رسائل تتحدى النار
والحصار2
وكان طيفك مقيما !!
كنتَ أنتَ موجة غضب لا تهدأ أبدا ..
ربما تهدأ حينا .. لكنها تتفجر في أغلب الأحيان ..
وكنت أنا قطعة ألم تمشي حافية فوق أرض من نار ..
ربما يسترخي وجعي حينا .. لكنه يتمدد عند كل نبض ..
كنتَ تثور كما تتنفس ..
وكنتُ أتوجّع كما أحلم ..
اعترفتَ لي بخوفك ذات هدوء عابر : " أخاف يوما أن تداهمك موجة غضبي
فيلحقك الضعف ، فتغرقين .. بصراحة أكثر .. أخاف أن أخسرك في بحر غضبي !! "
والتقينا ..
كيف ؟!!
تفجّرتَ أنت ذات نكسة عصفت بتاريخ جغرافيتنا...
وتأوهتُ أنا ذات نكبة قلبت جغرافية تاريخنا..
فاحتوى غضبك تأوهاتي ..
وكانت أسطورة اللقاء !!
منذ الليلة الأولى لم نكن وحدنا ..
كانت أنفاس غزة الحارقة ثالثنا !!
ومنذ الليلة الثانية بدأنا نبوح برؤى مفزعة تنتظرنا عند غفوتنا ..
كنا يتامى ..لا أبا حكيما يمسح على اندفاعنا ، وينصحنا أن لا نكشف
رؤانا ..
كنت أفرّ إليك .. أفجر آلامي على مساحة يدك ، وألقي بضياعي على جدار
قلبك الذي أراه واسعا .. لأعترف بسذاجة طفلة طغى ليلها على نهارها :
-متعبة أنا يا عبد الله ، وهذي الأفاعي أحسها تحفر وراء خيمتنا ،
وتزحف نحو جذورنا لتكون بعض دمنا ..أتعبني هذا الحلم الذي يتكرر في منامي
كل ليلة ..
كلما أسندت تعبي إلى وسادة خيبتي يتراءى لي حلم يخطف مني وسادة
الأمان ويترك رأسي يتدلى إلى هاوية .. أرى رياحا عاتية تطير بخيمتنا
وتتركنا لدهشة عارية ، وعبثا نحاول التعلق بحبالها التي تشدها إلى الأرض
لنعيدها إلى أوتادها ، لكنها تبتعد عنا شيئا فشيئا ..
.......
وكنتَ أنت تربّتُ على جزعي ، وتحدثني عن حلمك الغريب :
-رؤياي تسير عكس رؤياك .. أنا أرى – كل ليلة – أن الخيمة ثابتة في
مكانها ، لكني كنت أجد عربا كثيرا يأتي بهم شرطي لا ملامح له ويحشرهم معنا
حتى لا نجد مكانا نقف فيه على أطراف أحلامنا.. كان يقول لنا بكثير من
التودد " هؤلاء إخوانكم وقد ضاقت بهم الأرض بما رحبت ، ولم نجد لهم مكانا
أوسع من هذه الخيمة نحشرهم فيها معكم .."
العدد كان يتزايد كل يوم حتى أني كنت أفتقد وجهك وسط وجوه تقاسمنا
المكان والفراش وماء الحياة ...
.........
وبين حلمي الطائر ..
وحلمك الثابت ..
كنا ننام كالأطفال ..
قد يفزعنا الحلم فنصرخ ، لكننا نهدهد على فزع بعضنا البعض ، ونعود
إلى حضن ليل طويل ..
اليوم ..
ورغم الهموم التي تضغط على صدري ..
ورغم السنين العجاف التي تأكل من صبري ..
ورغم دم غزة الذي بات نخبا يتقاسمه الأشقاء على مائدة مستعارة وكؤوس
تلمع بخيانة لم تعد ضميرا مستترا ..
لا زلت أذكر رؤياك ورؤياي ..
وأهمس – كل مساء - إلى طيفك المقيم في شراييني :
أي الرؤيا تحققت يا عبد الله ؟ !!
زكية علال
Thu Nov 15,
2007 8:25 pm
مَطَرْ ... مَطَرْ
مطر .. مطر ..
مطر يحرك هدوء خيمتي .. يتسلل من ثقوب أحدثها رصاص فاجأني بغدره ذات خيانة
..
وبرد يسكن بوحشية جسما غادره الأحبة من زمن طويل ..
زوج مسافر من طاولة إلى أخرى بحثا عن وطن يقدمه لي هدية في عيد زواجنا...
أولاد غادروا رحمي .. منهم من سكن قبرا .. ومنهم من ضاقت به جدران معتقل...
وإخوة مروا على جسدي وداسوا على بياض نبضه ...
مطر .. مطر ..
وأنا ها هنا ـ يا عبد الله ـ لا أملك إلا حفنة ذكريات أنثرها على صدمة برد
يعصف بكل خيام الرجاء التي نصبتها لي قبل رحيلك ..
لازلت أذكر أني كنت أجلس إليك ـ في الليالي الممطرة ـ كطفلة تكبر بهدوء..
وتحلم بخطوات سريعة
أجلس إليك ..
الأطفال نائمون ..
حينها كانوا صغارا .. يملأون جيوبهم ومحافظهم بحجارة من أرض الأنبياء
ليدافعوا بها عن أنفسهم عندما يداهمهم الموت الذي يترصدهم عند منعطف كل
شارع .. وأمام بوابة مدرستهم ...
كنت أجلس إلى دفء قلبك ..
وتسكن أنت إلى نبضي الذي كان يقفز من صدري ليجاور نبضك في صدرك ..
فلا تدري ، أتحيا بنبضك أم بنبضي !!
كنت تغازل بردا يعصف بجسد امرأة التقيتها ذات نكسة .. فتزوجتها عند خطوط
النار ..
كنت تهمس لي وصوت المطر يرقص على غزل لا يشبه قصائد الشعراء:
"أستعذب الإحساس بالبرد لأنه يجعلني أتلمس دفء الناس والأشياء والكلمات"
كنتُ أدرك بحدس الأنثى أنك لم تكن تقصدني بغزلك المستتر نصفه ..
ونصفه الآخر الذي يمشي على استحياء ..
عندما تنظر في عيني أحس أنك تغازل وطنا تركناه كبيرا .. وبات صغيرا يرقد في
حقيبة سفر .. وينتقل من مؤتمر إلى آخر ..
وعندما تتحسس دفء يدي أشعر أنك تتلمس حنينا إلى بيت غادرناه عن طوع منا
يشبه الكُرْه..أو عن كُرْهٍ يشبه الطَّوْع ..
وعندما تتسلق نظراتك ملامح وجهي أكون على يقين أنك تحبو فوق أرض خلفناها
وراءنا ورضينا بخيمة من الغابرين تلهو بها رياح الإنكسار ..
مطر .. مطر ..
وصهيل ذكريات تلهو ببقايا امرأة ..
وذكرى رجل من ورق ..
زكية علال
Sat Dec 1, 2007
8:42 pm
عيد .. دوار .. وغثيان
..
أُحِبُّك يا عبد الله ..
عفواً ..
أقصد.. عيدك سعيد يا عبد الله ..
قبل عشرين نكبة ..
لا أذكر أننا كنا نهنئ بعضنا بالعيد كما كل الناس ..
كان يكفي أن ينحني نبضك على نبضي ويُقبّله لأعرف أنه عيد ..
يكفي أن يعانق قلبُك خوفي المقيم لأعرف أن العيد قد حلَّ على الكون !!
قبل عشرين خيانة ..
حينها.. كان أطفالنا صغارا.. يرون الوطن في جِبَّةِ أمهم .. وتحت عباءة
أبيهم..
كانوا يتعلقون برقبتك ويصرخون ببراءة الأطفال:
ـ أبي .. نريد كبشا بقرنين نتباهى به في المخيم ..
ـ أبي ..نحب أن تُحضر لنا الكبش قبل أيام من العيد لنعرّفه على أصدقائنا في
المخيم ..
ـ أبي .. لماذا لا تذبح الكبش بنفسك كل عيد ؟.. عمي محمود يذبح كبشه بنفسه
وأولاده يساعدونه ..
ـ نريد أن نساعدك يا أبي ..
وكنت أنا أجلس غير بعيدة عنكم، أتعلق بضعفك أمام أطفالك ..
كان المخيم بارداً.. موحشاً.. لكن مرح الأطفال وهم ينتقلون بين الخيام
بكباش تستعد لنحر سعيد، ينشر دفئا يتسلل إلى قلوبنا وعيوننا ..
قبل عشرين مؤتمر للسلام ..
أذكر أنك كنت تعود من صلاة العيد محملا بكل الدعاء وتنحني على رأسي بقبلة
وأنت تهمس لي "أحبك"
وكنت أرد عليك بحب صامت وانتماء ناطق "أحبك"
اليوم ...وبعد عشرين مؤامرة ..
كبُر الأطفال وعرفوا أن جبة أمهم لا تخبئ وطنا .. وأنّ عباءة أبيهم لا
تحضن أرضا ..
فرحلوا ليقيموا وطنا فوق تربة الشهادة
ورحلتَ أنت تطارد سرابا ..
وأجلس أنا وحيدة في هذا العيد ..
أحس بصداع غريب.. ودوارٍ شديد.. وشعورٍ بالغثيان ..
أحاول أن أردَّ ما في جوفي لأتخلص من هذا الإحساس بالغثيان ..
لكن ماذا بقي في جوفي لكي أردّه وأستريح ؟!!
لا شيء ..
أحس أنني مفرغة إلا من خيبة تقيم في أمعائي وترفض أن تغادرها .
زكية عَلاَّل
Tue Dec 18,
2007 7:32 pm
الشهيدة ... جدة
الشهداء !!
عند مطلع كل عام أُقرّر أن أدفع الخيبة التي تعلق بي وأهمس لك بكل دفء:
- عيدك سعيد يا عبد الله ..
- كل عام ووجهك الغائب .. الحاضر بخير ..
لكن يسقط أملي في عصمة خيبة أخرى، فلا أجد غير "آه" تتفجر في أحلامي وتُورق
بطاقة بلون شتاتي ..
عند مطلع هذا العام .. ماتت أمك .. جدة الشهداء ..
كم كنتُ أحبها !!
من الدهشة الأولى أدْرَكَتْ أني طاعنة في اليُتْم فغمرتني حبا ..
من الصباح الأول لزواجنا، انحنيتُ على جبينها لأهديها تحية فجر شاحب ..
فوجدتها تحضن يُتْمي وتتمتم "صباحك جميل يا بنيتي"
منذ الدمعة الأولى التي كشفت لها ضعفي لم تعد تناديني إلاَّ "بْنيْتي"
كم كنتُ يتيمة، لكنها مرت بحنانها على فراغي ..
كنتُ أرعى ضعفها كأولادي ..
ألملم عجزها وأنا أنفذ وصية الوداع الأخير "أمي ... أمي يا فاطمة"
وصيَّتك كانت مبتورة، لكنني كنتُ وفية للشطر المبتور ..
خيمتها ظلت تجاور خيمتي ..
وحزنها على رحيل أحفادها يعانق حزني ..
فجأة .. قررتْ أن تحجَّ هذا العام ..
قالت لي: عندما أقف في جبل عرفة سأدعو لولدي عبد الله لكي يتطهّر من خبث
المؤتمرات.. وسأدعو لأحفادي الشهداء أن يعودوا إلى حضني !!
أوشكت أن أرد عليها: الشهداء لا يعودون يا أم الغائب !!
لكنني تركتها على اعتقادها.. ولم أكن أدري أنها إشارة للرحيل إليهم ..
أمك فقيرة ..
فقررتُ أن أبيع خيمتي لأوفر لها تكاليف الحج ..
قلت في نفسي: "ماذا تستر خيمة من امرأة عارية المشاعر ؟!!"
لكنها بادرت ببيع خيمتها وهي تهمس لدموعي الحارقة: "لن أكون بحاجة إليها
بعد اليوم.. يكفيني هذا الرداء الأبيض"
لم أفهم ما ترمي إليه، فتدثرتُ بصمتي .
كنتُ وحدي أودِّعها عند معبر رفح ..
حزنها موجع وهي لم تجد ولدا يبتسم لضعفها .. ولا أحفادا يتعلقون بثوبها
الأبيض ويتوسلون إليها أن تعود محملة بهدايا من مدينة خاتم الأنبياء ..
أحسستُ بجواري فارغا عند ذهابها ..
لكنني رحتُ أتسلى بأوجاعي وأنتظر عودتها محملة برائحة الدعاء ..
أمُّكَ لم تعد ..
المفاوضات ظلت تعبر على جسدها الضعيف ..
من أين تعود إلى ديارها ؟!!
كل المعابر التي تخدش كبرياءها فُتحت لها.. وأُغلق أمامها معبر رفح ..
ولم يتحمل ضعفها مفاوضات تزحف على بطنها... فماتت ..
الفضائيات العربية نقلت خبر موتها ..
أمك ـ الآن ـ جثة هادئة داخل سفينة باردة ..
وأنت هناك ..لا زلتَ على شريعة التفاوض ..
جدة الشهداء لحقت بأحفادها ..
وأنا هنا أحس أن ما بيني وبينك تقطّع ...
زكية علال
Wed Jan 2, 2008
8:24 am
انتصار من ورق
ستعود بعد انتصار وهمي .. ولن تجدني ...
ستقف أمام تمثال السنين ، لتتألم على أمل كان يشرق هنا ..وضاع ..
ستقف على أطلال ملامح امرأة كانت هنا .. وتبكي خيالا يحفر في أعماق
الشتات ..ستعود ذات غروب لتجد فاطمة قد تلاشت من دائرة الحياة ودخلت غياهب
العدم .. ليسقط اسمها في ذاكرة معطوبة ..
هل تذكر يا عبد الله ؟
عندما كنت تودعني عند عتبة لم تعد لنا .. كنت أصرخ بصوت يشبه الرجاء
.. التوسل .. الانكسار : لا ترحل يا عبد الله .. إني بحاجة إليك .. إلى
صوتك .. إلى جلدك وإلى ظلك الذي اندسُّ في لونه الرمادي هروبا من أفاعي
تترصدني هنا .. وهناك ..
لا ترحل يا عبد الله .. فالأرض - بعدك - ستباع .. وفاطمة ستتقاسمها
موائد القمار السياسي ..
لا ترحل يا عبد الله ...
لكنك أجبتني بصوت يشبه التحدي :
أنا والهزيمة لا نجتمع في مكان واحد ...
لا أستطيع أن أبقى وهذي القيود تدمي معصميك .. وتلك الخفافيش تحاول
أن تمتص رحيق شرفك لتنتقم مني ...
لا أستطيع أن أبقى إلى جانبك ونظرات الذل في عينيك .. وشوارع غزة
تتقلص على آخر ذكرياتنا ..لا أستطيع أن أنظر إلى أرصفتها وهي تتقيا آخر حرف
من قاموسنا .. لأجلك يا فاطمة ، ولأجل هؤلاء الصغار ولأجل أرض تُسحب من قدم
خيبتنا ، سأهاجر لأصنع لكم نصرا على مقاس حبي لكم .. سأعود .. فلا تغادري
هذا المكان ..لا تنهزمي .. قاومي .. فالتحدي نصف الانتصار .
وهاجرتَ يا عبد الله ..
هاجرتَ دون أن تترك سيف الخليفة على بابي .. ولا حتى صوت رجولتك
يدوي بين جنبات خيمة باردة ...
هاجرتَ ..وجلستُ أنا ها هنا . . إلى نافذة العمر .. أطل على قمر
يحتجب وأمدُّ يدي إلى بهاء السماء .. أحاول أن أرتب نجوما تتهاوى كما أرتب
أشيائي التي تنسحب مني .. ربما لأتسلى ..لأرقب شمسا تولد من رحم ليل مقيم
..
كنت أحلم بفستان وردي تنسجه لي من خيوط شمس ولون صبح .. أحلم
بابتسامة تأتيني معلبة في صناديق البارود .. أحلم بطفل سيأتي بعد أيام
وبفجر سيشرق بعد حين ...
وتتمدد المسافة ، وتكبر الأيام كبطل متمرد .. وأحس في داخلي أن حججك
كانت مجرد طريق لتعبر منه إلى هروب من مصير مجهول ..
اليوم ... وأنا أعيد ترتيب النجوم المتهاوية في سماء قلبي .. أحس أن
عبد الله الأسطورة يتكسر في ممراتي السرية ليتحول إلى نقطة سوداء تلون
خريطة عمري ...
غدا ... عندما تعود بنصرك المزعوم ستجد جسدي متناثرا كالشتات
...ضفيرة تُغمس في دم ساخن .. وضفيرة ثانية تدوسها أقدام قذرة تتناسل في
تربتنا ...
جسد مُهمل على أرصفة غزة ... وأطراف تتقاذفها نزوات مجنونة في
شوارع رام الله ..
قلب ينزف على صدر القدس ... ونبض يئن فوق مئذنة ..
ستجد جسدي مبعثرا في رفح وقد عبثت به الأفاعي ، ونهشته كلاب
التاريخ ...
ستعود ... وتسأل عني الحجر والشجر وبقايا شرف تعثر بين الخيام ...
ستسأل عني ملامح كبرياء ما زالت تقفز على الحواجز الأمنية ...
ستسأل : أين فاطمة ؟!!
ولن تجد من يصغي إليك أو يسمعك ... لأن غزة غيرت لون وجهها ، والأرض
بدلت جلدتها !!!
زكية علال
أضيفت في 09/01/2008 / خاص القصة السورية
/ المصدر: الكاتبة
/
مجموعة القصة السورية
مشروع خيانة !!
قديماً..
في دِفْءِ الزَّمَنِ الجَميلْ..
وعندما كانت الحكمة تمشي شامخة.. قالوا: "النَّاسُ على دينِ
مُلوكهم"
اليوم..
والحِكْمَةُ تتعثَّرُ.. وتُصيبها كل أمراضِ العصرِ لتُصبحَ كسيحةً..
أقول: "الناس على خيانة ملوكهم"
فالخيانة أصبحت عقيدة تسخر من شريعة الوفاء...
والوفاء بات نكتة ندغدغ بها بعضنا البعض..
عندما تُمارس الخيانة بصفة رسمية..
يسهُل على الناس ممارستها بصفة غير رسمية..
وحين يخون الحاكم شعبه..
يهون على المحكوم خيانة زوجه وولده .. وعشيرته التي تأويه ..
عندما تكون الخيانة عقيدة الحاكم والمحكوم، تخون السنابل قمحها..
والمطر غيثه.. والخبز ملحه.. والماء صفاءه..
ويتمرّد التراب على أرضه التي كانت رحمه.. ليتطلع إلى أرض تتجدد
بتجدد النازحين والعابرين..
وكنتُ أنا ـ يا عبد الله ـ لازلتُ على شريعة الوفاء..
بقيت أغزل من خيوط حكاية عتيقة وفائي لك ولغزة..
في كل ليلة..
أجلس إلى طيفك وغزة التي تلبسني ..
أقيس نبض حبي لك.. فأجده مستقرا..
وأتحسس نبضها الذي يمنحني التألق فأجد دقاته تنقر على صدري..
عندما أطمئن على انتمائي لملامح وجهك المقيم في شراييني..
أُسْلِمُ انكساري إلى نوم يشبه وجه طفل..
وحدي أمارس الوفاء في زمن الخيانات الرسمية والمصورة..
خيانات مؤرخة ومؤثثة...
وحدي...
أمارس طقوس الوفاء لرجل غادرني ذات سحاب عابر..
وبيني وبينه مطارات.. بحار، ونعيق مؤتمرات..
وحدي أعتنق شريعة الوفاء لمدينة تركتُها ذات قرار جائر ..
وبيني وبينها نار.. حصار.. مستوطنات ومشروع خارطة تزحف على بياض
أحلامنا..
هذا الصباح ..
أستيقظ على حركة غير عادية في أروقتي وممراتي ..
وَقْعُ أقدام تسحب وراءها ملامح كانت مقيمة....
وتأوه يُحْدِثُ فوضى في خيمتي الباردة
أفَقْتُ مذعورة !!
فإذا هو نبضك المقيم يتسلل من فراغي..
وإذا صورتك التي كانت شامخة في وجداني تصبح باهتة كما كل الصور..!!
......
كان هناك.. يمر أمام خيمتي عند كل تأوه.. ظِلُّه يَعْبُرُ إلى
الدَّاخل وقلبه يسجد لوحدتي الطاعنة في اليُتم..
كان هناك.. ينتظر رسائلي إليك بشوق طفل يحنو إلى دفء أمه، وعندما
أختم آخر وجع فيها يحضنها كما تحضن الأم ولدا باكيا.. ويهرب بها بعيدا..
بعيدا..ليضيع في تفاصيل خيبتها الكبيرة..
شيئا فشيئا أصبحتُ أحس أني أكتب تفاصيل خيبتي له.. وأنه أخذ ملامحك
التي كانت تجاورني ..
رسائلي أصبحت لاتصل إليك قبل أن يوقعها بنبضه !!
فهل هي خيانة ؟!!
أم مشروع خيانة ؟!!
زكية علال
Mon Jan 14, 2008
6:44 am
قَبْرٌ في جِبَّة
وَطَن !!
اجتمعوا على بقايا ابتسامة لم تعد تثيرا أحدا
تفرقوا على وقع حلم يسحب آخر خطواته من دمنا المباح
تناسلت اجتماعاتهم هنا وهناك
تشاوروا .. تفاوضوا ..
قلّبوا المشكلة ذات اليمين وذات الشمال
ناقشوا قضية شعب لا يفنى ، وامرأة لا تُهزم ..
رغم الغارات التي تهبط على غزة ووجهي ..
رقم القصف المستمر للبيوت وصدري ..
رغم قسوة الرصاص الذي يحصد الأرواح وما تبقى من صبري ..
ورغم النار التي تأكل أطراف المخيم وساعات يومي، أظل وغزة شامختين
تتجدد فينا الحياة بعد كل غارة وقصف ودمار وحصار ...
غزة وأنا ، صَدْمَتُهم .. شَوْكَتُهم .. والأرق الذي يقض مضاجعهم ..
ولهذا.. قرروا أخيرا أن يدفنونا أحياء ..
سدوا كل المعابر
قطعوا زاد الحياة، وأطفأوا نوراً نَسْتَدِلُّ به على أحبائنا ..
قرارهم كان رسميا ومُصَوَّراً.. بل ومُؤَرَّخاً:
ـ موتوا في جحور كالفئران ..
ـ موتوا كالأيتام داخل ملاجئ باردة .. فلا أرضا تئن لغيابكم، ولا
أخا يبكي لفقدكم، ولا ابن عَمٍّ يَهُمُّه أمْرُ ضياعكم .. ولا وجها من
رحمكم سيسعى ليعيدكم إلى بهاء الحياة ..
ـ موتوا متأوِّهين .. مُتَوَجِّعين فلا أحد سيشفق لاحتضاركم وسط
مدينة تغرق في ظلام الموت
اللحظة ..
ووسط ظلام أسطوري أتحسس صورتك ـ يا عبد الله ـ ووجعي ..
أعترف أن صورتك المعلقة على حائط خيبتي لم تعد تمنحني دفئا ..
ووجهك الذي يقابلني في المرآة العاكسة لهزيمتي لم يعد يعنيني ..
وملامحك التي تنكمش في ركن بعيد عن نظري، لم تعد تنتمي لجغرافيتي ..
أعترف.. أنك لم تعد تاريخا يشكلني، بل أصبحتَ قبراً مَنْسِيّاً
لأحلامي التي غلبتها الرطوبة فتعفنت..
أعترف أنك لم تعد نصفي، ولا ثلثي، ولا ظلِّي.. وأني أصبحت عارية من
انتمائي لك..
ومع ذلك أحب أن أغمض عيني على لهفتك للقائي !!
وأتحسس أنفاسك المتعثرة بين برد وجوع وظلام ممتدٍّ حتى آخر انكساري
!!
غزة وأنا وخيمة متهاوية ننكمش داخل قرار دولي يقضي بخنق شعب لم يعد
يصلح للحياة..
وحدك تستحق الحياة يا عبد الله
فلمن تخبئ لهفتك بعد رحيلي وغزة ؟!!
لمن تدّخر رعشة اللقاء بعد عشرين سنة من الغياب ؟!!
ولمن ستهمس بحب متقدم .. متأخر وفاطمة مذبوحة بقرار دولي ؟!!
زكية علال
Sun Jan 27,
2008 6:38 am
زوجة..
في عصمة حلم عابر.. !!
إنها الليلة العاشرة بعد ألف غياب وغياب ..
الساعة الواحدة بعد منتصف ليل حالك يلفني وغزة ..
لم أجد ما أهرب به من وحدتي المكشوفة سوى أن أسلم جسدي المنهك إلى
وحدة مُستترة باتت تلازمني منذ أن فرّقوا بيني وبين زوجي ..
هو .. أدخلوه في عصمة المفاوضات والمؤامرات .. عفوا .. أقصد،
والمؤتمرات.
وأنا .. تركوني في عصمة الأرض مقابل السلام .. فأخذوا الأرض والسلام
وكثيرا من ماء الحياة ..
اللحظة ..
أُُسْلِمُ انكساري إلى فراش بارد، وأُغْمِضُ عيني على قطع من الليل
تتوالى على غزة منذ أزيد من شهر ..
لكن صوت المطر الذي كان ينقر على أوتاد خيمتي أحسسته يدك الحانية
تهدهد على فزعي وتشعرني بكثير من الدفء ... فغلبني النعاس .. ونمت
.........
لست أدري كم امتدت ساعات نومي على راحة يدك الدافئة ، عندما هزّ
غفوتي نور قوي ..
أفقت على ضياء يملأ فضاء الخيمة ..
إلْتَفَتُّ .... فرأيتك تجلس إلى جانبي وكأنك تَحْرُسُ سكوني ..
نعم .. هو أنت .. عبد الله العائد من مدن المفاوضات ..
صدمني وجودك ..
ارتبكت .. أحسست بعضي ينفصل عن بعضي .
فصدمة اللقاء تبعثر السكينة كما صدمة الفراق !!
لا أدري كم مضى من الوقت وأنا متعلقة بحضورك الطاغي !!
ولا أدري كم ورقة هوت من دفتر العمر الهارب وأنت تحدق في ملامحي
الطاعنة في اليُتْم..
لا أذكر أيّنا بدأ بالكلام .. ولا من أين بدأناه ..
كنا كمن يكمل حديث الليلة السابقة ..
حدثتني كثيرا عن تعبك في الوصول إلى مرافئ عيني ..
وحدثتك عن الحصار الذي حولنا إلى شعب متآكل ، ومخيمات آيلة للسقوط
..
حدثتني عن ذلك السائق المصري الطيب الذي عبر بك كل الممرات وقفز
على نقاط التفتيش..
وحدثتك عن دمي الذي توزع بين حقد الأعداء وحمق الإخوة ...
حدثتني عن خوفك والسائق يوقف سيارته عند نقطة تفتيش ، وعن استرخاء
ذاك الخوف والشرطي يعيد إليك بطاقة هويتك بابتسامة عريضة ولهجة مصرية حبيبة
إلى القلب: "حمد لله ع السلامة يا عبد الله .. إزّايك يا بطل..!!
وحدثتك عن غريب تملّك أمري وقريب تجهمني ، فأصبحت ريشة في مهب رياح
الغدر والخيانة ..
تشعب بنا الحديث عن النار والحصار والأرصفة الباردة ..
ونسيتَ أن تكشف لي عن لهفتك لرؤيتي ..
ونسيتُ أن أعُبِّر لك عن حبي الجارح .. الشامخ ..
قلت لي وأنت تمسك باضطرابي :
ـ هل تصدقين يا فاطمة .. عندما وصلت إلى بوابة صلاح الدين وغاصت
قدمي في التراب الممزوج بعطر المطر .. أحسست برجفة وفوضى في مشاعري وحواسي
.. لستُ أدري لمن كانت رجفة اللقاء الأول .. لك أم لغزة ؟!!
وابتسمت بمكر أنثى وأنا أجيبك:
ـ وعندما رأيتك لم أميز أينا العروس، ومن المرافقة التي توصلها إلى
عريسها الغائب منذ عشرين سنة .. أحسست أن غزة هي العروس البهية وأني
الرفيقة التي تصحبها إلى باب مخدعها ... رأيت غزة تسبقني إليك بجرحها ودمها
المباح !!
واقتربنا أكثر يا عبد الله ..
رأيتك قريبا جدا مني ومن ملامح غزة، وكأنك لم تغادرني ولم تفاوض على
شرفها يوما ..
لمست وفاءك لي وللمآذن العتيقة ، فسكنت إلى عودتك بكل الآه التي
تملأني و........
وأفقت على دوي هزّ هدوء خيمتي المتهاوية، فإذا هو صاروخ يسقط على
المخيم وعلى حلمي الذي تراءى لي واقعا جميلا ..
وعندما تنَفَّسَ الصُّبْحُ، عرفت أن الصاروخ أباد عائلة الشيخ ياسر
وهي نائمة، ولم يترك فيهم من يرث حزنه عليهم ...
زكية عَلال
Fri Feb 29,
2008 9:58 pm
|