بدايات
11 ديسمبر
1974
تلقيت
مكالمة تليفونية مفاجئة من سامي اليوم. قرر كما يقرر عادةً قبل أن يسافر
بعيدًا وطويلاً أنه في حاجة إلى أن يلقاني. لا أعرف أن سامي في الوطن إلاّ
وهو على وشك أن يرحل بعيدًا وطويلاً. قال ربما لا يعود, كما يقول كل مرة,
وأزعجني القول لأول مرة. (يقترن الشعور بالشيخوخة والخوف من الموت). ولم
ألبث أن تجاوزت الخوف واستعدت اليقين بعودته التي منحتني دائمًا, ولا أعلم
لم, نوعًا من الاطمئنان.
في
التليفون واتاني الحديث مع سامي في يسر, وكأني أستأنف حديثًا بدأته معه
بالأمس. كم طالت غيبته هذه المرة? لم أسمع صوته منذ أن تناولنا طعام الغداء
في هذا المطعم الجديد الأنيق في الهرم, كان هذا في أعقاب إنهائي لحياتي
الزوجية بالطلاق, أي من حوالى عشر سنوات. لم أشعر بالأمس بالحرج الذي
استشعرته وسامي يطلب لقائي ولا ترددت في تحديد الموعد كما ترددت إذ ذاك.
ألأني رفضت الماضي بحلوه ومره إذ ذاك وبدأت الآن أتقبله? ألأني لم أعد أخشى
وأنا في الثامنة والأربعين تعقيدات الامتداد إلى المستقبل? أي تعقيدات? بعد
الثامنة عشرة لم يحمل لقائي مع سامي أي تعقيدات. ألأني وأنا أواجه الآن
مرحلة الشيخوخة في حاجة إلى التصالح مع ما مضى من حياتي?
يخطر في
بالي الآن خاطر غريب. لقاءات سامي كانت علامات مميزة على طريقي, صادفت
تقريبًا كل عقد من عمري. في الثامنة عشرة كان سامي الحب البداية بلا نهاية,
الأرض والشمس التي تدور حولها الأرض.
أكانت
القصة التي كتبتها قديمًا عن بداية هذا الحب (الأبدي) أم عن نهايته? ومتى
كتبت هذه القصة? بعد نهاية حبي لسامي بعشر سنوات, أم بعد انفصالي بالطلاق
عن زوجي وأنا في الثامنة والثلاثين? أهي عن حبي (الأبدي الأول) أم حبي
(الأبدي الثاني)?!
يتعين
عليّ أن أتوقف عن هذا الشعور بالمرارة, وأن أبحث عن القصة التي كتبتها وأنا
في الثامنة والعشرين تحت عنوان (حبها الأول). أمامي فرصة ذهبية لا تتوافر
لكاتب إلاَّ قليلاً, فهأنذي إزاء حكاية تواجه احتمالات الاكتمال .
ملحوظة:
أرفق القصة التي كتبتها منذ حوالي عشرين عامًا بمذكرات اليوم 11 من ديسمبر
سنة 1974 لأفرغ لتأمل بقية انطباعات اليوم.
حبها الأول
لفتها
موجة حنان وباب مكتبها يسفر عن سامي: السيجارة ترتجف غير مشتعلة في ركن
فمه, ونغازتاه يعمقان في خديه, وقطرات المطر تتساقط من معطف المطر الأنيق
الذي يرتديه, وتغلبت على دهشتها وهي تخرج من خلف مكتبها تتقدم في خطى هادئة
تلاقي حبها الأول بعد غيبة عشر سنين. ومالت على المكتب تدق الجرس وقالت
وسامي يجلس في المقعد المقابل:
- تشرب
إيه يا سامي?
وضحكت
ضحكات قصيرة متقطعة وهي تلاحظ أن هذه هي المرة الأولى التي تناديه باسمه,
والمرة الأولى التي تصمد فيها لنظرته دون أن تخجل وقد استطال لقاؤهما الأول
ما يقرب من ثلاثة أشهر.
رفضت أن
تفصح عما أضحكها وسامي يسأل, وجمد وجهها لحظة والساعي يتقدم وابتسمت
ابتسامة العمل التقليدية وهي تطلب منه إعداد قدحين من القهوة.
وسألت
سامي عن أخباره, ونفث الدخان وبدأ يحكي عن أسفاره, سيجارته تهتز في فمه وهو
يضحك, ويده تتحرك كعادتها ترسم على طرف المكتب خطوطًا وهمية متعارضة
ومتشابكة. وتساءلت وعيناها متعلقتان بوجهه تشبع الرغبة التي لم تجرؤ أبدًا
على إشباعها: أين ذهبت الفورة الحلوة المجنونة لبنت الثامنة عشرة?
بنت
الثامنة عشرة عَدَّت عدم وقوعها في الحب حتى هذه السن كارثة. تجاوزت نظرات
المعجبين, وانتظرت متلهفة حدوث الشيء يخرج عليها من المجهول, تغشي له
عيناها كأنه البريق, يجتاحها كالإعصار, تنتفض له كل خلية من خلاياها كمس
الكهرباء. وتقلبت في الفراش ليلة بعد ليلة, تشوقًا, إلى أن هبط عليها سامي,
وكأنما من السماء, وهي في السنة الأولى من دراستها الجامعية.
كانت
تجلس مع ثريا وسميرة في الصالة العامة لمكتبة الجامعة في الأسبوع الأول من
إجازة نصف السنة حين دخل الدكتور صفوت وبصحبته سامي. وبعد أن تمت عملية
التعارف قال الدكتور صفوت مشيرًا إليها:
- تقرأ
رابعة العدوية وبودلير معًا. الإِنجيل والبيان الشيوعي في نفس الوقت.
وابتسمت
هي. كانت تقف إذ ذاك هي والملايين في نهاية الحرب العالمية الثانية على
مشارف عالم جديد, أو توهمت ذلك, عالم يصالح كل المتناقضات, تتفتح فيه آمال
التحرر الوطني, تسقط فيه كل الحوائط, ويتساوى فيه التشوق إلى المعرفة مع
التشوق إلى الحب.
وأدارت
رأسها إلى الخلف لترى سامي وهو في طريقه إلى الخروج من الباب الخارجي لصالة
المكتبة, وأدار هو رأسه ليراها, وأسدلت جفنيها خجلاً والعيون تتلاقى.
ولكنها لم تدرك إذ ذاك أن شيئًا غير عادي قد حدث.
وأرسل
الدكتور صفوت في استدعاء مجموعة البنات إلى حجرته, وقضت هي وسميرة وثريا ما
يقارب الساعتين في جلسة مع سامي والدكتور صفوت, وخرجت من الجلسة دون أن
تدرك.
خافت
والصمت يلف الكلية في إجازة نصف السنة, يربض متوترًا في الممرات المعتمة,
يطن في الحديقة التي تواجه المكتبة, كالسكون يسبق العاصفة. وافتقدت الحياة
تضطرم بالألوان الساخنة, بالضحكات, بالمناقشات السياسية, بأحلام المستقبل
تتشكل في الأركان الهادئة خلقًا أدبيّا وفنيّا وسينمائيّا وسياسيّا.
بالمناكب تتدافع إلى قاعات الدراسة والمؤتمرات السياسية والندوات الأدبية
وحلقات الاستماع للموسيقى الكلاسيك.
لمدة
ساعتين استمعت طويلاً, وتحدثت واتفقت واختلفت. لم يكن غاندي, والشعب المصري
يطالب بالكفاح المسلح ضد الإنجليز, بطلها, كما كان بطل سامي. وضحكت حتى
طفرت الدموع من عينيها وسامي يشخص كل حكاية يحكيها, يقوم ويعاود القيام,
يقلد تمثال الحرية في نيويورك وغاندي يسحب الماعزة في الهند, ينتقل من
حكاية إلى حكاية من بلد إلى بلد وكأنه لا يستقر يومًا بمكان. ولم تدرك إلاّ
حين بدأت ثريا تلعب لعبتها المفضلة على محطة الأتوبيس, تغافلهما وتعلن مجيء
الأوتوبيس وهو لم يأت.
(عليكم
واحد), قالت ثريا, وبدلاً من أن تضحك هي كالعادة, استدارت شفتاها وكادت
تبكي. وفي الأوتوبيس أدركت, وهي تجلس على طرف المقعد في حرص وكأنها تحمل
كوبًا مليئًا حتى الحافة تخشى أن ينسكب. وانكفأت إلى الأمام تحتضن جسدها
بذراعيها, وتستشعر لأول مرة ذلك الشجن الموجع يصل إلى مرتبة النشوة.
واعتدلت ووميض الشمس يتراقص حبات ماس على سطح الماء. وعندما التفتت إلى
الخلف لترى الوميض من جديد, لم تر سوى مجرى رمادي عاتٍ من الماء ينساب في
رتابة وجلال.
وفي
ميدان الأزهار أفاقت على صوت احتكاك وفرملة عجلات سيارة يتبعها سيل من
اللعنات المتبادلة, ودخان أسود محمل برائحة الشواء, وناس حول المقاعد
يأكلون على قارعة الطريق, ورجل يمضغ في روية وقد انتهى الطعام من فمه,
وطفلة تبكي في حرقة على حطام طبق وزحمة من الناس تطرح الطفلة أرضًا, تتسارع
في اتجاه محطة قطار حلوان, والقطار يتقدم وئيدًا ثم ينساب... وملأت الزحمة
وعيها بألوانها وأشكالها وروائحها, وعاودتها حالتها الطبيعية إلى أن آوت
إلى حجرتها في البيت.
ولفتها
الحمي يقظي في سريرها تستعيد المشهد في المكتبة وفي حجرة الدكتور صفوت, تلف
في أرجاء المشهد وتدور, تجزئه وتعيد تركيبه. تهد المشهد يائسة وتعود تبنيه,
تبحث عن شيء ما ميزها به سامي عن سميرة وثريا. تتوقف عند التقاء عينيها
بعيني سامي في المكتبة, وتحاول أن تصل النظرة بشيء ما خاص بعد النظرة, ولا
شيء على الإطلاق. وتثور. لا يمكن أن يحدث لها كل هذا ولا يحدث له نفس
الشيء, لا يمكن أن تنقلب الدنيا ولا ينقلب هو.
ويقفز
بها خاطر من السرير إلى منتصف الحجرة واقفة: سامي أراد أن يراها من جديد,
أن يتعرف عليها. ألح على الدكتور صفوت لكي يستدعيها وصديقتيها من المكتبة,
وإلاّ فيم الاستدعاء? وأسندت رأسها بيديها حتى لا تطير. ولكنها قد طارت
فعلاً وهي كروح هائمة تجوب الشوارع يومًا بعد يوم تبحث عن سامي, ترتاد
قاعات المحاضرات ومعارض الفنانين والندوات على أمل أن تراه. وفي كل خطوة
تخطوها يخيل إليها أنها وجدته, وفي كل خطوة تتراجع وقد توهمت أنها وجدته...
يقترب سامي أخيرًا وبحركة لا إرادية تكاد تنحرف عن الطريق ولا تنحرف...
تدرك أنه ليس بسامي. وتعود إلى البيت منهكة, وهي تعرف أن سامي في مكان ما
من القاهرة, خلف حائط من هذه الحوائط لا تعرفه, ولا تملك النفاذ إليه حتى
لو عرفته, وشبه يقين يبقيها فوارة ضاحكة... سامي يستطيع أن يصل إليها في
الكلية بعد أن تنتهي إجازة نصف السنة. وسيصل. ربما. لا بد. لا بد أن يصل.
وبدأت
تهدأ هدوء اليأس وقد انقضي أسبوع على عودتها إلى الكلية, ولكن سامي جاء
أخيرًا. شعرت به يقف خلفها دون أن تراه, ربما لأنها لم تكن تنتظر غيره,
وربما لأنها أرادت بكل خلجة من كيانها أن يكون هو, وكان. لحظة شعرت به,
كانت تقف في صالة من صالات المكتبة ويدها تمتد إلى مرجع من المراجع على
الرف. وجمدت يدها لحظة واستدارت تلاقيه وتوقفت نظرتها عند ربطة عنقه وهي
تصافحه. ولم تجرؤ فيما بعد على تجاوز هذا الارتفاع إلاّ وهو غافل عنها
يتبادل هو وصديقة من صديقاتها الحديث.
وتساءل
سامي إن كانت قد أعادت كتاب رابعة العدوية. وأبدت استعدادها لإعارته إياه,
وخشي ألاّ تكون قد انتهت من الكتاب, وأكدت كاذبة أنها فعلت. وقررا أن
يلتقيا صبيحة اليوم التالي في نفس المكان والزمان لتعيره الكتاب.
ولا تعرف
كيف وصلت يومها من المكتبة إلى قاعة المحاضرات, ولا كيف اندست في هذا
المكان الضيق بين ثريا وسميرة تأتي أن تتقاسما معها الفرحة التي تغلي في
رأسها, واستحال أن تهمس في أذن أيّ منهما وجسدها معلق في الفراغ. وعلى ورقة
كتبت (جاء سامي) وقربتها من عيني سميرة وثريا وتنهدت في ارتياح في انتظار
رد الفعل... ولا شيء. سميرة تكمل كتابة المحاضرة وهي تبتسم ابتسامة خفيفة,
وثريا أظلم وجهها. لا تدري لم?
وألف يد
متوترة في هذه القاعة, وألف عين وأذن تترقب, ولا شيء سوى طنين يحدثه
الأستاذ ويتلقاه صرير الأقلام... موتي كلهم لا يشعرون... كان هناك وكانت,
وهو هنا وهي, ولكنهم لا يعرفون. شيء رائع يحدث كان ينبغي أن تتوقف له هذه
الساعة التي تدور وتدور...
- إنت
مجنونة.
قالت
ثريا وهي تقفل دفتر المحاضرات في غضب بعد أن انتهت المحاضرة. واستبعدت هي
فيما بعد ضاحكة تصوير ثريا الكوميدي لمشهد دخولها قاعة المحاضرات بعد لقاء
سامي. فها هي ذي, على لسان ثريا, تقتحم قاعة المحاضرات وكأنما تدخل غرفة
نومها, بوجه كرغيف الخبز خرج من الفرن لتوه, جسدها يرتجف كفرخة مذبوحة,
يؤنبها الأستاذ وودن من طين وودن من عجين, تثير صفير الاستهجان من الطلبة
وهي تعبر القاعة, تدوس الأقدام وترتطم بالمناكب لتكتب وكأنما على السبورة:
جاء سامي.
ولكن
سامي استحال في الشهور الثلاثة التالية إلى جزء لا يتجزأ من حياة البنات
وهو يزور الكلية بانتظام يوم إجازته في الأحد من كل أسبوع.
وعرفت
هي, وإن لم يكن على وجه اليقين, أن سامي يحبها. لم تتشكل المشاعر قط في
كلمات, ولم يبد من الضروري أن تتشكل وفي الأسبوع يوم أحد, وأشعار رابعة
العدوية تتحول إلى أشعار دنيوية تتنغم بها كل ليلة والفورة تقذف بها في جوف
الليل إلى الشرفة, تفجر جسدها إلى ذرات, والذرات تتوحد والسحب تسافر لاهية,
تغيب وتعاود الظهور متنكرة كل مرة, وهي الآن موكب من الفيلة ولكل فيل
زلومة, سفينة ذات قلاع, كثير من القلاع تبحر, خيول مطهمة والخيول تركض.
ونور ثاقب لكوكب يتبقي وحيدًا يدفع دموع الشجن إلى عينيها فلا تعود تعرف إن
كانت تضحك أم تبكي, والدموع تلون الدنيا بألوان قوس قزح, وكل شيء رائع
وجميل والهواء أنقي وخضرة الأشجار أعمق والأصوات أنغام والزمن لا يقاس
بالأيام وإنما بالساعات التي ترى فيها سامي. ولا شيء ينتقص من سعادتها, ولا
هي تريد أن تنفرد بسامي عن صديقتيها. يكفي أن تستمع إليه يتكلم, يكفي أن
ترى السيجارة تهتز في فمه وهو يضحك.
ولم يخطر
في بالها السؤال: وماذا بعد? استوعبتها اللحظة تحيا عليها حتى تحياها من
جديد, فلم تسأل. وحين جاءها سامي يعلن أنه راحل لم يكن اليوم يوم أحد.
وصلت
الكلية يومها متأخرة دقائق عن المحاضرة الأولى, وعبرت الممر الطويل إلى
قاعة المحاضرات مهرولة, وقبل أن تدفع الباب سمعت سامي يناديها واستدارت.
كان يقف على عتبة الباب المؤدي إلى الحديقة تفصله عنها درجتان من درجات
السلم حين قال:
- أنا
مسافر.
- فين?
- لندن,
أتعينت مراسل للجورنال هناك.
- مدة
طويلة?
- سنة
على الأقل.
وبدا لها
صوته غريبًا وكذلك صوتها, وكأنما لا يتكلمان بل يتقاذفان فيما بينهما بكرة
بنج بونج, والكرة تصيب كل مرة...
- ومسافر
إمتي?
- بكره.
مستحيل
لا بد وأنها تحلم, ليس هذا صوته, وهذه الخيول التي تركض في الدور العلوي من
أين أتت? لو استطاعت أن تصرخ صرخة واحدة لأفلتت من هذا الكابوس. ولكنها لم
تصرخ, وقفت تنتظر أن يبدأ, أن يقول شيئًا, وصمت يربض على صدرها بكلمات لا
تقال. والتصقت بالحائط يغرق حسها طنين بلا معنى وزحمة من الطلبة تنزل
السلم, تعبر الباب إلى الحديقة.
ووجدت
نفسها فجأة تترك سامي خلفها بلا كلمة, وتجلس لاهثة في أول مكان خال تجده في
قاعة المحاضرات. وطالبة إلى جانبها تلوك قطعة لبان, تمدها في خيط طويل يكاد
ينقطع, وتكومها بيدها لتقذف بها في فمها من جديد, ونحلة تتخبط على زجاج
النافذة المغلق لتعود تتخبط. إمّا أن ينكسر الزجاج أو تموت, والزجاج لا
ينكسر والنحلة لا تموت. وقطعة اللُّبان تكاد تفلت من فم غليظة الشفتين ولا
تفلت, تطبق عليها المصيدة من جديد ......... وتقفز هي واقفة وهي تدرك أن
سامي قد ضاع منها. ويسألها الأستاذ عما تريد وتقول:
- أنا
... أنا عايزة ...
ولم
تستطع أن تكمل وألم حاد, لا يستطيل سوى ثانية, ينشب في العرق المجاور
لعينها اليسرى. ولم تشعر بخطورة ما حدث حين فقد خدها الأيسر الحسّ للحظات,
كانت منشغلة بكلمات تأتي أن تتشكل ولم تتشكل .. لو رأته مرة ثانية, لحظة
واحدة لعرف, وربما عرفت.
ورأته
يومها ثانية ولم يعرف ولم تعرف, ليس بالتأكيد على كل حال. كان ينتظرهن على
محطة الأوتوبيس ونفي في شدة مفتعلة, أنه كان في الانتظار. ولم تنفرد به
إلاّ في الأتوبيس وهما يقفان وجهًا لوجه إلى جانب السائق. ولفهما هذا الصمت
المتوتر من جديد وهي تنتظر, واجفة الحلق, كلمات توشك أن تقال ولا تقال.
وعبر الأتوبيس كوبري قصر النيل, وأزاحتها عن الطريق امرأة تحمل على رأسها
قفة, وتنهدت وهي تقول:
- عارف
أنا نفسي أعمل إيه? نفسي أرمي نفسي تحت الأتوبيس ده.
وكان هذا
أقصى ما استطاعت أن تقول ولم يقل هو شيئًا, ترنح تحت وطأة كلماتها ولم يقل
شيئًا. وتلفتت خلفها ترقب مجري عاتيًا من الماء ينساب في رتابة وجلال,
وعيون من الصخر تنظر ولا تري.
***
وتأملها
سامي وهي توقع بإمضائها بعض الأوراق العاجلة في ثقة وكفاية ورقة بعد ورقة,
وقال بصوت هامس وكأنما توصل إلى اكتشاف:
- إنت
تغيرت.
وتوقف
القلم في يدها لحظة, ثم أكملت كتابة اسمها الثاني بخط أكبر قليلاً مما
تعودت أن تكتب به توقيعها الرسمي. والتقطت ورقة جديدة وتساءلت بسخرية خفيفة
وهي تتصفحها, إن لم يكن قد تغير هو الآخر. وأضافت باسمة وهي ترفع الورقة
إلى أعلى وتتركها تسقط من بين يديها في حركة مسرحية مفتعلة:
- الزمن
يا أستاذ... الزمن.
وضحك كما
أرادت له بحركتها المسرحية أن يفعل, ولم تضحك هي. ما أن سقطت الورقة حتى
شعرت فعلاً بوطأة السنوات العشر من عام 1944 إلى عام 1954. مليئة بالأحداث
والمتغيرات كانت ولم تزل حبلي, بين الفرحة والغصة تقف. ولا هي تعرف ولا أحد
يعرف إلى أين تسير. بقيت الغصة ولم تكتمل الفرحة, ولا هي تعرف إلى أين تسير
شخصيّا, ولا إلى أين يسير البلد.
ونجح
سامي في إخراجها من وجومها ليقول ما أتي ليقول:
- إنت
عارفة إني كنت ....
وهزت
رأسها ضاحكة تنهيه عن الاستمرار في الكلام وهي تعرف مقدمًا ما سيقول, وتصدق
مقدمًا على كل ما يقول, وأضاف:
- ولسه
....
وبدا لها
الموقف مربكًا ومحيّرًا, وكأنه مشهد في مسرحية انتزع من مكانه وزمانه
وظروفه ووضع, عنوة وبلا معني, في زمان آخر ومكان آخر وفي ظل أوضاع متغايرة.
الكلمات تشكلت بعد فوات الأوان, بعد أن أصبحت لا تعني شيئًا. وعدلت هي من
وضع الورقة التي أسقطتها بحركة مسرحية ووقعتها وضمتها إلى بقية الأوراق,
وكومتها, مرتبة, على حافة المكتب وهي تقول:
- مفيش
داعي يا سامي نفتح الموضوع.
وقال في
إصرار:
- وإنت
كمان كنت ...
وغطت
ضحكاتها القصيرة المضطربة على بقية كلماته وقطرات المطر تسقط كالحصى على
زجاج النافذة. وخيم الصمت على الحجرة وهما مطرقان, يتحاشي كل منهما النظر
إلى الآخر. وكسر الساعي وطأة الصمت وأشارت إليه أن يسدل شيش النافذة. وحين
فعل لم تنس أن تشكره وهي تبتسم ابتسامة العمل التقليدية.
