الاسم: كريم عبيد
العنوان البريدي:
karim-abeed@hotmail.com
مشاركة حول الأدب الفلسطيني
Date: 14/05/10
Time: 02:15
التعليق:
الكتابة أمام الموت ... الكتابة أمام الوطن
دراسة في ديوان محمود درويش ( حالة حصار )
كريم عبيد
- بين الحضور والغياب :
محمود درويش ..
الغائب الحاضر دائما ً ..
الغائب على مستوى النص .. الحاضر على مستوى الكتابة ..
" موت المؤلف " قد يكون من أهم الشعارات التي رفعها النقد
المعاصر , على لسان رولان بارت ..
الحضور أوّل المأساة , والغياب أول الخلق ..
ولذة الإبداع ما بينهما ..
الجسد في الميثولوجيا الشرقية , هو الحضور الأبديّ ,
الأرض , الأم الأولى , الماء , الحياة ...
والروح هي الغياب السرمديّ , الحلم , الموت , الإله
...
وفي الحلم اكتشف الإنسان عالما ً مختلفا ً , يجمع بين
المقدّس والمدنـّس ..
وفي الكتابة اكتشف الإنسان أحلامه .. عالم مليء بالتناقضات
.. مزدحم بكل ما يضيق به الجسد ..
فكانت الكتابة عشتار الكاتب ..
البغيّ المقدّسة .. يمارسها أو تمارسه ..
والصفحة البيضاء معبد اللغة , وبكارة تنتظر الكلام ..
فضاء يحتلّ ذاكرتنا , ويمتدّ فيها ..
غياب حاضر .. وحاضر غائب ..
والكتابة عملية استحضار دائبة , لكلّ ما اختطفه الغياب ,
وتغييب ما هيمن عليه الحضور ..
هذه العملية التي , ولا شكّ , ترفدها حصيلة معرفية وفكرية
وتراثية وأسطورية .. إلخ , لتتبلور في القصيدة , مكوّنة
جسدَها ورؤياها ..
وما بين الحضور والغياب , يكتب محمود درويش , الشاعر
الفلسطيني الذي تلقفته المنافي صغيرا ً , وأعطته هويته
الأبديّة ..
ليدخل في نسغ الوطن , كلما ابتعد عنه أكثر ..
ليؤسس لغة جديدة , لأفق إنساني ينفتح على فضاءات لا نهائية
, توحّد بين الذات والموضوع ..
الذات الخالقة الغائبة , والموضوع المخلوق الحاضر , بحيث
يفضي هذا التوحّد إلى الشعر :
" إلى شاعر : كلما غاب عنك الغيابْ / تورّطتَ في عزلة
الآلهة ْ / فكن ذات موضوعك التائهة ْ / وموضوع ذاتك , /
كنْ حاضرا ً في الغيابْ " ( ص 56 )
غير أن الأمر , ليس بهذه البساطة .. فالاستراتيجية التي
يعتمدها محمود درويش في بلورة مشروعه الشعري , تتجاوز
ذاتها باستمرار .. بدءا ً بـ :
1 – خلق حالة من التواصل مع الواقع , شديدة التوتر والتأزم
, حالة تعمل على اختراق الواقع , وتفتيته , وبعثرته ..
لتستلذ بعد ذلك , بعملية البحث عن الشظايا المبعثرة , ومن
ثمّ , تركيبها من جديد .. إنها أشبه بلعبة البازل , ولكن
مع معطيات لا نهائية لمجموعة الصور المكوّنة ..
إن هذه العلاقة المأزومة , تقترب من الواقع , بقدر
ابتعادها عنه , وتعترف به , بقدر رفضها لـه .. بحيث يصبح
الشعر " هو التسمية الأولى للوجود وجوهر كلّ الأشياء " ( 1
)
ومن هنا برز في شعر محمود درويش , ما سمّي بـ : / فلسطين
المتخيَّـلة , وفلسطين الواقعيّة / .. وهذا يقودنا إلى
النقطة الثانية .
2 – تراوحت تجربة درويش , بين فلسطين المتخيلة / وفلسطين
الواقعية , ولعلّ هذا ما جعلنا نقرأ في شعره , نماذج
لأسطورة البطل الفلسطيني الخارج من واقع منهار .. مثل :
سرحان , أحمد الزعتر ..
غير أن محمود درويش كان يعي , منذ خروجه من الأرض المحتلة
, خطورة هذه العلاقة في جسد
النصّ .. فكان على الدوام لا يثق بإحداها حتى ينتقل إلى
الأخرى , باحثا ً فيها عن أسئلة جديدة , تضفي على هذا
البحث مشروعيته وإنسانيته .. يقول محمود درويش في أحد
لقاءاته :
" كان على السلام أن يريح الهوية الفلسطينية , وأن يريح
أسئلة الثقافة الفلسطينية , وأن ينقلنا من وضعنا الأسطوري
, إلى وضعنا الواقعي , وأن يدلنا على أن الواقع أغنى من
النصّ " ... " ولكن يبدو أن البحث عن حياة عادية في ظروف
غير عادية هو بحث عن بطولة أخرى .. " ( 2 )
3 – تجاوز درويش الوجدان الفردي إلى وجدان جمعي , تندغم
فيه الأنا بالنحن , وعلى نحو فريد .. بحيث " يدخل الخاص
والعام في علاقة قلقة دائمة , حيث تكون قوة الأول وجموحه
غير متلائمة مع اختبارات الصواب السياسي واللعبة السياسية
التي يقتضيها الثاني . ولأنه الكاتب الحريص والمعلم الماهر
, فإن درويش شاعر أدائي من طراز رفيع , ومن نمط لا نجد لـه
في الغرب سوى عدد محدود من النظائر . وهو يمتلك أسلوبا ً
ناريّا ً , لكنه أيضا ً أسلوب أليف لا نجده إلا عند عدد
قليل من الشعراء الغربيين – من أمثال ييتس Yeats , وولكوت
Walcott , وغنسبرغ Ginsberg – امتلكوا ذلك المزيج النادر
الآسر الذي يجمع بين الأسلوب السحري التعويذي الموجّه
للجماعة , وبين المشاعر الذاتية العميقة المصوغة بلغة
أخاذة لا تقاوم .. " ( 3 )
إن هذه الخصائص الثلاث , والتي يمكن أن نقف على تنويعات
وتفرّعات كثيرة لها , تنبثق داخل اللغة / النص الشعري ..
هذا الذي يصبح الشكلَ النوعيّ لهذه التراكمية المعرفية ,
وفق معطيات شديدة التعقيد ..
" إنه يخلق الوجود وينتج التفكير . لا شيء لـه وجود خارج
الشعر , وبمعنى دقيق , لا وجود لـ " خارج الشعر " بل حتى "
اللا شيء " نفسه لا وجود لـه خارج الشعر . إن فكرة سجن
اللغة التي وصلتنا عن طريق الشعر لا مهرب منها . إن الوجود
نص خالص من البداية إلى النهاية " ( 4 )
قد يحمل هذا الكلام إشكاليات كثيرة , على مستوى المعرفة ,
والنقد , والإبداع نفسه .. ولكنه يفسّر جانبا ً مهمّا ً من
التجربة الدرويشية , وبحثها عن .. " واقع يكون أغنى من
النصّ " وإن كان يضمر في ذاته نصّا ً أغنى من الواقع ..
يكاد يتكشف في هذه التجربة , منذ أن بدأ درويش يضع الخطوط
العريضة , لأسطورة البطل الفلسطيني , ضمن بناء ملحميّ ,
يتجاوز كثيرا ً معطيات الواقع الفلسطيني الحقيقي , ليرسم
واقعه المتخيّل .. منطلقا ً في ذلك , من قدرته على رصد
تفاصيل الأول , والغوص في أعماقه , وتحويله إلى بنى أولية
, تدخل في التركيب الكليّ والرؤية الشمولية للواقع
المتخيّل ..
ومن هنا ظهرت قصائد مثل : سرحان يشرب القهوة في
الكافيتريا , أحمد الزعتر , قصيدة الأرض , قصيدة بيروت ,
ملهاة النرجس مأساة الفضة ..
ومجموعات مثل : تلك صورتها وهذا انتحار العاشق , و مديح
الظل العالي , وورد أقل , وأحد عشر كوكبا ً ...
وفي كل هذا كانت الرؤية الدرويشية , أشبه ما تكون بما طرحه
النقد الأسلوبي , حول فكرة " النظام الشمسي " الذي تتخذ
فيه الرؤيا نقطة المركز أو المحور , الذي يشدّ إليه جميع
الأطراف .. بل تصبح بؤرة الضوء التي تنفرد بنفسها , ولكنها
تتغلغل في الطبقات العميقة لمجموع الأجزاء المحيطة به ..
وكلما اقتربت هذه الأجزاء من بؤرة الضوء هذه , توهجت وظهرت
على السطح , وإذا ابتعدت غارت في الذاكرة العميقة , وأصبحت
وظيفتها نوعا ً من حفظ التوازن في هذا النظام الكليّ ..
غير أنّ هذا الاتجاه الملحميّ , والذي لم يتخلّ عن غنائيته
طبعا ً , اتجه في فترة لاحقة عند درويش , اتجاهات جديدة ..
بحيث انحرف الخطاب الشعري عنده , إلى ما يمكن تسميته بـ "
الأنا النظيرة " ..
أي أصبحت أنا الشاعر لا تختفي ضمن الأنا الجمعية في حالة
التماهي المطلق , بل أصبحت تشكل نظيرا ً كليا ً لها ,
يتقاطع معها , بشكل حلزونيّ , ينطلق من نقطة واحدة وينتهي
بنقطة واحدة .. ويرجع الحقّ في كلّ ذلك للشاعر وحده ..
فمند ديوان / لماذا تركت الحصان وحيدا ً 1995 /
الذي عمل فيه درويش على صياغة ذاكرته , وكتابة سيرته , وفق
معطيات لا تتلاشى فيها الذاكرة الفردية في الذاكرة الجمعية
, إلا بقدر ما يحقق هذا
التلاشي , نوعا ً من التوازن , الذي يجعل من أنا الشاعر
شاهدا ً ومعايشا ً للحدث الخالق ..
بينما نجد في / سرير الغريبة 1999 / شكلا ً آخر ,
لانفجار الأنا العاشقة , التي تتجاوز كلّ مفاهيم الغزل
العربي المعروفة , لتؤسس مفاهيمها الخاصة , بعيدا ً عن ثقل
القضية , في قراءة جديدة للذات
التي يبقى لها الحق الأول والأخير , في التمرّد والانقسام
على ذاتها , وأن تعيش حياة طبيعة , دون
أدلجة وأسطرة ..
ويتوثق هذا البحث عن الأنا الخالقة لذاكرتها الجمعية في /
جدارية 2000 / حيث يقف محمود درويش , بعد إصابته
بنوبة قلبية حادة , أمام الموت وحيدا ً , عاريا ً من كلّ
شيء , إلا من ضعفه الإنساني , وخلقه الشعري .. حيث تعلن
الأشياء فوضاها , وتتكشف لعين الروح حقائقُ , كانت خافية
تحت انبهار الجسد ..
إن الخيط الخفيّ الذي يربط هذه المجموعات الثلاث , هو وحدة
الموضوعة في كلّ منها ..
- كتابة السيرة / لماذا تركت الحصان وحيدا ً ..
- الحبّ / سرير الغريبة ..
- حوار الموت / جدارية ..
ووحدة الموضوعة , لها جذور عميقة في تجربة درويش .. يمكن
أن نتلمسها في القصيدة المجموعة
/ مديح الظلّ العالي 1983 / .. غير أن الدافع في
هذه المجموعة , هو قوّة الحدث في الواقع , وخروجه على النص
, وتمرّده على قوانين الكتابة ..
فبقدر ما كان الواقع متشظيا ً ومتعددا ً , جاء النصّ
متماسكا ً وكليا ً, حتى عندما كان يخوض في التفاصيل
الدقيقة . لقد جاء النص معادلا ً للواقع المنهار في
انهماكه , في تكوين رؤيا التفاصيل , هذه التي تشكل صياغة
لواقع مضاد ..
ولكن محمود درويش , في مجموعاته الآنفة الذكر , كان منجذبا
ً إلى قوّة الخلق .. خلق ما هو متكوّن في الذاكرة بتفكيكه
, ليس إلى عناصره الأولى فحسب , بل إلى ما قبل ذلك , إلى
الذرات الفاعلة في هذا المتكوّن .. وهذه العملية أكثر ما
تتجلى في :
- لماذا تركت الحصان وحيدا ً : فالسيرة الفردية حركة
حلزونية لمجموعة لا تنتهي من السير .. هذه التي تكوّن
السيرة الجمعية للشعب الفلسطيني .. وهي بطبيعة الحال فضاء
لا نهائيّ لتلك البنى الفردية ..
- سرير الغريبة : حالة لا تنتهي من الحبّ الخالص , غير أنه
حوار ينفتح على تاريخ حافل بالحبّ .. يحتلّ حيّزا ً لا
يستهان به : مكانا ً وزمانا ً ..
إن درويش أشبه ما يكون بالكيميائي الذي لا يكتفي بمعرفة
عناصر المادة , بل يبحث عن طبيعة الحركة في هذه العناصر ..
البحث عن حركة الأشياء .. هذه هي تجربة محمود درويش ..
بينما نجده في جدارية , وحالة حصار , يتخذ موقعا ً أقرب
إلى المواجهة ..
بعد إصابته بنوبة قلبية حادة , كتب درويش جدارية , في حوار
خلاق مع الموت .. حين وقف عاريا ً إلا من الشعر , ندّا ً
لـه .. وكأنه أحد ملوك الفراعنة القدماء , يواجه مصيره
المحتوم , أمام إشكالية الإنسان الكبرى / الموت .. فينتصر
عليه بهرم أو مسلـّة , يخلـّد فيها ذكراه وحياته ..
ودرويش يكتب حياته / جداريته على جدار الروح ..
وفي وطنه المحتل , في جزء من وطنه المحتل / رام الله , رأى
محمود درويش سخرية القدر , وأوهام السلام .. المنفى في
الوطن ..
الاحتلال ما زال قائما ً , والإنسان ما زال غريبا ً في
أرضه , والأحلام تتلاشى كما الزبد .. فوقف
عاريا ً , إلا من الوطن .. ليكتب حالة حصار ..
مع الموت كتب جدارية ..
مع الوطن كتب حالة حصار ..
الكتابة أمام الموت .. الكتابة أمام الوطن
جدارية .... حالة حصار
الأولى أشبه بتعويذة الخلود أمام الفناء ..
الثانية أشبه بتعويذة الحياة أمام الموت ..
* * *
* حالة حياة .. أم حالة حصار ..!؟
إن النظام الذي يحكم / حالة حصار 2002 / ,
والمجموعتين السابقتين لها / جدارية , سرير الغريبة / (
) نظام محكم .. وذو مسار محدد , لا يشتّ عن مداره
أيّ عنصر ..
بحيث تقوم وحدة الموضوعة , في كل من هذه المجموعات , بصهر
كلّ العناصر المكوّنة في بوتقة
واحدة .. إنه جسد القصيدة / النص ..
كذلك مهارة الشاعر وفنيته العالية , التي تمثل السلطة
النقدية الأولى , والأكثر قسوة ومحاكمة للقصيدة في
انخلاقها الأول , من أيّ سلطة أخرى ..
إن هذا النظام الذي يفرضه محمود درويش على نفسه , نظام
نسبيّ , تكون فيه الحركة الداخلية للقصيدة , فاعلة في
تكوين الحركة الكلية للنصّ .. فهي بمثابة النفـَس للجسد ,
الذي يتخذ فيه كلّ عضو دورا ً
أساسيا ً , يؤثر في العضو الآخر , بل يكاد يكون مرهونا ً
به , وبالتالي تعطي هذه العلاقة التفاعلية الجسدَ شكله
الكليّ المتكامل ..
ولا يمكن للقارئ أن يمرّ مرور الكرام على هذا الشكل
الشعريّ , الذي يصرّ عليه محمود درويش باستمرار , منطلقا ً
بذلك , من وعيه الكامل بالشكل .. فالكتابة " من دون وعي
الشكل تصبح كتابة
تداعيات .. " ( 5 )
إنها عملية إخضاع الحالة الشعرية للمنطق النقديّ , حتى في
أسمى حالات الخلق , وأكثرها توهجا ً ..
وبهذا يصبح الشكل الشعريّ نقد المتكوّن في القصيدة ,
بمتكوّن جديد , في عملية مستمرة .. بل تكاد تكون لا نهائية
..
لقد أصبح الشعر عند درويش كتابة ..
