سامحونا
نحن الذين سكتنا دهرا ً ونطقنا كفرا ..
نحن الذين عبرنا الكلمات كي لا نقول شيئا..
كي لا نقف في الصفوف الأمامية خوفا ً من موتٍ يرافق خطانا..
سامحونا ..
اليوم نستيقظ على دمكم الغزير، في غزة و بيت حانون، و الناصرة و
جينين .. نستيقظ على وجهكم الذي نعرفه جيدا ً
نعرف كم خناه في مسيرتنا الطويلة نحو الوهم الذي أسميناه سلاما ً،
لنغض أبصارنا عندما تقصف الصواريخ قباب أحلامنا، وعندما يصنع الحكام منا
ناقة صالح على هذه الأرض التعيسة..سامحونا!
أيها الطالعون من الصمت ..
الصارخون بالشهادة ..الغاضبون.. الثائرون.. الصابرون/ الصابرون
كيف استطعتم زلزلة تاريخنا المكتظ بالغموض وبالصواعق ؟
كيف استبدلتم فراغاتنا باليقين؟
كيف استطعتم استدراجنا إلى هذا المدى المفتوح على دمكم
لنعرف حدود خياناتنا الطويلة، وما اقترفناه في حقكم من الذنوب، ومن
الآثام ؟
سامحونا!
الآن بإمكاننا الإعلان للقبيلة والعشيرة أن الجبناء و القتلة
يحكموننا باسم السلام المبجل، وأننا لن ننتمي إلى هذه الأرض كما ينتمون
إليها
لأن الدم وصل إلى الركبتين
ولأن المدن التي لا تناهضكم هي التي وقفت ضدكم مرتين
مرة لأجل دمكم ومرة لأجل تاريخيكم
سامحونا!
لن يكفي الدهر كله ليغسل خطايانا
لينسى الحاضر شكلنا البائس/ صمتنا البائس/ وجودنا البائس
لن تكفينا اللغة لنعتذر لكم واحدا ً واحدا ً يا أحبابنا
الموتى/الأحياء
لندفنكم كما يليق دفن الشهداء
فسامحونا!
سامحونا لنموت أقل فجيعة
لتــعبركم أحلامنا البريئة التي صدقت طوق الحمامة والنجاة واستسلمت
لغيلان الحضارة والتجارة و الدعارة!
سترقص نانسي عجرم في دبي لترفع من معنويات الشعوب الصامتة و الميتة.
ستغني نجوى كرم عن الأسمر الذي "أخطأته" القذيفة و ظل يحبها نكاية في الحرب
السادسة التي كادت ترمي إسرائيل في البحر، و كادت تقتل الزعماء العرب
بالجلطة!
.سامحونا
هـــا عجزنا عن العودة إلى النقطة الصفر عندما اكتشفنا أننا كنا
الصفر المكرر في معادلة أنتم أبطالها
يا جيل الصبر الطويل و الليل الطويل.. و الحزن الطويل..
سامحونا .. سامحونا .. سامحونا
أضيفت في
08/11/2006/
* خاص القصة السورية / المصدر الكاتبة
نخسر لأننا نحب!!!
يمكنني إعلامك بملء الفم أنني نجحت. لم أفشل حين توقعت مني ذلك. ولم
أسد ثغراتك المفتوحة للحزن والضجر والكلام. لكني نجحت. نجحت حين خسرتك. ألا
يستحق ذلك احتفاء جديرا بنا يا عزيزي؟ قل أي شيء يخرجك من ركام الوقت
الضائع بيني وبينك، ومن ثقوب الكلام الذي لم يعد يجدي في شيء. خسرتني حين
قررت أن تفوز بي، وخسرتك حين فكرت أنني قادرة على تعويضك في نفسك، وحين
فكرت أنني قابلة للفرح على حدود هذا الهباء الشاسع، والكارثة اليومية. تصور
كيف ستكون حياتنا لو لم أخسرك ولو فزت بي؟ كنا سنجلس كل مساء قبالة التلفاز
نعد القتلى في العراق، ونتحسس كيس الذرة أمامنا لنتسلى به ببلاهة يومية.
ستسألني على مضض: هل ثمة فيلم جميل للسهرة؟ وسأرد عليك بضجر: سنشاهد
"الاتجاه المعاكس" في قناة الجزيرة. وسنقضي العمر نلم أشلاء غيرنا في
التلفاز وندفنها في الرؤى. ربما تظن أن الحياة ستكون مختلفة عن هذا الوصف
التراجيدي الذي ذكرته الآن، كأن نعيش بعيدا عن ذاكرة المكان والتفاصيل
المزمنة التي كان أجدادنا يتشبثون بها عن رغبة أو عن إجبار، وعن خسارات لم
يكونوا يعترفون بها ليخلفوها لنا في تراكمات الراهن المحبط.
***
ها أنت تعود من الشغل متعبا ومتذمرا من رئيسك الذي سحب الترقية عنك
وأعطاها لشخص أقل كفاءة منك. ستتذمر طوال السهرة من الكلام الذي سيبدو لك
غبيا ومثيرا للأعصاب. وستغير في المحطات التي لن تهديك أكثر من جثث
العراقيين ودم الفلسطينيين على نخب قنوات آر تي وروتانا، التي سترقص طوال
العمر على أحزاننا الفقيرة وعلى وجهنا البائس والجاهز لتهمة الإرهاب
والتشدد والتطرف. أليس هذا ما قاله لك مديرك حين غضبت من قرار منعك من
الترقية؟ قال: إنه يشم فيك رائحة التطرف. قلتها لي وأنا أتلمس كيس الذرة
لأتسلى بها في سهرة الكلام اليومي. قلتها لي وأنت تنتظر تعليقا، وحين لم
أعلق، غضبت، وفضلت السكوت إلى أن ذهبنا للنوم خاليين من الفرح. وقد تكون
هذه صورة غير متلائمة مع فكرتك أيضا، فأنت تريد أن تفوز بي من حيث خسرت فيه
العالم، وأنا... ماذا أنا؟
***
فكرت في الخطاب الذي ألقاه الرئيس في نشرة الثامنة. قال مستعينا
بنبرته الشعبية "التاريخية": إن أمريكا لن تنجح في استعبادنا وإن محاولة
الغرب الدخول من جهة النساء مفاده أن النساء ضلع أعوج. ووجدتني أبتسم بيني
وبين نفسي. لعلها الحقيقة. ليس في اعوجاج الضلع النسوي، بل في أن الرئيس
متطرف أيضا، ولو كان للرئيس ابن لترك البلاد له بقانون دستوري يصوت عليه
الأموات أيضا. ألم نسمع بتصويت الموتى؟ حدث ذلك. فقد سمعت مرة أن أحد
المواطنين احتج مستغربا كيف يدرج اسم والده في قائمة الناخبين؟ والده الذي
مات منذ عشرة أعوام. فقال له أحد موظفي البلدية بسخرية: "وين المشكلة؟ أليس
للميت حق في هذا الوطن حتى بعد موته!" أنت من حكى لي هذه "النكتة"
الواقعية، يومها لم أجد سببا أضحك لأجله، فقد ضحكت أنت مستغربا هذه البلاد
التي ينتخب فيها الموتى لأجل سحب الحياة من الأحياء. وليكن، أليست هذه
خساراتنا الجماعية؟ فأن تخسر وطنا فقد خسرت كل شيء كما يقول" جون جوكتو"،
ومع ذلك، مثلك أتشبث بشيء يبدو لي أحيانا حتميا ومدهشا، وأحيانا أخرى يبدو
لي كقشة مناسبة للخروج من المأزق الجماعي. تصور الحياة في هذا البورتيريه
الكئيب.
***
فكرت أن أسمع منك كلمة لا أتوقعها. كأن تقول لي: هل خف صداعك قليلا؟
هل نخرج لنتمشى في طريق كنا نعرفه، ولم يعد يعرفنا؟ كنت سأرفع عيني إليك
دون أن أخفي دهشتي، أو ربما كنت سأضحك لأول مرة منذ ألف عام. مدهش أننا لم
نضحك منذ زمن بعيد يا عزيزي. حتى أمام النكات تنتابنا رغبة في البكاء فجأة.
لم نعد نضحك على الأشياء التي كانت قبل الآن تبدو لنا مسلية، وأحيانا
ممتعة، وقد أضحكت غيرنا أيضا. قبلا كنت أضحك حين أشاهد تشارلي شابلن. كنت
أضحك حين أنظر إلى وجه نجيب الريحاني، وإلى ملامح عادل إمام. كنت أضحك
بعفوية أصاب بالدهشة حين أتذكرها، ها نحن فقدنا الضحك. صرنا نعي جغرافيتنا
الجاهزة للتغيير. كنا أمة منهارة قبل اليوم، نقتات من فتات البترول، ونجلس
على أرصفة الفقر الشعبي الذي يسميه الساسة "شرف الوقوف" ليضحكوا به علينا،
لنبقى واقفين وعراة وجياعا ومعزولين ومهمشين، وليظلوا جالسين مكانهم
متباهين بكروشهم المنتفخة قبالة الأسئلة الساذجة في استثنائياتنا كمن يجلس
على أرض زلزالية تبعث الطمأنينة إلى النفس.
***
وها أنت تعود اليوم مكتئبا وصامتا أيضا. متأبطا جرائدك اليومية
الغارقة في الفظاعة. بكلمات مقتضبة تنهي الحوار بيننا. أجلس وحيدة لأتأمل
التلفاز. يشد انتباهي خبر عاجل في قناة الجزيرة. قصف إسرائيلي على مدن غزة.
عوائل بأسرها تحت الأنقاض. أغير القناة بسرعة إلى محطة أخرى تبث صور ما
خلفته سيارة ملغمة انفجرت في سوق شعبي ببغداد. أغير القناة من جديد. أتخيل
وجهك الكئيب الذي تعودت عليه. ستخرج من غرفتك بعد قليل كطفل مجروح لتجلس
إلى جانبي. وككل مرة أحترم فيها حزنك أنتظر أن تكلمني: عن مديرك الذي
يطاردك باستفزازاته وبتحرشاته الكلامية. ستقول: إنك ستبحث عن عمل آخر،
وستستقيل من تلك الشركة البائسة، وإن لا شيء يمكن احتماله حين تبدو الكرامة
مهددة. أعيد انتباهي إلى التلفاز. أهرب من جثث الأطفال وأتوقف عند محطة
فضائية تختصر كل مآسينا التاريخية في شعارها "الحياة غنوة" لأجدني أصغي
صامتة إلى المطربة وهي تردد "أطبطب وأدلع." أزيد من صوت التلفاز أكثر وأكثر
وأكثر، وأنا أفكر في الكلمة التي سأقولها بمجرد أن تخرج من الغرفة نحوي: "طز
فينا."
تساؤلات مواطن
متعهم بالإرهاب
قف !
يسرقه الزحام والكلام اليومي عن الحرب والخبز.. يترجّل أحلامه المتسارعة باتجاه الشتات، هو الذي سكن حكايات المدينة ، وأوهم العشاق أن
الحب سينتصر في نهاية الرواية .. هو .. الذي لم يعد شيئا منذ اكتشف أن الحب
لا يعيش طويلا.. وأن العشق قد يتعرض للحوادث ككل الناس، لأن البدايات فقدت
نكهتها وانهالت عليها اللعنة!!
قف !
يدفعه الحنين إلى الجنون .. يتسلق جدران المستحيلات كي يرى أمه ..
كي يحتضن حبيبة فارقها منذ عشرين عاما.. أيام كان قلبه غضا .. وعواطفه تقضم
تفاحة الشعر .. لكنه كبر .. شاخت عواطفه وتقاعد قلبه .. وانهار .. !
* * *
عشرون عاما ..
يجوب الشوارع متنكرا في زي شحاذ كي يراقب أهله .. يتسلّل إلى رؤاهم
في السّر..
وفي السّر يسرّب إليهم ما تبقى من نبض ما زال يشتعل في دمه ..
نسيته المدينة .. لكن البوليس لم ينسه.. منذ عشرين عاما يلصقون صورته على
الجدران، ليطالبوا به حيا أو ميتا .. لم يفهم أحد أن السنوات تغيّر من شكل
العشاق أيضا .. وأن الحب سرعان ما يصير عادة سيئة !
قف !
يلتفت يمينا وشمالا ..
وجهه الحزين يثير القرف والازدراء معا .. في عينيه تبرق الحقيقة
الوحيدة التي جاءت به إلى هنا .. كي يرى أمه للمرّة الأخيرة !
يتسلّل رويدا رويداً .. يتسلّق جدار الحديقة .. يتفادى نباح الكلاب
.. يتفادى الخطوات المقبلة ويدخل إلى الدار ..
داره التي لم تعد له .. صارت لإخوة تنكروا له، وأدانوه من أول
العمر..
يلمح والدته في وسط الدار ....
كأنه الموت الذي يجرّه دوما من تلابيبه كي يلتقي بمن يحب وبمن يكره
أيضا .. في البدء كان يجيء متخفيا كي يرمق أعداءه القدامى محمّلين نحو
مثواهم الأخير ..
لكن الموت مختلف هذه المرة.. ها هي أمه التي لم يرها كثيرا ،على مدى
عمر قضاه هاربا ومتسللا.. أمه التي لم تحتضنه كما كان يجب أن تحتضنه..
هي التي كانت تجلس القرفصاء في زمن الرّحيل إلى اللاشيء .. ترقب الباب علّه
يأتي .. من آخر العمر .. أو من أوله.. آه لو يأتي.. !
هــــــــا يكتشف أنه يتيم الآن.. وأن الحكاية لن تعنيه، والسجون،
والرفاق الذين تظاهروا أمس للمطالبة بالخبز والحرية وليهتفوا بحياته في زمن
المجاعة والديكتاتورية.. لا شيء صار يعنيه وقد صار وجها لوجه مع أمه التي
لن تسمع صوته ولا نحيبه ولا صياح الوجع فيه ..
قف !
ولا يتوقف .. يصيح الصوت ثانية .. ولا يأبه.. تدوي طلقات النار ..
شيء يصيب ظهره .. يترنح .. هل هو الموت ؟ يترنح أكثر ويسقط .. يشم رائحة
الأرض المبللة بمطر الربيع ويتذّكر أمه ثانية .. يتذكر إخوته الذين نسوا
شكله ،وحبيبة تزوجت من جندي طارده منذ عشرين عاما ..
تذكر أنه مطالب بالحياة كي يمشي نحو نهايته باسما .. لكن .. شيء
يخزه الآن .. أهو الموت حقا .. يقترب العساكر منه .. يشعر بحذاء ثقيل يحط
على رأسه، ويهزّه .. فلا يتحرك .. يسمع أصوات تتباهى بدمه .. تتصافح محتفلة
بالنهاية ، فيعرف بحاسته أن الجرائد ستكتب عنه غدا .. هو الذي لم يكن
محاربا ولا سياسيا .. كان مواطنا طالب بالخبز فطاردته الشرطة .. طالب
بالحرية فطارده العسكر .. طالب بالحياة فطارده "أمن الدولة".. هو الذي لن
يجد من يبكيه غير قبر يضاف إلى قبور يتكئ عليها الناس ليستريحوا من عبء
الأشياء الجاهزة سلفا لأجلهم ..
فالحكاية بدأت للتو ولن تنتهي !!!
|