نوفمبر
1955
======
11
ديسمبر 1974
مع سامي
سأجلس في شرفة النادي وجهًا لوجه, كهل وكهلة, يجتران ذكريات الماضي. سأضحك
وسيضحك ويقول إنه ما زال يحبني كما يقول دائمًا, ولن أقول إني أحبه, لأنّي
أوده ولا أحبه. (ما أحدَّ ما تتحدد مشاعري?! أنمو على مشاعر الحب القديمة,
أتجاوزها. لا لبس ولا التبأس ولا حتى لدقيقة واحدة في طبيعة هذه المشاعر).
ولن أنزعج لأن سامي يحبني ولا لأني أودّه. فلا هذا الحب المعين من جانبه
ولا هذا الود الخاص من جانبي حال دون أن يعيش كل منا حياته مكتملة في
استقلال عن الآخر.
وفي طريق
العودة سألمح وجهي كما لمحته في مرآة السيارة يوم تناولت طعام الغداء مع
سامي من عشر سنين. لا لن أرى وجهي كما رأيته يومها. أعرف أني تجاوزت هذا
الوجه من وجوهي ولكن إلى أي مدي? أعرف أني تصالحت مع الكثير في السنوات
العشر الماضية ولكن بقي الأكثر لأتصالح معه.
يوم لا
أعود أهرب من المرآة ومن عدسة التصوير, يكتمل ما بدأت.
***
في
الثامنة والثلاثين أجلس, تفصلني عن سامي مائدة غداء وسنوات تجربتي. أجلس
و(كان) فعل ماض يتحتم أن يسقط, ألا يكون. عيناي تتطلعان بعيدًا في الأفق
إلى ما سيكون. تطول جلستي و(كان) طريق مسدود اقتضاني الإفلات منه صراعا
مريرا.
(كيف
توهمت إمكانية الفصل بين ما كان ويكون?)
سامي
يريد لي أن أتحدث عما كان مع زوجي, أن أتخفف. وأنا أقطع الحبل بضحكة مبتورة
المرة بعد المرة. سامي يستثير ذكريات حبنا الأول وضحكته تواتيني متصلة تردد
أصداء ماض مكتمل بحلوه ومره, وأنا أسدل الستار على الماضي, وأعود أحكمه.
تنزلق كلمات سامي, كقطرات ماء على معطف مطر, دون أن تمسني.
أسترخي
في جلستي وأنا أدرك أن شيئًا ما من الماضي لن يخل بالتوازن الذي توصلت
إليه, بالبركان الذي أحلته حجرًا خامدًا لأستمر واقفة على قدمي. أسترخي
الآن وعلى فمي بسمتى الودود الخجلة. أحاول بلا جدوى أن أوقف هذا السيل
الجارف من العاطفة الذي يمطرني...
عواطف
سامي تحرجني. أستكثرها على نفسي, أشعر أنها موجهة إلى امرأة غيري, وأني
أغتصبها بلا وجه حق. وأنا موجودة وغير حاضرة. أكاد أصرخ وسامي يذوب كيانه
في كلماته. كفي, المرأة التي تحبها ماتت, وأنتحل كلمات الحب لنفسي ولا
أصرخ... تزدهيني كلمات الحب وألتزم الصمت.
وتخرج
المرأة في الثامنة والثلاثين كما دخلت مغتربة عن ذاتها والآخرين, مرفوعة
الرأس متئدة الخطوات, مستغنية بلا اكتفاء, ما من شيء هز كيانها ولا هي بذلت
قطرة من هذا الكيان.
***
من عيني
تنسال الآن دموع تحجرت, كحصي الملح, في عيني المرأة في الثامنة والثلاثين,
ومرآة السيارة تصفعها بوجه مليح قدَّ من صخر الكبرياء المر, من الألم
وحتمية تجاوز الألم, من رفض مراهق للحياة ونسبية الأشياء, من تعلق مغترب
بكمال دنيا غير الدنيا, من تشبث مجنون بالسبل المسدودة حتى الاختناق, ومن
عمي عن الباب المفتوح.
وفي
أعماقي أفسح مجالاً للمرأة المراهقة التي ضلت الطريق, وفي أعماقي ترقد, وقد
انفرطت من عيني اليوم وبعد عشر سنوات دموع استعصت عليها.
15
ديسمبر 1974
لم أكتب
بالأمس. التقيت بسامي صباحًا.
قالت
سميرة وأنا أحكي لها مساءً جزءًا من الحكاية:
- وددت
لو التقطت فيلمًا سينمائيّا لمجموعة الانفعالات التي تتابعت على وجهك وأنت
تحكين.
وانفجرت
ضاحكة وأنا أقول:
- وماذا
لو راقبت المشهد مكتملاً?!
ولم تكن
سخريتي مرة, ولا كانت ضحكتي دفاعًا مسبقًا عن الذات في وجه ضحكة قد تصدر عن
الآخر. واتتني ضحكتي منسالة كمجري صاف بلا سدود, وكأنها امتدت, متصلة, من
يوم تعلمت أن أضحك.
وانتقل
الحديث بيني وبين سميرة من موضوع إلى موضوع. قررنا أن حملة التزييف في
الجرائد تهدنا ولا يتأتي أن يلتزم الناس الصمت في وقت ينبح فيه الكلاب.
وجرنا الحديث عن الوعي الزائف إلى مناقشة رواية (ماركيز) (مائة عام من
الوحدة). توقفنا كثيرًا عند مشهد اغتيال رجال الشرطة للمتظاهرين في محطة
سكة الحديد, التي أنكرتها في اليوم التالي المصادر الرسمية عمدًا, وغير
الرسمية خوفًا, والكل يقرر أن ما مجزرة حدثت في محطة سكة الحديد. تأملنا كم
يتشابه الحدث الروائي و(الحادث المؤسف) الذي يتكرر الآن ذكره في الجرائد
عندنا. تسابقنا في الإشادة بعبقرية الكاتب في الإمساك بلب الحقيقة في
عالمنا الثالث, وقدرة الإنسان على الخلق والتجديد والتجاوز.
وودعت
سميرة لأنصرف, وعلى عتبة الباب وجدت نفسي أتوقف وأقول لها وكأني أستأنف
حديثًا لم ينقطع:
-
انفعالات العمر مكتملة.
واندهشت
لأني لم أدرج من قبل انفعالاتي خلال لقاء سامي في هذا السياق.
***
- أهلاً
يا سامي.
قلت بعد
أن اجتزت عدة مناضد من شرفة النادي واتجهت مباشرة إلى حيث يجلس سامي موليًا
ظهره إلى المدخل. من بين مئات الرجال لا تخطئ المرأة رجلاً أحبته يومًا.
تعرف انحناءة ظهره, والعضل الذي يتوتر مشدودًا في مؤخرة رقبته حين يميل
برأسه. تميز لون شعره حتى لو مسح الزمن لونه.
حين وقف
سامي يحييني أدركت ما فعله بي الزمن, كان مرآتي. ونظرت بلا وعي إلى ساعتي,
وأشارت إلى دقائق سبع بعد الحادية عشرة, وقلت لكي أخفي توتري:
- هل
تأخرت?
ونفي
سامي حقيقة أني تأخرت. وقال إنه في الانتظار من الحادية عشرة إلاّ ربعًا
لأن السلوك المتمدن يقتضي أن يكون الرجل في الانتظار وأن تتأخر المرأة بعض
الشيء. وضحكت وأنا أعاود التعرف على هذه اللمحة من لمحات الرجل الذي هو حبي
الأول. وأزالت الضحكة بعضًا من توتري.
قال سامي
بعد أن زال توترنا معًا إن يديّ كانتا ترتجفان على طرف المائدة. وقصصت عليه
بعد أن زال توترنا معًا تمامًا ما حدث وأنا أركن السيارة في موقف من مواقف
النادي محاذيًا للشرفة, وسط سيارات لا تضاهيها في ألوانها السوقية سوى
ملابس الكرنفال يرتديها الأولاد والبنات.
وجدت
مكانًا خاليًا بعد طول لف ودوران, والنادي يزدحم على غير ما عرفته من
سنوات, بمئات من السيارات المستوردة. وضعت السيارة في المكان. وقبل أن
أتنفس ارتياحًا لأن الأمر قد تم. انحدرت السيارة من المرتفع الذي كانت تقف
فيه إلى الخلف, وحاولت أن أرتقي المرتفع المرة بعد المرة وفشلت: عطلت
السيارة, وتساءلت في ضيق: ما العمل الآن? وكيف أعود إلى بيتي? وأي بداية
سيئة هذه البداية? واكتشفت فجأة أن قدمي كانت طوال المحاولة على (الفرامل
والدبرياج), وأن العطب كان في حواسي لا في السيارة.
***
أعرف
الآن أني قطعت مشوار عمري ما بين بداية توتري ونهايته, أعرف أني لقيت سامي
لكي أفعل. أعرف الآن أن العطب كان فيّ أنا لا في السيارة.
***
بالأمس
صباحًا, أيقظني اللقاء المنتظر مبكرة, أبكر مما أستيقظ عادة. بذلت مجهودًا
لأتجمل, بعد سنوات كففت فيها عن التجمل. وقررت فجأة وبلا تدبير سابق زيارة
الحلاق قبل لقاء سامي.
لا
يستطيع الإنسان أن يتجنب المرآة عند الحلاق. لم أحب كثيرًا ما رأيت في مرآة
الحلاق, غضون رقبتي تعايشت معها وهذه التجاعيد الخفيفة في جبيني وحول فمي.
ولكن ماذا عن هذا الأخدود الأسمر الغامق أسفل كل عين من عينيّ? لم ألحظهما
من قبل.
بعد أن
اكتملت تسريحة الشعر تحسنت الأشياء بعض الشيء. وحين وقفت أزيل بعض الشعيرات
التي التصقت بثوبي وألقي النظرة الأخيرة على صورتي في مرآة الحلاق, حسبت
أني مستعدة للمواجهة. ولم تكن هناك ثمة مواجهة. عرفت سامي في الرجل الممتلئ
تمتد سوالفه مجللة بالشيب, وعرفني بالشحم الذي اكتنز به جسدي وأخدودين
أسودين. وجدت سامي ووجدني وظل يردد طوال جلستنا:
- بودي
أن أقف فوق هذه المائدة, في وسط كل هؤلاء الناس, وأقول إني أحبك, وإني
أحببتك دائمًا.
***
تأتّي
عليّ أن أطلق سراح الصبية لأفلت بحياتي من بين ضفتي باب مغلق. ولست أدري
على وجه التحديد إن كانت نشوتي وأنا أفعل, هي التي أثارت الفضول اللحوح
المنبهر من جانب الجالسين من حولي, أم هيستيريتي. ولا أهتم. لم أعد أهتم
بالانطباع الذي أتركه في الآخرين.
بمجرد أن
جلست أنا وسامي حول المائدة لمحت زميل عمل يجلس على مقربة مني, وأدركت أن
لقائي بسامي سيصبح خبر الموسم في أوساط عملي, وأسقطت عامدة الإدراك عن
وعيي. وكان أن نسيت الرجل تمامًا وأنا أضحك أنتشل من عدم الصبية التي كنتها
يوم التقيت بسامي, وأنا أضحك بوجهي, بيدي, بمكتمل جسدي, إلى حد قذف حقيبة
يدي من فوق المائدة إلى الأرض. ووعيت للحظة أثر هذا الحدث على من حولي. ولم
أعد أعي وضحكتي تستطيل منسالة تصل ما انقطع وأنا أبني قصة حبي الأول, أصور
المشاعر التي لم تجرؤ الصبية على تصويرها, أكمل الكلمات التي تعثرت على
لسانها, وأحيا الصبية من جديد. وأنا الآن هي, كياني وهج وجسدي وهج يشع
يزغرد بتشوقات الصبية المكتومة, التي لم تعد مكتومة. وأنا الآن آنا, ومسام
جسدي الخامد تتفتح, ترق تعمق, وأنا أتواصل في لحظتي الراهنة مع سامي, أحكي
له عن خططي للمستقبل ويحكي, أفضي باهتمامات حاضري ويفضي, يمنحني من لحظته
الحاضرة وأمنحه, ما يعينني ويعينه على استكمال المشوار.
***
صباح
اليوم فعلت ما تمنيت أن أفعله من سنين. في فورة حماستي للدفاع عن القرار
الذي تبنيته في اجتماع اليوم, خلعت حذائي وطويت ساقي تحت جذعي. بعد أن مر
القرار الذي أردت له أن يمر, استرخيت في جلستي على المقعد المريح كما
أسترخي في بيتي.
وتنهدت
ارتياحًا وأنا أعبر بكهولتي ما مضى من عمري إلى ما هو آت .
الشيخوخة
هذه
يوميات كتبتها من عشر سنوات وسقطت في زحمة أوراق منسية. حاولت تعديل هذه
اليوميات لتعبر عن منظوري الحالي للحياة كامرأة وككاتبة وتبينت استحالة
ذلك. فكل شيء يتغير ويتبدل وخاصة في المرحلة المتقدمة من العمر, ومنظور
امرأة في الستين غير منظور امرأة في الخمسين, وإن اندرج الاثنان في كل
متعدد الجوانب متناقض الوجوه يلقي التصالح في نهاية المطاف.
وقررت
نشر هذه المذكرات كما هي, على أن أضيف لها بعض ملاحظات توافرت بحكم السن
والخبرة, فما من تجربة شعورية تتكرر على نفس الصورة, وما من تصوير لتجربة
شعورية يمسك بحقيقة في كليتها ولا في حركتها الدائبة. وإن كان هذا لا يلغي
بحال صلاحية تصوير التجربة.
تربكني
المرأة في الخمسين التي تطل عليَّ من هذه اليوميات وتفرحني وأنا في الستين.
تفرحني بقدرتها على التجاوز, وتربكني بحدة مشاعرها واستطالة هذه الحدة.
أفتقد في يومياتها ضحكتها التي تجاوزت بها كل شيء, وأعرف الآن أن لحظات
تعاستها قد اندرجت في عشرات من لحظات الفرحة والحماسة والاهتمام بما هو
خارج عنها. وتخيفني في كل الحالات النهائية التي تكتسبها المشاعر العابرة
على الورق.
أرصد
مبتسمة ميل المرأة في الخمسين إلى التنظير, ولا أعود بحاجة إلى الاعتذار عن
هذا الاتجاه الذي ظل يلازمني, أدرك بعد قراءة اليوميات أن التنظير كان
دائمًا وسيلتي كإنسان للفهم وللتجاوز عن طريق الفهم, وأقول ربما أفاد الناس
ما أفادني, بالرغم من إدراكي أن التنظير ينطوي بالضرورة على التبسيط
والتسطيح, ويخضع بالضرورة للتغيير والتطوير. ويذكرني هذا بملاحظة أستبقيها
حتى نفرغ من هذه اليوميات.
27
سبتمبر 1974
اليوم
صباحًا وأنا بين اليقظة والنوم, وجدت نفسي أكرر عبارة: شيء ما خطأ, شيء ما
لا يستقيم, بعد شهر من عودة ابنتي حنان من غيبة استطالت عامين. وللمرة
الثانية في حياتي تعاودني الرغبة في تسجيل يومياتي ومواجهة الذات على
الورق. وهذا يعني أني أقف على حافة الانهيار وأني أسعي واعية للإفلات.
تعين
عليَّ اليوم أن أزيل تراب عشر سنوات عن يوميّاتي الأولى ولم أفعل. تسع
سنوات لا عشر, لم أجسر على الاقتراب من الورق في العام الذي أعقب موت زوجي
أحمد من عشر سنوات. ومع انقضاء العام تأتي عليَّ أن أسجل يومياتي. كانت
ابنتنا حنان في السادسة عشرة وأحوج ما تكون إلى أم قادرة على الوقوف على
قدميها.
ويتأتي
عليَّ الآن بعد أربع سنين من زواج ابنتي أن أواجه نفسي على الورق من جديد.
أتوقف
لأتساءل: ألم تكن الرسائل التي أدمنت كتابتها لمدة سنتين طيلة غيبة حنان
نوعًا من المذكرات? يزعجني السؤال ويزعجني أكثر استخدام الإِدمان في صيغة
السؤال. في وعيي اندرجت الرسائل التي كتبتها على مدى سنتين في إطار دوري
كأم تسعي بكل كيانها لإِنجاح زيجة ابنتها, وفي إطار حاجتي كإنسانة للإِفضاء
وللتواصل مع ابنتي, في فترة تداهمني فيها كآبة الشيخوخة وتتضاعف فيها
الحاجة للإفضاء والتواصل.
وعليَّ
أن أقر الآن أن تدبيج الرسائل يومًا بعد يوم وصفحات بعد صفحات تجاوز
أحيانًا هدفه, وتحول أحيانًا إلى غاية في حد ذاتها. تكاثرت الخطابات على
الرغم مني كما تتكاثر النباتات الوحشية. ولكني لم أقصر يومًا في واجبي, ولا
تخليت يومًا عن واجبي كأم يعتمد وجودها على وجود ابنتها سعيدة ومتحققة: لم
أودع صندوق البريد إلاّ القليل من الخطابات التي كتبتها في غيبة حنان.
ولكن ما
دلالة بقية الخطابات التي ترقد في ملفات ثلاثة? عنوان الأول, خطابات كتبت
لترسل لحنان ولم ترسل (أقسي من أن ترسل). والثاني, خطابات كتبت لكيلا ترسل
(على غير ما هي في الحياة, تكتسب لحظات التعاسة على الورق رسوخًا ونهائية).
وعنوان الثالث, خطابات غير موجهة إلى أحد (لحظات التعرية الكاملة للذات
التي لا يجوز لإنسان آخر الاطلاع عليها).
أدركت أن
العلاقة بين حنان وزوجها قد استقامت في البعد, كما أردت لها أن تستقيم,
بمجرد أن لمحتهما يعبران الممر المؤدي من صالة المطار إلى الشارع. شيء ما
في الطريقة التي دفعا بها عربة الحقائب فيما بينهما جعلني ألهث ارتياحًا
كمن جرى مشوارًا طويلاً وآن له أن يستريح. بمدى ما استشعرت الذنب والطبيب
يشخص سبب اختلال علاقة حنان بزوجها, بمدى ما شعرت بالارتياح وأنا أرقبهما
يدفعان عربة الحقائب فيما بينهما, ووحدة تجمعهما, تميزهما, تعزلهما معًا عن
بقية البشر.
***
لم
أستشعر القلق لحظة رصدت تحفظ حنان تجاهي عقب عودتها من السفر, آمنت أن ما
بيني وبين ابنتي لا ينفصم. عشت معها كل لحظة من لحظات حياتها مكتملة, وهي
تستعد لكل امتحان, وهي تترقب في خوف نتيجة كل امتحان, وهي تتجاوز بنجاح كل
امتحان. وهي تلتحق بالجامعة وتتخرج, وهي تكبر وتتحقق. علمت ابنتي وعلمتني,
قرأت معها كل كتاب وتبادلت معها كل انطباع. عانينا معًا أشواقًا لا تشبع
للمعرفة, وحللنا معًا الأغوار السحيقة للنفس البشرية. اكتشفنا الدنيا معًا
وتصفحنا الخرائط واقتسمنا التعليقات. في زحمة الناس تلتقي عيوننا ترصد
وتسجل وتتلهف للحظة تنداح الزحمة وتلتقي رؤوسنا ونحن نعلق على ما حدث.
نفضي, نتواصل ونضحك. تداخل نسيج حياتي ونسيج حياة حنان حتى كدنا نصبح
واحدًا.
فرحت
وحنان تلتقي بهشام في الكلية, وتخبطت معها وهي تتخبط, تتلمس بين الشك
واليقين موقع الأقدام, ولم أتخبط. استرجعت معها كل حركة من حركات هشام وكل
لفتة, وكل كلمة في خطاباته الخجلة الوجلة بعد أن سافر عقب التخرج للعمل في
الخارج, وأشبعناها تحليلاً ونحن نحاول مقياس مدى عمق عاطفته نحوها.
ولم يكن
بعد هشام عن حنان بقادر على الحد من حيويتها وانطلاقها, ولكن هذا البعد حد
من قدرتها على أن تحب من جديد. وتأتي على أن أعلمها أن تمد يدها ولا تنتظر
انتظار العاجز ليد تمتد إليها طوال الطريق. علمتها أن تحسم, أيّا بلغت قوة
الحسم, فإمّا نهاية قصة حب طفولية لم تتبلور بعد في كلمات, وإما بداية حب
يقوم على أركان اليقين من مشاعر الآخر. ومدت حنان يدها الخجلة المتخبطة
لتلاقيها يد هشام, ممتنة, في منتصف الطريق. وعاد هشام من الخارج ليعلن
خطوبته على حنان بعد أيام.
لا لم
أستشعر القلق لحظة رصدت تحفظ حنان تجاهي عقب عودتها من السفر. قلت الآن وقد
استقامت علاقة حنان بزوجها, لم يبق سوى أن تستقيم هذه العلاقة بالعالم
الخارجي, وتعود إليَّ كاملة مزدهرة قادرة على العطاء.
اختنقت
المرة بعد المرة بالحاجة إلى التواصل مع حنان دونما إشباع, وتوهمت أني
أستطيع الانتظار إلى الأبد, وبهدوء وثقة, عودة التواصل والقرب مع ابنتي.
وكان أن
قذفت حنان بالملفات الثلاثة بعد أسبوعين من عودتها. وجلست, بلا حياء,
أرقبها تتصفح (رسائل لا يجوز لإنسان الاطلاع عليها). وكان أن أعادت حنان
الرسائل في اليوم التالي دون أن تقوي على قراءتها.
***
عدت لتوي
من العمل ومعي هذا الإرهاق العام الذي هو عرض من أعراض الشيخوخة... أتساءل
وأنا أستند إلى باب الشقة المغلق ورائي: لم يعاودني أحمد في الحلم وقد مات
منذ عشر سنوات? ولم يعاودني الآن وعلاقتي تتعثر بابنتنا حنان? أتساءل ما
زلت, عن مغزي الطيور السوداء في حلم أمس الأول. هل هي طيوري أم طيور أحمد
أم طيورنا معًا?
يخطر
ببالي وأنا أستند إلى ضلفة الباب المغلق إمكانية إدراج يومياتي هذه في نفس
الدفتر الذي كتبت فيه يومياتي عام 1965 بعد موت زوجي أحمد. أفتح درج المكتب
الذي لم أفتحه منذ تسع سنوات. أرقب الدفتر بغلافه الأسود السميك يرقد في
جوف الدرج وأقفله دون أن أزيل عن الدفتر طبقات من تراب يتعين إزالتها.
***
يستوقفني
اليوم زميل عائد من السعودية وأنا أمر بالردهة الرئيسية في مكان عملي...