وبالتالي تنازل عن , أو تجاوز , الشكلَ الشفاهي , أو
القرائي , الذي أنتجه داخل الأرض المحتلة , وعمل على ترسيخ
وتأصيل ما يمكن تسميته بـ : / منطقية الشعور / أو / شعورية
المنطق / في تجربته الشعرية .
إن كتابة قصيدة طويلة , تحتلّ مجموعة كاملة , تستدعي
تفسيرات عدّة , تأخذ شرعيتها , إذا وضعنا في الاعتبار ,
تاريخ القصيدة عند درويش , حيث يصرّ على كتابة القصائد
الطويلة , التي تمتدّ إلى مجموعات كاملة , متمرّدا ً في
كلّ تجربة جديدة على سابقتها , ولا سيما في شكل القصيدة ..
إنه نقد المتكوّن في شكل القصيدة ..
هذا على الرغم من أن حركة الشعر العالمي , تشهد شكلا ً
مغايرا ً للنموذج الدرويشي , هذا الشكل الذي يعتمد على
الومضة الخاطفة , وانبثاق الفكرة , دون الولوج في أيّ بعد
ملحميّ أو توالديّ .. ( )
ولعلّ درويش في كلّ هذا يعمل على خلق هويّة شعرية خاصة ,
أصبح سيدها الأول دون منازع .. مع قدرته على مواكبة حركة
الشعر العالمي , ولكن على طريقته الخاصة ..
تنكشف مجموعة / حالة حصار / على ثنائية حادة من الصراع ,
الذي يتغلغل في البنية العميقة للنص الشعري , بل تكاد
موضوعة الصراع , بكل ما تحمله من تنافر وتجاذب في الآن
نفسه , توجّه رؤيا الشاعر ولغته , وتحكم نظرته للكون
والأشياء :
" أيها الواقفون على العتبات ادخلوا / واشربوا معنا القهوة
العربية / قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا / أيها الواقفون على
عتبات البيوت / اخرجوا من صباحاتنا / نطمئنّ إلى أننا بشر
مثلكم " ( ص 18 )
إن الصراع هنا , يتكشف من خلال اللغة , فالدخول يستدعي
ضدّه الخروج , وكلاهما سيؤدي إلى حوار إنسانيّ خلاق , إذا
ما تمّ بين هذين الضدّين ..
غير أن الشاعر لا يعدم أسلحته , في مواجهة الآخر / الموت /
العدوّ / الحصار :
" كتبت عن الحبّ عشرين سطرا ً / فخيّل لي / أن هذا الحصار
/ تراجع عشرين مترا ً " ( 58 )
فكلما ترسخت الحالة الإنسانية الحقيقية / الحب , ولا سيما
في الكتابة , تراجع أمامها الواقع المضاد . بل تصبح
السياسة , بكل رموزها وحدودها وأعلامها , لعبة بيد طفل
صغير لا يعبأ بها :
" سيلعب طفل بطائرة من ورق / بألوانها الأربعة ْ / أحمر ,
أسود , أبيض , أخضر /
ثم يدخل في نجمة شاردة ْ " ( ص 66 )
إن النتيجة التي وصلها محمود درويش منذ تسعة عشر عاما ً ,
في / حصار لمدائح البحر 1984 / واحدة مع
النتيجة التي وصلها في حالة حصار , برموزها ودلالاتها , مع
اختلاف التسميات : بيروت هناك , رام الله هنا , والحصار
قائم ومستمر :
" بيروت زنبقة الحطامْ / وقبلة أولى . مديح الزنزلخت .
معاطف للبحر والقتلى / سطوح للكواكب والخيامْ " ... " /
ولد أطاح بكلّ ألواح الوصايا / والمرايا / ثم نام " ( 6 )
الخلاص دائما ً يكون طفلا ً / أملا ً جديدا ً , لا يأبه
بكل الحدود والقواعد , بل يتحوّل إلى رمز كليّ
للحياة ..
إن حالة الصراع التي يرصدها درويش , تتجاوز صراع الأضداد
في وطن محتلّ , لتصبح صراعا ً وجوديا ً كونيا ً , يمتدّ
ليشمل كلّ شيء , بدءا ً من التاريخ :
" هنا تتجمّع فينا التواريخ حمراءَ , / سوداء لولا الخطايا
لكان الكتاب / المقدّس أصغر . لولا السراب لكانت / خطى
الأنبياء على الرمل أقوى وكان / الطريق إلى الله أقصر " (
ص 37 )
إن الصراع على الله , أشعل الحروب وصبغ تاريخ البشرية
بالدماء والخطايا , فكثر أدعياء الحقيقة . هذه التي أصبحت
سرابا ً يوجه طبيعة الصراع , ويؤسس لعقلية الرفض / رفض
الآخر .. يقول درويش :
" إلى شبه مستشرق : ليكن ما تظنّ / لنفترض ِ الآن أني غبيّ
غبيّ غبيّ / ولا ألعب الجولف / لا أفهم التكنولوجيا , ولا
أستطيع قيادة طيارة / ألهذا أخذت حياتي لتصنع منها حياتك ؟
/ لو كنت غيرك لو كنت غيري / لكنـّا صديقين يعترفان
بحاجتنا للغباء / أما للغبيّ , كما لليهوديّ في / تاجر
البندقيّة قلب وخبز / وعينان تغرورقان ؟ " ( 73 )
إن ثنائية الأنا والآخر , تفرض نفسها بقسوة في الواقع ,
وبالتالي , توجّه التفكير الإنساني إلى تقسيم
العالم : نحن / هم , شرق / غرب ... الخ .
إدوارد سعيد في كتابيه / الاستشراق , و الثقافة
والامبريالية / فضح بنية التفكير الغربي تجاه الشرق
, وهزّها من العمق , ووقف على الدوافع والأسباب العميقة ,
التي وجهت الغرب , بكل مؤسساته : السياسية والاقتصادية
والعسكرية والثقافية .. الخ , نحو معرفة الشرق , معرفة
تقود إلى السلطة والاستعلاء , وبالتالي إلى الإنشاء
والتكوين , حسب ما يتوافق مع أهدافها وغاياتها . وهذا ما
جعلها ضدا ً , عدوّا ً , وصيا ً , منتدبا ً , آخر بكل ما
لهذه الكلمة من معنى عدائي . وهذا ما قاد الغرب إلى رفض
وجود الآخر الشرقي إلا في إطار هيمنة الغرب وسلطته
..
ومحمود درويش لا يبتعد كثيرا ً عن فكر سعيد ورؤيته , بل
كلاهما يحرثان في الأرض نفسها , ويعملان على نسف الرؤية
الأحادية , لتحلّ محلها الرؤية الإنسانية .. يقول درويش :
" إلى حارس ثالث : سأعلـّمك الانتظارْ / على مقعد حجريّ
فقد / نتبادل أسماءنا , قد ترى / شبها ً طارئا ً بيننا /
لك أمّ / ولي والدة ْ / ولنا مطر واحد / ولنا قمر واحد /
وغياب قصير عن المائدة ْ " ( ص 70 )
لم تعد الكتابة عند درويش رصدا ً للحالة الشعرية فحسب , بل
تحوّلت لتصبح حوارا ً خلاقا ً يبدأ من الحالة الشعرية
بوصفها نقطة الصفر , ليمتدّ في كلّ اتجاه , فنقرأ الرؤيا
الدرويشية في مواضع كثيرة : الحبّ , الحرية , الموت ,
الوطن , الإنسان .. عناوين كبرى تصبح تفاصيل وأفكارا ً
جزئية في لوحة الحصار الدرويشية , التي تصبح فيها المقارنة
أشدّ مرارة , وأكثر إيلاما ً بين النقيضين :
" أنا أو هو / هكذا تبدأ الحرب لكنها / تنتهي بلقاء حرجْ :
/ أنا وهو "
" أنا هي حتى الأبدْ / هكذا يبدأ الحبّ لكنه / عندما ينتهي
/ ينتهي بوداع حرجْ : / أنا أوهي " ( ص 64 )
غير أن المشهد الدرويشي ليس بهذا السواد .. فالمجموعة
الـتي تمور بمتناقضات واقع الحصار والموت , تكشف عن رؤيا
مضادة لهذا الواقع , رؤيا تفيض بالأمل .. حيث يتعمّد درويش
, كما يبدو , أن يختتم مجموعته بستة عشر مقطعا ً للسلام ,
يبدؤه نكرة في مقطعين :
" سلام على من يقاسمني الانتباه إلى / نشوة الضوء , ضوء
الفراشة في / في ليل النفقْ "
" سلام على من يقاسمني قدحي / في كثافة ليل يفيض من
المقعدين / سلام على شبحي " ( ص 90 )
إن الأمل المتمثـل في السلام , يبدأ خجلا ً بإرسال هذه
التحية , إلى المؤمن بالآتي الغائب في الواقع , الحاضر في
القصيدة , حيث يقدم الشاعر تنويعات رائعة على وتر السلام
الذي يصبح معرّفا ومعروفا ً:
" السلام اعتذار القويّ لمن هو / أضعف منه سلاحا ً وأقوى
مدى "
" السلام انكسار السيوف أمام الجمال / الطبيعيّ ,
حيث يفلّ الحديدَ الندى " ( ص 93 )
" السلام رثاء فتى ثقبت قلبه شامة / امرأة لا رصاص ولا
قنبلة ْ " ( ص 95 )
والسلام الذي يقدمه درويش بعيد كلّ البعد عن تعريفاته
السياسية المؤدلجة , فهو سلام يعيد الأشياء إلى مكانها
الصحيح , ويبتعد بالإنسان عن التفكير المأزوم بالحرب
والقتل , ليجعله تفكيرا ً إنسانيا ً طبيعيا ً خلاقا ً :
" السلام هو الانصراف إلى عمل في الحديقة : / ماذا سنزرع
عمّا قليلْ " ( ص 95 )
ستعود الحياة إلى نفسها , وينتهي زمن الحصار , ويصبح
الإنسان إنسانا ً , وليس جنديا ً على أهبة
الموت .. فالبلاد تتسع للجميع :
" بلاد على أهبة الفجر / لن نختلفْ / على حصّة الشهداء من
الأرض / ها هم سواسية / يفرشون لنا العشب /
كي نأتلفْ " ( ص 27 )
منذ أن وعى محمود درويش طبيعة الصراع العربي الصهيوني ,
أخذ يتوجه بكتابته ليس إلى قارئه العربي فحسب , بل إلى
الآخر اليهودي , الغربي أيضا ً , فقضيته لم تعد قضية شعب
محتل , بل قضية أمة بكاملها , قضية وجودية تكاد تهزّ
موازين القوى في العالم المعاصر وتغيّرها ..
* * *
* الشعر وأسئلة الحداثة :
لقد بات من المعروف أن المشروع الدرويشي مشروع متوالد ,
يزداد تجدّدا ً كلما فكـّك نفسه , في عملية انخلاق جديدة ,
تتنازل فيها الجزئيات المفككة عن سماتها في الكلّ الأول ,
لتنطوي تحت كلها الآخر , متخذة سمات جديدة ..
وتجديد درويش كما ذكرنا , لم يتوقف عند نقد الشكل في
مجموعاته الشعرية , من خلال التنويع في شكل القصيدة ,
وابتداع أشكال جديدة , بل تجاوزه إلى محاكمة مباشرة لكل ما
تطرحه الحداثة الشعرية , وذلك في نسيج القصيدة العام ..
فقد تحوّل الشعر عند درويش إلى حوار فكريّ , ولكن دون أن
يتخلـّى عن روحه الانفعالية , وذلك في تمازج عجيب , لصالح
القصيدة / النص , ولصالح قارئها :
" إلى قارئ : لا تثق بالقصيدة / بنتِ الغياب / فلا هي حدسٌ
/ ولا هي فكرٌ / ولكنها حاسّة الهاوية ْ " ( ص 83 )
هذه الهاوية التي أصبحت إحدى إشكاليات النقد الحداثي
الكبرى , أودت بصاحبها تحت شعار " موت المؤلف " هذه الشعار
الذي أصبح في الخطاب الدرويشي , فكرة للتشكك بواقع الشعر
والنقد , وأسلوبا ً لفهم واقع الكتابة :
" الوميض , البصيرة والبرق / قيدَ التشابه .. / عما قليل
سأعرف إن كان هذا / هو الوحي ... / أو يعرف الأصدقاء
الحميمون / أن القصيدة أودتْ بشاعرها " ( ص 24 )
وعليه يرفض محمود درويش النقد الضيّق الافتعاليّ , الذي
يصطنع القاعدة , ثم يبحث عن النموذج :
" إلى ناقد : لا تفسّر كلامي / بملعقة الشاي أو بفخاخ
الطيور / يحاصرني في المنام كلامي / كلامي الذي لم أقله /
ويكتبني ثم يتركني باحثا ً / عن بقايا منامي " ( ص 25 )
إن الوقوف على الرؤيا الكلية للنصّ , ومعرفة البنى التي
تقف وراءها , هي إحدى مطالب الشاعر وغاياته من ناقديه ..
فالخروج من أحاديّة الرأي , وسجن اللغة , وقسرية النقد ,
وضيق الرؤيا .. بعض آليات النقد القويم , وإلا سقط الناقد
في السطحية ووهم النقد , وسقط النصّ في إطاره النقديّ ,
واتخذ شكلا ً أسطوريا ً جامدا ً في الفكر والواقع :
" الأساطير ترفض تعديل حبكتها / ربّما مسّها خلل طارئ /
ربّما جنحت سفن نحو يابسة غير مأهولة / فأصيب الخياليّ
بالواقعيّ / ولكنها لا تغيّر حبكتها / كلما وجدت واقعا ً
لا يلائمها عدّلته بجرّافة / فالحقيقة جارية النص , حسناء
/ بيضاء من غير سوء " ( ص 72 )
إن دلالات هذا النص مفتوحة وغنية , تنسحب على الواقع :
الأساطير = قوانين كلية لفهم الكون ..
ترفض تعديل حبكتها / لا تغيّر حبكتها = ثباتها المطلق ..
ربما مسها خلل طارئ ... = اصطدام هذه القوانين الثابتة
بالواقع المتغيّر
النتيجة = تداخل الخياليّ بالواقعيّ = تعارض النص مع
الواقع ..
وهنا تحدث المشكلة الأكثر عمقا ً وتعقيدا ً = كلما وجدت
واقعا ً لا يلائمها عدّلته بجرافة = تعديل الواقع قسريّا
ً, وبالقوة لصالح المطلق الخياليّ/ النص / الأسطورة ..
باختصار هذه حال النصّ في الكتابة / النص فوق الواقع ..
وهذه حال الصراع اليهودي العربي / الأسطورة ضدّ الواقع ..
أساطير التوراة وأكاذيبها , لم تجد ما يثبتها على أرض
الواقع الذي رسمته , فاتخذت القوة وسيلة لخلق واقع ,
يتناسب مع أساطيرها , أو عدلت واقعا ً موجودا ً /
الفلسطيني طبعا ً , ولم تتنازل لحظة , أو تقبل تغيير حبكة
أساطيرها يوما ً , وبهذا خلقت حالة من الصراع , الذي لا
ينتهي بين أساطير , ينتمي أكثرها إلى الوهم والكذب , وبين
واقع حقيقي لا ريب فيه ولا شك ..
هذه هي الرؤيا العميقة , التي يختزنها النص الدرويشي بأقل
الكلام .
إنها الحبكة الدرويشية التي لا ينازعه فيها أحد ..
إنها الرؤيا الدرويشية التي تحاول التأسيس لواقع فوق النص
, واقع فلسطين الواقعية , وليس فلسطين المتخيّلة .. يقول :
" الشهيد يحاصرني كلما عشت يوما جديدا ً / ويسألني : أين
كنتَ ؟ / أعدْ للقواميس كلّ الكلام الذي / أهديتنيه /
وخفـّف عن النائمين طنين الصدى " ( ص 77 )
" الشهيد يعلـّمني : لا جماليّ خارج حرّيتي " ( ص 79 )
ولكنّ السؤال : هل تحقق هذا الواقع الواقعيّ ؟؟
الجواب لن يكون بعيدا ً عن أحد ..
واقع مأزوم لا يقدّم ألا نصّا ً مأزوما ً .. أو كما يعبّر
درويش :
" خسائرنا من شهيدين حتى ثمانية / كلّ يوم / وعشرة جرحى /
وعشرون بيتا ً / وخمسون زيتونة / بالإضافة للخلل البنيويّ
الذي سيصيب القصيدة والمسرحية واللوحة الناقصة ْ " ( ص 38
)
هذا واقع الحال وواقع الكتابة في الأرض المحتلة , الذي
تنبّه له درويش منذ خروجه منها عام 1970 , وها هو يؤكده
ثانية عام 2002 في الأرض المحتلة ذاتها , وقد اطلع
على ما يكتب فيها ولا شكّ ..
النتيجة نفسها : واقع مأزوم سينتج نصّا ً مأزوما ً مثله ,
وما شذ ّ عن القاعدة تأكيد لها ..
* * *
* مرآة الذات / نقد التجربة :
لم تعرف التجربة الدرويشية , عبر امتدادها الطويل , ركودا
ً أو استقرارا ً على حال واحدة .. فقد نأت هذه التجربة عن
الثبات , لتلقي بنفسها في خضمّ الحركة , بما هي انتقال من
طور إلى طور , تحت قانون " نفي النفي " فهي تلغي ما قبلها
في كليته دون أجزائه , وتندرج فيما بعدها في أجزائه دون
كليته ..
وهذا ما أمدّ التجربة الدرويشية بتجددها الدائم ..
ولكن هذا القانون ليس تلقائيا ً , كما قد يظنّ المرء , بل
هو نتيجة لدراسة دائبة , ومراجعة مستمرة للخطوط والعناوين
الكبرى في هذه التجربة .. حيث اتخذ خطـّا ً بيانيا ً صاعدا
ً بقوة , فكلما ظنّ المتلقي , مع صدور مجموعة جديدة للشاعر
, أنه قد استنفد ما عنده , وألقى بآخر أوراقه , يفاجئ
قارئه , بل يصدمه بجديده , هذا الجديد الذي ينبثق من قديمه
, أو كما يعبّر درويش : " إذا قام الشاعر بقراءة سلالية
لسلالات شعره , فإنه سيجد أن كلّ مجموعة لها بذرة في
المجموعة السابقة " ( 7 )
ومن هنا فإن نقد محمود درويش لتجربته , كان أشدّ صرامة ,
من كلّ نقد آخر يمكن أن يتناولها , لأنه نقد من الداخل ,
لا يأخذ بالمقدّمات , لأنها باتت بديهية , ولكن ينطلق من
النتائج ..
إنها مرآة الذات الكاشفة ..
في حالة حصار ثمة مواجهة مع المجموعات السابقة : بأساليبها
ولغتها وجمالياتها وأفكارها .. قدّمت لدرويش النتيجة
التالية :
" قال لي في الطريق إلى سجنه : / عندما أتحرّر أعرف / أن
مديح الوطنْ / كهجاء الوطنْ / مهنة مثل باقي
المهنْ " ( ص 50 )
إن المبالغة في الوطن : حبّا ً أو نفورا ً , تلغي الوطن
الحقيقي , ليظهر الوطن العادة , الذي لا قيمة له ولا معنى
.. معرفة الوطن في فقده .. هذا هو الخطاب الدرويشي منذ
مجموعته أعراس 1977 :
" والتقينا بعد عام في مطار القاهرة ْ / قال لي بعد ثلاثين
دقيقة ْ : / ليتني كنت طليقا ً / في سجون الناصرة ْ " ( 8
)
محمود درويش لا يتنازل أبدا ً عن المسلـّمات التي لا خلاف
عليها , ولا سيما الحوار بين البشر / بين الأضداد / بين
الحضارات .. في قصيدته / خطبة الهندي الأحمر ما قبل
الأخيرة أمام الرجل الأبيض / تجلـّت دعوته هذه بأجمل صورها
.. يقول :
" .. أسماؤنا شجر من كلام الإله , وطير تحلق أعلى / من
البندقيّة . لا تقطعوا شجر الإسم يا أيها القادمون / من
البحر حربا ً ولا تنفثوا خيلكم لهبا ً في السهول / لكم
ربكم ولنا ربنا . ولكم دينكم ولنا ديننا / فلا تدفنوا الله
في كتب وعدتكم بأرض على أرضنا / كما تدّعون ولا تجعلوا
ربّكم حاجبا ً في بلاط الملكْ / خذوا ورد أحلامنا كي تروا
ما نرى من فرحْ / وناموا على ظلّ صفصافنا كي تطيروا يماما
ً يماما / كما طار أسلافنا الطيبون وعادوا سلاما ً سلاما "
( 9 )
هذا الفكر الخلاق , سيمتدّ إلى حالة حصار ولكن بثقة أقلّ ,
فرضتها الانكسارات المتلاحقة والهزائم الكثيرة :
" أيها الواقفون على العتبات ادخلوا ، واشربوا معنا القهوة
العربية / قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا " ( ص 18 )
إن هذا الانكسار الخفيّ الذي يحمله درويش , يأخذ صورا ً
أكثر مرارة وقسوة , حيث يتحوّل المقاتل الفلسطيني الذي
تحدّى كلّ أنواع الحصار والانهيار والموت في مديح
الظلّ العالي 1983 :
" حاصرْ حصارك بالجنون / وبالجنون / وبالجنون / ذهب الذين
تحبّهم ذهبوا /
فإما أن تكونْ / أولا تكونْ " ( 10 )
هذا المقاتل الواقعي الحقيقي , على أرض واقع حقيقي , أصبح
مقاتلا ً آخر في حالة حصار , معركته على الورق :
" إلى الشعر : حاصرْ حصاركْ " ( ص 57 )
إن هذا التحوّل نتيجة لواقع متلاحق من الهزائم والخيانات
العربية ,التي اختزلت القضية باتفاقية رخيصة , والوطنَ
بجزء صغير من الوطن .. وصرخة درويش في / ورد أقلّ 1986 / :
" ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا / ونرقص
بين شهيدين . نرفع مئذنة للبنفسج بينهما أو نخيلا .. " (
11 )
إن الأمل آنذاك , كان ما يزال حاضرا ً , على الرغم من
ضآلته . هذا الأمل الذي أصبح واضحا ً على لسان الحقيقة /
الشهيد : البحث عن وطن ما زال غائبا ً في الشهادة .. :
" الشهيد يوضّح لي : لم أفتـّش وراء المدى / عن عذارى
الخلود , فإني أحبّ الحياة / على الأرض بين الصنوبر والتين
لكنني / ما استطعت إليها سبيلا / ففتـّشت عنها بآخر ما
أملك : / الدم في جسد اللازورد " ( ص 78 )
لقد تحوّل الخطاب الجماعي / نحن نحبّ الحياة / إلى خطاب
فرديّ / فإني أحبّ الحياة / وكأن الوطن بأكمله تحوّل إلى
شهيد يبحث عن نفسه الضائعة ..
وثمة شكل آخر من المواجهة النقدية , التي يعتمدها درويش
لتجربته , تتعلق بالأسلوب : لغة أو بناء أو شكل بناء ..
فاللغة في هذه المجموعة امتداد لسابقاتها .. فهي لا تحفل
كثيرا ً بالجماليات , التي رأيناها في / لماذا تركت
الحصان وحيدا ً 1995 / بل تكتفي بما تستدعيه اللغة
الدلالية , ولكن بمهارة المعلم الحاذق , الذي لا يتنازل في
الحدّ الأدنى , عما بلغته قدرته اللغوية من انزياح وتخلـّق
, ودلالة تفيض عن واقعيتها , بحيث تصبح اعتباطية العلاقة
بين الدال والمدلول , عملية مدروسة بدقة متناهية .. نقرأ
مثلا ً :
" هنا عند منحدرات التلال أمام الغروب / وفوّهة الوقت /
قرب بساتين مقطوعة الظلّ / نفعل ما يفعل السجناء / وما
يفعل العاطلون عن العمل : / نربّي الأملْ " ( ص 9 )
فالبيئة / منحدرات التلال أمام الغروب , تصبح مكانا ً
بانفتاح دلالتها / فوّهة الوقت . . ولكنّ هذا المكان
يفقد فضاءه بانغلاق واقعيته / نفعل ما يفعل السجناء وما
يفعل العاطلون عن العمل , ويعود ليصبح فضاء مكانيا ً من
جديد , بانفتاح الدلالة : نربّي الأملْ ..
إن إصرار درويش , كما يبدو , على تقديم لغة , ليست هي
الشعر , وليست هي النثر , أصبح جوهر الأسلوب الدرويشي :
" إلى الشعر والنثر : طيرا معا / كجناحي سنونوة تحملان
الربيع المباركْ " ( ص 57 )
وثمة إصرار آخر على توطيد هذا المزج من خلال :
1 - تفعيلة المتقارب / فعولن / التي تكاد تسيطر على
مجموعات درويش الأخيرة , بشكل كليّ تقريبا ً ..
هذه التفعيلة المفردة , التي تخفف من حدّة التنافر بين
حروف اللغة الساكنة والمتحركة .. مما يجعلها حدا ً وسطا ً
بين الشعر والنثر .. وهذا ما أكـّده درويش في لقاءات كثيرة
..
2 – إحياء درويش لأسلوب , اعتمده في مجموعته / أرى ما أريد
1990 / وهو الرباعيات .. نقرأ مثلا ً :
" أرى ما أريد من السلم .. إني أرى / غزالا ً وعشبا ً
وجدول ماء .. فأغمض عينيّ : / هذا الغزال ينام على ساعديّ
/ وصيّاده نائم قرب أولاده في مكان قصيّ " ( 12 )
ونقرأ في حالة حصار :
" السلام حنين عدوّين كلّ على حدة ٍ / للتثاؤب فوق رصيف
الضجرْ /
السلام أنين محبّين يغتسلان / بضوء القمرْ / ( ص 92
)
إن هذا الانبثاق الشعري الذي نقرؤه عند درويش , لا يمكن أن
يكون عفويا ً , ولا سيما إذا وضعنا في الاعتبار : خبرة
درويش وحنكته في قراءة تجربته باستمرار , وتصاعد هذه
التجربة بقوة , دون اجترار لذاته , كما يحدث لعشرات
التجارب التي تقع في شرك الابتذال والتصنـّع ..
ويمكن لنا الوقوف على الكثير من الأفكار , التي يعود درويش
لمحاورتها , في ضوء مستجدات واقعه الكتابي من جهة ,
والواقع الفلسطيني / العربي / العالمي / من جهة أخرى ..
بحيث لا تكون هذه الأفكار تكرارا ً , أو استعادة غبية
لممتلكات قديمة , كما يعتقد بعض النقاد , بل هي محاكمة
دائمة , لكلّ ما تنتجه الروح الشاعر على مرآة الذات
الناقدة ..
لقد كان من الممكن لهذه الدراسة , أن تمتدّ لتشمل جوانب
أخرى في هذه المجموعة الثرّة : كالصورة الشعرية , واللغة ,
وبنية القصيدة ... الخ ..
ولكن , وإن كان الغوث قليلا ً , فقد يحيي الأرض الواسعة
الكبيرة ..
وعسى أن تكون هذه الدراسة مفتاحا ً , لدراسات لاحقة , تضيء
زوايا أخرى , لم تتناولها هذه الدراسة , ولكن في ضوء
التجربة الدرويشية , ووضعها في مكانها الصحيح , بالنسبة
لحركة الشعر العربي والعالمي المعاصرين ...
كريم عبيد
27 / 11/ 2003
الأسم: أبورامز
أنا معلم وباحث من فلسطين أود خدمة جليلة من حضرتكم في
بيان عناصر الرواية في رواية النهر بقمصان الشتاء لحسن
حميد أو قراءة تحليلية فيها