يوميات رجل مجنون
اليوم الأول :
حتى ذلك اليوم كل شيء في المدينة كان عاديا , منذ الصباح الباكر
استيقظ سكانها على نغمات المطر المتهافت .... شوارعها تحتمي بالأمل المفقود
, وبناياتها تغتسل من الرماد أيام العجاف , أشعة الشمس اختفت تحت تسابيح
السحاب الأسود ... حركة الراكضين بدأت تنزع لحظات السكون , وتبعث روح
الحياة .... وخلال لحظات التيه ارتفعت دقات الطبل تنتزع لحظات السكون ,
وتبعث روح الحياة .... رجل ممزق الثياب , وحافي القدمين , بين يديه طبل
صغير , ينادي بأعلى صوته : " من يشتري أطفالا صغارا ؟ ! " حركة الراكضين
توقفت , تجمهر الجميع حوله , أمطار الشتاء تواصل عزف لحن خالد , عصف
العواصف يحاصر المدينة التائهة , وشدة البرودة لم تمنع الراكضين من التوقف
والإلتفاف حول هذا الغريب الذي هز أركان المدينة منذ الصباح .......
سيدي هل تشتري أطفالا صغارا ؟ قال
الغريب.
لا أحد استطاع أن يكسر حاجز الصمت , علامات الحيرة تعلو محياهم ,
وفي أذهانهم ألف سؤال وسؤال , دقات الطبل ترتفع , ويسير الغريب ... توقف
الرجل كأن الكلمات أتعبته .أحد المتفرجين يتحدى السكون, يسأله :
-ما حكاية هؤلاء الأطفال وأين هم ؟ " .
حدق االغريب في الملتفين حوله وظن الجميع أنه سيروي لهم حكاية
محزنة , انفرجت شفتاه , ونادى من جديد " أطفال للبيع فمن يشتري "
قال أحدهم :
-دعوه يبيع الأطفال إنه مجنون ........اذهبوا إلى أعمالكم ....
تفرق الجميع بينما واصل السير في شوارع المدينة ودقات الطبل تتعالى
, وبين شفتيه عبارة : " من يشتري أطفالا صغارا ؟ " وتستمر الدورة ليصبح
الضياع أسلوب الحياة اليومية ....ومن شارع إلى آخر يتزايد عدد الأطفال
السائرين وراءه , هذا يجذبه من ثيابه وآخر يضرب على طبله , ويواصل الرجل
دورته طوال النهار حتى المساء دون كلل ....وحين ارتمت شوارع المدينة في بحر
الظلام , توقفت دقات الطبل وكف الرجل عن التجوال في انتظار بزوغ الفجر .
اليوم الثاني :
تستيقظ المدينة على أشعة الشمس وهي تعانق السماء في كبرياء الشوارع
, اغتسلت من نزيف الأيام .... الحركة بدأت تدب عبر الطرقات , قطعان بشرية
تتحرك كتلا صدئة في اتجاه نقطة ما من إحدى الزوايا , ينطلق صوت الطبل من
جديد ... قال أحدهم :
- لقد عاد اليوم كذلك .....
قال الثاني :"
- سيقضي كل اليوم يغني ليبيع الأطفال ..."
دقات الطبل تواكب حركة الراكضين عبر شوارع المدينة المسكنية , صوت
الرجل يخترق دقات الطبل ...... امرأة للبيع فمن يشتري ؟! كرر النداء وهو
يواصل زحفه عبر الأزقة ... تجمهر حوله الفضوليون. قال الرجل :
-أمس يبيع الأطفال واليوم امرأة.
قال الثاني :
-فلنبلغ عنه الدرك.
قال الثالث :
-ماذا سنقول لهم ؟ رجل مجنون يجوب شوارع المدينة ....
وانغمس الجميع في بحر الضياع يتلذذ طعم الحياة المرة , ويبحث عن
مواويل العيش الرغد التائه بين دروب الغناء....وفي الوقت الذي كانت فيه
الكتل البشرية تبحث عن منافذ الكسب وتبتاع فتات الزمن وتسكت به بطون
الجائعين كان الغريب يواصل تجواله عبر شوارع المدينة ودقات طبله لا تتوقف
, ونغمات صوته الجوهرية تتعالى وأيادي الأطفال تتجاذبه ... امرأة للبيع فمن
يشتري ؟! قرص الشمس يتهادى وئيدا ليختفي في نقطة ما .... أهل المدينة
يركضون نحو بيوتهم , حتى صوت الغريب توقف كأنه يسترد أنفاسه ليوم جديد
.....
اليوم الثالث
كل شيء كان عاديا في صبيحة هذا اليوم , النازحون نحو مآربهم يلتهمون
الطريق بسرعة لا أحد يلتفت للآخر ... دقات الطبل تخترق السكون وتعيد إلى
ذاكرة المدينة الحزن الخريفي المتمدد عبر دروب الضياع والخوف ... اليوم لا
أحد يأبه لهذه الدقات , فالجميع له ما يغنيه عن متاعب الغريب أو المجنون
الذي عودهم على جولاته ....
-أرض للبيع فمن يشتري ؟! تعجب الناس فأمس الأول الأطفال وأمس المرأة
واليوم الأض ... وتتواصل الحركة في طرقات المدينة لتصنع موسم الفرح وترتب
حروف الأمل ... الأكتاف تتزاحم , والسواعد تتنازع لردم سنين الخوف الملتهبة
ودموع الإحتراق .... والغريب يدك حصون التيه وينشد لحنه الخالد عبر صيحات
الأطفال .. " أرض للبيع فمن يشتري ؟ .." وبدأت قوافل الظلام تزحف على أركان
المدينة التائهة وقرص الشمس يهوي إلى نقطة اللاوجود تاركا وراءه كتلا
بشرية صدئة تتزاحم داخل بيوتها , وينسحب الغريب , أو المجنون إلى مكان ما
حتى يسترجع قواه ليوم جديد وكل أهل المدينة ناموا على سؤال واحد : إلى أين
يذهب في الليل ؟ وما هو الجديد عنده غدا ؟!
اليوم الرابع : وأيام أخرى ........
تشرق الشمس في أجمل صورها , وتمتد عبر الأزقة قوافل الراكضين وراء
فتاة تغزو الطرقات , وتتنفس نسمات الصباح الحاملة لذرات الأمل المنسي بين
ثنايا الطوابير الممتدة ....وجوه الجميع تسكنها تراتيل الضياع والانهيار
وتحذوها مواويل الحب والحياة ...البيوت المتواضعة تقذف بالكتل البشرية ...
الأقدام تركض في كل الإتجاهات ...مع لسعات حرارة الشمس يظهر الرجل وقد
استغنى عن طبله حاملا بين يديه مصحفا , يجلس القرفصاء في وسط الشارع الكبير
, يأخذ في تلاوة القرآن ...
امرأة تصيح : " مجنون يتلو القرآن "
قال شيخ هرم :
-لقد أصبح لغزا كبيرا لهذه المدينة التائهة ...
طوى الرجل المصحف ووقف مبحرا إلى عالم الانهيار ....نادى بأعلى صوته
:
" أرض ...,أطفال ..., امرأة كلهم للبيع فمن يشتري ؟ "
نغم جديد للحن الحياة البائسة المحترقة تحت شذرات العهر والخيانة ,
ويتكرر مشهد من يتلو القرآن ويتكرر النداء مرة أخرى ....
والمدينة مرتمية في بحر الذهول , من هذا الرجل الذي كسر حواجز الخوف
, وأدخلها في عهد فريد .... وقبل أن يعلن الظلام جولاته اليومية نادى منادي
في الشوارع لأهل المدينة , فهناك اجتماع لدراسة قضية الرجل الغريب .حينها
اجتمعت الكتل البشرية الصدئة , هاهي تتحد لأول مرة من أجل رجل غريب ومجنون
يجوب شوارع المدينة لكن أن تجتمع من أجل هذه البلدة الزاحفة إلى أعماق
الرذيلة والضياع فلا ....
وقف رجل قوي البنية وسط الجمع وقال : ماذا تقولون في هذا الرجل؟
قال الأول :
- يبعد عن المدينة .
قال الثاني :
- نبلغ الدرك .
قال الثالث :
- تجتمعون لطرد مجنون والطرقات تعيش الانهيار وفئران المدينة تأكل
من صحون أبنائها دعوه وشأنه .
ويهتف الجميع : دعوه ..
وتتوالى الأيام والرجل يجوب الشوارع منشدا كلمات الإحتراق والتي
تبعث حرارة الألم المسكون في الجسد الهزيل ... حتى أمطار الشتاء الغزيرة
ولسعات البرد القارس لم تثنه عن جولاته عبر أرجاء المدينة ولم تقض علي صوته
الجوهري ووهو ينادي : أرض ....أطفال ......امرأة للبيع فمن يشتري ؟!
ومع نسمات أيام الربيع الأولى يستيقظ السكان والشمس تطبع قبلاتها
الوردية على الشوارع , لكن صوت الغريب لم ينبعث بعد ... علامات الحيرة تعلو
الوجوه , أسئلة كثيرة في الأذهان .... الشمس في كبد السماء , صوت الغريب لم
ينطلق بعد , ماذا حدث له , أين هو ؟
قال أحدهم :
- قبض عليه يحاول إحراق المسجد ...
قال الآخر :
- بل قبض عليه وهو يحاول إحراق البلدية .
قال الثالث :
- بل قبض عليه ... وسكت ... وبقيت النفوس تطرح ألف سؤال وسؤال ...
بينما هو كان قد قرر توديع المدينة وسكانها نائمون وارتحل إلى مكان آخر لعل
الزمن غير هذا الزمن ...
وبقي السؤال : ما حقيقة هذا الرجل ؟!.
آخر الحكايا
عشتار هذه المرأة الرائعة جدا , تملك ذاكرة من فولاذ , حاول الجبناء
اغتيالها ووشوا بها إلى هارون الرشيد أنها سبب بلاء البلدة والديار ...
عشتار نجت من مكائد شهرزاد المتتالية , آخر الحكايا تقول أن المدينة التي
قالت عنها الخرافة أن السيد بوشارف ابن تسع وتسعين مزارة ,لو أكمل المائة
لكانت البقاع المقدسة ...
المدينة ... اهتزت ذات صبيحة على وقع أقدام ثلاثة فرسان لا يشق لهم
غبار, الأمطار – ساعتها – تهاطلت أسبوعا كاملا , وكأن الزمن غير جلدته
والفرح غادر محيا الجميع إلى غير رجعة , المدينة التي صنعت بريق الحياة
وقالت عنها الأسطورة أشياء كثيرة وخالدة , المدينة التي عشقتها عشتار حتى
النخاع ورفضت أن تدخل قصر هارون الرشيد . وتعيش بعيدا عن الأزقة الضيقة ,
والأحياء الشعبية , والنساء بملاءتهن السوداء ... الفرسان الثلاثة القادمون
إلى هذه المدينة لكل واحد منهم حكاية موجعة , الأول قرض الشعر لزمن طويل
هجا من خلاله أصدقاء السوء وبكى لأجل الأخلاق الصدئة , ودون بكلماته أروع
ما تجود به قريحة شاعر أبى أن يعيش في بلاط المراء ....
الشاعر الذي رفض دنانير هارون الرشيد وحسناوات قصره اللواتي ارتدين
أجمل ما يملكن يوم دخوله إلى القصر ... لكنه أبى أن يقطف من زهرات القصر
وفضل وردة الحي القصديري يتغنى بها ويرسم لها لوحات خالدة ... هذا هو
الشاعر الذي رفض أن يردد شعر غيره ...
أما الثاني فقالت عنه عشتار أنه رجل طويل عريض المنكبين , وصوته
رنان يسر السامعين جاءنا بعد أن مل الانتظار , انتظار امرأة بيضاء البشرة
رائعة الجمال , يحتسي معها شاي الحب والأمان , هذا روى عن مغامراته التي ما
فتئت تسبب له جراحات القلب ... رفض البنفسج وقال أنني راحل لعلي أجد امرأة
بلا قلب وحياة بلا ألم ...
أما الثالث فقد اختصر الحياة في حبة حلوى , عشق الوطن حتى الثمالة ,
كتب فيه أجمل نصوصه وأروع الكلمات , وذات صباح استيقظ على صهيل الجياد وهي
تطارده لأنه عشق الوطن أكثر من هارون الرشيد .
الثلاثة قرروا الرحيل إلى هذه المدينة الخرافة في يوم ماطر أفرغ
الشوارع الضيقة من حفاة الزمن , عشتار تستقبل القادمين بصدر رحب , وتسجل
زيارتهم الأسطورية بحبر صيني لترويها لجيل الأمل , عشتار بعد أن استمعت لهم
قالت للأول :
-ماذا لو كسرت هذا الصمت ورويت للرعاع ما حدث لك فالتاريخ كفيل
بكشف الزائفين ... تكلم ولا تصمت ...
-وقالت للثاني : ليست الحياة امرأة ... ستأتيك ذات يوم بلقيس وبين
يديها أجمل الصور, استعد إننا ننتظر ميلادك ....
-أما الثالث فقد قالت له : ماذا لو اختصرنا العالم في حبة كوجاك ,
ستجد الزمن غير هذا الزمن, الأيام كفيلة بمداواة الجراح ... الفرسان
الثلاثة عادوا من حيث أتوا ووقفت عشتار على هضبة المدينة تودعهم على أمل
لقاءات في وقت أصدر هارون الرشيد أمرا بإلقاء القبض على عشتار ومن معها
.... عشتار قالت آخر الأيام ......
كرنفال بوجه آخر
ويستمر الفرح في المدينة النائمة بين أحضان الليث , وتتدافع دقات
الطبول مدوية ومعربة في آن واحد عن فرحة الناس بعودة البرامكة ... اليوم
عرس آخر واحتفال آخر يطفئ النار المتأججة في قلوب الحيارى , ويغسل الأجساد
من دنس كلمات الهيام التي سكنتها ... تتواصل دقات الطبول وأشباه الرجال "
الذين سعدوا بموت الشاعر وعودة البرامكة " يتحلقون حول البراح , وهذا
الأخير ينادي بأعلى صوته " يا أيها الناس, أمير المؤمنين يدعوكم لحضور حفل
استقبال على شرف البرامكة فالأكل المشوي مباح , والرقص مباح , والسهر من
غروب الشمس إلى طلوعها كذلك مباح .....
وفي زاوية من زوايا المدينة تجلس عجوز شمطاء القرفصاء , وتتمتم
بكلمات غير مفهومة تنم عن كراهيتها للعائدين وتقذف شهرزاد بأعنف الكلمات
وأقبح العبارات ... شهرزاد التي تركت في تلك الليلة المشؤومة أختها دنيا
زاد تروي لشهريار قصة الملك والطاووس, ونام شهريار قبل منتصف الليل فكان
الفجر وبالا على الشاعر الذي أعدم في ساحة المدينة ....
والبرامكة عادوا اليوم معززين مكرمين بعد أن دارت عليهم الدوائر,
واتهموا بتحريض الشاعر ليقول شعرا يذم شهريار , عادوا بعد أن غسلوا أيديهم
من دم الشاعر ... وفي لحظات الفرح القادم والخوف المنسي يتهادى قرص الشمس
وئيدا معربا عن قرب بداية الكرنفال ... ومع هنيهات بروز الظلام تجتمع عائلة
البرامكة لتدرس قضية مهمة تخصها :
الاول : يجب مصاهرة أمير المؤمنين حتى لا نتعرض للطرد مرة أخرى .
الثاني : وتكون لنا يد قوية للتحكم في دواليب المملكة .
الثالث : وأن مثيلات شهرزاد ودنيا زاد يجب أن يبعدن عن القصر حتى
يخلو لنا الجو ...
وفي هذا الوقت بالذات الذي كانت فيه العائلة تتدارس أمورها وقف
الملك على باب قصره والحاشية صفان متوازيان أمامه وحسنوات القصر يتمالين
ويرقصن والإبتسامة تعلو محيا الجميع والفرح البادي على الوجوه يحفر انكسار
الزمن ...
وخارج القصر تتدافع الرعية لعلها تفوز بقطعة لحم مشوي بعد أن تجدر
فيها الجوع وفقدت طعم اللحم ...خلف أسوار لا مكان إلا للأجساد القوية
والعضلات المفتولة أما ذوي الأجسام الصدئة فإنها تنظر بعينيها وقلوبها
تتحسر ... ويقبل موكب البرامكة في أجمل صورة والفرح الغابر يعلو تجاعيد
الوجوه التي سكنها الخوف منذ أيام , يجلسون إلى يمين الملك في وقت تواصل
فيه الحسنوات الرقص و الغناء والرعية تتزاحم من أجل قطعة لحم مشوي ... وفي
لحظة منسية من عمر الزمن يتوقف كل شيء ويتبادل الجمع نظرات الريبة والشك
وتتوجه الأعين إلى وسط البهو, ماذا حدث ؟ ماذا سيحدث ؟ هذا السكون ترفرف
عليه حمائم السلام أم حمائم ...؟ وحين بلغت القلوب الحناجر وسكنت الروح
الحلقوم وقف إمام البرامكة وقال:
-أيها الملك, يا أمير المؤمنين إنه لشرف لنا أن ندعوك لمصاهرتنا .
وقال الثاني :
- المصاهرة تقضي على فعل الفتانين وتؤكد ثقتك فينا .
وقال الثالث :
- إن مثيلات شهرزاد ودنيا زاد يجب أن يبعدن حتى لا يقلقن راحتك ...
وانتظر الحاضرون بفارغ الصبر جواب الملك ووسوس لبعضهم أنه سيعاود
طردهم لكن الملك ظل صامتا طوال الليل في الوقت الذي أعطت فيه حسنوات القصر
كل ما يملكن من فنون الرقص والغناء ...
ومع أول خيوط الفجرو في اللحظة نفسها التي كانت فيها الأجساد
المهترئة تعود إلى بيوتها دون الفوز بقطعة لحم مشوي قال الملك أنه موافق
على طلب البرامكة وأنه يأمر بمواصلة الكرنفال لمدة أسبوع احتفالا بهذا
الاتفاق ... وهكذا ستعيش المدينة الهادئة أسبوعا للفرح وكرنفالا بوجه آخر,
كرنفال تتدفق فيه الرعية أمام قصر الملك لتفوز بفتات الموائد ....
وكرنفال يقضي على شهرزاد بوجوب الرحيل والتوقف عن الحكي ... وحتى
يوم آخر ستبقى الرعية تعيش كرنفالات العرس بلون السوا د والألم .
انتحار فوق أسوار
المدينة
المدينة ترتجف , تهتز شوارعها الواسعة والمنهمكة في استقراء الزمن
... الوجوه العابسة التي سكنها الخوف والضياع تصارع نسمات الأمل المفقود
بين جنبات الواقع ...
أخبار المدينة معلقة في كل الأمكنة ... أرصفة الشوارع لم تغتسل منذ
أمد بعيد ... رباه ماذا حدث ؟ وكيف حدث ؟ أنا العائد من أقاصي المدن
المنسية تستقبلني مدينتي بكل هذا الحزن الثائر الذي لن يقبل أي ذرة فرح ...
فج الأخيار المدينة الحالمة بكينونة الزمن والرابضة في سفح جبل بو شارف
سكنها الحزن وأصبحت ترتجف لهول الفاجعة ... شجرة الصفصاف الأنيقة التي
تعانق عنان السماء وتتجذر عبر أقبية التاريخ تنتكس خوفا أو ألما ,حتى عمي
عبد الله الذي كثيرا ما كان يستند إلى جذعها يقارع الماضي والحاضر في
عنفوان ويتحدى فلول المهزومين ....
عمي عبد الله غاب عن نور الزاوية وأصبح حديث الصغير قبل الكبير ,
لقد كان ينتظر بفارغ الصبر عودة ابنه الطبيب لينفس عنه كربا لم يعد يقدر
عليه وليس له ما يفعل غير التفكير فيه ... استلقيت تحت شجرة الصفصاف أجمع
شتات الذاكرة وأركب خيوط الحروف لأبني جملة مفيدة تجعلني أفهم ماذا حدث ؟
وكيف حدث ؟ وكانت بداية النهاية عند عمي عبد الله أن زوجته أصابها المرض ,
ولم يقدر الأطباء على تشخيصه , درجة حرارتها ترتفع , جسمها الضعيف يتصاغر
,طعام الأيام لا يجد طريقه الى بطنها , كل الأطباء أكدوا أنها هالكة لا
محالة , لكنه لا يتوانى في القول :" الله كبير " سيعود ابني وينقذ أمه من
الهلاك ...هي أيام وتنهض العجوز على عودة ابنها , لكن الغياب يطول
والعذاب يزداد والداء يستفحل والنهاية المحتومة تقترب رويدا رويدا ... وذات
صباح ماطر استيقظت المدينة على صياح الجيران , وبكاء النساء , ما هذا ؟ صخب
في بيت عمي عبد الله , الكل يهرول الى هناك , الطبيب لم يعد بعد , العجوز
لفظت أنفاسها الأخيرة , عيون السماء أمطرتها حزنا ...مسكين هذا الشيخ
الجليل , هذا الذي يزرع أزقة المدينة فرحا , الرجل الذي يحفظ تاريخ فج
الأخيار ويحدثك عن المهاجرين الذين بنوا المدن والصوامع ... الخطب جليل ,
عقارب الساعة توقفت كأنها ترفض ساعة الوداع ... الكل يحلق أمام الدار ,
يقدم العزاء , يتأبط فأسه ليكون من الذين يوارون المسكينة التراب , وكأنهم
يقولون له إنها أمنا جميعا ...وكانت الجنازة في عظمة الرجل الذي وهب نفسه
للمدينة , سار الموكب مترجلا يتقدمه الشيخ الجليل , فأمست الشوارع على حدث
غير عاد, واكتست الأزقة لون السواد, إنها الفجيعة ...
مرت الأيام الأولى على رحيل الفقيدة وابنها لم يعد بعد كأن رمال
الصحراء ابتلعته , الجميع ينتظر لعل وعسى ولكن ... وكل الحروف التي تخطر
على البال ذكرت ... ولم يكن أحد يدري أن الرجل ضيع عمله بسبب خطأ طبي وهو
يهيم في الأرض باحثا عن عمل آخر حتى لا يعود إلى أهله مهزوما مكسور الجناح
... وكأن القدر أراد أن يكون المخاض أكبر وأعمق والجرح أبلغ , ففي رحلة
أولى التقى أحد أبناء بلدته فروى له قصص المدينة وأخبارها . وسأله : متى
عدت ؟ فرد الرجل : اليوم فقط ...روى له أنه حضر وليمة زواج ابن خالته من
الآنسة .... وما إن سمع هذا الاسم حتى فقد وعيه وغاب عن الواقع , تزوجت
وتركته يكابد الضياع , تزوجت وتنكرت لكل العهود والمواثيق التي بينهما
...وفي لحظة اهتزت أركان الكون وتلاقت أمواج البحار مع أمواج المحيطات.
وطأت قدماه المدينة ولم يكن يعلم بما حدث ... في هنيهات توقفت سيرورة
الزمن , قلب عمي عبد الله الضعيف لم يحتمل , تجمدت الدموع في مقلتيه , سكنت
رعشات ربانية أطرافه , الوجوم يخيم على الدار. أين أمي ؟ قال الطبيب العائد
... أين أمي ؟ لا أحد يرد. دروب المدينة اهتزت شفقة لهذا القادم بعد أن فقد
أشياء كثيرة لا يجد أمه ... وتلاشت الأحلام , سقطت الأنفاس وتلاحمت العواطف
... كل شيئ ضاع في بضعة شهور , الحلم الكبير انهار , العاطفة الصادقة رحلت
... ذهول ... ذهول ... رجفة تتبعها رجفة ... عمي عبد الله المسكين لا يقوى
على الكلام , لم تنبس شفتاه بكلمة ... الطبيب غادر الدار , لا أحد يدري
إلى أين يتجه ؟ الكل صامت , مرت الدقائق وبعدها دقائق , فجأة ارتفعت
الأصوات , تقاضي الزمن الأسود .
تسربت إشاعة تقول : أن الطبيب انتحر فوق أسوار المدينة , " الإشاعة
تتأكد ..المسكين لم يقو على فراق والدته , هزمه الموت ,هزمته المرأة التي
أحب , هزمه القدر ... أسدل ستار المدينة " على فاجعة أخرى وغدت أخبار الموت
ترسم على جنبات الأوراق المتناثرة هناوهناك ...هذه حكاية مدينة فج الأخيار
التي غادرتها منذ أمد بعيد وعدت أجر أذيال الفرح فكانت الهزيمة مرسومة بوجع
عمي عبد الله الذي أثقلته حكايا المدينة وتمردت عليه الأقدار .
كرنفال المدينة المنسية
المكان: فج الأخيار
الزمن : زمن آخر من أزمنة التاريخ ...
أجراس المدينة تدق , أصوات المارة تخترق عنان السماء حركة المداحين
وبائعو الكلمات ...
ومن بعيد يظهر قصر مولانا القاضي يتلألأ في أبهى صورة , والزحام
يضرب أطنابه أمام بابه .. فاليوم يحاكم شاعر المدينة أمام الملأ .. تفتح
الأبواب تتدافع الأجساد والمناكب, يداس الضعيف و يتسابق الجميع لالتقاط
مكان ما في القاعة الفسيحة الأرجاء ...
تتعالى الأصوات و تتطاول الأعناق , فالشاعر المسكين يجري في قفص
الاتهام مطأطأ الرأس رث الثياب , وفي وسط القاعة يقف حاجب ضخم ويعلن بصوت
جوهري " محكمة " .. يفتح باب خلف المنصة ليظهر مولانا القاضي مرتديا
الحريرموشحا بالذهب ...
جلس علي كرسي وفير ونادى : المتهم الأول. وقبل أن يتقدم, تلتقط
الأذان هدير البحر يدك جدار الصمت ويعلن في عزة تحدي الزمن ... " كانت
المدينة هادئة تعيش على بركة مولانا هارون الرشيد إلى أن عصفت الرياح
الهوجاء المحملة بأزيز الخوف واليأس والألم .
فأغرقت المدينة في بحر الظلام , فقد مات مولانا هارون الرشيد وتحولت
أفراح المدينة إلى رقصات الانشطار. سقط الدرع الواقي وبرزت رواسب المرض
المتعفن وغدت مواكب لليأس الملفوف في عمق الخيانة والغدر ..( واليوم يحاكم
الشاعر الذي قيل عنه أنه أغتال هارون الرشيد بأشعاره ...
القاضي للمتهم :
- اسمك الكامل .
-عبد الله بن عبد الله .
-سنك ؟
-سني من سن الألم والخوف
-مهنتك ؟
-شاعر .
وهنا توقف القاضي ليقلب أوراقا كانت أمامه, وفي تلك اللحظات كانت
العواصف تعزف لحنها البنفسجي امتعاضا وانتكاسا لهذا الزمن .. وبعد هنيهات
الحلم الأسود يرفع القاضي رأسه, يتمعن في وجه المتهم ثم يقول له :
- أنت متهم بهجاء مولانا .
-لا..لا..لا.. سيدي ...
تتوقف عقارب الزمن لتجلس في لحظة انفعال تراكمات الماضي الولهان
باختراق فواصل التاريخ وتركب تراتيل الضياع السابحة مع أجرام الكون
الساطعة في سماء المدينة ... خفافيش الجبن تتحرك في لحظة مسروقة , تأوهات
قلوب الضعفاء الجاثمين أمام بوابة القصر الملكي في انتظار بزوغ شمس الحق ..
دقات طبول الفرح تنبعث من جنبات قصر مولانا أجساد العذارى تتمايل عل نغمات
العود والبندير ... مرض الطاعون نخر الرعية ، ورجل يقرض الشعر يقف في تلك
اللحظات أمام قاضي مولانا , وتعود نوارس الأمل إلى القصر حيث تتم المحاكمة
...
الشاهد الأول:
-سيدي القاضي لقد كتب على جدران المدينة أنها للبيع ...
الشاهد الثاني :
-وقال أن هارون الرشيد سبب مآسينا ...
الشاهد الثالث :
-وإن العدل غائب عن مدينتنا ...
تتسارع دقات القلوب لتحتضن ارتطامات جبل المدينة المنسية...وما
أتعس ورود الربيع حين ترتوي من ماء الألم ... وعلى حين غرة جاء صوت القاضي
يعلن هذا القرار:
-باسم مولانا ... نعلن حكمنا بإعدام المتهم في ساحة المدينة أمام كل
الشعراء حتى يكون عبرة لهم .... ودائما باسم مولانا نقرر :
1- يعلق رأس المتهم على مدخل المدينة ....
2- الاحتفال بكرنفال عظيم تتحدث عنه شهرزاد في حكايات ألف ليلة
وليلة ... ويتوارى القاضي عن الجميع ويركض بائعو الكلمات في كل الاتجاهات ,
أعلام الزينة والأبهة تعلق في زوايا الشوارع ، أغاني الفرح تملأ بيوت
الفلاحين والمعدومين فقط , سيقام كرنفال المدينة المنسية احتفلا بإعدام
شاعر التعساء بحضور مولانا ... الأحياء تعج بالمارة ، حسابات اليوم الآخر
في أذهان كل الناس ، زمن الفرح الغائب بين مخالب الجوع والعري يتهيأ
لاجتياح مساحة القلوب .. غدا سيكون زمن آخر , يضيع كرنفال السعادة بإعدام
شاعر التعساء أمام أعين مولانا فهل سيأتي هذا الغد ؟
|