسي امتزاجا لا انفكاك له أبدا, لي في كثير من زواياك ذكريات لا تبلى مهما تقادم عليها العهد, وباعدت بي عنها الأيام. أيتها المصايف الراقصة الضاحكة! أيتها الحقول الخضراء المزدهرة الحافلة بالألوان! أيتها المدينة السوداء ذات المداخن العالية والشوارع الصاخبة! أيتها الحدائق المنسقة البهيجة- إنكلترا يا مرتع صباي- الوداع!

 

لقد انبعث الماضي كله أمام مخيلتي مرة واحدة وأنا أطل من نافذة عربة القطار, وكل ما تحفل به الأعوام الثمانية من أشياء جليلة وتافهة, كل ما خالج قلبي من أفراح ومن أحزان خلالها, كل ما مر بي فيها من أحداث كبيرة وصغيرة, اللعب مع الأطفال, أخيلة الليل, التنزه في الحدائق, الحصون التي أقمتها على رمال الشواطئ, المنزل الذي كنا نقيم فيه, الغرفة التي كنت أنام فيها, المائدة التي كنت أجلس إليها, الكأس التي كنت أشرب منها, أدراج السلالم التي كنت أصعدها, كل شيء انبعث أمامي مرة واحدة كما لو كانت عصا من السحر قد مست الماضي القريب فأيقظت كل ما فيه.

 

إن حديثا صامتا يدور بيني وبين الحقول الجرداء وأنا أطل عليها من نافذة القطار.

 

أيتها الحقول الجميلة التي سوف يزدهر فيها الربيع مرة أخرى دون أن أراه, أيتها الأفراس والأبقار والأغنام التي أمر بها في الحقول, يا أسراب الطيور التي تعبر السماء في بطء وهدوء وانسجام, أيتها الأحجار الملقاة هنا وهناك, أيتها الأوراق الذابلة, أيتها الحشائش الميتة- الوداع, الوداع الذي لا لقاء بعده.

 

إنكلترا, أيتها البلاد الجميلة, إنني أحس بمشاعري قد انفتحت كلها لتستوعب أكبر ما يمكن استيعابه وأنا أنقل نظراتي في كل مكان.

 

في النوافذ الأخرى أطفال آخرون يطلون في فرح ويذكرونني بأيام السفر إلى المصايف, فيزيد ذلك في أشجاني.

 

وخلفي العائلة الصامتة; فلا أسمع إلاّ أخي الصغير وهو يعبث أو يصرخ.

 

ثم أتجه ببصري مرة أخرى إلى الحقول لأستأنف معها الحديث الصامت, فيخيل لي أن نفسي تعاهدها على الوفاء للذكري ما حييت.

 

ولم أكن أملك - ولا أزال - ما يمكن أن أعبر به عن هذا الوفاء سوى الحديث, ولذلك فقد أمعنت فيه إمعانًا.

 

فإذا رجعت إلى نفسي سمعت صدى كلمة واحدة تتردد في أنحائها كما يتردد صدى الصوت تحت القباب المترامية هي: "الوداع".

 

الوداع أيها الماضي الذي انقضى منذ لحظات, ومع ذلك بات يخيل إليّ أن سنين طويلة أصبحت تفصل بيني وبينه لكثرة ما ضج به قلبي منذ انقضائه من خلجات.

 

 

20

 

 

لست أستطيع أن أزعم لنفسي التفكير المصيب في تلك السن المبكرة, ولكن عقلي أنكر شيئا لا أدري ما هو في هذه البلاد. ولست أستطيع أن أزعم لقلبي الإحساس المصيب أيضا في تلك السن, ولكنني أحببت شيئا لا أدري ما هو في بلادي مراكش. لقد كنت أصغر من أن أصاب بداء التعصب, وإنما كنت كائنا حيا بسيط التفكير, ولكنه سليم الشعور ساذج الإحساس. كنت على استعداد لأن أقول إنه حق ولو كان صادرا عن عدو من أعدائها.

 

اعتدت أن أقول لنفسي بعد قضاء مدة ليست بالقصيرة في هذه البلاد: إن هذا الطفل المراكشي لا يقل عن زميله الإنكليزي في شيء. إنه يتقن الألعاب, ويدرك أدق ما يمكن أن يدركه أي طفل. ومع ذلك يوجد شيء يعوقه عن أن يكون تام التكوين, فما هو?

 

إن الأطفال يلعبون بنفس الحذق الذي عهدته في أطفال الإنكليز. إنهم يضحكون ويبكون لنفس الأسباب التي يضحك لها ويبكي أولئك الأطفال. وجوههم ناضرة, وأجسامهم مكتملة, وإدراكهم واع. وإذا كان لي أن أتدخل بعقلي بعد نموه فلأقل إن الإيمان بالنفس هو الذي لم أجد له أثرا بين أصدقائي الجدد من الأطفال المراكشيين.

 

كان الطفل الإنكليزي كائنا تام التكوين من الناحية المادية والمعنوية معا, وكان الطفل المراكشي تاما من الناحية المادية فحسب, أما الناحية المعنوية فكانت خربة منهارة عفنة. إنه لا يميز بين الخطأ والصواب إلاّ على ضوء ما يسمعه من الكبار. وأستطيع أن أزعم الآن أن لقدمه الحافية ورأسه الحليق وثيابه الفضفاضة دخلاً في الموضوع.

 

إن الطفل الإنكليزي يطأ برجله الأرض فيسمع وقع حديد الحذاء على الطريق الصلبة فإذا برأسه يرتفع عاليا, أما الطفل المراكشي فيطأ أرضا رخوة بقدم حافية فلا يسمع صدى لخطواته كأنه يسير في الرمال فيظل رأسه مطأطأ. وكأن الطفل الإنكليزي على استعداد دائم لمواجهة التحدي بينما كأن الطفل المراكشي يميل إلى المراوغة وتحيُّن الفرص.

 

وأستطيع الآن أن أقول إن وباء معنويا مروعا كان يكتسح نفوس الأطفال في ذلك الزمان, وهو لا يقل خطورة عن الأوبئة الأخرى التي اعتادت أن تكتسح هذه البلاد.

 

ولم أكن قوي البنية ولا مفتول العضلات, ولكن انتشر بين الأطفال أنني كنت في إنكلترا- ويعلم الله وحده كيف كانوا يتصورون البلاد الأجنبية- وأنني أتقن فن الملاكمة إتقانا خطيرا, ولذلك فإن من السلامة أن يتنحوا عن طريقي. كان يخيل إليهم أن في استطاعتي أن أصرعهم جميعا مرة واحدة, لأنني أتقن هذا الفن الغريب الذي لا يحتاج إلى القوة بقدر ما يحتاج إلى التدريب.

 

والواقع أن ذلك أيقظ في غرورا لا عهد لي به من قبل, وأخذ شيء يشبه الخيلاء يتلمس الطريق إلى نفسي.

 

ولن أنسى يوم تجمع الأطفال حولي وهم يتوسلون إلى أن أكشف عن رأسي- وكانوا يفعلون ذلك بتواضع واضح مخافة من استفزاز فن الملاكمة- وكانت لغتي ما تزال ركيكة, ولذلك آثرت أن أنهي المحادثة برفع الطربوش- فقد بدأت أرتدي الحلة الفضفاضة- فإذا بالدهشة ترتسم على الوجوه, وإذا بالأطفال يتبادلون النظرات وينصرفون الواحد تلو الآخر. إن على رأسي شعرا, وقد أوحي إليهم هذا الشعر أنني من الكافرين, وسمعتهم يقولون بعد ذلك ان هذا الشعر سوف يتحول إلى قطع من الحديد حينما أموت, وإن الله سوف يعاقبني بحمل تلك الأثقال إلى الأبد.

 

آه يا رب! هل اتفق الجميع هنا وهناك على كفري? لقد حز الألم في نفسي لهذا الحادث, فقد أسرعت إلى المنزل أشكو لوالدي فقال لي: إن الحل الوحيد هو أن تحلق هذا الشعر, ألم تلبس الثياب المراكشية? إذن فاحلق شعرك وكن مثل سائر الأطفال.

 

نعم لبست الثياب الفضفاضة, الثياب الواسعة التي تكفي لكساء عشرة من الأطفال في مثل حجمي, الثياب التي تقعد بي عن الحركة وتغريني بالكسل, وتقتل في جسمي النشاط قتلاً, كأنها أغلال للروح, كأنها أصفاد للطفولة, كأنها تسرع بي إسراعا مخيفا إلى أرذل العمر... وأنا ما أزال بعد في زهرة طفولتي.

 

والبيوت أيضا فضفاضة مثل الثياب, فقد ضقت ذرعا بهذا الميدان الشاسع الذي نسكنه كأننا في العراء. ألفت الزخارف والأعمدة وبدأ يستيقظ في نفسي حنين غريب إلى منزل... فهذا الذي نقيم فيه ليس منزلاً وإنما هو ميدان عام.

 

ميدان عام يقيم به خلق كثير من الشيوخ والكهول والشبان والأطفال, كأننا في رحلة لا نهاية لها. لقد كنت أفهم المنازل على أنها أعشاش هادئة توقظ بهدوئها الفضيلة والشاعرية في النفوس, وترضي نزعة الاستكانة بعد التعب. أما هذا البيت الذي أسكنه الآن فهو ميدان عام, أو بعبارة أصح, إنه أشبه بثكنة عسكرية لا راحة فيه.

 

إننا نتتالى حول مائدة الإفطار إلى ساعة الغداء, ونتتالى حول مائدة الغداء إلى ساعة العشاء, وتتعالى حول مائدة العشاء إلى وقت متأخر من الليل. ولا توجد غرفة خاصة بأحد, الكل ملك للكل, كل غرفة بحسب الظروف قابلة لأن تكون للنوم والطعام والسهر واللعب. إن المكان مشاع من جلس في موضع فهو له, ومن قام فقد أضاع ما ملك من قبل.

 

ولكن الحياة الجديدة بالرغم من هذا كله بدأت تستدرجني شيئا فشيئا, ولست أذكر المدة التي استغرقتها في تعلم لغة التخاطب, ولكنها لم تكن طويلة على كل حال, وسرعان ما أخذت دهشتي تضمحل لأنساب مع التيار, فإذا بي أصاحب الأطفال وألاعبهم وأشترك فيما كانوا يشتركون فيه من أسباب التآلف والتخاصم. ولا أحسب أن سنة واحدة انصرمت حتى كنت قد اندمجت إندماجا غريبا في حياتي الجديدة, وابتعدت ابتعادا غريبا أيضا عن حياتي القديمة.

 

كنت أذكر منشستر وآل باترنوس وظللت أحن إلى الماضي, ولكن الزمن القاهر بدأ أخيرا يعالج قلبي بالنسيان, وبدأت اللغة الإنكليزية نفسها تضل الطريق إلى لساني مع مرور الأيام, حتى أصبح من المتعذر أن أفهمها إذا سمعت أحدا يتكلمها.

 

وهكذا أصبح ذلك الطفل القديم بين عشية وضحاها فتى مراكشيا خالصا, لا يحفظ من حياته الماضية إلا الذكريات التي رسبت في الأعماق, وأصبح من المستحيل أن تطفو. وكنت من آن لآخر أذكر قول ميللي بأننا سوف ننساهم كما نسيهم المراكشيون من قبلنا, فأرى في ذلك ما يدعو إلى الاستغراب. وبات في استطاعتي أن أستحضرها أمام مخيلتي فلا أحس بأنفاسي تحتبس, لقد استحال اللهيب إلى رماد.

 

أما أختي فما كادت تحل بهذه البلاد حتى انتبذت زاوية من زوايا المنزل, ولم تستطع أن تنسجم مع الحياة الجديدة, لذلك ظلت تتبع الحركات والسكنات بعينين منطفئتين في وجه شاحب. وكانت نظراتها العليلة تطفح بضجر ممزوج بالسخرية, ومع ذلك ظلت معتصمة بعدم المبالاة... وكان وجهها يزداد شحوبا مع مرور الزمن, وكانت العلة ماضية في ارتشاف البشر من وجهها الباهت الحزين.

 

اندمج والدي في الحياة المراكشية منذ اليوم الأول, ولكن أبي مع ذلك ظل شارد الفكر, مستغرقا في حل ألغاز العملية الحسابية الوهمية التي كان يخيل إليّ أنه ما يزال منهمكا في حل رموزها منذ أيامنا الأخيرة في منشستر. ولكن كان يبدو أنه لم يصل فيها إلى أي حل.

 

وفتح الأخ الصغير عينه, وبدأ يخطو خطواته الأولى, ولكنه فتح عينه على مراكش وحدها, وخطا خطواته الأولى على أرضها, فكان مثله كمثلي حينما فتحت عيني وخطوت خطواتي الأولى في غير الأرض التي ولدت فيها.

 

وما لبثت الأمور أن استقامت واندمجنا جميعا - طوعا أو كرها - في هذه الحياة الجديدة التي لم يكن لنا بد من الاندماج فيها. وبات من المحتم التفكير في هذا الطفل الذي اقترب من سن العاشرة وهو لا يزال لم يتعلم القراءة والكتابة في هذه البلاد.

 

كنت أتمتع بحرية واسعة النطاق لأنه كان من المتعذر إرسالي إلى المدرسة قبل أن أتقن لغة التخاطب, وقد راقني ذلك جدا, وكان الأطفال ينظرون إلى هذا الامتياز بعين الغبطة.

ولكن الأمر لم يطل فقد بدأ أبي يفكر في إرسالي إلى المدرسة, وأصبح الناس جميعا ينتقدون جهالتي... وهكذا كان عليّ أن أضرب صفحا عن كل ما تعلمته في المدرسة يمنشستر وأن أشرع في تعلم جديد من المرحلة الأولى.

 

وحاولت أن أقاوم ولكن الأمر كان جدّا كل الجد, وبدأ أقربائي كلهم يحببون إليّ المدرسة فكان نفوري منها يزداد, لأنني كنت أسمع أحاديث الأطفال عنها, فكان صوابي يطير لهذه العقوبات التي كانت تنزل بهم فيها وخصوصا حينما سمعت طفلاً يقول إن (الفقيه) الذي يعلمه يخفي تحت الخشبة الصغيرة التي يجلس عليها مسدسا مخيفا, ومن المتوقع في كل وقت إذا ما استبد به الغضب أن يشهره في وجه تلميذ مشاكس ويطلق عليه النار....

 

وقد طالما وقفت أمام الكتاتيب وأنا أستمع إلى هذا الضجيج الذي يحدثه فيها التلاميذ, وأتوجس خيفة من أن يزج بي في إحداها ويطلب مني المشاركة في هذا الصخب بأعلى صوتي طول النهار. وكان مجرد تصور نفسي بينهم يثير في قلبي رعبا شديدا.

 

ولما أعربت لأبي عما يساورني - وهو يطلب مني أن أستعد للذهاب إلى المدرسة غدا - ضحك وهو يطمئنني إلى أن هناك فرقا كبيرا بين الكتاتيب والمدرسة, وأكد لي أن المدرسة التي سوف أرسل إليها لن تفترق كثيرا عن المدرسة التي عرفتها في منشستر, وقال إن الفرق الوحيد هو أن الدروس كانت تلقي في مدرستك باللغة الإنكليزية أما في المدرسة الجديدة فهي تلقي باللغة العربية واللغة الفرنسية.

 

وبذلك بات من المفروض عليّ أن يتكرر حادث ذهابي إلى المدرسة لأول مرة من جديد. فحينما استيقظت في الصباح وجدتني أسير في الطريق مع والدي لألتحق بالمدرسة, وأبدأ التعلم من أول مرحلة للمرة الثانية, فاستولى عليّ نفس الشعور القديم حينما التحقت بالمدرسة في إنكلترا. ولكنني ما لبثت منذ اليوم الأول أن أدركت الفارق الكبير بين المدرستين.

 

 

21

 

 

وجدت نفسي في المدرسة الجديدة أتلقى دروسي باللغة العربية واللغة الفرنسية, ولم يكن يخطر لي على بال أنه توجد مدرسة يمكن أن تشبع في نفسي البهجة مثل مدرستي هذه.

 

وكانت الدروس العربية مصدرا من مصادر الانشراح, وكانت الدروس الفرنسية مصدرا من مصادر هذا الانشراح أيضا, ولم يكن ذلك يرجع إلى أنني كنت متفوقا بين التلاميذ فإنه لا يوجد في هذه المدرسة ما يدعى بالتفوق. ولا يوجد بها تلميذ واحد يعرف ما قصد إليه أهله من إرساله إلى المدرسة.

 

كنت أخشى المدرسة, فإذا بي أجدها لا تفترق كثيرا عن السينما. وكان آخر ما يمكن أن يخطر ببالي أن تبعث الدروس التلاميذ على الاسترسال في الضحك, وربما على التصفيق.

 

كان مدرس الفرنسية من الإخوان الجزائريين, وكان لنا مدرسان عربيان, أحدهما يلقي علينا هذه المادة التي تدعى (العلم) وثانيهما يدربنا على حفظ كتاب الله الكريم. كان الثلاثة يثيرون فينا الضحك جميعا, ولكن اختلاف شخصياتهم كان يجعل لكل واحد منهم طابعا خاصا في إثارة الضحك والمرح بين التلاميذ.

 

مدرس اللغة الفرنسية رجل نحيل, يميل وجهه إلى العرض أكثر مما يميل إلى الطول, يلبس على رأسه العريض طربوشا شديد القصر, فكان يبدو لنا كما لو كنا نراه مجلوا في مرآة مشوهة.... قصير القامة, يرتدي برنسا دون جلباب, يحلو له دائما أن يرمي بجناحيه معا إلى الوراء, ويعقد عليهما يديه النحيلتين المشعرتين, وكان شعر ذقنه الحليق كثيفا يتطاول فيكاد يصل إلى عينه, وينحدر إلى مسافة بعيدة مع عنقه. شديد سواد شعر الحاجبين, وله عينان حادتان قلقتان, وأنف أفطس. وكان صوته قويا حادا, وبذلك كان مجرد النظر إليه - وهو يذرع الفصل - يغريني بأن أسترسل في الضحك دون أن أعرف لماذا, ولهذا كنت أحرص حرصا شديدا على ألا أنظر إليه.

 

كان يدخل الفصل في الصباح ويقف عند بابه وهو يمر بعينيه الضيقتين بين الكراسي يحصي من تخلف من التلاميذ, ثم يتمتم ببضع كلمات بين أسنانه في شبه حنق, ثم يتجه إلى المنصة التي كان يجلس عليها, حتى إذا ما استقر في مكانه ضرب إحدى كفيه بالأخرى وشرع يلقي هذه الحروف الفرنسية المعدودة بشفتين ممطوطتين وصوت حاد. وكان وجهه يعبر تعبيرا غريبا عما يثيره الصياح بهذه الحروف من معان في نفسه.

 

ولنفرض أن تلميذا متأخرا دخل الفصل وهو يلقي الدروس, هل تعرفون ماذا كان يصنع? كان يتوقف عن الصياح بحروف العلة, ويشرق وجهه إشراقا غريبا كمن عثر على ضالة, كل ذلك وهو يشد يديه خلف ظهره, ثم ينظر إلى زاوية السقف, ويسير كأنه غافل نحو التلميذ المتأخر, فإذا ما قاربه دار حوله وهو ينظر إلى السقف. كل ذلك والتلاميذ يتطلعون إلى ما سوف يحدث. وفجأة يصيح بأعلى صوته صيحة ترتج لها حيطان الفصل: (أين تأخرت أيها الخنزير?).

 

ثم يخفض صوته وينحني على التلميذ وهو يبتسم ويقول: لعلك تأخرت في أكل (الكفتة والفلوس)? أليس كذلك يا عزيزي?

 

ويرتفع صوته بالصياح مرة أخرى: نعم كنت تأكل الكفتة والفلوس!

 

حتى إذا ما انتهى هذا الهمس والصياح والتمثيل ضرب التلميذ ضربا مبرحا وأرسله إلى مجلسه في الفصل, ثم يعود ويعتلي منصته, ويضرب يده فوق صدره المنتفخ, وينظر إلى التلاميذ يمينا وشمالاً بعينين جاحظتين كأنه يقلد نابليون بونابارت.

 

ولا يكاد يعود إلى الصياح بالحروف الفرنسية حتى ينصرف عنها مرة أخرى وتبرق عيناه ويقفز من المنصة ويتجه إلى مؤخرة الفصل على أطراف أصابعه ليضبط تلميذا متلبسا بجريمة الانصراف عن الدروس, فيمسكه من أذنه ويسحبه هكذا إلى مكان بارز أمام التلاميذ. كل ذلك وهو يسير على أطراف أصابعه, ويشير بالصمت والأطفال يكتمون ضحكاتهم لكي يحافظوا على ما يشير به.

 

ويوقفه أمام التلاميذ وهو يصيح: ها أنت ذا! ثم يهمس مبتسما: لماذا كنت منصرفا عن الدرس? وماذا كنت تصنع? لقد عرفت الآن ماذا كنت تصنع. أصابك العطش فانصرفت عن الدرس إلى شرب الحبر من الدواة, أو تشرب الحبر أيها القذر?

 

ويضج التلاميذ بالضحك, بينما ينصرف مدرس اللغة الفرنسية إلى تلميذه الغافل.

 

وهكذا كان يقضي ساعات طويلة من النهار يصيح قليلاً بالحروف والأرقام, وينصرف كثيرًا إلى تمثيل عشرات من هذه الأدوار التي كانت بارعة في نظر التلاميذ, لأنها كانت تنقذهم من مشقة الاستماع إلى الصياح.

 

كان هذا المدرس يستأثر بمعظم الدروس في الصباح وبعد الظهر. أما المدرسان الآخران فكانت تخصص لهما أوقات قصيرة كل يوم لا تتعدى الساعة.

 

وأولهما مدرس مادة العلم. وهي مادة كثيرة الألغاز متشعبة, اصطلح التلاميذ دون اتفاق على أنها مستحيلة الفهم. ولذلك يئسوا منها وانصرفوا عنها إلى العبث العلني أمام مدرسها دون أن يحفلوا بضربه وصياحه, انصرفوا عنه متحدِّين له, غير حافلين بما ينجم عن هذا الانصراف لأنه لم تكن لهم عنه حيلة. كان رجلاً بدينا قصير القامة يرتدي ثيابا فضفاضة, وقد استقرت على رأسه عمامة واسعة الأرجاء, وحفت بوجهه لحية كبيرة بها بضع شعرات بيضاء. أما ذقنه فكان دائم البلل لكثرة صياحه.... كان يضرب براحته على المنضدة وهو يرطن بألغازه, ويضرب بها على وجوه التلاميذ وهم لاهون بقوة شديدة.

 

كان يضرب ويرفس ويصيح بكل ما فيه من قوة, وكان بصره يلتهب ووجهه يحمر وتنتفخ أوداجه وهو يصيح ويرسل الشتائم بصوت عال جدا, واضح جدا, مزعج جدا حتى إنه ليخيل إليك من كثرة جلبته أنه انقلب إلى عشرين من المدرسين.

 

ويعييه الصياح والضرب, وتعييه الحيلة لأجل أن ينبه التلاميذ - دون جدوى - إلى أنه موجود في الفصل, فيتهالك على وجهه فوق المنضدة حتى يخيل إليك أنه يبكي, فيقبل عليه التلاميذ يربتون على كتفه ويواسونه, فيطير صوابه ويقذف بالعمامة في الهواء ويرفع يديه ويستبد به الصياح استبدادا مخيفا فينطلق إلى الباب لينادي مدير المدرسة نداءات متوالية مدوية.

 

ويستمر في صياحه مدة تطول أو تقصر, والتلاميذ مشدوهون قد انصرفوا عن الضحك والعبث لهول الموقف. وأخيرا يقبل المدير, وهو شيخ جزائري وئيد الخطى, هادئ الأعصاب, لا تفارق الابتسامة شفتيه الذابلتين.

 

ولا يكاد المدير الشيخ يقترب من باب الفصل حتى يصيح به المدرس بأعلى صوته, أن تعال أنقذني من تلاميذك, إنهم يدفعون بي إلى الجنون, إن مدرستك هذه مباءة للشياطين والمردة من أبناء البشر. أيها المدير, أنقذني, أنقذني!

 

وبينما كان مدرس "العلم" يرسل هذه الصيحات في وجه المدير البشوش, كان هذا ينظر إليه في هدوء عجيب. وأخيرا يسأله:

 

- ألست أنت الأستاذ في الفصل?

 

فيجيب ثائراً: نعم أنا الاستاذ, ولكن الحيلة أعيتني مع هؤلاء المردة, أقبل, أقبل وأنقذني منهم!

 

فيقول المدير: هل أناديك في دروسي لتنقذني منهم? هل أستغيث بك? أنت المدرس فدبر شؤون دروسك بنفسك, كما أدبر أنا شؤون دروسي بنفسي.

 

قال ذلك وهو ينصرف بهدوء بنفس الخطى الوئيدة التي أقبل بها. وهنا يصيح مدرس مادة "العلم" فيرفع عصاه يضرب بها شمالاً ويمينا ويصيح ويلعن. ثم يلف نفسه لفا عصبيّا في برنسه ويغادر الفصل وهو يتعثر من شدة الاهتياج.

 

بعد ذلك يأتي دور المدرس الثالث وهو الذي يمرن التلاميذ على حفظ الآيات القرآنية. رجل ربع القامة في عنفوان القوة والحيوية, جميل المحيا, كث اللحية, ذو عينين نفاذتين. وكان إلى جانب ذلك هادئا يحيط نفسه بهالة من الوقار والهيبة. تقابله في عرض الشارع فيبدو جم التواضع حيي الطرف, حتى إذا عدت فرأيته في المدرسة خيل إليك أنه شخص آخر. كان فيها دائم الوعيد والتهديد, يلوح بيده القوية في الهواء فيشيع الرعب الشديد في قلوب التلاميذ. وكانوا جميعا يخشونه دون استثناء, وكانت نظرة واحدة منه إلى أي تلميذ كافية لإرجاعه في الحال إلى سواء السبيل.

 

خصصت لهذا الرجل حجرة يجعل منها كتّابا يختلف إليه الأطفال قبل موعد الدروس في الصباح, وبعد موعدها في المساء, وكان التلاميذ يخشونه, فينزعون إلى الهروب منه. ولم يكن هذا الهروب يقتضي كبير عناء, إذ يستطيعون في الصباح أن يتأخروا إلى موعد الدروس, وفي المساء يستطيعون الخروج من الباب الخلفي, دون أن يحاسبهم أحد على ذلك. بل كان كل تلميذ يأتي من والده بطلب الإعفاء من الاختلاف إلى الكتاب يتمتع بهذا الامتياز رسميا, وفي استطاعته بعد ذلك أن يمر به ويحييه وينصرف دون أن يخشى شيئا, لأن قانون المدرسة كان يحميه من الانكباب على حفظ ما أنزل الله على عبده من آيات بينات.

وويل للذين يهربون دون أن يقدموا للمدرسة طلبا ممهورا بتوقيع ولاة أمورهم. ولا يأتيهم هذا الويل من قبل المدرسة أو مديرها, وإنما يأتيهم من قبل صاحبنا هذا القوي العنيف. فقد كان يعلم أن مستقبل هذه الحجرة التي خصصت له رهين بالإقبال عليها, فإذا تسامح في تتبع الهاربين, فسوف يأتي اليوم الذي تقرر فيه المدرسة الاستغناء عنها, ولذلك فقد جرد عزيمته تجريدا مخيفا, وبدأ يترصد التلاميذ, ويتربص بهم, ويعترض طريقهم. وقد انصرف إلى دراسة حيلهم في الهرب انصرافا دقيقا, حتى أتقنها جميعا, وبات في استطاعته أن يحبطها جميعا.

 

وأنا مدين لهذا الرجل, لأنه أول من علمني القراءة والكتابة في صورتها البسيطة الساذجة. وأذكر أنني كنت أخشاه بالرغم من أنه لم يمسني منه سوء. فقد نشأ بيني وبينه نوع من الاحترام عرفت فيما بعد أنه كان نتيجة لمقابلة تمت بينه وبين والدي دون أن أعلم عنها شيئا.

 

كانت حجرته تضم مزيجا عجيبا من التلاميذ, فمنهم الصغير الذي يتعلم القراءة والكتابة في المرحلة الأولى, ومنهم المتوسطون الذين بدأوا يقطعون أشواطا لا بأس بها في حفظ السور والآيات, ومنهم الكبار الذين أتقنوا حفظ كتاب الله الكريم لكثرة ما مروا به طردا وعكسا. فلم تكن هذه الحجرة مخصصة لسنة دون أخرى, بل كانت مخصصة لتلاميذ الفصول كلها.

 

كان من بين هؤلاء الصغار فتى ناهز العشرين من عمره, اعتاد أن يسرد كل يوم حزبا من كتاب الله المبين والمدرس يستمع إليه, وكان فتى قويا خشنا تكفي نظرة واحدة إليه لمعرفة أنه على استعداد لخوض المكاره, وكان صاحبنا يحترمه احتراما شديدا, ولا يصيح به ولا يستحثه, وكان يعطيه حرية واسعة النطاق, بحيث كان في استطاعته أن يأتي وينصرف في المواعيد التي يختارها, وكان يحييه كلما أقبل وكلما هم بالانصراف, وهذا ما لم يكن يتمتع به تلميذ غيره.

 

وذات يوم حصل ما عكر العلاقات بين الأستاذ والتلميذ, فلم يكد الفتى يقبل حتى أعرض عنه الأستاذ إعراضا لفت نظر الصغار جميعا, فكانوا ينقلون نظراتهم بين الشخصين في حيرة واندهاش, كما ينقل النظر بين ندين نشأ بينهما غضب مفاجئ. وكان الأستاذ من آن لآخر يرميه بنظرات صاعقة تضج بالاستخفاف والازدراء, ثم تطور الأمر من هذه النظرات إلى الكلام, إذ وجه إليه الأستاذ بضع كلمات عرف منها أن الفتى أتى أمرا مشينا, فرد عليه هذا بكلام فهم منه أنه لا يعبأ باهتمام الأستاذ. عندئذ ساد الحجرة صمت رهيب, فقد تطاير الشرر من عيني صاحبنا وهو يضرب بعصا في الهواء, ويطلب من التلميذ الذي ناهز العشرين من العمر أن يدخل هذه الحجرة المجاورة الخالية, وحاول التلميذ أن يهرب ولكن الأستاذ اعترض سبيله, ودفعه داخل الحجرة, فحاول أن يقاوم ولكنه استحيا. ودخل الأستاذ في أثره وهو يتميز من الغيظ, ثم انقض عليه في جنون, فلم يلق مقاومة تذكر في أول الأمر.

 

كل ذلك ونحن ننظر مشدوهين إلى هذا الحادث الرائع الذي لم يخطر لنا على بال أن الدهر سوف يسمح لنا بمشاهدته. فقد استيقظت الهمة في صدر التلميذ عقب الإهانات المتوالية التي وجهت إليه, فاشتبك مع الرجل في صراع مخيف. فقفزت قلوبنا الصغيرة إلى حناجرنا ونحن نتتبع هذه الضربات المتتالية التي كانا يتبادلانها. ثم سقطا معا إلى الأرض, وزاد اشتباكهما, وغالب الفتى القوي أستاذه ما استطاع إلى المغالبة سبيلاً. وأخيرا تمكن هذا من أن يجثم على صدره, ويكيل له ضربات قاتلة. كل ذلك والجدران والأبواب تهتز كما لو كانا ثورين يتنازلان.

 

ازدادت مخاوفي بعد هذه الحادثة المروعة التي أثارت قلقي, وبدأ يخيل إليّ أن نظر صاحبنا هذا الطاغية إليّ قد اعتراه بعض التغيير, ثم خيل إليّ أن العلاقات بيني وبينه أخذت تسعى إلى التوتر, وأخيرا بدا لي من اليقين أنه يتربص بي حتى إذا أقبلت مع جماعة من التلاميذ في وقت متأخر, أمر بأن ترفع أرجلنا للضرب. وكنا سبعة, فلما رُفعت رجلا التلميذ السادس أيقنت أن دوري آت لا ريب فيه. فأجمعت أمري مرة واحدة, واتجهت ببصري إلى الباب, وفي لمح البصر كنت أعدو في الطريق إلى باب المدرسة الخارجي كأنني أسابق عاصفة هوجاء, وتبعني اثنان أو ثلاثة من التلاميذ بأمر من الأستاذ لاعتقالي, ولكن هيهات! فقد كان العدو الشيء الوحيد الذي كنت أمتاز به بين أقراني الصغار. ومنذ ذلك اليوم ألغيت هاتين الساعتين اللتين كان يقتطعهما من وقتي أستاذ القرآن. وقد حاول أن يعترض طريقي ويطاردني ولكنه لم يتمكن من القبص عليّ أبدا. وقد انقطعت العلاقة بيني وبينه منذ ذلك الحين, دون أن أحتاج إلى تقديم موافقة والدي على ذلك, فقد أخذت على عاتقي أن أتخلص منه من غير أن يعلم والدي, لأنني كنت أعرف أن آخر ما كان يمكن أن يقبله هو مساعدتي على الهرب من حفظ تنزيل العزيز العليم.

 

 

22

 

 

انسابت بنا الحياة بعد ذلك انسيابا ناعما هادئا, على النحو الذي ما تزال تنساب به إلى اليوم, مع خلاف بسيط لا علاقة له بالجوهر, فلا داعي لتتبع التفاصيل. بيد أن شخصا واحدا لم يكن ينساب مع هذه الحياة الناعمة الهادئة, وهذا الشخص هو أختي التي تشبثت بها العلة وازدادت وطأتها شدة, وأصبحت تفقد وعيها من وقت لآخر, واشتد هزالها وهي طريحة الفراش. لم أر في هذا شيئا غير عادي, لأن الحياة الجديدة التي انسجمت فيها أسرتني, انصرفت إلى الاستمتاع بها, وإذا كنت آسف بين الفينة والأخرى لأن أختي لم تشاركني في هذا فإن إيماني بأنها سوف تستمتع بها في يوم من الأيام كان يخفف من حدة الأسف, بالرغم من أنها ظلت تعيش غريبة في وسطها الجديد.

 

وفي يوم من أيام عاشوراء ظللت ألعب طول النهار دون أن أتذكرها, ولما عدت إلى المنزل دخلت الغرفة التي كانت توجد بها, وكانت نائمة يحف بها بعض أفراد العائلة, فما كدت أمثل أمامها حتى فتحت عينيها كما لو كانت معي على ميعاد. عينان خابيتان منطفئتان في وجه أصفر شاحب, بدا لي أنها تبذل مجهودا كبيرا لأجل أن تمكن الابتسامة من أن تتعلق - وهي خائرة - بشفتيها الذاويتين, ثم همست بألفاظ عليلة هزيلة واهية في لوم ممزوج بدعابة ميتة: يا لك من أخ عاق! ألا تقدم لأختك بعضا من هذه اللعب الكثيرة التي تحملها, احتفظ لي بواحدة ألعب بها بعد الشفاء.

 

لا أعرف بماذا أجبتها, ولكن طلبها بدا لي في نفس الوقت عاديا. إنها تريد إحدى لعبي, سوف أحتفظ لها بها, فقد طالما تهادينا بلعبنا, بل كانت دائما مشاعة بيننا. وإذا كنت قد غبت طول النهار لأول مرة في حياتي, فليس في ذلك ما يدعو إلى الاهتمام. عرضت عليها الألعاب الجديدة التي اشتريتها, ولكن بدلاً من أن تقبل عليها لتفحصها وتلعب بها اقتصرت على تحريك رأسها لتتمكن من رؤيتها رؤية عابرة وهي تقول: لا, ليس الآن, لا تقدمها إليّ الآن, دعها إلى وقت آخر, احتفظ لي بواحدة منها إلى أن أبرأ.

 

قلت مغتبطا: تعلمت اليوم ألعابا جديدة رائعة, وسوف أعلمك غدا إياها في الصباح, أوه كم هي رائعة هذه الألعاب الجديدة! وعادت تبذل مجهودا جديدا لتبادلني اغتباطي وهي تقول: لا, ليس الآن, في وقت آخر, إن الساعة تتأخر, بيد أنه يجب أن تتذكر, لا تنس أن تحتفظ لي بإحداها, احتفظ لي بها جديدة إلى أن ألعب بها. والآن دعني أنام, يا لك من أخ مشاكس! دعني أنام إلى الصباح, سنلعب في الصباح.

 

كنا في فصل الصيف, ولذلك لم أكن أذهب إلى المدرسة. ومعنى ذلك أنني كنت أقضي أيامي كلها في لعب متواصل مع لداتي من أقاربي. وكان الليل يضايقني لأنه يفصل بيني وبين الأطفال, ويحول بيني وبين اللعب. وكنت أستأذن أبي أحيانا لأذهب إلى هذا المنزل الكبير الذي كانت جدتي تقطنه, فقد كان يضج بأطفال أكثر من منزلنا, وكان هؤلاء الأطفال يطلبون مني أن أقضي الليل معهم لأجل أن يطلعوني على الألعاب الليلىة الرائعة, ولكن أبي كان يمانع في ذلك ممانعة أيأستني, فانصرفت عن هذا الاستئذان انصرافا كله حسرات.

 

فما راعني ذات يوم إلا أن أبي ناداني قائلاً: إنه سوف يرسلني إلى منزل الجدة لأقيم به أسبوعا أو أسبوعين. يا للبهجة! أسبوعا أو أسبوعين! إذن فسوف أستوعب كل اللعب دون رقيب ولا عتيد, إلى أن أعجز عن الحركة. ولم أكلف نفسي مشقة التفكير في السر الذي يكمن خلف إرسالي هذه المدة الطويلة إلى منزل جدتي, وهو الذي كان أبي يمانع من أن أقضي فيه ليلة واحدة بعيدا عنه, ذلك أن الابتهاج طفا على السر الرهيب.

 

وفي منزل جدتي الذي كان يعج بلداتي من الأطفال اطلعت على أسرار اللعب لا في الليل فحسب ولكن في كل دقيقة من دقائق الليل والنهار أيضا. وكان به حوض كبير صالح للسباحة حيث كنا نقضي معظم الوقت عراة نقفز ونسبح إلى أن ضاق بنا المنزل ذرعا. ولكن جدتي لم تكن تبالي بضجيجنا, فقد كانت مغتبطة بنا لا تحفل بشيء ما دمنا نملأ الجو بضحكاتنا.

 

ومرت الأيام وأنا غافل عن الحروف القاسية التي كانت تنقش في اللوح المحفوظ. كنت ألهو وأضحك وألعب بينما كانت الأقدار تجد وتعبس وتتربص. وفجأة وضعت يدي على مفتاح السر الرهيب في الوقت المناسب, فقد سمعت كلمة واحدة علقت بذهني وأنا ألعب, وما زلت أتأملها حتى فهمتها. كلمة كانت قصيرة عابرة أفهمتني لماذا أرسلت بصفة شاذة إلى منزل جدتي. وما لبث إيماني أن قوي بما فهمته, فقد كانت كل الظروف التي تحيط بي بمثابة أفواه تصرح بالسر المخيف دون أن أسمع شيئا. ولكن هذه الكلمة العابرة, هذه الكلمة الخالدة التي سوف تظل تتردد في نفسي ما دمت على قيد الحياة, هذه الكلمة كانت إبلغ من كل شيء. وتلفت يميناً وشمالاً وعيناي زائغتان مرعبتان, ثم انسللت نحو الباب وفكري شارد يستكنه أسرار الكلمة المروعة, ثم خيل إليّ وأنا أخرج إلى عرض الشارع أن انهيارا هائلاً قد دمدم فجأة في أعماقي. وأخذني صوت مرعب من جميع أقطاري فرفعت يدي المرتعشتين أسد بهما أذني لأحول بينهما وبين الصوت البشع المدوي. ثم انطلقت أصرخ وأعدو وأبكي كما لو كنت قد أصبت بجنون غامر. وكان المارة ينظرون إليّ في استغراب, ولكنني لم أكن أدرك لأحد منهم وجودا, وكان البعض يحاول اعتراض سبيلي فأتملص منه وأعدو في جنون, ورفعت يدي أضرب الباب بشدة, ولما فتح وقفت في مكاني كما لو كنت قد تحولت إلى صخر. رأيت بضع وجوه صفراء تبرق فيها عيون فزعة قلقة, يكمن خلفها شعور أصحابها بأنهم قريبون من كارثة, ولم ينبس أحد ببنت شفة, فظللنا هكذا عدة دقائق, ثم أحسست بالحياة تعود لتتدفق في جسمي تدفقا جبارا ساحقا. وتحركت في مكاني استعدادا لمواجهة الواقع المرير, ولكن حركتي أثارت في تلك العيون ما أفهمني أن أصحابها مصممون على منعي من دخول المنزل.

وعادت الحياة تتدفق في جسمي من جديد وأنا أتحفز كما لو كنت أستمد قوى من السماء, وشعرت بأنه بات في استطاعتي أن أقتحم جدارا, وبدا لي أن دمائي تصرخ مستنجدة بي أن أندفع فلا توجد قوة فوق الأرض تستطيع أن تعوقك في مثل هذه الساعات الفاصلة, فاندمجت وسط كتل من البشر كأنني سهم يخترق المياه, وكانت ثيابي ممزقة, ووجهي منتفخا, وصوتي أبح حينما وقفت أمام باب الغرفة المقفلة التي اعتادت أختي أن تنام فيها. وترددت قليلاً قبل أن أقتحم الباب ثم فجأة فتحته بشدة وأنا أصرخ, واندفعت نحو الزاوية التي كانت توجد بها وقد وطدت نفسي على مواجهة أفظع الكوارث. ولكنني لم أتوقع أن أجد الزاوية خالية, فتوقفت وقد احتبست أنفاسي, وكان فكري يتقلب بسرعة, ثم تلفت. وهنا انهمرت دموعي وأنا أتشنج, واقتربت بخطى وئيدة ناظرا إلى الأرض. بضع خطوات قصيرة مضطربة, ثم وقفت أرنو إلى الأرض. كانت القوة العجيبة التي تتقمصني تنسحب مني في سرعة, حتى خيل إليّ أنني أتداعى, وتملكني حنين غريب إلى أن أسقط إلى الأرض, إلى المكان الذي أرنو إليه, إلى جوار هذا الشيء الذي لا بد أنه أختي, ذلك أنني أبصرت على الأرض العارية شيئا مستطيلاً قد لف في كفن أبيض, والغرفة خالية من كل آثار أختي, نعم فإن أختي الوديعة الرحيمة ملقاة هكذا على الأرض العارية ودون وسادة...

 

ألقيت بنفسي إلى الأرض وأنا لا أكاد أصدق ما أرى. ومددت بيدي إلى الشيء الملقى على الأرض أفك رباطه من ناحية الرأس. يا للكارثة! إن أختي بين ذراعي جثة هامدة لا حراك بها... ولم يبق من الشعلة الوهاجة سوى ذبالة. استحالت الوقدة إلى رماد....

 

وضممتها إلى صدري فخيل إليّ أنها رخام, وسرت في جسمي قشعريرة وأنا أعانق الموت وألثمه وإبلله بدموعي, ولو كانت في أعماق اليم لألقيت بنفسي إلى الأعماق... ولو كانت في الجحيم لاقتحمت عليها شواظ النيران. وكل من حولي وما حولي باهت يرنو في وجوم إلى هذا المنظر المروع, فخارت قواي وتخاذلت. وتقدم إليَّ الحضور ليأخذوني وأنا أدفن وجهي في وجه أختي الميت البارد. وحاولت أن أقاوم فخانتني القدرة, ولما شعرت بأنني لا محالة مستسلم ارتفع صوتي بالنشيج. وعندما أفقت من الصدمة جلت بعيني في كل مكان فإذا بهما تنكران كل مكان. لقد مست يد التغيير كل شيء في الحياة بعد ممات أختي. واستيقظت في نفسي الذكريات القديمة في منشستر: ألعابنا وحديثنا أثناء الليل, خواطرنا في ليالى عيد الميلاد, توسلاتنا إلى صاحب حقل الكرمب, ذهابنا إلى المستشفى. أجل لقد كان بمثابة خطوتها الأولى نحو القبر.

 

وكاد صوابي يطير وأنا أحاول أن أقنع نفسي بأنه من المفروض عليّ أن أسير بقية الطريق وحدي, فبدت لي الطريق موحشة غريبة كأن لم يكن لي بها عهد من قبل. صارت مملة مخيفة لا تثير أي اهتمام.

 

لقد تغير كل شيء بعد وفاة أختي, لذلك كانت وفاتها فاصلاً بين عهدين. وإذا كانت هي قد انتهت يوم توفيت فقد انتهيت أنا أيضا في ذلك اليوم. إن ذلك الطفل الذي ألقى بنفسه فوق صدر أخته الميت لم يقم أبدا. إنه ما يزال منكبا عليه إلى اليوم يعانق أخته ويناديها. أما هذا الذي قام فطفل آخر لا يمت إليه بأي صلة.

 

إن الحوادث الفاصلة هي التي تنهي فترات حياتنا لا السنون, وإذا كنت ما أزال طفلاً في ذلك الحين, فإنني أنظر إلى الفترة التي تسبق هذا الحادث المروع على أنها فترة مستقلة تمام الاستقلال عما بعدها.

 

أما الفترة الثانية فهي التي سرت فيها وحيدا أتعثر لأستأنف السير في طريق الحياة وحدي. وإنني أكتب هذه السطور فيخيل إليّ أن العينين الدعجاوين البريئتين تطلان من خلف كل كلمة, وهما تشعان بذلك البريق الغريب المتألق. إن عينيها تسكنان في ضميري, أجد فيهما العبوس حينما أهفو, والاغتباط حينما أصيب, وما زلت أستلهم منهما الهداية في طريق الحياة المحفوفة بمواطن الزلل والضلال. كان كل شيء في طفولتي ممتزجا بها ولذلك فقد انتهت مرحلة من طفولتي بموتها, ولم أعد أشعر برباط بيني وبين ذلك الماضي الذاهب الذي كانت أسطع كوكب في سمائه. وكان يخيل إليّ في ذلك الحين من فرط هول الصدمة أنني لن أفيق, ولكن يد الزمن ربتت على كتفي لكي أنهض وألحق بقافلة الحياة, كان صوابي يطير كلما رنوت إلى (المكان) فأجده فارغا منها, وهالني أن أنكر كل ما حولي, بالرغم من أنني أنكرته, كان يقيم بمكانه في قسوة كما لو لم يحدث شيء. وإذا كنت قد ابتعدت في طريق الحياة عن مكان الحادثة القاسية, وإذا كان الزمن قد مسح بيده الرقيقة الكلوم والدموع والحسرات, فإن تلك اليد القديرة لن تستطيع أن تمحو شيئا واحدا, هو ذكراها في قلبي والوفاء لهذه الذكرى. نعم ما زال صوتها في أذني وهي تقول بنبراتها العليلة (احتفظ لي بواحدة, احتفظ لي بها لكي ألعب بها بعد الشفاء). وقد احتفظت بها وما زلت ولن أزال ما نبض بالحياة قلبي, سوف أظل محتفظاً لها مدى الحياة بشيء أسمى وأجل من لعبة, ولعلها كانت تقصد شيئا أسمى وأجل منها: الذكرى التي تهمس في الأذن وتطالع في العين وتكمن في الأعماق. لا أزال أرى ذلك الوجه الكريم يطل عليّ من صفحة البدر كلما اكتمل في السماوات, ولكنني أصبحت أرى اليوم إلى جانبه وجها آخر صغيرا, وجه الطفلة الوديعة يطل خلف كتف الأم على الليل الساهم الحزين.

 

وإنني إذ أنتهي إلى هذا المكان من الماضي لأنحني في إجلال أمام القبر الصغير المجهول, لأذرف دمعة حارة على الطفلة الخابية التي كانت في يوم من الأيام شعلة من حياة.

 

أضيفت في 10/05/2005/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية