أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتبة: زكية علال-الجزائر

       
       
       
       

رسائل تتحدى النار والحصار1

     

رسائل تتحدى النار والحصار2

نصوص أدبية

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

زكية علال من مواليد 1966

متخرجة من المعهد التكنولوجي للتربية، أستاذة اللغة العربية بدأت الكتابة في منتصف الثمانينات.

 

نشرت في عدة صحف وطنية منها:

المساء , اليوم , النصر , الأحرار, الشروق...

نشرت بمجلة المنتدى بإمارة دبي

شاركت في عدة ملتقيات وطنية

 

نالت عدة جوائز منها:

-الجائزة الثانية للقصة عن مديرية الثقافة لولاية بومرداس سنة 2000

-جائزة القصة لوزارة المجاهدين سنة 2003

-جائزة كتامة للقصة سنة 2005 

 

من إصداراتها:

-وأحرقت سفينة العودة ... عن رابطة إبداع الوطنية

-لعنة المنفى...عن دار يحي للكتاب

 

كتبوا عنها :

1-كتب عنها الأستاذ الكاتب والناقد الجزائري احسن تليلاني وهو يقدم لمجموعتها القصصية الثانية ً لعنة المنفى ً:

أعترف – ابتداء- أن السعادة غمرتني عندما شرفتني الأديبة المتميزة :

زكية علال بكتابة مقدمة هذه المجموعة القصصية الموسومة بعنوان ً لعنة المنفى ً

وأعترف – ثانيا- أنني قرأت قصص هذه المجموعة بمجرد أن تسلمتها , فاكتشفت أن معلوماتي القبلية عن الكاتبة

ونصوصها التي قرأتها منشورة في بعض الجرائد , هي معلومات سطحية وبسيطة , بالنظر إلى ما وجدته عندما قرأت نصوص هذه المجموعة التي صافحتني وانتشرت كما الهواء في سمائي: تقول الآلآم والأوجاع ولكن في جمال ما بعده جمال , ولقد تعجبت صراحة : كيف يجتمع السحر مع الألم ؟

وأعترف- ثالثا- أنني ما قرأت لغة حبلى بالأحزان والشعور بالإغتراب مثلما قرأته في هذه القصص التي اختارت لها الكاتبة عنوانا فجائعيا: ً

لعنة المنفى ً وكأني بها تصرخ مناهضة هذا القدر الموبوء بالعزلة والغربة , ما جعلها تروي أحلام الهروب.

وأعترف- رابعا- أن القصة عند الكاتبة زكية علال تأخذ شكل القصيدة وتتماهى معها إلى درجة تنهار فيها كل الفواصل والجدران , فما تدري نفسك أأمام أشعار تستدر حمأة العواطف وتنتشر في الواقع بشكل عمودي أم أنت أمام نثر فني يعيد إنتاج الواقع وينتشر فيه بشكل أفقي.

الكاتبة زكية علال سيدة الحكي... شهرزاد هذا الوقت تعيد للحياة ألقها وبهاءها المأسور في منافي شهريار

 

-2- وكتبت عنها آمال بوعكاز في جريدة المساء بعد صدور لعنة المنفى:

ً لعنة المنفى ً هو عنوان المجموعة القصصية التي عادت بها إلينا القاصة المتميزة زكية علال , دفقا شاعريا مشنشلا بالرومانسية والواقعية , وهو ذات الأسلوب الذي تنتهجه كتاباتها القصصية الملفوفة باللوعة والحزن والإغتراب ... وكأن قدرها هو هذا الهروب الحلزوني في جزر المنفى والإحتراق .

زكية الطفلة الهادئة ... الرصينة المطلة على نوافذ الشمس الطالعة من الصخر, ترسم لجغرافية الزمان والمكان حدود البقاء والإنتماء , تلم الريح وتجمع المطر لتخيط كمالها لحظة بلحظة , وإن المتتبع لإنتاجها القصصي الجيد وأسلوبها الذاتي الأخاذ , يعطيها ولو جزء ضئيلا من حقها المغتال .

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

من وحي العاصفة

تفاصيل وجع على الانترنت

هروب السجينة رقم1

 شرايين عارية

حيزية الأسطورة

الانهيار

لعنة المنفى

هروب المجنون رقم 3

مرايا الصمت

لعنة القبر المفتوح

تفاصيل امرأة لا تموت

تأبين آخر الوجع

 الرسالة الأخيرة

رحلة الغروب

الحلقة الأخيرة

 

شرايين عارية

 

 

كانت الساعة تزحف نحو الثامنة وخمس عشرة دقيقة مساء بتوقيت خط الوجع  الذي يفصل دمي عن ممرات قلبي ويقسمني   شطرين متنافرين ، غير متوازيين ... أحدهما تملأه الرغبة في الحياة والاستمرار ، والآخر يسكنه اليأس ويستوطن في جيوبه الإحباط ...شطران يتنافسان على ملكية  أنفاس مكدودة ... بل يتآمران على رجل يحمل شهادة عليا لم يعد يعلقها على الحائط افتخارا ، وإنما يدسها بين أغراضه القديمة هروبا من أسئلة أولاده ، ويقف منذ -سنين - منتصبا على مساحات النهار كبائع في متجر لبيع ملابس نسائية !!

  عندما تقدمتُ لخطبة سلمى ، لم أحمل لها وردا كما يفعل المحترمون ... ولم أطرق بابها بعقد ثمين كما يفعل الأغنياء ... بل نقرت على نافذة  قلبها بنكتة سخيفة جدا ... قلت لها : " أحمل شهادة عليا في العلوم السياسية ، وأعمل بائعا في متجر لبيع ملابس نسائية  "

صمتت ... والصمت واجهة القبول ، لكن أمها ابتسمت لسخافة النكتة وردت وهي تمسح على انكساري:

" ستفرج إن شاء الله "

 وتزوجنا ...

  كم كنت خائفا من زواجي منها !! ليس طعنا في طيبتها ، فهذه الحمامة البيضاء لا تتناسل إلا بياضا ، ولكن خوفا من أن يصبح الزواج مقبرة منسية لحب كان متوهجا ... فكل قصص  العشق الأسطورية انتهت إلى فشل ، أو أراد لها أصحابها ذلك حتى يحموا وهج حبهم من الموت اندثارا ... كل العاشقين الأولين كانوا قادرين أن يتزوجوا ممن أحبوا طوعا أو كرها، ولكنهم لم يفعلوا رغبة في جعل حبهم أطول عمرا ، وظلت لوعتهم وأشواقهم تقتات على حسرة الناس لفراقهم ... لو تحقق زواجهم لمات حبهم في عصرهم ...

  تزوجت من سلمى ...

 وبعد ثلاث عشرة سنة اكتشفت شطر المعادلة الخاطئة ، فالزواج ليس مقبرة مهملة للحب ... سلمى كانت تتجدد بابتسامتها ... بطيبتها الفاضحة ، بقدرتها العجيبة على نفخ الروح في تفاصيل صغيرة – تبدو للناس عادية – لتجعل منها سببا لفرح غير مرتقب .

  كنت أعود من العمل مرهقا لوقوفي الطويل في انتظار زبونة تأتي ، تتفحص كل الفساتين ، وتسألني عن ثمنها وعن مساعدتها ، وتخرج من المحل وهي تهديني ابتسامة اعتذار لأن المبلغ الموجود في حقيبتها لا يكفي ... أعود إلى البيت والإحباط يلبسني ، فأجد سلمى تنزع عني  رداء الخيبة وتدثرني باستقبال دافئ ... كانت تحبس خطواتها في الصالون أو في المطبخ ، وتهمس للأولاد : " دعوا أباكم يستريح "   وعندما أستفيق من إرهاقي أقول لها كطفل يحنو – دائما إلى صدر أمه : " ما أجمل أن يكون أن يكون للإنسان مكان يستريح فيه من جبروت الشارع والأرصفة الباردة ، ولو كان بحجم قلب ..وما أوسعه !!"

  لم أكن سي " السيد "، فتخاف صراخ غضبي ...بل كنت سي " الحنون " والحنان أيضا له سطوة ومقاليد حكم ...

  هذا المساء ... فتحت الباب فوقعت في فراغ رهيب عند العتبة ... ابتسامتها كانت غائبة ... ماذا حدث ؟ !!  اتجهت نحو الصالون لأجدها والأطفال مشدودين إلى صور دمار شامل تبثها التلفزة . ..قالت لي بحزن كبير :

-      زلزال عنيف ضرب العاصمة منذ دقائق وخلف مئات القتلى وآلاف الجرحى .

اتخذت لي مكانا إلى جانبها وقد ذهب عني التعب ، ليس بفرح هذه المرة ، ولا بابتسامة ، وإنما بحزن ... فالأحزان كما النار ، عندما لا تجد ما تأكل ، تأكل نفسها ...

 " يجب أن نساعد إخواننا في العاصمة "  قالتها بصيغة الأمر التي لم أعهدها في كلامها ، ولكن بطيبة وأمومة طاغية :

 قلت كمن يكشف سرا :

-      ولكننا لا نملك ما نتبرع به !!

ردت بسرعة وكأن الإجابة كانت جاهزة :

-      لنا هذا الدم الذي يجري في عروقنا ... نتبرع بدمنا للجرحى ...

   صباحا ... وبمجرد أن تنفس الصبح وتثاءبت الشمس وهي تتأهب لمشوار جديد ، وتعلن عن يوم يحمل في جوفه مفاتيح قلوب سكنها الصدأ ، وتعلق العجز بأسوارها العتيقة ... ارتديت ملابسي – على عجل – ولم أهتم بشيء آخر ، بل لم ألتفت إلى فطور الصباح الذي لم أكن أستغني عنه .

 

 كنت أقطع الشارع الرئيسي باتجاه المستشفى الجامعي وصوت المذيع يلاحقني " الهلال الأحمر يدعو كافة المواطنين للتبرع لفائدة إخوانهم المنكوبين "

 كان الفقر يتربع على صدر العائلة ويشمخ برأسه ، ولا أملك ما أجود به غير دمي ... قطرة من دمي قد تمنح التألق لوجه طفل يشرف على الهلاك ... قطرة من دمي قد تعيد ترتيب الحياة عند مدخل شريان شيخ نزف طويلا ... بعض دمي قد يجمع ابتسامة تناثرت على وجه أم وهي تحضن طفلها خوفا عليه من انهيار جدار ...دمي ... ولا شيء غيره ، أتصرف فيه كيفما أشاء دون أن أحس أني أذنبت في حق عائلتي ، أو اغتصبت اللقمة من أفواههم ...

  لا أنكر أن الخوف كان يسبقني إلى مدخل المستشفى ، فلأول مرة سأرى دمي يفرغ في  حقنة أو قارورة  أو كيس  أو ....آه  ...لست أدري ما اسم هذا الوعاء الذي سيجمع فيه   ...  كنت أتساءل بيني وبين نفسي : هل سيكون حارا بفعل الغضب الذي يأكلني دون أ ن ينتبه إليه أحد ، أم أن الخيبة التي تعلو وجهي  تجعله باردا ... ؟ هل سيتدفق بسرعة هروبا مني ، أم سيتكاسل في الخروج من عروقي تمسكا بي ... ؟  ومع ذلك كنت سعيدا ... سعيدا بحجم فرح طفل ساذج يمتلك – لأول مرة – حفنة من الحلوى ، ويريد أن يوزعها على أصدقائه في المدرسة ليتباهى بقوته وكرمه .

  كان عدد المتبرعين قليلا  " لا شك أن أكثرهم وجد ما يتبرع به غير دمه "  ... المرارة كانت تأكل قلبي وأنا اكتشف أني لا أملك غير دمي يزاحم بعضه بعضا ... ماذا لو كان هذا الدم الذي أتباهى به يحمل مرضا يعيقني ويقتل نشوة الكرم في حلقي ... ؟ لا شك أن كل العصافير التي ابتهجت في ربيع عمري ستسقط مذبوحة على جدار نكستي .

  انزلقت إلى داخل المستشفى وأنا أتأرجح بين السعادة والمرارة ... استقبلتني الممرضة بابتسامة عريضة " هذي أولى بشائر الكرم "  .    طلبت مني – بأدب – أن أتمدد على الكرسي المقابل لها ، ففعلت ... مددت لها يدي اليمنى بنشوة من يتقدم بوردة إلى حبيب عاد إليه بعد أن غادر تربته حقبة من الزمن ... أدرت رأسي إلى اليسار ، لأن النظر إلى الأدوات الطبية – ولو كانت بسيطة – يجعلني أحس بالارتباك ... كنت أسمع طقطقات أوراق  وأدوات صلبة تؤخذ وتوضع ، بعدها أحسست بأصابع الممرضة تضغط على يدي ، وبشيء يشبه وخز الإبرة يخترق أحد عروقي ... إنها الفتحة التي ستجعل دمي يتدفق غزيرا ...لكن صرخة الممرضة أطفأت وهج الفرحة المباركة وجعلتني ألتفت مستفسرا :

-      ماذا حدث ؟ لماذا تصرخين ؟

 ورأيت منها جسدا تزايل هيكله في مجلسه ، وتهاوت ملامح وجهها الذي كان مشرقا ... أعدت السؤال مرة أخرى والخوف يعصف بهدوئي من أن تكون اكتشفت مرضا خبيثا :

-      ما الأمر ؟!!

أجابتني بصوت متقطع ، مدمر يشبه بركانا داهما :

-      انهض ... ليس في عروقك دم !!!

نهضت مسرعا وأنا أهرع نحو الشارع ... لا حذاء انتعله ولا هدوء يلبسني ... بل اضطراب وفزع ... كنت أتوقع أن أسقط ميتا عند قدمي أي رجل أو امرأة أو صبي ، أو أي دابة تسعى على الأرض ... بل قد أهوي عند رابعة أي متسول يفترش الرصيف. لكني وصلت إلى البيت ولا شيء من هذا حدث ... رميت بعوالمي الصغيرة والكبيرة ودفعت الباب لألج إلى فتحة في داخلي ... وقفت أمام المرآة أتأمل تفاصيل وجه يستقبل الناس ويحبهم بغير دم ، وتساءلت بفجيعة  : إلى أي منفى غادرني دمي ؟ !!

  بعد دوامة مفرغة ، أدركت أن كل النكسات والنكبات التي مزقت جسد هذه الأمة ، والتي كنت أتفرج عليها عبر الفضائيات العربية إنما كانت تقتات من دمي حتى لم يبق منه ما يُهدر أو يُستنزف ، أو يكون صالحا للتبرع ...تفطنت إلى أن شراييني ظلت حافية ، بل عارية على امتداد عمري الهارب من نكسة إلى أخرى ، ومن انكسار إلى آخر ...

أضيفت في 25/12/2007/ * خاص القصة السورية / المصدر الكاتبة

 

 

هروب السجينة رقم -1-

 

"…ليكن في علم المسافرين الكرام أن الطائرة ستقلع بعد لحظات ، فالرجاء شد أحزمتكم …"

رغم جمال الصوت النسائي المنبعث عبر مكبر الصوت إلا أنه لم يثر انتباهي، كنت فقـط مشدودة إلى ساعة يدي أنتظر في قلق لحظة الإقلاع، لن أصدق –أبدا- أن الطائـرة ستحلـق فـي الجـو ، و أنني سأتخلص من ظل صورتك الذي يطاردني في كل مكان –لن أصدق أنني سأتحرر من جنون حبك، ومن وجع هذا الإرتباط الذي ضيعني ..

الدقائق تمر كسنين عجاف، تزحف من ثانية إلى أخرى كشيخ هرم يجر مع رجليه ثقل عمره المتعب .. مرت دقيقتان والطائرة تربض في مكانها كتمثال كبير يقف فوق مساحة تطل علـى زمن آخر .. الزمن .. هذا العملاق الذي كان يسابق الريح ليختصر أحلامي .. شبابي، وسنوات عمري ، لست أدري لماذا يسير اليوم بطيئا كأنه يعاندني، ويمدد مساحة حزني، كنت غارقة أبحر في قلقي ، عندما سمعت صوت محرك الطائرة، وأحسست أنها تحركت من مكانها … وأخيرا تحـرك هذا العملاق المارد .. أخيرا …

وانفرطــت من عيني دمعتان كبيرتان لم أستطع حبسهما، قد تكون دموع الفرح … لا … إنها حارة و موجعة ، ربما تكون دموع الفراق كما يقولون، لكن لم أبكيك والرحيل كان اختياري ؟ لا ..أنا ما اخترت الرحيل، بل أنت الذي أجبرتني عليه، وجعلتني أوقع معك وثيقتي الأخيرة .

"كنت حبك الوحيد" جاءني صوتك باهتا من خلف زجاج نوافذ الطائرة .

أعترف أني أحببتك كثيرا " أعترف –أيضا- أنك كنت تسري في دمي .. في عروقي ، وتلتصق بجدار قلبي كجلد عظمي، ولم أصدق يوما أننا سننتهي إلى هذه النهاية الموجعة، وأنني سأحلق في الجو لأراك تصغر أمامي شيئا فشيئا، ثم تتحول إلى نقطة سرعان ما تتلاشى … كنـت وطني … وجعي ، وكنت منفاي، آه …منك يا وطنا وهبته العمر فأهداني حزمة من خراب ، يا وطنا ضيعني مرتين .. أوجعني مرتين : مرة في أولى محطات العمر ، ومرة في آخر محطات العمر .

الضياع الأولى :

كنت حينها –طفلة صغيرة جدا .. بريئة جدا، وطيبة جدا، كنت أجلس كالحمل الوديع تحت جناحك، وتذوب حواسي الخمسة ، وحتى حاستي السادسة في حبك الجارف : العين تشخص في بهاء صورتك تتعلق بقامتك الطويلة جدا ، الأذن تسافر مع نغمات صوتك الرائع، أنفي لا يشم غير رائحة عرقك "أقول دوما أنها تشبه رائحة التراب، ولهذا أجدها "زكية"، لساني لا يتذوق غير سحر كلماتك ، حبك يسري عبر كل مسامات جلدي، حتى إحساسي بما هو آت يتراجع ، ينحسر ، ليذوب في حاضرك الآسر، الفاتن …

كنت أجلس إليك، أصدق كل الحكايا والأحاجي: صدقت أن ابن السلطان قطع سبعة جبال وعـرة ليصل إلى لونجة ويتزوجها رغم أن أمها كانت غولة تأكل لحم البشر، وتشرب من دمهم، صدقـت أن الأميرة الحسناء ظلت نائمة مائة عام على سريرها الفاخر ، تجمدت حينها أحلامهـا .. جمالهـا ،

وبريق الشباب في عينيها الجميلتين ، ويمر أمير وسيم ليطبع على جبينها قبلة بريئة، فتستيقظ الأميرة، وكل من معها في القصر ويتزوج منها الأمير ، فيعيشان في ثبات ونبات ويخلفانً صبيان وبنات ً…

كم كنت ساذجة ، وغبية من الدرجة الأولى ! لم أسألك يوما كيف لبشر أن يتزوج من ذرية الغـول : و ما الغول؟ هل هو من الجن أم من الإنسان ، أم هو خلق آخر؟ لم أسألك ، كيـف لقبلـة بريئة أن تعيد ميتا إلى الحياة وقد قبلت كل الذين أحبهم، لكنهم ظلوا جثثا هامدة .

وضاعت طفولتي بين سلطان عاشق ولهان وأميرة حسناء بلهاء، ضاعت براءتي بين الأحاجي الفارغة لأكتشف بعد عمر أني طفلة غير سوية، طفلة لا تعشق لون الفرح ولا لون الفراشات ، ولا تسعد حتى بملابس العيد كما كل الأطفال …

الضياع الثاني :

كنت ساعتها –إمرأة بصفحات بيضاء، تبحث عن ألوان الأمل لترسم خريطة حياتها، كنت معلقة إلى الأفق لعله يأتي فارس على جواد أبيض، فيكتب على صفحاتي البيضاء قصة وفاء أبدي، لكنك جئت تسابق الريح لتحجب عني الأفق والحلم، وتسافر بي في متاهات العاشقين الأولين : فهذا قيس يبكـي في حرقة فراق ليلاه، وذاك قيس آخر يبكي على قبر لبناه ليترك عقله بين أحجار قبرها ويهيم في البراري مجنونا بلا عقل .. ضيعتني بين صفحات الذين باعوا قلوبهم للموت حينا وللجنون حينا آخر …

وتتجلى الحقيقة ذات فجر ملتهب ، متفحم، لأكتشف أن قلب قيس ضاع بين فتنة الكراسي ولعبة السياسة، وأن جميل بثينة باع حبه على طاولات السجائر و"الكاوكاو" اكتشفت أن الحب عبث، جبن ونكتة يتسلى بها الرجال في المقاهي والحافلات .

اليوم … وبعد أن زحف الشيب إلى رأسي، وشاخ الحلم في صدري ، أجلس وحيدة إلا من وجعي، أشعر بالبرد يقتل آخر ما تبقى من حلمي الوردي، لهذا قررت أن أهرب بما تبقى في صدري ، ولن أعود إليك ، سأسافر إلى آخر محطات الدنيا لكن لن أعود إليك .. لن أعود .. لن ..

آخر الضياع :

انتبهت من ضياعي لأجد الركاب في هرج ومرج، استفسرت عن الأمر فقيل لي أن الطائرة تعانـي من عطب يرغمها على الرجوع إلى المطار الأول .. المطار الأول ؟

تهاوت أحلام الهروب على مقعد الطائرة، وأخرست الخيبة لساني، وعدنا إلى المطار الأول .. إلى الصفر لأجدك تنتظرني كما تركتك لحظة الوداع، فتحت ذراعيك واستقبلتني بابتسامة انتصار .. أسرعت إليك، دفنت رأسي المتعب في صدرك وأنا أردد في استسلام "إنك وطني" قدري وقبـري الذي لا مهرب إلا إليه .

 

 

تفاصيل وجع على الأنترنات

 

العالم يتكور في ذيل القرن، حتى يغدو كرة ثلجية زائفة، اقتحمها السواد عنوة بحجة ان

الأسود لون أساسي في رسم أحلام البشر ثم تتدحرج الكرة الثلجية السوداء، وتذوب عند قدمي بفعل حرارة النكسة التي سكنتني ، فأجد نفسي أسبح في فضاء مفرغ : لا أرضا تقف فوقها قدماي، لا سماء تحتمي بها أحلامي الوردية، و لا بشرا يسبحون في الشارع بل، لا أثر للشـوارع، ولا البيــوت ولا…أحسست أن العالم أفرغ نفسه في عمق محيط لا قرار له، وإني أتمايل كبلونة لا تعرف أين تستقر .. فراغ.. فراغ.. فراغ .

سحبتني المرارة إلى بيتي حمامة ضيعت بياضها وسلامها عند بوابة الفتنة الكبرى ، فأفاقت على ألوان شتى تتعاقب على خارطة روحها .

أجيء ،طفلة محملة بخطايا الكبار ، ومرهقة بحماقتهم التي أغرقتها في متاهات لعبة ممتدة، كي تظل طفلة ساذجة لا تفقه شيئا.

أجيء … خوف من ورائي، وبرد قاتل يسبقني إلى غرفتي ليحملني إلى فراشي .. أخـرج يدي من جيب عمر غابر ، أدفع الباب بضعف الهزيمة التي سكنتني فأجدها تفتح على تضاريـس مدينة مجهولة.

ألج إلى الداخل يتقدمني جيش من الرياح العاصفة العقيمة، وتحرصنـي مـن ورائـي فرقة من الخوف الذي احتواني منذ استيقظت الشوارع على طوفان من الدم .. والدموع .. والجثث المشوهة، ودخان أحلام أحرقتها الحماقة.

حاولت أن أنير ظلمة الغرفة لكن عبثا فالتيار إنقطع كما كل المرات ، أفزعني الظـلام المبعثر في كل الزوايا كالأشباح " كم يرعبني الظلام … إنه رهيب … يخطف منك الأمن والأمان، ويجعلك تتوقع طعنة من هنا وطعنة من هناك … يكفي أن نصف العمر يضيع في سراديب ليل مجهول" .

هكذا كنت أهمس بخوفي لكل الذين أحبهم، لكن الحقيقة أبشع بكثير مما أصوره لأحبائي ، فالظلام يلازمني كظلي الرمادي ليزرع الخراب في كل فضاءاتي .

وأنا طفلة صغيرة ، كنت لا أنام على قبس من نور ، حتى ضوء القمر الذي كان ينكسر على نافذة غـرفتي، لم يكن يقنعني ، كنت أحب أن أغمض عيني على ضوء ساطع حتى أضمن هروب الأشباح. هكذا أخبرتني أمي وهي تحدثني عن طفولتي المتأخرة .

سحبت رجلي نحو كل الأدراج التي هداني إليها عقلي وحدسي ، فتحتها لأبحث عن علبة كبريت تنفعني في هذا اليوم العسير ، لكن –عبثا-و فالظلام يحجب عني كل شيء .

لست أدري لماذا تملكني الإعتقاد أن الغرفة مليئة بالجثث المشوهة ، والرؤوس المفصولة والأطراف المقطوعة مع أن بصري لا يفقه شيئا مما حوله .

تخيلت أن بعضا منها يتمدد على سريري وبعضا يختبئ في خزانة ملابسي والبعض الآخر على أرضية الغرفة ليزرع الرعب والخراب فيها، اصطدمت بشيء صلب، فسيطر علي رعب قاتل ، وتسلل إلى عروقي ودمي خوف رهيب، ذهب بكل شجاعتي وخيل إلي أني اصطدمت بجثة وأنها تتعلق بقدمي طلبا للنجاة، تخيلتها امرأة مفصولة الرأس تتسلق إلى صدري بل رجلا ممزقا يتعلق بثوبي، لا، بل طفلا متفحما يزحف نحو قلبي ليعود إليه بياضه، لكنني ابتسمت من خوفي المفرط ، وأنا أتحسسه، لأكتشف أني تعثرت في سريري الحديدي الذي يأويني كل ليلة .

وطال عمر الظلم -عفوا- أقصد الظلام فتمدد الخراب في داخلي أكثر وكاد يجعل من جسدي المتعب جثة تضاف إلى مجموع الجثث المتناثرة في الغرفة … ومن وسط العتمة الداكنة تسللت إلي صورته، تذكرته، تذكرت سيجارته .. دخانه المتكبر.. لقد كان هنا بالأمس ولا شك أنه نسي علبة الكبريت كما تعود، فهو كلما مر بمكان ، نسي –أو تعمد-أن يترك شيئا من لوازمه يدل عليـه، أسرعت إلى مكانه أدفع الظلام بذراعين تائهتين… تحسست ظله الرمادي بكفي الأيمن ، وخياله الذي يلتصق بي-بكفي الأيسر- آه العلبة هنا ! "كم أنت رائع أيها الرجل، بل كم أنت غريب الأطوار تمنحني الخراب حين تقترب مني وتترك لي نورا عندما تغادرني !  "

ولم أكد أفتح علبة الكبريت، وأخرج منها عود ثقاب حتى عم الغرفة نور تعبت عيناي أن تتحمله .. عجيب .. لأول مرة يعود النور بهذه السرعة، فالضوء .. كما الضياء.. كما كل الأشياء المضيئة في بلدي ، ينطفئ بسرعة ، لكن رجوعه يحتاج إلى سنين، نخسر خلالها رجالا وعيون أطفال وظفائر نساء، وقبل أن يصل المختصون التيار المنقطع يكون كثير من العباد فقدوا رؤوسهم .. أيديهم.. أرجلهم .. أحشاءهم، أو جميعهم في آن واحد، وفي أحسن الأحوال تسلب منهم أحلامهم .

فعندما يكون الملك بأمر الظلام، تتوقع أن تخسر أي شيء وتكون محظوظا إذا خسرت حياتك فقط.

تمددت على سريري الحديدي، وقد تخلصت من عقدة الخوف، بعد أن أوصل المختصون التيار المنقطع، لم يبق أمامي غير هذا البرد الذي يكاد يعصف بي ، ووجدت نفسي أسخط على كل العلماء والأطباء " سحقا لهؤلاء العلماء الذين يبحثون للإنسان عن سكن غير الأرض بينما الخوف يحصد أكثر مما تحصد الحروب، وعجزوا إلى حد الساعة عن اختراع أقراص تخلصنا مـن البـرد و أخرى تقتلع الخوف من أعماقنا، وأخرى تجتث من قلوبنا حبا لا نرغب فيه وأخرى ضد الكره … . و … آه … لو تحقق ذلك لكنت خلقا آخر و تخلصت من الخوف والجبن و من حب جارف سكنني وأقام في شراييني وممرات قلبي، ويرفض أن يغادرني رغم تقدم العمر.

آه … ماذا لو سطع نجم عالم أفلح في أن يجلس العالم على كرسي الطمأنينة والأمان، كما أفلح علماء كثيرون في تخريب خلايا الأمل في عيون الأطفال، وزرع قنابل الرعب بين ظفائر النساء، وسحب وسادة الأمان من تحت رؤوس الرجال… علماء نجحوا في زرع شوكة جافة في حلق العالم، وجعلته يتخبط كمن به مس من الشيطان …

اللحظة جسدي كله يرتعش… أسناني تصطدم ببعضها البعض لتحدث صوتا يمزق صمت الغرفة، حاولت أن أتزمل .. أن أتدثر بكل الحكايا الدافئة التي عبرت حياتي … حاولت أن أستشعر الدفء من حكاية الطائر الجميل الذي قذف به البرد إلى حديقة القلب مفجوعا، فاحتويته بكل الأمومة التي تنبت في دمي ، لأنتبه ذات وجع، فأجده صريعا فوق أسلاك الروح وبين منقرية وردة حمراء متفتحة ، كان ينوي تهريبها من مملكتي .

حاولت أن أتدثر بحكاية الرجل الأسطورة الذي ظل سنوات –ينحت في أروقة الروح قصة وفاء في زمن تزهر فيه الخيانة ، وتفرخ وتتناسل، كإمرأة تحبل من طيف أو من بريق حلم. وتصنع الفجيعة علبة كبريت –يخرجها من جيبه ليشعل سيجارة يتحسس بها دفء الحلم، لكنها ترتعش بين أنامله، لتنزلق في لحظة سهو … تقع، لتضرم نارا تأتي على كل تمثال الوفاء القائم في مملكتي … 

حاولت أن أتزمل بكل إرتعاشة صدق –لكن عبثا- فصوت العاصفة يزمجر من الداخل …من العمق، ليتوزع في أحلام العمر ويقتلعها، لتركن إلى يتم لا دفء بعده .

تكورت في فراشي محتضنة وجعي ، وتيقنت أنه لم يبق أمام خيبتي غير هذا الصحن المقعـر الذي يسمونه "برابول" عله يمنحني بعض الدفء والأمان وينتشلني من خراب يتربص بي .

أخذت جهاز التحكم عن بعد وأقمته بين جدران راحتي ، لتبدأ أناملي تلعب بأزراره : ضغطت علـى الـزر الأول فجاءت الصورة بشعة متفحمة تحمل كثيرا من الجثث منزوعة الأطراف، مفرومة اللحم، غائبة الملامح ، كأن لم يكن لها حواس تحسست بها زيف العدالة المبتورة …

غيرت بسرعة نحو قناة أخرى، فامتثل أمامي صحافي وسيم، يجتهد في رسم ابتسامة باهتة على سطح شفتيه، ظهر وهو يحصي عدد القتلى في مذبحة الأمس… عبرت إلى قناة ثالثة فرأيت خلقا كثيرا من كوسوفو وهم يرمون كنفايات سامة إلى مكان لا رجعة منه . هربت بصدمتي إلى قناة رابعة، فكانت صورة رضيع تملأ الشاشة وقد أقام عليها الرصاص خريطة بمساحة الخيبة التي تربض في عيون الأطفال… ولعبت أناملي بكل الأرقام اليتيمة والمركبة ، لكن لا شيء غير الدم يرسم لوحة تشكيلية لفجيعة منتظرة …

واستيقظ السخط في نفسي جبارا :" اللعنة على هذا الجهاز ! !... عندما اشتريته اعتقدت أنني ربحت فرحا ، اليوم ، تأكدت أني لم أبتع إلا خرابا ، وضعته في غرفتي ، لأتفرج عليه كل ليلة "

وهنا تذكرت مقولة الرجل الذي غادرني بالأمس، وترك لي علبة الكبريت :" هناك وجع يقتحمنا عنوة، ووجع نسعى إليه ونطلبه "

وأطبقت أهدابي على هزيمتي اللآمنتهية، لأستيقظ على وجعي وقد اتخذ له مكانا على شبكة الأنترنات ، وأصبح بإمكان العالم أن يتفرج على توجعاتي وتأوهاتي متى شاء .

لست أدري من حجز لتفاصيل حزني وخرابي على شبكة الأنترتات ، كل ما أدريه أن وجعي لم يعد سرا يسكن صدري، بل أصبح ملكا مشاعا . 

 

 

من وحي العاصفة

 

يغرقني الطوفان والدم ، ولون السماء الذي فقد زرقته، وعبث   به حمق البشر، ليأخذ لون الرماد العقيم… ينكسر صمتي على مرايا الموت الشاحب ، تتخرب خلايا السكينة في داخلي ، ويستيقظ الخوف جبارا في دمي ، لأجد نفسي ، في زمن العري والعار –عارية إلا من فجيعتي التي تلبسني، أجوب الشوارع المتمردة والأزقة الخائفة، مكشوفة الرأس ، حافية القدمين ، حتى ظفائري التي كانت تركض خلفي كلما رقصت فرحا، تمردت هي الأخرى ، وشدها الحزن إلى ظهري لتلتصق به في هدوء قاتل …

قذفتني الفجيعة على أول شارع، فخرجت امرأة يتقاذفها الدم والدمع، فالدم يرسم خارطة غامضة الحدود على جسدي ،والدمع ينحت تمثالا للضياع على وجهي الغائر في عمق الفجيعة .. كنت أسأل المارة بلهفة وحرقة :

-يا أهل المدينة .. لقد ضاع ولدي .. ولدي كان هنا على صدري ، يمرح في شرايين دمي .. ينام على عرش قلبي ويفصل أحلامه من بقايا ملاءتي السوداء البالية، لكنه ضاع .. ولد علمته كيف يخبئ وطنه في صدره عندما يخيم عليه الغروب أو الضباب. وعندما يأتيه الغثيان أو تداهمه شلالات الدم فضاع ولدي وفي صدره وطن .. يا أهل المدينة . من رأى منكم ولدا تائها يحمل في يده خبزا ووردة؟ ! !

وأقترب من باب المدينة أكثر، أتصفح قائمة التائهين . فقد تضاف أسماء أخرى قذفها الظلم في ظلمة المصير المجهول .. أقترب من القائمة أكثر فأكثر حتى كاد أنفي يلمسها، أمسح عيني الغائرتين بيدي المرتجفتين لأتأكد أني لم أخطئ في قراءة الإسم .. نعم .. إنه زوجي مصطفى في قائمة التائهين هذا المساء .. زوجي .. ضاع أيضا ..

وأصرخ بكل الوجع الذي يلبسني :

ثكلى ، وأرملة أنا .. يا وجعي .

وأهيم على وجهي في كل الأزقة ، أتسول نورا .. شمسا .. أملا ، ويردد الصدى صوتي و فجيعتي:

-يا أهل المدينة، من رأى منكم ولدا تائها، يحمل في يده خبزا ووردة ؟! !    

استوقفني أحد المارة وقد رق لحالي وسألني :

-كيف هو ولدك ؟ ما لونه ؟

قلت له :

-إنه طفل يركض كالبرق خلف سراب اسمه المستقبل. طفل بلون القمح، ولد مع أول شتاء قاتل، وقذفت به مع أبشع عاصفة تقتلع المدينة، فتملكه الخوف، وبات جسمه يرتعش خوفا وبردا .. ولدي كان عائدا إلى البيت ، يتدحرج مع ما تبقى من أحلامه وبراءته ، لكن ابتسامته ضاعت منه .. رجع ليبحث عنها، فلم يعد ..

نظر إلي الرجل بإشفاق كأنه يخفي عني سرا، وراح يجري بعيدا عني، وكلماته تنزلق من لسانه باهتة حائرة :

-لا أعرفه .. لم أره .

وأعود مرغمة إلى تسولي :

-يا أهل المدينة ، من رأى منكم زوجي ؟! !

سألوني :

-كيف هو ؟!

قلت وصوتي يرسم تفاصيل قصة مبتورة :

-خرج هذا الصباح، وهو يحمل ثقل الأيام، وعلى وجهه كآبة المحن، ومع ذلك فهو زوج موسوم بالأمل .. في كل  ليلة كنت أجمع أهدابي المتناثرة على وجه الحياة الرتيبة، وأغمض عيني في هدوء تام لأنام على حكاياه التي يختمها -دوما- بعبارة صرت أحفظها :"الصبر مفتاح الفرج .." –يا أهل المدينة .. أمي .. من رآها منكم –لا تسألوني عنها- إنكم تعرفونها جيدا، لا تجامل ، ولا تكابر ،ولا تتوقف عند محطة.

لم يجبني أحد ..لماذا كلما نظر أحدهم إلى وجهي ولى هاربا ؟! ! همس إلي رجل وانصرف مسرعا:

-إنك مخيفة وهذي الدماء تلون جسدك ! ! 

كم هو كثيف هذا الضباب الذي يغشى المدينة .. يا الله .. ما الذي يحدث ؟! جمع "من البشر يهرولون .. يتساقطون، يتهاوون كذباب عضه البرد بنابه، فأصبح لا يلوي شيئا .. ماذا حدث ؟

أمسكت رجلا من قميصه ، وسألته برجاء :

-أرجوك سيدي .. ما الذي يحدث بين أسوار المدينة؟ لماذا هذا النواح الآتي من كل الشوارع، والذي يطل بعنقه من كل النوافذ والشرفات ، هل هو زمن الإستبداد ؟!

صفعني الرجل بقوة وزمجر غاضبا :

-اسكتي، لقد نطقت تمردا .

نهضت أتكئ على ما تبقى من قوتي وصبري، وسألت أول من إلتقته عيناي وأنا أرفع وجهي عن الأرض :

-سيدي- ما هذا الصراخ الذي يتمدد صداه في كل القلوب ، هل هو زمن الردة ؟! لم أكد أنتهي عند آخر حرف حتى أهداني الرجل صفعة طرحتني أرضا وقال :

-اسكتي ، لقد نطقت كفرا .

و أنهض .. أجمع قوتي التي انفرطت مني وتدحرجت ، لتسوقني إلى جثث تتزاحم على الرصيف، اقتربت منها .. تفحصتها : هذا وجه زوجي . وقد تمدد الفرج على ملامحه الساكنة مهزوما .. مقهورا .. هذه جثة ولدي التائه متوسدا "خبزا" ووردة، وقد ماتت الإبتسامة عند منعرج شفتيه، لتترك مكانا واسعا للشحوب والموت البارد.. وتلك ظفائر أمي تتمدد في شموخ على جسدها الساكن .. آه.. يا وجعي ، كلهم سقطوا .. ضاعوا.. ابتلعهم الفناء ..

-يا أهل المدينة .. من لطخ يده بدمائهم ؟

-يا أهل المدينة .. من أباح دمهم ؟

وتنطلق كل الأصوات، وتتحرك من خلفها كل الكراسي الوثيرة، وتتمايل الرؤوس الكبيرة ، وتصرخ الجباه العالية لتعلن أنها بريئة .. بريئة .

وفي انتظار المحاكمة الكبرى، أقمت خيمة احتوت جثث كل عزيز ضاع مني ، ولم تفلح كل السلطات الرسمية وغير الرسمية أن تبعدني عن هذه الأجساد الباردة ، وأن تبني لي سكنا آخر بمنآى عنهم ، فهنا سكني.. هنا وجعي ، هنا حرقتي التي تنبت على وجهي شوكا .. دما ..

هنا سأظل أصرخ في وجوه هذه الجثث : من أباح دمكم ؟! من أباح دمكم ؟!

وعبثا حاولوا إقناعي أن الأموات لا ينطقون .. بل لا يسمعون .

 

 

 حيزية الأسطورة

 

حيزية تعود هذا الموسم..تنفض عنها غبار الأسطورة، تطل من خلف ستار الزمان بوجهها الأسمر وعينيها الواسعتين،وهدوئها الساحر..حيزية الآن- تفك ظفائرها، تشق صدرهـا ، وتأتـي بقلبهـا على راحة كفها، لتعرض وجعه القاتل على كل الناس.

حيزية..أراها- الآن تعبر ممرات كل السنين وتطل على الكون بعينين دامعتيـن وقلـب ينزف بغزارة الجرح الذي يسكنه..حيزية عادت تحمل نعشها فوق كفيها،وتستر مفاتنها بكفنهـا، لأنهـا ستعود عن قريب إلى قبرها.

استيقظت حيزية ذات صباح فوجدت عشرات الفرسان على باب خيمتها، وقد ترك لها كل واحد منهم مكانا على فرسه ليأخذها معه إلى جنته الموعودة، ويطير بها بعيدا عن أعين الناس..لؤلؤة هي حيزية..نعم يقولون أنها ياقوتة نادرة.

تقدم الفارس الأول والشمس بين يديه … كان يريد أن يقدم لونها الذهبي مهرا لها، لكن حيزية أعرضت عنه .

انزلق إليها الفارس الثاني وهو يقبض على حبات النجوم المتلألئة في السماء،وقدمها قربانا لوجه امرأة لا تشبه كل النساء،لكنها أشاحت عنه بوجهها.

انبلج الفارس الثالث يجر وراءه ألفا من الإبل ، وألف رأس من الغنم ثم فتح أمامها خزائن من التبر لتكون هدية لها يوم الزفاف، لكنها-أبدا- لم تنظر إليه.

وتقدم فارس آخر..آخر..و..

حيزية، كانت تقف عند باب الخيمة، تعبر على نظرات وهدايا كل الفرسان، لتصل إليه..إنه هناك يجلس بعيدا عن الخيمة لا يملك إلا قلبه بين جنبيه، كان الوحيد الذي أهداها قلبه على راحة كفه، وقال لها من وراء ألف ستار:" حيزية..أنا لا أملك مالا..ولا ذهبا، ولا سلطانا- فقط- أملـك قلبي،أقدمه هدية لك".

حيزية ابتسمت له، وأجابته بصمت: نظراتك تعبر كل مسامات جلدي وتتسلل إلى قلبي بهدوء،و بقوة أيضا..حبك ولد عملاقا في أعماقي، ولن أكون إلا لك."

فزعت القبيلة لهذا الحب الصامت وإجتمعت لتقرر مصير حيزية المتمردة ثم أصدرت قرارها"حيزية لا بد أن تقتل لأنها خالفت أعراف القبيلة"جسدها الفاتن سيكون طعاما شهيا لكل وحوش الصحراء"

حيزية ظلت خلف خيمتها صامتة، إنها تقتل صراخهم بصمتها، حتى الدموع تحجرت في مقلتيها.

وارتفـع صوت العدل عاليا:" يا قوم..حيزية ما أتت عارا...حيزية اختارت فدعوها وما اختـار قلبها".

وكان العرس، وصوت البارود والليلة الأولى، قالت له وعيناها تلتقي بعينيه لأول مرة:

-كم أنا سعيدة...سعيدة بعدد حبات النجوم.

-وأنا سعيد بك يا حيزية...سعيد بعدد حبات الرمل في الصحراء.

عندما احتضن يديها لأول مرة كانت ترتجف قا لت له :،

خائفة أنا يـا سعيد..أخـاف أن أفتح عيني ذات صبح، فأكتشف أني كنت نائمة على حلم زائل.

-أنا وأنت وحبنا حقيقة.هكذا قال لها سعيد.

قالت له في العاشر من زواجهما:

- سعيد..هل تدري متى يسكنني الموت؟

 

تبسم ضاحكا من سؤالها،ثم ما لبث أن تلبد وجهه وقال :

-أرجوك إني أخاف الموت وتسكنني الرعشة من ذكره لأنه- وحده- الذي يفرق بيننا.

قالت له:

--ولكنها الحقيقة التي أريدك أن تعرفها.

قال بدهشة:--ايةحقيقة ؟                                                                               

اقتربت منه أكثر، جلست أمامه حتى تعانقت أنفاسهما ثم قالت:،

لو اكتشفت أن على وجه الأرض رجلا يحمل في قلبه حبا لامرأة. أكبر مما تحمله لي في قلبك..سأموت.

-حيزية..ماذا حدث لك؟

-استطردت كأنها لم تسمعه: لو رأيت رجلا حرك جبلا من الذهب، وأتى به هديـة لحبيبتـه لن أحزن، لو سمعت عن رجل جمع كنوز الدنيا –كلها بين يدي المرأة التي يحبها لن أتألم .. لكن لو وجدت رجلا  يحب امرأة اكثر مما تحبني أنت، سيقتلني الحزن والألم...سأموت يا سعيد.

-حيزيـة إنك تهذين..حبك يجري في عروقي يسري مع دمي..حبك بين لحمي وعظمـي، ولـن يفتر أبدا.هكذا قال لها سعيد.

في اليوم الأربعين من زواجهما،عاد سعيد إلى الخيمة، فوجد حيزية مستلقية على الفراش تمسك برأسها ، وتصرخ من شدة الألم . أسرع إليها وقال مفزوعا:حيزية..قرة العين ماذا أصابك؟

وجاءت كلماتها فاترة: أحس بألم شديد في رأسي.

اقترب منها أكثر، أراد أن يساعدها على الوقوف.. على الحركة ، لكنه عجز، فقد كانت تضعف شيئا فشيئا، وكان جسدها يثقل أكثر فأكثر. أعادها إلى فراشها وقلبه يرتجف كطائر مذبوح.

قالت له بضعف:

-سعيد..أحس أني سأفارقك إلى الأبد.

-مستحيل..قالها وهو يشهر سيفه.عانقته بنظراتهـا الذابلـة وقالت:

-في وجه من تشهر سيفك يا سعيد؟ ثم استطردت: الموت جبار ولا أحد يستطيع أن يبارزه.

وأغمضت حيزية عينيها علــى قصة حب عنيف" عادت من حيث أتت، ولم تكن في حاجة إلى جنازة أخرى، ومأتم آخر. قبرهـا لا زال مفتوحا، نعشها على كتفيها وكفنها يستر تقاطيع جسمها الفاتن

سعيـد بقـي هائمـا فـي الصحراء والسؤال ظل ممددا على قبر الحبيبة:"من قتل حيزية؟ المرض أم سعيد.

الناس يقولون: حيزية ماتت لأن جسدها الضعيف عجز عن حمل حب عنيف.

وقال البعض الآخر: حيزية ماتت لأنها أرادت أن تحنط حبها في قلب سعيد.

وهمس بعضهم: حيزية ماتت لأنها سمعت ان في أقصى المدينة رجلا أحب زوجته أكثر مما أحبها سعيد.

فمن قتل حيزية؟ المرض أم سعيد ؟.

 

 

لعنة القبر المفتوح

 

الساعة : الثالثة بعد منتصف الليل بتوقيت الخراب الذي يسكنها أو تسكنه لا فرق …

المكان : وطن لا وطن فيه

الزمان : عهد لا وفاء فيه

الشخصيات : أشباح تتحرك في جوف الليل، ثم تتلاشى مع أول خيط لفجر جديد .

العقدة : هي امرأة تحضن قبرها تماما – كما تحضن الطفلة دميتها .. هي امرأة ترفضها كل المدن.. كل الوجوه التي تتناثر على صدر الصباح، لهذا قررت أن تنصب خيمة على جسدها وتلف غيمة حول رأسها لتروي على مسامع الكون تفاصيل حبها .. هي أفاقت هذا الصباح، فاكتشفت أنها تحضن قبرا.. هو ما كان قبرا قبل اليوم، بل كان شمسا تربعت على قلبها فأنارت جوانبه المظلمة، وأشاعت الدفء بين جدرانه الباردة، كان قمرا انحنى أمامها ذات مساء حالم –لا يشبه كل المساءات التي تزور الشوارع وتطبع على جبينها الوضاء قبلة لا زالت المدينة تعيش على حرارتها .. هو أسند رأسه إلى جدار صدرها فاحتضنت أوجاعه، وحملته إلى عالم ليس فيه وجع .. علمته كثيرا من حروف الأمل وأبجديات الفرح ..هي ما كانت تعتقد أن للقمر أنيابا تعض كما الوحوش، و لا كانت تعرف أن للشمس وجها آخر غير الذي تشرق به على الوجود، أمها علمتها أن في جوف البشر قلبا قد يقسو حينا، ولكنه يلين في كثير من الأحيان ، قد ينبض بالحقد مرة ،ولكن .. ينبض بالحب مرات عديدة…

عندما كانت تعبر الشارع الأول قررت ألا تنظر في وجه أحد حتى لا يغريها بالبقاء .. عندما قطعت الشارع الثاني ابتسمت  بنشوة ، فقد أحست أنها عبرت نصف المسافة وبين أحضانها وطن ليس من ورق ، وليس دمية أيضا .

عندما شرفت على النجاة، شعرت بوهن يغزو رجليها، فأسندت رأسها إلى شجرة طاعنة في السن كي تلتقط أنفاسها، ثم راحت تتحسس ما فوق صدرها نظرت إليه .. صرخت من هول الفاجعة التي كادت تفقدها ما تبقى من وعيها ، فهذا الذي تهرب به من غثيان المدينة تحول هو الآخر إلى قبر ينفتح في أعماقها .. هو ما كان قبرا قبل يوم .. كان وطنا هرب إلى صدرها ذات ليلة أمطرت فيها سماء المدينة جمرا .. نارا .. ولهيبا

عندما كانت صغيرة، رسمت له بيتا من ورق في غرفتها، كان بيتا جميلا لونته ببراءة الطفولة فيها.. نوافذه تطل على عالمها ، وبابه لا ينفتح إلا على قلبها وأفاقت ذات ليلة عاصفة لتكتشف أن بيت الورق لم يبق له أثر .

عندما كبرت الطفلة ، وتقلصت سذاجتها، أقامت له بيتا من حجر على ضفاف النهر الذي يعبر قريتها .. نعم .. هي باتت تدرك أن الورق ليس كالحجر، ونزيف القلب ليس كنزيف الحبر، وأن المعطوف ليس له -دائما- حكم المعطوف عليه، وأن حروف الجر ما عادت نزيهة كما السابق، هي لا زالت تذكر من حقيبة طفولتها أنها وقفت يوما للإجابة على سؤال طرح في القسم، فنطقت المدينة مرفوعة بعد حرف جر، ساعتها تبسم المعلم ضاحكا من قولها ورد عليها "حروف الجر تجر  الجبل، فكيف بالمدينة "

الآن .. هي تعي جيدا أن حروف الجر لا تسحب وراءها غير بؤساء القوم وذوي النوايا الطيبة، ما عدا ذلك فهو مرفوع لتعذر النطق !  

هي تعترف أن جسمها الضعيف ما عاد يحتمل ثقل هذا القبر المفتوح على أعماقها ، فرت إلى أمها وأبيها وأخيها وبنيها ، لكن لا جدوى ، لكل منهم شأن يغنيه عنها .

وأخيرا قررت أن ترفع أمرها إلى الملك فهو -وحده- يملك أمر البلاد والعباد –سعت إليه في قصره .. دخلت عليه، ثم حدثته بصوت مبحوح :" أيها الملك .. استحلفك بالذي يسر لك أمر هذا الملك بين يديك ، أن تخلصني من لعنة هذا القبر المفتوح الذي يتمدد على صدري ويمنع عني الحياة".

بعد صمت طويل خاطبها من فوق عرشه قائلا :" أيتها المرأة ادخلي بيتك آمنة، فنحن ها هنا –منذ سنين- نناقش أمر هذا القبر الذي انفتح على قلب المدينة، وعندما نصل إلى حل ستعرفين ذلك من كل شاشات العالم "

خرجت من القصر مكسورة .. حزينة، فهي تعرف أن وعد الملوك كرسم في الهواء، ونقش على الماء، لهذا عرجت على القاضي لتطرح قضيتها في حضرته، فأفهمها أن رقم قضيتها بعيد جدا، وعليها أن تنتظر دورها ألف سنة أخرى  !

لم يبق أمامها إلا شيخ المدينة، فرحلت إليه تشكو له لعنة هذا القبر الـذي يلاحقـها كظلهـا و يلتصق بها كجلدها، تحدثت إليه كثيرا … كثيرا حتى باتت الحروف تخرج عرجاء، مرهقة، لكنه ظل صامتا لم ينبس ببنت شفة .

ساعتها.. بكت .. بكت بسعة النهر الذي يعبر قريتها .. بكت حتى ضاع بياض عينيها، لأنها تعرف أن شيخ المدينة لا يسكت عن شيء ، ولا يصمت عن قضية إلا إذا كان حلها عسيرا .. بل مستحيلا .

 

 

مرايا الصمت

 

زغرودة حارة تنطلق من البيت،تدوي في الحي كله،تتمدد في الشارع الكبير أكثر لتصل إلى مدينة أخرى وتمزق صدر رجل قتلته الخيانة.

الآن..تتمزق الدقائق والساعات على صدري،وأنا أجلس أمام النافدة،أنظر إلى الشارع الطويـل، أرقب المارة من وراء ستار شفاف،يبدو الناس من ورائه أشباحا غائبة الملامح،فأحس فـي صـدر كل واحد منهم حكاية للموت وأخرى للإندثار،فكم هي طويلة قائمة المعذبين فوق الأرض !

اللحظة،تقفز أمامي صورة عمر،بجرحه الغائر..بنزيفـه الحـاد،أراه يفتـرش رسائلـي..يـا أ لله.. كم كنت أراسله كثيرا،قلت له يوما:لن أنتظر وصول ردك،سأكتب لك كلما أحسست أني فـي حاجة لأن أتنفس.

اقتربت منه،ناديته بصوت خافت:

-عمر...

جاءني صوته حزينا دون أن يرفع رأسه عن رسائلي:

-لا أريد أن أرى أحدا..لا أريد أن أسمع صوت أحد.

إقتربت منه أكثر وأنا أردد:

-أنا نجاة يا عمر.

صرخ في وجهي:

-نجاة..بل أنت الهلاك..أنت الخراب  كله ،فاخرجى من عالمي...من قلبي مـن دمي،لا أريد أن أراك.

وتئن الذكرى في داخلي..تتسع فوهة جرحي،فيتدفق النزيف حادا يرسم على وجهي صورة للموت الصريح..وتتعاقب بطاقات الضياع في مرايا عيني فأضع يدي على صدري كأنني أريد أن أكتم صرخة قلبي الجريح وأهمس له مرة أخرى:

-عمر.

ويسري حنين الذكرى عبر تموجات صوتي الحزين،فيغازل لحظات الغضب في أعماق عمر،وتهدأ ثورته.

تقدمت منه أكثر..جلست بجانبه ثم أسندت رأسي إلى جدار جرحه أتنفس حرقه ألامه- وبطريقة تلقائية- عادت صور الماضي تقفز فوق أهدابنا لترسم مواسم لفرح يحتضر وسمعته يهمس في أذني: -آه .. كم كان قلبي دافئا وأنت تركضين في أروقته، تزرعين ابتسامة هنا ، ووردة هناك .

وهمست له بنشوة :                                                                                  

-كم كنت سعيدة وأنت تتمدد على مساحات قلبي، وتقيم فوقها طقوسا للفرح المتواصل، كنت سعيدة، وأنا أركض فوق أشعارك، أتنفس عطر حروفك وأنتشي بين القوافي والبحور....

وتظل الصور الجميلة، تقفز أمامنا، ترقص رقصة الفرح والأمل والحب…وتعـود الرقة إلى صوت عمر وهو يعزف على أوتار قلبي:

-عندما كنت تسافرين في شرايين دمي، تحملين الدفء والأمان،كنت أحس انك المرأة الوحيدة في هذا الكون، وكل النساء دمى متحركة لا أنوثة فيها.

وأجيبه:

-عندما كنت متعلقة بجدار قلبك ، كنت أحس أنك الرجل الوحيد فوق الأرض وكل الرجال –بعدك

- أراهم أشباحا غائبة الملامح لا أسماء ولا وجود لها.

ويبتسم عمر ببراءة وهو يذكرني :

-كم كنا سعداء، ونحن نتفق أن نسمي أول وردة في حديقتنا "بسمة"

وأرد عليه بابتسامة أخرى :

-وإذا كان ذكرا نسميه "باسم" كنا سنحاصر عمرنا بابتسامة عريضة ، لا يغيب نورها أبدا .. لكن ضاع كل شيء .

وتئن الجراح في صدره، فيصرخ في وجهي:                                                            

-أنت وحدك ضيعت كل شيء .. كنـت تبحثين عن سكن وسيارة و….

وأقاطعه بصوت باك :

-لا يا عمر .. أنا وأنت شركاء في المأساة .. عندما حاصرني الضياع ، كنت أبحث عنك فلم أجدك ، كنت تسافر من مدينة إلى أخرى .. من صحراء إلى أخرى .. لم أجد غير صوت أبي وهو يصفعني بقراره :" ستتزوجين من كمال ، إنه الزوج المناسب " بحثت عنك في وجوه المارة ، في كل الشوارع والأزقة ، في محطات كل المدن ،، حملت ضياعي و حرقتي على صدري  وسافرت إليك فلم أجدك أين كنت يا عمر؟

ووجدته يصفعني بالحقيقة التي كنت أهرب منها :

-كنت أجمع لك مهرك يا نجاة .

ويأتي صوت أمي ليمزق صورة الذكرى .. دخلت الغرفة وهي تصرخ مندهشة :

-ماذا تفعلين يا نجاة .. ألم تلبسي بعد ؟! ثم استطردت :

-الموكب سيصل بعد حين .

خنقت الدموع كلماتي، فتركت رأسي ينام على صدرها، وراحت دموعي ترسم خريطة الضياع على كتفها .. ووجدت أني أعيش لحظة ضعف قاتل وأنا أعترف لها : أمي .. أنت تعلمين كم أحب عمـر و لا أريد أكون لغيره ! وسمعتها تهمس في أذني وهي تمسح على شعري بحنان :

-لا يكفي أن أعرف أنا فأبوك رجل عنيد، حاولت بشتى الطرق أن أعطل هذا الزواج، فلم أفلح .

وبرقة –رفعت رأسي ومسحت دموعي بأناملها الرقيقة ثم قالت لي بحكمة :

-إنه القدر يا ابنتي ، وما اختار احد قدره  ، كمال -أيضا- رجل طيب وستعرفين معه طعم السعادة.

ورأيتها تبتسم وهي تخرج الفستان الأبيض من الخزانة وتسلمه لي قائلة :"كوني جاهزة بعد نصف ساعة" وخرجت من الغرفة ليعود الألم يتمدد على صدري …

و أتحامل على نفسي لأوهمها بالفرح.. أقف أمام المرآة .. أدقق النظر في تفاصيل وجهي "كم يبدو شاحبا ينظر إلى الكون بعينين ذابلتين ، حتى أهدابي متعبة . وامتدت يدي إلى علبة الماكياج "فتحتها فتراقصت الألوان أمامي .. تساءلت :" كم من حقيقة اختفت وراء هذه الألوان الجميلة !"

نظرت حولي، كأني أبحث عن وجه ضيعته، فرأيت المقص على الطاولة الصغيرة الموجودة بجانب السرير، لم أشعر إلا وصورة الموت ترقص أمامي ، وصوت ينادي من عمق الجرح :"طعنة واحدة بهذا المقص الحاد، تكفي لأن تمزق صدري، وتصل إلى قلبي المتعب فتريحه من هذا الإحتضار البطيء ".

حركت رأسي ، كأني أريد أن أستفيق من كابوس مرعب .. رفعت رأسي إلى السماء وأنا أردد بصوت مضطرب :" استغفرك ربي …"

بعد نصف ساعة، كنت دمية جاهزة للعرض .. البارود يدوي في الحي كله، أصوات الرجال تتعالى، الأطفال في ملابسهم الجديدة كأنهم يعيشون عيدا آخر ... حناجر النساء ترتفع بالغناء والزغاريد، الشارع الطويل يمارس طقوس الفرح، وهذه السيارة الفخمة المطرزة بالورود الطبيعية ، تنتظرني أمام الدار …

وسار الموكب بعروس ميتة… ومن خلف زجاج السيارة رأيت عمر يقف على الجهة اليمنى ، ودموع الألم تمزق آخر خيط للأمل " رأيته وهو يدفن رأسه في صدر صديقه كأنه لا يريد أن يكون شاهدا على جنازة حبه، وعلى الجهة اليسرى وقف كمال ببدلته السوداء الأنيقة .. وهو يوزع ابتسامة الفرح على الجميع "نظرت إليه فقرأت غربتي الدائمة في عينيه …

ساعتها أدركت عمق جريمتي ، وتأكدت أني قتلت رجلين : رجل أحبه ، و رجل تزوجته .

 

 

هروب المجنون رقم"3"

 

لا شمس..لا مطر..لا قوس قزح،ولا عطر الأمل، كـل الأشيـاء الصغيـرة التـي كانت تنحت على مرايا وجهك ملامح الفرح السندسي، تسافر من حياتك"سفر" سفر..سفر..

  عيون الملكة لم تعد تغريك ببريقها،ولا تاجها أصبح حصنا "لجنونك" وجه الملكة اندثر،والجواري..من حولها-يرقصن لحن الوداع الأخير "القبر فتح من جديد..سفر..سفر..سفر..

الجرح غائر في عينيك..النزيف حاد بين زوايا قلبك ، ووجع الذكريات يحفر على جدار صدرك..الملكة أهدتك آخر الطعنات، ثم رحلت ..

المجنون رقم "3" يتمرد في أعماقك هذا الصباح ..يقرر  أن ينتقم لك من رحيل الملكة، ليمنحـك وطنا آخر على صدر ملكة أخرى..

كـل شيء  ها هنا يغريـك بالرحيـل "بالهروب: حب مبتور، وفاء مطعون..قـلب مفجـوع ، ودمع كالشلال يغرق الحرث والنسل..

إنك تعيش آخر تفاصيل الفاجعة، وتدون آخر ورقة في مفكرتك،بل وتكتب بنزيفك اعترافك الأخير:"لا أحد سافر في عمق عيني وحاول أن يفهم سر هذا الحزن القاتل الذي يسكنهما ويقيم في محرابهما طقوسا غجرية..كلهم عبروا حدود كآبتي،منحوني حبا بلون الفناء،ثم رحلوا...؟

قبـل السفر،تقرر أن تقتل كل جميل ها هنا،تدفن ما تبقى من حكاياك الدافئة..ستبدأ بأمك ..إنك تذكر جيدا تفاصيل حبها لك.

كنـت تعود في عمق كل ليلة..يقذفك الضياع إلى الداخل ككرة تاهت عن مرماها..تدخل البيت، تمشي على أطراف أصابعك،تحاول جاهدا أن تخفف من حركاتك المضطربة حتى لا توقظها، لكنك تراها تقبع في زاوية من زوايا البيت، تنام بعينين مفتوحتين،تنتظر رجوع ولد ضال، فتقترب منها "تلقي برأسك المتعب على صدرها، تحاول أن تبكي تفاصيل مأساتك في شوارع مدينة مجنونة تأكل أبناءها في لحظة جوع قاتل، لكن الدموع تعسر في عينيك ، إنك ترفض أن تبكي على صدر من تحب، حتى لا توجعهم بحرقتك، يكفي أن يلامس وجهك صدرها الدافىء، وتحس بصدق حبها لك" يكفي أن تتوسد حنانها،وتنام،كما لم تنم من قبل..

لكن هذه الليلة، لن تقترب منها، لن تبتسم لها..لا..ولن تسمح لرأسك المتعب أن ينحـدر علـى صدرها الدافىء،،تقرر أن تقتل هذا الدفء الذي يشدك إلى وجه المدينة، تقرر فـي لحظـة جنـون أن تسحق حبها لك حتى لا يعذبك أثناء السفر..

وتكررت المسرحية مرات عديدة..لم تعد تهتم بأمك..لم تعد تسكن إليها، حديثك معها بات مختصرا وبكثير من النرفزة واللامبالاة..

هـي الآن تحس أنك غريب عنها، بعيد عن مركز صدرها.ونجحت في قتل أول حب لك حولته إلى صورة صامتة،ثم وضعتها في حقيبة سفرك.

الـدور القـادم سيكـون لهـا..لـ..سلمى..إنك تكاد تجزم أن قتلها سيكون سهلا،فالأشياء الجميلة تفنى بسرعة، تذبل- تماما- كالورد ، كقوس قزح..

سلمى..كـم هي رائعـة وضائعـة كانـت تهرب إليك من مدينة تمارس طقوس النفاق بانتظام ..كنت تبسط لها كفيك أمنا وأمانا،فتبكي فوقهما بحرقة،ثم تنظر إليك بعينين دامعتين وتهمـس لـك:" وحدك الرجل في هذه المدينة، وكل الرجال هنا دمى متحركة لا رجولة فيها .. وحدك تمنحني الإنتماء والأمان، وتصنع فرحي في غابة البشر" .

كل شيء ها هنا يشهد أنها أحبتك بجنون : حبات المطر .. خيوط الشمس التي تنسج تفاصيل الوجوه .. ملامح الأصيل ، وحتى رائحة التراب الذي -كثيرا- ما كنت تهديها منه حفنة في أعياد ميلادها وتوشوش لها في أذنها : "رائحة هذا التراب أزكى عندي من كل عطور الدنيا. إنها تلج إلى الأعماق ، وتسري في العروق، فتوقظ الروح من غفوته  … "

كـل شيء ها هنا يشهد أنها منحتك قلبها، إختارتك من دون الرجال لتكون سكنا لها، لكنها كانـت كالآخرين،استهواها هذا الحزن الذي يسكن عينيك،ولم تسألك يوما عن سره..لم تحـاول أن تفهم لغز هذا الطفل الذي يرفض أن يكبر فيك..

هذا الصباح ، لم تستقبلها بدفء،لم تشعرها بالأمان،لم تحاصر دموعها بابتسامة الطفل فيك، بل صرخت في وجهها ثورة ووجعا:

-سلمـى..ارفعي رأسك،فقد سئمت من دموعك..من آهاتك،من تمزقك الدائم..إنك تزرعين الخراب على صدري، وتصنعين سنوات عجافا في ممرات عمري...

رفعت رأسهـا..نظـرت في وجهك.حاولت أن تسأل عن هذا التغيير المفاجىء .. عن هذه البرودة التي تسكن مساحة صدرك .. حاولت أن ..لكن صدمة النهاية كانت أقوى منها، فسقطت ميتة بين خيبتك الطويلة،سلمى ماتت..يا أ لله كم كانت نهايتها سريعة  !؟

وتحول حبها إلى صورة صامتة أسكنتها حقيبة سفرك. وتمضي في شوارع المدينة، تقتل آخر الابتسامات التي عشقتها .. الآن .. كل الذين تحبهم قتلتهم، حولتهم إلى صور صامتة ملأت بها حقيبة سفرك، ولم تنس أن تمزق آخر حب ، لآخر صديق لازمك ما فات من عمرك لتنتهي كـل تفاصيلك في أزقة المدينة .

ويأتي موعد السفر "تحمل حقيبتك الثقيلة بالصور الصامتة، تسرع الخطى نحو المطار "لم تلتفت إلى الخلف ، تخاف أن تصطدم بوجه تحبه ونسيت أن تقتله .

إجراءات السفر تتم بسهولة ،و بسرعة ،، الطائرة تقلع من المطار "المجنون رقم"3" يهرب إلى وطن فيه الكثير من الأحلام وقليل من الأسماء .

 

 

 لعنة المنفى

هنا .. في سراديب العمر منفي ..

وهناك .. في ممرات الأفق الغابر منفى …

خلف جدران القلب منفى، وخارج أسوار مدينتي منفى .. في عروق وطني يصارع المنفى دمي ، ليهزمه ويتمدد في كل غرف وجيوب جسدي ..

حماقات الكبار، لعبة الساسة ، فتنة الكراسي ، خارطة عالم جديد يمنح لي فيه دور جارية معطوفة على الآخرين .. حرقة دم موجع توزع بين القبيلة ، فلم نعد نفرق بين وجه القاتل والمقتول : فكلاهما يعلوه الصدأ و الشحوب .. قصة حب جاءت متأخرة ، حكاية وفاء مبتور و .. وأوجاع أخرى تتكاثر في الدم والعروق ، لتغرقني في دوامة المنفى، وتقيم لي كهفا يقبرني أو يغبرني ، لأغدو بقايا امرأة تحنطت أوجاعها ..

هنا منفى .. وهناك منفى ..

وبين المنفى والمنفى يتمدد منفى آخر، يحاصرني من كل الفضاءات ، ويرسم لي خطوطا حمراء خلف كل الحدود والوجوه .

آه .. يا وطني .. يا وجعي الممتد، من يخلصني من لعنة هذا المنفى الذي يحاصرني كقطع من الليل، يلازمني كأحلامي الباهتة ، يتبعني كظلي الرمادي، يضيعني داخل مدينة تغرق في اللامعقـول : مدينة تمارس لعبة الموت مع الأحياء من البشر، تطعنهم بالغدر حينا، وبالخيبة في كثير من الأحيان ، ثم تقبرهم في ذاكرة النسيان،بعدها تتفرغ   للأموات لتمارس معهم لعبة الحياة.. غريبة هي مدينتي ، ومجنونة أيضا، ومع ذلك أتعلق بأسوارها، ألتصق بجدارها كصورة أزلية .

هي المدينة تنام هذه الليلة على سكون قاتل " على وجع قاتل .. على اغتراب قاتل، ووحدي –أمزق صمتها شارعا شارعا، وحارة بعد حارة ، أنتقل بين أنقاض أحلام زلزلت ذات فجر أسود، أبحث عن بقايا وجه، عن آخر حرف لرجل يخلصني من لعنة هذا المنفى .

الشوارع كانت طويلة … طويلة، وضيقة أيضا، لا يكاد ينتهي شارع ضيق حتى يسلمه إلى شارع أضيق منه : فلسفة الأجداد تقول أن الشوارع الضيقة   تتسع للعظماء ، فكلما كان الشارع ضيقا  كان الفارس الذي يطلع في آخره عظيما .

صور كثيرة كانت تطلع من بين الركام .. وجوه بلا تفاصيل ، بلا معنى ، وعيون يسكنها الخراب منذ ألف عام، ومن خلف أحلام متناثرة تطل صور أخرى ، تتكاثر .. تكبر، لتغدو عملاقا بوجه منفى .. منفى ، تقبض حروفه على وجعي ، تضغط على جراحاتي لتجدد لغة الأنين في دمي ..

الصورة الأمل :

لأول مرة أحس خلايا الأمل تتجدد في دمي، وأنا أنظر إليه، أبحر في هامته الطويلة، ووجهـه المشرق بلون العيد .. أحسست وأنا ألامس جدار صدره إنه الرجل الوحيد الذي يملك دفء العالم …

أشار إلي بابتسامة هادئة، فسرت إليه … دخلت مدينته قبل أن يأذن لي، قال لي وهو يغلق كـل الأبواب والنوافذ الممكنة :

-هنا الوطن ، ولن تكوني في حاجة إلى وطن آخر خلف أسوار هذه المدينة ، هنا .. يقيم وطن طهرته من الوجع والغربة وأنين المنفى، وأهديه اليوم سكنا لك .

قلت له ببراءة :

-والشمس ؟

أجابني وهو يرمي بكل المفاتيح في النهر المحاذي للمدينة :

-الشمس لا تغيب هنا أبدا، إنها تقيم في مشرق القلب، ولا تبرحه أبدا، هنا الماء والهواء ورائحة التراب، فتمددي كيفما شئت ، وأحلمي كيفما شئت .

صدقته ، وتركت جسدي يرتاح عند أول ابتسامة، تنفست الصعداء، وأنا أحس أني تخلصت من لعنة المنفى .

الصورة المنفى :

أفقت هذا الصباح … نظرت إلى العصافير الجميلة التي كانت تقف مغردة عند شرفات القلب، وتزين جدرانه، فإذا هي رسومات صامتة، ترمقني بنظرة ميتة .

تحسست هذا الذي هربت إليه وسميته وطنا، فإذا هو لعبة محشوة بقطن السخرية والعبث ، أهداني أياها رجل ، ومن فرط يأسي –جعلت لها عينين ولسانا وشفتين ، وزرعت فيها قلبا، وقنوات دم ، وسميتها وطنا ، لكن وجه السماء تلبد، والغيمة تكاثرت، وأتت بمطر يشبه الطوفان ، فتبللت اللعبة ، وانتهت أسطورة وطن من ورق .

هذا الصباح … أحسست أن لون الشمس ما عاد يسحرني، ولا ظفائرها الذهبية تتمسح بوجهي القمحي …

الماء في هذه المدينة –لم يعد يروي الظمأ الذي ينبت في أعماقي ، ويقتحم كل حدودي الآمنة…

الهواء، لم يعد ينعشني ، ولا يكفي لشهيق الحلم المتجبر، حتى رائحة التراب باتت مهزومة، ميتة.

أحس أن جسما ثقيلا يضغط على صدري .. يقبض على رقبتي.. يخنقني.. يمنع عني كل حركة، ثم يضرم في شراييني وممراتي حريقا يحولني إلى رماد يندثر.

أجل … إنها أعراض أعرف مصيرها ، وأعلم أنها لا تسحبني إلا إلى هاوية المنفى ، لترمي ببقايا ظلي في سراديب ليل غامض …

أفقت مفزوعة من حلم مزعج ، لأكتشف أني هربت من منفى ، ليحضنني منفى آخر .. وأنك هربتني من جحيم منفى البشر ، لتقيم لي منفى في مساحة قلبك ..

 

 

الانهيار

 

وقف أمام المرآة، نظر في وجهه مليا دقق أكثر كأنه يلاحظ لأول مرة التغيير الذي طرأ عليه : التجاعيد بدأت ترسم خطوطها في وضوح ،، الشعيرات البيضاء تغزو مفرقيه ، وتحصد سواد شعره ، إنها تعلن عن نفسها ،، تعلن عن شيخوخة تطل من حجاب الزمن … لأول مرة يحس أنه يعيش خريف عمره وأن أوراق شبابه سقطت الواحدة تلو الأخرى دون أن يتفطن إليها . سقوطها خلف فراغا هائلا في داخله وأحدث شرخا كبيرا في جدار قلبه.

دخلت زوجته كأنها تريد أن تذكره بموعد مع … إنها تعرف أنه لم ينس ولكن تريده أن يحس بوقوفها إلى جانبه، لم يكد يراها حتى تفجر كالبركان :

-أين وضعت القميص الأبيض … أكثر من ساعة وأنا أبحث عنه ! ! 

واشتد غضبه ليقترب منها أكثر وهو يرفع يده اليمنى بمحاذاة خدها الأيسر كأنه يريد ضربها ثم استطرد :

-كانت ساعة ملعونة يوم تزوجتك ، إمرأة فوضوية …

منذ خمس عشرة سنة لم تسمع منه إلا كلاما طيبا،، كان زوجا رقيقا يتجنب الإساءة إليها. كان يقول لها دائما"إنك أكبر نعمة في حياتي" إلا أنه اليوم يسمعها هذه الكلمات التي تطعن المرأة في أنوثتهـا … لكنها لم تغضب لأنها تعرف أن الزلزال الذي هز حياته افقده القدرة على ترتيب الحروف والكلمات ….

بهدوء تام . اتجهت نحو خزانة الملابس وأخرجت قميصه الأبيض . كان أمام عينيه ولم يره … ناولته إياه دون أن تقول شيئا … رفع عينيه إليها فرأى على وجهها الأسمر آثار رحلة عمره … كانت شريكته في أيامه الحلوة والمرة … كانت دائما الزوجة المطيعة التي لا ترفض له طلبا … هي وحدها كانت تقدس عمله وتحترمه .. أخذ القميص منها وهو يقول:

-ليلى .. أنا آسف … أنا …

وضعت يدها على كتفه وقالت بحنان :

--لا تتأسف يا كمال .. إني أشعر بالمحنة التي تمر بها .. ولا يمكن أن أشك في حبك لي، لكن لا بد أن تتحكم في أعصابك أمام القاضي … أريد أن تكون قويا حتى في المحكمة .. فأنت أشرف وأنبل أستاذ في هذا العالم .

وخرجت ليلى، لتجد عادل ابنهما الصغير بالباب يريد الدخول لأبيه فمنعته لكنها سمعت كمال يقول لها :

- دعيه يدخل ،، تعال يا عادل . ماذا تريد ؟ دخل عادل وهو يقول:                               

-المعلم طلب منا أن نحضر أوراق الرسم .

ساعتها لم يدر لماذا سأله : هل تحب معلمك يا عادل ؟!  أجاب بسرعة وعفوية كأن إجابته كانت جاهزة:

- طبعا أحبه .. إنه يحبنا ويعطف علينا كثيرا .

سأل نفسه : هل يمكن أن يتحول هذا الحب إلى تمرد أو انتقام ؟ ..

انتبه فوجد ابنه مازال واقفا، قبله وهو يهمس في أذنه :"عندما أعود في المساء ساحضر   لك كل ما تحتاجه".

وخرج من داره يتبعه الإحساس بالهزيمة .. بالنهاية . اتجه نحو محطة السيارات ، المحطة التي يفقد فيها ماء وجهه . كان يسير وهو يحدث نفسه : عشرون سنة في سلك التعليم ، وأنا عاجز عن شراء سيارة … أفواه مفتوحة .. تكاليف الحياة باهضة وفي النهاية يطلبني تلميذي أمام المحكمة. …

عندما دخل القاعة رأى خلقا كثيرا كأنهم يحضرون لأول مرة محاكمة من هذا النوع . بدأت المحاكمة .. طال الجدل .. تحدث ولي التلميذ كأنه يستعرض وقائع جريمة شنعاء.

 رفع صوته كأنه يصرخ في وجه مجرم : لقد أعطيته إبني أمانة وضعت فيه ثقتي كنت اعتقد أنه سيعلمه .. سيربيه ، لأن الأستاذ من صنف الملائكة .. لكن هذا الأستاذ الذي يقف أمامكم .. أعاد إلي إبني ويده تقطر دما .. انظروا إلى يده.. الجرح مازال شاهدا على بشاعة الجريمة ..

 

والشهادة الطبية تثبت عجز ولدي لمدة شهرين ..

التفت القاضي إلى الأستاذ كأنه يريده أن يقول كلمته .. وقف كمال ،نظر في وجه القاضي وفي وجه ولي التلميذ ثم في وجوه الحاضرين كأنه يكتشف فعلا أن العالم تغير وأنه يقرأ هذا التغير على وجوه هؤلاء جميعا .. وبعد صمت جاء صوته : سيدي القاضي أنا اعتقد أن المحاكم أقيمت لترفع الظلم عن الناس لتحارب الفواحش .. وتعاقب مرتكبي جرائم .. وغاب عني أنها أصبحت تحاكم الأب عندما يعاقب ابنه… قاطعه  القاضي :                                                                               - من فضلك أستاذ .. تحدث بدون مقدمة .

أرسل كمال زفرة طويلة .. كأنه يريدها أن تطول لتعانق هذا الزمن المقلوب … ثم قال :

-ماذا سأقول ؟! الجريمة ثابتة والأدلة واضحة .. لكن فقط أوضح إني من أجل هذا التلميذ وعشرات ال1آلاف من أمثالــه ضحيـت بشبابي . كل زملائي الذين جاؤوا من بعدي اشتروا سيارات وفيلات لا تعتقدوا أنني غبي ، أجهل الطريق التي انتهجوها .. ولكنني حرصت على أن أكون مخلصا في عملي .. أردت أن أعلم تلامذتي الأمانة .. صدقوني أحيانا أشعر بالألم وأنا أرى أولاد الجيران في بحبوحة من العيش .. وأطفالي يجترون مرارة الفقر .. وفي النهاية .. هذا تلميذي ،، يحاكمني .. لن أطلب العفو والتخفيف في الحكم لأنني لا أريد أن أنهي انتصاري بهزيمة …

انتهــت أقـوال الـمدعي عليه .. وبعد فترة جاء حكم القاضي : بعد السماع إلى أقوال المدعي .. و الشهود .. وبعد الإطلاع على الشهادة الطبية التي تثبت عجز التلميذ "محمد مبروك" لمدة تفوق شهرين فإن المحكمة تدين الأستاذ كمال خليل وتصدر في حقه حكما بالسجن لمدة ثلاثة أشهر وبغرامة مالية قدرها …"

ولم تمهله قوته حتى يسمع بقية الحكم بل سقط على الأرض … غائبا عن الوعي ولم يفق إلا على شريط رحلة العمر التي انتهت بزلزال عنيف …

وأصبح في زمرة المجرمين والقتلة :

مـازال يذكر عندما دخل هذه القرية لأول مرة كانت صغيرة .. منازل قليلة تنتشر هنا وهناك ،، تفتقر إلى أدنى شروط الحياة حتى المتوسطة التي أرسل إليها … تتكون من أربعة أقسام ومرحاض مشترك بين الأساتذة والتلاميذ .. أقسام قائمة على قارعة الطريق .. بدون فناء .. ولا سياج يميزها عن الشارع وحقول أهل القرية ،، في أول الأمر أقام في المسجد ثم أعطوه غرفة استقر فيها .. كل  هذه المشاكل لم تكن تساوي شيئا أمام حبه لتلاميذه .. أحبهم كأولاده، رغم صغر سنه آنذاك .. مرت السنون وتوسعت القرية وتغير كل شيء إلا هو فقد عرضوا عليه العودة إلى المدينة لكنه رفض لأنه متعلق بهذه القرية …

كل شيء كان يسير على ما يرام ، الوعي بدأ ينتشر بين أهالي القرية ، لم يعد التعليم فاكهة يأتي بعد كل شيء. كما كانوا ينظرون إليه من قبل …

رغم فقره.. إلا أنه كان سعيدا برأسماله وهو يمشي فوق الأرض ، عشرات الدفعات تخرجت على يده …

إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم في أواخر السنة الدراسية والتلاميذ مقبلون على شهادة التعليم الأساسي أرادهم أن ينجحوا بتفوق .. فكان يعطيهم ساعات إضافية بالمجان .. كانت الفوضى تعم القســم .. و عندما دخل هدأ الجميع ما عدا محمد .. إنه تلميذ فوضوي يتعمد إزعاج الأساتذة بنوع من التحدي السافر .. استدعاءات كثيرة كانت تصل إلى أبيه دون أن يحضر مرة واحدة .

في هذا اليوم حذره الأستاذ كمال من استمراره في الفوضى لأن الدرس في غاية الأهمية ولم يكـد يرفع الطباشير حتى سمع صوته .. فالتفت ونظر إليه بغضب ثم تابع الكتابة . وما كاد يكتب حرفا واحدا حتى سمع تلميذا ينادي :

أستاذ .. محمد يمنعني من الكتابة ! وضع الطباشير وذهب إليه فوجد أمامه طائرة من ورق كـان ينوي أن يرميها إلى زميل له في الصف المقابل .. حذره الأستاذ بقسوة . وهدده بالعقاب الشديـد .. ورجع إلى السبورة والدم يغلي في عروقه .. نصف ساعة ضاعت مع هذا الولد ..

ومـا إن استـدار إلى السبورة حتى فاجأه حجر جاء من الخلف .. فقال التلاميذ بصوت واحد "إنه محمد "…  

وهناك لم يعد قادرا على التحكم في أعصابه، نادى عليه .. وأخذ قطعة من خشب كانت في مؤخرة القسم وضربه على يده وكم كانت المفاجأة كبيرة عندما رأى الدم يتدفق من كفه .. لأن القطعة الخشبية كان بها مسمار لم ينتبه إليه لشدة غضبه ..

سكنه الهلع وتوقف عن الدرس ليذهب به إلى أقرب مركز صحي .. فعالجوا جرحه .. وظل يسأل عنه من حين لآخر .. و في اليوم الموالي حضر أبوه الذي لم يكن يعرفه أحد .. فأقام الدنيا .. وراح يشتم الأستاذ كمال .. ولم يمهله أن يدافع عن نفسه .. ثم خرج وهو يتوعد .. وبعد أيام وصله استدعاء من المحكمة لأنه أخطأ في حقه مرة ..

أخطاء الجميـع لم تحسب : أربعون تلميذا في القسم، مرتب زهيد لا يكفي لحياة قطة وأولادها .. غرفة واحدة تجمعه وأولاده .. هذه كلها ليست أخطاء .. بل مجرد هفوات قابلة للنسيان .. أما عقابه  لتلميذه .. فهو جريمة لا تغفر .

 

 

تفاصيل امرأة لا تموت

 

أشعل سيجارة ………..

أطفئ سيجارة ………..

أحرق ألمـا …………..

تناسل دخانا …………..

أغرق في قهقهات مجنونة، وأنت تجلس مع أصدقائك في مقهى وسط المدينة ..

مارس معي كل طقوس الهروب والموت المؤجل ، ستكتشف بعد عبث وجنون أني سيجارتك التي لا تنطفئ .. ستكتشف أني سيجارة تظل تشتعل بين أناملك فتحرق شفتيك " ولسانك، ثم تنزل إلى صدرك لتأتي على حقول السراب التي كانت قبرا لكل النساء اللواتي سبقن عهدي ….

 

* * * * * *

اقتلني بنسيانك .. بتجاهلك .. بحماقاتك التي لا تنتهي ..

اقتلني بخنجر مسموم بخطاياك .. بسكين حاد .. بساطور يفصل رأسي عن جسدي ..

اقتلني بكل وسائل القتل المشروعة ، وغير المشروعة ، ستجدني

-بعد كل مذبحة- أسبح في دمك .. أغرق في دمك ، بل وأنزف من دمك ..

-وستكتشف أيضا- أن قبري محفور في أعماقك .. ممتد حتى آخر وجعك  الملون بحنة "جميلة"

 

* * * * * *

شكل قصيدة بحجم الوجع فيك ..

أكتب قصة غير منتهية ، تختصر فيها سنين الجمر .. وعذابات العمر ..

تنقل من إمرأة إلى أخرى .. ومن جنون إلى آخر ..

أرحل بين دفاتر وجه يؤرقك ووجه تؤرقه ..

تحرر من تفاصيل حلم أزرق، لتغرق في دوامة حلم رمادي، اسرد حكايا مغامراتك لكل الأصدقاء .. حدثهم عن ليلى التي بعتها ولبنى التي باعتك .. وسلمى التي أسلمتها إلى وجع قاتـل .. وامـرأة أخرى لم تضع نهايتها بعد ..

التفت الآن .. انتبه .. لترى أصدقاءك يتهامسون من حولك "إنها حكايته التي لا تتغير .. هو يغير الأسماء، وهي لا تغير غير لون عينيها .. وفستانها .. وحذائها أيضا .."

 

* * * * * *

مارس ضدي كل طقوس الخيانة ..

انتقل بين كل مطارات العالم .. غير عنوانك من لحظة إلى أخرى ، ومن جنون إلى آخر .. تخلص من لون وجهي، من بريق عيني .. من لعناتي المتكررة والتي تلازمك كظلك الرمادي ..

أحرق جواز سفرك.. بطاقة هويتك.. شطب كل الحروف العرجاء التي تشكل اسمك لتكون رحلتك الأخيرة بل هروبك الأخير ..

أفتح الآن حقيبة سفرك في الشاطئ الآخر، لتراني أتمدد داخلها ، حيث لا أثر لأغراضك ، ولا لبدلتك المفضلة وربطة عنقك التي كانت تشدك بقوة إلى مصير مجهول ..

مارس جنون الهروب كيفما شئت .. فشمس قلبك في يميني ، وقمر عينيك في يساري ، وروحك معلقة على بوابة قلبي ..

فأين المفر؟

أنا الأرض .. والتربة أنا .. وحلم الأفق، وظلك الذي يطلع من خيبتك الطويلة ، لتتوسده حتى في قبرك..

أنا الوطن .. والعمق أنا ..

فأين المفر ؟

 

* * * * * *

أختبئ في أزقة المدن المنسية

أهجر الدنيا إلى كهوف الغابرين .. أسكن هناك شهرا .. سنة .. قرنا .. ، وقد تتناسل القرون .. ويتبدل أديم السماء ولون الأرض وتفاصيل البشر وتخرج أنت من كهفك بعد دهر لتجدني أنتظرك عند بوابة الكهف وابتسامة انتصار تلبسني ..

ستكتشف بعد طول نومك أن كل شيء تغير إلا أنا ولعبة السياسة وعرش الملك

ستجدنا في انتظارك لنهمس لك.

-"إنا نحن الراسخون".

* * * * * *

الأرض التي كانت -تنبت- بالأمس- وردا .. وحبا ،

تفرز في رحم الحاضر قصورا .. ودورا، وحقدا لا يقدر .

عيون البشر لم تعد تغرق في الحلم..

بل هي اليوم تقتات من ابتسامة تكاد تفنى وتندثر ..

تفاصيل العمر، باتت مهترئة عند كل الناس ..

تفاصيل تتمزق عند كل كومة ثلج فانية ..

العصافير التي كانت تغرد على أفنان القلب ،

سقطت مذبوحة هذا الصباح ..

ذبح صوتها هذا النواح العابر لكل القارات ..

كل شيء تغير ..

إلا أنا ..

مازالت الصدمة تنحتني ..

مرة.. فراشة لا تقبل التلوين ..

ومرة .. حمامة متمردة على ناصع بياضها ..

كل شيء تغير ..

إلا عرش الملك..

ما زال بريقه يعجن من قمح الغبن، وشعير الموت السلبي ..

وتقوم أعمدته على ظهور أحناها الإنحناء ..

كل شيء تغير وتبدل ..

إلا لعبة السياسة ..

لازالت الهواية الأكثر رواجا في ملاعب العالم

يتسلى بها الكبار ..

ويتأذى منها الصغار ..

فيا أيها الجامد .. المتحرك في دمي ..

أيها الناسخ لكل الأسماء العرجاء .. والعوجاء التي رقصت على أهداب فجيعتي ..

ما أنت فاعل ، أيها الآتي من أزمنة الموت المعلب ، والحب المثلج والأمومة الآيلة للسقوط …

ما أنت فاعل ، بحلم تحاصره تفاصيل إمرأة لا تموت ..

 

 

تأبين آخر الوجع

 

القبر مفتوح حتى العمق، مفتوح على آخر الجراحات ، آخر اللعنات، وداخله تتمدد أحلام متعفنة

تنتظـر أن تـوارى التراب لتنام إلى الأبد، فرائحة العفن -وحدها- تخنق البراءة في عيون الأطفال، و تحبس المطر بين الأرض والسماء.

هي .. ما كانت متعفنة قبل اليوم بل كانت وردية .. حالمة، متوهجة كعروس فاتنة ،أحلام تكاثرت في العروق والخلايا حتى نافست الدم في الجسد وأصبحت تمد القلب بحياة أخـرى .. أحـلام تلونـت، و تنوعت كقوس قزح في يوم عانق فيه المطر الشمس، فأبدع آية من آيات الكون : حلم الرغيف المعطر بعرق أمي ،، حلم المطر الممزوج بطيب التراب ، حلم الحب الوردي والمدينة الآمنة التي لا تغدر بأبنائها، وحلم الرفيق الذي لا يمارس طقوس الخيانة ، وحلم .. وحلـم .. و .. أحـلام "توزعت في أفق الأفق ، وتمددت في شوارع الدنيا، لتقيم لي عرشا في مملكة الحب والورود .

لكن وفي غفلة من طقوس الكون وسنن الحياة تمدد الليل كثيرا ، طال وتأخر مجيء الصبح سنوات عجاف ظلت الجفون حينها مطبقة وظلت الأحلام أحلاما تسبح في تفاصيل الجسد بلا ضوء .. ولا شمس و لا هواء ، فتعفنت .

بعد عمر آسن أشرق الصبح بطيئا مهزوما كعروس أسود وجهها ونكستها الفضيحة جاء الصبح متعثرا، فانتبهت إلى أحلامي ، حاولت أن أوقظها، أن أبعثها، أن أدفع بها إلى الشارع لتغدو حقيقة ، وتمارس وجودها فوجدتها تعفنت ولم تعد تصلح للحياة ! !    

و ها هي اليوم تنام في قبرها تنتظر أن أجاورها، وها أنا أقف على مقربة قدم منها أحاول أن أقرأ كلمة تأبين على روحها .. على روحي ! !

أقف في يدي ورقة اسودت بحمق الكلمات، بين شفتي حروف مبتورة وفي حلقي غصة عمر ضاع مني

كان نظري مشدودا إلى ما حولي كأني أرى العالم لأول مرة: الأشجار تلتف حول المقبرة كحارس أمين يحمي الأموات من خيانات الأحياء ، وفي الداخل حشائش خضراء تنمو بسرعة مذهلة كأنها تسير في اتجاه معاكس للموت وفي العمق .. لا أدري ماذا في العمق ، قد يكون ظلاما .. وقد، آه .. أشعر بدوار ورعشة الموت الجبار تسكنني، وأنا لا زلت أنا ، أقف على قبر أحلامي، أحـاول أن أقرأ كلمة تأبين، لن تكون مدحا ولن تكون -أيضا- ذما ، بل هي ذكر تفاصيل خيانات كانت قائمة على مسرح الروح .

بداية الخيانة :

كان ولدي الذي لم يتحرك في رحمي بل نما في عمق القلب، وتغذى من حـرارة الـروح، وكنت أمه التي لم تلده .

كان طويلا جدا، لكنه لم يجد مشقة في الإنحناء أمام حبي المجنون وأمومتي التي احتوته ، لم أكن في مثل طوله لكنني لا أجد عناء في احتوائه كلما أظلمت المدينة وانطلقت عفاريت الموت تلتهـم البشر و تمتص بقايا أحلامهم الصامتة ، كان يقسم لي أنني أمه ، والعالم من بعدي هراء ، و كنت أجزم له أنه ولدي والدنيا بعده فناء .

يا الله .. كم كان طفلي رائعا ، ومميزا عن كل أطفال العالم ، كنت أنظر إليه وأقول له مازحة :"كم هي تفاصيل وجهك مبهمة، غير واضحة ، ومع هذا أحس أن لا أحد يقدر على فهمك غيري ".

كان يعود إلى بعد كل ألم ، احتضن أوجاعه، وأضمد جراحاته ، ثم أهمس له في آخر الليل :"دع رأسك يهوي على صدري حيث الأمن والأمان ، فإذا خانتك كل نساء الأرض ، فستبقى أمك هـي المرأة التي لن تمارس ضدك طقوس الخيانة "

وخرج ذات صبح غجري كما تعود .. خرج يبحث عن خيانة أخرى .. عن جرح آخر ليكتب آخر قصة يلعب فيها دور الضحية ، لكنه لم يعد .. انتظرته ليلة وتمددت الليلة إلى سنوات ، وتكاثرت السنون، وضاع ولدي، افتقدت وجهه الجميل ..

أخيرا .. سمعت أنه عاد إلى شوارع المدينة، عاد محملا بالهدايا إلى الوجوه التي خانته ، ولـدي عاد تائها .. مجنونا ، حتى أنه لم يعد يعرف وجه أمه ، وقفت عند كل الشوارع التي يقطعها، لكنه كان يعبر على حبي ، كأنه لم يعرفني يوما، وبقيت وحيدة ، أتسول حبا من ولد ضال .

الخيانة الكبرى :

أنا ، كنت أنا وكان هذا الوجه لي ، وذاك البريق الآتي من عمق عيني يعرف روحي ، ولوحة الأصيل شكلتها من أحلامي، ثم نثرتها على جسد الكون ، لكن عند أول فرح بعت تفاصيل أحلامي، وأقف اليوم أمام المرآة مشدوهة، أتحسس بقايا ظلي، وأبحث عن نفسي الضائعة.. عـن روحي الغائرة في عمق الخيانة، اعترف أن الوجه لي ، لكني لست أنا ، هي تفاصيل امرأة تشبه كل النساء امرأة تأكل .. تتناسل.. تتجمل لكنها لا تشبهني .

وأعترف أخيرا، أني خنت هذا العمق الذي يسكنني ، وخنـت وجهـي مع أول ابتسامة حملتني إلى بر الأمان .

النهاية :

الطفل الرائع خان وجه أمه، والأم الطيبة خانت نفسها، وضيعت ما تبقى من لون عينيها ، فلم يعـد أي أثر للأرض والتربة، حتى السماء أطبقت على نفسها وغابت في عوالم أخرى أخذت معهـا الشمس والقمر، فاظلم الكون وامتدت يد الموت لتحضنني وأحلامي ونذهب في عناق أخير .

 

 

الرسالة الأخيرة

 

امرأة ممزقة أنا "جزء مني هنا، وجزء هناك، وجزء يسافر بحلمي ،يضاجع ذكريات تأبـى أن تموت: من قال أن الذكرى تموت ؟ قد تغيب حينا " قد تتضاءل مساحتها حينا آخـر، لكنهـا –أبدا- لا تموت إنها كقطعة نحاسية ، بمجرد آن تمتد أيدينا لتمسح عنها الغبار تلمع من جديد.

ابتسامة صفراء باهتة، أرسمها على سطح شفتي لأخدع الآخرين ، وأثبت لهم أنني قد نسيت .. ابتسامة اشتريها كل صباح وأنا ذاهبة إلى عملي -تماما- كما أشتري الخبز والحليب والحلوى !

لكن خلف هذا الصدر المتعب، وفي عمق هذا القلب المثقل تنام حكاية لجرح يتسع يوما بعـد آخر، رغم أن الأيام تمضي تلتهم بعضها البعض إلا أنها عجزت أن تبتلع جرحي ولم يكن في مقدوري أن أنسى أنه مات  !

أنا أعرف أن الملايين قبله قد ماتوا، وأن الملايين بعده سيموتون ، لكن –من وجعـي- أحس أنه الرجل الوحيد الذي مات فوق الأرض .

لازلت أذكر أول يوم بدأت فيه عملي كممرضة، كنت رقيقة حد الذوبان .. رومانسية حتى الجنون، كنت أحس بقلبي يتمزق إذا رأيت مريضا يتألم، كنت أجري من سرير إلى آخر.. ومن مريض إلى آخر، أساعد هذا على الجلوس ، وذاك على النوم ، و الآخر على الخروج، كانت حياتي فـي أول الأمر قطعة ألم "حكاية لموت لا ينتهي، وعندما رأيت أول مريضة تموت بين يدي صرخـت .. فزعت … بكيت ، وأحسست أن الكون كله توقف، بل قضيت ليلتي تحت تأثيـر كابـوس مرعب … و مع مرور الأيام والسنين، تعودت على صورة الموت، بل أصبحت متأكدة أن الموت باب سيدخله الناس جميعا، وتأكدت أيضا أن الموت كما يكون نهاية للأمل .. الحب والحيـاة يكون أيضا نهاية للألم ، للشقاء .. للعذاب .

كثيرون هم الذين ناموا على هذا السرير وماتوا ، منهم من مات وهو يبتسم ، ومنهم من مات وهو حزين، منهم من مات هادئا، يكابد آلامه في صمت، ومنهم من مـات وهـو يصـرخ ، لكن كلهم ماتوا .

إلى أن التقيت به ، فعاودني الخوف من الموت، رأيته وأنا أقوم بدورة عادية لمراقبة المرضى،  كان رجلا هادئا ، تجاوز العقد الثالث من عمره، على وجهه مسحة من الجمـال ظلـت تقـاوم المرض و تتحدى الألم . في أول الأمر لم أنتبه إليه، لأن وقتي موزع بين كل المرضى . وسمعته في اليوم الموالي يقول لي برزانة لفتت انتباهى :

-آنسة .. من فضلك …

ثم سكت كأنه يريد أن يقول شيئا ومنعه الحياء، اقتربت منه وأنا أقول :

-نعم سيدي .. هل تريد شيئا؟

قال لي دون أن يرفع نظره إلي :

"لقد تعودت كل صباح مطالعة الجرائد وأريد .. وسكت مرة أخرى قلت له وأنا ابتسم بصدق :      تريدني أن أحضر لك الجريدة كل صباح .. طلب بسيط ، فأنا أيضا مدمنة على قراءة الجرائد .

قال لي كأنه أحس بثقل طلبه :

- أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك بطلبي .

أجبته بسرعة :

-أبدا .. إنه طلب بسيط .

إحساس غريب شدني إليه لم أعرف معناه ، أحسست أن هذا الرجل يعلو فوق ألمه، يكبر على مرضه فكبرت صورته في عيني وقلبي .

كلما ذهبت إليه لأناوله الدواء، كنت أجد نفسي أدخل معه في حديث أتمنى ألا ينتهي ، كان يتحدث عن كل شيء : عن الموت والحياة، عن النجاح والفشل. كنت أدخل معه في نقاش حول بعض الأمور السياسية والقضايا الفكرية ، فأجد أنه على إطلاع واسع. كان دائم المطالعة، يقرأ كثيرا ، مع أنـه يعلم أن أيامه معدودة في هذه الحياة . لكنه كان يقرأ، كأنه يريد أن يختصر علوم الدنيا فيما تبقى من عمره…

عندما ساعدته ذات يوم على الجلوس رأيت مصحفا صغيرا تحت وسادته، فأخذته، ورحت أنظر إليه، قال لي دون أن أسأله:

-لقد أهدتني إياه أمي –رحمها الله- بعد عودتها من الحـج، وقالـت لي لا تجعله يفارقك أبدا، فإنه يمنع عنك الإحساس بالخوف واليأس .

كان خالد يكبر في نظري يوما بعد آخر ، ومن حيث لا أشعر وجدت أنني قد تعودت على الحديث معه بل اكتشفت أني أحبه ، ولا أتصور الحياة بدونه ! !

"مجنونة أنت" هكذا قالت عني صديقتي عندما كشفت لها سري .. صرخت في وجهي :" مجنونة أنت يا وفاء ، كيف تحبين رجلا يعاني من سرطان الدم ويعيش أيامه الأخيرة، لقد حكمت على نفسك بالموت".

نعم .. حكمت على نفسي بالموت عندما ربطتها بإنسان على موعد مع الموت بعد أيام ، لكن .. إحساس قوي ترسخ في داخلي بأنه سيعيش، ربما لأنه كان يتحدث عن الحياة أكثر من الموت، عن الأمل أكثر من الألم، ربما لأنه لم يكن يتألم أمامي ، ربما ثقتي بالله كبيرة .. وربما حبي له جعلنـي لا أتصور –أبدا أنه سيموت .

قال لي ذات صباح :

-وفاء .. لم هذه الدموع في عينيك؟ لم أنت حزينة يا وفاء؟ ! !

قلت له وأنا أحاول أن أخفي ضعفي :

-أبدا .. إنها أثار التعب .

قال كأنه قرأ أفكاري :

-"وفاء .. الحياة لا تتوقف عند موت إنسان .. عندما ماتت أمي كدت أقتل نفسي حزنا، واعتقدت أن الحياة انتهت، لكن مع مرور الأيام والسنين اكتشفت أنها لم تنته؟

يا أ لله .. كم يعذبني بحديثه هذا ! ! كم أتعذب وأنا أراه يتحدى الموت بإيمان قوي .

شهر بأكمله مر على وجوده في المستشفى ، أصبحت أحس أنه قطعة مني ، بل أنا المسؤولة عنه، هو أيضا –تعود على صورتي وحديثي معه . قال لي يوما :

-" وفاء .. وجودك إلى جانبي خفف عنـي كثيرا من الألم ".

وتمضي الأيام سريعة ، تلتهم بعضها البعض ، كأنها تتعجل رؤية النهاية .. إلى أن جاء آخر يوم لازلت أذكره كهذه اللحظة ، كان الوقت مساءا "كنت آخذ في يدي دفتره الصحي لأسجل بعض المعطيات الجديدة حول حالته الصحية .. رأيته يضغط بأسنانه على شفته السفلى بقوة كأنه يعالج ألما كبيرا في نفسه .

سألته " ما بك يا خالد .. هل اشتد عليك الألم ؟

قال لي :

-" إنه ألم بسيط سيزول بعد لحظات " ثم رسم على شفتيه ابتسامة صفراء باهته .. رسمها بعسر ليخفي عني آلامه .

فعدت إلى تسجيل درجة حرارته لكنني سمعت صوته يأتيني ضعيفا رقيقا .. هادئا :

-وفاء ..

رفعت رأسي ، ولأول مرة أرى في عينيه دمعتين ترقصان خوفا وألما، وألمح على وجهه معاني الاضطراب والقلق، تحركت شفتاه كأنه يريد أن يقول شيئا لكنه ظل صامتا . صراع قوي، أحسه يتفاعل في داخله: صراع بين الألم والأمل بين التحدي والاستسلام، بين الموت والحياة ، لكنه ظل على صمته، ينظر إلى وجهي. اقتربت منه وسألته :

-هل تريد أن تقول شيئا؟ وفضل الهروب بطريقته الخاصة، قال لي وهو ينظر إلى النافذة :

-كم أحب صورة الغروب !

صرخت بصوت باك :

ولكنها تعني النهاية .

أجابني بحكمة :

-أبدا، الغروب لا يعني -دائما- النهاية، قد يكون بداية لفجر جديد .

قلت وأنا أصر على معرفة ما يجول في خاطره :

-كنت تريد أن تقول شيئا أليس كذلك ؟

نظر إلي، والحزن يطل من عينيه ، ثم قال :

غدا الجمعة، ستكون عطلتك ، عندمـا تعودين يوم السبت أصارحك ببعض ما يختلج فى صدرى.

صباح يوم السبت، وجدت نفسي أمر على الكشك .. اشتريت جريدة ، ثم دخلت إلى المستشفى .. أسرعت إلى غرفته ، متلهفة على رؤيته .. وقفت عند الباب .. نظرت إلى سريره فلم أجده .. رباه .. هل خرج ؟! هل حدث له مكروه ؟! هل .. لا .. مستحيل .. وأحسست بيد رقيقة تمسك بكتفي.. وسمعت صوت صديقتي وهي تنشر أمامي الحقيقة التي كنت أهربها من مكان إلى آخر حتى لا اصطدم بها .

-مات خالد

-مستحيل .. كيف ؟! متى ؟! لماذا ؟!

-مات يا وفاء .. مات مع آذان الفجر .

ارتعشت أطرافي .. سقطت الجريدة من يدي، وأحسست أن العالم كله توقف ،، زلزال عنيف دمر كياني ، وجعلني أغيب عن الوعي مدة طويلة أفقت بعدها على صوت الدكتور : إنك الآن بخير يا وفاء، سأمر عليك بعد حين ، وخرج .

ورأيت صديقتي تجلس إلى جانبي وهي تحاول أن تمسح الدموع الغزيرة التي بللت وجهي ، أسندت رأسي إلى صدرها وأنا أردد في يأس :

-مات خالد …

وسمعت صوتها يصفعني بالحقيقة مرة أخرى : كل الأطباء في المستشفى أكدوا لك أنه سيموت بعد أيام، ولكنك كنت تضعين أصابعك في أذنيك هروبا من الحقيقة . وقبل أن تخرج صديقتي ، رأيتها تخرج من حقيبة يدها مصحفا صغيرا وفوقه ورقة ، قالت لي :

-لقد ترك لك خالد قبل موته .

أخذت المصحف، ثم فتحت الورقة بلهفة، ورحت ألتهم حروفها بسرعة :

"عندما تقرئين هذه الرسالة، لن أكون معك ، إنها آخر ورقة تسقط من حياتي ، لكـن ما حدث كان فوق طاقتي، فكما أننا لا نختار لحظة دخولنا إلى الحياة ولا لحظة خروجنا منها، كذلك لا نختار زمن أحلامنا، ثلاثة لا اختيار لنا فيهم :

الحياة .. الموت، و الأحلام . وفاء .. لو منعك عني الناس لحاربتهم من أجلك، واستنزفت آخر ما تبقى من دمي حتى لا تكوني لغيري، ولكنه القدر ، لا نملك –أمامه إلا أن تقول :" قـل لـن يصبنا إلا ما كتب الله لنا" ، فقط –أوصيك أن تحتفظي بهذا المصحف الشريف ، فإنه يمنع عنك الإحساس بالخوف واليأس.." .

وخرج صوتي من بين دموعي يردد "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله  لنا ".

 

 

رحلة الغروب

 

قدم تسحبني نحو المطار، وأخرى تردني إلى الوراء : الأولى ترغب أن تحملني كحمامـة تحت جناحيها إلى أحضان وطني ، تريد أن تلقي بي طفلا صغيرا في صدر أم غبت عنها ربع قرن من الزمن أبعدتني عنها الظروف القاسية ولقمة العيش، فعشت عمرا باردا لا دفء فيه ، أما قدمي الثانية، فكانت تردني إلى الوراء، تشدني إلى أرض التهمت أولادي بوحشية، وتركتني شجرة عارية .

وأنا أركب الطائرة، التفت ورائي، ألقيت نظرة مبهمة على وجه هذه الأرض التي احتضنتني شابا يافعا فامتصت رحيق شبابي وسرقت مني كبدي ثم لفظتني عجوزا ضعيفا وحيدا، وقد رهن عظمي واشتعل رأسي شيبا .

أنا أدرك جيدا، أني لن أعود إلى حضن هذه الأرض وأن شوارعها الملتهبة دوما . لن تعبث مرة أخرى بما تبقى من رحيق عمري ، ولكن قلبي ورغما عني سيبقى متعلقا بها ! !

صعدت سلم الطائرة تتبعني زوجتي المخلصة، أخذت مكاني ، وجلست هي بجانبي، نظرت إلى وجهها فقرأت تفاصيل مأساتها ونظراتها لا زالت متعلقة بهذه الأرض . دموع حارة كانت تنهمر من عينيها الغائرتين، لم أمسح دموعها ، كما تعودت لأني أعلم أن هذا سيجعل الألم يتكاثر في داخلها.

تركتها تبكي لعل الدموع تخفف عنها بعض الوجع وتهون عليها حجم الخسارة، خسارة أم فجعت في أولادها، أم حملت أولادها في بطنها وأنجبتهم بعد عسر، سهرت على رعايتهم وتعلمت الخياطــة لكي تساعدني في نفقة دراستهم، كانت تحرم نفسها من ملذات الحياة في سبيل أن تراهم سعداء، و مع أول اختيار باعوها جميعا –للوحدة، ولم يرض أحد بالعودة معها .

مسكينة فاطمة ! ! بل ما أتسعها، عانت كثيرا في سبيل أن تربي أولادها تربية تجعلهم يتشبثون بوطنهم كانت تتحدث معهم بالعربية ، وترفض أن تكلم من يحدثها بالفرنسية : وكانت تتعمد بين الفينة والأخرى أن تحضر لهم قطعة من "الكسرة"  أو طبقا من "الكسكس" حتى تذكرهم بأصلهم الجزائري .

كانت تأمرهم بالصلاة والصيام لكن "آمال" البنت الصغرى تعود في المسـاء وهـي تلـوك بين أسنانها قطعة من "العلك" وتنسى أنها أمسكت عن الطعام منذ طلوع الفجر، وعندما تؤنبهـا تـرد بصدق:

"صدقوني –لقد نسيت، جلست مع صديقاتي ، فنسيت أني صائمة". وعندما تزوجـت "ليلى                 ابنتنا الكبرى" أصرت فاطمة أن تقيم لها حفلا عربيا في قلب باريس، واستدعت جاراتهـا مـن مختلف الأقطار العربية، ألبستها قندورة "الفرقاني" ووضعت في رجليها الخلخال وزينتها بالجبين، وأطلقت زغرودة حارة دوت في أذن باريس كلها، وعندما رفضت ليلى أن تضع "الحنة" في يدها بحجة أن صدبقاتها في العمل والشارع قد يسخرن من هذا اللون الأحمر الذي يصبغ راحتيها ، أصرت فاطمة على "الحنة" واعتبرتها من أسباب رضاها عنها!     

وعبثا –حاولت أن تخطب لـ –كمال- فتاة عربية، كي تحافظ على ما تبقى من انتمائه وهويته لكنه رفض وتزوج بشقراء باريسية ظلت تتردد على بيته خمس سنوات ، وأنجبت منه ولدين قبل أن يعقد قرانه عليه ! ! .

وكم حاولت أن تختار أصدقاء "جمال" لكنه ظل يرفض أن تتدخل أمه في شؤونه الخاصة ، لأنه يدرك مصلحته جيدا .

فاطمة حاولت كثيرا أن تشد أبناءها. أن تحتويهم .. أن تقربهم منها، حتى لا تلتهمهم شوارع باريس، ولكنها فشلت ، كان المجتمع الباريسي أقوى منها. المدرسة الفرنسية كانت أسـرع مـن فاطمة فأخذت منها أولادها.. وهذه الدموع الغزيرة تدل على إحساسها بالفشـل .. بالهزيمة.. بالإنهيار.

إنها تتمنى الآن –ألا تقلع الطائرة، أن تجمد في مكانها، وتخرج لتحضن أولادها مرة أخرى، وربما أخيرة ، كانت تريد أن تقبلهم .. أن تبلل وجوههم بد موعها الحارة  ، فقد يعدلون عن رأيهم  !

أقلعت الطائرة كأنها تريد أن تنتقم منها ومني، أحسست أنني وفاطمة نعود إلى الوطن بجرح ننقشه في القلب الزمن.. أعود وإياها بعد رحلة ربع قرن فقدنا فيها الشباب والأولاد .

التفت إلى فاطمة فرأيتها تصفعني بنظرات قاسية كأنها تقول لي "أنت السبب يا عمـار أنت الذي نسجت خيوط هذه المأساة، ووضعت أقدامنا على شفا حفرة من النار، أتيت بأطفال صغار، كأوراق بيضاء، ورميت بهم بين أحضان هذه المدينة المجنونة، وأنت تعلم أن نارها تلتهم كل شيء ،تعلم أنها لن تكتب على هذه الأوراق غير ما تحبه أن يكونوا عليه، وأنها تملك من وسائل الغوايـة ما يجعلها تأخذ أولادي دون عناء، كم كنت مغفلة يوم أطعتك ، وجئت معك، لقد صورت لي الحياة في باريس جنة جعلها الله فوق الأرض ، فإذا هي نار وجحيم وجنون …".

فاطمة لم يكن في مقدوري أن أفعل غير ما فعلت ، قبل ربع قرن كان لابد أن أهاجر إلى فرنسا رغم أنني أمقتها، لكنني لم أجد حلا غير السفر ، أسرتي كانت فقيرة ، خرجت من حرب التحرير و قد فقدت كل أملاكها حتى أبي أصبح عاجزا عن العمل لأنه فقد يده اليمنى أثناء الثورة، وأصيب بخلل عقلي بعد التعذيب الوحشي الذي تعرض له ووضعه في غرفة مغلقة مع جيش من الكلاب الشرسة ! كان لا بد أن أهاجر، أفواه مفتوحة تريد أن تأكل، بطون تصرخ من شدة الجوع .

وعندما تزوجتك لم أستطيع أن أبتعد عنك وقد أنجبت "كمال وليلى"فكان لا بـد أن آخـذك معي وإلا أتركك للضياع، خاصة بعد أن توفي أبي ولحقته أمي ، وكبر أخوتي ليكون لكـل منهم حياته الخاصة .

آه … يا فاطمة ليت العمر يعود إلى الوراء ، فأختار قدري، لكن الزمن لا يخضع لرغبة أحد .. هي قدرة إلهية تدفعنا نحو مستقبل نجهله …آه، ما أضيعني . و إياك بين الهجرة والعودة … مسافة ربع قرن اختصرتها جلسة واحدة رحت خلالها أعرض على أولادي قرار العودة، فوجدتهم جميعا -

يصفعوننـي بقرار نزل على قلبي كالصاعقة، جلسة لن أنساها أبدا لأنها محفورة في صدري وصدرك أيضا، مازلت أذكر أنك حضرت طبق "الكسكس" واستدعينا كمال وليلى فكلاهما مستقل بحياته، جلسنا إلـى مائـدة الطعام، أكلت أنا وأنت بينما امتنع الأولاد بحجة أنهم لا يحسون بالجوع .. فقط اكتفوا بقليل من الفاكهة .

وعندما أنهينا الأكل أخذ كل منا مكانه في "الصالون" جلست أنا في مكان بحيث أراهم جميعا وألمح ما يجول في خاطرهم قبل أن تنطق به ألسنتهم، ورحت أعرض عليهم قرار العودة .****

"أنتم تعلمون يا أولادي أن إقامتي هنا كانت محددة منذ أن وطأت هذه الأرض، وبما أنني تلقيت قرار الإحالة على التقاعد منذ أيام ، فقد قررت أن نطوي مسافة ربع قرن بحلوها ومرها. ونضعها في حقائبنا لنشد الرحال إلى الوطن الأم …

 

كان كمال أول من تحدث فقال :

-أبي … أنا لا أنكر أنني ولدت في الجزائر، وفي قريتنا الجبلية، قضيت السنوات الأولى مـن طفولتي، سنوات مازالت محفورة في ذاكرتي وليس في مقدوري أن أنساها إلا أنني لا أستطيع أن أعود معكم فحياتي مرتبطة بباريس ، خاصة بعد زواجي من امرأة فرنسية ثم استطرد :

-حتى إن وافقت على الرجوع فإن زوجتي وطفليها يرفضون …

أما ليلى فإنها لم تفكر في القرار كثيرا ووجدتها تقول لي :

-أبي أنا أيضا ولدت في الجزائر ولا زلت أذكر جيدا قريتنا الجميلة، ووجه جدتي ، وملامح جدي مستحيل أن أنسى وطني ، إنه إنتمائي الوحيد، وهو بيتي الذي أفتخر بهـا، وقـد تـزوجت مـن شاب جزائري حتى ازداد ارتباطا بأرض وطني، وأكون على صلـة بـه، لكننـي لا أستطيع أن أعود معكم فزوجي يملك محلا تجاريا هنا ، و لا يمكنه أن يتخلى عن تجارته التي يكسب منها رزقه

لم أتألم كثيرا لقرار كمال وليلى لأنهما استقرا هنا في باريـس. نظـرت إلى جمال فقال لي دون أن أسأله:

-أبي أنت تعلم أني أحضر هذا العام رسالة الماجستير في العلوم الدقيقـة وقـد أزوركم بين الحين والآخر ، أما العودة النهائية ، فأعتقد أني لا أستطيع …

صمت جمال قليلا ثم تابع حديثه :

-بصراحة لقد ألفت الحياة هنا ولن أكون مرتاحا في مكان آخر غير باريس، فيها مولدي ونشأتي، ودراستي، ولي فيها أصدقاء ومعارف، سأحس بالغربة إن خرجت منها …

كلمات جمال نزلت على قلبي كالصاعقة، كلامه يوحي بأنه لا يعترف بانتمائه. أوراق الأمل تسقط الواحدة تلو الأخرى . وكلما سقطت ورقة تفاقم إحساسي بالفشل لم تبق غير ورقة واحدة "أمال أصغر أولادي" عمرها الآن عشرون عاما ومع هذا لا زلت أراها طفلة صغيرة . كثيرا ما كنت أجلسها على ركبتي وأحدثها عن الجزائر عن الثورة التي أذهلت العالم .. وعن جدها الذي أفقده الإستعمار عقله ويده اليمنى، حدثتها عن ديننا … عن أخلاقنا التي تحفظ كرامة الإنسان … علمتها الصلاة ومرنتها على الصوم، أنا لا أنكر أنها وجدت صعوبة في أول الأمر لأنها كانت ترى زميلاتها وهن يأكلن، فلا تستطيع أن تملك نفسها ، وأحيانا تنسى … ولكنها فيما بعد أصبحت تحرص على صومها وصلاتها، لأجل هذا كنت أحبها، وكانت أقرب أولادي إلى نفسي

جلست بجانبها ، احتويتها بحبي ورغبتي في أن تعود معي قلت لها :

-ستعودين معي يا أمال ، أليس كذلك ؟!         

ورحت أنظر إلى وجهها "إلى شفتيها، كأنني متهم ينتظر حكم القاضي … انتظر قرارا يرفعني إلى علياء السماء، أو يهوي بي إلى نهر العدم محطما، مشلولا   .

قالت أمال بصوت مضطرب ضعيف : "أبي ……." وسكتت .

-نعم ،ستعودين يا أمال … أنا متأكد من هذا …

-أبي، أنت تعلم أني لا أحس بأي انتماء آخر غير انتمائي لوطني، ورغم غربتي الدائمة عنه إلا أنني متعلقة به، أبي لقد علمتني ما يجعلني أعتز بوطني ، ولا أخفي اعتزازي هذا عن أحد، حتى لوحاتي الزيتية التي أرسمها أصبحت تطل على باريس بملامح جزائرية ،ولكن …

صرخت بهلع :

-ولكن ، ماذا يا أمال ؟!

-منذ شهور فقط باشرت عملي في شركة كبيرة، وأتقاضى مرتبا مغريا، زيادة على ذلك فقد أصبحت أداوم على إقامة معارض في صالونات باريس ، ولدي جمهور واسع ليس في استطاعتي أن استغنى عنه وكما تعلم يا أبي ، فقد خطبني رسـام تونسي، وسنتزوج عن قريب، وقد قررنا أن نقيم في باريس ،وقد ننتقل إلى عواصم عالمية أخرى ، لتصل لوحاتنا إلى جمهور أوسع .

وعندما رأت الدموع تتسابق إلى خدي بحرارة موجعة، راحت تقبلني، وانتقلت إلى أمها تعانقها وتقبلها وهي تردد متوسلة :

-أمي ، إني أحبك ، وأحب أبي وإخوتي ووطني، وإقامتي هنا، أو في أي مكان آخر لا تمنعني من ممارسة هذا الحب والدفاع عنه .

وسقطت آخر ورقة من شجرة عمري الهـارب، لأعـود إلى وطني مهزوما، مبتورا يتقدمني الإحساس بالوحدة والعقم .

الآن… الطائرة تحلق فوق مطار عين الباي، كم تبدو قسنطينـة جميلـة بل وقوية مازالت تشمخ برأسها في السماء، وهي تقف على هذه الصخرة العتيقة ، تبدو وكعروس لا تشيخ أبدا . هنا سأدفن ما تبقى من عمري، وأطوي ذكريات قريتي الجبلية .

هبطت الطائرة فوق أرض المطار –لم أره منذ عشر سنوات-عندما جئت فـي عطلـة صيفية ، وحينها كلفت أخي الذي يقطن بحي "سيدي مبروك" أن يشتري لي قطعة أرض لأبني فيها سكني .

ساعتها قال لي أخي :

-أنت تعرف أن التكاليف ستكون باهضة ، ومواد البناء مفقودة .

فأجبته "لا تخش شيئا ،سأرسل لك بكل ما تحتاجه، فقط أريدك أن تبني لي سكنا يملك من الجمال ووسائل الراحة مايجعل  أولادي لا يحسون بتغيير كبير في حياتهم… غرفـة أمال أريدها باللون الوردي لأنها تحبه كثيرا ولا تنس أن تزين جدرانها ببعض اللوحات الزيتية … خاصة أمال ، أريدها أن تحس بحبي لها.

الآن سأتجه نحو السكن الفاخر ، أدخله وحيدا تتبعني عجوز ثكلى، لن نفتـح إلا غرفة واحدة… الغرف الأربعة ستبقى مغلقة لتشهد على رحلة الغروب التي ضيعت الشباب والأولاد .

 

 

الحلقة الأخيرة

 

الشمس تنحسر عن جسد الكون، تسحب غطاءها الذهبي عنه لتفضحه أمام عيون الناس جميعا، لكن الليل يأتي مسرعا ليستر ما تريد أن تفضحه الشمس. النفاق لا ينكشف أبدا – في هذا العالم-دائما- يجد له غطاءا يستره … وأجلس أنا هاهنا –وحدي- أعد أسماء المنافقين الذين يمشون على الأرض واحد .. اثنان.. عشرة .. ألف .. أي .. رأسي يكاد ينفجر ، عددهم لا يحصى إنه يفـوق خلايا جسدي .. كل منافق بقصة وكل قصة بغصة وكل غصة بنهاية .. آه .. ما أكثر النهايات في عالمي .

-وحدي –أسير في الشارع أدقق النظر في وجوه المارة ، في عيونهم وأتساءل في سري "كم ألفا سيربحون من هذه الإبتسامة الصفراء على شفاههم ؟ كم ضحية سيسوقونها وراء براءة مزيفة في عيونهم ؟ ما لون هذه الخيانة التي تنام خلف صدور دافئة ؟

-دائما –أحس أن كل بشر يمشي على الأرض يحمل أحشاءه بين جنبيه يخبـئ قلبــه وراء صدره –وو حدي –أنشر أحشائي على جسدي ، وأضع قلبي فوق صدري .

اللحظة.. وحيدة –أمزق صمت هذا الشارع ، وصوت أمي يلاحقني "إنـك مريضـة ياحبيبتي ، انظري في المرآة ، وستلاحظين شحوب وجهك ، وذبول عينيك ، حالك يسوء أكثر، وأخاف أن أخسرك ذات يوم، وفاء .. لا بد من زيارة الطبيب"

 وسرت إلى الطبيب استجابة لرغبة أمي .. دخلت .. جلست على الكرسي المقابل له ، سألني دون أن يرفع عينيه عن كتاب بين يديه :

-مم تعانين ؟

-أعاني من كل شيء، و لا أعاني من شيء .

أحسست أن جوابي فاجأه ، فرفع عينيه إلي وقال :

"-لم أفهم".

قلت بصوت مضطرب :

-"أحس أن كل الأمراض والعلل تتزاحم على جسدي، تفتك به، لكن التحاليل تثبت دائما أنني لا أعاني من شيء" .

بدا على الطبيب أنه فهم حالتي وعرف أن المشكلة ليست في جسدي ، فسألني وقد تغيرت نغمته الأولى:

-ما اسمك ؟

-وفاء

-اسم جميل

-ولكنه متعب سيدي، متعب حد الجنون .

-إذا أتعبك هذا الإسم اختاري لنفسك اسما آخر .

هكذا قال لي الطبيب ، وببساطة .

قلت وأناأبتسم بمرارة :

-أغيره ؟ كيف ؟ ثم استطردت :

-حاولت كثيرا أن أغيره ، فلم أفلح ، إنه يلتصق بجدار قلبي ، فلا أحد سيدي يملك حق تغيير لون جلده ولا اسمه .

اعتدل الطبيب في جلسته وقال :

-إنك مريضة غير عادية ؟

-ربما .. فهل تستطيع أن تجعل مني امرأة عادية، أو على الأقل –مريضة عادية ؟

حاول الطبيب أن يغوص في أعماقي أكثر، أن يفهم شيئا من هذا اللغز الذي يخنقني ويضعني على عتبة النهاية ، لكنه لم يفلح ، فوجد نفسه مضطرا لأن يعيد علي السؤال الأول :

-مم تعانين؟ ماذا يؤلمك؟

-انفجار دائم في الرأس، ألم موجع في القلب .. آه سيدي كم أتعبني الرأس، وكم أعياني قلبي .

-وماذا تريدين ؟

-أريد دواءا يفصل رأسي عن جسدي .. ينتزع قلبي من صدري، ولو يوما واحدا، أريـد أن أزرع في عقلي آلة حاسبة كبقية البشر، أريد أن أغرس في جوفي قلبا بغير دم ككل البشر، أريـد وجهـا آخر لأغدو بوجهين كمـا كل الناس "أريد أن أتخلص من لعنة الوفاء التي تسكننـي .. أريد .. آه .. لا أريد شيئا.. لا أريد شيئا ..

-اقترب مني الطبيب أكثر وهمس لي بدفء :

-أرجوك وفاء .. اهدئي فلا يوجد فـي الدنيا ما يستحق أن نخسر حياتنا من أجله .

-قلت وأنا أحاول أن أهرب بنظراتي إلى أية نقطة ضائعة في الغرفة:

 "- يا الله .. كم هو مفزع أن تكتشف أخيرا-أن كل الذين سكنوا زوايا قلبك كانوا يتاجرون بأحلامك ، بابتسامتك، بوفائك.

ابتسم الطبيب كأنه يريد أن يخفف عني وجع الوجع ثم قال :

-إنك تنطقين بالحكمة .

أجبته بيأس قاتل :

"- الحكمة فلسفة المرضى .

وانتهت جلستي مع الطبيب، كانت عقيمة، كما كل جلسات الأطباء، نعم إنه يشبههم ، فقد أكد لي أن نبضات قلبي سليمة "ضغط دمي معتدل، وجسدي لا علة فيه، ثم كتب لي مهدئات .

ووجدت نفسي مرة أخرى –تائهة .. ضائعة ، أتمزق ألما على أرصفة الغربة ، أحصي أسماء المنافقين على سطح الكون "كيف السبيل لأكون منهم ذات يوم ؟"

كل الأطباء عجزوا أمامي ضياعي ، لم يبق أمامي إلا هو ..درويش المدينة، أعترف أني أكرهه ، أمقته، أعترف أني شتمته البارحة عندما اعترض طريقي ، وعرض علي مساعدته، لكن لا بد من الرجوع إلى يده.

سرت أليه .. طرقت بابه ، وعندما سمعت صوته دخلت، فوجدته واقفا مستعدا، كأنه ينتظر عودتي منذ ألف عام .. أشار إلي بالجلوس ، فجلست .. قال لي كأنه يتحداني :

-لم ينفعك طبيب في هذه المدينة؟ حركت رأسي أن "نعم"

تابع كلامه بثقة :

-إنك متعبة يا وفاء –و وحدي- أعالج هذا التعب الذي يسكن عينيك .

تنهدت بعسر وقلت :

-"للأسف إنها الحقيقة .. لا مهرب منك .

ابتسم بكثير من الخبث وقال  :

-لماذا تتأسفين .. أنا لا أريد غير راحتك .. صدقيني .

وفاء هذا الزمن ليس لك، عليك أن تغيري وجهك .. قلبك .. لون عينيك وحتى اسمك . ثم أشار إلى زجاجة في يده وقال لي :

-الدواء في هذه الزجاجة إنه مسحوق سيجعلك ككل الأحياء الذين يمشون في المدينة .

أخذت الزجاجة منه، وأردت الانصراف، لكنه استوقفني قائلا :

-وفاء إياك والإفراط في تناوله، فقد يقتلك .

خرجت دون أن ألتفت إليه .. قررت ألا أبدأ في تناول هذا المسحوق حتى أصل إلى صدر أمي .. لكن لم أستطع .. المسافة طويلة بيني وبينها ورغبة التغيير تجتاحني ، انزويت في ركن منعزل عن الشارع مفترشة بقايا أمل أخبئه في صدري، أخرجت الزجاجة .. فتحتها .. تناولت منها قليلا .. يا الله .. طعمه مر في فمي .. المرارة تصل إلى حلقي .. إلى قلبي، لكن ماذا حدث ؟ الألوان كلها تغيرت أمامي، كل بشر أراه الآن بوجه واحد، الأحداث جميعها أصبحت عادية جدا، أحس في نفسي خلقا آخر، لم أشعر إلا وأنا أفرغ الزجاجة كلها في جوفي. أحسست بألم شديد .. بدوار في رأسـي .. بغثيان متدفق ثم غبت عن العالم . لم أفق إلا وأنا أستند إلى صدر دافئ ، فتحت عينـي بعسـر و خرج صوتي ممزقا:

-سليم .. ماذا تفعل هنا؟

وسمعته يصرخ مفزوعا :

-وفاء .. ماذا حدث لك ؟

كان الألم يمزقني .. وكانت كلماتي تخرج عسيرة .. متقطعة :

-سليم .. كم كان طريق الوفاء طويلا.. موحشا .. كم تعبت وأنا أسيره وحدي .

قاطعني :

-سأكون إلى جانبك الدهر كله .

ابتسمت بمرارة وأجبته :

-فات أوان هذا الكلام، ونفضت يدي من كل الناس .. آه سليم .. كم هي مفزعة معادلة الحياة : بالأمس تمنيت أن أعيش هادئة بين أحضان قلبك ، واليوم أموت مذبوحة على جدار صدرك .

حاول سليم أن يقنعني أنه أخطأ في حقي ، وأنه لم يكن يعلم أن مأساتي بهذا الحجم لكن مسحوق النفاق كان أسرع منه فقد مزق صدري .. ووصل إلى قلبي ، ثم امتص آخر قطرة من دمي ليتركني جثة هامدة على الرصيف .

وظل سليم يردد بحرقة المفزوع : ما أضيع العالم بعدك يا وفاء !

إشاعة بعد النهاية :

الإشاعة تنتشر في المدينة كالضباب ، الناس يؤكدون أن وفاء ستعود لأنها لم تمت .. الأول استيقظ ذات صباح وأكد أنه رآها في شرفة بيته ، والثاني يقسم أنه رآها وهو يخرج من عمله، والثالث يعترف أنه لمح طيفها ذات مساء .. والرابع ..

سليم وحده-كان متأكدا أن وفاء لن تعود لأنها ماتت على صدره .

 

أضيفت في 12/04/2006/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتبة

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية