مقاطع من رواية وطن
من زجاج
حصريا
لموقع القصة السورية
كيف نحب وطنا يكرهنا؟ سأله وصمت. ثم غارده... لم يغادره بمحض
إرادته، إنما غادره غضبا. غادره موتا. كان الموت رهيبا وهو يأتي محملا
بالكلمات الجاهزة. قال عنه زميله: لقد مات في اشتباكات حين كان يطارد جماعة
مسلحة.... ! كما لو كان يريد أن يثبت لنفسه شيئا ما، فقد كان يومها
سعيدا.. أجل.. لسبب غامض، كان سعيدا كمن اكتشف هباء الكون، ولا جدوى
التفاصيل التي يتقاتل الناس عليها، باسمها أو لأجلها... ودّع الجميع. ودّع
أمه وخطيبته، ولبس بذلته الرسمية الزرقاء وخرج. كانوا يعلمون بحاستهم الـ"سابعة"
أنه لن يعود. فقد كانت "خرجته" تلك مثيرة ومليئة بالإيماءات والأسئلة
المدفونة أبدا في قلب لن يتحرر من عقدة المدينة والمكان /الهباء.
ـ أجل يا صديقي. مات الرشيد. دفناه أمس مع زميلين له. مات مبتسما،
كمن يتحرر أخيرا من كذبة الوطن والناس... !
لشد ما تمنيت وقتها لو أستطيع البكاء. تمنيت لو أستطيع أن أمد ذراعي
إلى محدثي لأوقفه عن الكلام أو لأبكي قبالته.. لأبكي أمامه بلا خجل من
"عيب" البكاء... لكني عجزت عن الحركة. حين تساءلت بيني وبين نفسي فجأة: كيف
يمكن تفسير هذه العبثية المطلقة.. كيف يمكن تفسير هذا الهباء؟ لم يكن
الرشيد صديقي. كان صديق المكان.. وجها تعودت عليه مبتسما حتى في حالات
الشتات والخوف اليومي والجري خلف تلك الظلال الممتدة من وإلى الفراغ
والهاوية.. تلك الظلال الرهيبة التي يسميها الناس: إرهابيون..... أو
متطرفون، أو مسلحون أو متمردون أو معارضون.. هل تهم المسميات في عمق
العتمة؟ لا أحد كان يعرفهم.. لا أحد.. هم الحاضرون في سوداوية ظلالهم حين
يحاصرون المكان.. حين يطلقون النار على الضحية المنتقاة ثم يركضون.. فيركض
ـ الرشيد ـ خلفهم عن لاوعي أحيانا ! أجل ! عن لاوعي، وعن واجب لا يعرف كيف
يجادله أو يعصاه!. كنت ألتقيه في مقهى المكان.. يقترب نحوي مبتسما، ويمد
يده مصافحا بحرارة تجعلك تشعر بالحب نحوه. بحب غريب.. حب لا يجبرك على
مقاسمته ذاكرتك. حب لا علاقة له لا بالأسئلة ولا بالواجب ولا بالبذلة
الزرقاء ولا بالبذلة المدنية. حب بسيط وصادق و مدني. يجلس قبالتي وفي خضم
الكلام يقول لي الجملة ذاتها: "إن احتجت إلى شيء أو خدمة فاتصل بي.. !"
ولم أكن أدري نوع الشيء أو نوع الخدمة التي يحتاجها رجل مثلي من رجل
مثله؟ لكنه الوطن الذي يتعامل معك بلغة الـ"خدمات".. الوطن الذي يجردك من
صلاحيتك في سؤال تعي جيدا أنك لا تملك ردا عليه حين لا تجد من يخدمك حقا،
حين تتعطل حياتك بسبب مشكل إداري تافه وحين تتوقف أحلامك كلها بسبب مشكل
سياسي تديره نخبة من "الرجال المحترمين" الذين لا يخدمك أحد منهم إلا ليخدم
نفسه مليون مرة..! كان الرشيد يدرك ذلك تمام الإدراك.. الكل يدرك ذلك. لكن
النهاية قاتمة والحكاية تبدأ من المقبرة دائما!
كان "صديقنا المشترك" ينظر إلي بصمت وحزن، وكنت أنظر إلى نقطة
بعيدة، لا يراها غيري. لم أقل شيئا. لم أبك، ولم أهز رأسي. كنت صامتا
كجدارية فقدت ألوانها فجأة. ولأني رغبت في البكاء فقد تركني صديقي وغادر
دون أن يصافحني. كان ذاهبا ليبكي هو أيضا!(صفحة8)
- اسمعني يا بني.. لا يمكننا أن نكره الوطن بسبب كرهنا للرجال الذين
يحكمونه، الوطن أكبر من هذا بكثير!
و لا أرد. أتمنى لو أنبش في ذاكرته بحثا عن بعض التفاصيل التي تبدو
لي أحيانا جاهزة وفي أحيان أخرى مفبركة. فأسال: ما الفرق بين ذاكرة طازجة
وأخرى معطوبة؟
- لقد اغتالوا الرشيد!
قلتها له، فنظر إلي بحزن مدهش.. كأنه تذكر شيئا مؤلما. عاد إلى
سيجارته يدخنها بنهم. ثم قال بعد صمت دام دهرا:
- الرشيد ضحية أفكار خاطئة، ضحية واقع خاطئ. ضحية وضع خاطئ! مع ذلك
مات الرشيد دفاعا عن واجبه.. !
يا لهذا الواجب الذي لا ينتهي. كيف يمكن تصديق واجب أرعن هكذا؟
لماذا يموت الرشيد واجبا ولا يموت أولئك الذين يختبئون خلف شعب ينقرض يوميا
دفاعا عنهم. لماذا لا تصيب الرصاصة أولئك الذين يتاجرون بدم الناس في
المحافل الدولية؟ لماذا يموت الرشيد المليء بالأحلام والأمنيات. هو الذي
حلم بزوجة يحبها وتحبه وأطفال يراقبهم يكبرون و بيت تحيطه حديقة صغيرة يقضي
وقت شيخوخته المبكرة في الاعتناء بها. كيف يمكن للواجب أن يكون بلا قلب إلى
هذا الحد؟
- لقد عرف الرشيد من البداية ما ينتظره. إنه ضابط شرطة يعرف أنه
يعيش على كف عفريت في هذه الظروف يا بني، لو خاف لترك عمله ولغادر البلاد
كما فعل الآلاف غيره.. لو عاد الرشيد إلى الحياة لعاد إلى عمله في اليوم
التالي.. لعاد لمطاردة القتلة والمجرمين بنفس القناعة وبنفس اليقين.. لو
يعود ثانية، فسيلبس بذلته الزرقاء ويتأبط رشاشه للذهاب إلى شغله!
نظرت إلى"عمي العربي" ودفعت ثمن قهوته وهممت بالمغادرة قبل أن يشدني
من ذراعي فجأة.. نظر إلي بعمق كأنه يعزيني أو كأنه يعزي نفسه. ربما لأنه
يدري أن الرشيد لم يكن صديقي تماما، ولم يكن صديقه، كان واحدا نشترك في
معرفته.. واحدا نعرف أنه لن يأتي ثانية إلى هنا، وأننا لن نحكي عنه إلا
بعبارة "كان" ! تمنيت لو كانت لي قدرة على قول كلمة واحدة مفيدة لذلك
الرجل الذي ظل ممسكا بذراعي منتظرا مني أن أقول شيئا ليقول ألف شيء..
- لن يفيدنا الحزن يا بني.. لا شيء يعوض خسارتنا، و لا شيء يعوض
خساراتكم أيها اليتامى في وطن سرق اللصوص والقتلة قلبه !
نظرت إليه، خيـّل إليّ أنه سيبكي فجأة. ولكنه راح يتناول سيجارة
أخرى ويشعلها ويمتص دخانها بصمت قريب من النواح.(صفحة 24)
كنت أفكر في الواقع الممتد على جراحنا اليومية.. نظرت إلى شكل
الحارة التي بدت لي بائسة جدا.. إلى وجوه الناس المغلفة بالحزن والفجيعة
والخوف.. حتى أولئك الذين كانوا يبدون أسعد من الآخرين كانوا يضحكون على
مأساتهم الشخصية في المقاهي المكتظة بالكلام اليومي والهموم اليومية
والوجوه التي قد تغيب في اليوم التالي بسبب الاغتيال.. كانوا يضحكون على
فجيعتهم وعلى فقرهم وهمومهم بالنكت التي يخترعونها ناسيين أن "الغيلان"
يضحون على النكت وعليهم معا ! كنت أتساءل طوال الطريق عن هدف القتل في شارع
بائس كهذا الشارع؟ حكى لي النذير عما سمعه من الناس هنا.. الناس الذين
كانوا يتناوبون على حراسة أنفسهم وأملاكهم ليلا.. حراسة بيوتهم وأهاليهم..
يجتمعون على أسطح البيوت وفي مداخل الأحياء ومخارجها. يجتمعون فرادى
وجماعات مسلحين بكل ما تقع عليه أيديهم من حديد وسواطير وعصيات خشبية.. كان
الناس يصنعون الأسلحة التي يدافعون بها عن أنفسهم وعن أهاليهم.. تحولت
الحدادة إلى مصنع لصنع الأسلحة اليدوية كالسيوف والخناجر التي لا يعرفون
استعمالها. بينما تحمل النساء مهارز أو أي شيء يقرعن عليه لتنبيه الأخريات،
وهكذا يتحول الحي كله إلى قرع ودق متوازي الصوت، فيعرف الجميع أن
الإرهابيين مقبلون وأن الدفاع عن النفس حتمية لا مفر منها كي لا يتحول الحي
إلى خبر مجزرة في جريدة الغد ! كنت أصغي إليه وأفكر في كل الكلام الذي
سمعته عن المجزرة.. عن الوطن الذي لا يحمي أبناءه، وعن الدولة الغائبة في
حضور الموت والعنف معا... تماما كما قال لي ذلك الشيخ العجوز باكيا أمام
جثث أبنائه وأحفاده.. قال يداري دموعه عني: وينها الدولة؟ وين كانت الدولة
لما ارتكب هؤلاء هذه الجريمة؟ ظل يردد هذه الكلمات قبل أن ينفجر باكيا. أين
هي الدولة؟ الدولة التي تكذّب أخبار المجازر في كل مكان. تناشد المستثمرين
كي لا يصدقوا أكاذيب الشعب البائس الذي يموت يوميا، وكي لا يصدقوا الصور
التي تبثها وسائل الإعلام الدولية عن المجزرة الجزائرية في زمن العار
اليومي. كانت الدولة تتهم الإعلام بأنه من يسوق للعنف، وأن المجازر أكاذيب
تلفقها المعارضة لهز صورة "الدولة" في المجتمع الدولي ! بينما الناس يموتون
كل يوم اغتيالا.
(صفحة 51).
لأول مرة أجدني أجهز نفسي للذهاب إلى بيت صار يعنيني الذهاب إليه.
شعرت أن إصراري على التأنق سوف يثير غضب النذير، ولكنه كان يبتسم بسخرية لا
تخلو من عزاء.. سألني فجأة: هل يمكن ارتداء ربطة عنق على شرف الرصاصة
المنتظرة؟ وضحكت بدلا عنه. كنت أعدّل من ربطة عنقي، وأنظر إلى شكلي في
عينيه الساخرتين.. كنت لسبب غامض أجهز نفسي، ليس لمرافقته إلى بيته، بل
للذهاب إليها.. كان يكفي أن آتي إلى هنا، وأجلس وأحكي وأسمع.. أحيانا حين
نصل إلى الشارع يهرع نحوه بعض الذين يعرفهم. يصافحونه بحرارة. ويسألونه عن
أحواله بصدق.. وكان النذير يرد بسعادة مدهشة. بعضهم يطلب منه أن يكتب عن
واقع الحي والناس. فيبتسم ولا يرد. بعضهم يعطيه رسائل لنشرها في الجريدة.
رسائل مليئة بالمشاكل والشكاوى. أذكر ذات مرة، قابلنا شيخ طاعن في السن
عانق النذير طويلا... كنت واقفا أصغي إلى الشيخ وهو يحكي له عن حفيده الذي
هرب نحو إسبانيا. كنت أعي أن عبارة "هرب" تعني أنه ذهب بلا أوراق ولا هوية
حقيقية.. استطاع أن يحجز تذكرة سفر نحو اسبانيا لعشرة أيام لم يرجع بعدها.
ظل يرسل إلى أمه قائلا أنه لن يعود، وأنه وجد عملا في مطعم وأن صاحب المطعم
يستغل وجوده غير الشرعي على التراب الاسبانية ليستعبده عشرات الساعات
يوميا... قال لأمه في الهاتف أنه يغسل أواني المطعم ويمسح وينظف المكان
ويفعل كل شيء مقابل أن يتركه صاحب المطعم ينام ويأكل.. وأنه أحيانا يعطيه
راتبا مهينا لا يجرؤ مجرد الجدال حوله خوفا من أن يشكوه إلى الشرطة التي
سترسله في أول باخرة عائدة إلى الجزائر.. الخوف من الرجوع جعله يبقى.. جعله
يقبل أن يكون عبدا في وطن لا يشعر فيه بالإهانة تماما لأنه ليس وطنه في
النهاية، ولأن وطنه الأم.. وطنه الحقيقي أهانه من قبل !
(صفحة 59).
كلما اعتقدت أنني نجحت في النسيان يحضرني وجه الرشيد ليسألني: من
أنت حقا يا صاحبي؟ من أنا حقا يا الرشيد ؟ وكم من الأعوام عشت لأبدو هرما من
الداخل إلى هذا الحد؟ عشت أبحث عني في تفاصيل مدينة اكتشفت أنها لا تعنيني
تماما. ثلاثون عاما من الإحباط والفرح الكاذب والانكسار اليومي قبالة تاريخ لا
يقول الحقيقة. ففي الثلاثين من العمر يصير العمر أشبه بكذبة أبريل. تساءلت كم
من العمر يجب أن نستغرقه لنموت تلك الميتة الأخيرة؟ كم من العمر علينا أن نجتره
لنصل إلى يقين واحد يحمينا من رُهاب الوقت؟ في العشرين يشعر المرء بالعجز التام
عن الفرح بعشرينيته فلا يعرف ماذا يفعل بها، وفي الثلاثين يصير الخوف واقعا
ممتدا من القلب إلى القلب. في الأربعين يتحول الخوف إلى حادث مرور يصيب الفؤاد
كل يوم.. في الخمسين يتحول الأمر إلى رغبة عارمة في الموت. كيفما كان شكل
الموت! هل ثمة إنسان سعيد في هذه البلاد سوى فاقدي القلب والذاكرة؟ حتى
المجانين لم تعد لهم رغبة التظاهر بالسعادة بجنونهم. اتضح أن عدد المجانين
يتضاعف يوميا بحيث لم يعد ممكنا حبس مجنون واحد في مستشفى الأمراض العقلية، في
الوقت الذي يوجد فيه أكثر من ثلاثين مليون جزائري مشروع جنون واختلال عقلي. لن
تتسع المستشفيات لهم لهذا تقرر تركهم لجنونهم الذي ينعكس على وجوههم بحيث
يتحولون إلى مجرد "غاشي" لا أكثر ولا أقل.. فما جدوانا في هذا العالم إذن؟ لم
يكن "الرشيد" قد تجاوز الثلاثين حين قتلوه. كان يقنع نفسه أنه سعيد لمجرد أنه
يقوم بواجبه. بمجرد أنه في المساء يلتقي بأهله ويلتقي بأصدقائه في مقهى الحي
متسللا كسارق. هو الذي في العام الأخير لم يعد يرتدي بذلته الرسمية في الأماكن
العامة. تحول إلى شخص لا رتبة له. مجرد شخص ينزل إلى عمله مسالما ويعود آخر
الليل إلى أمه وإلى حبيبة كان يلتقي بها في صالة الشاي ليحكي لها عن أشياء لم
يكن يقولها لغيرها. كان الحب لعنة أخرى طاردته حتى وهو يتحول من عاشق إلى مشروع
ضحية... (صفحة 70)
«
De l'amour à
la mort il n'y avait qu'un pas, et l'amour l'a franchi qui peut dire
pourquoi ?
Qui peut dire comment il a mit une croix, sur nos rêves d'amant
d'écrêtant l'amour hors la loi ! »
كنت أصغي إلى هذه الأغنية وأنا أنظر إلى الناس من زجاج الكافتيريا.
قبالتي يبدو الوطن هلاميا.. والناس يركضون في كل اتجاه، بينما الأمطار تأكل
الفضاء في صخب مثير.. للمطر وجه الأمنيات المستحيلة.. له صوت العشق في لحظة
صمت.. للمطر طقوس الفؤاد حين ينز قبالة وحدته وعزلته الأبدية.. قبالة المطر
يمكنني أن أصمت، وأتكلم في الوقت نفسه.. قبالة المطر يمكنني البكاء فجأة،
أو الضحك بهستيريا من دون أن أضطر إلى تبرير جنون اللحظة التي تركبني.. في
مكان كهذا، وأمام وحدتي القابعة على الكرسي بجواري، وسيجارة أدخنها بنهم،
يمكنني تأمل الأشياء بابتسامة لا تخلو من سخرية ومرارة.. كأن أضحك على
جزأرة الوقت كله.. كأن أبكي على هباء الكون كله.. من قبل، كنت أظن أن القلب
هو الخاسر الوحيد في الحكاية.. لأكتشف أن الخاسر الأكبر هو الكون الذي يصير
ضيقا وتافها وصغيرا.. لم يعد للكون متسعا لأجل أن نحمل ما تبقى من الكلمات،
ولم تعد اللغة قادرة على استيعاب ما نريد قوله.. كل شيء جاهز للنهاية.. حتى
ما يولد الآن يولد ميتا.. الأمل والفرح الوهمي والوطن الذي يموت فينا كثيرا
كلما ظننا أننا ننقذه إلى غد آخر..
(صفحة 73)
ركضت في الممر الداخلي.. ورأيتها. كانت واقفة. كانت شاحبة.. تجنبت
الأسئلة الجاهزة. لم أستطع أن أبدو جاهلا بما جرى.. كنت أعرف كل ما جرى قبل
أن يجري.. تجنبت أن أسأل: هل مات؟ هل مات تلك الميتة الواقفة التي كان يكتب
عنها في افتتاحية الجريدة كل صباح؟ الميتة الواقفة التي تستهوي الشهداء ولا
تستهوي الجبناء الذين يضربون في الظهر ويهربون.. تجنبت أن أقول شيئا قد
يبدو غريبا.. ولهذا وجدتني واقفا أمامها، مدهوشا حد الفجيعة. كانت واقفة
بلباسها الطبي، بينما والدتها جالسة على مقعد جاهز للبكاء.. وحين نطقتُ،
وجدت الجميع يتكلم في وقت واحد. الناس الذين حضروا الجريمة، وأصدقاء النذير
من الحي الذين كانوا يعرفون تلك النهاية المأساوية حتى قبل وقوعها. لم يكن
هنالك شيء اسمه مجرم فردي.. في مثل هذا الاغتيال كانت الشرطة تضع الجريمة
في خانة "الإرهاب". بعبارة مات برصاص إرهابي.. ذلك الرصاص التي قتل آلاف
الأشخاص، في عرس الجريمة التي تكررت وستتكرر فيكتب الضابط المكلف بالتحقيق
بالقلم الأحمر عبارته الشهيرة "شهيد الواجب الوطني".. تماما كما كتب في
تقريره الخاص بالرشيد، وبآلاف الشباب الذين قتلوا بالطريقة نفسها و من قبل
المجرم نفسه: الإرهابي ! إرهابي يتكرر، ويتكرر.. إرهابي من نفس الأم من
آباء مختلفين ! وجدتني أنظر إلى تلك الوجوه الواقفة، والمنتظرة. فهمت أن
النذير في غرفة العمليات وأن إصابته بليغة. كنت أبحلق فيها بعينين حزينتين.
تمنيت لو كنت قادرا على سؤالها مباشرة من دون أن يتكلم أحد نيابة عنها. كنت
أشعر أن الرصاصة التي أصابت النذير أخطأتني بشكل ما.. تقدمت من تلك الوالدة
المفجوعة. كانت ترتعش حين أمسكت بيدها بين يدي.. ودون أن أضيف شيئا راحت
تبكي. فكرت بيني وبين نفسي طويلا. هل يجوز البكاء على رجل مثله؟ هو الذي
كان يرفض أن يبكي على شهيد استشهد لأجل ما يراه قضية مصيرية. قضية بقاء أو
"لا بقاء".. قضية أن تكون أو لا تكون.. كان يرفض البكاء على الشهداء الذين
تأتي الأخبار عن مقتلهم في كمين أو في جريمة جاهزة. أجل.. ! كان يعتبر
الشهادة نضالا في واقع المافيا اليومية والمنظمة. واقع لاكامورا في أقذر
صورها. ألم يكن الوطن لاكامورا من نوع خاص؟ في الماضي كان الشهداء يعزون
أنفسهم بحلم الجماعة. كانوا يقولون لبعضهم: عانينا وتشتتنا.. تنازلنا عن
أحلامنا الشخصية لأجل أحلامنا الجماعية.. اغتربنا وابتعدنا عن أهالينا..
عشنا عزلة الروح، ووحدة الوجع داخل الحرب. عشنا جوعنا الأول والحميميّ،
ولكننا كنا معا ! كانت عبارة "كنا معا" تعني عزاء استثنائيا صادقا.. تعني
أن الشهادة ليست نهاية، بل بداية لقناعات يحملها الشهيد إلى عالمه الآخر...
اليوم، عزاء الكلمة لم تعد تؤدي الدور نفسه، وشهداء اليوم يشعرون أنهم
لوحدهم، وأنهم عاشوا جوعهم وحزنهم وخوفهم لوحدهم. يشعرون أن موتهم عزلة في
وطن يضاعف صوت الموسيقى الماجنة كي يعلن للعالم أن الجزائر بخير قادرة على
إحياء الحفلات والرقص على ما تبقى من جراحها الملوثة. فكيف نعزي شهيدا يموت
اليوم؟ كيف يمكن أن نقف قبالة أمه؟ ماذا يمكن قوله لها، هي التي صدقت الوطن
أيضا، ودافعت عنه بإصرارها على البقاء وسط الخوف اليومي. لم ترحل بعيدا،
ولم تنصب خيمتها في بلاد أخرى، لأنها آمنت أن الوطن هو الواجب الذي لا يمكن
التعامل معه إلا بإصرار وقبول. ها هي منهارة على كرسي تنتظر أن يأتي الخبر
الذي توقعته في قرارة نفسها منذ بداية العنف، ومنذ صار القتل مناهضا للحياة
! أليس النذير شهيدا؟ هو الذي كان يكره الألقاب. كان يكره أن يقال عنه
"كــان" بصيغة الفعل الناقص الذي لا يرضي غروره.. هو الرجل الذي مشى أوجاع
الوطن بطريقته الخاصة.. هو الذي قال إن الزواج لا يليق لمثله لأنه لا
يستطيع أن يحلم بامرأة يتركها أرملة، وأطفال يخلفهم يتامى
(صفحة 89).
كانت الأشياء تبدو لي هلامية، غير واضحة، وقد صار الموت ها هنا. من
قبل فقدت أشخاصا أحببتهم. فقدت الذين كانت تجمعني بهم صلة الدم. فقدت وطنا
لم أعشه كما كان يجب على إنسان مثلي أن يعيشه، وفقدت استقراري وأمني.. فقدت
أحلامي وفقدت حاجتي إلى الحلم أصلا. فقدت ابتسامتي، وشعوري بالأهمية إزاء
نفسي. فقدت كرامتي. فقدت كبريائي. فقدت كل شيء تقريبا، وها الموت يعريني
ثانية أمامك وأمام نفسي. اكتشفت فجأة أنني لست شيئا أمامك وأنك تنظرين إلي
كأنك ترينني لأول مرة. و... هالني أن أرى في عينيك غربة أخرى.. هالني أن
أشعر فجأة أنك لا تعرفينني.. تمنيت أن ترتمي في حضني، وأن أضمك بقوة وأبكي
عنك وعني.. لكنك حين نظرت إلي، رأيت في عينيك إدانة جرحتني. تلك الإدانة
التي ذكرتني بإداناتي السابقة. ذكرتني برفاقي القدامى الذين كنت أنزل معهم
إلى الوادي وأعود دونهم أدس وجهي في حضن عمتي لأصغي إلى حكاية الجنية وأنام
نوما عميقا كمن لا ذنب له! لماذا لم يكن أنا من يموت؟ لماذا كانوا هم
تحديدا، هم الذين كانوا جميلين ورائعين في عيون أهاليهم، ويستحقون الحياة
أكثر مني. كنت قبالتك.. واقفا وحزينا، وكانت عيناك تنظران إلي نظرة ممزوجة
بالعتاب.. أكان علي أن أكون مكانه الآن. أكان علي أن أكون أنا من تصيبه تلك
الرصاصة الموجهة إلى الظهر، باتجاه القلب. كأن الولاء للصداقة يبدأ
بالتضحية بالحياة نفسها. كما الولاء للحب يبدأ بالتضحية بالحب نفسه ! هل
كنت ستعرفين الفرق بين الموت والموت؟ هل كنت ستعرفين قيمة أن أظل حيا في
الوقت الذي يموت فيه الآخرون؟ لم يكن في الأمر ما يدعو للتضحية حقا. واجب
الموت لم يكن يعنيني، وواجب البقاء على قيد الحياة سيان بالنسبة لي. فماذا
كان علي فعله حقا؟ أنا الذي عرف من البداية أنه سيظل حيا ليعيش ذاكرة
الآخرين، ليحمل أحزانهم وأحلامهم الحميمة، وليبكي عليهم سرا، بينما الناس
يدينون بقاءه حيا. فلا تديني حياتي. لست خائنا للموت. أخوك يعرف ذلك جيدا.
يعرف أنني "لاكامورا" الأحادي الفريد الذي قتل الأطفال في حكاية الوادي
القديم، بحثا عن جنية كانت تشبهك. لها عيناك، وصمتك وصوتك المخملي. لها
شحوب وجهك حين تصابين بالصدمة. حين تبدو لك الحياة عبثية كما الآن. فلا
تديني بقائي حيا. لست خائنا. لست ميتا وليست حيا. أنـا ما أنـا. ما كنته
قبل ألف سنة، وما سأصير عليه بعد ألف سنة. أنا بنفس ملامحي وأحلامي
المشوهة، وذاكرتي المعطوبة وقلبي المكتظ بالأسئلة قبالة كرسي ظل شاغرا
لأجلك أنت. لأجل أن أقول لك فجأة "انتظرتك كثيرا" كمن يعاتبك على استهتارك
بالوقت قبلا، واستهتارك بالحب بعدا ! الحب؟ هل يمكن لشخص مثلي أن يحب امرأة
مثلك؟ امرأة تنظر إليه بغرور، و لا تعرف ما تركته في ذاكرته من تفاصيل و
عقد ما يزال مدسوسا في جيب قلبه.. فلماذا تدينين حياتي؟ لماذا علي أن أموت
كي يرضى الآخرون عني. كي لا يتطيروا مني. يا امرأة بقلب الوطن. بذاكرة
الوطن. بقسوة الوطن. بضمير الوطن. بحيادية الوطن إزائي.
(صفحة
95)
«Je
t’aime tant ! Peut-être maladroitement, mais sans détour
!
Comme on
peut aimer un enfant tremblant d’amour !
Je t’aime
tant, d’un amour pur, et merveilleux éperdument !
Comme un croyant peut aimer dieu aveuglement
!
Je t’aime tant ! Ton amour est une île inconnu et sauvage ! Où mon cœur
en péril chaque jour fait naufrage ! Terre où ton seul nom est ma
frontière et ma prison ! Je t’aime tant ! Et quand mes yeux plongeant
tes yeux tendre et profond ! J’ai le vertige et j’en veux toucher le
fond ! Je t’aime tant
! »
كنت جالسا في كافتيريا قريبة من المستشفى، أصغي إلى هذه الكلمات
بصوت" شارل أزنافور" .. كنت أشعر بشيء غريب يستولي علي.. شيء ثقيل ومثير
للبكاء وأنا أستمع إلى تلك الأغنية. كان الناس يرتشفون قهوة أو عصير. بعض
العشاق الذين هربوا من المدينة وجاءوا خلسة إلى هنا ليجلسوا قبالة بعض ربما
للمرة الأخيرة! فقد صار الموت حاضرا. هل ثمة تعويضا يكفي لتغطية جرح كهذا
الجرح؟ أن تفقد أبا فأنت يتيم.. أما أن تفقد وطنا فأنت مفجوع إلى الأبد..
بين اليتم والفجيعة تولد النهارات التي تأتي عبثا.. يولد الكلام الذي لم
يعد يقول شيئا.. ليأتي الناس إلى هنا.. ليأتي الشاب متأبطا ذراع حبيبة
خائفة.. يتناول معها شايا وحلما مستحيلا يعرفان جيدا أنه لن يتحقق. يقول
لها أحبك فتبتسم و تقول له أحبك فيضحك.. هو الحب الذي صار لعبة مسلية،
كالكلمات المتقاطعة في جريدة يشتريها شخص ليتسلى بها ثم ليرميها في المزبلة
قبل مغادرة المكان ! تمنيت لو كنت قبالتي. لو كان بإمكاني أن أقول لك أحبك
لتبتسمي.. أو تقولي لي أحبك لأنظر إليك بعمق وارتباك.. لو كان لي أن أصدق
لحظة واحدة أنك قابلة للرجوع إلي، فأبتسم، كأنك كنت لي حقا لترجعي إلي.
ألست أشبه مراهقا يقع في حب مدرسته الجميلة؟ كنت ذلك المراهق الذي صدق أن
اللمسة الأولى هي اللمسة الأبدية وأن اليدان حين توضعان على الذراع فلكي
تحجزهما إلى الأبد.. شعرت أنني وقعت في فخ قلبي الكئيب والواسع بالفراغ..
قلبي الوحيد والمعزول عن العالم ! قلبي الذي لم يفتح بابه للآخرين خارج
النص الذي يكتبه. لم يقل كلمة حب حقيقية خارج الحلم الذي عاشه في مقال على
شرف الوطن الضائع قبلا.. ما الحب؟ أليس الحب هو ذاكرتنا المعطوبة؟ أليس
اعتقادنا أننا استثنائيين في الوقت الذي نكون فيه تافهين حد الهباء؟ ما
الحب؟ ما الحلم؟ ما الفرح؟ ما الوطن؟ كلها مصطلحات سهلة تصلح لحل كلمات
متقاطعة على عجل قبل الوصول إلى محطة انتقالية ! ألم أكن مراهقا في حضورك؟
كنت مراهقا و أنا أظنني طرازان جاء يخلصك من غيلان الزمن الجديد لأكتشف
أنني فارغ اليدين..(صفحة
100)
رحل النذير إذن. مات هكذا.. مات لأنه رفض العيش طويلا داخل هذا
الهباء اليومي. مات لأجل أن يعيش هؤلاء الخونة الذين ساوموه على حياته
وأحلامه وراحة باله. مات دون أن يتزوج، دون أن يحقق حلم الأبوة كما كان
يتمنى في سره. مات بسيطا كالفقراء، وعاريا كالأولياء الصالحين.. مات تاركا
أما تبكيه بصمت وأختا تنظر إلى الآخرين بحثا عن إجابة لأسئلة الكون. وأخ
صغير لا يفهم ما يجري ! كنت قبالتهم أنظر إليهم. إلى المعزين الذين تهافتوا
على ذلك البيت الذي تحول إلى قبلة كل من أراد أن يتصور ليظهر في نشرة أخبار
الثامنة ! كان الزملاء من مختلف الجرائد المحلية ينظرون إلى بعضهم بصمت لا
يخلو من ترقب.. كل واحد يتساءل عن الضحية التالية. فأمام كل جثة يتساءل
البقية عن الجثة التالية. عن الموت التالي.. اكتشفت يوم الدفن أن كريمو
اختار الجلوس قريبا مني بآلة التصوير في يده. كنت أنظر إليه وهو يصور من
حين لآخر ما يراه ضروريا. كان يغتنم فرصة الموت ليلتقط صورة الجنازة
الجزائرية. صورة التابوت وهو يخرج من البيت. صورة الموت وهو يراقب الجميع
بابتسامة لا تخلو من سخرية. هل كان علي أن أقف ها هنا كرجل لا يعنيه
المشهد؟ المسئولون الذين أتوا بدوا غير معنيين إلا بالكاميرا التي كانت
تلتقط لهم صورهم... بعضهم كان يراقب البقية بتعال لا يخلو من إهانة. كانوا
يعرفون أن موت صحفي هو أشد أنواع العدل بالنسبة إليهم، هم الذين يكرهون
الصحافة التي وضعتهم على الصفحة الأولى بعبارة "قل لي من أين لك هذا أقول
لك من أنت؟" كانوا هنا ينظرون إلى بقية الصحفيين الحاضرين بعينين لا يخلوان
من تشف. من رغبة عجيبة على الابتسام لمجرد الانتقام الصامت.. كأن يقولوا:
ها أنتم تنقرضون في وطن تعتقدون أنكم تدافعون عنه عبر صحافة يعشش فيها
الدود ! مات النذير كما يموت شخص نحبه.. كما يموت صديق نتمنى له عبثا حياة
طويلة. كنت ما زلت واقفا قبالة قبره حين انفضّ الجميع عنه.. وقفت أنظر إلى
شكل النهاية. شكل الحياة الأخيرة. شكل البيت الذي سيسكنه إلى الأبد راغبا
في قول أشياء لم يتسن لي قولها في وقتها. ما الحياة؟ ما الحقيقة؟ ما الموت
أساسا.. أليس الموت هو هذه العزلة التي لا يعرفها إلا الميت. حتى الذين
يعتقدون أنهم أقرب الناس إليه يغادرونه نحو مشاغلهم.. قد يحزنون ولكنهم
أبدا لن يكونوا معه حيثما يكون. لن ينزلوا إليه في القبر حين ينزل الليل
على الناس ولن يسألوه: هل ينقصه شيء؟ هل الوسادة مريحة في قبره؟ وهل الألم
أخف بعد الموت؟ لا يمكن لأحد أن يسأل ميتا عن الموت الذي دخله عاريا..
(125)
لمواصلة قراءة الرواية يرجى الاتصال بالروائية ياسمينة صالح على العنوان
التالي:
yasmina_salah@yahoo.fr
(لقراءة
دراسة أولية حول الرواية)
(
للتعليق والمشاركة بالندوة الخاصة حول
أدب المرأة )
|