يسألني بعد السلامات والتحيات عن إنتاجي الروائي الأخير. بداياتي كانت
واعدة, شد ما كانت واعدة, يقول, وأتمتم بشيء غير مفهوم كما اعتدت أن أتمتم
بعد أن تحولت البدايات الواعدة إلى نهايات. ونفترق وأنا أردد بيني وبين
نفسي: شيء ما خطأ, شيء ما لا يستقيم, ولا علاقة لهذا الشيء, هذه المرة
بابنتي.
لا أدين
بالاعتذار لأحد, لن أحتج بانشغالي بدور الأم, فأنا أعرف أن مسئوليتي نحو
الآخرين لا تعفيني من مسئوليتي نحو نفسي, لن أحتج بكآبة الشيخوخة فأنا أعرف
أن العمل هو الكفيل بالخلاص. أعرف هذا عقليّا, وأتساءل هل استقرت هذه
المعرفة في وجداني وشكلت سلوكي?!
يعزيني
أني حاولت, لم أكف عن المحاولة, أوراقي مفرودة على مكتبي, على سريري, يومًا
بعد يوم وليلة بعد ليلة, وأنا لا أكف عن العمل, أعدل وأبدل, أشطب وأغير, لا
أرضي عن شيء ولا أرتضي شيئًا, أسعي إلى كمال لا طاقة لي به, أو كمال لا
وجود له في هذه الدنيا. أترك عملاً وأسعي لآخر, على أمل أن يكون أفضل.
والبدايات تتكاثر, بدايات بعد بدايات لا يكتب لأي منها الاكتمال, وأنا أعمل
ضد نفسي لا من أجل نفسي, أعمل وأنا شبه موقنة أن شيئًا ما لن يكتمل لي,
أعمل منوطة بهزيمة نفسي وكأن شيطانًا يركبني.
ما لم
أتمكن من مواجهة أسباب ودوافع هذا اليقين بالفشل الذي يلازمني لن يكتمل لي
شيء أبدًا.
***
- التصاق
جنيني بالأم يترتب عليه انعدام في النضج العاطفي.
قال
الطبيب وهو يشخص سبب اختلال علاقة ابنتي حنان بهشام, بعد سنة ونصف السنة من
زواجها. وصرخت مفجوعة رافضة تشخيص الطبيب. كان تشخيص الطبيب بمثابة إشهار
إفلاس لي كأم, وبمثابة هزيمة لكل الأهداف التي استهدفتها في أسلوب تنشئة
ابنتي, واعية ومتعمدة. جاهدت عمري وما زلت أجاهد ليكون لابنتي كيانها
المستقل عني وعن الآخر, كيانها الذي يقف موقف الندية مني ومن الآخر.
وعيت
تمامًا خطورة اتكالها النفسي على بعد موت أبيها وهي في السادسة عشرة. ولم
أجد قط حاجة إلى ممارسة هذا الوعي... كان لحنان دائمًا عالمها المستقل عن
عالمي, تتألق فيه مُحِبّةً ومحبوبة. واتسع هذا العالم بعد التخرج والعمل
حتى كدت لا أراها يوميّا إلاّ في الساعات الأخيرة من الليل. وكان تعبير
(التسكع) من تعبيراتها الأثيرة إن لم تنشط في هذا الاتجاه أو ذاك من
اتجاهاتها الثقافية المتعددة والمتجددة, وإن لم تنشغل بهذه المهمة أو تلك,
أو تجتمع بهذه الشلة من الصديقات أو الأصدقاء, كانت تفسر غيبتها عن البيت
بقولها:
- كنت
أتسكع في ميدان التحرير... في خان الخليلى... في الهرم.... عند تمثال نهضة
مصر... على النيل.
كانت
كفتاة تحب الزحمة والناس ومعالم القاهرة. ولم أرد لشيء ما أن يعوق
انطلاقتها العارمة, ولا أن يوقف هذا النهم الذي لا يشبع لاكتشاف الحياة:
عيناها تضويان وحدقتاها تدوران, لا تستقران أبدًا في موضعيهما, يستقطبان
الضياء من الناس والأشياء ويعكسان الضياء على الناس والأشياء.
***
- أي
التصاق جنيني?!
صرخت
مفجوعة غير مصدقة. كان لي سنة ونصف السنة أقف على أطراف أصابعي, أصالح
وأوفق وأنصح وأعلم وأحتضن وأدلل وأستمع إلى شكوي هشام ساعات وشكوي حنان,
أقف في صف حنان مرة وفي صف هشام مرات, أعمل جاهدة على إنجاح زيجة تتوافر
لها كل مقومات النجاح ولا تنجح. أعيد الأشياء إلى نسبها الطبيعية بين طفلين
يعيشان المثال لحظة, وواقع اصطدام الأنا بالأنا لحظات, طفلان ترعبهما الهوة
بين المثال والواقع, يتخبطان حبّا وخوفًا على ضياع الحب.
واستوعبني الدور تمامًا وأنا أقوم بدور ربان السفينة لتبحر, حتى قال
الطبيب:
- التصاق
جنيني ...
وانخرطت
منهكة مهزومة في بكاء طويل, وتلقفتني حنان في حضنها تهدهدني وتدللني, وكأن
المشكلة مشكلتي لا مشكلتها.
- حنان
...
قلت
ضاحكة باكية وقد استرخيت في حضنها:
- حنان
... متي? وكيف? لقد كنت غائبة عني في الشارع طوال الوقت!
ولمعت
عينا حنان يومها بخبث الطفلة وقالت:
- كنت
أملك أن أغيب, لأني على يقين أنك موجودة تنتظرينني, أضع رأسي على صدرك ونحن
نتبادل قبل أن ننام الحديث.
وكان أن
جاهدت حنان بعدها للحصول على منحة دراسية. وسافرت هي وهشام لاستكمال
دراستهما في الخارج.
***
التواصل
مع حنان الذي كان يتأتي لي سهلاً حلوًا طليقًا كالنبع الجاري لم يعد يتأتي.
في كل مرة أحاول فيها الولوج إلى عالم حنان الداخلي تخطئ كلماتي وتصيب, من
حيث لا أدري, موطنًا للألم. في كل مرة تخرج كلمات حنان مذبوحة, وكأني أقتطع
الإِفضاء من لحمها.
أصبح
الكلام, مجرد الكلام, مع حنان كالمشي على الشوك.
***
باترة
ابنتي, كحد السيف باترة, أيًّا بلغت قسوة البتر على ذاتها باترة. تحمل
نفسها دائمًا وأبدًا أكثر مما تطيق. يخيل لي أحيانًا أنها تنام وتصحو, تجلس
وتمشي, وهي تضغط بأسنانها على شفتها السفلى متحدية كل ما هو قاصر في هذه
الحياة وظالم, كل ما هو فاسد ومزيف. يخيل لي أحيانًا أن سوطًا وهميّا
يسوطها لتنجز أكثر ما يمكن إنجازه, أفضل ما يمكن إنجازه, متجاوزة لكل
طاقتها. وحين يضنيني شعورها الحاد بقصر الحياة تقول:
- لي
رفاق ماتوا في حرب سنة 1967, فهل مات لك في سن الشباب رفاق?
وأشفق أن
أقول أورثني استشهاد الرفاق في الأربعينيات في المظاهرات والسجون الشعور
بالامتداد إلى المستقبل. وأشفق أن أقول ونحن نقترب محبطين من الذكري الأولى
لانتصار حرب أكتوبر الموءود أن الإِحباط العام هو الذي يورث قصر العمر لا
الاستشهاد. ويبقي الإِحباط ما لم يندرج شهداء عامي 1967, 1973 في سياق مد
شعبي جديد ينتشلنا من الوضع الذي تردينا إليه, متفرجين.
بعد
هزيمة سنة 1967 تغير الكثير من منطلقات حنان بلا رجعة. قالت لي في لحظة
إفضاء في أعقاب الهزيمة:
- سرقوا
الفرحة من جيلي, ولن تكتمل لواحد منا أبدًا ضحكة.
وبعد
شهور من زواجها قالت:
- ما
السعادة?
مشككة في
دلالة الكلمة على أي معنى محدد, ونحن بمعرض مناقشة هدف أي ارتباط إنساني
قائم على الحب بين الرجل والمرأة. وتأتي على أن أتنازل عن منطلقين من
منطلقاتي الأثيرة لكي تبدأ المناقشة من أرضية مشتركة. استبعدت السعادة
واقترحت استخدام تعبير التكامل أو التحقق النفسي كبديل. ورفضت حنان
اقتراحي, وذهبت إلى أن التكامل والتحقق النفسي منطلق آخر من منطلقات
الكبار. وبدأت المناقشة والهدف الأسمى للحب والزواج هو التوصل إلى حالة من
التوازن النفسي والحفاظ على هذه الحالة.
يتأتي
علينا أن نتعلم من أولادنا وإلاّ عشنا بطعم المرارة في حلوقنا. منطلق حنان
منطلق صحي سليم يجمع بين تقبل النسبي وصرامة الالتزام. ومنطلقي, بلا وعي,
هو منطلق المطلق المستحيل. استخدامي لتعبير السعادة مثلاً ليس سوى بادرة
بسيطة من البوادر التي تدل على تشبثي الساذج بكل ما هو مطلق.
المطلق
الآن في عقلي قرين الموت, رهين برفض قانون الحياة المحكوم بنسبية الزمان
والمكان والتغير الدائب. ولكن هل هو كذلك في وجداني?
***
ما مغزي
الطيور السوداء في حلم أمس الأول? أعود وأتساءل للمرة الألف. أسجل الحلم
هنا في محاولة لفك طلاسمه. غالبًا ما أنسى أحلامي بعد اليقظة ولكن حلم
الأمس محفور في مخيلتي.
رأيت
زوجي أحمد حيّا يجلس فوق صوان ملابسه يضيف تركيبة كهربية جديدة, في نفس
الحجرة التي كان يعيش فيها. في الحلم أدرك أنه مريض وإن كان قد تجاوز أزمة
صحية. أفكر في أن من الممكن أن يتجاوز أزمة أخرى وأن تمتد حياته, وتسرني
الفكرة. يغادر أحمد الغرفة ويغيب عن مدى رؤيتي. ألاحظ أن الصوان والأرضية
يحدثان مسًّا كهربيًّا أستشعره وأنا أمر بالردهة خارج الغرفة (مسّا خفيفًا
ولكنه محسوس). أصيح إبلغ أحمد بوجود المس الكهربي.
ينقلني
المس إلى مرحلة أقرب إلى الوعي, وأنا الآن لا أستشعره, ألاحظ شيئًا جديدًا.
طيور ترقد على الصوان حيث جلس أحمد سابقًا, سوداء أشبه بالبط الأسود وإن لم
تكن بطّا. طيور يبدو أن مكانها الدائم هو هذا المكان. لم ألحظها في اللقطة
الأولى وأحمد يجلس على الصوان, وإن لم أستغرب وجودها, وقد بدأت تنزل نتيجة
للمس الكهربي صفًا بعد صف, ويبقي نصفها تقريبًا في مكانه.
أقف في
الردهة مرتبكة وأنا أتعثر في طير من هذه الطيور, متحيرة لا أعرف كيف أجمع
شتاتها لأعيدها إلى مكانها, الذي يبدو في الحلم مكانًا دائمًا مرئيّا وغير
مرئي, ومحددًا بحيث تختل الأشياء إذا ما اختل. أعاود النظر إلى غرفة أحمد
ويواتيني الإِدراك أنه مات.
في
اللقطة التالية لا أعود أرى الطيور السوداء. تسترعي انتباهي مكتبة خاوية في
غرفة أحمد (المكتبة في الواقع لي وهي موجودة في الردهة). أقرر وقد وعيت أن
أحمد قد مات, أن أنقل المكتبة الخاوية إلى غرفتي لأضع فيها بقية من كتبي.
لا ألبث أن ألاحظ ما لم ألحظه من قبل, المكتبة ليست خاوية كما رأيتها في
اللقطة السابقة. المكتبة مليئة بحزم أوراق في حجم الفلوسكاب, وكل حزمة
ملفوفة بأوراق سميكة من اللون الأزرق اللبني (لون الرسائل). ومصفوفة على
شكل كتب. يخطر في بالي في ذات الوقت الذي ألمح فيه حزم الورق, وأنا في
مرحلة أقرب إلى الوعي, أن لا مكان في غرفتي لمكتبة جديدة.
يحيرني
الحلم. لم يزل. عادة ما أستطيع أن أفسر أحلامي أو على الأقل بعضها,
بالاستعانة بأوليات المنهج الفرويدي وبعض الإِدراك اليومي. غالبًا ما
أستطيع أن أرد هذا الحلم أو ذاك إلى هذا القلق أو الخوف المعين أو ذاك, أو
هذه الرغبة الدفينة في تحقق هذا الشيء أو ذاك, ولكني لا أستطيع أن أرد حلمي
هذا إلى شيء.
وأنا
أحاول هنا أن أخرج بأسئلة يفتقر معظمها إلى إجابات محددة. الطيور السوداء
هي قطعًا طيوري بمدى ما هي طيور أحمد (تعثرت بإحداها في الردهة). ولكن إلام
ترمز هذه الطيور? الخوف من الفقد, من الموت? فقد من? زوجي أحمد فقدته بدل
المرة مرتين, يوم انسلخ عني عاطفيّا قبل أن يموت بسنين, ويوم مات قبل أن
أستكمل معركتي المستميتة لاستعادة المستحيل. موتي أنا? لم أنخرط بعد في
الشيخوخة إلى حد الخوف من الموت.
الحديث
التليفوني الذي تلقيته من سمير منذ لحظات يذكرني بأني ما زلت امرأة مرغوبة,
وعرض سمير بالزواج ما زال قائمًا رغم رفضي له المرة بعد المرة.
- فكري
في الأمر بجدية, سمير أحبك دائمًا وما زال يحبك.
قالت
حنان, وأيد هشام القول في حماسة, واعترضت سوسن صديقة حنان وهي تقول:
- المهم
أن تبادله هي نفس المشاعر.
وتساءلت
سوسن وهي تضحك إن كان هشام وحنان يريدان التخلص مني والسلام, وحسمت أنا
المناقشة في هدوء قائلة:
- سمير
لا يستطيع أن يمنحني ما أنا بحاجة إليه.
وتوهمت
لحظتها أني أعرف تمامًا ما أريد, ولم أعد متأكدة وأنا أتعثر في طيوري
السوداء. إلام ترمز هذه الطيور? أهي خفايا النفس البشرية التي ترقد طبقة
فوق طبقة في أغوار اللاوعي?
وأكتشف
الآن أني أسقطت من كل محاولاتي السابقة لتفسير الحلم شيئًا أهم من الطيور
السوداء. المهم في الحلم هو هذه الحزم من الأوراق وارتباط ظهورها المفاجئ
بالإِقرار أن حجرتي لا تتسع لمكتبة جديدة. ما عسي أن تكون ماهية هذه الحزم
من الأوراق? وعلام تدل? ولم كانت ملفوفة بورق بلون ورق الرسائل? أهي أوراق
مكتوبة تشير إلى ماض مثقل لا أملك الإِفلات منه? أم هي أوراق بيضاء
(إمكانية الكتابة), وتشير إلى تطلع لمستقبل خلاص لا أملك نفسيّا الولوج
إليه (حجرتي لا تتسع لمكتبة جديدة). أم هما الاثنان معًا? وما علاقة كل هذا
بتعثر علاقتي مع ابنتي حنان? وبكآبة الشيخوخة التي تعاودني في موجات أحدّ
وأمرّ?
تبقي
الأسئلة بلا جواب.
***
ظلت حنان
تردد, منذ عودتها, السؤال:
- هل
تخليت عنك يا أمي بطريقة أو بأخرى?
وهي ترفض
بإصرار الإِقرار بأني أمر بآلام الشيخوخة, وتستبعد ضاحكة مثل هذا الاحتمال,
وترجع حالة الاكتئاب التي أمر بها إلى غضبي منها أو إِلي ما قد يكون قد
التبس عليَّ من تصرفاتها بعد عودتها. وهي تسعي لتفهم, لا تريد لتصرف من
تصرفاتها أن يغضبني أو يجرحني. وأوضحت لحنان المرة بعد المرة أنها جزء من
حياتي, وليست كل حياتي, وأن اهتمامي بها جانب من اهتماماتي وليس كل
اهتماماتي, وأن كآبة الشيخوخة عرض فيزيائي بحت لن يلبث أن ينقضي مع الأيام,
وهو حدث يعرض لكل امرأة في سني. وأن حالة الكآبة التي تنتابني جاءت نتيجة
لتراكم عوامل عديدة لم تساهم هي فيها إلاّ بالقليل.
وربما
كان هذا الكلام صادقًا, وربما لم يكن. عليَّ أن أختبر هذه الحقيقة, فأنا
أكتب هنا لأفهم, لا لأتقبل مسلمات تفرض عليّ أو أفرضها أنا على نفسي.
28
سبتمبر 1974
قرأت ما
كتبت بالأمس. أهرب من الحقائق, ولا أعرف حتى من أي حقائق أهرب. إدراك هلامي
ومبعثر يتبدي في هذه الصفحات التي كتبتها ولا يتبلور. كلمات تكاد تتجمع في
جمل مفيدة ولا تتجمع. كلمات قلتها أنا? قالتها حنان? وأسقطتها الذاكرة
عمدًا?!
ألف
وأدور حول الموضوع دون أن أتغلغل في وقائع تضعني في صميم صراع يمزقني, صراع
يتأتي عليَّ إن أردت حقّا تجاوزه, أن أحدد طبيعته وأن إبلوره في كلمات.
أسطر حلمي بزوجي أحمد في صفحات, وأتجاوز حدثًا محوريّا في علاقتي بابنتي في
سطور. أكتب:
[وكان أن
قذفت ابنتي حنان بالملفات الثلاثة بعد أسبوعين من عودتها. وجلست, بلا حياء
أرقبها تتصفح (رسائل لا يجوز لإنسان الاطلاع عليها). وكان أن أعادت حنان
الرسائل في اليوم التالي دون أن تقوي على قراءتها].
لم أتوقف
لأتساءل: لم فعلت أنا هذا الفعل المجنون? ولم في هذا التوقيت بالذات وابنتي
تخرج من مرض عضوي لتدخل في الآخر? لم أتوقف لأتساءل: أي ريح عاتية تحملني,
تسلبني إنسانيتي, تخرجني عن حدودي, تحبسني وحنان في بئر, تجعلني أحرق
وأحترق دون أن أدري? لم أتوقف لأتساءل: في أي سياق مجنون اندرج هذا الفعل
المجنون, ولا إلى أين يقودني هذا السياق? ما من فعل ينشأ من فراغ, وما من
فعل لا يندرج في سياق. أي قسوة تنطوي عليها أعماقي? وكيف واتتني هذه القسوة
في مواجهة ابنتي? كيف أصالح بين رغبتي الواعية في الانسلاخ عن عالم ابنتي
لتستكمل ما بنت في غيبتي, وبين رغبتي العارمة في إملاء جحيمي الداخلي
عليها? تعمدت أن أغيب عنها وهشام لمدة أيام في الإسكندرية, وعدت لأملي
عليها (رسائل غير موجهة لأحد).
أكانت
قسوة أم استغاثة مستميتة لغريق? أتساءل.
***
لا أملك
التوقف لاستجماع الأنفاس.
- أرجو
ألاّ يكون هذا بداية تخليك عنّي.
تقفز
جملتي إلى الوعي من أغوار النسيان, تثقب كالرصاص عقلي... يداي تتشبثان
بعجلة القيادة, وكأنها طوق نجاة, كياني يتركز في عيني, وعيناي على الطريق
خشية تصادم يبدو أن لا مفر منه, وأنا أقول لحنان:
- أرجو
أن لا يكون هذا بداية تخليك عني.
حنان وقد
صدمها قولي, تلتزم الصمت بعد أن أفاضت في شرح الموقف (لكيلا يلتبس الوضع).
من الضروري أن تحد من رغبتها الطفولية في الالتصاق بي لتحمي هشاما من
الألم, ولترسي التوازن المطلوب في العلاقة ما بينها وبيني من ناحية, وما
بيني أنا وبين هشام من ناحية أخرى, هذه العلاقة التي أصبحت بدورها حيوية
لكلينا. وصمت ثقيل يسود السيارة. ووجهي يطالعني في المرآة بشعًا.
كان هذا
قبل أن أقذف بقطعة من لحمي تنزف دمًا... لا لأحد.
***
لا أعرف
كيف غاب عني قولي لحنان بعد عودتها بأيام:
- أرجو
ألاّ يكون هذا بداية تخليك عني.
في أي
أغوار دفنته, وحنان لا تكف عن أن تقول:
- هل
تخليت عنك يا أمي بطريقة أو بأخرى?.
في أي
أغوار دفنته, وحنان لا تكف عن أن تتساءل: هل يشكل هذا القول نقطة تحول في
علاقتي بها? وأنكر أنا, صادقة, المرة بعد المرة أهمية هذا التساؤل. كنت
مقتنعة تمامًا بسلامة موقف حنان وبضرورته, ومقتنعة تمامًا بصدور هذا الموقف
عن منطلق لا أناني يكلفها الكثير. ولم أع سوى أن الأشياء لا تستقيم ودأبت
على القول:
- أنا
مريضة يا حنان, وأنت مريضة, ومن الصعب أن نمد أيدينا بعضنا إلى بعض الآن.
ودأبت
على القول وأنا أتقوقع وأتباعد:
- أن
أراك ساعة في الأسبوع مزدهرة ومتحققة, خير لي من أن أراك كل يوم مريضة
ومبتئسة. وبدا كل شيء منطقيّا وعاقلاً, وبدا كما لو كنت أستطيع أن أنتظر
إلى الأبد في هدوء وثقة, عودة التواصل بيني وبين ابنتي.
ولكني
أعي الآن أني تغيرت, وأن تلقائية الأشياء ضاعت بيني وبين حنان من يوم إن
قلت هذا القول. تحفظت في علاقتي بابنتي, وتلا التحفظ حالة تقوقع دفاعًا عن
النفس.
وحاولت
حنان منذ بداية عودتها التوصل إلى عالمي الداخلي المرة بعد المرة, ورفضت
أنا عامدة أن أساعدها. شعرت أن من الإِجرام أن أضاعف حملها النفسي, وهي
تترنح فعلاً لا مجازًا تحت وطأة هذا الحمل. ثم كان أن توقفت حنان عن
المحاولة بعد أن صفعتها بحقيقة عالمي الداخلي.
تراجعت
حنان في رعب وخوف ما زال يتملكها حتى اليوم, تراجعت في محاولة لتحاشي ألم
لا طاقة بها على احتماله, وهي معذورة في هذا التراجع تمام العذر, فهناك حد
لما يستطيع الإِنسان تحمله من ألم بشري.
***
في
محاولة للدفاع عن صورة الذات, للإبقاء على المعتقدات أو بالأحري الأوهام
الثابتة عن الذات, يعمل العقل على صد الإدراك, مرة بعد مرة, حتى لا يطفو
على السطح.
إدراك
الأشياء المؤلمة لا يتأتي إلاّ بإرادة الإنسان الواعية وسعيه الدائب إلى
بلورة الإدراك. مثل هذا الإدراك يتشكل وفقًا لصراع مع ميكانيكية للعقل
شديدة التعقيد تدفن الانطباعات في أغوار النسيان, انطباعًا بعد انطباع
وتحول بين الانطباعات والتراكم والاندراج في سياق متصل ومفهوم.
1 أكتوبر
1974
انفردت
بحنان مرتين لمدة نصف ساعة, بالأمس حين زارتني واليوم صباحًا وأنا أوصلها
إلى مبني إدارة البعثات في الطريق إلى عملي. غالبًا ما أراها مع هشام أو في
جمع من الناس, إما في بيتها أو في بيتي. يخيل إليّ أحيانًا أنها أصبحت
تتحاشي الانفراد بي.
دخلت
حنان بالأمس صباحًا في الموضوع مباشرة. كانت حالتي فيما يبدو قد شخصت فيما
بينها وهشام, وتمخض التشخيص عن علاج ناجح جاءت حنان تطرحه عليَّ.
كان لديّ
الكثير مما أردت أن أقوله لابنتي, ولكن حنان التي جاءت في مهمة عاجلة
لإنقاذي, بدت متباعدة تباعد الطبيب, محايدة حياده. سريعة حاسمة وصارمة.
افتتحت حنان الجلسة قائلة:
- آن
الأوان لكي تكملي ما بدأت.
وتطلعت
إليها متسائلة: أيّا من بداياتي التي لا تكتمل تعنين? وأجابت حنان وهي ترى
نظرة التساؤل في عيني:
- سيرتك
الذاتية التي أهملتها منذ سنين.
وتأسيت
لأنها لا تعرف شيئًا عن بداياتي العقيمة الأخرى. وتذكرت أنها اطلعت على
صفحات من سيرتي الذاتية التي لم أقربها منذ خمس سنوات.
وغبت عن
حنان في دهاليز العقم ليلة بعد ليلة, وهي تفيض في شرح الإِشباع الذي
استشعره في الكتابة الفنية ومزايا الانشغال بكتابة سيرتي الذاتية. ورفعت
رأسي بعد طول إطراق, وقلت في سخرية خفيفة لم تفت حنان:
- تعنين
كنوع من اللهو أو التلهية?
-
التلهية ذاتها هي ما تكتبين الآن.
قالت
حنان في نهائية وصرامة, وهي تشير إلى هذه اليوميات.
وتساءلت
أنا:
- هل
قرأت يومياتي لتصدري هذا الحكم?
- ولكني
قرأت الرسائل.
واستدركت
وصوتها يحتد:
- قرأت
ما يكفي.. حرام.. حرام ما تفعلينه بنفسك.. هذا انتحار.
وقبل أن
تهبط علينا سوسن (تتعمد حنان دائمًا أن يهبط علينا أحد), قلت كلامًا كثيرًا
لا أذكر الآن فحواه ولا حتى هدفه. ربما كان دفاعًا عن يومياتي هذه, وربما
كان تسويغًا لانعدام قدرتي على الكتابة الفنية الآن. وقالت حنان شيئًا بدا
في غاية الأهمية إذ ذاك, وخذلتني ذاكرتي وأنا أحاول أن أستعيده بالأمس.
***
بت ليلتي
غاضبة غضبًا جنونيّا من حنان, ربما لأني لم أستطع أن أصل إليها, كما فسرت
هي غضبتي هذا الصباح ونحن في الطريق إلى مكتب البعثات. وكان شعوري وأنا
ألجأ إلى فراشي شعور الغريق يتشبث بقشة, وأعز أعزائه يحاول أن يسلبه القشة.
وأقسي ما في الأمر أنه يملك أن يفعل. حنان تملك أن تسلبني, غير واعية
وواعية أحيانًا, هذا الاهتمام أو ذاك, بهذا الشيء أو ذاك.
ولست
متأكدة الآن وأنا أكتب هذه اليوميات من قدرتي على الاستمرار. ولكن يتأتي
عليَّ أن أواصل برغم كل شيء, لأن خلاصي يعتمد على أن أفعل.
***
ونحن
نعبر كوبري قصر النيل صباحًا, تذكرت فجأة ما قالته حنان بالأمس وأسقطته من
ذاكرتي. قالت حنان بالأمس:
- من
الخطإ الفادح الاعتماد على شخص واحد. ماذا يحدث لو اعتمد على هشام اعتمادًا
كليّا, وحدث أن مت فجأة?!
وسألت
والسيارة تتوقف في إشارة المرور المؤدية من شارع قصر العيني إلى مجلس
الأمة, عما عنته حنان بالأمس بهذا القول. وتراجعت في مقعد السيارة منزعجة
وتمتمت بارتباك:
- لم أعن
اعتمادك أنت عليّ, ربما أردت القول إن من الخطر الاعتماد على شيء واحد, لا
شخص واحد.
وانحسر
الضوء الأحمر, وقبل أن يرسب ما قالته حنان في وعيي توقفت السيارة, وانسلت
منها مهرولة إلى فناء مكتب البعثات.
4 أكتوبر 1974
لم أستطع
أن أكمل ما بدأت في الأول من أكتوبر. أكمل الآن, لا لأني أريد, بل لأن من
الضروري أن أفعل. أي قوة شيطانية دفعتني بالأمس إلى الاستمرار في عملية
تعذيب للذات والآخرين استمرت ساعتين?
بدأت أنا
الجلسة في بيت حنان كقاض يجلس على منصة الحكم يصدر الأحكام باردة بلا
انفعال, وأنهيتها شاكية منهارة, عارية بلا خجل ولا حياء, فاضحة لمدى حاجتي
ومستجدية العطاء.
ربما لو
كنت بالأمس أتحدث أو أتواصل مع أحد لأرهقني الوضع لحد الإِغماء, ولكني لم
أكن أتحدث أو أتواصل, كنت أفرغ شحنة من الغضب طال كبتها, ومن الألم ومن
الإِشفاق على الذات ومن الشعور القاتل بالوحدة وبالعجز والفقد, وكأنما
أفرغها على الورق. كنت أصرخ في صحراء, وبلا معني, بلا معنى على الإطلاق.
شيء ما
مَرضي في رغبتي في تعرية الذات, في استباحة هذه الذات وهتك عوالمها الخاصة
شديدة الخصوصية. شيء ما مرضي جديد وقديم. أذكر بألم موجع الغصّة التي
استشعرتها فترة من الزمن, لأن زوجي أحمد لا يراني وأنا أمارس هذا الجانب من
نشاطاتي أو ذاك.
ذبحت
عوالمي قربانا تحت أقدام المعبود, وضعت لأني لم أستبق لذاتي شيئًا.
***
- وكأنك
تحملينني تبعة شعورك بالإِحباط!
الغريب
حقّا أن هشاما لم يحمل لي الجديد الذي لا أعرف. بلور هشام في كلمات ما عرفت
وتعمدت كبته في الأيام الأخيرة, والأنا التي تفهم ما يقال تتفرج وكأن الأمر
لا يعنيها, والأنا التي تستشعر وطأة ما يقال تغيب تمامًا أو تكاد. فتحت
فمها لتصرخ بشيء وبقي فمها مفتوحًا دون أن تتشكل الكلمات.
قال
هشام:
- لقد
علمتني دائمًا درسًا مستفادًا من حياتك, وحرصت على أن تكرري لي ولحنان
الدرس في بداية زواجنا. وهذا الدرس هو أن من الخطإ أن يعتمد الإنسان
اعتمادًا كليًّا على الآخر, وأنا أدرك الآن كم هو حيوي وأساسي في أي علاقة
إنسانية بين ندّين. وقد استقامت العلاقة بيني وبين حنان بفضلك, وبمدى ما
وعينا الدرس الذي هو محصلة تجربتك.
وكان هذا
المدخل لكي يقول هشام:
- وأنت
الآن تعتمدين اعتمادًا كليّا على حنان.
وأن يضيف
مستدركًا وممعنًا في التهذيب:
- وعليّ.
القلم
يرتجف في يدي. ليس هذا كل ما قاله هشام ولا أهم ما قال. الأنا التي تتفرج
بدأت تنكمش, والأنا التي تشعر تتمدد بشكل يؤذن بالانفجار.
قال
هشام:
- عندما
كنا بحاجة إلى مساعدتك لتستقيم الأمور بيننا, كنت تفعلين كذا وكذا ...
***
يتعين
عليَّ الآن أن أقر بحقيقتين, حقيقة أني أعتمد على حنان اعتمادًا مَرضيّا,
وحقيقة أن حنان تضيق بهذا الاعتماد.
***
داهمني
شعور قذف بي من مقعدي واقفة, والبرودة تجمد أطرافي. أشعر أن وجودي زائد على
حاجة البشر. أجرر ساقي خلفي وأنا أتجول من غرفة إلى غرفة أبحث عن شيء ما,
أتخبط في قطع الأثاث ولا أجد ما أبحث عنه. أدرك أن شيئًا ما كان يجب أن
يكتمل ولم يكتمل, وأنا ما زلت أجرر وجودي الزائد عن حاجة البشر من غرفة إلى
غرفة.
ألجأ إلى
سريري ورجفة البرد ترجني. أشد الغطاء على جسدي إلى قمة رأسي, ألتف به. تصطك
أسناني من البرودة. ينعدم وزني وصوت في مؤخرة رأسي يقول: لا تخافي لقد
اجتزت من قبل هذه اللحظات.
يواتيني
رنين التليفون من الصالة ملحًّا يناديني وأنا أطفو فوق سريري عارية والغطاء
حولي. يخطر ببالي أن من الضروري أن أجيب وترعبني ضرورة عبور الردهة المؤدية
إلى الصالة. من الضروري أن أستمر في أداء الدور, أقول لنفسي: أي دور? انتهى
الدور, وشكرًا. قالوا: ارفعي قبضتك عنا لنتنفّس. ورنين التليفون ما زال
ملحّا يناديني: أي دور? دور من يمارس الحياة: أقول, وأنا أعتدل جالسة في
سريري.
في
الردهة أجد طيوري السوداء في انتظاري. أصارع لأصرخ الصرخة التي لم أصرخها
في وجه هشام ولا أجد الكلمات. أصارع لأتقدم في الردهة, والطيور السوداء
تعلق بساقي, ببطني, بصدري, تعوق حركتي, وحنان تصرخ: غلط, وهشام يصرخ: غلط,
أكبر غلط, والكلمات تتشكل في عقلي ولا أصرخ, تلتصق الطيور كالخفافيش بوجهي.
أهشها بشراسة لتعود, ونداء التليفون يلح, وتنفك عقدة لساني وأصرخ:
- أي
التصاق جنيني?!
يتعلم
الإنسان ولا يتعلم, إلى الرحم يدلف منتشيًا, بوشاح الحب متشحًا, بوشاح
الأمومة متشحًا والابنة الأم والأم الابنة. وما من حبل سري.
تخرج
الصرخة من فمي في نواح حيوان جريح:
- أي
التصاق جنيني?!
والطيور
تنزاح الآن عن جسدي فوجًا بعد فوج, أزيلها عن طريقي وأتحرك, تتقافز من حولي
وأتحرك, أتعايش مع طيوري وأتقدم, أستجيب لنداء التليفون. أرفع سماعة
التليفون ولا نداء. مل المنادي.
***
تدور
يداي بقرص التليفون خمس مرات في نشوة ملتاثة. كيف غابت عني حاجة سمير إلي?
نعم: سأقول لعرض سمير بالزواج, بلا أدني تردد: نعم. أملك أن أعيد إليه
الحماسة التي فقدها والإِيمان بالحياة. أملك أن أحيل عجزه قدرة وتعثره
استقامة, وأشلاءه الممزقة كلاّ موحدًا. كيف تأتّي أن أستشعر وجودي زائدًا
على حاجة البشر وحاجة سمير منذ سنين تستجديني, تسيمني العذاب, تطوقني,
تحاصرني... تتربص لي متحفزة?
تدور
يداي ملتاثة منتشية على قرص التليفون خمس مرات وتتوقف عند الرقم السادس
لتليفون سمير, وصوت في مؤخرة رأسي يقول: هكذا تبدأ اللعبة.
ما أسهل
أن يتحول اللا شيء إلى الشيء, إلى الرب واهب الحياة. هكذا تبدأ اللعبة,
يقول صوت في مؤخرة رأسي, وأسوأ ما في الأمر أنك تبدئينها هذه المرة بلا
أدني رغبة, وبوعي كامل بمدى خوائك, وفي محاولة لملء الفراغ وإيجاد بديل
لحنان.
أنكرت
وجهي في المرآة, لم يكن وجهي, قال زوجي أحمد بعد أول مرة يسافر فيها بعيدًا
عني, عيناك مرآتي, وجودي يتوقف على وجودك, حين لا ترد لي عيناك صورتي لا
أكون. وحلقت أنا فوق أرض غير الأرض, في سماء غير السماء, لم أعد الزوجة ولا
الحبيبة ولا الإنسان. استحلت إلى الرب واهب الحياة. وجود أحمد يعتمد على
وجودي وأنا الخالق لا أبخل على مخلوقي بشيء ولا أستبقي شيئًا. أسرني احتياج
أحمد. أسرني احتياج حنان, ولا يقدر على الحب الحقيقي إلا الإنسان. وما من
حب إلاّ بين ندين من بني البشر.
أضع
سماعة التليفون, ويحدث اصطدامها بالآلة رنينًا معدنيّا يحملني إلى درجة
أعلى من الوعي.
***
تتخبط
يدي تسعي إلى دفتر يحوي أرقام التليفونات التي شكلت عالمي, تتخبط عيني
تتصفح صفحة طويلة بعد صفحة. أسماء بعد أسماء. أسماء رجال ونساء, معارف
وأصدقاء, رفاق عمر وعمل واهتمامات, أسماء حفرت لي الطريق ومهدته, ظللته
بالرؤوس تتلاقي براحة الإفضاء, باللمسات العمياء تكتسب البصيرة على أيدي
الآخرين, برجفة التعرف, بلمعة الاكتشافات المتبادلة بانكسار الوحدة, بوحدة
التواصل, بضحكات الاعتداء الإنساني, بوهج العقول تسقط ستارا من البلادة بعد
ستار, تتوهج وهي تتناقش, تنصهر وهي تتناطح, تحمل الإنسان على الطريق خفيفًا
متخففًا, تحمل الإنسان واثقًا متكاملاً, مغنيًا ومغتنيًا خطوة بعد خطوة,
سنة بعد سنة, أفقًا بعد أفق... أسماء عنت لي الكثير ولم تعد تعني شيئًا.
***
ضاقت بي
مدينتي, قلت, وأنا أقفل دفتري, وصوت في مؤخرة رأسي يقول: لا مدينة لعروس
النيل ولا أصدقاء. مدينة للرب لا للضحية, ولا أصدقاء. المدينة والأصدقاء
للإنسان.
***
رن جرس
التليفون. يواتيني صوت سوسن: هل كنت في الخارج?
تسأل.
طلبت الرقم من فترة ولم يرد. نعم. أقول. كنت في الخارج ولكني عدت. هل
تستطيع أن تأتي لزيارتي هي وزوجها حمدي? تسأل. نعم, نعم. أكرر.
ويخطر
ببالي وأنا أعيد سماعة التليفون أن حزم الأوراق في حلمي لم تكن ملفوفة بورق
أزرق زرقة الرسائل, وإنما كانت مجرد أوراق بيضاء معدة للكتابة. ويخطر في
بالي في ذات الوقت, أنه يتعين على لكي أملأ الأوراق البيضاء أن أستعيد
مفردات لغتي .
1974
قالت لي
حنان, وكان تعليقها العاقل هو النتيجة الحتمية لمنطقي المجنون. بدأت الجلسة
وأنا أقول فيما يشبه الموضوعية المحايدة التي هي في الواقع قمة الأنانية:
-
أتعرفين يا حنان ما صورتك عن الذات? أنت تتصورين أنك آلهة صغيرة عليها أن
تعدل مع الكل. ومن يبدأ برغبة العدل مع الكل لا يعدل مع أحد.
وتلوت
حنان تحت وطأة الإِتهام, وإن سايرتني, وحاولت أن ترد الاتهام وجدانيّا
وعقليّا إلى أسبابه في سلوكها. أرجعت حنان ما سميته أنا بالألوهية إلى شعور
بالأمومة يستوي عندها والشعور بالبنوة, وإلى حاجة لحماية من الآخرين تستوي
عندها والحاجة إلى حماية الآخرين. وهي تريد أن تحمي هشاما وتحتمي به, تريد
أن تحميني وتحتمي بي. وللتدليل على كلامها سألت حنان إن كنت لا أشعر
برغبتها في حمايتي, وهي تتوقع بالطبع الرد بالإِيجاب, ووجدت نفسي أجيب
بالنفي, في برود, وصادقة.
***
أنكرت
بيني وبين نفسي أهمية قولي لحنان: أرجو ألا تكون هذه بداية تخليك عني. كان
إنكاري إنكارًا عقليّا مفصولاً عن وجداني. كان رفضًا لخوف عميق ينخر كياني.
الخوف من
فقد حنان فقدًا معنويّا يدمرني. لم أكتشف هذه الحقيقة إلا في أثناء انفجارة
الأمس.
يتلوي
خطّي ويتعرج, يعلو على السطر ويهبط. يتخبط الحرف في الحرف, والكلمة في
الكلمة, يصبح خطّي قبيحًا ينزف ويستنزف.
الإِرهاق
يشل يدي. غضبتي بالأمس حررتني من الإِرهاق ومن الإدراك الإِنساني, وأنا لست
بغاضبة الآن. أنا خائفة من مواجهة الحقائق, ومن ثم هذا الإرهاق الذي يشل
يدي ويجعل خطى ينزف ويستنزف.
***
الوضع
وضع ثالوث, الوضع الكلاسيكي للثالوث, ربما كنت لا واعية, وهذه حقيقة أواجه
نفسي بها لأول مرة, أقول ربما, رفضت حقيقة وجود هذا الثالوث بمدى ما رفضه
هشام.
ربما كان
منشأ الأزمة هو شعوري أن الأمر في ظل الثالوث, حسم نهائيّا لصالح هشام.
أكرر كلمة ربما لأني غير واعية بهذه الحقيقة على الإِطلاق.
إن كان
في هذا الافتراض شبهة حقيقية لانطوي الأمر على هوة عميقة بين رغبة الأم
العقلية في أن تقطع الحبل السري الذي يربطها بابنتها (أعني الذي يربط
ابنتها بها), وبين رغبة الأم في الاستئثار بابنتها والاحتفاظ بها في رحمها.
كنت أدفع حنان باستمرار لحسم الموقف لصالح هشام, فلماذا أغضب هذا الغضب
الجنوني حين يتحقق هذا?
الحسم
يسلبني الدور الذي اتخذته ذريعة لوجودي, أو بالأحري لانعدام وجودي في
السنين الأخيرة.
***
يتأتي
عليّ أن أختبر كل احتمال, أن أصفع نفسي في المرآة بصورة أقبح من صورة, أن
أخلص للحقيقة ولو خلصت معها أنفاسي. لم يعد في الأمر اختيار.
***
بالأمس
في نهاية الجلسة قالت لي حنان:
- ما زلت
عاجزة عن الفهم. لِمَ يتسبب إقتراح استئناف سيرتك الذاتية في هذه
الانفجارة?
وكانت
حنان محقة في عجزها عن الفهم برغم الأمثلة البلاغية التي سقتها للتدليل على
عجزي: الشخص المبتور الساقين المطلوب منه أن يلعب كرة القدم, والخرّاج
المتقيح الذي يتأتي أن ينفجر, وما إلى ذلك.
وأتساءل
اليوم: لم أنا مبتورة الساقين? ومن غيري بترهما?! وأتساءل اليوم وخلايا
جسدي تتليف الواحدة بعد الأخرى: لم أدمنت القيح?! اقتراح كتابة السيرة
الذاتية مظلوم ظلم الحسين إلاّ من حيث انطوي على رفض جديد من جانب حنان
لمحاولاتي لإِملاء جحيمي الداخلي عليها.
غضبتي
بالأمس لم تكن غضبة. كانت ابتزازًا رخيصًا. وتعرية الذات جزء لا يتجزأ من
عملية الابتزاز. كنت كالمحبة المهجورة تتخبط ما بين التهديد الأجوف والرجاء
العقيم. تبتز بتعذيب الذات والآخر ما توهمت أنه كان, ويستحيل أن يعود.
***
في حومة
الانفجار قلت شيئًا عن ضرورة الدفاع عن معقلي الأخير, وحقي في الدفاع عن
هذا المعقل. وصرخت حنان محتجة:
- غلط.
غلط.
توهمت
أني معقل حنان الأخير حين تعثرت زيجتها. توهمت زوجي أحمد معقلي الأخير. وما
من معقل أخير خارج عنا. قدرات الإنسان على التجاوز هي معقله الأخير.
في
مخيلتي يرتسم الآن وجه حنان شاحب البياض وقد انسحب الدم منه كما لمحته في
آخر الجلسة... لم يعد الدم ينسحب من وجه زوجي أحمد, تكرار مشاهد الابتزاز
أكسبه المناعة, فلم يعد يراني ولا يسمعني.
***
أزيل
التراب عن دفتر يومياتي الأسود, يحمل تاريخ سنة 1965. أتصفح يوميات امرأة
في الأربعين من عمرها بعد سنة من موت زوجها. أتجاوز بدايات اليوميات إلى
نهايتها. أتوقف عند صفحات أخيرة وأقرأ:
تأتي على
أن أخرج من البئر التي انحبست فيها طوال زيجتي التي استطالت سبعة عشر عامًا
سعادة وتعاسة, أو ما توهمت أنه السعادة والتعاسة, وأنا أتحرق إلى مطلق
مستحيل.
فقدت
ذاتي بعد موت أحمد, وظللت ما يقارب السنة أبدأ الجملة ولا أستطيع تكملتها,
أصارع لكيلا يغيب خبري عن مبتدئي, وأناضل لكي أجد بديلاً لمسمي من مسميات
الأشياء التي نتداولها يوميّا, يغيب عن ذاكرتي. تأتي على أن أكون, قلت وأنا
أبدأ هذه اليوميات, من أجل ابنتي. وأقول وأنا أنهيها, من أجل نفسي. فاقد
الشيء لا يعطيه. ولا يملك أن يهب الحب الحقيقي سوى الإِنسان.
تأتي على
أن أستعيد قدراتي العقلية والحسية التي أهدرتها فيما سميته السعادة في
السنوات السبع الأولى, وتجنبًا لألم فوق طاقة البشر, استطال بقية زيجتي,
وأحمد ينسلخ عني عاطفيًا ولا يعود بحاجة إليّ.
تأتي
عليّ أن أستعيد الكلمات لأبني من جديد لغتي التي لم تكن بلغتي وأنا أملك
أحمد, وأحمد يملكني , والتي لم تكن بلغتي وأنا أمارس لا واعية عملية ابتزاز
طالت سنين, أستخلص من أحمد ما كان لي ولم يعد, أو ما توهمت أنه كان لي ولم
يعد, صارخة محتدة باكية مستجدية.
تأتي على
أن أبني من جديد, كما يبني الطفل لأول مرة بيتًا بالمكعبات, نظام قيم
الإنسان التي لم تكن بقيمي, وأنا, بلا وعي, أفني وجود الآخر في وجودي, وأنا
بلا وعي, أفني وجودي في وجود الآخر. وأسمي الفناء توحدًا ومطلقًا وسعادة
فوق سعادة هذه الدنيا.
وباختصار
تأتي عليّ بعد موت أحمد, أن أولد من عدم وأن أكون, أن أبذر بذوري في الأرض,
في أعمق أعماق الأرض حتى لا تدوسها الأقدام. ولن يعاودني الاطمئنان حتى
أستشعر جذوري عميقة خشنة في أحشاء الأرض.
ولم تكن
تجربة المخاض على الورق بعد موت أحمد بالأمر السهل. ليس من السهل أن يحاصر
الإنسان بلا رحمة ذاته, مزيلاً لطبقة جميلة من الوهم الزائف بعد طبقة,
ودرعًا مزوقة لخداع الذات بعد درع. ولكنه أمر أساسي إن أراد الإنسان أن
يولد من عدم. ليس من السهل أن يتوصل الإنسان لحقيقة أن ما سماه حبّا كان
ضياعًا, وما سماه عطاء كان فناء في الآخر ووأدا للذات, وما سماه توحدًا كان
موتًا.
تحرقي
للمطلق جعلني أخلق سعادة موهومة وأعبدها, أجن في محاولة استعادة وهم لم يكن
أبدًا. تحرق للمطلق سلبني إنسانيتي, حولني إلى اللا شيء وأنا (...).
تحرقي
للمطلق كان في واقع الأمر تحرقًا للموت.
أستمر في
قراءة ملاحظات كتبتها امرأة في الأربعين في نهاية يومياتي لكيلا تنسي:
ملاحظات
نهائية تكتب لكيلا تنسي
في أعماق
كل منا ترقد رغبة كامنة في الموت, في الانزلاق إلى حالة اللا شيء والتخفف
من عبء الوجود الإنساني والمسؤولية الإنسانية تجاه الذات والآخرين. وتتضح
هذه الرغبة في السعي إلى التوصل إلى مطلق ما يلغي المكان والزمان. وإلغاء
المكان والزمان لا يتحقق إلاَّ في حالة الموت. ولا ينبغي أن تخيفنا هذه
الرغبة, فالإنسان الذي يعيها قادر على تجاوزها.
تنخرط في
إطار هذه الرغبة في الموت الكثير من صور الحب, أو ما نسميه حبّا, بين الرجل
والمرأة. ونحن نسمي هذه الصور من الحب توحدًا والمحبان يستحيلان واحدًا.
وما من توحد يواتي ندين من بني الإنسان. التوحد يعني وأد الذات لحساب
الآخر, أو وأد الآخر لحساب الذات.
علاقات
الحب / الموت هذه, تنطوي كما اكتشفت من تطورات علاقتي بزوجي أحمد, على
تبادل المواقع. كنت (...), المالك والمملوك, الوائد والموءود, الشيء
واللاشيء.
بدأت
لعبة التوحد وأنا المعبود وانتهت وأنا العابد.
الرغبة
في امتلاك الآخر تستوي والرغبة في أن يمتلكنا الآخر, والوضعان وجهان لنفس
العملة: محاولة لرفض الحياة المحكومة بالتغير ونسبية الأشياء.
لم
يقتلني أحمد كما توهمت فترة أنه فعل. لا يملك أحد أن يقتل أحدًا: يدا
القتيل في كل الحالات مخضّبتان بدمه: عروس النيل تُقبِل راضية, تنزلق إلى
المياه مستسلمة, يطويها الموج منتشية بأمل التوحد مع المعبود, بأمل أن تصبح
المعبود.
حاجة
الإنسان إلى الإنسان حاجة مشروعة وبناءة, وهي تساوي حاجته لأن يصل ما بينه
وبين العالم الأوسع والأرحب, وحاجته إلى أن يتزود بالدفء والقدرة على
مواصلة الطريق الأشق والأصعب. وهي حاجة لا يملك سوى الإنسان أن يشبعها. وهو
يملك أن يشبعها طالما ظل صاحبها وسيدها, لا عبدًا لها.
حاجة
المالك والمملوك إلى الآخر تساوي الحاجة إلى تغييب الواقع الحي, إلى وقف
الحركة, إلى تثبيت المتغير, إلى مزيد من الإنغماس في حالة العدم, وهي حاجة
تلغي ما عداها, وتلغي كل من يتجاوز حدود طرفي اللعبة.
في بئر
ضيقة ينتفي فيها العالم ولا يكون, تدور لعبة الموت الدامية, وينهد العالم
ولا يكون إذا أفلت أحد طرفي اللعبة من البئر, أو شاء أن يبدأ اللعبة مع طرف
ثالث.
العلاقات
الإنسانية الحميمة تساعدنا على الخلاص ولا تشكل الخلاص, وهي تساعدنا على
التوصل إلى معنى الحياة, ولا تشكل المعني. المعنَى يكمن في عمل يصلنا بما
هو خارج عن الدائرة الضيقة لوجودنا الفردي الضيق.
***
أكتب هذا
بسرعة لأسجل ما قاله هشام قبل أن تزول عني حالة الانفصام النفسي التي
لازمتني وأنا أقرأ يومياتي القديمة, واستمرت طوال زيارة هشام. أعرف بخبرتي
أن هذا الانفصام بين المرأة التي تتفرج وتلك التي تشعر لن يلبث أن يزول.
الشيخوخة
هي شعور الفرد بأن وجوده زائد على حاجة البشر, وأن الستار قد أسدل ولم يعد
له دور يؤديه, وهي الافتقار إلى معنى الوجود ومسوِّغه الناتج عن هذا
الشعور. والشيخوخة بهذا المعنَى حالة, وليست مرحلة من مراحل العمر, وهي
حالة نفسية وليست بالضرورة حالة فيزيائية, وإن أدت ربما قبل الأوان إلى
عوارض فيزيائية.
والشيخوخة بهذا المعنَى مرض لا يصيب سوى الإنسان المريض. لا يشيخ الإنسان
إلا إذا فقد قدراته العقلية أو جانبًا من هذه القدرات. قد يطعن الإنسان في
السن ويضطر إلى تغيير عدسات القراءة المرة بعد المرة. قد لا تحمله ساقاه
ويضطر إلى الاستناد إلى عكاز أو إلى ذراع بشرية, ولكنه لن يستشعر أبدًا برد
الشيخوخة ولا الإحساس بانعدام الوزن ما ظل يناطح, يبدأ عملاً وينهيه, يقبل
تحديًا فكريّا أو ماديّا ويتجاوزه, يتبين منتشيًا ومحتضنًا للذات المزيد من
القدرة على المناطحة, على المعرفة وعلى التوصل للهدف.
لا يشيخ
الإنسان طالما ظل عقله يضفي على وجوده المعني, يغنيه بهذا الوهج المتواصل
الذي لا يشتعل فجأة ويخمد, الذي يدفئ ولا يحرق, هذا الوهج الأزرق زرقة غاز
البوتاجاز النقي, الهادئ هدوء اليقين .
الممر الضيق
وقفت الأم في النافذة بعد الظهر تستعجل عودة ابنتها من المدرسة. وانحنت
بجذعها خارج النافذة لعلها تلمح سهام ومني من بعيد. ولم تلبث أن اعتدلت...
وكأنها لا تتعلم من التجربة. لا يلمح الإنسان من هذه النافذة شيئًا من
بعيد... بيت رمادي قديم على مبعدة بيتين يسد الشارع بالعرض ولا يترك سوى
ممر ضيق, فيبدو الطريق وكأنه مسدود. ولن تظهر سهام ومني في مرأي البصر إلا
بعد اجتياز الممر الضيق, سهام تلقي برأسها إلى الخلف وشفتاها مطبقتان في
إصرار, ومني تلهث خلف سهام, تركض لتلحق بخطوتها الأوسع والأكثر عنادًا,
تركض تتشبث بذراع سهام وكأنما تخشي أن تفلت منها فتضيع.
وتراجعت الأم إلى الخلف تمسح بظهر يدها حبات عرق تساقطت من جبينها إلى
عينيها. شيء ما جد على مشية سهام في السنة الأخيرة, شيء يوجع القلب. البنت
تمشي وكأنما هي تتحفز للدفاع عن نفسها في معركة تنتظرها في الخطوة التالية,
معركة تتجاوزها مع كل خطوة في أعجوبة...
الشمس انحسرت بعض الشيء ولكن الحرارة ما زالت شديدة, وكأن بلاط الشارع
يختزنها في الحفر, يعكسها كالهبوب محملة بروائح التقلية والبول القديم
والنفايات المتعفنة أكوامًا في الأركان. قطة تشارك أولاد أم محمد, فيما
يبدو في عملية فرز النفايات. تخرج القطة من كوم قمامة, تتمطي في ظل بيت,
تتمدد تمسح ظهرها بلسانها راضية ومستكينة.
صوت صفارة القطار يدوي من جديد يقطع سكون الظهيرة في الشارع والقطة تزحف
على بطنها مذعورة. المجنون الذي يسكن سطح البيت المقابل خرج كالعادة يمتطي
قطاره الموهوم. يطلق صفارة البدء ويشهق ويزفر كما القطار, وساقاه وذراعاه
عجل القطار. تتزايد سرعة القطار ببطء تدريجيّا ثم ينتهي بالاندفاعة
المجنونة. وكأن لاسور هناك يوقف الاندفاعة. هرب المجنون من الواقع إلى
الوهم. لا ممر ضيق في دنيا المجنون ولا مستحيل. كل شيء ممكن في دنيا
المجنون ولا شيء. يرتطم المجنون بالسور ويطلق صفارة البدء من جديد لينتهي
من حيث يبدأ, ودمه يسيل.
دم المجنون يتراكم على السور يومًا بعد يوم ولا يكف عن أن ينطح السور. ولا
حول ولا قوة إلا بالله, يقول عم جمعة البقال الذي تحول في السنين الأخيرة
إلى صاحب "بوتيك" وهو يستمع إلى صفارة البدء. ومن مسجل الولد سيد صبي
الميكانيكي, الذي استحال إلى صاحب كشك للسجائر المستوردة والحلويات ولعب
الأطفال والحبوب المخدرة والأعراض, يرتفع صوت سعاد حسني تغني أغنيتها
الجديدة للمرة الألف ...
الولد سيد القواد يسترق النظر إلى بيت مقابل وبصحبته اثنين من الأغراب عن
الحيّ. لن يلبث الغريبان أن يختفي ا عن الأنظار عبر الممر الضيق بمجرد أن
ينفتح باب من هذه الأبواب التي كانت مستورة في يوم من الأيام ويسفر عن
امرأة. من عسي أن تكون المرأة هذه المرة? أو بنت من?
تعرف هي أن طريق الاستقامة أصبح الطريق الصعب, تعرف أن التيار جارف ولا شيء
عاد يعز على التصديق. وتوجعها المفاجأة كل مرة ويطعنها الخوف والباب يسفر
عن هذه الجارة الأليفة الوجه أو تلك, عن هذه الفتاة التي حملتها طفلة أو
تلك, وسعاد حسني ترفض البطاطا ولا تكف تردد:" يا تجيب لي شيكولاته يا بلاش
يا ولد", والذباب يغطي صدر أم محمد العاري وهي ترضع وليدها وبقية أطفالها
من الصبية والبنات, لا يزيد سن أكبرهم على ثماني سنوات, يحملون إلى عشة
الجريد المسقوفة بالطين في الأرض الخلاء القمامة المفروزة أولاً بأول,
الخرق والزجاج وعلب الصفيح, وبقايا طعام قد يسد الرمق. ودم المجنون لا يكف
عن أن يتراكم على السور. والعجيب حقّا ألا يجن العاقل.
في المطبخ تقشر الأم الباذنجان الرومي لتقلي شرائحه, والأرز لم ينضج بعد,
أخرت المواصلات عودتها اليوم من المدرسة إلى البيت, وسيرتفع عويل مني لحظة
تكتشف أن طعام الغداء لم ينته بعد. وسهام... حكاية سهام طويلة. بنت الحادية
عشرة كبرت قبل الأوان.
في سن سهام كانت هي قطة مغمضة لا تعرف من أمور الدنيا شيئًا, تعلق ثوب
العيد على جدار سرير أمها النحاس وتدور فرحة تتأمل الثوب طول اليوم, وتنام
تحلم بلحظة ترتديه في الغد. لم تكن تعرف آخر خطوط الموضة ولا نوعية القصة
والقماش الذي يتواءم مع الموضة, ولا بقية الأطفال, في الشارع والمدرسة على
السواء, عرفوا. كان فستان العيد جديدًا وكان هذا يكفي ليجعله جميلاً في
عينيها وفي عيون بقية الأطفال. يوم مرضت في عيد من الأعياد بقي ثوب العيد
معلقًا على جدار السرير التي تشارك أمها فيه ثلاثة أيام, تتأمله محمومة,
يحملها فرحة إلى الشارع صاخبًا بالألوان والأطفال والضحكات والصرخات,
بالصداقات تنمو فجأة, بالخصام ينداح وكأن لم يكن, بالانتماء, بالألعاب
الوهمية يتقمص فيها كل طفل دورًا يأخذه بمنتهى الجدية, سواء كان من العسكر
أو الحرامية, بعالم الطفولة المسحور يستغلق على الكبار, بلغته باصطلاحاته
بمعاييره وقيمه التي تساوي بين الكل ولا تميز طفلاً عن طفل.
وخدش حد السكين أصبع الأم وأدركت فجأة أن مواجهة ابنتها سهام أصبحت تخيفها
أحيانًا. وغسلت أصبعها وراقبت الماء يتلون بالأحمر ثم يصفو, وأكملت ما
بدأت. وآلمها الجرح وهي تغمس شرائح الباذنجان في الماء والملح, وقررت أن
الدنيا تغيرت ولم يعد فيها طفولة ولا أطفال, والغني والفقر والأسود والأبيض
يتلازمان حتى في مدارس الأطفال, حتى في الحواري...
سقط الفاصل بين عالم الكبار والصغار, وقدرة قادر تحيل الأبيض أسود وقسوة
المعيشة, تضفيان على الأسود وهج الذهب الوحشي الفتاك, والسطوة. والكل يرى
ويعرف, ويشيخ بما يعرف.
ووضعت الأم المقلاة بالزيت على النار وحمدت الله لأن سهام لا تميل إلى
الاختلاط وتعتذر عن الزيارات ودعوات أعياد الميلاد. وتساءلت وهي تنتظر تحول
الدخان المتصاعد من الزيت إلى اللون الرمادي الغامق, إن كانت سهام تكره
الاختلاط فعلاً, أم تكره الظهور أمام زميلاتها في المدرسة بأثواب ترثها
"مني" حين لا يبقي في ثنية الذيل مزيد للاستطالة?
أمس الأول سألتها سهام سؤالاً لا يزال يصيبها بالذهول, تساءلت البنت عن ثمن
السيارة الرولزرويس إن كان ثمن السيارة المرسيدس ثمانين ألف جنيه. ولم تصدق
أذنيها لأكثر من سبب, فطلبت إعادة السؤال وأعادته البنت, وأجابت هي في حدة
متسائلة عن دخل سهام في كل هذا!
وهي تعرف الآن أنها احتدت عامدة لتكسب وقتًا لتفهم فيه فحوي السؤال أولاً,
ولتفهم فيه ثانيًا مغزي توجيه البنت لمثل هذا السؤال الغريب. وخمنت أن
الرولزرويس سيارة أغلى من المرسيدس وهو ما لم تكن تعرفه حتى لحظتها, وهي لا
تستطيع أن تفرق بين السيارتين حتى الآن. وتعجبت من حقيقة أن في الدنيا
سيارة بثمانين ألف جنيه وهو الاحتمال الذي تستبعده حتى الآن, وأن في مدرسة
البنتين أهلاً قادرين على شراء مثل هذه السيارات. وفجعت لأن سهام تبدي
اهتمامًا بمجال خارج على كل سياق متصور أو معقول في إطار أسرتها وبيئتها.
ولم يزدها فهم فحوي السؤال إلا حدة, فطالبت البنت بالتزام حدودها والالتفات
إلى دروسها.
وتساءلت البنت إن كانت تستطيع أن تشتري حين تكبر سيارة, ولو "نصر" لو تفوقت
على طول الخط وادخرت كل قرش ممكن من مصروفها وعملها حين تتخرج? وأربكها
سؤال سهام واحتمت وهي تجيب بالمثل الذي يقول: لكل مجتهد نصيب. ولم تصدق
نفسها وهي تعيد كالببغاء المثل الذي صح قديمًا ولم يعد يصح. وإن تأتي أن
يتمسك الإنسان بالمثل كما يتمسك الغريق بحبل النجاة, حتى لا ينحرف أو يصاب
بالجنون.
وتراجعت الأم إلى الخلف والباذنجان يستقر في المقلاة, حتى لا يصيبها رشاش
الزيت المغلي. وطالعتها نظرة سهام تتفحص ملابسها وهي في الطريق إلى العمل:
هذه التفصيلة قديمة لم يعد أحد يلبسها, تقول سهام. ربما لو قصر ذيل هذا
الفستان يكون أفضل, تقول وهي تتفحصها بنظرة غريبة, وكأنها تلميذة من
تلميذاتها وليست بابنتها. كم هي موجعة هذه النظرة لسهام ذاتها ولها هي. كم
هو مؤلم أن نري أحيانًا بعيون الغرباء, وأن يرانا أحباؤنا بعيون الغرباء.
نتعري لحظتها ونصاب ويصابون بالاغتراب.
وقلبت الأم شرائح الباذنجان في الزيت المغلي وعاودها الشعور بالذنب وكأنما
اقترفت جرمًا. سترصد سهام غياب اللحوم على مائدة الغداء لليوم السادس على
التوالي, وإن كانت في حالة نفسية جيدة ستسجل هذا الغياب:
- هل أكلت القطة اللحمة يا ماما?
وقد تجاري هي سهام في سخريتها أو تكتفي بالابتسام, وجو السخرية الخالي من
المرارة, والمليء بالإفضاءات الصغيرة المتبادلة, يحمل الأسرة راضية إلى
نهاية الوجبة. السخرية لا تهم ولا التهريج. كل شيء يهون أمام صمت سهام
وامتناعها عن التعليق... لم تعد تعرف كيف تعامل البنت, وهذا يجعل مهمتها
كأم أصعب.
"وطش" الباذنجان المغلي وهو يستقر في طبق زجاجي به خل وثوم, وتساءلت الأم
كم مرة أوشكت أن تصارح سهام بحقيقة الوضع المالي للأسرة? راتب الأب الشهري
من وظيفته الأصلية والإضافية إلى جانب راتبها هي من العمل كمدرسة ودخلها من
الدروس الخصوصية, يغطي بالكاد مصاريف مدرسة البنتين والكسوة الضرورية ولقمة
العيش في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار. كل ضروريات الحياة تستحيل بالتدريج
إلى كماليات. أدرجت اللحمة من سنين في بند الكماليات عدا يوم أو يومين في
الأسبوع, وبعد اللحمة الفاكهة, ويأتي الآن الدور على الخضار. لم تعد قادرة
على تقديم طبق سلطة أخضر يوميّا على المائدة رغم أهمية الفيتامينات
للبنتين. ولولا أن إيجار الشقة قديم لاستحالت حتى لقمة العيش.
كم مرة أرادت أن تشرك سهام كبالغة في تحمل المسؤولية وأشفقت. كم مرة
استفزها الوجه العارف الغاضب وشرعت تكمل المعرفة لتذهب الغضب?
كم مرة تراجعت, وطعنة لا تكف عن أن تفاجئها, وهي تدرك من جديد كل مرة, أن
الوجه العارف وجه صغير, وجه طفلة أنضجها قبل الأوان عوز لم يكن على بال
أحد, لأبوين متعلمين تعليمًا عاليًا, يعملان مما يزيد على الاثنتي عشرة سنة
في وظائف حكومية في منتهى الاحترام, وعمارة أصبح يمتلكها الولد سيد القواد
ومحل بقالة تحول إلى "بوتيك", وسيارة بثمانين ألف جنيه يمتلكها موظف من
المفروض أن يماثل دخله دخل آباء التلميذات من الموظفين.
لن تكون هي والزمن حربًا على سهام. يكفي ما تعلمت قبل الأوان, ولعلّ الأيام
تعلمها ما فيه الكفاية ويزيد.
***
ظهرت (منى) في مرمي البصر, على غير العادة دون سهام, مهرولة متدحرجة
كالكرة, والحيّ يقيظ بعد القيلولة, والمجنون ما زال ينطح الصخر. وتوقفت مني
تحت النافذة تشير بذراعيها إشارات مبهمة لم تفهم منها أمها شيئًا. ووضعت
حقيبة المدرسة على أرض الشارع وبدأت تقفز في الهواء قفزة أعلى من قفزة.
وكادت الأم تصرخ هلعًا, ودراجة في الطريق يقودها صبي تتفادي (منى) بالكاد,
ولم تصرخ. التقطت سهام حقيبة الكتب من على الأرض وسحبت (منى) مرغمة إلى
البيت.
وتركت الأم باب الشقة مفتوحًا للبنتين, وتساءلت عما جعل (منى) تسلك هذا
السلوك الغريب وهي تتجه إلى المطبخ تسخن حلة خضار تبقت من طعام الأسبوع.
وسمعت خطوات (منى) تهرول في الصالة ومالت تصب قليلاً من الماء على الخضار
الذي تجمد في الثلاجة.
وكادت الأم تنقلب فوق النار والحلة, و(منى) تطوق ساقيها من الخلف في
اندفاعة مجنونة. وربتت كتف (منى) لتفلت ساقيها واستدارت تواجهها. ورفعت
إليها (منى) عينين تضويان بألف ضي وضي. ونأت الأم بنفسها و(بمني) عن النار
وهي تسحبها إلى وسط المطبخ تسأل:
- فيه إيه يا (منى)? فيه إيه يا حبيبتي?
وأجابت (سهام) في احتقار وهي تقف على باب المطبخ مربعة الذراعين:
- حاتتجنن يا ستي. حا تمثل في حفلة المدرسة.
وأضافت (منى) في اعتداد جديد عليها:
- دور تاجر الحرير في رواية هارون الرشيد.
وأطلقت ضحكتها التي تشبه صياح الديكة وبدأت تدور حول نفسها دورة أوسع من
دورة, ورنين ضحكتها يختلط بصفارة المجنون يقلع, والدائرة تتسع تكاد...
وصرخت الأم في هلع:
- النار يا (منى).. النار.
وتوقفت (منى) لحظة واجمة تواجه النار والباذنجان المقلي, واستدارت, وقد
أظلم وجهها, ثم التقطت أذنها صفارة القطار يطلقها المجنون وضحكت ضحكتها
تشبه صياح الديكة, واندفعت إلى الصالة تشهق وتزفر: قطارا عجلاته ساقاها
وذراعاها.
والتقت عينا الأم بعيني سهام وهي تناولها طبق الخبز لتضعه على المائدة,
وعاودها هذا الشعور بالارتباك الذي يعاودها كلما حاولت أن تصل إلى قلب
ابنتها الكبرى. وتعثرت الكلمات على لسانها, وحين خرجت جاءت نغمتها مزيجًا
بين النغمة التي نخاطب بها الصغار وتلك التي نخاطب بها الكبار:
- وإنت يا حبيبتي دورك إيه في الرواية... الملكة?
وتوقفت يد سهام لحظة في منتصف الطريق إلى طبق الخبز, وقبل أن ترخي جفنيها
رصدت الأم النظرة العارفة التي ومضت في عيني ابنتها, نظرة تقول: أتضحكين
عليَّ يا أمي, أم على نفسك? أنا عرفت وضعي في الحياة وما من وهم يا أمي
ينسيني وضعي.
ومدت الأم يدًا مرتجفة تحتضن اليد الطفلة التي استقرت على طبق الخبز,
واحمرّ وجه سهام وسحبت يدها بالطبق في حركة عنيفة كادت تخل بتوازن الخبز.
وعند باب المطبخ قالت سهام ربما في اعتذار, وربما في محاولة للإفلات من
لحظة تواصل شعورية مكثفة:
- أنا جعانة يا ماما... عايزة آكل.
والتقطت الأم الخيط من ابنتها, وقالت متخففة بدورها من اللحظة الشعورية
المكثفة:
- حاضر يا حبيبتي. بس لهّي مني شوية أحسن تفتح جعورتها.
ولكن مني لم تعد بحاجة إلى من يلهيها. أظهرت في أثناء وجبة الغداء استغناء
عن الكل, واستقلالاً أغاظ سهام التي تعودت أن تتبعها مني كظلها. ولم يكن
الأب موجودًا ليشهد التطور الجديد في العلاقة بين البنتين, ولو كان موجودًا
لما رصد التطور, فهو دائمًا مهموم بأمور المعيشة, خارج البيت وداخله.
لم تكد مني تمس الطعام, ظلت تضرب الصحن بالشوكة والملعقة ويدها تنتقل من
جانب من الصحن إلى الآخر في روية ورشاقة, وأذنها تنصت إلى الإيقاع المتصاعد
من الصحن تصوّبه كلما مال إلى النشاز. وحاولت سهام أكثر من مرة إلزام مني
بالهدوء, واحتجت مني مرة واحدة بأنها تعزف الأكسلوفون, ثم لم تعد تسمع
نواهي سهام. اختلطت أنغامها بصفارة البدء يطلقها المجنون وهو يقلع.
ومع نهاية الوجبة حاولت سهام أن تعيد الأوضاع إلى ما كانت عليه بينها وبين
أختها. اتجهت إلى غرفة البنتين المشتركة, دون أن تساعد كالعادة في جمع
الأطباق وغسلها, وتعمدت أن تحدث ضجة بمقعدها وهي تغادر المائدة, وأن تبطئ
من خطوتها لتهب مني مهرولة تلحق بها كظلها. ولم تغادر مني المائدة, بل لم
تلحظ حتى أن سهام قد غادرتها. وطرقت سهام باب الغرفة خلفها في عنف لتجذب
انتباه مني, ورصدت مني انغلاق الباب دونها بلا اهتمام. وصوّبت النغمات
تتصاعد من صحنها وهي تعزف الأكسلوفون.
***
استمرت تدريبات حفل المدرسة أسبوعين ومني تخرج صباحًا من البيت مع سهام
وتعود من المدرسة في الخامسة بعد الظهر وحدها. قاطعت سهام الحفل على أساس
أنه تمثيل في تمثيل وقلة عقل أطفال. ورفضت في إصرار, رغم إلحاح أمها
الدائب, انتظار انتهاء أختها من التدريبات لتعود بها.
وقالت مني, وقد عادت وحدها لأول مرة, إنها تعرف الطريق, وفي كبرياء جديد
عليها, أكدت أنها لم تعد صغيرة وبينها وبين التاسعة ثلاثة شهور عدّا على
أصابعها. وبعد هذا الحديث الطويل سكتت مني وانزوت في محاولة دائبة ومتصلة
للانفراد بنفسها. وتنبأت سهام بقرب إصابة مني بالجنون كلما مرت بها متكورة
في هذا الركن النائي أو المظلم. ولم يعد البيت يرتج بصيحات الديكة تطلقها
مني ولا بتعليقات سهام الساخرة تثير الضحكات.
وطوال الأسبوع الأول من تدريبات حفل المدرسة حاولت الأم وفشلت في انتزاع
مني من دائرة العزلة, وفي إقناع سهام أن عزلة مني ليست جنونا بل مجرد إرهاق
بدني من التدريبات. وكان أن انشغلت عن ملاحظة الأعراض الغريبة التي بدأت
تظهر على مني بتصحيح الكراسات وأعمال المنزل. ولكن سهام لم تنشغل عن أختها
التي خرجت من دائرة نفوذها تمامًا. رصدت بدقة الأعراض يومًا بعد يوم, وإن
امتنعت عن التعليق حتى استفحل الأمر. قبل حفل المدرسة بأيام انشغلت الأم
بخياطة ثوب جديد لسهام اختارت قماشه بنفسها وجاءت بباترون للموديل من إحدى
زميلاتها في المدرسة. وكانت الأم تجلس في الصالة تلفق ذيل الثوب الجديد وقد
انتهت منه حين خرجت سهام من حجرة البنتين المشتركة على أطراف أصابعها
وأشارت لها أن تتبعها.
وفي حجرة البنتين وجدت الأم مني تجلس على سريرها تحد النظر إلى لا شيء, وما
بين اللحظة واللحظة تضيق حدقتا عينيها وتتألقان ببريق وهاج وكأنما ترى رؤية
بارعة الجمال. وقالت سهام:
- حاتتجنن, قلت لك حاتتجنن.
وأفاقت مني وكأنما من حلم وتطلعت إلى سهام ثم إلى أمها, ومسحت حبات من
العرق تجمعت على جبينها وهي تتعرف عليهما وأطرقت لحظة. وطافت نظرتها
بالحجرة وتوقفت عند البلاط العاري, وأريكة تدلت أحشاؤها, وشق في الحائط
المقابل يتعمق يومًا بعد يوم. وبدت نظرتها كنظرة فأر وقع في المصيدة.
وأشاحت مني بيدها تطلب إلى أمها وأختها الخروج من الحجرة, واستلقت على
سريرها متظاهرة بالرغبة في النوم.
وخرجت الأم وهي على ثقة بأن ابنتها محمومة, تبحث عن ميزان الحرارة. ونسيت
تماما أين وضعت الميزان, وسهام تحول بينها وبين التركيز, تؤكد أن مني لا
تأكل على الإطلاق وهي تقلب رفوف الصوان رفّا بعد رف بحثًا عن الميزان. كم
مرة انتوت أن تعيد ترتيب أشيائها, وما من وقت على الإطلاق في الدوامة التي
يعيشها الإنسان في هذه الأيام لإعادة ترتيب الأشياء والتقاط الأنفاس, وسهام
تعود منتصرة:
- بصّي.. حتى السندويشات نسيت تديها للعيال زي ما بتعمل كل يوم.
وهي محمومة تبحث عن ميزان الحرارة, وسهام تؤكد أن مني لا تنام, تقضي الليل
مفتوحة العينين مستلقية على ظهرها, ولكنها لئيمة, ما تكاد تلمح النور حتى
تغلق عينيها متظاهرة بالنوم. وتعتدل الأم وقد وجدت ميزان الحرارة أخيرًا.
تقول في لوم لسهام:
- مني عيانة يا سهام.
والأم تدس ميزان الحرارة في فم مني وتعود تدسه, والميزان لا يصل حتى درجة
73, ومني تحتج قائلة:
والأم تعري مني, تقلبها, تتحسس جسدها جزءًا بعد جزء, متشبثة بفكرة وجود خلل
ما جسدي يبرر السلوك الغريب, وجسد مني يتصلب تحت يدي الأم, يذكرها بعبث
محاولتها, يرفضها, ينئيها, ينفيها.
وأطفأت الأم النور مخذولة ومني تسدل الغطاء على جسدها حتى قمة رأسها.
***
أضيئت الأنوار في الصالة, وانفتح الستار ليحيي جمهور الأهالي أولادهم
وانسدل. والستار مفتوح, تبادل الأطفال على خشبة المسرح, والأهالي في الصالة
والبناوير والألواج, البسمات والتحيات, والقاعة ترتج بكلمة برافو تتردد ما
بين الحين والحين على نغمة التصفيق المتقطع, بعد أن تعب الأهالي من التصفيق
الممتد.
وحاولت هي أن تسترعي نظر مني المرة بعد المرة وفشلت, وقفت مني على خشبة
المسرح موجودة وغائبة. بمدى ما بدت سعيدة طوال المسرحية بمدى ما بدت تعيسة
وقد انتهت. طوال العرض بدت مني سعيدة مندمجة في دورها, وفي هذا العالم
الوهمي الجميل التي بدت جزءًا لا يتجزأ منه, وهي تتحرك واثقة الخطي, تتكلم
بطلاقة غريبة عليها, وبانطلاقة لا حدود لها. خلصت مني لعالم الغناء والرقص
والطرب والألوان الحريرية الساخنة والمجوهرات الماسية والتيجان الذهبية,
وخلص لها. لم تخرج عن عالمها الوهمي ولو للحظة, ولم تشعر بشيء عداه. وكان
أن أجادت دورها كما لم يجده أي من الأولاد والبنات المشتركين في المسرحية,
ففيم الاكتتاب وقد انتهت المسرحية? وفيم نظرة الفأر وقد وقع في المصيدة وهي
تقف بين أطفال يتألقون وهم يتلقون التحية?
وطال انتظار الأم لمني في ردهة المسرح الخارجية. ولو لم تسمح لسهام بالعودة
إلى البيت مع الجارة وأولادها لأرسلتها لاستعجال منى. وراقبت الأم الأهالي
ينفضون بأولادهم فوجًا بعد فوج. ومع انتظام النمط استطاعت أن تفرق بين من
لا يملك من الأهالي سيارة, ومن يملك سيارة يقودها الأب أو الأخ الأكبر, ومن
يملك سيارة يقودها سائق يلبس زي سائقي السيارات الملاكي كما في تمثيليات
التليفزيون.
الأهالي المشاة ينعرجون بمحاذاة حائط المسرح, يختفون في الظلمة حتى قبل أن
تنتهي درجة السلم الأمامي الأخيرة, والأهالي أصحاب السيارات التي يقودها
الأب أو الأخ, يبرز الواحد منهم مفاتيح السيارة دون حاجة, وفي افتعال
ملحوظ, ربما لأن منظر السيارات الفارهة تمرق لامعة, وتتوقف تسد باب المسرح,
تداهمه مثلما تداهمها..., وأصحابها يتلكأون أمام سياراتهم الفاخرة يتبادلون
الحديث, والسائق بزيه الرسمي يفتح أبواب السيارة بابا بعد باب, وتدلف
النساء يجررن ذيولهن إلى السيارة أولاً, إما بأثواب السهرة المطرزة بالترتر
والخرز, أو محجبات. ولكن أي حجاب يا إله السموات? وأي كمية من اللولي الحر
تعقد الغطاء على الرأس كالتاج, وتلتف على العنق اللين المرتاح كالسوار?!
والتقت عين الأم بعين أم أخرى تنتظر ابنتها أو ابنها, وابتسمتا ابتسامة
كسرت الشعور بالغربة في هذا الجو المعادي والمستفز. تعرفت كل منهما على
الأخرى كموظفة, وربما كمدرسة, وكل تلبس هذا "التايير" الكلاسيكي الصارم
المعد للمناسبات, يعيش على مر الأيام, ويتغير على مر الأيام بوشاح جديد أو
"بلوزة" جديدة وربما بوردة صناعية. وداهم الأم القلق وزميلتها الموظفة
تودعها ملوحة وتغيب في الظلمة.
الفوج الأخير من الأهالي ينصرف ومني لا تخرج. المكان الآن شبه خال وأنوار
المسرح تنطفئ بالتدريج وهي لا تعرف فيم تأخير مني في الخروج هذا التأخير
الطويل. وولجت الأم صالة المسرح ولمحت بابا جانبيّا وارتقت درجات السلم
التي تؤدي إليه وسارت في ممر طويل يتسلل إليه نور من عتبة باب مغلق, وهي
تنادي مني وما من جواب. ودفعت الباب ودخلت ووجدت نفسها في حجرة معتمة الضوء
مستطيلة كالممر تتراكم فيها في فوضي ملابس التمثيل, خلعها الأطفال في عجل.
وعاودت النداء دون جدوي. وفي نهاية الحجرة وجدت مني بملابس التمثيل مكومة
في ركن من الأركان وهزتها:
- جرى إيه يا منى... مش حنروح بقي يا حبيبتي.
وخفضت مني رأسها وضغطت بأسنانها على شفتيها واستسلمت بوجه مظلم لأمها وهي
تخلع عنها ثياب التمثيل. وشاءت مني أن تستقل بارتداء ملابسها الخاصة. وتبعت
أمها مستكينة. وعند باب حجرة الملابس توقفت مني تلقي نظرة أخيرة على المكان
ورائحة كريهة تنبعث من ملابس حريرية عطنة وبقايا طعام, وعلب مياه غازية
وزجاجات تسيل بقاياها. تيجان ذهبية وفضية من ورق ملقاة على الأرض في إهمال,
وزهور صناعية داستها الأقدام في الطريق إلى الخروج, وقلادة هارون الرشيد
الذهبية سلسلة من الصفيح, تلتف حول عنق فانوس ورق بلا نور. واستدار فم مني
وكأنها توشك على البكاء, وأقفلت الباب في بطء خلفها.
***
سالت دموع مني بلا صوت وهي تجتاز الممر الضيق في طريق العودة. وانتزعت يدها
من يد أمها بمجرد أن لمحت الأطفال يجتمعون كعادتهم كل ليلة لمطاردة
المجنون. وقطعت مني المسافة من الممر إلى البيت تجري, تحتمي من الحصى يندفع
من الأرض ويتساقط من السماء. وارتفع عويل مني في بير السلم والأطفال
يتفرقون, يشيعهم المجنون باللعنات,
الألف تعقد صفقة, ثمنها الشيكولاته, لا البطاطا.
***
فتحت سهام باب الشقة, وتوقفت لحظة ترقب الدموع في عيني أختها الصغرى ثم
تراجعت تفسح الطريق. ووقفت مني في وسط الصالة تمسح دموعها بظهر كفها.
وطوقتها الأم من الخلف, تربت كتفيها وتقبل شعرها. وأفلتت مني من ضمة الأم,
وتجاهلت يد سهام الممدودة إليها, وسارت إلى غرفة البنتين المشتركة بخطى
ثقيلة, ملقاة الرأس إلى الخلف مطبقة الشفتين.
وأدركت الأم أن مني قد كبرت بدورها. وأصابها الدوار وهي تشعر بسرعة إيقاع
الحياة.
كبرت بعد العاشرة ومني ولم تبلغ التاسعة من عمرها.
وطفرت الدموع إلى عيني الأم وهي تعتدل واقفة.. وتذكرت أن أباها بكي يوم
أدركت سن البلوغ وهي في الثانية عشرة. بكي أبوها خوفًا عليها في أيام كانت
الاستقامة فيها هي القاعدة لا الاستثناء, على كل المستويات. واستشعرت فداحة
مسؤوليتها الجديدة كأم. وترحمت على أيام زمان.
وتمنت الأم على الله, وهي تخلع عنها ثوب المناسبات, أن يعين البنتين على
اجتياز الممر الضيق بسلام .
الرسالة
في جوف الليل أقفز من سريري, يتأتي عليّ الآن أن أتخذ الخطوة الأولى, أن
أكتب الرسالة. أخيرًا وجدت الحل لأني فهمت السر, لم تعد رجلاً بالنسبة
إليّ, تحولت إلى أسطورة. الساعات القليلة التي جمعتنا, حكاياتك وخيالي, في
كمال الأسطورة جمدتك. ولا خلاص من الجنون الذي أعيشه دون المواجهة, مواجهة
الرجل لا الأسطورة. الواقع وحده هو الذي يملك أن يبدد الأسطورة.
ليس من السهل عليّ أن أخطو الخطوة الأولى, أن أكتب رسالة لغريب لا أكاد بعد
شهر أذكر ملامحه, غريب يقف على طرف النقيض مني وكتفه لصق كتفي, كما أوقن
الآن. ما حدث في رحلة القطار يخل بكل عقل ومنطق. شيء غير طبيعي. في منتهى
الطبيعية بدا ونحن نضحك. شيء ما لم يحدث لي من قبل وربما لن يحدث لي من بعد
بمثل هذه الطبيعية والاكتمال, كما أتنفس حدث ونحن نضحك معًا. ما أندر الرجل
الذي يعرف كيف يضحك! جنبك جلست لاهية أضحك, لا أتصور أن شيئًا ما يمكن أن
يحدث بيننا ولا أستغرب والشيء يحدث, أتفتح له لحظة العتمة وكأن من الغريب
ألا يحدث, وكأني على موعد معه من ألف عام. لم أعرف فيك الهارب الأبدي
لحظتها.
ولكن أن يحدث ما حدث في ساعات شيء, وشيء آخر أن يتمدد كالسرطان طيلة شهر في
كياني. هذا هو الجنون المطبق الذي أعرف الآن كيف أتجاوزه. يتأتي عليّ أن
أراك مرة ثانية وجهًا لوجه, رجلاً من لحم ودم, لكي تتبدد الأسطورة. ولا بد
وأن تتبدد. ما حاجة امرأة من طرازي إلى أسطورة? أنا أحيا الواقع لا
الأسطورة. الأساطير قدرك أنت لا قدري.
مشكلات كثيرة لا بد وأن تحسم إذا تأتيّ للرسالة أن تكتب وأن ترسل, وأنا لا
أملك الاختيار. طبيعتي وطبيعتك وطبيعة العلاقة بيننا, إن كان يمكن أن تسمي
علاقة بالمعنَى المفهوم. صيغة الخطاب مثلاً: هل أنت على الورق عزيزي, ورق
ستتداوله أنت وربما الآخرون. أم أنت عزيزي الأستاذ, كما ينبغي على الورق أن
تكون. كما يستوجب العقل أن تكون. أهو العقل أم الخوف من الرفض: من الليل
مثخن بالجراح, من الفجر مُطعم بالمرارة, من الصبح والقامة تعلو أكثر مما
تعلو عادة والكلمة والضحكة, من الغروب وعودة الكليل مرهقًا من الوقفة على
خشبة المسرح? أهو العقل أو الخوف من الآخرين: من نظرات تحيي وتميت, من
همهمات لا تتشكل, من أصابع مصوبة باتهامات لا تبين? هو الخوف قطعًا. [
ماشاء الله! شهر الجنون بدأ يتمخض فاحتضنني الشوك. استعدي لتلقي المولود
الجديد, كومي يديك. وإلى أي نهاية يمكن أن يقودني هذا التفكير المجنون? ]
الصدق مع النفس وواقع الأمر يحول بيني وبين مخاطبتك بصيغة الأستاذ, أي
مفارقة حقيرة هذه?! عزيزي: أكتب أخيرًا على الورق. وليس الصدق مع النفس ولا
واقع الأمر هو الذي يحسم التردد, بل شخصيتك أنت وحاجتي الملحة إلى وأدك.
على أن أكون في منتهى الحرص لكي تستجيب لدعوة اللقاء. اختيار النغمة مثلاً
ليس بالأمر السهل, ما أكثر ما يتوقف عليه اختيار نغمة الرسالة وما أعقد ما
يتطلب! وكيف أتوصل إلى إيجاد تعادل دقيق بين هذا الكثير من النقائض?! صورتي
في نظري وفي نظر الناس, وصورتك كما حرصت على توكيدها في حكاياتك المشوقة.
حكاياتك هي كل رصيدي منك, وست ساعات مستحيلة في جمالها واكتمالها. ما أفدح
الرصيد حين يكون خاطفًا! يستحيل إلى أسطورة. لم أعرف فيك الهارب الأبدي
وقبضتك تفسح لي الطريق في زحمة رفاق الرحلة, وقبضتك تقرع مسند المقعد
الحديدي ضيقًا بالفاصل قبل أن يتحطم بيننا الفاصل.
من تأمل حكاياتك طيلة شهر, عرفت لا من الست ساعات التي قضيناها معًا في
قطار يجري من أعلى الوادي إلى أسفله. ها أنت ذا تسألني لتتأكد مما تعرف,
أني عشت اللحظة معك, وها أنا ذي أسارع أجيب وغصة في حلقي, فالنهار على وشك
أن يبدد لحظة العتمة. أجيب صادقة مع المرأة التي بعثت من لحم ودم في لحظة
العتمة. كيف تأتي لها أن تفلت من إطار الاحترام?
ما هذا الذي أفعله? ألن يكتب لهذه الرسالة الاكتمال? وهل أنا بسبيلي إلى
اجترار الأسطورة أم تبديدها? أم لعلى أنا الأخرى لا أملك أن أعيش بلا
أسطورة?!
لا داعي للّف والدوران, لا بد وأن أدخل في الموضوع مباشرة إذا كتب لهذه
الرسالة أن تكتمل. ولا بد وأن تكتمل وأشياء كثيرة في الميزان: عملي, توازني
النفسي ونمط حياتي. لن أدع أسطورة تحولني إلى عينين لا تغفلان, ترصدان
اللاشيء, إلى ذراعين تعانقان الوهم, إلى يدين تحلان بالنهار ما تنسجانه
ليلاً. لأدع لك أنت الأساطير, ولأستعد أنا حاستي العملية.
عزيزي, أضيف, أريد أن أراك. وأتوقف من جديد. لم أستجد رجلاً من قبل لقاء.
لم أبدأ الخطوة الأولى أبدًا. لم تستبق يدي يد الآخر قط, لم أمنح قبل أن
أتلقي, قبل أن أتأكد من مشاعر الآخر. قبل أن أساوم. في منتهى الكبرياء أنا,
وفي منتهى الاحترام, في منتهى الخوف من الرفض. عزيزي, أريد أن أراك. أكتب,
وماذا لو لم ترد أنت?! وماذا لو تصور الناس أني ألهث خلفك مرفوضة? لم أكن
أعلم أني صورة محنطة في عيون الناس.
شهر الجنون تمخض فاحتضنني الشوك... ]
عن الأرنب المذعور تتفتح أكمام حكاياتك, وعن أكثر من صورة, والصورة تناقض
الصورة. أيها صورتك? أنت الآن أرنب مذعور يجري ولا يكف عن الجري. الأرنب
المذعور يتحرق إلى الدفء ويخاف الشباك. القيود تنتظره في الشباك والجراح,
الخسة والرتابة والقهر والغثيان. يود الأرنب لو تلاشي, لو تكوم في جوف
البئر هربًا من الشباك. وأنت البحر الأزلي والموجة لا تتجدد على نفس الصورة
أبدًا, الحصاة مدفونة في عمق البحر والزبد. أنت الآن ساحر جبار, غيوم
الدخان تلتف حول عمامته البيضاء والتهاويم. كل شيء ممكن في الجو المعبأ
بالدخان والتهاويم.
العملة القديمة الممسوحة تستحيل إلى تعويذة وعن ألف مستحيل ومستحيل أن
تتفتح التعويذة, صراع سمك القرش الوحشي يلد ضحكة لا تنتهي بغصة, وأطفال
بعيون خضر وزرق وعسلية. آلهة الإغريق مهترئو الأقدام, صبية يلعبون الكرة في
الحارة. الأشياء هنا تبدأ وفقًا لمشيئة الساحر المارد وتختفي, تكون وفقًا
لعصاه السحرية ولا تكون, اللحظة الماضية من عدم تولد. الميت من القبر يبعث
حيا والحي لا يكون... في الكون يتوحد, في الجمال يموت. غيوم التهاويم
والدخان تلتف حول عمامة المارد الجبار تلغي الواقع وتفرض المستحيل.
لا فائدة, لا فائدة, تصيح أمي متدثرة من خلف زجاج النافذة, وأنت الآن القط
السيامي الوديع في الحجر تقبع, على الصدر ترتخي عيناك الزرقاوان تضويان
بألف نداء ونداء. لا فائدة لا فائدة... وأنت الآن تنتقم لعالم مشوه من
الآلهة. على القمة الباردة التي لا تتسع لقدم إنسان, تقف شامخًا بوحدتك
ومتعذبًا. انتظارك يطول وسيفك بيدك للحظة تنتقم لعالم مشوه من الآلهة, وأمي
تصيح متدثرة...
أما لهذا الجنون من آخر? وما دخل أمي في كل هذا? ]
لا أستطيع أن أكمل الرسالة وربما لا أرغب في أن تكتمل. الأفكار تلاحقني
مبعثرة تكاد تنتظم ولا أريد لها أن تنتظم. انتظامها يهددني, لا أدري لم?
صورة أمي مثلاً خلف زجاج النافذة متدثرة تحول بيني وبين التركيز, بيني وبين
اختيار الكلمات الكفيلة بتبديد أسطورتي, ولكن يتأتي عليّ أن أحاول أيًّا
كانت الصعوبة, لا أملك التراجع الآن. لم يعد التراجع ممكنًا.
عزيزي. أريد أن أراك نصف ساعة, لن يتكرر, أضيف حتى تطمئن أني لا أنسج لك
شباك الحنان, إن شيئًا ما لن يحدث. وكأن شيئًا يمكن أن يحدث للهارب الأبدي!
اطمئن. ليس هذا ما أريد. ليس وأنت من أنت وأنا من أنا. أنا لم أبتر لحظاتي
اللحظة عن اللحظة أبدًا. لم ألق بلحظة إلى البحر أبدًا... قضيت العمر ألملم
لحظاتي في خيط طويل. أعقد الخيط كلما انقطع وأمي متدثرة تقول لا فائدة,
وأنا أجري في حديقة بيتنا القديم أجمع فصوص البرد على طبق من صاج. البرد
شاهق البياض, ماس على شعري, على ذراعي, على ساقي, على يدي. الماس ملء
طبقي...
لا فائدة, فصوص البرد لا تلبث أن تذوب, لا فائدة, أقول لنفسي والريح من
يومها تحملني, يحدوني رنين فضي في طبقي. ضيعت العمر بحثًا عن فصوص لا تذوب.
على الحافة الضيقة التي لا تتسع لقدم إنسان أردت دائمًا أن أقف متحدية. كيف
قاومت الرغبة وأنا صبية?! في الدور الثالث أمام فصلي أعتلي حافة السور التي
لا تتسع لقدم إنسان. أحتضن عمود السور وأنا أنتصب واقفة. كيف كبحت الرغبة
في إطلاق ذراعي في الهواء لأطير? أكنت أمتشق السيف الخشبي أنا الأخرى?
لم أتصور نفسي أبدًا أهوي على الأرض وأنا أفعل. على القمة التي لا تتسع
لقدم إنسان, كالطود أقف, شامخة بوحدتي ومتعذبة, رأسي يطاول السماء ويداي
تشقان الفضاء.
في أخدودي أبحث عن فصوص لا تذوب, وعلى قمة لا تتسع لقدم إنسان. أبي يحول
بيني وبين الفصوص لا تذوب وعزرائيل, والملاكان يثقلان كتفي اليمنى واليسرى,
وخبطة في جوف الليل على الباب, وقيود حديدية تغل اليد واللسان, وسين وجيم,
وحساب الملاكين.
لا أحد في البيت القديم عداي عرف متعة التكوم في حلكة بئر جف منها الماء.
لا أحد عداي ينزلق في يسر على السلم المؤدي إلى جوف الأرض الأسمنتي, مليء
بالثعابين, قالت أمي وأنا صغيرة, ولا شيء على الإطلاق في البئر. اللا شيء
في البئر والكمال. الزمان ينتفي في عتمة البئر والمكان, ولا تعود بك حاجة
لنسج الأساطير لتعيش, الفصوص هنا لا تذوب ولا أحد يملك أن يؤذيك. أصوات
المعذبين في الأرض لا تتناهى إليك هنا, ودمهم لا يخضب يديك.
حملت بئري معي بعد أن هدوا البيت الريفي القديم. لعله الشيء الوحيد الذي
تبقي لي من الصبية محلولة الشعر متوهجة الخدين, وإلا خبرني: لم أحفر أخدودي
المرة بعد المرة? لأدفن نفسي فيه? لم أتشبث بالأخدود في عالم لا يتسع إلا
للحفر... يقنع بالحفر? صحيح أني لم أكن أعلم, ولكني لا أكف, وقد علمت أن
الأخدود يفضي إلى البئر. يعلم الرافض للحياة ولا يتعلم. يعلم الهارب من
الحياة وينسج الأساطير.
ربما لأن عاطفتي أعمق من أن تتبدد في الحفر, لا تملك سوى أن تقبع في
أخدودها المستحيل. ربما لو لم أنسج أسطورتي على شكل قوقعة, لأدركت في
الخريف حتمية حلول الشتاء, ولتعلمت في موسم الهجرة أن أطير. ربيع الحب دائم
في قوقعتي وفي البئر.
أتمدد في سريري أبعثك, يا شبيهي, حيّا أمامي. لا داعي للقلق, ربما لا تتبدل
أسطورتي كل يوم شأن أسطورتك, ولكنها حتمًا تتبدل. الزمن في صفي وخيالي. وقد
تكون أنت غدًا وقد يكون غيرك. وإن لم أجد من أنسج حوله أسطورتي أصنعه.
يتحتم على الرافض للحياة أن يعيش, وأسطورة تسلمه إلى أسطورة حتى يطبق عينيه
على الربيع الدائم .
كتبت سنة1972
على ضوء الشموع
وقفت خلف
باب الشقة التي تقيم فيها تستعجل الرحيل ورغبة قديمة تلح عليها في الإفلات
من الشقة العالية تطل على النيل, ومن دائرة نفوذ زوجها الذي يرقد في السرير
إلى ساعة متأخرة من النهار كعادته.
وفي
انتظار مرور المضيفة صاحبة البيت الريفي في قرية سنور وزوجها الكاتب
المسرحي ليصحباها إلى محطة الأتوبيس المتجه إلى بني سويف, وقفت تستعجل
الرحيل.
وفي
اللحظة الأخيرة دست في حقيبة السفر الصغيرة مشروع روايتها الثانية,
فلربما... ربما ماذا? على مدى سنتين وهي تهدم في يسار الدفتر الرملي اللون
ما تبنيه في اليمين وخطوط المشروع لا تكتمل. تعليقات الإنسان السياسي فيها,
حيا لم يزل, تتغلى في اليسار بتواريخ متلاحقة تمتد من سنة 1960 إلى 1962,
ترفض محاولة تصوير تجربة فشل فردية كتجربة الإنسان الكلية, ترفض الخروج على
الناس برسالة يأس من الحياة.
فهل يعقل
أن تنفرج في يومين أزمة استطالت سنتين? سنتين أم عشرا? تساءلت في مرارة وهي
ما تزال تقف خلف الباب المغلق. وغيبت السؤال كعادتها أخيرًا حين تطرق أرضًا
محرمة. وانتوت أن تخلص بكليتها لتجربة المعيشة في قرية وهي تجربة جديدة
عليها.
***
استقلت
الأتوبيس المتجه إلى بني سويف, وقد انضمت إلى المجموعة صديقة ناقدة أدبية
وشقيقتها الطبيبة, وزوجها أستاذ علم النفس. وشعرت بنوع من الانتماء
والمجموعة التي تسافر معها أقرب إليها من المجموعات التي تتحرك في إطارها
خلف زوجها, أكثر أصالة وأقل ادعاءً وأصدق. مع هذه المجموعة يستطيع الإنسان
أن يسقط أقنعته وأن يتخفف من دروعه ويرتخي قليلاً, وهو لا يتوقي في كل لحظة
الضربة المقبلة. ليست بالمجموعة التي تسهر في كافتريا سميراميس "الليل
والنهار" ولا التي تتناول العشاء على ضوء الشموع في المطاعم الأنيقة, ولا
تلك التي تزين الليالي الافتتاحية في المسارح ومعارض التصوير والندوات
العامة.
تلتقي هي
والمجموعة التي تسافر معها في الكثير من الاهتمامات, حتى في السياسة وإن لم
تتماثل. تبقي بحكم ماضيها السياسي البطة السوداء في سرب البط الأبيض.
الحمراء يقول الكثيرون, ولكن الأمر أصبح يختلط حتى عليها.
***
يتوغل
الأتوبيس في طريق الصعيد الزراعي تميزه أشجار النخيل على الجانبين عن معظم
الطرق الزراعية في دلتا النيل. تتكاثف أشجار النخيل كالغابات وتبدو التلال
الصحراوية في الأفق وجهاز الراديو في الأتوبيس يذيع أغنية "مين قال إن الحب
زي العسل والحب أحلي من العسل". إيقاع الأغنية الرتيب يتكرر على نفس
الوتيرة الخانقة والتلال الرملية تتقارب, تجثم على الوادي الأخضر, جاجارين,
مترجمًا من الروسية إلى العربية, يتحدث عن أول رحلة للإنسان إلى الفضاء,
والتلال تخنق الوادي. يصل الأُتوبيس إلى بني سويف وعبد الحليم حافظ يغني
"عشانك يا قمر أطلع لك القمر".
تحمل
المجموعة سيارة أجرة إلى أقرب بقعة من قرية سنور التي تقع على حدود الصحراء
الشرقية. تتوقف السيارة وقد عبرت الوادي ولم يعد التقدم ممكنًا.
تغوص هي
والمجموعة في تلال الرمل, وتجلس على شط النيل في انتظار وصول المعدية. لم
يتبق سوى عبور النيل للوصول أخيرًا إلى بيت ريفي قديم, ندر استخدامه في
السنين العشر التي تلت تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.
***
في
انتظار المعدية افترشت رمال الشاطئ ترقب الضفة الشرقية للنيل. النيل يلتف
في نصف دائرة يحجب الرؤية من الجانبين. الوجود يبدأ هنا وينتهي, عند هذا
الشط من الرمال الصفراء الدقيقة الناعمة تلتمع كحقل من الكهرمان تحت أشعة
الشمس, عند هذا السوار الأخضر الفيروزي من النخيل السامق يطوق الكهرمان
والفيروز في سكينة أبدية.
وودت لو
بدأ الوجود هنا وانتهى والسكينة أبدية. وفي الأفق لمحت التلال الرملية تطوق
النيل والشط والنخيل, وتطوقها. وقلبت صفحات دفترها الرملي بحثًا عن فقرة في
مشروع روايتها تصف الاختيارات المفتوحة أمام بطلتها, وما من اختيار:
"طريق من
الطريقين مفتوح أمامها, وقد تلفت بلا أمل في البرء, إما أن تستسلم وتعيش
بقية حياتها بطعم المرارة في فمها, وإما أن تتقبل الحقيقة في شجاعة".
وما من
طريقين, وإنما طريق واحد, وما بين الموت والموت موت والحقيقة المطلوب
تقبلها في "شجاعة" موت. وانتفضت واقفة تلملم أشياءها وقد وصلت المعدية.
***
ازدحمت
المعدية بفلاحين يعودون بملابس الأعياد بعد رحلة لا مفر منها إلى المدينة,
وبفلاحين يعملون في المدينة جاءوا بعد غيبة في زيارة قصيرة للأهل, وبمجموعة
المثقفين القاهريين وبحمارين وماعزة. وساد المعدية جو احتفائي ودود,
والفلاحون يتبادلون التحيات بعد غيبة, يسألون عن الأهل ويحملون الأشواق
للأحباب توزعوا في شطري النيل بحثًا عن الرزق.
وجلست هي
تستمع إلى الحديث يدور بين ريس المعدية يربط القرية المعزولة بالعالم
الخارجي, وبين الفلاحين. ويحكي الريس عن النبوءة التي روجت لها صحف القاهرة
منذ أسبوع عن قرب حلول يوم القيامة, وينهق الحمار الأبيض نهيقًا مستطيلاً,
وتضحك فلاحة عائدة بماعزتها من المستشفى البيطري وتقول:
- والنبي
ياريس لما الموت يجي ما تعديه, عشان ما يجيش حدانا.
تبقي
مشكلات البقاء حقيقة الحقائق التي تتضاءل إلى جانبها كل حقيقة, ما دام في
الدنيا بشر يكافحون من أجل البقاء. الوجود والعدم لا يؤرق الفلاحة كما يؤرق
كير كجارد, "ولا غثيان" سارتر يؤرقها ولا عبثية كامي. ليست الفلاحة من
المرفهين. الفلاحة تتعامل ببساطة وبخفة مذهلة مع الموت, أو حقيقة الحقائق,
كما يسميه كاتب مصري. تحيل الموت إنسانًا تعايشه وتعانده, تقر بوجوده
وتتجاوز هذا الإقرار فيما تتجاوز وهي تكافح من أجل البقاء.
تشتد
الريح وتميل المعدية إلى جانب, يستوي سطحها وسطح الماء. تتبادل هي
ومجموعتها نظرات التساؤل وبسمات التجلد, مصنوعة في وجه غرق محتمل في النيل,
والفلاحون والريس يواصلون الحديث في جو احتفائي ودود وسطح الماء يستوي وسطح
المعدية, وكأن الفاصل بين الحياة والموت قد انتفي وتصالحت الأضداد في لحظة
احتفائية ودود.
تصل
المعدية إلى الشاطئ وتغمرها فرحة الحياة والريس يطلب "السجادة". تتطلع
لرجال يتقدمون نحو المعدية يحملون فيما بينهم شيئًا خشبيًّا. وبدلاً من
"السجادة" تتعرف على نعش لطفل صغير. وفي لحظة مكثفة تتصادم الحياة بالموت,
وتلتقي عيناها بعيني الفلاحة ذات الوجه البشوش وهي تفسر الوضع بصيغة
تقريرية خالية من الانفعال.
- أصل ما
حدناش قرافة... بندفن موتانا في البر التاني.
وتراقب
الفلاحة تسحب ماعزتها الهزيلة, وتنزل على "السجادة" إلى الشط الرملي بخطى
ثاتبة. وتشعر بالخجل لأنها في عزلتها الطويلة عن الناس انزلقت إلى التفكير
في عبثة الوجود, وحتمية فشل السعي الإنساني.
***
تأتّي أن
يسير كل شيء وفقًا لبرنامج مسبق في إجازة آخر الأسبوع القصيرة, وأرست صاحبة
البيت البرنامج. يخصص عصر اليوم لجولة حرة حول البيت والحقول التي يشرف
عليها, وكذلك صباح اليوم التالي الذي يتوج مساؤه بالاستماع إلى مغني
الأغاني الشعبية ذات اللون المحلي الفريد في هذه المنطقة. وما بين عصر
ومساء اليوم التالي يتعين على صاحبة البيت وزوجها زيارة منزل خولي العزبة
سابقًا, والمشرف حاليًا على توريد إيجار ما تبقي من أرض للأسرة. وهذه
الفقرة من البرنامج اختيارية وعلى من يرغب في الخلود للراحة أن يبقي في
البيت, وإن كان من الملائم أن تشارك الطبيبة في زيارة الخولي, وخاصة أن
زوجته مريضة وما في المنطقة بأكملها طبيب, وإن تبقي الاختيار في نهاية
الأمر اختيارها.
وتساءلت
هي وقد انتهت صاحبة البيت من إرساء البرنامج:
- أين
القرية?
وما من
شيء يبدو من شرفات البيت سوى خضرة تنتهي بالرمال. وأكدت صاحبة البيت أن
القرية ليست ببعيدة, وسيمر بها بالضرورة من يختار زيارة منزل الخولي مغرب
اليوم التالي.
وما كادت
صاحبة البيت تنتهي من كلامها حتى دخلت البيت فلاحة من القرية تحمل للطبيبة
الزائرة طفلها الرضيع يحتضر.
***
بدأت
بحديقة البيت التي استحالت بعد إهمال عشر سنوات إلى مرتع للأعشاب... حتى
الأعشاب جفت. وخطر ببالها وهي تتجول أنها كفت من زمان طويل عن التجوال
والتأمل. وارتسم في خيالها الدمع ينسحب بلا صوت على خدين معروقين لأم
ريفية, وتساءلت هل بلغت بها التعاسة حد الخوف من التفكير? ما بين تفكير
مخطط لمحاضرة, لندوة, لمقال, لحديث إذاعي أو تلفزيوني تقرأ, كل شيء وأي شيء
حتى لا تفكر. إن لم تجد ما تقرؤه أسعفتها نشرة طبية للدواء ملقاة هنا أو
هناك. هل أصبحت كالقطار يفقد توازنه ويتحطم إن خرج عن شريط السكة الحديد?
- المهم
هو الرحلة وليس ما تتمخض عنه الرحلة, مواصلة الإنسان للسعي, وليس ما يتمخض
عنه السعي الإنساني. ما من واحة خضراء في مكان ما أو زمان ما يتوصل إليها
الإنسان. يلمح الإنسان الواحة الخضراء ويعيشها وهو يسعي. الرحلة هي الواحة
الخضراء.
قالت هي
تلخص "التيمة" المحورية في مشروع روايتها الثانية, يوم كانت تأمل في
استكمال الرواية, وقال الصديق أستاذ علم النفس يعلق على المشروع:
- مشروع
هذه الرواية يفلسف للفشل, يعمم ما لا يجوز تعميمه, والأكيد أن السعي
الإنساني ليس مرصودًا بالفشل.
وأضاف
بعد فترة صمت:
- هل
تحاولين تبرير وضع لا تطيقينه?
وتأملت
لأول مرة صدق تعقيبه, وأدركت أنها أسقطت هذا التعقيب فيما أسقطت من كلام
الناس حتى لا يفقد القطار توازنه وينقلب. وقال زميل لزوجها يقف سياسيًّا
على طرف النقيض منه:
- الناس
مندهشة لأنك كتبت هذه الرواية الممتازه, رغم كل شيء.
ويومها
استبعدت كلام زميل زوجها ككلام فارغ, ففيم الاندهاش وهي, رغم زيجتها, نفس
الإنسان, إيمانها القديم لم يتغير ولا إرادة التغيير, سعت شابة إلى التغيير
الاجتماعي بالفعل وتسعي إليه امرأة بالكتابة.
وفي حومة
نجاح روايتها الأولى نسيت عهدًا قطعته على نفسها ورهانا عقدته: لو ملكت
القدرة على استكمال هذه الرواية لواتتني القدرة على التحرر من زوجي, ومن
هذا البيت, ومن هذا الأسلوب من الحياة.
وأكملت
الرواية ونسيت العهد والرهان اللذين تتذكرهما الآن.
وتتبعت
ممرات الحديقة مرصوفة بالحصى المدبب, وتساءلت: هل استوي الحصى على مر
السنين أم تبلدت مشاعرها ولم تعد تشعر بالوخز يواتيها كل حين? وهل هي حقًا
نفس الإنسانة بعد زيجة استطالت عشر سنين? هربت من الطفل نحلت ساقاه وانتفخت
بطنه, تركته خلفها في البيت يموت وخرجت في جولة حرة. ربما اختنقت بالليل
على وسادتها وبكت الطفل قليلاً وانتظم تنفسها وقد تمت عملية التطهير. وإن
اختنقت من جديد وهذا المظهر من مظاهر البؤس والحرمان والقهر يلح عليها أو
ذاك, ففي الروايات والمسرحيات والأفلام متسع للجميع. وبدلاً من أن تشارك
بقدر ما تستطيع في تغيير الأوضاع ستبكي في ظلمة المسرح والسينما والسرير.
ستظل تلعب لعبة البكاء لتوهم نفسها أنها لم تمت وما زالت تعيش. أدموع
التكفير عن الذنب هذا السيل من الدموع أم دموع التطهير? وتمتمت وهي تستشعر
وخز الحصى:
- شيء ما
خطأ في بنياني.
وأضافت
تطلب النجدة من ناس لم يعد لهم وجود يومي حي في كيانها:
- بالله
عليكم دلوني أين موطن الخطإ.
- الناس
تقول إنك تحلمين على الورق, تناضلين على الورق, تحققين على الورق ما لا
تستطيعين تحقيقه على مستوى الحياة.
قالت لها
ممثلة تكن لها الاحترام معلقة على روايتها الأولى, وهما تجلسان في
كافيتيريا الإذاعة, ووصلتها الوخزة هذه المرة, وبدلاً من الإقرار بالحقيقة
أجابت يومها في حدة واعتداد:
- فليحلم
من يستطيع رواية مماثلة في الجودة.
وما كاد
التعليق الساخن والرد السريع ينتهيان حتى انصرفت كل منهما إلى أداء دورها
على الوجه الأكمل, الممثلة لدور من الأدوار التي تتغير كل يوم, وهي: إلى أي
دور انصرفت? دور الكاتب الذي بزغ فجأة من المجهول إلى المعلوم وهو يملك
مفاتيح لعبة الكتابة, الفنان القادرعلى أن يمنح من يريد أن يلعب مفاتيح
اللعبة.
وأسوأ ما
في الأمر أن اللعبة ليست بلعبة على الإطلاق. وأنها أصبحت وقد انتهت روايتها
الأولى أشبه ما يكون بجحا ضاع صندوقه, وإن تبقت معه مفاتيح الصندوق. مفاتيح
حرفة الكتابة مكتملة لا تملك أن تصنع هذا الوله الخالص بالحياة الذي هو
مادة الفن. فأين هي الآن من هذا الوله الخالص الذي يتحول بدونه الفن إلى
مادة للتسلية أو لعبة زخرفية?
- أردت
أن أمسك برؤيتي للحقيقة كشابة, قبل أن تفلت مني هذه الرؤية نهائيّا.
داهمتها
العبارة التي قالتها لمذيع محطة أجنبية, سأل:
- لماذا
هذه الرواية بالذات وفي سنة 1960 بالذات?
ودهشت
يومها وهي تستمع إلى نفسها تقر بحقيقة غيبتها طويلاً, ولا شك في أنها عادت
وغيبتها, فها هي ذي العبارة تداهمها وهي تسير في حديقة جفت أعشابها وكأنها
جديدة وقديمة, عرفتها وغيبتها. وأقرت أن الرؤية في روايتها الأولى ليست
برؤية عمر معيش, وإنما عمر انقضي وسقط عن هذه الإنسانة التي تلعب لعبة
البكاء.
وصعدت
درجات السلالم المتآكلة تقسم الحديقة إلى مرتفعات ومنخفضات وهبطتها... لا
شك في أن هذه المرتفعات والمنخفضات عنت الكثير والزهور تتفتح للشمس والهواء
والأشجار سامقة, جذورها في الأرض وفروعها في السماء, ولم تعد تعني شيئًا.
يستوي الصعود والهبوط الآن وقد جفت الحديقة.
حين
نقلتها روايتها الأولى إلى قلوب الناس عني الوصول الكثير ولم يعن شيئًا,
وكأن التي وصلت إنسانة أخرى غيرها, مخلوقة انتحلت ولهها الخاص بالحياة. في
عيون البنات رأت بريق التعرف عليها وعلى الذات وفي شدّة يد ممتنة لشاب
يصافحها على استحياء... وحلمت ذات ليلة أنها مدعوة إلى حفل. على درجة من
درجات السلم المؤدي إلى قاعة الاحتفال وقفت مع بقية المدعوين, يسبقها ناس
ويلحق بها آخرون, تعرفت بينهم على بعض كتاب مصر المعروفين, ونقلها مس كهربي
وهي تقف في الصف على درجة من درجات السلم إلى حالة اليقظة تتساءل: هل أصاب
الوخز بقية المدعوين أم انفردت هي بالشعور بالوخز?
ويومها
شعرت أنها غشت قليلاً لكي تصل إلى قلوب الناس وأن الوخز قد أصابها لأنها
فعلت, ومن يومها لاحقها الشعور بالفشل وهي تتحرك في دائرة النجوم التي تعبر
في خطوة واثقة وابتسامة مدروسة مصنوعة, ممرات مبني الإذاعة والتليفزيون
لتنتهي بالقول: (في الواقع...). وما من واقع فيما تقول.
وتهالكت
جالسة على مقعد صخري وقد وجدت نفسها في كشك خشبي آيل للسقوط. وأقرت بأن لون
التخشيبة قد تحول من الأخضر إلى الترابي. وألح عليها تعليق في يسار الدفتر
الرملي يهدم مشروع رواية لا تكتمل في يمينه. ووجدت نفسها بلا وعي تردد
كلماته: "الهروب من المواجهة لا يشكل حلاّ, يساوي الإقدام على الانتحار
كبديل لانتظار استكمال عملية القتل".
وأقرت
بأن حبل خداع الذات طويل, وإن التف في نهاية الأمر على عنق الإنسان.
وأخافها الإقرار فهربت إلى فسحة حقل قريب.
***
حاولت أن
تتعرف على النبات الأخضر في الحقل. بدا لها من الضروري أن تفعل. ومدت يدًا
مرتجفة وقطعت ورقة من أوراق النبات وقربتها إلى أنفها, وتركزت كل حواسها في
حاسة الشم. ولم تتعرف على النبات. قطعت الورقة نصفين وذاقتها, مضغت جزءًا
منها واستحلبته وهي تتذوق لتعرف ولم تزدد علمًا. بصقت الرحيق ومضت تتدحرج
في الحقل.
تذكرت
أنها أكلت, شابة, كوسة خضراء نيئة من الحقل وأحبتها في حومة الوله بالحياة
الذي يعطي لكل شيء مهما صغر وتباين, مذاقًا خاصّا وفريدًا. حلمت صبية أن
تجري هي وحبيبها حافية القدمين في حقل فول أخضر. أن تتمدد هي وحبيبها
تضمهما الخضرة ورائحة الأرض الخصبة. أن تأكل هي وحبيبها الفول بشوكه مع
الجبن القريش. وانتهت هي وزوجها يتناولان العشاء على ضوء الشموع كالعاشقين,
وما من عشق تبقي بينهما. وأرادت كل مرة وهو يسحبها إلى هذه الدائرة اللامعة
أو تلك أن تصرخ: كذبة هذه الشموع, كذبة زيجتنا, كذبة كل دائرة ندور فيها.
وبدلاً من أن تصرخ تبدد الكذبة, عاشتها. وتساءلت هل أصبحت بدورها كذبة,
جزءًا لا يتجزأ من مؤسسة تدمن المسكنات وتتحاشي الاصطدام وتقنّع الكلمات
حتى لا يتفجر صراع الحياة الحي الصاخب?
بدلاً من
أن تصرخ قرأت على زوجها ذات صباح قصيدة عن زيف المثقفين الساهرين في
كافيتريا "الليل والنهار" نشرها صلاح عبد الصبور في أهرام الجمعة. لا تذكر
الآن من القصيدة سوى بيت واحد وربما المعنَى دون الكلمات, المرأة تقول
للرجل يسهر معها في الكافيتيريا:
قم بنا
يا حبيبي قبل أن يطلع الصبح وتزول مساحيقي ولكنها تذكر أن عينيها غصت
بالدموع وهي تقرأ القصيدة وتطهرت, واستمرت تعيش الكذبة.
وتذكر
أنها لم تنس وهي في حومة الانفعال, أن تقرأ القصيدة كما ينبغي أن يقرأ
الشعر الجيد المتذوق الجيد. وما بين الانفعال وضروريات اللياقة عاشت
الكذبة.
في
المطعم الأنيق تجلس وجهًا لوجه مع زوجها, تفصل بينهما الشموع وأنصاف
الحقائق ومرارة الحقيقة وقسوة الخديعة والرفض المتبادل لماهية الآخر,
والخوف من الاصطدام, والحرص على الصورة الاجتماعية والتظاهر بنجاح مشروع
أفلس من زمن طويل, وكلمات قلم الحب أظافرها, وبعد الحب الجبن الاجتماعي أو
تمدين المثقفين كما يسمي, كلمات لا تفصح أبدًا, تهرب كالزئبق, تلف وتدور
متقنعة في المسالك الجبانة. تود لو تصرخ ولا تصرخ. وفيم الصراخ وجلسة
الشموع ليست سوى طقس آخر من مجموعة الطقوس التي تشكل حياتهما معًا, حركتهما
معًا ومع الآخرين, طقس من هذه الطقوس التي تدمرها, ولا تكف عن أن تساهم في
صنعها.
حديثهما
الليلي معًا طقس من الطقوس, إن جاز أن يسمي حديثًا. كان يومًا ولم يعد. على
مر الأيام تحولت إلى أذن تستمع بعقل يثقله ركام الأكاذيب وأنصاف الحقائق
يتكاثر يومًا بعد يوم وهو لا يكف يتكلم, ينسج المزيد من الأكاذيب وأنصاف
الحقائق, وعقلها يشت يومًا بعد يوم دون أن تدري حتى أنه يشت...
تحت وطأة
الركام يشت عقلها الآن وهي تتكلم, في حضور زوجها وفي غيابه. في جمع من
الناس تتكلم كما يتكلم الناس, وفجأة ترتد إليها نظرة الاستغراب في عين
مستمع إلى كلامها, وتدرك أن عقلها يضيع, وبدلاً من أن تهب صارخة: كفي,
تلتزم الصمت معقودة اللسان.
طقس
الطقوس الليلي وهي تستمع, إن كانت نائمة أيقظها, لا يكتمل اليوم دون طقس
الطقوس. يعد لها طعام العشاء على صينية ويجلس على طرف سريرها يحكي عن
نجاحاته اليومية التي لا نهاية لها. عند النجاحات الغرامية ترد في الحكاية
أنصاف الحقائق: تصوري أن الناس تقول إني على علاقة بفلانة? وصعب عليها في
يوم من الأيام أن تتصور, لأن فلانه فعلاً في موقع الابنة منه, حتى إذا ما
وصلتها الحكاية قال: ألم أقل لك? وخرج بريئًا كالذئب من دم الحمل. ومن سنين
صاحت فيه:
- توقف
عن الكذب أرجوك, لجوءك المستمر إلى الكذب شيء مهين لك ولي, وهو إهانة
مجانية لكلينا, لم أطالبك بالتفسير ولن أطالبك.
ولكنه لم
يتوقف, استحال عليه أن يعيش دون مستمع ليلى لنجاحاته اليومية التي لا نهاية
لها ولمراراته اليومية من جحود الناس والدنيا التي لا نهاية لها أيضًا.
وعلى مر الأيام تحولت هي إلى أذن تستمع وفم معقود اللسان. يتأتي أن تنام
لتذهب إلى عملها مبكرة وقادرة على أداء هذا العمل. لو اختلفت سيبقيها الليل
ساهرة حتى تقتنع, أو وهذا هو الأسوأ, حتى تتظاهر بالاقتناع لتنام. على أمل
اللقاء الفكري سهرت سنين تتناقش, ثم كان أن تحولت إلى أذن تستمع بفم معقود
اللسان بعد أن اكتشفت أن لا أرضية بينهما للقاء. حتى اللقاء بينهما في
السرير استحال, تحول بدوره إلى طقس مدمر.
الزوجي"
وينام. يوم لم يكن لقاؤهما في السرير طقسًا صرخ فيها:
- أنت
تحتقرينني.
وتطلعت
إليه في اندهاش مستفسرة, وأضاف موضحًا:
- جسدك
يرفضني, يحتقرني.
ولم تكن
تعرف أن الجسد يكون أحيانًا أذكي من العقل, وأفصح تعبيرًا, ولم تكن تعرف أن
خداع الذات الذي يجوز على العقل لا يجوز على الجسد, ما من شيء يخدع الجسد
عن أحاسيه. وعرفت ولم تزْدد علمًا وقد عرفت. توقعت أن يكف عن العملية
الجنسية ولم يكف. تعمدت أن تباعد المدة وإن لم تكف. وتحولت العملية إلى طقس
مدمر. حولها إلى أداة إشباع وبدلاً من أن تهب صائحة كفى, مضت متورمة
العينين من السهر العقيم في سريرها المنفرد بهذا الشعور الذي لا يريم
بالغثيان والإخفاق.
- ولكن
شخصيتك ليست بشخصية المحارب.
قال لها
منذ أيام زميل في العمل وقد استدعت الأوضاع الفاسدة تجميع الجهود في معركة
مفتوحة وطاحنة مع الإدارة, وأجابت هي ربما في تسويغ وربما في اعتذار:
-
فلنجرب. أنا أشتري راحة البال بكثير من التنازلات الصغيرة.
ولكن
عندما تصبح المسألة مسألة مبدإ تجدني عنيدة كما الحمار.
وأقرت
وهي تتمدد وسط خضرة لا تعرف لها مسمي أن سفح الجبل هو نفس السفح. وأن لا
قرار للتنازل, وتنازل صغير يسلم الإنسان إلى تنازل أكبر, والتنازل
اللامبدئي يختلط على الإنسان بالتنازل المبدئي على مر الأيام, ويفيق
الإنسان ذات يوم ليجد نفسه في الهوة بلا قرار. وأقرت بأنها لم تصرخ في
زوجها لأنها استحالت بدورها إلى أكذوبة, تلعب نفس اللعبة وتلتزم بنفس قواعد
اللعبة, وأن زوجها أفضل منها لأنه لا يتظاهر بغير ما يفعل....
وأقرت
بأن الغضب لم يعد من حقها. الغضب حق القادر على أن يبتر ويصل.
***
غني
المغني ليلة السفر بعد عودة المجموعة واجمة ومتوترة من المرور بالقرية
وزيارة منزل الخولي. حكي حكاية قرية تخنقها تلال رملية وصخرية, وناس عاشوا
في القرية يحيلون على مر السنين الصخر خضرة. وبددت آهات الناس وضحكاتهم عبر
السنين حالة الوجوم والتوتر التي استبدت بالمجموعة لحظة عادت إلى البيت.
وجلست هي جافة العينين تستمع إلى حكايات الزرع والحصاد, الأمل والجوع,
العشق والموت. لم تعد لعبة البكاء تجدي.
لم تشارك
هي في لحظات الوجوم ولا التوتر الذي تلا الوجوم, بعد المرور بالقرية وزيارة
منزل الخولي. تجاوزت مرحلة الشعور بالذنب, ومرحلة التخفف من الشعور بالذنب
بمحاولة إسقاط المسؤولية على قوي مجهولة أو على الآخرين. انعزلت عن
المجموعة مع إدراك جديد بأن عالمها في شقة تطل على النيل قد انتهى.
شيء في
ما حدث في مغرب اليوم ومسائه أنهي هذا العالم بلا رجعة. ولم تعرف على وجه
التحديد, هل انتهى وهي تمر بمسالك القرية الطينية, تقاوم وتنتصر على رغبتها
في الوقوع في حالة الإغماء? أم انتهى في منزل الخولي لحظة صرخت مخنوقة
"أخرجوني من هنا"? ولكن الأكيد أنه انتهى. لم يعد اجترار التعاسة على ضوء
الشموع ممكنًا ولا ممارسة الحلم على الورق.
ووضعها
الشعور بحتمية النهاية أمام ضرورة وضع القرار موضع التنفيذ. وانعزلت عن
المجموعة تسأل: هل أستطيع? هل تبقّي من الشابة التي كنتها بقية تعينني على
بتر ما هو قائم ووصل ما انقطع?
لم يكن
من الصعب عليها التكهن بما حدث في البيت في أعقاب مرور المجموعة بالقرية
وزيارتها بيت الخولي, عاشت لحظات مماثلة من قبل عشرات المرات, وإن لم تعرف
لقسوة اللحظات التي عاشتها الليلة مثيلاً. جلس أفراد المجموعة في الصالة في
مواجهة بعضهم البعض أغرابًا, يتحاشي الواحد منهم النظر إلى الآخر خشية أن
تفضح النظرة المستور. ولم يلبث الوجوم أن تحول, كما توقعت, إلى توتر, وكل
يحاول أن يتخفف من المسؤولية يلقيها على قوي غير مرئية أو على الآخر...
الإقرار
بالمسؤولية يعني انهيار القوقعة البراقة بارعة الجمال التي بناها كل لنفسه
في القاهرة ليعيش, الذي يحتمي فيها كل ليعيش. والسؤال: ماذا فعلت لأغير
الأوضاع? سؤال يتأتي تجاوزه بأي ثمن لأن الكثير في الميزان.
وحل
التوتر, كما توقعت, محل الوجوم, واتهم كل الآخر أنه تعامل مع الحدث كالسائح
جاء يتفرج على تعاسة الفلاحين, وضاقت دائرة الاتهام في النهاية وانصبت على
الطبيبة التي لم تتفرج كالآخرين. وصلت ما بينها وبين الفلاحين وهي تتبادل
الحديث, تعالج أطفالاً في مرحلة الخطر وأطفالاً يحتضرون, ترسل إلى بني سويف
لشراء الأدوية والحقن الطبية, توصي بعلاج طويل يستمر بعد مغادرتها القرية,
تتمزق وهي تدرك أن أحدًا من أهل المرضي لا يملك من المال ما من شأنه أن
يضمن العلاج الطويل, تصرخ في طوب الأرض احتجاجًا على انعدام الرعاية الصحية
في القرية وفي المنطقة بأجمعها.
قيل إن
الطبيبة طرحت, كالسيّاح, أسئلة ما كان ينبغي أن تطرح على الفلاحين.
***
في لون
واحد ثابت لا يريم بدت القرية في عتمة المغرب, في لون الطين. واستبد بها
الدوار وبيوت الطين تغيب أبعادها في عتمة المغرب, وناس من طين يجلسون على
عتبات البيوت, وبطون منتفخة وشفاه جافة, ودم في لون الطين يسيل من أفواه
أطفال يحتضرون. وناس يختفون في مسالك القرية كدمي من الطين, وأعناق قلقة
نحيلة متصلبة لحيوانات كلعب الأطفال. ولا شيء يقطع الصمت سوى سعال دموي,
وامرأة تنعي وليدها بصوت خافت لا يكاد يبين.
وترنحت
كالمخمورة بالألم, وأدركت أن هامشًا دقيقًا يفصل بينها وبين فقدان الوعي
وأن خلاصها يتوقف على تجاوز هذا الهامش والبقاء واعية, وبدلاً من أن تهرب
هذه المرة أيضًا, تمهلت تترنح بدوارها. وبدلاً من أن تغمض عينيها لكي لا
يطعنها الألم كالسكين فتحتها على اتساعها لتري. ورأت وسمعت واستوعبت,
وتوقفت تجتر في ذاكرتها ووجدانها تفصيلاً بعد تفصيل لكيلا تنسي, لكي لا
تغضب.
لا لم
تفر من القرية هذه المرة ولا من الناس من الطين. إليهم عادت بعد طول غيبة.
من بيت الخولي هربت.
شيء ما
زائف ومصنوع في بيت الخولي. من البيت الطيني أراد الرجل أن ينسلخ إلى بيت
من الطوب الأحمر, ولم تساعده فيما يبدو إمكانياته. بقي معلقًا بلا بيت كمن
رقص على السلم, لا هو ينتمي إلى حيث ينتمي الفلاحون ولا هو ينتمي إلى أصحاب
البيوت من الطوب الأحمر. بيت الخولي ليس ببيت على الإطلاق. بيت الخولي حجرة
في الدور الثاني معلقة في الهواء بسلم بلا سور. ولا شيء في الدور الأرضي
على الإطلاق, لا غرف للأولاد من مختلف الأعمار ولا زريبة للحيوانات, لا فرن
لخبز العيش وطهي الطعام ولا دورة ماء. مجرد حجرة معلقة في الهواء على سلم
بلا سور كديكور تمثيلية لن يلبث أن يزال.
لم يكن
الصعود إلى الحجرة المعلقة صعبًا, تبقت في الغروب بقية من ضوء جعلت الصعود
هينًا. الخروج من الغرفة المعلقة هو الصعب وقد تبددت البقية الباقية من ضوء
النهار. ووجب الخروج أيًّا كانت الظلمة وأيًّا كانت الصعوبة. لا بديل
للخروج إلا الموت اختناقًا.
وتساءلت
وهي تستمع إلى مغني القرية يحكي حكاية الزرع والحصاد, الأمل والجوع والعشق
والموت: هل حملوا المرأة المريضة قسرًا, أم ساهمت هي راضية في الاستعراض
الذي أعد كديكور لحساب ضيوف قادمين من القاهرة? ورجحت الاحتمال الأخير, فما
من أحد ينقل أحدًا قسرًا على ما لا يرتضيه.
كم بدت
غريبة ومنبتة تلك المرأة المريضة وهي ممددة على السرير المعدني الأسود في
حجرة معلقة في الهواء ما زالت بقايا الجير تعلق ببلاطها. كم بدت غريبة
ومنبتة وهي تنام ربما لأول مرة على سرير, نومة غير نومتها. وتساءلت: هل
يتأتي للمرأة المريضة أن تعود الآن إلى حيث تنتمي وقد انتهت اللعبة?
***
لم تدر
هي على وجه التحديد ماذا حدث للمرأة بعد أن انهار السرير المعدني الأسود.
على العتبة وقف الرجال من الضيوف وأصحاب البيت, وفي الحجرة المعلقة وقفت هي
وبقية الضيوف من النساء لصق الحائط ليفسحوا مجالاً للطبيبة. بعد تبادل
السلامات والتحيات بدأ الكشف الطبي.
عرت
الطبيبة المرأة من ملابسها وما كادت تميل تضع السماعة على قلبها حتى انهار
السرير بالمرأة عارية, وخرجت هي من الغرفة مختنقة بخزيها تهمس للصديق أستاذ
علم النفس:
-
أخرجوني من هنا.
وفي
الهواء الطلق خارج منزل الخولي وقفت ترتجف بخزيها, تتحسس جسدها, تستشعر عمق
الجراح التي أصابتها لحظة انهار السرير بها عارية.
***
وتساءلت
هي والمغني قد رحل, وصاحبة البيت تدس شرائط تسجيل الأغاني في حقيبة السفر
استعدادًا للعودة إلى القاهرة, هل تملك المرأة القدرة على بتر ما هو قائم
ووصل ما انقطع? ورعت غضبها كما ترعي الحامل الجنين, وهي تدرك أن طلب النجدة
لم يعد يجدي. يتأتي على المرأة, وقد انتهت اللعبة, أن تقف على قدميها, أن
تؤوب إلى نفسها إلى أهلها وناسها, إلى بيتها بعد غيبة عشر سنين .
كتبت سنة
1985
|