ولدت
الشاعرة نازك الملائكة في بغداد، العراق، في 23/ 8/1923 .
ونشأت في
بيت علمٍ وأدب،
في رعاية
أمها الشاعرة سلمى عبد الرزاق أم نزار الملائكة وأبيها الأديب الباحث صادق
الملائكة ، فتربَّت على الدعة وهُيئتْ لها أسباب الثقافة.
وقد قضت
أعوام صباها مع أسرتها.
وقد فرت
الشاعرة من العراق في أواخر الخمسينات خوفاً من تفشي العنف الثوري في تلك
المرحلة.
لنازك
الملائكة قصائد مشهورة، وأعمال نقدية معروفة، وقصص. وبعض نصوص السيرة
الذاتية.
وقد قام
المجلس الأعلى للثقافة بنشر أعمال الشاعرة الكاملة أخيرا في القاهرة.
وما أن
أكملتْ دراستها الثانوية حتى انتقلت إلى دار المعلمين العالية وتخرجت فيها
عام 1944 بدرجة امتياز ، ثم توجهت إلى الولايات المتحدة الأمريكية
للاستزادة من معين اللغة الانكليزية وآدابها عام
1950
بالإضافة إلى آداب اللغة العربية التي أُجيزت فيها .
عملت
أستاذة مساعدة في كلية التربية في جامعة البصرة .
تجيد من
اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية ، بالإضافة إلى اللغة
العربية ، وتحمل شهادة الليسانس باللغة العربية من كلية التربية ببغداد ،
والماجستير في الأدب المقارن من جامعة وسكونس أميركا .
مثّلت
العراق في مؤتمر الأدباء العرب المنعقد في بغداد عام 1965 .
لها من
الشعر المجموعات الشعرية التالية:
عاشقة
الليل صدر عام 1947.
شظايا
ورماد صدر عام 1949.
قرارة
الموجة صدر عام 1957.
شجرة القمر
صدر عام 1965.
مأساة
الحياة وأغنية للإنسان صدر عام 1977 .
للصلاة
والثورة صدر عام 1978.
يغير ألوانه
البحر طبع عدة مرات.
الأعمال
الكاملة - مجلدان - ( عدة طبعات ).
ولها من
الكتب:
قضايا الشعر
المعاصر.
التجزيئية
في المجتمع العربي.
الصومعة
والشرفة الحمراء.
سيكولوجية
الشعر.
كتبت
عنها دراسات عديدة ورسائل جامعية متعددة في الكثير من الجامعات العربية
والغربية.
نشرت
ديوانها الأول " عاشقة الليل " في عام 1947، وكانت تسود قصائده مسحة من
الحزن العميق فكيفما اتجهنا في ديوان عاشقة الليل لا نقع إلا على مأتم، ولا
نسمع إلا أنيناً وبكاءً ، وأحياناً تفجعاً وعويلاً " وهذا القول لمارون
عبود.
ثم نشرت
ديوانها الثاني شظايا ورماد في عام 1949، وثارت حوله ضجة عارمة حسب قولها
في قضايا الشعر المعاصر، وتنافست بعد ذلك مع بدر شاكر السياب حول أسبقية
كتابة الشعر الحر، وادعى كل منهما انه اسبق من صاحبه، وانه أول من كتب
الشعر الحر ونجد نازك تقول في كتابها قضايا الشعر المعاصر " كانت بداية
حركة الشعر الحر سنة 1947، ومن العراق ، بل من بغداد نفسها ، زحفت هذه
الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله وكادت ، بسبب تطرف الذين استجابوا
لها، تجرف أساليب شعرنا العربي الأخرى جميعاً، وكانت أول قصيدة حرة الوزن
تُنشر قصيدتي المعنونة " الكوليرا " وهي من الوزن المتدارك ( الخبب).
ويبدو
أنها كانت متحمسة في قرارها هذا ثم لم تلبث أن استدركت بعض ما وقعت فيه من
أخطاء في مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور فقالت :عام 1962 صدر
كتابي هذا ، وفيه حكمتُ أن الشعر الحر قد طلع من العراق ومنه زحف إلى أقطار
الوطن العربي، ولم أكن يوم أقررت هذا الحكم أدري أن هناك شعراً حراً قد نظم
في العالم العربي قبل سنة 1947 سنة نظمي لقصيدة (الكوليرا) ثم فوجئت بعد
ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة قد ظهرت في المجلات الأدبية والكتب منذ سنة
1932، وهو أمر عرفته من كتابات الباحثين والمعلقين لأنني لم أقرأ بعد تلك
القصائد في مصادرها ".
توفيت في القاهرة 2007
كتبوا
عنها
نازك
الملائكة شاعرة عراقية سامقة من جيل الحداثة العربية الرائعة الذي ولد بعد
الحرب العالمية الثانية ، ولقد غدا اسم نازك رمزا عراقيا شهيرا معاصرا
للشعر العربي الحديث، وهو يكشف عن ثقافة عميقة الجذور لجماعة ذكية وعريقة
تقطن منذ الاف السنين في واد كله زرع وضرع في ما بين النهرين الخالدين .
وتكاد تكون نازك الملائكة رائدة للشعر الحديث الذي اسموه بـ " الشعر الحر "
، بالرغم من إن تقاسما مشتركا في مسألة "الريادة" بينها وبين زميلها الشاعر
بدر شاكر السياب، وهي نفسها تصر علي سبقها اياه عندما تذكر في كتابها
"قضايا الشعر المعاصر" بأنها أول من قال قصيدة الشعر الحر، وهي قصيدة
"الكوليرا" العام 1947 أما الثاني -في رأيها- فهو بدر شاكر السياب في
ديوانه "أزهار ذابلة" الذي نشر في كانون الأول من السنة نفسها . ولست هنا
في معرض لمثل هذه الجدالية التي استمرت اكثر من نصف قرن .. دعوني اتحرر
قليلا من هذا الطوق ليعلن شاهد الرؤية عن بعض ما يتذكره من الشواهد ، وما
ينغرس في اعماقه حتي الان بعض انطباعات ولدتها احاسيس ثمينة لا تقدر باي
ثمن .. وهذا ما وجدته عند البعض النادر من المثقفين العرب الذين يعتزون
بمسيرتهم وتجاربهم الخاصة .
تدهشني
جدا هذه السيدة الوقور التي لم اتذكر منها غير جبهتها العريضة وانصاتها
للاخرين عندما يتحدثون واذا تحدثت اندفعت الكلمات سلسلة غاية في الرقة
والاتساق والروعة .. لم تكن تبتسم الا قليلا ومن كان يراها قبل عقود خلت من
الزمن ، يظنها تحمل فوق كاهلها هموم كل البشر .. رقيقة المشاعر مرهفة
الاحاسيس ولكنها منطوية علي ذاتها وكأنها تختزن في اعماقها كل احزان العراق
منذ الاف السنين ! ومن يقرأ قصائدها اليوم ، تلك التي كتبتها قبل عشرات
السنين ، يلمح كم كانت تتراءي لها الصور التي ستتوالد في يوم ما علي
مدينتها وعلي وطنها .. لم تكن عاشقة للنهارات العراقية بكل تألقها وبريقها
ووهجها وطعم اويقاتها تحت النخلات الباسقات ، او عند ضفاف الشطوط .. كانت
عاشقة عربية لليل بهيم دجي تبحث فيها عن غابة من نجوم وانوار واقمار واصوات
بعيدة لناي حزين وسحر بغداد قديما لا طعم له الا في اعماق الليل الدجية .
لم التق
بالشاعرة نازك الملائكة الا مرة واحدة وانا في ريعان الصبا ، لم احادثها
ابدا ، وانما كنت اجلس بعيدا عنها ونظراتي ترمقها من بعيد لأني كنت اسمع
اسمها دوما من اقرب المقربين ونحن واياها في ضيافة عائلية لاصدقاء احباء
وقدماء وجدد .. كان الحديث كما اذكر فيه شعر وفيه تاريخ وسياسة وذكريات
وفيه نقد ساخن لواحد من الحكام العرب القدماء ! ثم دار الحديث عن الشعر
والشعراء العراقيين المحدثين وذكر منهم : السياب والبياتي وشاذل وسعدي
وبلند ولميعة وعاتكة وغيرهم .. وانبرت د. حياة شرارة ، وكانت استاذة في
الادب العربي وهي صديقة لنازك كي تعلمها انها تكتب كتابا في سيرة نازك
وشعرها ، ففرحت نازك فرحا جذلا ومضت الاثنتان في حديث مطول جانبي لم اسمع
منه الا اسماء قصائد وبعض تواريخ مهمة ..
وقفة عند
سيرة نازك الملائكة
ولدت
نازك الملائكة في عائلة ادبية ومثقفة معروفة تقيم في محلة العاقولية ببغداد
العام 1923 وذلك يوم الأربعاء الموافق 30 من ذي الحجة 1341 للهجرة وقبيل
بدء السنة الهجرية الجديدة بخمس دقائق .. كان الأب رجلا عمليا واقعيا مغرما
بالشعر واللغة العربية ودراسة الفقه والمنطق والشعر وكانت الام فتاة يافعة
لم تبلغ بعد السن الصالحة للأمومة ، ولكنها مغرمة بقراءة القصص وسير
الابطال والشعر العذري .
الاب في
الثامنة والعشرين من عمره ، والام في الرابعة عشرة ولكنها شاعرة اسمها سلمي
عبد الرزاق وكانت امها قد اصدرت ديوانا بعنوان " انشودة المجد " - هكذا
كتبت نازك تقول في مذكراتها التي لم تنشر بعد - ! وكتب الأب قصيدة يحيي بها
طفلته ويؤرخ مولدها بهذا الشطر : "نازك جاءت في زمان السرور".
وكانت
قصة اختيار هذا الاسم التركي لتسمية الطفلة انها ولدت عقب الثورة التي
قادتها الثائرة السورية "نازك العابد" علي السلطات الفرنسية . وكانت الصحف
اذ ذاك تطفح بانبائها ، فرأي جد الطفلة ان تسمي نازك اكراماً للثائرة
وتيمناً بها وقال : "ستكون ابنتنا نازك مشهورة كنازك العابد ان شاء الله."
ودرست في
مدارسها ، ثم تخرجت في دار المعلمين العالية العام 1944، وفي العام 1949
تخرجت في معهد الفنون الجميلة "فرع العود"، لكنها لم تتوقف في دراستها
الأدبية والفنية عند هذا الحد ، فلقد أحبت ان تكمل دراستها خارج العراق ،
فسافرت الي الولايات المتحدة ودرست اللاتينية والادب المقارن العام 1950 في
جامعة برنستن ، كذلك درست الفرنسية والإنكليزية وأتقنت الأخيرة وترجمت بعض
الأعمال الأدبية عنها، وفي العام 1959 عادت إلي بغداد بعد أن قضت عدة سنوات
في أمريكا لتتجه إلي انشغالاتها الأدبية في مجالي الشعر والنقد .
التحقت
العام 1954 بالبعثة العراقية إلي جامعة وسكونسن بامريكا ايضا لدراسة الأدب
المقارن، وأخذت بالاطلاع علي اخصب الآداب العالمية، فإضافة لتمرسها بالآداب
الإنكليزية والفرنسية تلقت العديد من الكورسات والنماذج الادبية الحية من
الأدب الألماني والإيطالي والروسي والصيني والهندي .. فاثرت نفسها بثقافة
متنوعة وانسانية واسعة المدي .
عادت
ثانية الي العراق واشتغلت بالتدريس في كلية التربية ببغداد عام 1957، وخلال
عامي 1959و1960 وعلي عهد الزعيم عبد الكريم قاسم ، تركت نازك العراق لتقيم
في بيروت وهناك أخذت بنشر نتاجاتها الشعرية والنقدية، ثم عادت ثالثة إلي
العراق لتدرس اللغة العربية وآدابها في جامعة البصرة.
ونازك
الملائكة شاعرة وناقدة في آن واحد ، ولها العديد من المجاميع الشعرية
والدراسات النقدية منها ما ضمها كتاب ومنها ما نشر في المجلات والصحف
الأدبية، أما مجاميعها الشعرية فهي علي التوالي : عاشقة الليل 1947، شظايا
ورماد.. 1949، قرار الموجة 1957، شجرة القمر1968، مأساة الحياة وأغنية
الإنسان "ملحمة شعرية" 1970 يغير ألوانه البحر1977، وللصلاة والثورة 1978.
ونازك
الملائكة ليست شاعرة مبدعة حسب، بل ناقدة مبدعة أيضاً، فآثارها النقدية:
(قضايا الشعر المعاصر1962)، (الصومعة والشرفة الحمراء1965) و(سيكولوجية
الشعر 1993) تدل علي إنها جمعت بين نوعين من النقد، نقد النقاد ونقد
الشعراء أو النقد الذي يكتبه الشعراء، فهي تمارس النقد بصفتها ناقدة
متخصصة. فهي استاذة جامعية لها مكانتها في الوسط الاكاديمي ، وهي فنانة -
كما يقال - في فن القاء المحاضرة الأكاديمية في النقد ، وانها تمارس نقد
الشعر بصفتها مبدعة منطلقة من موقع إبداعي وخصوصا الشعر الحديث لأنها شاعرة
لامعة في الشعر الحديث تري الشعر بعداً فنياً حراً لا يعرف الحدود أو
القيود. ويمكن ان نجد من يقابلها من شاعرات العراق المحدثات فالشاعرة د.
عاتكة الخزرجي - التي كتبت عنها في نسوة ورجال - هي الاخري تنظم الشعر
وتكتب النقد واستاذة في الجامعة ولكن مجالها الرحب هو الشعر القديم . ولقد
توالت النكسات والالام علي نازك علي امتداد السنوات الاخيرة ، واصيبت
بامراض عدة وغادرت العراق ولم ترجع اليه حتي الان ، وقد ظلت عاشقة لفورة
الحياة حتي وهي ترقد عليلة مستسلمة لأوجاع مرضها الأليم في مدينة القاهرة
حتي اليوم هناك ترقد هذه المرأة .. نتمني ان يشفيها الله وترجع الي بغداد
كما رجعت اليها من قبل عدة رجعات لتكتب الشعر من وحي ما بين النهريــن.
الصورة
الحقيقية لنازك
نازك
شاعرة ليست كالجميع .. لقد قمت باعادة استكشافها من جديد لأكثر من مرة وانا
اقرأ شعرها الذي يترجم صورا حقيقية عما يعتمل في دواخلها واعماقها .. ان
نازك ايضا تترجم صورة حقيقية عن الذات والواقع . ويبدو لي انها برعت براعة
لا تضاهي ابدا في ان تعلن للملأ عن الذات المنطوية التي تختزنها منذ
طفولتها المبكرة ، وايضا الوحشة والاغتراب الذي تحس به الذات العراقية
الاكبر .. لقد توقعت ان اعصارا من دم عاصف سيطغي وان ثمة شظايا ورماد تتحدي
ركود واقع مليء بالتناقضات الحادة . لقد اكتشفت نازك ان حياتها سكون وان
ظلامها بريق في همس العدم وصراخ الوجود .. فتنادي باعلي صوتها : النجاة ..
النجاة من ذاك الشعور العميق ! وزادها من الانطواء قنوط لا حدود او شواطيء
له فلقد صنع الاحباط فيها ما فعل ، فكل ما حولها اموات لم يدفنوا في مكان
اسمته وادي العبيد الذي ترفضه ولا تريد العيش فيه ! فكل ما فيه جثث مقيدة
ترسف بالاغلال ازاء تماثيل لا تفارقها الاعين . لكنها برغم كل ذلك فهي لا
تكف عنهم ابدا اذ تسمعهم نشيدها العذب ولكنهم يغطون في نوم عميق ولم يزل
مجلسها علي تلها الرملي يصغي الي اناشيد امها ولم تزل طفلةً سوي انها قد
زادت جهلاً بكنه عمرها ونفسها . وليتها لم تزل كما كانت قلباً ليس فيه الا
السنا والنقاء وكل يوم تبني حياتها احلاماً وتنس اذا اتانها المساء . ايه
تل الرمال ماذا تري ابقيت لها من مدرسة الاحلام . انظر الآن هل تري في
حياتها لمحة غير نشوة الاوهام؟ آه ياتلُّ ها هي مثلما كانت فأرجع فردوسها
المفقود . أي كف اثيمة سلبت رملك هذا جماله المعبودا . انني دائما ما افكر
في الذي يكمن من وراء النص .. وأجد نازك هنا وكأنها تريد التعبير في نصوصها
عن خفايا حقيقية ستتحقق لاحقا في قابل الزمن .. خصوصا في الذي يكمن في نصوص
شعرية رائعة كتبتها ، مثل : " انا " ، و " مأساة الحياة " و " عاشقة الليل
" و " الكوليرا " و " مرثية يوم تافه " و " انشودة السلام " و " صلاة
الاشباح " و " غرباء " وغيرها من القصائد التي تترجم واقعا عصيبا محشو
بالاحداث التراجيدية القاسية !
طفولة نازك
: سر تكوينها اللامع
اما
التمرد فقد كان طبيعة فيها منذ طفولتها .. كانت منزوية وعنيدة متمسكة
بآرائها الي حد يضايق معلماتها وابويها ، وكانت في نفسها مقدرة علي الكتمان
والصمت تندر في الاطفال.
وكانت
نازك الملائكة سمراء نحيلة الجسم ، سوداء الشعر والعينين لا تعني بهندامها
وكانت جدية منذ طفولتها تكره المزاح ويؤذيها ان تعاقب مهما كان العقاب
شاملاً لسواها . وكانت تحس بأنها تكره المدرسة من اجل الحساب . انها تستطيع
جيداً ان تفهم اللغة العربية والتاريخ والدين والجغرافية .. .. ولكنها لا
تستطيع ان تصطلح مع الحساب . وقد طبعت حياتها وهي صغيرة بطابع من الكآبة
والقلق وعدم الثقة بالنفس .. ونازك في الصف الرابع وقد بدأت مظاهر
الرومانسية والخيال والشعر تبدو عليها بوضوح .. .. فهي منعزلة خجول تحب
المطالعة ، وتحلم كثيراً ، ثم ان صحتها ضعيفة ، وهي دائماً مزكومة .. ..
وقد بدأت بوادر التفوق في درس الانشاء والمحادثة تبهر مدرستها . كانت في
البيت خاملة لا تفعل شيئاً ، وقرأت وهي في طفولتها القصص التاريخية القديمة
.. وهنا بزغ في حياتها شيء جديد ، اذ سمعت عمتها تغني : " اليلَ قبرُكِ
ربوة الخلد نفخ النعيمُ بها ثري نجدِ " لم تدر نازك لماذا تاثرت بهذا البيت
وما بعده .. وعرفت بافتتنان وانبهار انه من مجنون ليلي احمد شوقي..
كانت
الطفلة نازك رومانتيكية جداً ، وذاع خبر مفاده انها شاعرة..! أي نبأ
غريب..! وجاءت اللحظة الحاسمة لتقرأ قصيدتها الجميلة وفي عينيها بداية دموع
..! وعجزت خجلا وهربت .. ولكنها نضجت علي مهل في الثلاثينات في معركة نحوية
وفي تلك الايام تلتهم الكتب النحوية والادبية القديمة التهاماً . وكانت تجد
لذة هائلة في الدراسة وحفظ الشواهد ومناقشة ابيها ولها حب شديد للقاموس في
تلك الايام وتعتمد اعتماداً كلياً علي قاموس "اقرب الموارد" للويس شيخ
اليسوعي ، وهو قاموس مقبول لم تزل تحبه ثم درست نازك علي يد استاذتها
المعروفة ماري عجمي واختلفت معها لأن ماري لم تعرف مستوي نازك الادبي
واللغوي ثم اكتشفتها بعد حنق واساءة وعرفت موهبتها وتنبأت لها بمستقبل ادبي
رائع قبل ان تودع العراق . وأخيرا ، لابد ان نقول بأن العالم الشعري الذي
انتجته لنا نازك الملائكة بحاجة ماسة للتحليل الذكي ، وهو ينتظر الاجيال
القادمة لدراسته من جديد واستكشاف فضائه بعد حل رموزه كاملة .. ويبقي عالم
نازك غريبا وجميلا .. وآخر ما يمكنني تسجيله هنا : تمنياتنا لنازك بالصحة
والعافية وهي ترقد منذ زمن طويل في واحد من مستشفيات القاهرة وان تعود
الينا كما كانت بعون الله .
( فصلة
من كتاب الدكتور سيّار الجميل ، نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية ).
AZZAMAN
NEWSPAPER --- Issue 1926 --- Date 27/9/2004
جريدة
(الزمان) --- العدد 1926 --- التاريخ 2004 - 9 - 27
من قصة حياة
الطفولة الأولى : 1923 - 1930
بغداد في منتصف ليلة من ليالي 1923 … وتحت الليل تمتد المدينة المظلمة العتيقة
مغرقة في وسن عميق ، لا يقطعه الا صوت الحرس المتعبين وهم يسيرون ببطء وضجر
في أزقة المدينة المتلوية الضيقة ، التي تكاد تكون مظلمة لولا اضواء
الفوانيس القليلة التي كانت مبعثرة في الطرق على غير نظام.
وكانت الليلة حارة خانقة ، فلاذ الاهلون منها بالنوم ، واووا الى سطوح البيوت
لائذين بالنسيان والتشاغل ، وقد زاد الظلام عمقاً ورهبة ان القمر كان في
المحاق فقد كانت الليلة آخر ساعات شهر ذي الحجة من السنة الهجرية.
ولكن بيتاً واحداً من بيوت محلة العاقولية ببغداد كان مستيقظاً ، تتعالى فيه
الهمسات والتأوهات ، وتسمع في ابهائه اصوات اقدام السائرين ، وتخفق في
ظلماته اضواء الفوانيس اليدوية .. وفي احدى الغرف الواسعة تعالى صراخ طفلة
سمراء ليس في وجهها اية علامة من علامات الجمال او الذكاء ، شهدت الوجود
اول مرة هذه الساعة.
بكت الطفلة وهي تمس ارض الوجود اول مرة ، وبقيت تبكي بكاء صارخاً طويلاً بلغ سمع
ابيها الذي كان ينتظر نبأ قدومها بلهفة في غرفة مجاورة..ودخلت فتاة يبدو
عليها التعب وقالت وهي تلتقط انفاسها "فتاة ..طفلة..لا تبتئس على كل حال
..المهم صحة والدتها .."
وخرجت ناقلة الخير: وساد الغرفة سكون عميق انقطع بعد لحظات وتعالى صوت دقات ساعة
بعيدة، طالما دوت فسمعتها المدينة كلها..دقات ساعة "الفشلة" في بغداد .
وأصغى الشاب الجالس في الغرفة وأحصى الدقات ثم همس في نفسه : الساعة
الثانية عشرة تماماً .. .. منتصف الليل.! والان تبتديء الحياة فصلاً جديداً
وعاماً جديداً.. الان يولد عام 1342 الهجري وبمولده ولدت هذه الطفلة ..
ابنتي الاولى" . وفي صباح اليوم التالي كتب في مفكرته :
"يوم
الأربعاء 30 من ذي الحجة 1341 قبيل منتصف الليل بخمس دقائق ولدت ابنتي
نازك."
الأب رجل عملي واقعي مغرم باللغة العربية ودراسة الفقه والمنطق والشعر والام فتاة
يافعة لم تبلغ بعد السن الصالحة للأمومة ، مغرمة بقراءة القصص وسير الابطال
والشعر العذري . الاب في الثامنة والعشرين من عمره ، والام في الرابعة
عشرة!
وقد كان لهبوط بطلة هذه القصة الحياة هزة فرح عميق في انفس الوالدين واسرتيهما ،
وان كان فرحهم قد قوطع مراراً بالدموع والصرخات البغدادية التي تتعالى عادة
في شهر محّرم ، فقد شاء القدر ان تولد فتاتنا ليلة محرّم ، وكانت الأسرة
تحتفل كل عام بهذه الذكرى بأقامة مأتم نسوي فلا عجب ان تستقبل الطفلة
بالدموع ، فكان صباحها الأول في الوجود مقترناً باصوات النساء الباكيات.
ولكن هذه المظاهر من الحزن التقليدي لم تمنع من الفرح بلقاء الطفلة ، بل كان
السرور شاملاً عاماً ، فوزعت الحلوى وعقر خروف وزع لحمه على الفقراء وتعالت
الزغاريد والأغاني ، وكنت الأب قصيدة يحيي بها طفلته ويؤرخ مولدها بهذا
الشطر : "نازك جاءت في زمان السرور".
وكانت قصة اختيار هذا الاسم التركي لتسمية الطفلة انها ولدت عقب الثورة التي
قادتها الثائرة السورية "نازك العابد" على السلطات الفرنسية . وكانت الصحف
اذ ذاك تطفح بانبائها ، فرأى جد الطفلة ان تسمى نازك اكراماً للثائرة
وتيمناً بها وقال : "ستكون ابنتنا نازك مشهورة كنازك العابد ان شاء الله."
بلغت نازك اوائل الخامسة من عمرها ، وحان أوان دراستها ، واستقرت نية ابويها على
ان يدخلاها احدى رياض الاطفال ، واختارا الروضة التابعة لابتدائية المركزية
في العاقولية.
وفي ذات صباح اقتيدت الطفلة الى المدرسة ، ودخلت بها امها وخالتها البناية
الكبيرة وقالت لها امها : "نازك ! هذه مدرستك..اذهبي والعبي مع الاطفال ولا
تنفردي ." وسرعان ما تركتها وانصرفت ووقفت بطلتنا الصغيرة تحدق في الاوجة
الضاحكة المحيطة بها وتحس بغربة مؤلمة. اين تذهب؟ ماذا تفعل؟
وتلفتت حولها محزونة. آه لو لم تذهب امها وتتركها اذن لتوسلت اليها ان تاخذها
معها الى البيت ! ولكن الا يجوز ان تتبعها الآن؟ تجري وراءها صائحة : "ماما
.. لا اريد اليقاء هنا!!"
وركضت فجأة بقوتها كلها ، وسقطت في الطريق عاثرة بصخرة كبيرة على الارض ، ولكنها
تحاملت على نفسها ونهضت تجري نحو باب المدرسة وما كادت تخطو الخطوة الاولى
حتى برز لها رجل خشن طويل وصاح : "الى اين؟ الخروج محظور .. ارجعي حالاً."
ولم تفهم نازك معنى هذا .. وما دخله هو ؟ وماذا يريد منها؟ "دعني اذهب . لقد
ذهبت امي وتركتني. اريد ان اذهب." فصرخ بها : "انك هنا حتى ياتي الخادم
لاستلامك. أذهبي والعبي."
وقفت الطفلة الان مصدومة وفي نفسها احساس طائر يحبس في قفص اول مرة . وانفجرت
فجأة في بكاء صارخ دام طويلا ً.. ولم تنتبه الا على صوت لطيف يقول: "لماذا
تبكين ياصغيرتي؟" وتكلم الرجل الخشن الطويل الآن قائلاً : "ست الينور ..
هذه الطفلة قد جاءت بها امها منذ قليل وهي تريد الخروج." وفي اللحظة
التالية كانت نازك محمولة، وبعد دقائق كانت في الصف بين عشرات من الاطفال…
وانطوى يوم وثان وثالث.. ..ومرت الايام فاعتادت بطلتنا سجن المدرسة ولم تعد
تبكي.
لم تجد طفلتنا في المدرسة صديقاً غير نفسها ، فقد كانت خجولاً هادئة تنفر من
الاطفال. وقد زادها هرباً منهم وانطواءً على نفسها انهم كانوا يعتدون عليها
بالدفع والضرب وغصب الحقوق، وكان بعضهم لا يقصد الى ايذائها ، وانما يودون
ان يستثيرونها الى الاختلاط بهم واللعب معهم فتحسب هي ذلك عدواناً وتهرب
بعيداً عنهم ، وقد مضت اشهر طويلة على هذا حتى اكتشفته المدرسّة يوماً
فحاولت اولاً استعمال طرقها الخاصة..
حملت الطفلة في احدى الفرص الى غرفتها واجلستها وقدمت لها علبة الشكولاتة فأبت ان
تأكل واصرت .. وحاولت معلمتها ان تجعلها تتكلم فلم تنجح ، وبقيت الطفلة
مغلقة فمها بصرامة .. فاعادتها الى الصف واستدعت خالتها وحدثتها
بملاحظاتها..
وفي ذلك المساء عادت نازك الى البيت فوجدت الانباء قد سبقتها ، فالام ثائرة والأب
يلوم المدرسة . ونوديت الصغيرة وقالت لها امها : ايتها الحمقاء. لماذا لا
تلعبين مع الاطفال؟ اانت حجر!!" ولامتها لوماً عنيفاً وسمتها "مسخوطة" أي
"متوحشة"!! اما بطلتنا فقد احست انها مظلومة متألمة حائرة! وفي اليوم
التالي زادت انطواء على نفسها في المدرسة.
ومن الذكريات التي تركت اثراً في نفس نازك انها كانت ذات يوم تسير شاردة في
الساحة الخلفية للمدرسة ، تحدق امامها دون ادراك فمرت بها طفلة ضخمة – او
هكذا خيل اليها – ووقفت امامها لحظة ثم اسلمتها اقلاماً كثيرة ومنديلاً
وكتباً وقالت باختصار : "احفظيها حتى اعود!" وذهبت .. اما نازك فقد وقفت
حائرة تحدق في ذلك الحمل الثقيل ولا تفهم . واختل توازنها فجأة وتبعثرت
الاشياء على الارض ..وفي تلك اللحظة عادت الطفلة فلما رأت ما حدث صرخت
بنازك ولكمتها وصفعتها وجمعت اشياءها بسرعة واختفت في زحام الاطفال قبل ان
تفيق طفلتنا من ذهول المفاجأة.
واصرت نازك باسنانها على شفتها السفلى وأبت ان تبكي . الا ان عينيها دمعتا. وكان
المراقب الوحيد لهذا الحادث طفل يقف بالقرب من نازك فأقترب منها وقال لها :
"لماذا لم تضربيها؟ لماذا تركتيها تلكمك وانت ساكتة؟ لو كنت انا محلك
لاشبعتها ضرباً!" ولكن نازك لم تجب ولم تفكر فيما قال ..بل سارت الى الامام
.. وكانت في تلك اللحظة تعتقد ان الاطفال جميعاً شياطين . وقالت لنفسها :
لو كنت انا محلها أكنتُ اضربها؟!" ووجدت نفسها تصرخ" لا! لا!" وقالت فجأة
لنفسها : "انني خير منها.. آه لو عرفت امي هذا الحادث.." وادركت حالاً ان
امها لا يجب ان تعرفه..وقررت الكتمان! ونشأت على ممر الايام في نفسها عقدة
متعبة سببها هذا الحادث (السري الخطير!!).
وفي ذلك اليوم نفسه تعرفت نازك اول مرة الى تلٍ من الرمال الرطبة في الساحة ، فقد
فكرت ادارة المدرسة في استعمال الرمل للعب الاطفال وتسليتهم . وسرعان ما
جلست فوقها وراحت تبني منه قصور الخيال ومدن الاحلام التي وصفتها فيما بعد
في ملحمتها "مأساة الحياة" يوم قالت:
لم يزل
مجلسي على تلي الرملي يصغي الى اناشيد امي
لم ازل
طفلةً سوى انني قد زدت جهلاً بكنه عمري ونفسي
ليتني لم
ازل كما كنت قلباً ليس فيه الا السنا والنقاء
كل يوم ابني
حياتي احلاماً وانس اذا اتاني المساء
ايه تل
الرمال ماذا ترى ابقيت لي من مدرسة الاحلام
انظر الآن
هل ترى في حياتي لمحة غير نشوة الاوهام؟
آه ياتلُّ
ها أنا مثلما كنت فأرجع فردوسي المفقودا
أي كف اثيمة
سلبت رملك هذا جماله المعبودا
كنت عرشي
بالامس ياتلي الرملي والآن لم تعد غير تلّ
كان شدو
الطيور رجع اناشيدي وكان النعيم يتبع ظلي
وقد كان ذلك التل عرشاً لنازك حقاً ، عرش الشعر والخيال ، فقد بدأت منذ عرفته
تستغرق في الاحلام الجميلة . ولذلك ترك في نفسها اعمق الاثر وكان المظهر
الاول من مظاهر شاعريتها.
وجدت الشاعرة الصغيرة في الرمل صديقاً يغني عن صداقة الاطفال المؤذية التي تُضرب
من اجلها ، وكان هذا الصديق يمتعها كل الامتاع ويوسع امامها آفاق الأحلام .
الا انها ذات يوم كرهته وتركته متضجرة . فقد حدث في ذلك اليوم ان جمعت
"الفراشة"[1] الاطفال عند التل وراحت تقص عليهم قصة قبيحة نفرت منها مشاعر
بطلتنا الطفلية البريئة . وكانت تتكلم بلغة ابناء الطرق فيضحك الاطفال
ويصفقون دون ان يفقهوا اما نازك فقد احست بضجر خانق لم تعرف سببه. نهضت
وتركت عرشها الصغير مكرهة وانطبعت صورة تلك الفراشة في ذهنها انطباعاً
كلياً ، وهي ما زالت تتذكر شكلها حتى اليوم فهي " امرأة طويلة سمراء ضئيلة
الوجه صغيرة العينين ترتدي السواد ابداً ولها سن من ذهب في الناحية اليمنى
من فمها.. .." وعلى مرور الزمن اصبحت نازك تكره كل انسان في فمه اسنان من
ذهب ، لان فكرة الشر والجهل التي تجسمت في تلك المرأة ، قد اقترنت بالسن
الذهبي!
وكان لبطلتنا في المدرسة صديق آخر غير تل الرمال ، وهو اللقلق الذي يتخذ عشه على
المنارة القريبة.وكان هذا اللقلق يثير في نفسها مشاعر كثيرة وهو يصّوت
بمنقاره ذلك التصويت الغامض وهي ما زالت تتذكر حتى الان نوع احساسها تجاهه
، بل ما زال صوته يستحيي في نفسها انطباعات مجهولة لعهد باهت من حياتها
الاولى فكلما سمعت صوته انبثقت في ذهنها صورة مطموسة المعالم ليوم بعيد
جداً كسفت فيه الشمس كسوفاً كلياً بعد الظهر فانقلبت المدرسة الى عويل صارخ
من عشرات الاطفال ، ووقفت هي تبكي مع الباكين وتصغي الى صوت اللقلق الذي لم
تعد تراه تحت الضباب والظلام .
وكانت تقضي فترات الظهر شاردة في الساحة الخلفية هاربة من اعين المعلمة المقاربة
، فقد كان النظام في المدرسة ان ينام الاطفال ساعةً ظهر كل يوم ، ثم تتابع
الدروس فيما بعد ، وكانت هناك قاعات كبيرة مجهزة بكراسي مستطيلة من الكتان
السميك معدة لنوم هذه المئات من الصغار ، وكانت بطلتنا تكره النوم نهاراً
.. فتمضي تهيم في الساحة بذلك الشرود الغريب الذي كان يلازمها في طفولتها .
وكانت في الغالب تصاد وتقاد الى القاعة الهادئة وتؤخذ الى سريرها الذي يحمل
رقمها وهناك كانت المراقبة تطلب اليها ان تخلع حذاءها وتستلقي وتغمض عينيها
حالاً : ولكن بطلتنا كانت تلتذ بمراقبة الاطفال الهاجعين ، فتتظاهر بالنوم
حتى تبتعد المراقبة واذ ذاك تفتح عينيها وتروح ترقب ما حولها وتصغي الى صوت
المراوح الكهربائية في المكان الهاجع ، وكثيراً ما كانت تقارن في ذهنها
الصغير بين هذه المراوح ، والمروحة العملاقة المعلقة في سقف السرداب الكبير
في البيت.
اما التمرد فقد كان طبيعة فيها منذ طفولتها .. كانت عنيدة متمسكة بآرائها الى حد
يضايق معلماتها وابويها ، وكانت في نفسها مقدرة على الكتمان والصمت تندر في
الاطفال ، وكان من مظاهر تمردها في المدرسة انها لا تكلم احداً ، ولا ترضى
ان تنام ، وانها ابت اباء تاماً ان تمر بالصف الثاني "الاخضر" في الروضة .
اما تفصيل هذا الحادث الاخير فهو ان سنوات المدرسة في الروضة كانت ثلاثاً
، الاولى منها يقضيها الطفل في الصف "الاحمر" ، والثانية في "الاخضر"
والثالثة في "الازرق". وقد انتهت بطلتنا من الاحمر وفي السنة التالية اجتمع
اطفال الصف الاخضر ومعهم هي ، ولكنها غافلت المعلمة وخرجت ببرود وبساطة الى
الصف الازرق! وحين جاءت المعلمة وجدت طفلة تحمل شارة خضراء في الصف الازرق
فاعادتها بلطف الى صفها ، ولكن الطفلة المتمردة ابت الرضوخ وعادت في اليوم
التالي الى الصف الازرق ، وتكرر الحادث، ولم ينته الامر الا حين عثرت نازك
على شارة زرقاء في الساحة فوضعتها على صدرها والقت بالخضراء في الرمل ،
وبقيت في الصف الازرق!
ولم تفهم نازك هذا الحادث الغريب مطلقاً .. لم تفهم كيف تخرجت في سنتين بدلاً من
ثلاث دون ان تعترض ادارة الروضة.
الفترة
الثانية: 20 ايلول 1930 - 1934
انتهت الدراسة في الروضة ، وانتقلت نازك الى الصف الاول من الابتدائية المركزية
للبنات وهنا نقف لحظة لنتحدث عن حياتها الجديدة .
نازك الملائكة في الصف الاول على عتبة الدراسة الحقيقية ، وهي اذ ذاك طفلة في
السادسة من عمرها سمراء نحيلة الجسم ، سوداء الشعر والعينين لا تعني
بهندامها وعبثاً تحاول والدتها ان ترغمها على المحافظة على ترتيب شعرها
وملابسها. وفي اليوم الأول من السنة اصطفت التلميذات في صف طويل كانت هي في
راسه وسرن الى الصف ، وهنا جاءت المعلمة الرقيقة "الانسة مديحة كامل"
واجلست تلميذاتها الصغيرات فكان مكان نازك في اول الصف عند الباب على رحلة
واحدة مع طفلتين سمراوتين صغيرتين.
نازك . كاملة . ماجدة .. هذه الاسماء الثلاثة قد كتب لها ان ترتبط سنة كاملة في
صداقة طفولية جميلة كانت هي اول صداقة عرفتها خارج البيت. كانت ماجدة تجلس
في الوسط بينها وكاملة وكانت بدينة شديدة السمرة ، لم تكن طباعها تنسجم
كثيراً مع الاخرين فهي اجتماعية وقد تعتدي بالضرب على الطفلة التي لا
تروقها ، اما كاملة فقد كانت اقرب الى نفسية نازك لانها صغيرة ، منزوية ،
تعيش في نفسها اكثر مما تعيش مع الاخريات ، ومع ذلك فقد انتظمت الزميلات في
عقد واحد واصبح ما للواحدة منهن للاخرين كذلك.
وقد حدث ذات يوم ان غضبت المعلمة على تلميذاتها فطلبت اليهن ان يجلسن خاشعات لا
يتحركن . وقد حدث اذ ذاك ان مدت ماجدة يدها في جيبها فاخرجت مشطاً صغيراً
وراحت تعدل به شعرها فصرخت بها المعلمة: "لماذا تحركت؟" سيكون عقابك ان
تستمري في التمشيط الى آخر الدرس." وضحكت طفلة فوضعت رأسها على الرحلة فكان
عقابها ان يبقى رأسها على الرحلة .
وكان من سوء حظ نازك اذ ذاك انها كانت ذاهلة مغرقة في النظر الى صورة معلقة على
الجدار فلم تفطن الى العقوبات الغريبة التي نزلت بزميلاتها ، وقد حذث اذ
ذاك ان سقط قلمها على الارض فدخلت بجسمها الصغير تحت الرحلة لتخرجه واذ ذاك
ارتفع صوت المعلمة وقالت بحدة: "نازك! ابقي كما انت تحت الرحلة!"
وكانت ضربة مؤلمة..انفجرت لها الطفلة في بكاء صارخ ، لم يكن سبب بكائها انها لم
تجن ذنباً فحسب وانما آلمها ان تاتيها العقوبة من هذه المعلمة الرقيقة التي
طالما عاملتها بلطف ومدحتها امام اهلها وزميلاتها ! وكيف يجوز ان ترضى هذه
المعلمة اللطيفة بمعاقبة نازك؟ كيف تسمح لنفسها ان تبقيها تحت الرحلة الى
نهاية الدرس؟
ارتفع بكاء الطفلة حتى امتلأ به جو الفصل ، واذ ذاك انحنت المعلمة ورفعتها
فاجلستها على الرحلة ، ولكنها كانت قد انتقلت الى مرحلة العصبية والثورة
والعناد ، وكانت يداها ملتصقتين على القلم في قوة عنيفة واباء شديد وعبثاً
حاولت المعلمة ان تجعلها تهدأ . فقد بقيت تبكي وان كانت بقية التلميذات
المعاقبات يضحكن للعقوبة.
وهكذا كانت نازك جدية منذ طفولتها تكره المزاح ويؤذيها ان تعاقب مهما كان العقاب
شاملاً لسواها ..ولذلك رجعت الى البيت في ذلك اليوم محمومة متعبة . ولم
تعلم امها السر ، فان الطفلة قد صمتت صمتاً تاماً ، وقد بقي النبأ مكتوماً
في نفسها حتى بلغت الرابعة والعشرين من عمرها.
وما مضت اشهر من ايام الدراسة حتى عقد في البيت اجتماع صغير تحدثت فيه امها الى
ابيها وخالتها شاكية: "ان نازك لا تدرس مطلقاً ولا تعني بعير دروس
الاستظهار والنشيد، ولا اذكر انني رايتها تقرأ يوماً واخوف ما اخافه ان
ترسب هذا العام."
وفي الصباح التالي كانت البطلة تسير في ساحة المدرسة مع كاملة فجاءتها الفراشة
ودعتها الى مقابلة المدرسة "م. ك" وفي باب الصف جمدت الطفلة ! فقد رأت
معلمتها تقف وجهاً لوجه ازاء خالتها نظيمة التي كانت اذ ذاك تلميذة في
المدرسة ، وسرعان ما وجدت نفسها محمولة بين ذراعي المعلمة التي سارت بها
الى الصف واوقفتها على المنضدة واعطتها كتاب القراءة وقالت : "اقرأي هنا
ياحبيبتي..هيا. لا تخافي." وراحت الطفلة تقرأ بصوتها الخجول المرتبك ولكن
بلهجة فصيحة. وتبادلت الخالة والمعلمة مجموعة من النظرات ، وأنزلت الطفلة
الى الارض . ثم قالت المعلمة: "ماذا تريدون ان افعل لابنتكم ان كانت لا
تدرس؟ انها تقرأ جيداً كما ترين ، وتستطيع القراءة حقاً بينما سواها من
الصغيرات يحفظن الكلمات غيباً. ولماذا تريدون منها ان تدرس في البيت؟ الا
يكفي انها في الصف تفهم وتقرأ جيداً؟!" وعادت نازك الى البيت منتصرة في ذلك
اليوم ، وقد تلقاها ابوها بقبلة وهدية صغيرة: كتاب مصور بالالوان ابتاعه
لها خصيصاً.
واقبلت نهاية السنة وتلقت نازك درجاتها ، وحملتها فرحة خافقة القلب وركضت الى
البيت . ومرة ثانية لقيتها القبلات ..
وكان ذلك اليوم آخر عهد بطلتنا بصديقتها الرقيقة كاملة ، فقد جرفها تيار الزمن
الى حيث لا يعلم احد ، والذي بقي يعض في نفس نازك انها لا تعرف اسمها
الكامل ، ولا تذكر منها الا شكلها واسمها الاول، وكم من مرة في حياتها ودت
لو قابلتها او عرفت مصيرها ، كم من مرة سألت عمن يستطيع ان يتذكر اسم ابيها
ولكن عبثاً . وقد تجمعت هذه العواطف كلها فكونت قصيدتها "ذكرى مولدي" التي
اهدتها الى كاملة: "صديقة طفولتي البعيدة التي لا اعرف منها الان الا اسمها
وحده." وقد تساءلت في القصيدة عن مصير صديقتها وخاطبتها في ابيات حزينة
صورت لها فيها مصيرها وهي:
اين اصبحت
يارفيقة أمسي ما الذي قد شهدت فوق الوجود؟
اترى تذكرين
مثلي ايام صبانا وحلمنا المفقود؟
ام ترى قد
نسيتني ونسيت الامس في فرحة الشباب الرغيد؟
ابداً لست
لست انسى وان كنتِ قد تهاويت في الزمان البعيدِ.
الكرادة الشرقية الابتدائية للبنات.
نازك في الصف الثالث .. .. وقد كتب لحياتها الان ان تتعرف الى شخصية هامة ستؤثر
على نفسها ، وتقعدها في النهاية الى الانكماش والخجل وكراهية الوجود كله ..
.. شخصية مديرة المدرسة السيدة "ق.." التي كانت تدرس الصف الثالث علم
الحساب.
وكانت نازك تكره الارقام كراهية هائلة لازمتها طيلة حياتها .. وكانت تؤثر ان تشرد
بفكرها في درس الحساب .. وفجأة تلتفت المعلمة فتسألها سؤالاً فلا تجيب..او
تجيب اجابة مغلوطة.. فتغضب المدرسة وتعنفها .. .. وتكرر هذا .. واصبحت
الطفلة تحس بأنها تكره المدرسة من اجل الحساب . انها تستطيع جيداً ان تفهم
اللغة العربية والتاريخ والدين والجغرافية .. .. ولكنها لا تستطيع ان تصطلح
مع الحساب ، وقد اصبحت كراهية معلمتها لها تزيدها بغضاً للمدرس ولم تعد
تستطيع احتمال تذكر الحساب!
وجاء الامتحان السنوي ، وظهرت نتيجة الحساب واذا الطفلة قد اجابت على سؤال واحد
من ستة اسئلة! وجاء دور امها وابيها في البيت .. لماذا رسبتِ؟! .. لماذا لا
تدرسين؟ وفهم ابوها منها بعد استجواب دقيق انها تكره المدرّسة نفسياً ، وان
المدّرسة لا تعاملها معاملة صحيحة!. وثار ابوها وشكا المدّرسة الى
المسؤولين في الوزارة ، وترامى النبأ الى المدرّسة نفسها فازدادت كراهية
للطفلة البريئة.
وبدأت نازك تتفلسف: فكانت تقضي ايام العطلة بعد حل تمارين الحساب في التفكير بتلك
المدرّسة .. وما ذنبها هي ان كانت لا تملك موهبة في الحساب؟! ان بعض الناس
يولدون موهوبين في الحساب وهي ليست منهم .. بل هي تشعر بأنها بليدة ، غبية
وكراهية معلمتها لها اول دليل على ذلك .. والدليل الثاني انها في المدرسة
منفردة ليست لها صديقة ، وقلماً تتكلم مع احد.
كانت الطفلة في الواقع تجتاز محنة في ذلك الصيف من سنة 1931 ولكنها اجتازتها
وحدها ، دون معونة .. ، اجتازتها بعد ان طبعت حياتها بطابع من الكآبة
والقلق وعدم الثقة بالنفس.
وجائت السنة الجديدة بتعديلات كثيرة .. فنقلت المديرة البغيضة الى مدرسة اخرى
وجيء بمديرة جديدة كانت بالنسبة لنازك على عكس الأولى .. .. كانت تفهمها
وتقدر شرودها واحاسيسها وجيء للحساب بمدرسة جديدة بدينة مشرقة الوجه تفيض
حناناً وما علمت بأن نازك مكملة في الحساب حتى نادتها واجلستها في غرفة
المعلمات واملت عليها سؤالاً واحداً بسيطاً جميلاً : "اشترى تاجر عشرين
ذراعاً من المخمل بمائة دينار فما سعر الذراع الواحد؟" .. .. لكم كانت نازك
سعيدة.. .. لكم احبت هذه المدرسة المحبوبة "ص…" .. .. سؤال واحد لا غير ..
سؤال بسيط .. لا كسور عشرية.. ولا كسور اعتيادية.. اعداد صحيحة .. صحيحة
والجواب واضح وضوح الشمس!. وخرجت الطفلة تركض فرحة .. تركض الى البيت فتدور
بينها وبين امها محاورة..
-نازك .. امتُحنتِ ؟
-نعم .. ناجحة ..ناجحة!
-من قال؟! كيف عرفتِ..؟
وتقفز الطفلة متحمسة
-عرفت! .. اني متأكدة .. سألتني سؤالاً واحداً.
وقد كانت الطفلة في الواقع ناجحة.
سنة جديدة .. ونازك في الصف الرابع وقد بدأت مظاهر الرومانسية والخيال والشعر
تبدو عليها بوضوح .. .. فهي منعزلة خجول تحب المطالعة ، وتحلم كثيراً ، ثم
ان صحتها ضعيفة ، وهي دائماً مزكومة .. .. وقد بدأت بوادر التفوق في درس
الانشاء والمحادثة تبهر مدرستها .
كانت في البيت خاملة لا تفعل شيئاً ، وقد اهداها ابوها بمناسبة نجاحها الى الصف
الرابع مجلداً من مجلة كل شيء والدنيا ، وانكبت عليه في شغف غريب. فقرأت
وهي في طفولتها القصص التي تكتبها هذه المجلة بعنوان "تاريخ ما اهمله
التاريخ" وتأثرت تاثيراً عميقاً بقصة "لويس فيليب" ملك فرنسا النبيل ..
وقصة ذلك الامير الذي احترقت عروسه الاميرة ليلة زفافهما لانها حاولت
التدخين سراً ..! قصة سمير اميس ملكة بابل ، وكيف التقطها الراعي ورباها ..
قصة كليوبترا وقيصر .. ..! قرأت قصة هيرا ولياندر" ووقفت ببصرها طويلاً عند
صورة هيرا المنتظرة .. وقرأت الى جانب ذلك شعر الفضولي وكانت في الغالب لا
تفهمه الا انها تضحك منه على كل حال.
وما مضى شهران حتى كانت الصغيرة قد عصرت المجلّد عصراً ولم تبق فيه شيئاً لم
تقرأه مرات .. .. ما عدا المقالات التي لا تفهمها طبعاً .. وهنا بزغ في
حياتها شيء جديد.
ذهبت ذات مساء الى دار جدها المجاور ، حيث اعمامها وعماتها وهناك وجدت عمتها
الكبيرة عائشة منهمكة في تحضير دروسها ، فكانت مكبة على كتاب صغير الحجم
تقرأ فيه مغنية رافعة صوتها :
ياليلَ
قبرُكِ ربوة الخلد نفخ النعيمُ بها ثرى نجدِ
ولم تدر نازك لماذا تاثرت بهذا البيت وما بعده .. ولكنها بقيت تنظر وتصغي وتحلم
.. .. ليلى.. قبر .. نجد .. ثم عمتها وهي ترنم الابيات بحرارة .. ومضت ساعة
ونازك صامتة ، ونهضت العمة وتركت كتبها مفتوحة ، فمدت نازك يدها بحرص واخذت
الكتاب ، ونظرت الى غلافه في افتتان وانبهار :
مجنون ليلى احمد شوقي…
وفي هذه اللحظة عادت العمة ، فلما شاهدت ابنة اخيها ممسكة بالكتاب قالت لها في
برود : "اعجبتك الصورة؟ هذه صورة ليلى الجالسة في ضوء القمر .. ..
والاعرابي الجاثي هو قيس!" وكان في ذهن نازك صورة باهتة لا حدود لها حول
شيء يقال له "ليلى وقيس" ، قتمنت ان تقرأ الكتاب ، وفتحته فعلاً فلما وقع
بصرها على ابيات غرامية .. خجلت ، فتسللت خارجة من بيت جدها وركضت الى
بيتها !
اصبح الاختلاء بهذا الكتاب شغلها الشاغل الآن .. فهي لا تستطيع ابعاد صورة ليلى
وهي متربعة على عرش القمر ، وقيس تحتها في الصخراء ، يتضرع اليها .. ..
ولكنها كانت لا تجد الكتاب الا قرب عمتها .. ومضى اسبوع كامل وهي معذبة
هكذا .. انها قد قرأت قصص الغرام مراراً ، ولكنها كانت دائماً تقرأها وحدها
ولا أحد ينظر اليها ، لانها تبكي احياناً ، وتضحك احياناً وتتاثر الى حد
الانبهار احياناً ، ومن ثم فليس من المناسب ان يراها احد.. ..
وفي ذات مساء مشرق .. وجدت نازك الكتاب ملقى في اهمال على كرسي في الشمس ، قتنفست
الصعداء .. وكانت عمتها في المدرسة والبيت خال تقريباً الا من جدتها
المريضة في غرفتها ..فأنكبت تقرأ القصة الشعرية بنهم هائل لا حدود له ..
وبكت بكاء شديدً طويلاً لموت ليلى .. بكت حتى احمرت عيناها ، وعادت الى
البيت مساءً وركضت الى سريرها ، ونامت لتكمل بكاءها الطفولي تحت اللحاف!.
كانت هذه الطفلة في الواقع رومانتيكية جداً .. .. حتى انها بقيت بعد قراءة الكتاب
باسبوعين تبكي كل ليلة .. في الظلام .. تحت اللحاف من اجل ليلى ..! كيف
ماتت ؟! كيف مات قيس ؟ كيف هبط الملائكة .. وكان البيت الاخير من الكتاب
يرتسم امامها باحرف من نار دائماً :
نحن في
الدنيا وان لم ترنا
لم تمت ليلى
ولا المجنون مات
وفي ذات ليلة اكتشفت عمتها انها تبكي ، فالحت عليها في السؤال عن السبب .. هل
آذاك احد ؟! امتالمة انت؟! مريضة؟ لماذا اذن تبكين؟!.. ولكن الطفلة لم
تتكلم فموضوع "ليلى" عندها اكثر قداسة من ان تحدث عنه عمتها ! ولكنها
انقطعت عن البكاء وألفت الموضوع اخيراً!
وبدأت آثار هذه المطالعات الغريزة تظهر على اسلوبها الكتابي في المدرسة فتفوقت في
درس الانشاء بسرعة ، واصبحت في المقدمة دائماً ..
وانتهت
السنة الرابعة.. ..
وجائت السنة الخامسة . وظهرت بطلتنا فجأة في الصف ، والمدرسة. وبدأت لفظة غربية
تشيع عنها على السنة الصغيرات ، هي انها "شاعرة". هذه الطفلة البليدة
المظهر ، الجامدة ، التي لا تكلم احداً ، المزكومة دائماً .. شاعرة..! أي
نبأ غريب..!
وكانت هي تسمع احياناً الفاظاً ساخرة من شعريتها فتتألم وتقول لنفسها : "هل قلت
انا انني شاعرة؟! وها انا احتمل السخرية وحدي وكيف اردها؟ اين شاعريتي
المزعومة؟"
وفي ذات يوم دخلت بطلتي الصف فوجدته خالياً .. وكان هناك على اللوحة هذه الكلمات:
"نزهة في زورق". ولم تدر هي لماذا امسكت "بالتباشير" وراحت تكتب .. ولم
تدر الا انها كتبت بيتين وفجأة دخلت طفلة متحمسة ، هي "ف. ك" ، وما كادت
تقرأ حتى صرحت فرحاً: "نازك! انت تكتبين قصيدة! ياللعظمة! ما اجملها…"
وركضت الى الصف وجاءت بورقة وراحت تسجل فيها القصيدة. وتتذكر بطلتي انها
كتبت ما يقرب من عشرة ابيات مدفوعة بتشجيع زميلتها المتحمسة هذه.
ولكن الذي ضايقها ان "ف. ك" اخذت القصيدة وركضت فجمعت حولها كثيراً من التلميذات
وراحت تقرأها ملقية على نازك مديحاً هائلاً كبيراً. اما بطلتنا فأختبأت في
آخر الصف محمرة ، ناقمة على زميلتها الثرثارة.
وحدثت في المدرسة ضجة ، وصفقت التميذات ، فخرجت المديرة ، متسائلة ، وفي اللحظة
التالية كان القصيدة في يديها ، وقد اخذتها ودخلت غرفتها ….
ومضت أسابيع صامتة .. .. ..
ثم أقيمت في المدرسة حفلة كبيرة ، اشتركت فيها كثيرات من التلميذات ، وقد طلبت
المديرة من نازك توزيع الحلوى على المدعوين . وقد كرهت هي هذه المهمة ،
ولكنها لم تجرأ على رفض طلب مديرتها الكريمة التي غمرتها بلطفها .
وجائت اللحظة الحاسمة . وحملت بطلتي علبة الحلوى ، وسارت قاصدة ضيف الشرف . وكان
الخجل قد بلغ بها مبلغه ، وانقلب ارتباكاً حاداً ، فسارت شاحبة ، مطرقة ،
تكاد تتعثر بأرجل المدعوات ، ولم تكن تعلم من هي ضيفة الشرق ، ولا كان
يعنيها ان تعلم ، فالذي يهمها انها تسير امام الناس ، وكلهم سواء ، كلهم
يثيرون خجلها .. وكانت تدرك دون ان تحتاج الى النظر اين تجلس ضيفة الشرف ،
فسارت قدماً ، وانحنت امامها وفي يدها العلبة.
وما كادت الضيفة تمد كفها حتى هتفت المديرة باسمة : "هذه نازك .. تلميذة في الصف
الخامس.. وهي شاعرة المدرسة.." وكادت بطلتي تذوب خجلاً .. ودت اذ ذاك لو
ابتلعتها الارض . وفجأة رن في اذنها صوت : "ضيفة الشرف " خشناً ، حاداً ،
وهي تهتف : "نازك، اعرفها..!" واصفرت الصغيرة ورفعت وجهها مرتاعة . لقد كان
هذا الصوت معروفاً لديها ، هذا الصوت الذي عكر احلامها سنة كاملة . صوت
مدرّسة الحساب الممقوتة : "ق..". وحدقت فيها فرأتها هي هي تماماً.
وذهلت بطلتي ، ووقفت حائرة! اكان ضروريا ان تأتي هي نفسها لتقدم الحلوى ؟! ورأت
المدرسة ارتباك نازك وجمودها فقالت لها باسمة بلطف : "تحركي ايتها الشاعرة
الصغيرة الان ، وساستدعيك بعد دقائق لتقرأي علينا قصيدتك الجميلة." وكان
هذا كافياً لان يرسل نازك متعثرة الى آخر صف من صفوف المدعوات ، وفي عينيها
بداية دموع ..! انها لا تستطيع ان تقرأ قصيدة امام هذا الجمهور الكبير .
وامام هذه السيدة خاصة فهي تمقتها ولا تحتمل رؤيتها.
ولكن المديرة لا تفهم هذا ، وهي تريد دائماً ان تخرج بالشاعرة الصغيرة عن جمودها
وخجلها ، ولذلك الحت عليها بقراءة القصيدة ووقفت نازك جامدة لا تتكلم ولا
تتحرك ، وطال جمودها وصمتها وكانت "ف.." صدفة قربها فانحنت عليها هامسة :
"نازك ! عزيزتي.. باسم الصف كله أرجوا ان تلقي القصيدة! تصوري المجد الذي
ينال الصف .! والفخر الذي ينالك انت !. لو كنت مكانك لطرت فرحاً بهذا الطلب
الكريم من المديرة .. هذا التقدير لك .. .. وللصف… تلقين قصيدة في حفلة
كبيرة كهذه…!"
ولكن نازك همست قائلة: "لن اقرأها..لا اريد..آه..اريد ان اذهب..اقرأيها
انتِ..افعلوا ما شئتم وانما اتركوني اذهب بسلام…."
وانتهت المشكلة بأن قرأت "ف.." القصيدة بحماستها المألوفة وهربت نازك وهي لا تكاد
تصدق بنجاتها.
وفي تلك السنة تقدمت نازك في دروسها تقدماً واضحاً لمسته مدرساتها وفي نهاية
السنة كانت درجتها الثانية في صفها .
الفترة
الثالثة: 1935 – 1939
"سأكتب منذ
اليوم بضمير المتكلم"
وماذا كنت اقرأ في عامي 1939 – 1940 ؟ .. في الواقع انني اتجهت اتجاهاً شديداً
مبالغاً فيه الى دراسة الادب القديم ، وخاصة النحو ، فاعطاني ابي كتباً مثل
شرح شواهد ابن عقيل للجرجاوي ، وفقه اللغة للثعالبي وخزانة الادب للبغداداي
، وعشرات من الكتب مثلها . وقد كتبت في يومياتي يوم 26 شباط 1940 اشكو من
فداحة المجادلات بين الكوفيين والبصريين واقول : "على ايهم اعقد؟ اعلى
سيبويه ام الكسائي. ثم هنالك ابن هشام وابو حيان والسيوطي والسهيلي وابن
خروف والرجاج والاصمعي." ثم كتبت صفحات طويلة حول نقاط تفصيلية في معركة
نحوية لم اعد الآن اطيق قرائتها وكنت في تلك الايام التهمها التهاماً . وقد
قرأت من كتب النحو اذ ذاك "شذور الذهب" لابن هشام" و "حاشية الشيخ عبادة
على شذور الذهب" قراءة ودراسة ، كما استظهرت جانباً كبيراً من شواهد ابن
عقيل مع شروحها واعرابها اعتماداً على ابن عقيل والشيخ قطة العدوي ، وقد
قفزت بي هذه الدراسة الى مستوى عالٍ جداً في النحو حتى برزت بروزاً مرموقاً
في المدرسة.
وفي حقل الادب واللغة قرأت عمدة ابن رشيق ، والمثل السائر وادب الكاتب ، وخزانة
الادب للبغدادي . ومما اذكر انني قرأت البيان والتبيين في ثمانية ايام ،
كدت خلالها اوذي عيني ايذاءً شديداً. ولا اذكر الآن أي جنون هو الذي دفعني
الى هذا ، الا اننني ارجح انها بداية عادتي المتأصلة في القراءة الكثيرة
وقياس الحياة بها ، فمنذ تلك الفترة بدأت اشعر بالرعب كلما مر بي يوم لم
اقرأ فيه ثماني ساعات . لم تكن قراءة البيان والتبيين في ثمانية ايام هينة
، بل كانت تلك الايام ايام محنة فظيعة انتهت بمرضٍ كان لابد منه اضطررت معه
الى ترك المطالعة لالتهاب عيني.
ومما قرأت "رسالة الغفران" والضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر" للآلوسي وقد
احببته حباً كبيراً ، و"شعراء النصرانية" للويس شيخو . وقد حفظت منه مئات
من الابيات الجاهلية وحفظت اخبار حرب البسوس غيباً ، وكان اشد ما يمتعني ان
احفظ الابيات التي من اجلها سمي التابغة وافنون التغلبي والمرقش وغيرهم
باسمائهم ، والواقع اني بتّ بواسطة هذا الكتاب واسعة الاطلاع على الشعر
الجاهليّ وكانت ثقافتي تعادل ثقافة المتخرجات من الكليات .. ومن بين ما
قرأت كتاب " الساق على الساق في ما هو الفارياق" وكنت استمتع استمتاعاً
كبيراً بلغته . وفي الشعر قرأت ديوان البحتري وابن زيدون والبهاء زهير وابن
خفاجة وابن سهل مفصلاً وحفظت لهم كثيراً ، كما قرأت كتباً حديثة كثيرة
بينها "عبقرية الشريف الرضي" لزكي مبارك و"تاريخ حياة معدة " لتوفيق الحكيم
، و"مع ابي العلاء في سجنه" لطه حسين ، و "اميرة الاندلس" و "عنترة" لشوقي
.. و"بلوغ الارب" للالوسي .. ومن الدواوين الحديثة بعض الدواوين العراقية ،
وديوان "ليالي الملاح التائه" لعلي محمود طه.
ويبدو من هذا ان ثقافتي في العام الدراسي الذي كنت خلاله استعد للبكالوريا الكبرى
كانت واسعة الى درجة لم يسبق لها مثيل في حياتي ، ثم انها كانت كلها متجهة
الى الاداب القديمة والنحو واللغة والبلاغة ، وكنت اجد لذة هائلة في
الدراسة وحفظ الشواهد ومناقشة ابي ، ولابد لي ، وانا اذكر مصادر ثقافتي في
هذه السنة ان اشير الى حبي الشديد للقاموس في تلك الايام وكنت اعتمد
اعتماداً كلياً على قاموس "اقرب الموارد" للويس شيخ اليسوعي ، وهو قاموس
مقبول لم ازل احبه.
ولنفخص الآن مكان حياتي المدرسية من هذه الدراسات كلها . واني لاعجب اليوم كيف
كنت اوفق بين الدراستين الخارجية والمدرسية . كنت تلميذة في "فرع البنات"
وهو فرع كان اذ ذاك يعني شيئاً بين العلمي والادبي وقد درسنا فيه الفيزياء
والرياضيات العامة ، بالاضافة الى العربية والانجليزية والتاريخ وتربية
الطفل والتدبير المنزلي والخياطة والتمريض والحق ان المنهج كان شاقاً ،
عسيراً ، وكنت ابغض الرياضيات والفيزياء وعلم النبات ، ولا افتأ احلم بيوم
الخلاص من الثانوية لادخل بعدها في الفرع الادبي في دار المعلمين العالية
وانس كل ما تعلمته في العلوم والرياضيات.
ولكن دروس اللغة العربية كانت شديدة الامتاع لي ، وقد لقيتُ هذا العام اول مدرسة
ادركت مواهبي ، وشدهت بثقافتي الواسعة التي لم يكن من الممكن مقارنتها
بثقافة طالب الثانوية الذكي على الاطلاق . كانت المدرسة لبنانية ، عجوزاً
غريبة الطباع ، واسعة الاطلاع ، اسمها "ماري عجمي"، وقد سبقتنا اليها
شهرتها بانها اعظم مدرسة للغة العربية في الشرق كله . وانها مثقفة حقاً ،
لا كسائر معلماتنا السابقات . الا انها حين قدمت الى المدرسة احدثت في انفس
التلميذات رد فعل قبيح اكره ان اتذكره .
ترامت الينا الانباء من الصفوف المجاورة اولاً ، بانها انسانة فظيعة ، جافة ،
خشنة الصوت ، قصيرة القامة ، تتكلم بالفصحى وتلتزمها التزاماً مضحكاً يجعل
التلميذات يواجهنها بالسخرية واستعدت تلميذات الصف الاول لاستقبالها
استقبالاً يناسب هذه الاشياء .. ولكن شيئاً واحداً بقى يصحب اخبار السخرية
، وهو ان ماري عجمي عميقة ، عظيمة ، فاهمة . وكان هذا يهمني لانني لم اكن
اصدق ان هناك معلمة تفهم اللغة العربية كما يجب . فانا اعلم ماذا يعاني
المرء ليصل الى مثل هذه الثقافة وادرك ان المرأة العربية ما زالت في
المرحلة الاولى من ثقافتها ولذلك لا يمكن..
وقد ملأني هذا كله تحدياً وكنت اشعر بثقافتي شعوراً لا مفر منه. فانا على مقعدي
في الصف الخامس ، احمل في رأسي الجرجاوي وابن هشام والبغداديّ وابن قتيبة
والجاحظ وابن رشيق ، وعلماً زاخراً بالادباء والشعراء من الجاهلية حتى هذا
اليوم واحفظ الافاً من ابيات الشعر . وقد دارت هذه الثقافة برأسي دوراناً
خطراً وانا استقبل مدرستنا ماري عجمي اول مرة.
وقد دخلت ملتفة بشال غليظ النسج وبادرتنا بصوت هاديء فيه خشونة: "طاب صباحكن." ثم
بدأت تتحدث عن ابن هائيء الاندلسيّ ، وتسألنا بين الحين والحين . واذكر
انها راحت تشرح احدى قصائده ، فمرت بلفظٍ وشرحتهُ فنهضت وسألتها في لهجةٍ
لم تخل من وقاحة ظاهرة ، الا ان قصدي كان بريئاً : "عفواً ، اذكر ان
القاموس شرح معناها بكذا.." فقالت لي حالاً: "كلا .. ان معناها ما قلتُ كما
يدل السياق ". فأعترضتُ وكنتُ مخطئة ، الا ان القاموس كان يسندني حقاً .
ولم تكن ماري عجمي تعرف أي شيء عني طبعاً اذ ذاك ولذلك انهالت علي بكلام
جارح معناه. "لقد غرك ان عندك قاموساً ياصغيرتي! وانا انصحك بألا تغتّري.
فالمستوى في مدرستكم واطيء الى درجة لا يمكن ان تعرفيها، فلا داعي
للغرور".. وقد كاد هذا الكلام يبكيني . انا مغرورة ؟ مستواي واطئ؟ آه لو
عرفت! اتدري انني احفظ الجرجاوي كله؟
وجلست واجمة .. وقررت ان اتحداها ..وقد جاءت الفرصة في درس الادب وكانت المدّرسة
تتحدث عن أحمد أمين وتثني عليه وكنت في تلك الايام اقرأ في الرسالة مقالات
زكي مبارك المشهورة "جناية أحمد أمين على الادب العربي" ..فلاح على وجهي
تحمس مكتوم ، وانفعال ورغبة في الكلام .. ولاحظتني هي وادركت انني اريد ان
اتكلم فقالت بخشونتها الطبيعية التي لا تقصدها كما عرفنا فيما بعد : "انتِ
.. يامن تناقشت حول كلمة جَيِد .. اتريدين ان تقولين شيئاً؟" وقد اثارتني
باشارتها الى حادثة ابن هاني فنهضت وقلت لها: "انا لا اعد احمد امين عربياً
، ولا اديباً ، ولا لغوياً." وقد شدهها جوابي واتسعت عيناها وقالت: "انت
جريئة جداً في احكامكِ! كيف توصلت الى هذا الحكم؟" وبعد ان سألتني بضعة
اسئلة ، اخبرتها انني افضل "زكي مبارك" على "أحمد أمين" وفي هذه اللحظة رن
صوت الجرس وخرجت المدرسة مغضبة مني ثانية.. والحق انني كنتُ الوح "وقحة"
رغم برائة قصدي. واظن احد العوامل المساعدة ضخامة احكامي ، فانا كلما تحدثت
ذكرت كتاباً او نحوياً ، او حكمت على اديب كبير لا يمكن ان اطاوله من فوق
رحلتي الصغيرة ، وكان هذا يضفي على كلامي مسحة التطاول خاصة والمدرسة لا
تدري ان ثقافتي حقيقية لا محض ادعائات ارتبها بعناية لاضايقها واحرجها امام
التلميذات.
وانفجرت المدرسة في الصباح التالي فما كادت تدخل وتبدأ الدرس حتى نظرت الى فجأة
دونما داع وقالت : "نازك!.. اليس هذا هو اسمكِ" انهضي..انهضي وقفي امام
الصف كله …" ونهضت متثاقلة ، مستغربة ، فلما واجهت الصف قالت: "لقد قلت امس
ان احمد امين ليس عربياً ولا اديباً ولا لغوياً ..فهل لك ان تشرحي لنا سر
هذا الحكم العبقري لنحكم عليك؟" وكانت المدرسة العزيزة حانقة لانها تحسبني
قصدتُ مجادلتها والتظاهر بثقافة لا أملكها .. ولذلك انفجرت تعنفني امام
الصف كله ، وتتحدث عن الغرور والتظاهر ، وتطلب اليّ الا اعارضها حين تتكلم
، وهكذا. وكان الموقف مؤلماً ، وقد راحت الزميلات يتململن فهن يعرفنني منذ
سنين .
ولم افه بحرف ، وانما سكت سكوتاً تاماً ، وعزمت على ان احاول تسوية الموقف مع
المدرسة خارج الصف. فلابد من التفاهم ، وليس لطيفاً ان تمضي في فكرتها
المغلوطة عني ، فهي بأختصار تراني تلميذة مشاغبة .
ومرت ايام هادئة لم تعد ماري عجمي خلالها توجه الي كلاماً . وسكت انا سكوتاً
تاماً ، حتى حان موعد امتحان مفاجيء ذات يوم فقد دخلت المدرسة وقالت :
"اوراق واقلام. اريد ان اقيس ثقافتكن الذاتية … اكتبن عن محمد عبدة .."
وكان محمد عبدة مقرراً للمنهج هذا العام ، الا اننا لم نكن بعد قد استعددنا
لامتحان فيه… وكنت انا اقرأ اذ ذاك مجلة "السياسة الاسبوعية" واملك اعداداً
منها جمعها أبي وقد مررت فيها بعدد خاص عن محمد عبده وقرأته حديثاً ،
فكتبت مقالاً مدهشاً في نصف ساعة بلغ طوله ست صفحات كان خطي فيها رديئاً
لاستعجالي. فقد كانت المعلومات غزيرة في ذهني ، الى حد ضاق به الوقت .
وكانت ماري عجمي تقف في اول الصف ترقب التلميذات وهن يائسات عن التذكر وقد
اسلمن اوراقهن نصف فارغة بينما ابقيت انا ورقتي الى اللحظة الاخيرة ..
وحملت المدرسة اوراقنا وخرجت وعندما دخلت في الصباح التالي حدث شيء مدهش.
دخلت وكانت منفعلة جداً فما كادت تحيينا حتى قالت : "نازك . اريد ان اعتذر اليك
.. لقد ظلمتك حتى الان ولم اكن اعلم انني امام تلميذة موهوبة حقاً." ثم
التفتت الى الصف وقالت:
" ان مستواها يدهشني. وقد ظننتها مدّعية في الاسبوع الماضي لضخامة احكامها ،
وصعوبة المادة التي تستشهد بها … وهذه اول مرة آسف فيها على موقف اقفه من
تلميذه متطاولة …" . وكان الصف كله مندهشاً ، صامتاً .
وقد اصيبت ماري عجمي بمرض عصبي فظيع قبيل امتحان نصف السنة ، ولزمت فراشها
واصابها نوع من الهذيان المضطرب . وآلمني هذا ايلاماً شديداً فقد كنت احب
هذه السيدة الكريمة النبيلة واحترمها احتراماً لا حد له ، واشعر تجاهها
بالصغر والضآلة واود بأي اسلوب لو محوت ذكرى اسبوعي الاول معها يوم تحديتها
وآذيتها. قررت ان ازورها في منزلنا بصحبة خمس صديقات لي ، وقد فعلنا جميعاً
فاتجهنا الى مسكنها.
وما كدنا ندخل ، حتى تلقتني بحرارة وراحت تسالني عن سير قرائتي الا ان حديثها لم
يخلُ من اضطراب ، فقد قالت لي انها تتنبأ لي بمستقبل ادبي رائع تثق فيه
وتراني احمل بوادر عبقرية وان كنت لم اصنع بعد أي شيء. دعوت السماء ان
تشفيها . وكأن دعواتي المختلفة قد استجيبت فبعد اسابيع حضرت ماري الى
المدرسة لتودعنا ، والتقطت لنا صورة معها … كنا اربعاً وقد سألتها احدانا
ان تتفضل بأخذ صورة تذكارية معنا فقالت : "اوافق." وما زلت احتفظ بهذه
الصورة العزيزة حتى الان.
|