أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتب: عز الدين جلاوجـي-الجزائر

       
       
       

راس المحنه

سرادق الحلم والفجيعة

   

الفراشات والغيلان

الرماد الذي غسل الماء

   

التاعس والناعس

البحث عن الشمس

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

من مواليد 1962، أستاذ للغة العربية وآدابها

أديب وباحث

عضو مؤسس لرابطة إبداع الثقافية الوطنة وعضو مكتبها الوطني منذ 1990

عضو مؤسس ورئيس رابطة أهل القلم الولائية بسطيف منذ 2000

عضو اتحاد الكتاب الجزائريين..

عضو المكتب الوطني اتحاد الكتاب الجزائريين في مؤتمره الأخير

مؤسس ومشرف على عدد كبير من الملتقيات الثقافية والأدبية منها:

ملتقى أدب الشباب الأول 1996، ملتقى أدب الشباب الثاني 1997، ملتقى المرأة والإبداع في الجزائر 2000 ، ملتقى أدب الأطفال بالجزائر 2001 ، ملتقى الرواية الجزائرية بين التأسيس والتجريب 2003، شارك في ملتقيات ثقافية كثيرة منذ الثمانينات بداخل الوطن وخارجه وأجريت معه عشرات لقاءات بالجرائد والقنوات التلفزيونية والإذاعية الوطنية والعربية قدمت عن أعماله دراسات نقدية كثيرة نشرت عبر الجرائد والمجلات الوطنية خاصة الخبر، المساء، اليوم، النور، الشروق، صوت الأحرار، التبين التي تصدرها الجاحظية، والعربية كبيان الكتب الإماراتية، عمان الأردنية، الفنيق الأردنية، الموقف الأدبي السورية، مجلة كلمات البحرينية، جريدة الأخبار البحرينية.

 

كما دُرِسَ في مجموعة من الكتب منها:

1.علامات في الإبداع الجزائري ...............................عبد الحميد هيمة

2.مكونات السرد في النص القصصي الجزائري الجديد.......... عبد القادر بن سالم

3.السيما والنص السردي..................................... حسين فيلالي

4.رواية الفراشات والغيلان دراسة سيميائية....................زبير ذويبي

5.بين ضفتين................................................. محمد صالح خرفي

كرم مرات عديدة آخرها بسطيف من طرف رئيس الجمهورية وترجم له في

موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين الصادر عن وزارة الثقافة - الجزائر

 

صدرت له الأعمال التالية :

في الدراسات النقدية :

1.النص المسرحي في الأدب الجزائري............منشورات مديرية الثقافة سطيف

2.شطحات في عرس عازف الناي................اتحاد الكتاب العرب بسوريا

3.الأمثال الشعبية الجزائرية بمنطقة سطيف........منشورات مديرية الثقافة سطيف

 

في الـروايـــة :

4.سرادق الحلم والفجيعة..................دار هومه الجزائر

5.الفراشات والغيلان ................. دار هومه الجزائر

6.راس المحنه...........................وزارة الثقافة واتحاد الكتاب الجزائريين

7.راس المحنه  "الطبعة الثانية".........دار هومة الجزائر

 

في القصــــة :

8.لمن تهتف الحناجر؟...................رابطة إبداع الجزائر

9.خيوط الذاكرة .....................المطبعة الولائية سطيف

10.صهيل الحيرة .......................المطبعة الولائية سطيف

 

في المســــرح :

11.النخلة وسلطان المدينة (مسرحية).......... .دار هومة الجزائر

12.تيوكا والوحش  (مسرحيتان)............... دار هومة الجزائر

13.الأقنعة المثقوبة  (مسرحيتان).................دار هومة الجزائر

14.البحث عن الشمس (مسرحيتان).............دار هومة الجزائر

التاعس والناعس

 

في أدب الأطفال:

15.ظلال وحب .................5   مسرحيات .......دار هومة الجزائر

16.الحمامة الذهبية ...............4   قصص ...........دار هومة الجزائر

17.العصفور الجميل...............قصة..................دار التنوير الجزائر

18.الحمامة الذهبية................قصة..................دار التنوير الجزائر

مثلت له مجموعة من المسرحيات للصغار والكبار... و تحصل على العديد من الجوائز الوطنية عن أعماله الإبداعية

مع العلم أن أول كتاب صدر له هو لمن تهتف الحناجر سنة 1994

 

له تحت الطبع:

1.صمت ولغط............... قصص قصيرة جدا

2.الفاتنة..................... رواية

3.الجثة الهاربة............. رواية

وله مسلسلان تلفزيونيان تحت الإعداد

 

تحصل على العديد من الجوائز الوطنية منها:

جائزة جامعة قسنطينة سنة 1991،  جائزة مديرية الشبيبة المسيلة سنة 1994، جائزة مليانة في القصة والمسرح سنة 1994 ، جائزة وزارة الثقافة بالجزائر سنة 1997 ، جائزة وزارة الثقافة بالجزائر سنة 1999

 

قـــــــــالوا عنـــه

الدكتور الباحث عبد الحميد هيمة : إن الذي يدخل عالم جلاوجي القصصي يدرك أنه يدخل عالما ممزقا تميزه الثورة على الواقع والتمرد على كل عناصر التشويه والأسى والحزن على الواقع الأليم الذي يعيشه الكاتب...

 لكن دون الإغراق في التشاؤم لأن بريق الأمل يسطع دائما من خلال غيوم الواقع مهما كانت كثافتها.

 

لشاعر عزالدين ميهوبي رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين: يخطئ من يقول أن عزالدين جلاوجي كاتب قصة أو رواية أو مسرح أو نقد أو أنه يكتب للأطفال فقط فهو واحد متعدد يصعب اختزال تجربته في كلمات معدودات. وليس سهلا وضعه في خانة كتابة محددة. فهذا الكاتب الذي استطاع في مطلع التسعينيات أن يفرض حضوره في واجهة المشهد الثقافي بأعماله المختلفة يبتلع الزمن كما لو أن عقارب الساعة تتراجع أمام كتاباته النابعة من خجل اللذات المندفعة نحو فضاءات أكثر خصوبة وأوسع إدراكا.. بصورة تدعو إلى الإعجاب والتأمل.

 

عزالدين جلاوجي يتنفس الكلمات كما لو أنها هواءه الوحيد. وينغمس في عوالم اللغة والتراث والحداثة بحثا عن جواهره المفقودة بأناة وسعادة.. وفي روايته راس المحنه ما يجعلك أكثر اعتزازا بهذا المبدع الخارج من موسم الإنسان المطلقة. القادر على توظيف الرمز بوعي عميق مستخدما كل أدوات العمل الفني الناجح .. راس المحنه ليس رواية فقط.. إنما حالة إبداعية متفردة تنبئ عن اجتهاد صادق في كتابة نص مختلف.

 

الأستاذ الناقد حسين فيلالي:راس المحنة رؤية ذكية لمحنة الجزائر جيئت بأسلوب فني يمزج بين تكثيف القصة القصيرة وتحليل الرواية وتصوير وتشخيص المسرح وبساطة قصة الأطفال، وليس هذا غريبا على كاتب جرب الأجناس الأدبية الأربعة.. راس المحنه إضافة نوعية إلى الرواية العربية وتحول جاد لمسار الروائي عزالدين جلاوجي.

الدكتور الباحث العربي دحو: لقد حمل عزالدين جلاوجي نفسه مسؤولية ليس البحث فحسب ولكن الابتكار أيضا وسد الفراغات التي تزخر بها حياتنا في مختلف المجالات الأدبية فركب الصعب حقا، ولكنه حقق في النهاية اللذة والمتعة ليس لنفسه فقط ولكن للقارئ أي قارئ جاد

الناقد عبد الحفيظ جلولي: تنتج هذه الرواية بهاءها المثير عبر خليط شخوصاتي ومكاني بالغ في المقارباتية المتعاطاة بحيث تمهل المثقف النخبوي والمثقف المجتمعي والعامي في تشريح منطقة الانكسار من وجهة نظر مختلفة.

 

 فتنوع الشخوص وتحولات المكان تسعف المتلقي على تذوق هذه المتعة

إن الذي يدخل عالم جلاوجي القصصي يدرك أنه دخل عالما ممزقا تميزه الثورة على الواقع والتمرد على كل عناصر التشويه والأسى والحزن على الواقع الأليم الذي يعيشه الكاتب.. لكن دون الإغراق في التشاؤم لأن بريق الأمل يسطع دائما من خلال غيوم الواقع مهما كانت كثافتها.

 

الدكتور الباحث عبد الله ركيبي:

ومن الصعب أن نغوص في تجربة الأديب عزالدين فهي غنية بالمواقف والأفكار والموضوعات والأحداث والأبطال أيضا..

ولغة الكاتب صافية جزلة وله قاموسه الخاص وهو قادر على تطوير هذه اللغة .. وأسلوب الكاتب يتميز بالقدرة على السرد المتدفق المفعم بالحيوية والحركة مع الميل إلى التركيز والتكثيف الأمر الذي يجعل المتلقي مشدود الانتباه (1994)

الدكتور الباحث عبد الحميد هيمة : راس المحنه من الأعمال الروائية القليلة التي استطاعت أن تعالج موضوع المحنة بلغة شاعرية وأدوات فنية وجمالية خاصة.. هزت بعد صدورها مباشرة الكثير من القراء هزا عنيفا وجعلتهم يكتبون عنها بكثير من الانبهار لأنها أدخلتهم في عالم غريب.. ولعل أهم ما تتميز به هو هو نزوعها نحو التجريب وتحطيم الشكل التقليدي للرواية ثم تناولها العميق لموضوع المأساة الوطنية.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الحمامة الذهبية

ضجيج الصمت

كهانة المتنبي

العصفور الجميل 

 

 

العصفور الجميل

 

 

نالت جائزة وزارة الثقافة في مسابقتها سنة1999

 

الحياةُ جميلةٌ، كُلّ ما فيها يدعُو للسَّعادةِ والتّفاؤُلِ، وكُلُّ ما فيها يدعُو للفرَحِ والحُبورِ، اخضرارُ النّباتاتِ، اختلافُ ألوان الأزهارِ، إضاءةُ القمرِ، تلألؤُ النّجوم في صفحةِ السّماءِ، إشراقةُ الشّمسِ الذّهبيَّةِ، روعةُ الحيواناتِ والطّيور.

وبقدرِ ما كان طارقٌ طفلاً مهذّباً في أخلاقهِ، مجتهداً نجيباً في دروسه، كان محبّاً للطّبيعةِ الفاتنةِ ومحبّاً لكلِّ ما خلقَ اللهُ فيها، لكنّ حبَّه للطّيورِ والعصافيرِ أشدُّ من كلّ شيءٍ. يتملّكه الإعجابُ بها وهي تحلّقُ في الجوِّ باسطةً أجنحتها دون أن تسقطَ إلى الأرضِ. ويَطرَبُ أشدَّ الطَّرب لنغماتها الشَّجيَّة الّتي تبعثها في كلِّ حين، خاصّةً في الصّباحِ الباكرِ حينَ تستيقظُ مِن نومها، وفي المساءِ حين تَؤُوبُ إلى أعشاشها، تجتمعُ استعداداً للنَّومِ.

أمّا جمالُ ألوانِها،ونعومةُ ريشِها، واختلافُ أشكالها، فهي ممّا يثيرُ فيه اهتمامَه بالرّسم، فيرسمَها على الأوراقِ البيضاءِ، ويلوّنَها بالألوانِ الجميلةِ المشرقةِ.

ولكن‏َّ طارقاً أحسَّ أنَّ الطُّيورَ بعيدةٌ عنهُ، لا يَراها إلاّ في الجوِّ طائرةً محلِّقةً، أو على أغصانِ الأشجارِ، مرتاحةً مُزَقْزِقَةً. لذلكَ قرَّر أنْ تكونَ عندَهُ، يلمسُها ويداعبُها، ويلعبُ معها، وقضى ليلَتهُ مفكّراً في طريقةٍ تمكِّنُهُ من ذلك. وفعلاً وجدها، واستعدَّ لتنفيذها. 

وما إن أصبحَ الصّباحُ، وأشرقتِ الشّمسُ، حتّى اندفعَ خارجاً إلى حديقةِ البيتِ، وانْهمكَ في عمله بجدٍّ ونشاطٍ، وفجأةً دقَّ جرسُ البابِ، فأخفى ما كان يُعِدُّهُ، وهرع ينظرُ مَن القادمُ، الّذي لم يكنْ  سوى صديقِه خالدٍ، فأدخلهُ بسرعةٍ إلى الحديقةِ وراح يشرحُ له خطّتهُ.

- خالد يا صديقي العزيز، أنت تعرف حبِّي الشديدَ للعصافير.

وقاطعه خالد ضاحكا :

- يا صديقي طارق، الأطفال جميعا يحبُّونَ العصافيرَ.

ردَّ طارقٌ بسرعة :

- أعرفُ، أعرف ذلك، و مَن منَّا لا يحبُّ الجمالَ؟ لكنِّي مفتونٌ بها، ولذلك قرَّرت أن أصطادَ عصفورا.

وَبَدَا الاستغرابُ و الدَّهشةُ على وجهِ خالد وقال :

- تصطادهُ ! أبالمِقْلاَعِ أمْ بالفَخِّ؟ لا يا صديقي لا تفعلْ، رُبما ستقتلها، وحرامٌ قتلُ العصافير.

ربَّتَ طارقٌ على كتفِ صديقه مُطَمْئناًوقال:         

- اطمئنْ تماماً، فلن أُوذِيها أبداً، ولكني صنعت قفصاً هذا الصباحَ، وسوف نضعه هنا في الحديقة، ونملأُه قمحاً، ثمَّ نفتحُ بابَه، ونُلصقُ بالباب خيطاً، نمسِكُ نحن بطرفه الثاني، ونختبئُ خلف جذع الشجرةِ الكبيرةِ، حتى إذا حطَّتِ العصافيرُ، ودخلتِ القفصَ، أغلقنا البابَ، وأمسكنا بالعصفور.

وأُعجب خالدٌ بالفكرة، فهتفَ مِن أعماقه:

 - يا لها من حيلةٍ ذكيَّةٍ ! ويا لك مِن عبقريٍّ يا صديقي !          

وأخرجَ طارقٌ القفصَ مِن مَكْمَنِهِ، ملأه قمحاً، وربطَ ببابه خيطاً، وأسرعاَ بالاختفاء خلفَ جذعِ الشجرةِ، ولزماَ الصَّمتَ المُطْبَقَ.

ومرَّتْ لحظاتُ ترقُّبٍ طويلةٌ، لا تُسمع فيها إلاّ زقزقاتُ العصافيرِ تملأُ الحديقةَ.

وفجأةً حطَّ عصفورٌ جميلٌ، ورقصَ قلبُ الصديقين، وأمسكا بالخيطِ جيِّداً لجذبهِ. التقطَ العصفورُ حبَّةً وثانيةً، ثمَّ رجعَ إلى الوراءِ كأنما أحسَّ بالفخِّ المنصوبِ، وابتعد باحثاً في التربة عن طعامٍ لهُ.

وأحسَّ الصَّديقان بالحزنِ الشَّديدِ، ونطق طارقٌ قائلا:

 - ما أغباني! لقد سقطَ منِّي بعضُ الحبِّ خارجَ القفصِ لقد كُنت...

وقاطعه خالدٌ :

- اُسكتْ ها هُوَ عصفورٌ ثانٍ، إنَّه أجملُ من الأوَّل بكثير.

ولزما الصَّمتَ تماماً، ودرجَ  العصفورُ هنا وهناك مَرِحاً فرِحاً، ثمّ طار ليحطَّ فوقَ القفصَ، ثمَّ نزلَ واقتربَ من الباب، ودقَّ قلبا الصديقين بقوة فرَحاً وسعادةَ، وأمسكا بالخيط جيِّدا، لكنَّ قِطّاً ظهرَ فجأةً من هناك فاندفعَ العصفورُ طائرا نحو الأشجار.

وأحسَّ طارقٌ بالقلق الشَّديد وقال:

- تبًّا لهذا القطِّ، لقد ضيَّع علينا الفرصة.

ردَّ خالدٌ بهدوءٍ:

- اصبِرْ، فالصَّبرُ مفتاحُ الفرجِ.

ولزما الصمتَ التامَّ، لا يُسمعُ في الحديقة إلاَّ زقزقةُ العصافيرِ الجميلةِ، ومُواءُ القطِّ ينبعثُ من حينٍ لآخرَ، وأنفاسُهما المتتالية، وطالَ الانتظارُ.. تململَ طارقٌ في مكانه، وفتحَ فَاهُ ليقول شيئاً، لكنه لَزِمَ الصَّمتَ، ها هُوَ ذا عصفور جميل يحطُّ بالقرب من القفص.

ما أجملَ ريشَهُ النَّاعمَ المزركَشَ، ومنقارَه الأحمرَ الحادَّ، وساقيهِ النَّحيفتين، إنَّه يقفزُ، يقفزُ، ويَنُطُّ هنا وهناك فرِحاً بالحبِّ. أكل واحدة وأخرى، وامتدَّ بصرُه إلى القفصِ، وأبْصرَ ما به مِن حبٍّ كثيرٍ فهزَّتهُ الفرحةُ، واندفعَ نحو البابِ، ودقَّ قلباَ الصديقين فرَحاً وخوفاً، فرحاً لأنَّهما سَيقْبِضَانِ على هذا العصفورِ الجميلِ بعد قليلٍ، وخوفا لأنَّهما كانا يخشَيَانِ أنْ يطيرَ إلى غيرِ رجعةٍ.

وفعلاً توقَّفَ العصفورُ الجميلُ عندَ البابِ، نظرَ هنا وهناك، وطارَ، فحطَّ فوق الشجرةِ، وأرسلَ زقزقةً جميلةً جدًّا، كأنما يدعو أصدقاءَه إلى مُشاركتِه في هذه الأُكلةِ الشَّهيَّة اللَّذيذةِ.

قال خالدٌ بغضبٍ :

- لقد ضاعتْ منَّا الفرصةُ الثالثةُ والأخيرةُ، وذهبَ صبرُنا أَدْرَاجَ الرِّياحِ.

ردَّ طارقٌ وهو يشيرُ بإصبعه:

- اُنظرْ إنّه هناكَ، يدعو أصدقاءَه العصافيرَ كي يشاركوهُ في هذه الأكلةِ اللَّذيذةِ.

وفِعلاً حطَّ العصفورُ الجميلُ ثانيةً قُرْبَ القفصِ، نظر هنا وهناك في حذرٍ شديدٍ، ثمَّ طار فحطَّ فوقَ القفصِ، تأمَّلَهُ، تأكَّدَ مِن وجودِ الحبِّ داخلَهُ، ثمَّ قفز إلى الأرض وَانْدفعَ داخلاً.

فأسرعَ الصَّديقانِ إلى جَذبِ الخيطِ، فانغلقَ القفصُ، وانقلبَ، فانقلبَ العصفورُ المسكينُ داخلَهُ، واندفعَ الصَّديقان نحوهُ، يفرحانِ وهما يقولانِ:

- أتعبتَنَا أيُّها العصفورُ الشَّقيُّ.

مدَّ طارقٌ يدَهُ ليمسِك بالعصفورِ الجميلِ، ففرَّ متملِّصاً منه، حتَّى انْزوَى في الرُّكْن، لكنَّ يدَ طارقٍ أمسكتْ بهِ وأخرجتْهُ،قال خالدٌ وهو يراهُ :

- الله ! لم أرَ مثلهُ في حياتي أبدا، دعني أُمسكه وأقبِّله.

