عرس الشيطــــان
أمــواج عارمة من البشـــر قــد عُجّــــت بها ســاحة الحـــدود،
رجال،نساء وفتيـات في عمــر الزُّهور من أجل العُـبور إلــــى الضفّة
الأخرى لحضور عرس الشيطــان الذي أقرّته الرّعـــايـا ليلة العام الجديد
ولأنّني أفهم معنى"كُح" دخلت وجدة دون انتظار ! كسّرت قسطـا من العيـاء
واتجهت صــوب الناظور،أجتـــاز المنعرجات في حذر،وقد لاح لي الثلاثي
المقدس: الله،الوطن،الملك،فبكيت بحسرة على المآسي التي تمرّ بها البلاد !
ونزلت إفران في ساعة مُتأخّرة من نهار لآخر سنة لن تعود،كُلّ شيء هناك يعبق
بعطر العام الجـــديد !
ومهاء تلك الفتاة التي عهدتها تسهـر لفرح الغرباء..وقـــد توشّحت
هذه الليلــة بوشاح مغربي أصيــــل !..أســدلت ظفائرا مجنونة وقد عبّقتها
بشبق النسرين ! ناولتني شايــــا مغربيا ينــام فيه النعناع ! وجلست باسمة:
"كيف حال الغزوات؟"،نبتت أجنحتي.. تذكّرت رجـــالا دفعوا النجيع مقابل
كرامتي ! ارتجّت كالأرنــب البريّــــة فتضـــــــوّع عطر رقصت له أوردتي
!:
" يُعجبني فيك التحدّي والسّفر تـــحت الصّقيــــع،...قلت:"أنا يا
مهـــاء أعشق السفــر وأتخيّل البشر طيورا مُهاجرة وقــد زُرت أقطارا
أُخرى...أبحث عن لحظة نـــوم على النُوّار لأنّني كرهت الزحف على أشواك
القندول ! "،وحدّثتني مهاء عن محطّة من حياتها...عن دراستها وعن أشياء
أُخرى..وكان الحديث معها كالحديث مع السّنابل أشياء أُخرى...،وكان الحديث
معها كالحديث مع السّنابل حين تشرب المطر ! لولا ما عرّجت على مزنة الدّم
التي سافرت مـــن القنيطــرة لتبلّل أرض بونـة الطّاهــرة.. ونامت نومة
اللحود وهيّجت دموع الثكالى من جديد ! لم تكـن تعني وأمسكتنــي من
يــــدي.. أصعدتني وأعطتــني الغرفة التي أُريد ولـــون الشفق يطفوا علـى
خــدّ المهاء ! لويت هيكلي المتعب على سريري بجزمتي المُعفّرة بوحــل
البلـــد،لأنسى ولو لحظات غرفة هجرتها العصافير منذ دخلتها عابسة
النظر...تُــــــريد سحــق أحلام رجل أتتـــه بالإكراه ! إلى أن أيقظتـــني
حبّات المطر وهي تصفـــع بلور النافذة...تعزف لحنا جميلا زاد من نكهة
المساء وكنت منتشيا كأطيـــــــار الرّبيـــع... تمـــزّقـت أتعابي واندثرت
كسحابة تلاشت قطرات...قطرات لتُشاطر الناظور عُرسها بليلة العام
الجديد...تمنّيت حالمة تُشاطرني غبطتي...تملأني بأنفاسها..أنسى مُتسلّطة
تغــــرق في بحر التوابل...تغضب كلّما أتيتها مُحمّلا بالــــــورد والعطور
! وقبل أن ترميــنــي أمواجها العاتية انتشلتني مهاء تطلبني للنزول..تعطّرت
وغيّرت ملابسي ونزلت مـــع انقطاع الزخّات،لقد ســـافر المطر وحطّـــت
أسراب الجميلات ! ينصبن الشبابيــــك على آخــرها...كُلّ ساحــرة تُسطّر
ليلتها...تتمنّى وتتمنّـــــى... بلا حُــــــدود..دنوت لأصغوا إلى وشوشات
زادت عن حدّها ! لم أنوي شيئا غير أنّني أرغب في ســـــرق أُسطوانة لم
تتردّد على مسمعي ! قالت:"البارحة استرخيت على سريــري رأيـــــت جسدي في
المرآة... ! وارتجفت كحجلة مغمغ فرخها...
اللعنة على مايوهات قصر الحمراء... ! أُخرى: "بتّ مع صديقتي على
سرير وسبحنا في بحر الأرق...ناولتها مرهمي وسرحت في المسد على
ظهري...فارتعدت جوارحي...وتشعل أخرى سيجارة غير بريئة:"سهرت ليلة البارحة
على مشاهد شبه عارية بثتها إحدى فضائيات الغرب...هاجت هائجتي...توهّمته
نمرا بات على الطّوى...يرتمي على جسدي الناحل ! ...يُسمعني قرقعة عظامي
ولا يرأف بي ! ...،لا أدري كيف أحسست بعفّتي تُطعن في العمق ! ثارت زوبعتي
تحت سماء ماطر هجرته النجوم...،ورُحت أُمرّر نظري بين المُروج،فاستوقفتني
شاردة تنطوي بالمنار،عار أن تشغلها مجلّة في ليلة تهجرها ملائكة الرّحمان !
...همست لمهاء لأعرف سرّ المنار...وهي تُجالس وحدتها وتُذكّر بالحريم
فأنبأتني بأنّها غريبة وحديثة العهد بالمكان وأنّها غارقة في خجلها...وهرعت
دون إذن وأتت بها في الحال ! أجلستها إلى جانبي وغادرت في لمح البصر
!...طلبت لها شايا وفتحت نوافذ قلبي حدّثتها عن أسفاري...عن طموحاتي
وأحلامي دون سابق معرفة مُحاولا طرد خجلها فانشرحت: "أنا أُقدّس الرّجل
العفوي الذي يمقت الأقنعة...ولم أُخطّط لأحد في حياتي...أُحبّ الهزل في
كثير من الأُمور ! وروت لي عن حياتها في فاس وعن حُبّها للشعر..وكتابات
خناثة بنّونة...قصّتها مع الورد..حُبّها لوردة الجزائريّة لأنّها غنّت للحب
وللوطن...وعن الذي ابتلعته مكناس بحُجّة محاربة الفقر وطلّقها إلى حين
!...قرأت على مُحيّاك الطُمأنينة والأمل...أمنحك أوردتي وبقايا هذا الجمال
!،قُلت في نجواي سأتخلّص هذه الليلة من هموم ومآسي سنة ابتلعت فيها خنجرا
بدمّه جنب كتلة تخلوا من المشاعر !
وانتشلت بقايا الشاي سكبته في جوفي وانقشع السّديم وحلّقت عصافير
الرّغبة بيننا،فطلبت رحلة خارج الناظور،لم أُمانع وصفّقت جوانحي...لوت
بسرعة البرق إلى غرفتها..لبست فستانها الأُرجواني...تكحّلت وتعطّرت...سبقها
عطرها إلى السيّارة،أوهمتني وهي تضع يدها على خرم الباب ! جلست بجانبي
وانسابت السيّارة تُكسّر الظلام غير مُكترثين بالسّكارى أو المُتشرّدين !
سكبت قارورات العطر بأكملها ! وانقلبت إلى طفل مُشاغب ! تمنّيت لحظتها لو
يراني اللدات الذين استبدلوا حُرّياتهم وحتّى رجولتهم مقابل بقايا خبزة
مُخضّبة بالطباشير الحمراء أو شقّ كرسي مُتآكل يحجب ملامح الهيبة والوقار
أمام أُناس يرمونهم بالبلادة وينظرونهم بقزم ! وأن لا يرحل الليل حتّى لا
أعيش لوعة الفراق وطلبت الشاردة عدم اللارُجوع إلى مقاهي تحوّلت إلى مراقص
ليلة عرس الشيطان ! وعادت الغيمة وبدأت حبّاتها تصفع بلّور سيّارتي وحرارة
الشوفاج أعلنت بالرّبيع داخل سيّارة تتحدّى الوهاد...طلبت منّي فتح
النّوافذ لتدخل الزخّات وتُشاطرنا عرسنا بليلة من أغلى الليالي ! وتوقّفنا
عند محل "تازا" للروحيّات أعطيتها ثلاثين درهما وقد شعرت اللحظة أنّها ملكة
والباقيات جواري ! انحدرت تتخطّر أيقظت ربيع بائع شيّد القصور من عناقيد
العنب ! وعادت مُعبّأة بالمحظور...أحسست أنّها تُجاملني وتُبالغ في
خدمتي...لكن لا يهمّني إن كان تقديرا لي أم لسيّارتي ودراهمي ! وانعطف
اللعين بنا إلى أطراف الخطيئة ! ..تجرّعت قطرات عاتقة غيّرت صوتها...لا
معنى للباس داخل سيّارة تردع شرّ البرد ! ...لقد تأكدت أنّ العصير يُسلبني
القدرة على جسدي...وراحت أنامل مُزركشة تغازل الأزرار ! ...وسرى صوت خليفي
أحمد (والباقي معلوم يظهر في الرقدة ذهب أمخبّي نذكروا غير الظاهر)
وتلعثم لسان روّضته الرّغاوي...
الليلة ضيّعت مفاتيح جوهرتي...أتنازل عن اللآلئ قُربانا
لرضاك...خدّرتها الزخّات فخدّرتني بخمرها ولاحت الأنجم في السّماء بعد ليلة
ماطرة،فألثمتني الشّاردة وأطفأت جذوتي المُتأجّجة...ذابت سبائخ القحط
الجاثمة على صدري وجمّت أعشاب الرّبيع...انبطحت على بساطها وراحت بشراهة
تأكل فاكهتي وتُعربد على أطلال شاعر دمّرت أحلامه إمرأة قضت على
وسامته...زرعت على رأسه حقلا من الثلج يُرعب حُرّات بلده ! ...لقد وجدت
ضالّتي مع زهرة شبقيّة ظامئة سرقت منها العطر وحفيف الأفاعي ...وانتحلت شخص
أبي نوّاس عُنوة جنب جنيّة جاءت لتحضر عرس الشيطان..وانقلبت إلى أفعى
اتّخذت مقاعد سيّارتي جُحرا للفحيح ! ...ولم يكن هذا نقطة اللقاء وإنّما
عبثت بنا ليلة العام الجديد !...دثاري البالي يشهد على رعشتها وبُردتها
المُبلّلة...والدبابيس المتناثرة وهي كحيّة تتلوّى بوهاد الناظور حتّى
انبلاج فجر جديد حيث عُدنا إلى إفران مع صباح أنجبته ليلة أخفت الكثير من
خطايانا ! وقبل الرّحيل أعطتني زهورا مُحبّكة..ودّعتها وودّعت مهاء وعُدت
إلى وجدة برأس يعجّ بليلة هيّجت مهجتي...أحيتها كما تحيا البلابل حين يعبث
الرّبيع ! ...كُلّ شيء يسكنني عطرها..صوتها..ضحكتها وطيفها التي يملأ مرآة
سيّارتي،مكثت بوجدة ليالي مُنتشيا بذكرى نجمة أبت الأُفول في ليلة ماطرة
،وفي آخر يوم من عطلتي دخلت الحدود مُعبّئا بالأقمصة وملابس النّساء ولمّا
انحدرت وذبت في زحمة العائدين قابلتني بطلة قصّتي بمعطفها البنفسجي تضحك مع
أُخريات حدّ القهقهة..يُقشّرن الجوز في انتظار ختم الجوازات فجمّت هلوستي
وأحسست بالانهيار دنوت ببلادة: "أهلا بفاس" فردّت تتحدّى الحرج: "أنا من
بلعبّاس ولســتُ من فــــاس.. !
وهل هـي ذئبـــة
... ؟
حين تمزّق خيوط الرمضاء غلالة الصباح وتتناثر على مأواك القابع
بشجيرات النبق الشائكة، أمل جديد يدخل إلى قلبك يا شعبان،فتُماشي شويهاتك
الوديعة إلى بقايا سنابل بعثرتها أسراب الطيور،واستهوتك سخال تُمأمئ بين
الروابي ! فتناسلت أعشاب غبطتك ونسمات الصّبا ملأت رئتيك، فرحتَ تحوم
بالأحراش فعثرت على جروٍ صغير، دنوتَ منه في شبه الذهول ! جثوت على ركبتيك
وانقضضت عليه كالنسر يا شعبان،زويته وعُدْتَ إلى مغناك جاعلا منه قرّة عين
الصغار! غير عابئ بتلك اللعينة التي كانت تتربّص بشفير الوادي! وقد شامت
احتجانك لرضيعها الذي أمسى رهينا لأطفالك الذين يسحبونه على الأشواك ،
يعبثون بهيكله.. يحوّلونه إلى أشلاء عنوة في الذئاب ! والحصاة تنتف شعيراته
البنيّة بعدما أنبأ به الزمان ! وثريّا تضحك حدّ القهقهة بعين نجلاء وبرغبة
تنوي أن تًُعدّ لك فاكهة الليل يا شعبان! ليلتها اندثرت رائحة الشجو بين
أحضان قمر بليلة قمرية من أمتع الليالي !ومع سحرة الصباح منحتك ثريّا وردة
البكور وأخرجتَ القطيع في مرحٍ إلى المراعي، ولا تدري أنّها تنتظرك
مُكشّرةً على أنيابها الضّارية كثكلى سلبوها وحيدا يشاطرها وحشة الأغوار !
قفزت مذعورا! تأمّلتها فتربّد وجهك.. ارتعدت فرائسك تسرّبت سبائخ باردة إلى
ظهرك ، وقفت مرتاعا تبسمل وتعوّذ من الشيطان يا شعبان، فكّرت في استرجاعه
لكنّه بقايا رميم ينام تحت الهشيم! غمغمت: " يا للفجيعة هل هي ذئبة أم
جنيّة متنكّرة " وعدتَ بالشياه بعدما حالت بينك وبين المراعي ، وفي المساء
حوّلت الدرب عن منحناها، ..سُقْتَ القطيع إلى بقاع أخرى متّقيا شرّ ذئبة
تترصّدك بين المعاطف وحمدت الله على النجاة، أخرجت الناي تنوي أن تملأ تلك
المراعي القفراء أنغاما غجريّة تلحّد من خلالها أشباح الصّبح إلى حين،وبغتة
رأيتها تقطع المراعي المترامية واثبة بين الجنادل كالبلاء! فأقلعت عن الناي
وجلاً ! دنوتَ..ثُلْتَ وبالت من حولك الشياطين يا شعبان .. ارتعدتَ وكدتَ
أن تسقط مغشيّا، ورحت تُهشّ على الشياه مزمجراً لتقودها في لمح البصر،
انهارت أعصابك أصبحت أسير عالم الجنّ والغلان يا شعبان ! أحدثت خطاك دويّا
أيقظت طيور تبغض الجلاء وفاء لبرّ الأمان! كُنتَ تنوي أن لا تبوح ولكن
ستظلّ ملامحك غير كاتمة لكوابيس ذئبة خبّأها لك الزمان يا شعبان، هذه
الكلبة سلبت نور عينيك الذي لا ينضب وغيّرت مجرى حياتك على عقب، هرعت قبل
الخلود إلى النوم وارتميت على الفراش مرتعشا ترى أشباح سراحنة يحفّون بك !
يرغبون اختطافك من بين أحضان القمر الذي لم يخطر بباله أن يتكهّن سرّ
المعضلة، تعتع لسانك .. تدثّرت متوهّمــا أنّها ستتسلّل إلى مضجعك تتشمّم
رائحة صغيرها بيديك المخضّبة بدماه ! وتهذي كأنّ بك مسّ من الجنون، أشباحها
تطاردك حتى انبلاج الفجر ولم يأتي بأمل جديد ! وتنهض ثريّا ملبّية ثغاء
نعجتها الحلوب تأتيك بثغر النعمان وبيديها الجميلتين قدح الحليب ورغيف
التنّور الأسمر! ولكن حالتك المتردّية سدّت نوافذ شهيتك يا شعبان،تتأمّل
ثريّــا بعينين ذابلتين وتتذكّر عنفوان الشباب حين تيّمتك بجمال الوجه
الصّبوح وحيويّتها والخصلات الهاربة من الدّياجي !
يوم كانت تتخطّر برمّان نهديها ! وبين عشيّة صرت مرهق الأعصاب مضطرب
العقل، ووراء انهيارك ذئبة كُنت محل سخطهــا حوّلت فيك حبّ الطبيعة إلى
كراهية، تندسُّ في حنبلٍ متآكلٍ مستاء من بلاوته ! فتتراءى لك شجيرات الشيح
والمثنان هياكل ذئاب شرسة!.. نعاجك البريئة توهّمتها وحوشاً ضارية! ونسيتَ
أنّك كنت العاشق الولهان لحبّ المراعي وحبّ السارقة لوجه القمر والتي
أطربتك برنّات الخلخال وعزف الأساور! وقد كنتَ هاتفا بحبّها وبحبّ المروج
والتلال، ثريّـا اللحظة فقط أيقنت تدهور حالتك، فأخبرت مسعود على الفور
فحملك في الحال إلى الأساة اطمأنّوك : " لا بأس نوبات وستزول، أعطاك
خبيرهم حبوبــا ساعدتك على التدهور، عرّج بك إلى شيوخ التعاويذ، ختمت
بكلمات الله التامّات بعد الأقراص والحقن، اعتكفت الليالي تنفر للطعام وشرب
الشاي وذات ليلة قمريّة هادئة بدا وجهك مقمراً وتناثرت على محيّاك بتلات
ورديّة، وامتثلت للشفاء ! وأنت تتأمّل ثريّــا التي حطّت العصافير على
وجنتيها الحالمتين وبرعمت زهور الأمل لثغر قد غادرته الضّحكات، وتمتمت :"
أبشري أيّتها الشياه غدا إلى المراعي والظلّ الوارف بين الشجر، راحت
ثريّــا إلى الخصّ وقد غمرتها نشوة الفرح ولا تلبث أن عادت لتتفقّدك
وتطمئنُّ عليك، وأنت تسبح بلجّة حمراء! شلالات من النجيع... سُفُنٌ بحريّة
لكنّها من فولاذ .. ربّانتها ذئبة بمخالب دامية تريد سلب روح تحبّهــا
مقابل جروٍ تحبُّهُ ! وأنت يا شعبان قد أوهمت ثريّا لكنك الآن تحتضر
وثريّـــا ترتعش في عزّ الخريف ! تقدّمت منك .. لم تصدّق فوجدتكَ جثّة
هامدة ! صرخت بصوت مبحوح .. تبكّمت وأنبأت بكلّ أسى مسعود، فتحوّلت
الشجيرات بمناكبه إلى صريم ! دخل عليك مسعود .. تأمّلـــك يريد أن يأخذ
قبلة من جبين أخيه الذي توارى وراء وجه آخر غير الذي يعرفه مسعود! لم يفعل
مسعود إلا بالدّموع وثريّــــا شحّ عليها دمعها فارتمت على الأطفال
فاستيقظوا على النواح، نادى كبيرهم أبي لكنّك أصبحت غريبا عنهم وعن ثريّـا
التي منحتك الحبّ الكبير، وغُصّت الرّدهــة بالحرائــر والتــفّ النــاس
حيارى ! تقدّم شيخ طاعــن فتح أزرار بردتك وكشَفَ عن جسدك البارد جارحـة ..
جارحـة غسّلك وبخّك بعطر الرّياض، حُبّكت أفنان العرعر وأُعدّ نعشك بإتقان
يا شعبان ! وهؤلاء الذين يحبّونك أناخوا أتانهم وحملوا جثّتك الباردة بهدوء
على ظهرهـــا ، نخزوهـا فتحرّكت ..استحثّوهـا فسارت وئيدة يتبعهـا الموكب
الجنائزي بخشوع على الأحمرة ،مهللا ومكبّــراً :" الله أكبر إنّا لله وإنّ
لله راجعون سالكين بك دروبـا كنتَ تسلكهـا مع القطيع،وهم في حيرة تفتّت
الأكباد،أفكارهم محلّقــة مع الظّلام الغشيب .. وجوه مصفرّة وقلوب خاشعة
واجفة، مرّوا بسرحة كنت تجلس في ظلّها تعزف لحنــا حانيا للشياه التي
حُرمـت على حين غرّة من مراعيها الخصاب! وواصلوا السّير بك بوهاد تعرفهـا
شبرا شبراً ، مسعود يتأمّل جثتك المترجرجة على الأتان.. يتذكــر خصالك
الحميدة إلى أن نهّقت الدابّة التي تحمل جثّتك المسافرة يا شعبان! فإذا بها
ترسل عواءً يبعث الرّهبة في النفوس! وفي جوّ قاتم لاحت اللعينة كجنيّة
تلاحق الموكب على قدم وساق، تطوي البقاع القفراء! فتهامس الناس في ذعرٍ : "
ذئبـــة .. جنيّة على هيئة ذئبة كانت بحياته " وساد الصّمت مع وصولهم إلى
مثواك الجديد يا شعبان، وتلك اللعينة وعوعت بغضب ووثبت كالعفريت على
الأموات، ثمّ جثمت على سياج المقبرة، لسانهــا يتدلّى ككلبة مسعورة ! في
حالة من الهلع أزاحوا النقاب على وجهكَ الورسي.. أدخلوك الرّمس في حيطة،
فأقْعتْ تصرُّ أذنيهــا وعينيها عالقتين بجثّتك الهاربة المتحرّرة من شبحها
يا شعبان ! هالوا عليك الأتربة وأنت غير مكترث بعطر الثرى يا شعبان،
وتكالبت الأيادي تسُحُّ الماء على ثراك طلبــاً في الثواب! وعاد الموكب
بعيون ضحلة جُفّت دموعهــا المالحة وتلك الشيطانة لم تزل رابضة لا أدري ما
تريد يا شعبان .
الهروب إلى الموت...
قد سمّتك تلك الشمطاء بالطيّب منذ خروجك من الظلمات، ومدّدتك في
حجرها،بخّتك بعطر الجنّة وتمتمت:"طيّب إنشاء الله..كان اسمك يشبهك،ولم تكن
إلا كذلك،حبّ الورى ولد معك..وسرى في الوريد،تُربتك النديّة لم تنجب إلا
السنابل والزيتون،كائن من براءة أنت لذلك ترى العالم من حولك نوارس تحلّق
على شاطئ الأمان،ترى كل من على البسيطة زرا زير ترفرف على حقل من الثلج !
فصّلت ذات الآخر بما تعجّ به نفسك المطمئنّة،ترى ما تعكسه مرآة مخبرك فترى
أبناء جلدتك زُهّادا خاشعين ! غذّتك نسمات الطبيعة..أرضعتك الصّفاء،فلا
مكانة لأشواك الحقد في ثراك،مناخك لا يصلح إلا للعصافير والزّهور ! كنت
تمقت الانطواء لكنّك تُعرّج إلى الخلوة والتأمّل،أملك سحق الأفاعي ونسف
الشّوك من المعابر والممرّات لغربتك عن أترابك تراهم كُلّهم مودّة
ورحمة..يتعانقون كتعانق الطيور في الفضاء الرّحب ! راقتك المظاهر..فجمّت
أشواقك ! طرت إليهم تريد التعاون معهم على البرّ والتقوى..قررت النزول إلى
ديارهم فطرت ذات صباح مُشرق صوبهم،وكانت أشواقك تسبق خطواتك إليهم ! تمنّيت
لو يرجع الزّمن إلى الصّفر حتى تمحي ليالي الغربة والبعاد...ابتسامات
وأفراح جديدة تدخل عالمهم بقدومك ! دُقّت الطبول،رموك بالمسك وإكليل الجبل
! رحّبوا بك ترحيب الصّادقين،اغتبطت للقائهم اغتباطا منقطع النظير ! كفرت
بالزمن الذي حرمك ممن أحسست فيهم بطهارة القدّيس والملائكة،فتحت نوافذ قلبك
لتدخل العصافير..لكن سرعان ما تمزّقت أشواقك واندثرت كأشواق "مغرم الحشرات
المضيئة" التي لا تلبث أن تتلاشى بعد امتلاكها وهي مجرّد خنافس تخلو من
الضّياء ! لقد فوجئت بضحكاتهم المغلوطة وحُبّهم المغشوش،أُصبت
بالذهول..اندهشت في وجوههم القابعة خلف الوجوه !
أحسست بالإحباط والقلق وأضحت نار الشّوق المتأجّجة جسما من صقيع
يوجع صدرك ! والمحبّة التي كنت تكنّها لهم تلاشت كقطرات ندى على أعشاب
ذابلة ! لقد سأمت ابتساماتهم المُزيّفة،انطويت على نفسك هاربا إلى نجواك
خاطبتها: "إلهي هل أنا في حلم؟أم أنّني أُصبت بالانهيار؟"،تساؤلات جمّة
تحزّ في نفسك:
"أين النوارس التي كنت أراها؟،أين العصافير المحلقة بسماء مناكبهم؟
قد تكون الطيور التي لوّحت لي هي طيور مُزيّفة،لقد انفلق القمر وبانت
الأشياء على أصلها...كُلّ الذي أنزلني ما هو إلا أقنعة وقشور !
ابتساماتهم الغادرة قد أُعدّت بحبكة تمويها لأشواك الشر الكامنة في
رمالهم المتحرّكة،إلهي كيف يتحوّل النورس إلى غراب وتمسي العصافير ضفادعا
تقتل صمت الوادي؟إلهي أنت الذي خلقتني هكذا علّك أردت بي خيرا لكنّني
انهزمت وانهزامي بطعنات الظّهر،آه إنّ خنجر الندم بدأ يُؤلمني،إنّ تخاذلهم
وتراحمهم الكاذب هو ما عبّد دربي للنزول إليهم وأذق ثمار بُهتانهم...لقد
كنت هنيئا مغتبطا تنعشني نسمات الأُم الرّؤوم،وكنت جاهلا لقشورهم وأقنعتهم
ونفوسهم الأمّارة بالسّوء،إلهي لا أحد بينهم يشبهني..ما عساني أفعل،الموت
أهون من جحيمهم ! وفي ليلة شتويّة قارسة قرّرت الفرار،سريت تحت رذاذ الظلام
ومع انبلاج الفجر حطّيت جنب الدوحة الباسقة،لفتت انتباهك الأرجوحة المثبّتة
بين الأفنان ! سلبتها حبلها،ربطته بثبات على غصنها البكر، تسللت بين
اللقالق،جلست القرفصاء،لاحت لك اليرابيع البشريّة هناك على مدّ البصر !
جالت عيناك لأروقة السّماء فرأيت أجسامهم الغريبة تشكّلت من السُحب الراكضة
! بل هم بعيوبهم يزرعون الشّوك لتحمله الرّيح مع زخّات المطر ! لوحت إلى
البراري ولا يمن عليك بدمعة مالحة،لويت يدك على طرف الحبل الذي أعددته
لنفسك ! كنت بحاجة إلى البكاء فشحّت عليك دموعك فبكيت في صمت وذلك أخطر
البكاء ! أطلق طائر الموت صوتا على رأسك،مرّت بك لفحة الهجير في عزّ
الشّتاء،صوحت شفتيك وجلجل صوت من تحت الصّخر ! عقدت الحبل وأنت ترتجف
كالطائر الجريح ! أدخلت هامتك بالشراك الذي صنعته يمناك ! وسرقت من القرد
قفزته وودّعت في لمح البصر،تجمهر أهل القفر حول جُثتك المُتأرجحة خاشعين
جاهلين طيبتك المفرطة الـتــــي رسمت النهايـــة.
الحبقة التي تطيـــــر ...
هبّتْ نسمَاتُ الخَرِيفِ عَلَى شَمَارِيخِ الجِبَالِ،فتضَوّعَتْ
بَقَايَا سَنَابِلِ بَلَّلَهَا رُذَاذُ جَادَتْ بِهِ مُزْنَةٌ تُسيّرُهَا
الرّيَاحُ،رَحَلَتْ البَيَادِرُ تَارِكَةً قِيعَانَ تُعِجّ بِحُبُوبٍ
مُتَلأْلِئَةٍ تُشعُّ بِوَجْهِ الشَّمْسِ،عَصَافِيرٌ بِرِّيَةٌ أَنَاحَتْ
مِنْ حُقُولٍ كَالِحَةٍ بَعْدَمَا سَئِمَتْ أَعْشَابًا مُزْمِنَةً
تَنْخُرُهَا الدِّيدَانُ،تَهَاوَتْ خِلْسَةً لتُفتِّتَ سَنَابِلَ نَجَتْ
مِنْ حَوَافِرِ أَحْصِنَةِ تَرْتَدِي الفُولاَذَ!،وَلِجَمَالِ الَمْنْظَرِ
كَانَ وَليدُ يَجْثَمُ جَنْبَ العَرْزَلِ وَقَدْ رَاقَتْهُ لَوْحَةٌ
شَكّلَتْهَا يَدُ الخَرِيفِ! عَصَافِيرٌ صَغِيرَةٌ تَجْلِبُ لَهُ
الغِبْطَةَ وَهِيَ فِي عِرَاكٍ مَعَ حَبٍّ بَعْثَرَتِهُ الِمذَرّاتُ،وَفِي
كَنَفِ المَسَاءِ يَجِيءُ وَلِيدٌ صُحْبَةَ طِفْلٍ أَشْقَرَ لَعَنَتْهُ
المَدِينَةُ وَزَعِيقُ السَّيَّارَاتِ،حِينَ يُرِيدُ مُرَاشَقَتَهَا
بِالأَدْبَاشِ يَزْجُرُهُ وَلِيدُ حَتَى لاَ يُحَطِّمَ مَلاَمِحَ لَوْحَةٍ
تُدْخِلُ الأَمَلَ!
أَسْرَابُ الَعصَافِيرِ تُكَلِّلُ البَيَاضَ وَوَلِيدُ يَنْتَظِرُ
الَمسَاءَ لِيُطَالِعَهَا بِنَظْرَةٍ فَاحِصَةٍ،فَشَغَلَتْهُ عُصْفُورَةٌ
هَزِيلَةٌ! بَعْدَ أَنْ أَدْمَنَ النَّظَرَ إِلَيْهَا..تَعَلَّقَهَا رَغْمَ
سُلاَلَةِ{هُومُو}!،رَمَاهَا بِالشُّمُوخِ وَالكِبْرِيَاءِ،بَثّتْ
الحَيَاةَ فِي أَوْرِدَتِهِ بِمَشْيَتِهَا أَوْ بِزَقْزَقَتِهَا عِنْدَمَا
تَطِيرُ،وَلِيدٌ هَذَا الطِّفْلُ أَصْبَحَ شِبْهَ مُتيّمٍ وَلْهَانَ وَهُوَ
لاَ يَعْرِفُ لِلْحَيَاةِ مَعْنَى،سَكَنَتْهُ عَفَارِيتُ عُصْفُورَةٍ
نَحِيفَةٍ وَضَامِرَةٍ! سَمَّاهَا عِرْقَ الحَبَقِ أَوْ الحَبْقَةِ، هُو
َالآنَ مَأْسُورٌ وَمَسْحُورٌ ومَشْغُولٌ بِكُتْلَةٍ يُدَثِّرُهَا رِيشٌ
مُعَفَّرٌ بِالتُّرَابِ!،أَوْ أَنَّهَا سَاحرَةً غَرِيبَةً تَبَدّتْ فِي
هَيْأَةِ عُصْفُورَةٍ سَحِرَتِ الأَلْبَابَ ! أَوْ أَنَّهَا مَلِكَةُ
العَصَافِيرِ التِي قَرَأَهَا فِي قِصَصِ الأَطْفَالِ!،قَدْ اِشْتَهَاهَا
عَلَى حَدِّ تَعْبِيرِ الكِبَارِ،يُريدُ الهُرُوبَ إِلَى عُصْفُورَةٍ
رَشِيقَةٍ فِي خَرِيفِ الوَطَاوْيطِ وَالغِرْبَان النَّاعِقَةِ،الحَبْقَةُ
التِي اِفْتَتَنَتْهُ أَهْزَلُ عَصَافِيرِ اليَابِسَةِ لَكِنَّها
مُطَهَّمَةٌ وَفَاتِنَةٌ!،تَتَخَطَّرُ عَلَى عُصْفُورَاتِ قِيعٍ
مُكْتَنِـــزَاتٍ تَسـْـــرِقُ مِنْهُنَّ البَرِيقَ بِلاَ شَفَقَةٍ،تَأْتِي
مََعَ نَسَمَاتِ المَسَاءِ لِتُزَيِّنَ لَوْحَةً تَسْلُبُ عَقْلَ وَلِيدٍ!
إِلَى أَنْ تَسْحَبَ الجَوْنَاءُ ظَفَائِرَهَا مِنْ عَلَى البِطَاحِ
فَتَرْحَلُ الحَبْقَةُ إِلَى وَقْنَتِهَا وَلاَ مَنْ يُشَاطِرُهَا
عُزْلَتَهَا أَوْ مَخْدَعَهَا المَدْرُوزَ بِالقَشِّ وَالسَّحَالِبِ،وَأَنّهَا
لَمْ تَقْرَقْ وَلَمْ...وَلاَ مَنْ دَسَّ مِنْقَارَهُ بَينَ طَيَّاتِ
رِيشِهَا المُعَبَّقِ بِالأَرِيجِ...وَلِيدٌ هَيْمَانٌ بِهَا يُدْمِنُ
رُؤْيَتَهَا السَّاعَاتَ الطِّوَالَ لاَ يَكِلُّهَا وَلاَ يُبْعِدُهَا
عَنْهُ إِلاَ اللّيلُ البّهِيم... وَقَدْ أَضْمَرَتْ النِيَّةُ
للاِحْتِفَاظِ بِهَا فِي غُرْفَتِهِ المَسْقُوفَةِ بِالعَرْعَرِ لِكَي
يَتَمَتَّعَ بِمُحَيَّاهَا الجَمِيلِ!،لَقَدْ كَانَ يُقَابِلُهَا
مُهَمْهِمًا :
" تَقَدَّمِي يَا حُلْوَتِي تَقَدَّمِي مِنْ جَنَّتِي هَلْ
تَعْرِفِي؟ هَلْ تَعْرِفِي عُصْفُورَتِي؟"... يَلْبَدُ خَلْفَهَا يُرِيدُ
اِدْخَالَها إِلَى الدِّلْغَانِ تَمْشِي بِبُطْءٍ لَكِنَّهَا لاَ تَلْبُثُ
أَنْ تَتَوَارَى بَيْنَ عَرَاقِيبِ السَّمَاءِ!،تَارِكَةً وَلِيدًا
وَحِيدًا غَارِقًا فِي التَّفْكِيرِ... يَدْلِفُ إِلَى الهُرْبِي يَبْحَثُ
عَمَّا يُطْفِىءُ جَذْوَتَهُ المُتَأَجِّجَةَ فِي الضُّلُوعِ،فَوَقَعَتْ
عَيْنَاهُ عَلَى جِسْمِ غِرْبَالٍ أَهْوَجٍ مِنْ الحَلْفَاءِ تَآكَلَتْ
أَطْرَافَهُ! يَقْبَعُ بَينَ هَوادِجٍ أَزَليّةٍ وَبَقَايَا سُرُوجٍ
مُحَطَّمَةٍ،سَلَبَهُ ثُمَّ أَحْضَرَ خَيْطًا طَوِيلاً وَعُودًا مِنَ
البَرْوَاقِ وإِتّجَهَ فِي مَسَاءٍ جَمِيلٍ صَوْبَ القِّيعِ، جَثَا عَلَى
رُكبَتَيْهِ..كَسَحَ التّبْنَ الجَاثِمَ عَلَى البَطْحَةِ..هَالَ
التُّرَابَ وَبَعْثَرَ حَبَّاتَ القَّمْحِ اللاَّمِعَةِ ثُمّ ثَبَّتَ
العُودَ..حَبّكَهُ مِنْ جِهَةِ الأَرْضِ وَنَصَبَ الغِرْبَالَ عَلَى
شَكَّلِ خَيْمَةٍ غَجَرِيَّةٍ صَغِيرَةٍ وناتئةٍ تَأْذَنُ لِلنَّسِيمِ
وَتُغْرِي العَصَافِيرَ بِحَبِّهَا الشَّهِيِّ،يُمْسِكُ طَرَفَ الخَيْطِ
وَيَقْبَعُ بِالعَرَانِسِ،يَحْرُسُ هُبُوطَ الحَبْقَةِ عَلَى أَحَرٍّ مِنَ
الجَمْرِ،وَخِلْسَةً تَرَاءَتْ لَهُ مُنْصَاعَةً إِلَى عُشَّةِ الحَلْفَاءِ
غَيْرَ عَابِئَةٍ بِالشِّرَاكِ!،جَذَبَ وَلِيدٌ الخَيْطَ بِسُرْعَةِ
البَّرْقِ وَهُوَ يَنْوِي تَودِيعَ يَأْسِهِ إِلَى حِينٍ،وَاِنْطَلَقَ
كَالفَهْدِ دُونَ نَعْلَةٍ وَدُمُوعَ الفَرَحِ تُخَضِّلُ هَدْبَيْهِ!
وَنَشْوَةُ الظّفَرِ الغَامِرَةِ التِي اِعْتَرَتْهُ حَالَةٌ مِنَ
الاِرْتِيَاحِ.. بَلْطَحَ عَلَى الأَرْضِ وَأبْنَاءُ القَنَادِلِ تَنْهَشُ
ثَوْبَهُ!،وَفِي حَيْطَةٍ هَزَّ الغِرْبَالَ لِيَرَى الحَبْقَةَ فِي
حَالَةٍ ِمِنَ الذُّعْرِ!،اِنْتَشَلَهَا وَأَخَرَجَ خَيْطًا وَرَبَطَ
رِجْلَيْهَا دُونَ تَجْنِيحِهَا أَوْ مَعْطِهَا!،حَطَّهَا عَلَى كَوْمَةٍ
مُهَشَّمَةٍ،وَرَاحَ يُلَمْلِمُ أَشْيَاءَهُ فَطَارَتْ الحَبْقَةُ
وَذَابَتْ فِي الزُّرْقَةِ وَمَعَهَا خَيْطُهَا تَرُجُّهُ الرّيحُ
فَيُرْهِبُ الطُّيُورَ العَابِرَةَ!،عَادَ وَلِيدٌ إِلَى
كَآبَتِهِ!،أَحَسَّ قَلْبَهُ يَتَفَتَّتُ بَينَ ضِلْعَيْهِ،صَاحَ..زَعَقَ
..تَلاَشَى صَوْتُهُ فِي الفَضَاءِ!،نَأَتْ عَلَى مَرَابِعِهِ جَاشَتْ
نَفْسُهُ،وَلإِفْرَاطِهِ فِي حُبِّ العُصْفُورَةِ لَمْ يَفْلَحْ فِي
اِمْتِلاَكِهَا،رَحَلَتْ مَكْتُوفَةً تَارِكَةً أَثَرَهَا كَأَزْمَةٍ
كَبِيرَةٍ تَبْلُغُ ذُرْوَتَهَا!لَكِنْ سُرْعَانَ مَا تُفَجِّرُهَا يَدُ
الزَّمَنِ،فيُجْهِدُ وَلِيدٌ..يُبْدِعُ وَيَتَأَلَّقُ يَبْنِي حَيَاةً
أُخْرَى غَيرَ التِي سَلَفَتْ جَزَاءَ اِخْفَاقِهِ فِي اِمْتِلاكِ
عُصْفُورَةٍ غَيّرَتْ هَيَجَانَ الرِّيحِ فِي دَرْبِــهِ...
|