قبَّلاهُ على رأسه الصَّغيرِ الجميلِ وأعاداهُ إلى القفص، وعلَّقاهُ على غصنِ شجرةٍ قريبٍ مِن الأرضِ، وراحا يتأمَّلان العصفورَ، وهو ساكنٌ منكمشٌ حزين، وقال مندهشا:

- ما بال هذا العصفورِ؟ لقد تغيَّرتْ حالُه تماماً، ولم يعدْ يغرِّدُ فرحاً كما كان.

ردَّ خالدٌ :

- عندي فكرةٌ، هيَّا نصفِّقُ ونغنِّي له،   

وسوف يذهبُ عنهُ الخوفُ.

- هيَّا..هيَّا..واندفعَا يصفِّقانِ ويغنِّيانِ ويدورانِ حولَ القفصِ.      

غَـرِّدْ يا عُصفُور       وأنشدِ الألحَان

وأطرِبِ الأطْفَال        بِصوْتِك الرنَّان

أنا بـِك فرْحان        أنا بِـك وَلهان

غـرِّد يا عُصفور       وأنشدِ الألحان

لكنَّ العصفورَ الجميلَ لم يحرِّكْ ساكناً، وبقيَ جامداً حزيناً مُنزوياً في ركنِ القفصِ، ووقفَ الصَّديقانِ حائريْنِ، إنَّهما في وَرطةٍ حقًّا فما الحل؟

قال خالد : لنواصلِ الغناءَ

 واندفعا يغنِّيان :

عصفورُنا الجميل        ذيلُه طويـل

ساقُه  نحيــف         جناحُه خفيف

مـنقارُه  صـغير        ريشُـه غزير

شكلُه  بـديـع         قفـزه سريع

يا ربِّ احفـظْ عـصفـورَنا الصَّغير

احفـظْه مِـن كلِّ ظــالمٍ شِـريـر

يا ربّ...

وتوقَّف الصغيران عنْ الغناء فجأةً، وبَدَا عليهما خوفٌ شديدٌ، ما الّذي تغيَّر؟ لقد شاهَدَا الأبَ يُقبلُ بين أشجارِ الحديقَةِ، ولم يتحرَّكا، ولم يَنطِقا بكلمةٍ، حتَّى وصلَ إليهما.

- السَّلام عليكما.

وردَّا بصوتٍ خافتٍ :

- وعليكَ السَّلامُ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

تفحَّصَ الأبُ المكانَ ببصَرهِ الثَّاقبِ مِن خلفِ النَّظَّارة وقال:

- يا سَلام قفصٌ وعصفورٌ !

واندفعَ طارقُ محاولاً إرضاءَ أبيهِ فقال:

- لا شيءَ ياأبتِ، سِوى أَننا صَنعنا قفصاً صغيراً، اُنظرْ ما أبدَعهُ ثم اصطدْنا عصفوراً صغيراً، انظرْ ما أجملَهُ ! نحن نحبُّ العصافيرَ يا أبَت.

ردَّ الأبُ بهُدوءٍ :

- حبُّكما للعُصفورِ لا يكونُ بسِجنِه لأنَّ العصَافِير لا تحبُّ أنْ تحيَا وتعيشَ إلا حُرة طليقَة في الطَّبيعة، حيثُ خلقَها اللهُ، وتصوَّرا لوْ أنَّ كلَّ واحدٍ منَّا اصطادَ عصفوراً لخلتِ الطَّبيعةُ مِن العصافيرِالجميلةِ، و ما أتْعسَ الطَّبيعةَ دونَ عصافيرٍ! ...اُنظرَا إليهِ كيفَ هُو حزينٌ، مَن سيحملُ اللَّيلةَ إلى فِراخهِ الصِّغارِ طَعامَهُم؟ ومَن يحميهِم في عُشِّهِم مِن البردِ والأعداءِ، طبعاً لا أحدَ.

وأجْهشَ الصَّديقانِ يبْكيانِ حُزناً، لقدْ أحسَّا بالخطإ الجسِيمِ الذّي ارْتكباهُ في حقِّ العصفورِ الجَميل.

ربَّتَ الوالدُ على رأسيْهِما بحنوٍّ و قال:

- لا تبْكيا، سنُطلقُ سراحَه، و لكن يجبُ أنْ تُكَفِّرا عن هذا الذَّنْب الذي اقترفتُماهُ في حقِّ هذا العصفورِ  المسكِين.

وانْدفع طارقٌ ليقولَ بحماسٍ:

-سنكَوِّنُ جمعيةً، نُسمّيها جمعيةَ حمايةِ العصافيِر، نُفهِمُ مِن خلالها النّاسَ جميعاً و الأ طفالَ خاصّةً، قيمةَ العصافيرِ، ووجوبَ حمايتِها.

وأعجبَ خالدٌ بالفكرةِ فعلَّقَ فرحا :

- فكرةٌ جميلةٌ، سأكونُ عضواً نشيطاً فيها، نحمي العصافيرَ في الطَّبيعةِ،ونُدافعُ عنها ضدَّ كلِّ الأشرارِ.

ومدَّ الأبُ يدهُ إلى القفصِ، فأمْسكَ بالعصفورِ بلُطفٍ شديدٍ، وقدّمَهُ لطارقٍ و قال :            

- قَبِّلاهُ، و أطلِقا سراحَهُ.

قبّلهُ الصّديقانِ، ودفعَ به طارقٌ إلى الأعلى، فصفَّق بجناحَيه، وانْدفعَ فحطَّ على غُصنِ شجرةٍ، ونظرَ إليهِما بفرحٍ، ثمَّ أرسلَ تغريدةً جميلةً جدًّا، كأنّهُ يشكرُهم و يُودِّعُهم، ثمّ انْدفعَ محلِّقاً في الفضاءِ حيثُ الحرِّيةُ، والحياةُ الجميلةُ.

 

 

 

كهانة المتنبي

 

أعلن هذا الصباح عن موت فتاة في الثامنة عشرة من عمرها.. قيل إنها (قتلت) نفسها.. هكذا قالوا.. وقد وضعتُ كلمة قتلت بين ظفرين حتى لا تتسرب عدواها إليك وإلى غيرك ممن يقرأها.. واتفقوا جميعا على أنها في ريعان الشباب، وأنها في ربيع العمر، وأن ما أقدمت عليه هو عمل صبياني يدل على طيش وتهور، وأجمعوا أنها في نار جهنم، في سقر، في أخطر دركة من دركات العذاب، لأن الروح وهبها الله وله وحده أن يأخذها ويتصرف فيها كيفما يشاء.

وقد ركزت القنوات الأجنبية هذه الأيام على الحرب الضروس التي تدور رحاها في الشيشان والبوسنة، متهمة في الوقت نفسه جوهر دوداييف بأنه زارع للإرهاب الدولي، وبأن عزت بيقوفيتش دبلوماسي خطير يحسن المناورة والتهرب من الفخاخ المنصوبة له، أو على حد تعبير أحدهم يفجر القنابل التي وضعت له في واضعيها.

علق أحد الشيوخ بلسان الحكيم وهو يحدث فتى يتقد حماسا ويضطرم حيوية: "ياولدي أولها رومية وآخرها رومية، هكذا قال العارفون، والثورة ضد قضاء الله كفر يا ولدي، والمكتوبة في الجبين لاتمحوها الأيادي".

أنا أحب المتنبي..

هذا الأعمى الذي أراه أمامي أصبح يثير عجبي ودهشتي، ليس لأنه أعمى، بل لأن أكثركم أعمى ولا يستطيع أن يرى إلا ما يحط على أرنبة أنفه المجدوعة، فهو رغم ذلك يكلف نفسه العناء ويخرج مع الصباح الباكر إلى سوق الجملة يملأ عربته اليدوية خضرا، ويدفعها أمامه إلى ساحات الحي وشوارعه ليبيع تلك السلعة، يستغل هامش الربح فيها ليسد رمق أولاده، وهو يحلم بأكثر مما يحلم أحد منا.. حدثني مرة قال:"العين نافذة والرؤية مكمنها المصباح الدري الذي يوقد من شجرة مباركة زيتونة لاشرقية ولا غربية، يضيء زيتها ولو أحاطت به أسوار الغشاوة.. حافظ يا ولدي على المصباح الدري.. احمه من العواصف والزوابع واختر له أطيب الزيوت.." سمعه شاب مفتول العضلات يملأ الوشم الأزرق ذراعيه، وعلى أذنه اليسرى قرط هندي، وظيفته في الحياة معاكسة الفتيات والتعليق على المارة :"من أحبه الله حسن خلقه".

آه معذرة نسيت أن أحدثكم عن المتنبي..

ياكوكبا دريا في أفق عزنا..

ياسيفا يمانيا في نحور ذلنا..

تحاصرني كلماتك الحلوة.

أحلى من عيون الجميلات..

أحد من الرماح القاتلات..

اصرخ في أذنيَّ... .

اصرخ في آذاننا... .

يا... من ضحكت من جهلها.

لا تزد.

اسمع لحديث الإمام.

حدثنا إمامكم إمامنا في خطبة سابقة قال محللا كلمة ديمقراطية :"الأصل فيها دمقرط، الدال لا محل لها من الإعراب كالشين والجيم و... أما مقرط يمقرط مقرطة فمعناها أكل المقروط، والمقروط هو ألذ حلوى شعبية تنتجها أنامل نسائنا.

ثم أورد لنا حديثا طويلا عنعنته أكبر من متنه لم أحفظ منها إلا مايلي:

حدثنا أحدهم عن أحدهم، عن جده عن حبيبته، عن حليلها عن خليله، عن أمين وهو من رواة الحديث المتوتر في مسند نوح بن أبي مريم :" أن المتنبي شر الناس، وأن أعظم سِفر يُتلى هو الإيضاح في علم النكاح، ما تمسكت به أمتي اهتدت وما تركته ضلت".

أما في الخطبة الأخيرة فقال:" عليكم بالسمع والطاعة، ولو تأمر عليكم لص زنديق، فطاعة أولي الأمر طاعة لله".

أعلم إخواني، أصدقائي، أعدائي، أن كلامي هذا ممل، وأنه خلط، وأنه ربما لعل قد إن.. يكون سفسطة، وأعرف أنكم تقولون في قرارة أنفسكم قطع الله لسانه.. لا بأس لأن لساني أصلا مقطوعة.. عندي قلمي فإن كسرت فسأشتري أخرى، وإن لمن أستطع أن أشتري فسأسرق، وإن لم أستطع أن أسرق فسأكتب بغير القلم.. وغير القلم مجال رحب لكل التخمينات.. سأفتح لكم ظفرين وضعوا بينهما ماشئتم (... ... )، وأنا أعذركم حين تتقززون من هذا الكلام، لأن أمعاءكم لم تتعود على هضم ما يشاكله.

مر بي جيش عرمرم.. خميس بشرق الأرض والغرب زحفه وفي أذن الجوزاء منه زمازم.. عرفته على التو، أقصد أني عرفت فيه بعض الجند.. خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، وكان قائدهم الثعلبي من بني ثعلبة.. وكانوا جميعا مدججين بأسلحة لا نظير لها، مكتوب عليها صنع دونكيشوت، وكانت الرايات تخفق في الأفق خضراء مكتوب عليها عبارة واحدة "جيش الخلفاء" تحيرت.. سألت أحدهم عن معنى كلمة خلفاء، فجاءني بقاموس من المعاني... "اختلاف أمتي رحمة.. وخلوف فم الصائم.. وخلف من بعدهم خلف.. وخلف در.. والمخلفون من الأعراب.. وخالف تعرف... .." وفررت من أمامه كارها لهذا الركام من الألفاظ التي لا تحتمل.

وأسرعت إلى غيره فسألته إلى أين المسير، فأخبرني أنهم سائرون لدعم الحلفاء.. والحلفاء كما أُخبرت مشتقة من الحَلفاء، كما أخبرت أنهم سائرون لمحاصرة الحجاج بالكوفة، وشرذمة من الخوارج بالبحر الميت.. نعم لأن الخوارج حين رُموا في بحر العرب، عادوا إلى الحياة، فليرموا هذه المرة في البحر الميت.

أما أسماء فقد علمت من مصادر قيل إنها جد مطلعة أنها قد زارت ساحة المعركة، لمقابلة ابنها المقاتل في صفوف المتمردين، لتلقنه آخر آية نزلت من سدرة العرش، وهي آية جحا، ونصها المتواتر المحفوظ في الصدور "إذا احترقت قبيلتي فلينج بيتي.. وإن احترق بيتي فلينج رأسي"

ورأيت المتنبي في ثياب درويش يصيح بملء فيه:"يا جهلت.. أضحكت نفسها.. غيرها" استغشيت ثيابي فانطلق مهرولا.. حين لحقت به وجدته في سوق العصر يمارس الكهانة، وحوله جمع من الكهان يرددون:"نقسم بالذئب الأطلس.. والثعبان الأملس.. أن أبا الطيب فينا رئيس المجلس.. وصاحب العز الأقعس.."

أما الناس فكانوا يهرعون كحمر مستنفرة، فرت من قسورة، يتجهون إلى خيمة نصبت هناك، ترتفع فيها رائحة الشواء، ويقف على بابها البديع الهمذاني يصيح في الناس:"السوق أقرب.. وطعامه أطيب.. شواؤنا يتقاطر عرقا.. وتتسايل جذاباته مرقا.. حلواؤنا ليلية العمر.. يومية النشر.. تذوب كالصمغ.. قبل المضغ"

لم أدخل خيمة الهمذاني على الإطلاق لأنه لم يكن لي عقد على نقد، بل عدت أدراجي إلى المقبرة لأحضر جنازة الفتاة الحسناء صاحبة الثامنة عشرة، لكن الدفن لم يتم لأن الناس اختلفوا في جواز الصلاة عليها من عدمه.. وراح كل فريق يسرد أدلته وشواهده.. ووصل الحد ببعضهم أن جعلها في درجة الشهداء لأنها عشقت، فكتمت، فماتت دون ذلك.

أما أنا فقد عدت إلى بيتي في انتظار الإعلان عن موعد الدفن.          

عزالدين جلاوجي صيف 1998

 

 

ضجيج الصمت

 

قصص قصيرة جدا

الناقصة

 

أخبرتهم حين جمعتهم إليها أنه قادم إليهم وأن الملوك إذا دخلوها أفسدوها وأذلوها وأخبرتهم أنها لن تبت الحبل إلا معهم.

مال أحدهم على جاره نجيا وقال :

-نورها في عينيها..

قال جاره وعلى شفتيه لعاب :

-وعلى صدرها تفاح ورمان..

مال أثخنهم حتى لامس رأسه الأرض.. نظر إلى أسفلها وقال: 

- لها نخلتان عن يمين وشمال.. بينهما زرع وطلع نضيد.. وماء جديد.

انفجروا جميعا ضاحكين فرفع رابعهم رأسه وقال:

- أما رأسها فناقص

وتنابحوا حتى جزوه ثم اقتسموا ما تبقى بينهم :

فم ساقان.. أنف وفخذان.. صدر وخدان.. بطن وعينان.. وحين استووا على عرش البطن دب في أوصالهم فساد الملك وذله.. 

 

 

المنحة

جمع مجلس وزرائه.. قص عليهم رؤياه:

- رأيت أرجلا مقطوعة تدلك ساقي.. رأيت بعدها نفسي أعدو كالغزال

قال كبيرهم :

- أطال الله عمر مولانا.. تعبير الرؤيا أن تقطع بعضا من أرجل الرعية ثم تدلك بها ساقيك وستشفى من شللك الذي لازمك عقودا.

هلل المجلس لهذا التفسير العبقري.. ثم ازدردوا ألسنتهم.. انقدح مولاهم شررا وقال:

- بل أعلنوا في الرعية أني خصصت منحة لكل معوق تكفيرا عن أفعالي في قطع أرجل الصعاليك.

حين بزغ الفجر تجمهر أفراد الرعية يتقدمهم كبير الوزراء وقد قطعوا جميعا أرجلهم

 

 

الصنم

بذر في قلوبهم تبر المحبة.. طوق عيونهم البريئة بباقة أكمامها..

 - أنا.. ابنكم.. الأوفى.. و.. خادمكم.. الأمين..

نمت حوله الأوردة والشرايين أكاليلَ غارٍ.. ثم رفعته على عرش القلب..

حين استوى على العرش غدت شرايينهم وأوردتهم أذرع أخطبوط تمتص منه دفء الطين وتحقنه بإكسير الرب.. صار صنما.. ثم نصف إله.. ثم إلها.. وصار بينه وبينهم برزخ لا يبغيان.. رماهم في الجب وهم يجأرون.. ثم قذف في قلوبهم باقة من سهام نصلاتها

- أنا.. ربكم.. الأعلى..و.. إلهكم.. الأكبر..

 مسخوا ربهم عجوة.. ثم أكلوه

 

الجــدار

قال صاحبي:

- يجب أن نهدم الجدار.

نظرت إليه بعينين زائغتين وتمددت قريبا منه.

لم يسكت.. أعاد ثانية :

 - يجب أن نهدم الجدار

ضغطت على بطني الجائع وانكمشت .

تضعضع الجدار كسن عجوز.. تهاوت بعض حجارته علينا.. سحبني صاحبي بعيدا خوفا علي.. عاد الجدار إلى مكانه.

تحاملت وقمت مبتعدا.. أمسكني صاحبي يعيدني قائلا:

- يجب أن نهدم الجدار

وما يعنيني أنا من أمر الجدار.. فليسقط.. فليتهاو.. فليتشظ.. ماذا يعنيني أنا.. منذ سنوات نبهنا الناس أنا وصاحبي إلى أن الجدار سيتهاوى.. وقلنا لهم أن تحت الجدار كنز الآباء والأجداد وإذا تهاوى الجدار سيفتضح أمره وسيكون عرضة لنهب اللصوص والقراصنة .

لم يبال الناس في أول الأمر وحين أصررنا وألححنا كلفونا بالمهمة.. قالوا:

أنتما أقدر.. ألا تدعيان علم البناء؟

لم ننكر ذلك وقررنا أن نهدم الجدار ثم نعيد بناءه من جديد لكننا طلبنا مؤونة تكفينا طول أيام العمل.. وماذا طلبنا؟ كسرة وماء.. لا يقدر المرء على العمل دون كسرة وماء.. فانقسم الناس إلى طوائف ثلاث.

طائفة وافقتنا على أمرنا

طائفة طالبتنا بالعمل دون شروط

طائفة غلبوا على أمرهم صاحوا في مسمع المدينة

-وما دخل هذين الدجالين؟

ثم تطورت نظريتها إلى أن هدم الجدار وإعادة بنائه تدخل في قضاء الله وقدره وأشاعت في الناس أننا بفعلتنا هذه سنجلب السخط للمدينة .

ثم تطورت نظريتها إلى وجوب حمل السلاح ضد كل من يخالفها الرأي .

قررنا أن نجمع الناس في ساحة المدينة ليسمعوا منا ونسمع منهم.. وحين تعالى لغطنا سمعنا دوي تهاوي الجدار..

هرع معشر منا.. لم نجد إلا حفرة الكنز وقد أخذه القراصنة.         

 

 

التجاحش

 

تجمد الدم في السيقان الملتوية.. تثاءبت الأشداق.. لف السأم العيون.. وحدها كلمات الإمام تطوف بين الصفوف المتراصة كدكتاتور يفرض سطوته على الجميع..

شخر شيخ عميقا.. حك الشاب عينيه ناهرا عنهما النعاس.. حوقل كهل خلفهما.. تململ آخر بجواره.. ضغا الميكرفون.. لعنت الثريا اليوم الذي ركبت فيه في هذا المكان..

اتسع فم الإمام وتطاول لسانه.. خرج من أعماق فمه.. خرج من بين شفتيه.. تجاوز الصف الأول والتف حول رقبة شاب في الصف الثاني كانت تظهر على محياه علامات التذمر..

سأل الإمام في منتصف خطبته الطويلة عن طريقة دفع أجرة ذابح الأضحية.. أبالنقود أم باللحم؟ ثم جزم يقينا أنها تحرم باللحم..

وما كادت الميم تنزلق من على شفتيه ساقطة في متاهات الآذان.. حتى أرعد بلعوم قريب كان يحتضن المدفأة جازما أنها تحرم بالنقود..

وتجاحشا.. وانقسم خلق بينهما متجاحشين يكدسون الكتب الصفراء يبحثون بين طياتها عن دليل حتى امتلأ المسجد كتبا وأجسادا وتجاحشا..

وفجأة انطفأت الكهرباء.. فساد الظلام.. وتثعبن البرد القارص.. وارتعدت الفرائص.. واصطكت الأسنان.. والتوت الألسنة.. وجاءهم من أقصى المدينة رجل يسعى قال:

- إن المدينة تغط في ظلام نتن.. لقد احترق مولد الكهرباء وعلينا أن نبعث أحدنا بتبرعاتنا ليستورد لنا جهازا جديدا من بلاد الإفرنج. 

 

العين

 

تأملت أنا وجاري الشمس المشرقة.. جلسنا عند عتباتها نغترف من فيضها.. توسطت الشمس السماء فرنونا معا نعانق خصلاتها مُوَلهين.. حين مالت إلى الغروب اكتشفت أنا وجاري أنها تغرب في عين حمئة..

قال صاحبي :

- يجب أن نطلبها

قلت :

- طلابها مغامرة خطيرة

سمعت أمه تحثه على المغامرة صوب العين الحمئة وهي تقول:

- أدركها قبل الأفول

انهدت جنبات أذني من صيحات أمي وهي تقول:

 - بني لا تذهب إلى الأفول

رحل جاري وقعدت.. بعد زمن استنفدت ما جمعته من الشمس.. حين أفلت أمي وحاصرني القر.. كان جاري يشق في الأرض وفي السماء سواقي من العين الحمئة.. وكانت الشمس تجري تبرا ولجينا تطرز أرض جاري..

كان هو يقفز في أرضه جذلان.. وكانت أمه تشرق عليه شمسا.

 

الحافلة

الحافلة تسير ...

وكان لغطها يرتفع أحيانا وينخفض حينا.. وكان الخلاف بيننا شديدا وحيرتنا عميقة.. إلى أين تسير الحافلة؟ ومن يقودها في هذا الاتجاه؟

كان مكان السائق مغطى بحاجز من الزجاج المعتم.. نهض أحدنا من كرسيه المثقوب وقال: ياقوم يجب أن نعرف أمرين في هذه الحافلة :

- من يقودها ؟ وإلى أين تسير بنا ؟

وكانت الحافلة تسير...

استيقظ ثان من نومه.. طويلا.. بدينا.. جاحظ الخدين.. غائر العينين.. منقلب الشفتين وقال :

- وما يعنينا نحن فلندعها تسير ألا تدرون أنها تسير بأمر ربها بسم الله مجراها ومرساها .

قفز ثالث من كرسيه وسط الحافلة وهي تكاد تميل بنا.. رفع رجلا واتكأ على عصا.. عدل من عمامته ولحيته القلقة وبدأ في إلقاء محاضرة عن المرجئة والجبرية والمعتزلة وأنهى محاضرته بقوله:

- .... وستنقسمون إلى سبعين فرقة كلكم في النار إلا أنا...

وسقط مغمى عليه وقد تهاوى على خده حذاء أحدهم.

غضب أحدنا فاندفع إلى مقدمة الحافلة وكسر زجاجها فاكتشفنا أنها بلا سائق... تملكنا الفزع والهلع وصحنا جميعا :

- يا للكارثة !!!

ضحك ذو اللحية القلقة حتى بانت أضراسه : لا كارثة ولا هم يحزنون دعوها فإنها مأمورة 

قال ذو الكرسي المثقوب:

- يجب أن نختار لها قائدا ويجب أن نحدد لها اتجاهها.

قفز ذو اللحية القلقة فاستوى على المقود وهو يصيح:

- لا قائد إلا من اختاره الله.

قفز فوقه مبردع الشفتين وقال

- باسمكم يا أبناء الحافلة سأقودها إلى بر الأمان.

قفز بجوارهما ذو الكرسي المثقوب.. أمسك المقود بكلتا يديه وقال:

- وأمرهم شورى بينهم

قام جاحظ الخدين من مكانه.. استعرض عضلاته.. لمعت نجومه.. ابتلع الجميع ألسنتهم..

كانت الحافلة تتمايل بعنف من سفح الجبل إلى حافة الوادي.. اندفع جاحظ الخدين وقفز على المقود صائحا:

- التصحيح.. التصحيح..

انهدت الأجسام الثلاثة.. طارت بعض أجزائها.. رأس هنا وكفان.. بطن هناك وعينان.. صدر هنالك وفخذان.. تشظى المقود هباء منثورا.. تكوم كل ركاب الحافلة في مؤخرتها متكدسين.. رأيت عمود المقود يخترق بطن جاحظ الخدين.. كالوعل نطحت الحافلة صخور السفح.. ثم تهاوت في قعر الوادي.

 

 

الغراب

كنا عقدا.. وكان أخي الأكبر واسطة للحكي..

انفتحت إليه الآذان كما الأشداق.. لم أفتح إلا أذني.. نبهني:

- أيها الطالب ولو بالصين.. دع شدقك مفغورا لتسمع.

ومضى يحكي:....

ذات يوم خرج من أهلنا رجلان أحدهما لا يقدر على شيء وآخر باحث عن الحوت.. جمعت بينهما الطريق وفرقت بينهما الوِجهة.. وانتهى بهما المسير إلى قوم ضلوا.. ظلوا أمدا يبحثون عن رأس ويدين.. قالوا بل نحن نختار الأكفأ منكما...

ثم انصرفوا وعادوا ومعهم غراب اتفقوا على أن يزجروه من بعيد ليحط على أحدهما.. فعلى أيهما وقع كان الرأسَ واليدين.. وماكاد حتى وقع على الذي لا يقدر على شيء.. فاندفعوا يرفعونه فوق أكتافهم ويهتفون بحياته.. ومن ذاك وهم يغرفون من رأسه إلى رؤوسهم ومن يديه إلى رقابهم....

سكت واسطة الحكي زمنا.. والأشداق كالمحقن تنتظر بقية الحكاية.. ثم واصل متحسرا:

ولقد زرته مهنئا فوجدته في أحسن حال.. نما الزرع الذي بذره في الرؤوس والرقاب.. وصار أولئك الأغراب مريدين يقيمون له التماثيل يعكفون عليها آناء الليل وأطراف النهار.. غير أن الباحث عن الحوت حسده فعارضه فسجنه فقتله.

ومذ رجعتُ من سفرتي تلك وأنا أحلم بالغراب يأتيني لأُبعث فيكم أو في غيركم فأنا صاحب الذي لا يقدر على شيء وتربه وصنوه..  وما يحز في نفسي أن يحسدني الطالب ولو بالصين فأسجنه وأحز رأسه...

عجبت حباتُ العقد.. وكلفوا أنفسهم مشقة البحث عن الغراب.. اكتروه بالغالي والنفيس من قوم الذي لا يقدر على شيء.. وزجروه فحط على واسطة الحكي.................   

 

قيـــؤهم

سليمان رجل معوق....

تتسابق الخطوات.. تتزاحم المناكب.. يتجشأ باب المسجد.. يكاد يلفظ أنفاسه.. تئن الزرابي.. تضيق أنفاسها.. تخنقها روائح الجوارب..

أكمل الحاج بلعوط غداءه مع رئيس البلدية وهرع إلى المسجد.. صال ذات اليمين وذات الشمال باذرا نقوده في أشداق المتسولين.

سليمان رجل ولد عاجزا عن المشي والحديث....       

تتكدس الأجساد.. تغط.. فجأة تنهض.. تقعد.. تهبط.. تصاعد.. تهابط.. تنفر فارة.. تتسابق الخطوات.. تتزاحم المناكب.. يتجشأ المسجد.. يلفظ الجميعَ..

سليمان رجل يقبع على دابته الحديدية.

يتشرذم الجميع.. يتشظون.. تتعاوى الشجيرات المغروسة منذ سنوات.. تفقد بعض أغصانها.. تلملم أحزانها ثم تسكت.. ينثر بلعوط بين فخذي سليمان حفنة من نقود ويمضي كالحمر المستنفرة..

سليمان رجل معوق أكمل صلاته وجمع قيأهم ومضى يدب....

حين كان الحاج بلعوط يكدس الملايين في خزائنه الحديدية.. كان سليمان يقسم ما جمع مع جارة بلعوط الأرملة 

 

 

وأنت حبيــــــبي

ذات صباح:

حين كانت تسير بجنبه على ضفة النهر كانت ترى العالم كله محصورا في ذاتها وكانت ترى نفسها أميرة تمد رجليها الناعمتين ليقبلهما كل أفراد رعيتها..

داعب النسيم خصلات شعرها فانتشرت تلهث خلفها.. ضغط على أصابعها.. ضغطت على أصابعه.. جلسا على صخرة.. كان الماء خلفهما يعزف ألحانه العذبة.. تأمل عينيها..تأملت عينيه.. قالت بصوت رخيم.

- فريد أحبك.

رد عليها وقد كاد يمخر عينيها

- ليلى أحبك

ذات ضحى:

جلست على الأريكة الفاخرة.. أخرجت من حافظتها السوداء مرآة صغيرة.. تأملت وجهها كان جذابا.. لقد وضعت عليه المساحيق بعناية فائقة.. أعادتها إلى الحافظة.. وضعتها على الأريكة المجاورة.. نظرت إلى ساعتها.. الناس بدأوا يتوافدون.. والحفل سيبدأ بعد قليل وهو لم يأت.. نظرت خلفها في قلق.. رأته داخلا.. ابتسمت.. رفعت حافظتها.. جلس سليم بجانبها.. أنعشته رائحة عطرها.. استفاقت نفسه من غفوتها.. تأملته.. قال بصوت خافت:

- أرى في عينيك نوارس الحب البيضاء.. أحبك وحب عينيك يحاصرني ياليلى

قالت وهي تداعب نسمات الأحلام:

- أحب في السين سماءك.. وفي اللام ليلك.. وفي الياء يمك.. وفي الميم ملاكك.. أحبك.. أحبك يا سليم.

ذات مساء:

- مراد !كم انتظرتك في المرافئ القديمة يا حبيبي !

- أريد أن ألقاك في المرافئ الجديدة يا حبيبتي

وضحكا.. تشابكت ذراعاهما.. قال:

- ماذا تشربين ؟

- دمعك يا حبيبي

- مالح

- في حلق غيري

- وفي حلقك؟

- كالشهد المصفى

- سأكون فارس أحلامك.. فهل أنت لي يا ليلى؟

- أقسم أني لن أكون لغيرك.. أتحبني أن أكسر نايي..؟ أحبك.. أحبك..

ذات مغيب:

فتح الباب.. ولج غرفته.. رأى عروسه ترفل في ثوبها الأبيض حمامة فاتنة.. شدها من يديها.. أجلسها على السرير.. أسند رأسه على الوسادة.. أحس بالسعادة تغمر قلبه.. أطبق عليهما الصمت.. حلقا في فضاء الأحلام.. كسر حاجز الصمت وقال:

- كم أعشق الإبحار في عينيك ياليلى !

 - وكم أعشق الاحتماء بأسوارك العالية ياكريم !

صمت لحظة.. نظر في عينيها.. كيف أكتشف صدق المرأة من كذبها؟ وسأل

- هل حبي هو حبك الأوحد؟

- لقد انتظرتك يا حبيبي كالعذراء.. كالراهبة في معبد الحب.. كالجوهرة في أعماق المحيطات.. قلبي يا حبيبي كالكهف الذي لم يدخله سواك.. صدقني أنا معدن ذهب لم يكشفه غيرك.

أحس بالنشوة تغمره فلفها بذارعيه وراح يحضنها إلى صدره بعمق.                           

 

العروس

 

يعصرك الحزن.. يسحق قلبك بحوافره البهيمية.. يلف حول رقبتك سلكا معدنيا ثخينا.. يفترس قلبك.. تطلين من النافذة.. من الباب.. تتسارع أنفاسك.. يتصبب عرقك.. تهمين بنزع السقف.. بإسقاط الجدران.. تحسين بالقيء موجا عاتيا يدهم كل أحشائك.

كل ما حضرتيه من كعك وكل ما نضدتيه من فواكه وحلوى غدا أمامك أكواما من الحجارة المتربة.

كل ما تتحلين به من جواهر وذهب غدا أمام ناظريك حديدا صدئا.. كل ما تلبسينه من حرير وديباج غدا أسمالا رثة.

وتزداد دقات قلبك كلما تسارعت دقات الساعة.. خُطاب ابنتك البكر ينتظرون.. ليس مع النسوة سوى أمك التي قوس الدهر ظهرها.. ولا مع الرجال سوى بكرك الذي لم يتجاوز الخامسة عشر.. لكنه لم يأت..

وينتهي إلى سمعك صوت نحيب مكتوم.. تطلين من الباب كانت ابنتك العروس في أثوابها الزاهية.. تركن إلى زاوية الحجرة.. تغرس رأسها بين ركبتيها.. تنتحب.

وتنفجرين بكاء.. تغرسين رأسك بين ركبتيك.. ينبهك صغيرك إلى مجيء والده.. تزداد دقات قلبك وتتمتمين: اللهم استر.. اللهم لا تفضحنا.. وتندفعين إلى الباب.. تفتحينه.. يتأملك لحظات ثم يسقط على صدرك ثملا.

وتسقطين أرضا تدور عيناك.. تدور بك الأرض.. تتيبس أعضاؤك.. تغيبين عن الحياة.

حين فتحت عينيك من الغد كانت أنابيب المصل تطوقك كشبكة عنكبوت.. وعيون عشرة ترقبك في حزن دامع.

تتأملين ابنتك العروس وقد تجردت من زينتها للمرة العاشرة وتعودين لإغماءتك.

 

 

اللقلق

 

ابتلعت ريقي.. بللت صدأ حلقي.. عدت منكمشا إلى فراشي.. وحدها الحمى تنضج كل جزء من جسدي.. ووحدها عرافة المدينة مازالت تحكي رؤياها:

- سيحكمكم لقلق أفاك.. حلو اللسان.. عذب البيان.. منقاره كالسيف البتار.. وفي عينيه نار ونار.. رأيته في ما يرى النائم يستف أمواج النمل.. والدم يهدر من بين شدقيه.

ضحك الجميع وصاحوا:

- أضغاث أحلام.

قبل الفجر تسللت عيناي إلى ساحة المدينة.. كانت الأرض حمراء تحتضن جثثا بلا رؤوس.. وكان اللقلق يجلس على عرش بناه من رؤوسهم القانية.. وكان يمد يديه يمسح منقاره من دمائهم.  

 

أنا ربكم

 

دخل المدينة على حين غفلة منا.. كانت الريح عاصف فيها صر.. وكان في الجو برد وقر.. لزمنا جميعا بيوتنا لا نبرح.. وكان صوته يصل قلوبنا كعواء الذئاب أو كشخير الغيلان.. دثرنا الرعب فبتنا نرقب عين الصبح وما كاد حتى وجدناه يقف في الساحة فيه من كل شيء إلا شيء الإنسان.. حين اكتمل جمعنا أخرج حبالا فإذا هي حيات ومد قامته فإذا هو أفعوان.. فغرنا جميعا أفواهنا ورحنا نرمي إليه بكل ما نملك.

صاح فسكتنا قال:

- أنا ربكم الأعلى.. لي هذه المدينة.. أنتم نعالي وبغالي.. وهي جبتي وجرتي ...

خرسنا جميعا.. تهادى أفعوانا.. جأرنا:

-أنت ربنا الأعلى.. أنت أنت..

ودون أن تسكت الشفاه اشرأبت الأعناق.. وقامته تمتد كالحبل تصاعد إلى عرش الرب.

 

  أنا.. لي/ لي.. أنا

 

دق قلبانا بالحب وكنا جذلانين.. كان للقلبين عبق الزهر وشذا الأقحوان وكان لهما إيقاع الشحرور والكروان وكان لهما لون الشفق والمرجان.

عدا قلبانا يوما على زرابي الأم علوت ربوة جلت بالبصر ما أجمل الحياة..

نظرت قلبه يتدحرج فوق العشب أمامي وقد ارتوى حياة.. انتفخ قلبي.. امتلأ دما فوارا.. عكس كبرياء تسللت أنا إلى دهاليزه  تسلقت لي بأنيابها على جذوعه وأفنانه رأيت قلبه يسعى من بعيد يزغرد حبا ضم قلبي إلى قلبه دفعته هويت فوقه سرقت روحه جلست قربه وقد توالى عطاسي حط بجواري غراب قتل غرابا وألحده قتلت الغراب الثاني وألحدته وألحدت القلب المحب ورحت أعدو وأصيح والأرض جميعا عرشي وفرشي:

-أنا.. لي / لي.. أنا.

الحوت

 

حين توقفت حائرا أرمي بسهام عيني اخترق الظلمة الحالكة تلوى أمامي ثم أنهار وهو يقول:

- إن الجوع ينهش أمعائي يجب أن نأكل وافقته الرأي لقد كان الجوع يغتال كل خلاي مخي وحين لم يجد الحوت في مزوده صاح كالمفزوع لقد نسينا الحوت فلنرتد على آثارنا قصصا.

حين بلغنا المكان رأيناه قد صار بحيرة ورأينا الحوت وقد عادت إليه الحياة يسبح في الماء الصافي جلست إلى الأرض ورحت أتابع المشهد حالما أن أسبح معهم لكنه راح يهشم زجاج الصمت متمرغا صائحا: وما يملك بطني ثم خاض في اللجة وقد تمزق مني القلب فاصطاد اثنين عاد بهما إلى الشاطئ وقعد يلتهمهما.

رأيت حوتا منها وقد دثره الألق يندفع من البحيرة إلى البحر إلى القاموس واندفعت خلفه حين كنا نسبح إلى سدرة المنتهى كان هو يخلد إلى الأرض وقد انتفخ بطنه سمكا.

أضيفت في 22/03/2006/ خاص القصة السورية /المصدر الكاتب

 

 

 

الحمامة الذهبية

 

 

ما إن فرغَ جدُّنا من صلاة العشاء حتى أحطْنا به وأمسكنا بعنقه نُلِحَّ في أن يقصَّ علينا قصة طريفةً كما تعود كل ليلة…وجدُّنا طيب القلب لا يمكن أن يرفض لنا طلبا… ضحك من أعماق قلبه… عدل كوفيته جيدا فوق رأسه وقال وقد علا وجهَهُ حزنٌ عميقٌ:

-سأقص اليوم عليكم ياأحفادي الأعزاءَ قصةَ الحمامةِ والقردِ والخنزير …

يُروَى أن حمامة بيضاءَ ناصعةَ البياض لها رأس ذهبيُ اللونِ وجناحان خضراوان، وهي كما تلاحظون تحفةٌ عجيبةُ لم ترَ الخليقةُ مثلها قطُ وكانت هذه الحمامة تعيش آمنةً مطمئنةً في حضن شجرة زيتون وارفة الظلال كثيرة الثمارِ، ولم يكن لتلك الحمامةِ ما يشغلها غير الهديلِ والتحليق على التلال والتمتعِ بروعة الطبيعة أو كانت تقضي وقتها مع فراخها الصغارِ، تناغيها وتداعبها أو تقص عليها القصص الطريفةَ الجميلةَ، وحدث ذات يومٍ أن فاجأها قرد أبيضُ وجدته ممددا على فروع شجرة الزيتون النضرةِ، وهاجت الحمامةُ ذاتُ الرأس المذهَّبِ وصاحت في القرد: الشجرةُ شجرتي، عشت فيها منذ طفولتي، وفيها عاش آبائي وأجدادي، فما الذي جاء بك إليها؟

أظهر القرد غضبه الشديدَ وقال: ما ينبغي لك أيتها المعتوهة أن تنطقي، أنت ضعيفة وأنا قوي ولا حيلة لك سوى أن تغادري هذه الشجرة .

وهزت الدهشة الحمامةَ فرفرفت قريبا منه وقالت:

-أنت تهددني ظلما وعدوانا أيها المغتر بقوته، ولكن لا تنس أنني أقوى منك.

 ضحك القرد حتى ظهرت أضراسه المسوسة وقال: كم أنا نهم إلى رأسِكِ المذهب وجناحيك الخضراوين.

خشيتْ الحمامة على نفسِها فحملت أولادها ورفرفت بهم بعيدا إلى أعلى غصن في الشجرة، وباتت مرتجفة بعيدة عن عشها… ولكنها باتَتْ تفكر في كيفيةِ الخلاصِ من هذا القرد اللعين، واهتدت في الليل إلى حيلة ذكيةٍ قررت أن تنفذها في تلك الليلة.

و ما كاد الظلام يخيمُ ويشتد حتى تركت الحمامة فراخها حيث هيَ، ونزلت إلى الأرض فاختارت صخرةً كبيرةً، وراحت تحدد منقارها عليها حتى إذا تأكدت من حدَّتِه رفرفت بهدوء إلى حيث يغط القرد في سبات عميق، واختارت عينَه اليمنى وبقوة نقرتها نقرة حادةً، وارتفع عويل القردِ وصياحُه يشقُّ عتَمَةَ الليلِ متألما، وقفزَ إلى الأرض …

فرِحت الحمامةُ المذهبةُ الرأس بهذا الانتصارِ وصاحت: أرني قوتَك أيُّها المُغترُّ بنفسه وبضخامة جثتِه...وراح القردُ يتمرغُ ويهدد، فلم تجبه الحمامة المذهبة الرأس، ورفرفت بجناحيها الخضراوين إلى قمة الزيتونةِ، فحملت فراخَها، وعادت بهم إلى عشِّها الهادئِ الآمنِ.

في الصباح حين أشرقت الشمسُ الذهبية استيقظت الحمامة من نومها، وأيقظَت فراخها الصغيرةَ ليبدؤوا جميعا يوما جديدا سعيدا لكنَّهم فوجئوا بصياح القرد مهددا:

- لن أدَعَكِ تهنئين بهذه الزيتونة المباركة، وإني عائدٌ إليك لا محالةَ، كل حلمي أن أحصل على رأسِك المذهب وجناحيك الخضراوين.

ضحكتْ منه الحمامةُ وقالت: لقد أشفقت عليك ففقأتُ أحدَ عينيك، وتركت لك الأخرى، فإنْ عاندت وعدتَ فقأتُ عينك الثانيةَ وتركتك أعمى لا تبصر شيئا، فلا تفكرْ في العودة أيها الشقيُّ.

 و لم يبرحِ القردُ المكانَ إلا وهو يهددُ الحمامةَ بالويل والثبورِ، وأنه عائدٌ لا محالةَ لينتقم منها ويستوليَ على الشجرةِ المباركةِ.

فكَّر القردُ كثيرا حزينا منكسرَ البالِ والدمُ ينزفُ من عينهِ المفقوءةِ، ولمعتْ في ذهنِه فكرةٌ جهنميةٌ فصرخَ بأعلى صوتِه: قضيتُ عليكِ أيتُها الملعونةُ، قضيتُ عليك.

وراح يحدِّث نفسه، لا حيلة لي إلاَّ أن أستعينَ بصديقي العزيزِ في تحقيقِ هدفي، هو لنْ يردَّ لي طلبا إذْ طالما خدمتُه خدَماتٍ جليلةٍ.

وانطلق القردُ يطوي الجبالَ والوديانَ حتى وصلَ إلى بيتِ صديقِه، دقَّ البابَ مرةً وثانية وثالثةً، فلما يئِسَ ولَّى راجعا، وإذا بالباب يُشقُّ ببطءٍ شديدٍ وحذرٍ كبيرٍ، ويطلُّ منه رأسُ الخنزيرِ الأسودِ، وماكادَ يتعرفُ على الطارقِ حتى خرجَ إليه وارتمى في حضنِه قائلا:

-لا تلُمْني ياصديقي أنتَ تعرفني كثيرَ الحرصِ والحذرِ، ضحكَ القردُ متناسياً آلامَه وقال:

-أهو الحذرُ أمِ الجبنُ أيها الرِّعديدُ؟

 ثم سكت فجأةً، ووضع يدَه على عينه المفقوءةِ، وراحَ يئِنُّ ويتألمُ قائلا: أنا في ورطةٍ ياصديقي العزيزَ، تصورْ مجردُ حمامةٍ لعينةٍ فقأتْ عيني بهذا الشكلِ المَشينِ، لقد ذهبْت إليها، أتَرَجاها مرةً، وأُرْهِبُها مرةً، كي تتنازلَ لي عن شجرةِ الزيتونِ المباركةِ التي تسكنُها في أعلى الربوةِ، فرفضتْ ذلك وقابلتُ أنا الأمرَ باستهزاءٍ وإذا بها تباغِتُني ليلاً فتفقأ عَيني.

صاحَ الخنزيرُ هلعًا وقال: ما أشرسَها  ! ، حمامةٌ هذه أم أفعى سامةٌ؟ وأنتَ يا صديقي العريزَ ما الذي قرَّبَك من هذه الملعونةِ؟

حزنَ القردُ لما سمعَ هذا الكلامَ وقال بغضبٍ:

- تَعسًا لك أيُّها الجبانُ، وأنا الذي قلتُ لن يأخذَ بثأري، ولن يشفيَ غليلي إلا صديقي العزيزَ الخنزيرُ الشجاعُ الجميلُ.

وأحسَّ الخنزيرُ أن القردَ يغريهِ كيْ يحققَ بهِ حلمَه، ففتحَ فاهُ ليرفضَ فكرةَ صديقِه، لكن القردَ قاطعَه مواصلا كلامَه: ولقدْ أشفقتُ عليك لا تنسَ أنك لا تملكُ بيتاً، وأنت مطاردٌ في الأرضِ، منبوذٌ محتقرٌ، وهذا الغارُ الذي تسكنُه الآن ليسَ ملكَك، وقد تُطردُ منه في أيةِ لحظةٍ.

كان الخنزيرُ يستمعُ إلى صديقِه والحزنُ يجلِّلُه، حقيقةٌ أنه يعيشُ من زمنٍ طويلٍ مشرداً منبوذاً هائماً كأنَّ لعنة الله قد حلَّتْ به … وفطنَ من شرودِه والقردُ يكملُ حديثَه بقوله:

-أما إذا تغَلبتَ على الحمامةِ المذهبةِ الرأسِ الخضراءِ الجناحينِ فإنك ستأخذُ بثأري أولاً، وتعيشُ في شجرةِ الزيتونِ المباركةِ هانئاً آمناً يحترمُك الجميعُ ويقدرونَك.

ردَّ الخنزيرُ وقد اختلطَ عليه الطمعُ والخوفُ: فكرةٌ جميلةُ ياصديقي العزيز ولكنَّ فرائصِي تصطَكُّ من شدةِ الخوفِ، لقد فقأتُ عينَك، وأخشى أن تفقئَ لي عينيَّ الاثنتين.

طمأنَه القردُ وأكَّدَ له أنه سيمُدُّه بالدعمِ الكاملِ مادياً ومعنوياً، وأنه سيكونُ إلى جانبِه في السرَّاءِ والضراءِ مادامَ عدوُهما مشتركاً، وانطلق القردُ من ساعته قاصدا التلةَ الجميلةَ التي تعرشُ فوقها الزيتونةُ المباركةُ، حينما وصلَها لم يجد فوقها الحمامةَ، فصعدَ بسرعةٍ، وقام برميِ الفراخِ بعيدا عن العشِ، ثم قام ببناء بيت محصنٍ فوق الشجرةِ التي بدت حزينةً كئيبةً.

عادتِ الحمامةُ في المساءِ منسابةً في الهواء، محلقةً في الجوِّ، حالمةً بعشِّها الدافئِ وبفراخها الصغارِ، وماكادت تقتربُ حتى هزتها المفاجأةُ، لقد رأتْ عشَّها متناثرا، وفراخَها على الأرض العراءِ يبكون، اشتد غضبُها حين علمتْ بالحقيقةِ، وزاد غضبُها حين خاطبها الخنزيرُ من داخلِ بيتِه الذي ابتناه فوق الشجرةِ قائلا:

-انتهى أمرُكِ أيتُها الحمامةُ المغرورةُ، لقد أصبحتِ الشجرةُ مِلكي، ولا تعتقدينَ أنني سهلُ المأخذِ كالقردِ فقأتِ عينه اليمنى بِيُسْرٍ، اذهبي بعيدا وابحثِي لك عن مكانٍ آخرَ تعيشين فيه … انتبهتِ الحمامةُ إليه والشررُ يتطايرُ من عينيها وصاحتْ فيه: إنك أجبنُ من القردِ وإلَّا ما كنتَ تحدثني من داخلِ البيتِ، انزلْ وسترى ما أفعلُ بك.

لم ينطقِ الخنزيرُ ولم يخرجْ إليها، سلامتُه في الاحتماءِ بجدرانِ بيته الحصينِ، وحينَ يئستِ الحمامةُ المذهبةُ الرأسِ الخضراءُ الجناحين حملت فراخَها واختارَت لهم مكاناً آمنا في سفح الجبلِ، ثم ضمتْهم تحت جناحَيها وهم يرتعدُون من البردِ والخوفِ، وقضتِ الحمامةُ ليلَها تواسيهُم وتشجعُهم وتعِدُهُم بالعودةِ.

ومضتِ الأيامُ الطويلةُ، تذهبُ الحمامةُ إلى الشجرةِ تصيحُ في الخنزيرِ القذرِ أن يخرجَ إليها، لكنه كان يرفضُ، يُرهبُها مرةً، ويبصقُ عليها مرةً ثانية، ويُغْريها أحياناً بأن يسمحَ لها بالعيْشِ في أسفلِ الشجرةِ مع فراخِها شريطةَ أن تخضعَ له وتكفَّ عن معاداتِه، وتعودَ الحمامةُ كلَّ مساءٍ إلى فراخِها الصغارِ يائسةً حزينة، تقصُّ عليهم وتواسِيهم، وتزرعُ في قلوبهم أملَ العودةِ إلى الشجرةِ المباركة.

وانصرفتِ الحمامةُ عن الذهاب إلى الشجرةِ، واكتفتْ بالبقاءِ ليلا ونهارا مع فراخِها لعلَّها يئستْ وصرفتْ تفكيرَها في الأمرِ.

 تنهضُ الحمامةُ كلَّ صباحٍ باكرا فتوقظَ أطفالها، فتصعدَ بهم إلى الجبلِ تعلمُهم الطيرانَ والعملَ والقدرة على مواجهةِ المصاعبِ والشدائدِ.

 مرتْ الأيامُ، غَدَتْ بعدَها الفراخُ قويةً تحسنُ الطيرانَ والتحليقَ والعملَ ومواجهة المتاعبِ كلِّها … ومساءً ذاتَ يومٍ جمعتهم جميعا في سفحِ ذاك الجبلِ، وراحت تذكرُهم أن بيتهم الحقيقي هو شجرةُ الزيتونِ التي اغتصبَها الخنزيرُ القذرُ، وأن الواجبَ يدعوهم إلى أن يعودوا إليه، وأن يسترجعوها، ولو كلَّف ذلك موتَهم جميعا.

وذكَّرَها أحدُ فراخها أن الخنزيرَ القذرَ ضخمَ الجثةِ، وأنه لا يخرجُ من حصنِه الذي أقامَه، وبالتالي فإن استردادَ الشجرةِ أمرٌ مستحيلٌ، ولا حلَّ إلا أن نبقى حيثُ نحن في عراءِ هذا السفحِ خاصةً وقد تعودْنا عليه، أو أن نقبلَ بفكرةِ الخنزيرِ فنعيشَ في أسفلِ الشجرةِ معه.

ولم تمتلِكِ الحمامةُ نفسَها فصفعَتْ ابنَها حتى أسقطتْه أرضاً، فلزمَ إخوانُه الصمتَ، ولم ينطقْ هو ثانيةً، بل قامَ من مكانِه ووقفَ صامتاً معهم. 

صمتَتِ الحمامةُ لحظاتٍ تتجرعُ حزنا غاضباً وقالت: اسمعوا يا أولادي سنذهبُ هذه المرةَ جميعا، ولن نعودَ حتى ننتصرَ، فإن الله لا يخيِّبُ كلَّ مطالبٍ بحقِه … صمتتْ برهةً ثم واصلَت: لقد استقرَّ تفكيرِي على حيلةٍ، إن الخنزيرَ في الشجرةِ ينزلُ ليلا لينالَ طعامَه، وطعامُه يوفرُه له القردُ اللعينُ، وأنا أخطأتُ أولَ الأمرِ حينَ حاربتُ الخنزيرَ نهارا ونسيتُه ليلا، وحين حاربتُ الخنزيرَ ونسيتُ القردَ.

واستبشرَ الأولادُ خيرا، وانطلقوا مع أمِّهم، وكلُّهم إصرارٌ على النصرِ، وماكادوا يقتربونَ من الشجرةِ المباركةِ حتى كَمَنوا ينتظرونَ الليل، وماكادَ يظلمُ حتى لمحوا من بعيدٍ القردَ الأعورَ يتعثرُ في مِشيتِه، يسقطُ وينهضُ، وهو معبأُ بأكياسِ الطعامِ، وأعطتِ الحمامةُ إشارةَ الانطلاقِ فانطلق أبناؤها بكلِّ عزمٍ صوبَ القردِ الأعورِ، ونزلوا فيه ضرباً مبرحاً، وهو يصيحُ ويستغيثُ حتى أسقطوه أرضاً جثةً هامدةً لا حراك بها.

وانتظرَ الخنزيرُ صديقَه القردَ تلك الليلةَ فلم يحضرْ، وثانية وثالثة حتى يئسَ واشتدَّ به الجوعُ فتحَ البابَ بحذرٍ شديدٍ، وتسلَّل خارجا، لكنه ما كادَ يحسُّ بوجودِ حركاتٍ غريبةٍ حتى عادَ وأغلقَ البابَ خلفَه وهو يصيحُ:

-أين أنت ياصدِيقي القرد أنقذنِي.. كدت أموتُ جوعا؟ أين أنت ياصديقي لقد وعدْتني بالمساعدةِ فلماذا تخليتَ عني؟

ولم يجبْه أحدٌ، عندَ ذاك نطقتِ الحمامةُ وهي تحلقُ قريبا منه: إما أن تخرجَ لنقتلَك أيُّها القذرُ، أو أن تبقى خلفَ جدرانِ حصنِك لتموتَ جوعاً …

 وانفجرَ الخنزيرُ القذرُ باكياً نادباً حظَّه التعيسَ صائحا: أين أنت أيها القردُ الحقيرُ؟ تبا لك لقد ورَّطْتَنِي أين أنت أيها القرد الحقير؟

الكلُّ كان يسمعُه، وكانت الجبالُ المحيطةُ ترددُ صياحَه وصراخَه ونداءه لكن القردَ لم يكن يسمعُه أبدا.

ضحكتِ الحمامةُ البيضاءُ المذهبةُ الرأسِ الخضراءُ الجناحينِ وقالتْ لأبنائها:

-هل رأيتم جزاءَ الظالمِ المغترِّ بقوته؟ تستطيعون قهرَ كلِّ الظالمين بإصرارِكم وإرادتِكم.

بقيَ الخنزيرُ أياما بلياليها سجيناً يتألمُ من شِدةِ الجوعِ منتظرا قدوم صديقه القردِ، ولما يئسَ وخارتْ قوَاهُ لجأَ إلى الحيلةِ فطلبَ من الحمامةِ أن تسمح له بمغادرة البيتِ، وأقسم بأغلظِ الأيْمان أنه لن يعودَ إلى فعلته أبدا، بل سيكونُ صديقا حميماً وسيعوضُها عن كلِّ ما لحق بها.

فرح الفراخُ بهذا العرضِ وطالبوا أمَّهم أن تقبَله لمِاَ يعودُ عليهم مِنه من الفائدةِ الجَمَّةِ.

غضبتِ الحمامةُ غضباً شديداً، وردَّتْ على أبنائها: إياكم أن تنتظروا من عدوٍّ خيرا وإياكم أن تثقُوا بماكرٍ مخادع.

صمتَ الأبناءُ مقتنعينَ بقولِ أمِّهم، وفي هذا الوقتِ فتحَ الخنزيرُ القذرُ باب حصنِه بهدوء تامٍ، وتسلَّل منه دون أن يفطنَ إليه أحدٌ، ثم رفعَ جثتَه الغليظةَ إلى الأعلى وقفزَ ليسقطَ فوق الحمامةِ وأبنائِها فيسحقَهم جميعا، ياله من ماكر  ! غيرَ أن الحمامةَ كانت يقظةً فدفعتْ أبناءَها بعيدا وطارت محلقةً.

كانت السقطةُ قويةً جدا تكسرتْ معها عظامُ الخنزيرِ وسال دمُه … اجتمعَ الفراخُ حولَ الخنزيرِ والغضبُ يتطايرُ من أعينِهم، وطلبوا من أمهم التعجيلَ بقتلِه، لكن الحمامةَ المذهبةَ الرأسِ الخضراءَ الجناحين قالت في هدوء: الدفاعُ عن الحقِّ لا يعني الحقدُ دعوه لقد نال جزاءَه.

تدحرجَ الخنزيرُ بعيدا والدماءُ تنزفُ من جسدِه كلِّه إلى أن وصل إلى حافةِ الوادي فهوى إلى أعماقِه حيث قضى نحْبَه.

حلقتِ الحمامةُ مع فراخِها سعداءَ باسترجاع الزيتونةِ المباركةِ وكلُّهم عزمُ على تنظيفِها والاعتناءِ بها والدفاعِ عنها بكلِّ ما يملكون.

الجزائر  في: رمضان 1421 /ديسمبر 2000

 

أضيفت في 06/02/2006/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية