أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: د. محمد عبد الرحمن يونس-اليمن

       
       
       
       

الفضاء في الرواية اليمنية 

حوار أدبي

   

مقالات

بكين.. العلم والشعوذة  

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

سوري الجنسيّة،  درس وتخرّج في الجامعات الآتيّة:

ـ الجامعة الجزائريّة / وحصل فيها على شهادة الليسانس في اللغة العربيّة وآدابهاـ شعبة الأدب والنقد.عام 1984 دورة جوان.

ـ جامعة محمد الخامس بالرباط، وحصل فيها على دبلوم الدراسات العليا ، اختصاص الأدب الحديث . عام 1985. دورة نوفمبر .

ـ الجامعة اللبنانية ـ الفرع الأول في بيروت وحصل فيها على شهادة الماجستير  اختصاص النقد والأدب الحديث. عام 1994م.

ـ الجامعة اللبنانية ـ الفرع الأول في بيروت وحصل فيها على شهادة دكتواره  الدولة . اختصاص النقد. عام 2000م.

ـ مقيم خارج سورية منذ فترة طويلة .

ـ عمل مدرساً في كلية مركز اللغات بجامعة صنعاء باليمن. ثمّ مسؤول تحرير قسم النقد والدراسات الأدبيّة بمجلة النافذة في بيروت.

ثمّ مدير تحرير مجلة النافذة الأدبيّة في بيروت.

ـ  عمل مدرساً في جامعة الدراسات الأجنبيّة ببكين / الصين. ، وفي جامعة أهل البيت العالمية في بيروت .

ـ عضو مجلس الخبراء في الجمعية الدولية للباحثين والمترجمين العرب / بلجيكا.

ـ عضو هيئة تحرير مجلة عالم الغد الأكاديمية المحكمة / فيينا ـ النمسا.

ـ عضو اتحاد الكتاب العرب .

ـ عضو اتحاد الصحافيين العرب ـ عضو مشارك .

ـ عضو نادي القصة بتونس / نادي أبو القاسم الشابي.

 

كتب في القصّة والرواية والنقد الأدبيّ، وله (160) مائة وستون بحثاً ومقالاً ودراسة منشورة في الصحف والمجلات  الآتية :

ـ الفكر العربيّ ـ الطريق ـ دراسات عربيّة ـ الآداب ـ كتابات معاصرة ، السفير ـ الكشكول، وهي تصدر في بيروت.

ـ قصص ـ الحياة الثقافيّة ـ الفكر/ وهي تصدر في تونس.

ـ الثقافة العربيّة ـ المسرح والخيّالة / ليبيا.

ـ آمال، وهي تصدر في الجزائر.

ـ سطور ـ إبداع ـ الكتب وجهات نظر ـ جهات ـ السفير العربي / القاهرة.

ـ اليمن الجديد ـ معين ـ 26 سبتمبر ـ الكلمة ـ الحكمة يمانية ـ الجيش اليمني

 ـ الثقافة الجديدة ـ الكلمة ـ الوطن ـ المعرفة ـ ملحق الثورة الثقافي/ صنعاء وعدن وتعزّ .

ـ المجلة العربيّة للعلوم الإنسانيّة ـ الكويت / الكويت .

ـ الجديد في عالم الكتب والمكتبات ـ النشرة / عمّان .

ـ الحياة المسرحيّة ـ الموقف الأدبي ـ الأسبوع الأدبيّ ـ المعرفة ـ الآداب الأجنبيّة

 ـ الثقافة الجديدة ـ تشرين ـ الوحدة ـ ـ النافذة / بيروت.

ـ الفيصل ـ المنهل ـ بيادر ـ علامات في النقد ـ الموسوعة العربيّة لكشف السرقات الأدبيّة

 ـ المجلة العربية ـ الآطام  ـ رؤى / الرياض ـ جدّة ـ أبها ـ المدينة المنورة ـ حائل

ـ الشاهد/ قبرص، نيقوسيا.

ـ الناقد ـ العالم ـ التضامن ـ القصب ـ النور ـ الزمان ـ  الزمان الجديد ـ المسلة ـ الثقافية   / لندن.

ـ الاتجاه الآخرـ الموسم   / هولندة .

ـ كلمات / استرالية .

ـ البحرين الثقافيّة ـ مجلة العلوم الإنسانية / المنامة.

ـ الرافد ـ الخليج الثقافي ـ الشروق ـ البيان  / الشارقة ـ أبو ظبي.

ـ بيت العرب/ بكين – الصين

ـ الجزيرة ـ  الرياض.

ـ مجلة ميزوبوتاميا ـ بغداد

 

ـ وله عشرون دراسة نقدية وبحث أكاديمي مقبولة للنشر في عدد من المجلات العربية التي تصدر في الوطن العربي وأوروبا، وهي:

ـ الثقافية/ لندن.

ـ مجلة العلوم الإنسانية / البحرين.

ـ مجلة عالم الغد/ النمسا

ـ مجلة كلية المعلمين بالباحة ـ مجلة الآطام ـ مجلة رؤى / المملكة العربية السعودية.

ـ مجلة الرافد/ الشارقة.

ـ مجلة المعرفة ـ مجلة التراث العربي ـ مجلة الموقف الأدبي / دمشق ـ سورية .

ـ مجلة واتا ( مجلة الجمعية الدولية للباحثين والمترجمين العرب) ـ باريس ـ فرنسا.

ـ مجلة ميزوبوتاميا ( بلاد الرافدين) ـ بغداد.

ـ مجلة الكتب وجهات نظر، القاهرة.

 

وله الكتب التالية المطبوعة:

1ـ آخر تحليقة لنورس مهاجر، ( قصص قصيرة )،  دار سعاد الصباح ، الكويت 1991م. الطبعة الأولى

ـ مكتبة الأسرة ، القاهرة، الطبعة الثانية، 1996م.

2 ـ ملكية والنورس ووهران، ( قصص قصيرة )، دار المنارة، سورية، 1993م

3ـ رقص سماح على أنغام زرياب، ( قصص قصيرة )، دار النافذة، بيروت 1994م.

4ـ اللوتس،  ( قصص قصيرة )، دار الكنوز الأدبيّة، بيروت 1995م.

5_ تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح العربيّ الحديث و المعاصر، دار الكنوز الأدبية، بيروت 1955م. ( بالاشتراك ).

6ـ ولاّدة بنت المستكفي في فاس ، ( رواية ) ،  دار الكنوز الأدبيّة ، بيروت 1995م.

7 ـ الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة ، مؤسسة الانتشار الأدبي، بيروت /  لندن 1998م.

3 ـ رحلة بكين ـ ملامح من الصين المعاصرة.

دار السويدي، أبو ظبي،/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2004م.

وله المخطوطات الآتية التي لم تنشر بعد :

1ـ مواجع الصبا في يونيو ، ( قصص قصيرة) .

2ـ المدينة في ألف ليلة وليلة , ملامحها الثقافية والاجتماعية والسياسية . مخطوط مقبول للنشر في وزارة الثقافة في سورية،

 سيصدر في عام 2005م. إن شاء الله تعالى.

4 ـ الفضاء المكاني في ألف ليلة وليلة .. الاستلاب والفساد .. المسرات والملذات . مخطوط مقبول للنشر في دار رياض الريس للكتب والنشر / بيروت . سيصدر في عام 2005م، إن شاء الله تعالى.

5 ـ آخر ما وصلنا من مراكش المعمورة ( رواية ) .

6 ـ الأسطورة والتاريخ في الخطاب الشعري العربي المعاصرـ دراسة نقدية تحليلية.

7 ـ الفساد السياسي والجنسي في حكايات ألف ليلة وليلة / دراسة نقدية أدبية تاريخية واجتماعية .

8 ـ الأطروحة والإيديوليوجيا في الرواية العربية المعاصرة .

 

وقد حصل على الجوائز الأدبيّة التاليّة :

ـ جائزة مركز ابن خلدون الإنمائيّ والدكتورة سعاد الصباح في القصّة القصيرة في مدينة القاهرة عام 1991م.

ـ جائزة مجلة الشاهد للنقد الأدبيّ ـ قبرص ـ نيقوسيا عام 1991م.

ـ جائزة البتّاني للقصّة القصيرة ـ سوريا. عام 1993م.

ـ جائزة مركز ابن خلدون الإنمائي والدكتورة سعاد الصباح للرواية العربيّة في مدينة القاهرة عام 1993م.

ـ جائزة نادي أبها الأدبي للقصة القصيرة ـ السعوديّة. عام 1993م.

ـ جائزة نادي الطائف الأدبي للقصّة القصيرة ـ السعودية. عام 1994م.

ـ جائزة نجلاء محرم للقصة القصيرة، القاهرة، عام 2004م.

ـ جائزة نجم عكاظ للقصة القصيرة لعام 2004م/ السعودية.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الأم

البؤبؤ

سكان مدينتي

جموحات عبد الله الإدريسي 

القبرة

الخمارة

وضبطني البحر

كوابيس

أحلام مليكة بنت الأخضر

مواجع الصبا وأحزانه  

 

 

جموحات عبد الله الإدريسي

 

 

أحس عبد الله بكآبة خانقة داهمته فجأة .. فلاذ بالوحشة والفراغ، وأخذ يتأمل السماء العريضة .. فتش عن نجمة المساء .. وأخذ يدقق جيداً عله يرى نجمة واحدة .. عاين السماء من أطرافها .. يا لله متى تظهر النجمة.. لكن النجمة ظلت آفلة .. لو أن نجمة واحدة أضاءت بؤر قلبه الحالكة ، لاستحضر جواداً وشراعاً  وسفينة ، وغادر المدينة والبلدة إلى غير رجعة .. لو أن شخصاً في هذا العالم أهداه نجمة وسروة لاستظل بظلها طيلة حياته ، وانصرف جاداً إلى جمع أخبار الأجداد في حلهم وترحالهم وفتوحاتهم وهزائمهم، وأخبار جواريهم ونسائهم، ودسائسهن وغرامهن .. ولألّف كتاباً يفوق كتاب الأغاني والعقد الفريد، والروض العاطر في نزهة الخاطر.. ولبنى جزيرة وقصراً، واشترى أجمل جواري عكاظ، وابتنى بها على سنة الله ورسوله.. لكن الأحلام العريضة كانت تجمح بعيداً، تنخر مسامات روحه ،ولم يستطع مرة واحدة أن يحقق حلماً في حياته، فكثيراً ما كان مولانا الوالي أعزه الله وأيده بجنود من عنده يضبطه متلبساً شارداً حالماً فيقبض عليه، ويدخله أضيق الزنزانات الفردية بحجة أنه يحيك المؤامرات، وينظم الناس في الأحزاب السياسية المعارضة. قضى نصف حياته في الأحلام والسجون. والنصف الآخر في الجامعات العربية الخامجة التي لا تعرف مدرجاتها الا أدب الجاهلية  ، وافر نقع وأحر نجم وإفعوعل، والحفظ الببغائي والستوكات الجاهزة ، ، وتاريخ الطغاة والظلمة وعروض الخليل بن أحمد الفراهيدي.. وعندما تخرج بدأ يتسكع ويعاين الشوارع العريضة، ومحلات العطور الفاخرة، والأحذية الإيطالية الساحرة، فعاد مولانا الوالي وقبض عليه ثانية بجرم إساءته لهدوء المدينة، وصفاء الشوارع وطمأنينة الناس. كان قد تعلم في أعوامه السابقة أن يستسيغ المرارة ويبتلعها.. وينام سعيدا في أبعد أكواخ المدينة القصديرية، بعيداً عن عربدات المدينة وحفلات سيركها ورقصها.

داهمته الكآبة وهذه الغربة الملعونة ، وقصفت الريح آخر نخيله، وهدمت كوخه ، وسدت الرماح والنصال بوابات شرايينه، وأخذ هازم اللذات أعز صديقاته وأخواته ، وأخذ أمه بعد أن دهستها سيارة  "فورد أمريكية" ذات مساء في أجمل شوراع المدينة العريقة. وسجل البوليس الوطني العريق الحادثة ضد مجهول، وطوى مولانا القاضي قضية الدهس بأمر الوالي. لعدم وجود الأدلة القاطعة، وبعد أن غابت الوالدة الصديقة شعر بغصة حادة ، وأحس أن ما يحيط به يفقد لونه وطعمه، لم يعرف كيف يفكر أو ينام، أو يأكل .. فالحزن الأسود زاده اليومي.. بينه وبين معارفه القدامى الذين أصبحوا أكبر تجار المدينة وسماسرتها شرخ حاد يزداد يومياً، فيجعله منطوياً متسربلاً  ومفجوعاً بنفسه ومدينته.. لم يعد قادراً على أن يتآلف والحزن.. كانت نخيله المسروقة وصحراؤه اللافحة كافية لأن تفتح ثغرة واسعة في مفاصله .. ومع تقدمه في العمر كان يأمل أن يتبدد حزنه لكن شيئاً لم يتغير.. فالميناء لا يزال بعيداً ، وما بانت سفينة واحدة، ونجمة المساء ارتحلت إلى الأبد، وها هو ينتظرها لعشرين سنة، لكن هذه الأليفة الهامسة الحبيبة الحلم تركت السماء ، فانقبض قلبه وأحاطه الظلام .. والحياة أصبحت كابوساً .. والرغيف استمر هارباً.. والمدينة استمرت في إشعال طقوس رقصها .. لم يتعود الرقص ولم يفكر به .. لم الرقص طالما أن النجمة غائبة .؟. لم الرقص طالما أن الريح ملأت حقوله و بياراته برمالها وسمومها ؟ وطالما أن المدينة تقيم أفراحها اليومية ويرقص الناس من حولها ، فليشاهد منظر الناس والشوراع والحانات، فنادق الدرجة الأولى. يكفي أن يتأمل الراقصين .. وحتى لو حاول الرقص فإن رجليه ستخونانه دائماً. المهنة ليست له ، ليتركها لعباقرتها . ولتجار السوق السوداء، ولتجار الرقيق الأبيض والأسود والكوكائين، وأصحاب وكالات السيارات. حاول مرات عديدة أن يناشد الفرح ويستحضره. لكنه كان يهاجر دائماً .. مشى في شوارع المدينة وأزقتها.. لا يوجد زقاق واحد في المدينة إلا ويعرفه جيداً .. تأمل وجوه الناس والمتسكعين كانت محاطة بقفار شاسعة ، وبغابات محروقة، وصبيان مبتوري الأصابع، ونساء بلا أنوف .. أما بنايات المدينة الشامخة فقد ازدانت بالأعلام الوطنية والدعايات الأمريكية التي ترفرف مع أبواق سيارات المرسيدس.

قلب جيبي وسرواله.. وكانت الأموال على وشك النهاية ... تباً لهذه الأموال التي تهرب دائماً .. عشرون درهماً وستون سنتيماً .. غداً تنتهي.. ومحال أن يجد العمل .. فالبطالة نصل وسيف ، سدت بوابات المدينة .. وحجبت ضوء الأفق .. والأشجار ظلت كابية .. والنوارس مقصوفة الجناح... وهاهي مدينة العمالقة والحضارات جثة مرمية على شاطىء البحر تنتهشها الغربان، وجواسيس الليل، ومقاولو البناء .. وأين يجد العمل؟

لم يعد يذكر عدد الطلبات التي تقدم بها إلى الشركات العامة والخاصة.. ولا وجوه  السكرتيرات المصبوغات بالطين والكيروسين، و مساحيق أوروبا كافة .. لكن عينيه ما نسيتا أبداً اللافتات العريضة المعلقة على واجهة شركات المدينة جميعها. يومياً كان يقطع شارعي علال بن عبد الله، وعبد الكريم الخطابي مرات لا يعرف عددها .. ويردد البقية الباقية مما كان يحفظه من معلقات العرب وأشعارهم التي فرضت عليه أيام كان طالباً  في الجامعة. وأمام كل شركة كان يقف زمناً يتأمل اللافتات والموظفين الذين يجلسون وراء مكاتب وثيرة، وقد أخذوا يقهقهون ويرشفون فناجين الشاي.. ويتحدثون عن غباء زوجاتهم .. وآخر مغامراتهم مع عشيقاتهم .. وعندما كانت تزوغ عيناه.. كان يدخل إلى مطاعم الحلازين.. ويأكل وجبته اليتيمة ذات الدراهم الثلاثة ، ويدخل جامع " سيدي عبد الرحمن المجذوب".. ويدعو الله أن يمنحه جزيرة ونجمة وجارية، لكي يكمل النصف الآخر من دينه .. بعدها سيجمع فقراء المدينة ..و سيوزّع عليهم جميع ما تدرّه الجزيرة  عدلاً مطلقاً.. ويشيد مدينة  لا خوف ولا قتل ولا جواسيس فيها ،وسيملؤها عدلا كما ملئت جوراً. وتذكّر أنه آخر مرة قابل فيها مدير شركة الشرقاوي لاستيراد البضائع الأجنبية وتصديرها ، كيف أن المدير قابله ببشاشة، وطلب له كأس قهوة.. وشرح له أوضاع البلد الصعبة ، وكيف أن أولاد الحرام لم يتركوا لأولاد الحلال نسمة ولا رشفة ماء.

وفاجأه بالحقيقة المرة قائلاً: إن صاحب الشركة يأخذ من كل موظف جديد تسعة آلاف درهم مقابل تعيينه.

ـ لكن هذا لا يصدق يا سيادة المدير، لو بقيت أعمل طيلة حياتي لما جمعت تسعة آلاف درهم.

ـ هذه هي السوق يا حبيبي .. ازرع تحصد .

مجنونة المدينة والسوق والتاريخ ..أف .. وبصق في وجه الريح العاتية .. ومسح عينيه .. متى تهدأ هذه الريح؟. وشتم الجامعة والساعة التي دخلها، وشهادته. وأخرج ملف شهاداته.. ورماه إلى قاع الأطلس.. لتذهب المعلقات السبع وأفرنقع وأحرنجم وافعوعل ، وفعولن  ومفاعيلن، والمجاز العقلي والمجاز المرسل الى جحيم ربي، لتحرق جلود السفلة واللصوص وسماسرتهم من مصر إلى تطوان، ومن يمن إلى عدن ، ومن الحميدية الى "عين الدياب".. ومن البحر إلى البحر، ومن الماء إلى الماء ومن غرناطة إلى المحيط الهندي..

وهكذا توالت زياراته لكل شركات الرباط والدار البيضاء وطنجة ومراكش.. وضاق صدره، وأخذ يسعل.. وأين نسمة الهواء أيها الأطلسي المليء بزجاجات الفانتا والكوكاكولا وبشصوص الصيادين المخرومة ؟.

 السماء سوداء.. والبحر متلاطم باهت .. والأصحاب والخلان كمفرقعات أعياد الميلاد ورأس السنة .. وثمة نجمة حزينة خافتة وحيدة تلوح للمدينة، وتحتضن حقيبتها مصممة على أن تهاجر ، ولا تعود أبداً.. وناداها متوسلاً: أيتها النجمة الحبيبة... قلبي بين يديك.. امنحيني ساعة واحدة حتى أربط نفسي بجناحيك.. خذي مني الدم واللحم والروح، لكن احمليني معك.. انقليني إلى حيث شئت.. ثم اقذفيني حيث شئت، واتركي لي شمعة واحدة.. شمعة واحدة تكفيني.. أحرقها وأحرق مجامري، ثم أكفن نفسي وأدفنها إلى الأبد في الطين والوحل والرمال والصحراء.. لا يهمني ذلك .. أيتها النجمة الحبيبة ,  لكن النجمة غطت شعرها الجميل.. وتبرقعت ولوحت له:

أيها الغريب.. لا أستطيع أن آخذك معي أنت لست محرماً وهذا لايجوز.

ـ أصبح ما تشائين .. لكني استحلفك بالذي يجيء.. والذي لا يجيء .. بكل الفرح و الحزن .. وبكل الضياء والظلام أن تأخذيني معك.

وقالت النجمة : أيها الغريب.. ضع.. تشرد .. اغترب.. كفن نفسك ومت .. جع .. ونم في العراء.. لست مسؤولة عن بني البشر.. أحرقت لكم شموعي طيلة عمري، ولم أجد منكم إلا الهجران والصدود .. يكفيني مأساتي وهمومي.. ها ضوئي يشحب.. يكفيني أن أحمل نفسي .. فكيف أحملكم؟.

شارع علال بن عبد الله يشقّ قلب المدينة النائمة من الشريان إلى الوريد .. والشحاذون يتوسدون رصيفه أمام الصيدلية المركزية، وأمام مطعم الطنجاوي الفاخر ، والبنك العام للمغرب. وفي cafe de france  يتجمهر الزبائن والمتسكعون والباطلون، والذين لا يملكون إلا درهماً  واحداً ثمناً للقهوة .. وقلّما تجد كرسياً فارغاً.. ينبغي أن تنتظر زمناً حتى ينتهي أحد الزبائن، أو يغادر المقهى. أو يملّ.. لكنه قلماً يملّ.. ففراغ المقهى هو الفراغ الوحيد الذي يشعل الأماني، وبوح القلب، والأحلام والكوابيس..فأكثر الرواد يطيلون المكوث.. وقلّما يخرجون .. هنا بؤرة الأمان الوحيدة.. هنا الشطّ الوحيد الذي يرسو عليه الغرباء والمهاجرون.. يراقبون الفراغ.. ويحرقون النراجيل وأنفسهم.. ويتحسّسون جوازات سفرهم المنتهية أو المزورة.. ويمدّون أبصارهم إلى مدنهم البعيدة .. لكنّ مدنهم سرعان ما ترسل غربانها ونسورها الجارحة .. لتنذرهم وتلوح لهم بالعصا.. جوعوا.. تشردوا.. لا تفكروا بالمجيء .. لن نمنحكم جوازات سفر.. كونوا بعيدين عنا.. ندعو الله أن يبعدكم ويسعدكم. ويبتعدون وتجتثّ الريح والقطارات والمرافىء المهجورة سعادتهم, ثم يدخلون السجون فرادى وجماعات.. ولا يعرفون لماذا يدخلون.

 وقلما يخرج هؤلاء المنفيون من المقهى.. فصاحب المقهى تعود كيف يجلبهم.. إذ جمع اسطوانات سميرة بن سعيد.. وعزيزة جلال وعبد الوهاب الدكالي.. وأعلن انه لن يطالب أحداً بثمن القهوة حتى آخر الشهر، ريثما تأتي دولارات الأهل والأحبة من وراء الأطلسي والمتوسط. وفي الصيدلية المركزية أربع شابات من أجمل نساء المدينة يبعن الأدوية ومستحضرات التجميل وحبوب منع الحمل... وعند نهاية الدوام الرسمي يؤكد عبد الله الإدريسي صاحب المقهى أن أربع سيارات مرسيدس تربض في زاوية الشارع لتنقلهن إلى (نادي شيتا) في عين الدياب، وهناك يبعن بضاعة راجت كثيراً في الآونة الأخيرة. وتعلمت المدينة كيف تتجر بها في صقيع الشتاء، و أمسيات الصيف حيث تبرد الحلق و تطفىء الظمأ.

الصيف قائظ.. المدينة تغرق في همومها وفضائحها وصخبها، واغتيالاتها السرية والعلنية.. تهرب من ذاكرته كل الرؤى والأماني الجميلة .. وفاجعه الأعمى يثقب فيه باكورة الشباب، وكابوس الماضي يلاحقه وطيف أمه يظلل بؤبؤ عينيه.. والأحباب كبرق الخلب.. ووحشة تعتصر أضلاعه.. والنفايات تتجمع في السوق القديم.. وطالبات الجامعة يتأملنّ أحدث البضائع التي وصلت تواً من باريس ونيويورك..وفندق "حياة ريجنسي" يشتعل متقداً على أصوات الجاز والجيرك.. وقنال TV5 يبثّ أحدث الأفلام الغربية التي تثبت تفوق الغرب الحضاري، وهمجية العرب وبداوتهم.

 خرج من المقهى.. لا يزال الشارع معربداً.. تأمل الفندق.. كانت أعلام الدول الكبرى تدغدغه بوشم خفيف ناعم .. وكان العلم الأمريكي يعانق علم الجامعة العربية الذي بدا طفلا وديعا مطيعاً لأبويه ولأخواله وأعمامه.. وكانت السائحات الأوروبيات يدخلن ويخرجن من بوابة الفندق الرئيسية.. وكان الشرطي السياحي الشهم الذي عرف جميع أنواع التهذيب والأدب يحني قامته الشامخة كلما مرت سائحة تقود كلبها ،ويرفع قبعته البيضاء إجلالا ومهابة  .. وقد انفرجت أساريره  عن ابتسامة ودودة عريضة. توقّف, وأخذ يرنو إلى صالة الفندق الأرضية.. كانت نساء شقراوات يرشفن الويسكي الوطنية المخلوطة بالصودا الفاخرة على أنغام الفولكلور المراكشي بطبوله وصنوجه.. يحيط بهن رجال انتفخت كروشهم، وقد ارتدوا بذلات أنيقة بربطات عنق سوداء وحمراء، ودهنوا شعورهم بمساحيق غريبة, فبدت لامعة براقة . كانوا يتوددون للنساء.. ويمسحون ظهور  الكلاب الأنيقة التي تمددت مسترخية بجوار سيداتها.. كانت وجوههم  سمراء، وعيونهم سوداء وقد تكحّلت  بأشعة ذليلة مكسورة، وكانوا يحاولون إخفاءها وراء زرقة بذلاتهم السياحية,  وهم يتكلمون بتملق مبتذل اللغة الإنكليزية والفرنسية والأسبانية .. وقد اختلطت ببعض الكلمات العربية والبربرية.

 رمقه  الشرطي السياحي بعجرفة وازدراء... هاهي البادية الجميلة  تعود إلى قطعانها, وتنزع عنها ثوب تهذيبها المهترىء.. واستغرب كيف أن هذا الشرطي الذي كان يحني قامته قبل قليل، ويبتسم بهذا الإشراق الداخلي لهاته النسوة الغريبات, يتحول فجأة إلى تمثال من الحديد الأسود ملفعاً بثياب جنرالات العصور الوسطى، والعهد العثماني.

مرحى لوزارات السياحة والداخلية والتجارة  .. مرحى لمدنها و دساكرها.. مرحى لرجالها.. مرحى لرجال شرطتها  الذين يعرفون جميع أنواع الانحناءات، ويهبون  مدنهم على طبق من الفضة للغرباء والدخلاء والعملاء، لكنهم يقتلون إخوتهم وذويهم، وأبناء طينتهم لأجل شربة ماء، و متر من الأرض البور، و حبة شعير.

مرحى للكرم وللشهامة ، وللمدن الرائعة الخصبة التي علمتنا الوفاء والكرم ولثم سيوف الأعداء، ثم اغتيال الأخوة والأقرباء والفقراء ونفيهم وسجنهم بهذه السيوف.

لوح الشرطي  بالعصا البيضاء الطويلة.. ابتعد أيها الغريب.. وزعق عليه بصوت بربري: هذا مكان عالمي  يمنع دخول العرب إليه. فابتعد صامتاً.. وكانت عيناه تثقب المدينة والكلاب والنساء والبنوك التي اصطفت متناثرة في طرفي الشارع.

أمام الخطوط الملكية المغربية شاهد جمهوراً متلاطماً.. كانوا يلبسون ثياباً بيضاء وعمامات بيضاء.. وآخرون ربطات عنق ملونة .. كانت لافتة كبيرة على الباب وقد كتبت بخط الرقعة:

إلى حجاجنا الكرام.. حجاً مبروراً.. وسعياً مشكوراً.. وإقامة طيبة في الديار المقدسة.. مرحباً بكم على متن طائراتنا.

قطع الشارع .. قابلته خضرة البحر.. وقرر أن يسبح وحيداً إلى أقرب سفينة. تقدّم منه شيخ وقور كان يبيع السور القرآنية والأدعية  المستجابة في حبّ الصحابة .. قدّم له آية  الكرسي.. طواها يرفق وطمأنينة، وأحنى رأسه وقبّلها ، ووضعها في جيب قميصه.. ومشى مبتعداً.. ناداه الشيخ:

ـ والبركة أين؟ .. درهماه يا ابني ثمن السورة.

 أخرجها، وقبّلها من جديد، وأعادها للشيخ الوقور.. رمقه الشيخ محتقراً. فأجاب:

ـ أقسم لك بهذه الآية الكريمة  وحروفها وسرّها ومفاتيحها، إني لا أملك  سوى درهمين.

ـ أف  .. ما عاد في الناس بركة.. شباب الزمان الأخير انتم.. لاختير فيكم..

وأضاف الشيخ موبّخاً المدينة وسكانها وخمّاراتها ومقاهيها.. لكنّه ودّعه معتذراً.. وأسرع الخطى  .. كلّ الجدران تتصدع في نفسه .. أصبح في حيرة من هذه الجدران الهشّة.. وحده جدار الله كان قوياً راسخاً في حناياه.

وتلاشت جدران الأحباب والأصحاب التي لاذ بها.. لكنها لم ترحمه يوماً ما طوال سنيه السابقة؛ فالمدينة والدخلاء و "حياة ريجنسي" يتعانقون كل مساء. وتأمل البحر الهادىء.. لا يوجد سفينة واحدة فيه.. فدخل زنقة  "البارودي".. وطلب صحناً من الحلزون.. شرب ماءه في دقيقة .. ودفع للبائع ثلاثة دراهم.

وخرج.. شاهد امرأة ترتدي عباءة خضراء طويلة.. ينسدل على كتفيها شعر غامق طويل.. وقد وقفت أمام عربة صغيرة تبيع العطور الرخيصة وطلاء الشفاه والحاجبين .. تأمّلها جيداً، كانت منهمكة في فتح حقيبة حمراء صغيرة.. أحّست به.. ابتسم يائساً، فابتسمت فاردة شعرها لنسيم  الأطلسي.. مشيا في الزنقة الغاصّة  بالبائعين والناس، والمتسكعين وبائعي الهيروين.. كانت أصابعها الخضراء ترتجف قابضة شفافية البحر والأحلام والمنى.. وفي آخر الزنقة دعته إلى مقهى "النصر".. فدخلا وطلبا حليباً بالقهوة.. حشّت سيجارة بمسحوق أبيض ناعم وقدمتها له.. وأخذت واحدة لنفسها .. دار المقهى.. دارت المرأة.. دار الرجل.. ارتجف الأطلسي.. غطى الضباب المدينة.. وحدها النجمة الآفلة كانت منهمكة في رسم لوحة سيريالية لعربدات المدينة السريّة.. بينما كانت المطربة الشعبية "نجاة عتابو" تغني لجبال شفشاون ونخيل خنيفرة.. وتلوم الحبيب الذي تأخر فأبكى القلب والروح.. أما المدينة فقد أخذت ترتعش وهي قابضة أعمدة الرايات وصور المرشحين لمقاعد البرلمان، والبنوك و "حياة ريجنسي". والسائحات الأجنبيات.

أسبانيا ـ اليكانت

 

 

سكّان مدينتي

قصة قصيرة جدا

 

أرجلهم طويلة .. تضرب الأرض بقوة.. لا يسافرون .. يحبّون النوم كثيرا .. عيونهم زرقاء فارغة .. جباههم مفلطحة عريضة .. يتاجرون بالسكر والويسكي المغشوش .. قلّما يبتسمون .. يمارسون الحبّ مع البحر والإسفلت والقار          والصحراء .

 

لهم نساء يبتسمن من مؤخراتهنّ وأكفالهنّ .. قلّما يجتمعون مع بعضهم إلاّ عندما يلعبون الكارتة والدومينو .. يعشقون الركوع كثيرا ، لكنه ليس لوجه الله تعالى . . لا يقرؤون القرآن إلاّ ساعات الشدة .. يشربون البحر والنهر.. يبيعون السور القرآنية .. يبتسمون أيام السبت والأحد , ويمارسون الحبّ فيهما، داخل فيلاتهم الفاخرة، على شكل طقوس جماعيّة طوطمية .

يحبّون الرياضة كثيرا ويشجّعونها . يضربون الطبل ويكرهون موسيقى الغيتار والعود .. يتاجرون بمحارم الكلينكس وعلب التبغ المهربة .. ويبولون على النخيل والآس . يحتقرون السفن والموانئ والنوارس .. يكرهون الزراعة والأرض ويمجدّون التجارة .. ينامون الثامنة مساء .. يبدّلون أسرّتهم ونساءهم وأحذيتهم في أكثر الأحيان .

 

 

الخمارّة

 

قصة قصيرة جدا

 

أشدّ ما يحزنني أن مدينتنا الطاهرة الفاضلة تنبذ الخمّارات العامّة ، فالناس عندنا جدّ شرفاء ومتدينين في ظاهر الأمر، وهم يؤمنون بالقول المأثور : ( فإن ارتبكتم المعاصي فاستتروا) ، ولذا فهم يرتكبون جميع أنواع المعاصي سرا غير هيّابين ولا وجلين ،فلقد تعوّدوا مستترين أن يصنعوا من منازلهم خمّارات محليّة فسيحة ، ومن نسائهم زجاجات أولد براني , لا يسقون منها إلاّ أفراد القبيلة والعشيرة والطائفة حفاظاً على الدم والمنيّ حتى لا تفسد السلالة المقدّسة .. وأنا تعلّمت أن أحتسي الشاي المغشوش على الأرصفة المهجورة الوضيعة ، فلا بيت لي ولا امرأة ولا صديقة ولا قبيلة ولا عشيرة ولا طائفة , ولا سماء ولا أرض .

أضيفت قي 03/12/2005 / خاص القصة السورية

 

 

القبّرة

 

 

الإهداء: إلى الصديقة الدكتورة مها النجار

 

مسكت قبّرة شرنقتها , وبدأت تجدل خيطا من نحيب نائم . . ومدّت الخيط من حي العمارة الشرقي حتى حيّ القصور في طرف المدينة الغربي , وما ان شاهده الرصيف حتى تعلّق بأهدابه .

 

صرخت القبّرة : اترك الخيط ,, دائما أنتم الأرصفة آفاقكم ملعونة .

مسك الرصيف ثوب القبرة , ورفعه عاليا .. بان فخذها الجميل .. وانخرطت في بكاء حاد , وقالت : أتحبني ؟ إذن تزوجني .

طارت القبرة , وتعلّقت بغيمة .. لوّح لها الرصيف .. مدّ لها عصا سحريّة . تحرّك فيها أفق الشهوة , فبالت على المدينة وجميع أحيائها ورجالها ونسائها وأرصفتها , وولاتها وعسكرها , .. وكان الحدادون يلوحون بمطارقهم , والمدينة ترشف زجاجات عرق التين المغشوش , أمّا نساؤها الألقات فكن يتشاتمن بفحائش بذيئة لا تخشى لومة لائم .

 

 

 

الأم

 

 

ظلّت تدعو الله سنين كثيرة.. ولم تترك ولياً من الأولياء الصالحين إلاّ وزارته , وقدّمت له البخور والمجامر والكبريت.

وعندما عدت من بلد ناء خلف البحر، قالت: جلبتك صلواتي يا جاحد، يا ناكر ، يا ناسي الحليب واللبن.. ومع الأيام سرعان ما تشكّلت غيمة،و جبل من نار بيننا. وتذكّرت أنّها أرضعتني مازوتاً وكيروسيناً. أهو الحليب أم الدفلي؟.. نسيت الحليب والثدي، ولا زالت بقايا أشواك الصبّار.

كانت تقول لي مرّات كثيرة: يا ليتني لم ألدك.. ليتني متّ يوم ولدتك.. أنت عاق. توقّعتها يوم كنت طافشاً في بلاد الأعراب والأغراب الموحشة الضيقة قادرة على صنع الأشرعة, فأرسلت لها قماشاً أبيض من أمستردام, وثوباً من الشانزي ليزيه، لكنّها مزّقتهما, لأنّهما من صناعة بلاد الكفار، البلاد التي حاربت المسلمين وفتكت بهم ولا تزال تفتك .

كان أشدّ ما يزعجها الحديث عن المرأة والجنس.. كانت تتهمني بالفجور والفساد، وتتهم صديقاتي القليلات بالعهر والدناءة.. وكانت تسألني دائماً عن أحوال الدنيا والعباد، فأحدّثها عن علاقاتي مع بعض نساء البلدان التي أزورها, وعن جوعي وفقري ونومي على أرصفة الشوارع, وتحت أقبية المترو، وعن غربتي الكلبيّة, وعن وطني الذي يتّمني, فتحترق أعصابها وتصيح: يا كافر .. يا زنديق.. أبوك قديس ، وجدك ولي من أولياء الله, وجدّ جدك بنوا له قبّة ومنارة, وقريباتك من أطهر نساء المعمورة , وأعرقهنّ حسباً ونسباً. وكنت أتاملهنّ جيدا , فلا أرى إلا طبولا جوفاء, وسنين عجافا, وقحطاً وبواراً , وغرورا كاذباً, وطهارة روح زائفة, وعنجهية ترتع في أسمالها البدوية والقبليّة والطائفيّة والعشائريّة .

كانت باردة كالعجين , وتكره جميع الرجال, باعتبارهم خنازير بريّة، ومتوحشين جنسياً, ولا يكتفون بإمرأة أو جارية مهما كانت جميلة وشهيّة, ولا تشبعهم كل نساء الأرض ـ على حدّ تعبيرهاـ وعلى الرغم من أنّها تبجّل والدي تبجيلا منقطع النظير, إلاّ أنها لم تكن على وفاق جسدي معه, وكانت في أحيان كثيرة تفتعل الخصومات , محتجة بأنّها ضلع أعوج, ولا تعطى المكانة اللائقة بأجدادها الغرّ الميامين.

لا تزال بقايا الطفولة البعيدة تهبّ كالسنبلة في ذاكرتي. وكانت تصرّح سراً وعلناً: بالناقص من الرجال، ليذهبوا إلى الجحيم, لولا أنهم يزرعون الأطفال الوسيمين في أرحام النساء لكانت الخنازير أفضل منهم.

وقال لي والدي: إنّ طاقاتها الجنسيّة قد ماتت منذ عشر سنوات، بعد أن أجرى لها طبيب جرّاح فاشل ، تخرّج في جامعات المعسكر الاشتراكي, عمليّة جراحيّة خاصّة.

أذكر مرّة أني اصطحبتها لزيارة أصدقاء لنا، وعندما وضعوا شريط فيديو لفلم أمريكي ، ملأ صيته الدنيا, وأقامها ولم يقعدها بعد, بدت بطلة الفلم شبه عارية، فجنّ جنونها، وشتمت أعداء الله والكفار في أمريكا وروسيا وجميع أصقاع الدنيا. وعندئذ اعتذر صاحب المنزل، واضطرّ إلى حرماننا من متعة أمريكا وعظمتها الأثيرة, وسحر نسائها اللواتي يعشقن الصحراء العربية الكريمة, وجلابيبها , وجبروت رجالها, وأنهار بترولها الدافقة عزّا وأبّهة وكبرياء هامة ونفس أبيّة.

في الآونة الأخيرة لاحت لها خاطرة.. بدا لها زواجي هاجساً وهمّا، لكني أصررت على أن من أتزوجها لا بدّ أن تكون دافئة العينين, وتكون صديقة, وتحبّ الشعر والموسيقى, و لها صداقات وعلاقات إنسانية كريمة, وصادقة قولا وعملاً, وليس شرطاً أن يكون لها غشاء بكارة, فالماضي ملك لأصحابه, وما يهمني حاضرها النظيف, فصاحت مفجوعة: يا ويلي .. يا مصيبتي.. حفيد المشايخ والقبب والأولياء والقديسين يريد مطلقة! لكني لم أستطع الزواج لأن نساء بلدتي شرانق جميلة محصّنة باللؤلؤ والمرجان, وضفادع لا تفتح فخذيها إلا للمستبدين والطغاة، وأصحاب المكاتب العقارية ، والأحذية الجميلة التي تقود سيارات " البويك الأمريكية " ، و " ميتسوبيشي اليابانيّة"، وسرطانات يتركّز شرفها المقدّس المنيع في نصفها الأسفل, وأكفالها الجميلة, والمصيبة إني لا أريد إلا مطلقة  كما تقول أمي .

أضيفت قي 27/04/2005 / خاص القصة السورية

 

 

البؤبؤ

 

 

بين البؤبؤ والقلب تاريخ مشروخ ونصال ورماح ، وسندباد بحري يغازل جواري بغداد, وجزيرة نائية يبتلعها غول .

يرفع البؤبؤ بصره إلى السماء , وفي المصعد يقابله منقار بجعة . قال المنقار للبؤبؤ :

ـ أترغب في صداقتي ، فأنا أرعى حرمة الصداقة وأسافر كثيراً، وأشتري هدايا, وأعرف النساء والخمارات , ولي فيلا على شاطئ ( كان) ؟ .

وفجأة انقطعت الكهرباء .. احمرّت عينا المنقار, وبسط كفه اليمنى , واستطالت أظافره . لكنّ البؤبؤ سرعان ما انزلق , وخرج يتأمل الفضاء  الرحب المغروس بالنبال الأسطورية .

 

 

 

 

وضبطني البحر

 

 

شطّ يلفّ المدينة ومرايا تعانق الشاطئ.. وطريق السانية يحتضن الغابة الممتدة من سيدي بلعباس إلى وهران . جلسنا معا .. كنا أربعة ..أخوها   وزوجته . مسكت كأس البيرة في خمارة البطّ البلدي .. بدا وجهها نقيا شفافا , رسم حزمة نور داخل الكأس وسافر إلى البحر . هل تحبين البحر؟

مدّت عينيها صوب الأفق. كانت ساحرة . وأخذت الشمس تعانق ضوء البحر بتلذذ وكسل فاترين .. ثمّ أخذت تغني مقطعا من أغنية وهرانيّة . بدا شعرها كعيني القبرة.

ـ هل لي أن ألمس شعرك؟

قلت لها ولم أنتظر موافقة .. كان طريا كزجاجة (( نواس )) الجزائرية .. وكان يسافر بين مساماتي شعرا وأغاني ورماداً .. ما أجمل حضور اللحظة !

مشينا على شاطئ السانية .. كمشت قبضة رمل ورششتها في وجه   الموجة .. تأملت عينيها .. صافيتين كانتا .. وما أشدّ جمال بريقهما ! .. و ضبطني البحر .

قالت : هل أنت مشتاق إليّ ؟

ما أصعب أن ينتظر الفرد امرأة يعشقها حلما وخيالا لخمس سنوات. كان شوقي ملعب جياد فقدت أسرجتها.. حاورت النجمة .. لكنّ النجمة غطّت وجهها ولوّحت، وفرشت ظهرها ، وسرعان ما ركبها البحر وسافر .

أخذت يدها .. اشتعل في قلبي فانوس علاء الدين . وكان أخوها يعانق زوجته غير بعيد عنا. كنا وحيدين , وكان المساء يغفو والسانية ترقص آخر مواويلها.. احتضنتها .. لا أدري كيف تمّ ذلك . ارتعشت الصخرة التي كنا نجلس عليها . نادانا صوت أخيها : عيب .. احتشما .. حارس الشاطئ يراقبكما .

سأخطبك الليلة .. كوّرت رأسها الجميل ودفنته في وجه الأفق ، وابتسمت . وكان كل ما فيها يلفّ رداءه الجميل حول جسد المدينة .

ـ يا خالتي سعيد أن أطلب سميرة .. يا خالتي تسافر الأحلام وتبقى   الألفة .. يا خالتي تكنّس الريح طرقات سيدي بلعباس .. يا خالتي العسل والمنقار .. يا خالتي الشطّ والجسد .. الوجه والفراشات .

ـ صدّقني نحن نحبّك يا خالتي .

وفي الصباح قبّلتها .. وركبت حصاني ويممت شطر فاس .. لم أر سميرة بعدها .. رفرفت .. حلّقت .. كتبت رسائل إلى أسرتي . أين الوجه والصدى والذكريات يا سميرة ؟.

غابت سميرة وأدخلوني السجن المركزي بحي حسان بالرباط بتهمة ملفقة ولئيمة، وهي إسهامي  في زرع بذور الفساد الاشتراكي الذي يهدد القيم والمعتقدات والدين الإسلامي الحنيف، و يشهد عليّ الزمن والتاريخ أني ما كنت اشتراكيا و لا رأسمالياً في يوم ما، فأنا معروف بجهلي بفن السياسة وتياراتها  . وما أقسى سجن الرباط المركزي !.. الجدران والسجون والقلاع .. وجلسات التعذيب الكهربائية .. الجسد وسيّاط السجان الذي تدرّب في  أعرق أكاديميات واشنطن وشيكاغو .. شهورا وأنا أرسم شارات ورموزا ونخلا وسروا على جدران سجن الرباط المركزي .

غابت سميرة وكبرت موجات الندى .. وعندما عدّت إلى بلدي محطّما ، وجدت رسالة .. كان الهمس الشفيف ممرا إلى قلب السانية . قالت : ابنتي الصغيرة تقبّل (( عمّو )) ، وتهديه أحرّ تحياتها.

إشارات

ـ السانية ووهران وسيدي بلعباس: مدن جزائرية جميلة جدا . زارها كاتب هذه القصة مرات عديدة .

ـ حي حسّان: من أحياء مدينة الرباط المغربية التي عاش فيها كاتب هذه القصة . 

أضيفت قي 19/04/2005 / خاص القصة السورية

 

 

 

 

كوابيس

 

 

الإهداء إلى : أخي وصديقي الدكتور إبراهيم سعد الدين ـ القاهرة

الكابوس الأول:‏

يحاصرني الجند.. تشرئب أعناقهم، تلمع رماحهم كوميض برق.. يصطفون في أنساق متلاحمة، تتشابك الرماح وتتعانق الخوذ، ترتفع الأيدي ومعها النصال، تضيق الحلقة من حولي وأصرخ، لا أحد يسمع صراخي، أستنجد بكل الذين عرفتهم.. يشيحون وجوههم عني كعادتهم. تتقدم النصال من جسدي عقارب برية تقتلها الشهوة ثم تغرس أبرها السامة في جسدي يتمركز نصل حول عنقي، ويغرس آخر في صدري، وثالث في ظهري، وتحاصرني البقية من الاتجاهات كافة.‏

يلوح شبح أمي، طيف خيال يمر مسلماً حزيناً ويمسح شفتيه الطريتين بقلبي، يشدني لهنيهة ثم يرتحل غائباً لا طعم ولا لون له.‏

اقرأ يا ولدي "سورة يس"، حاولت أن استحضرها رفضت، قرأت "قل أعوذ برب الفلق"؛ بدلاً منها، لكن الجند ما تزحزحوا من مواقعهم ولا اهتزت سيوفهم، وخزني أحدهم برأس الرمح في خاصرتي، دخل فيها مسافة إصبع أو إصبعين ثم عاد أحمر وردياً، كانت الليلة صقيعاً، والظلام يلف دروب المدينة، وصمت موحش يتوغل أعماق الظلمة، وتتسرب قطرات الوكف "دلفة" بعد "دلفة" عبر شقوق تشكلت في سقوف أكواخ البحارة المرمية بانسجام في طرف الحارة الغربية، كانت عيونهم حمراء، وكانت أحذيتهم العسكرية طويلة وملمعة حديثاً، وكنت في وسط الحلقة حبة رمل في صحراء مترامية الأطراف، تائهاً افترش الرمال، مستسلماً لشمس الظهيرة في عز توهجها. لكزني آخر برمحه في جبهتي وسألني غاضباً:‏

هل تتمنى شيئاً قبل أن تموت؟. لم تكن الأماني قادرة على الحضور، تتلاشى أمام الرماح المسلطة، ضاقت فسحات الأمل. لم أجد شيئاً أقوله للعسكري، كنت أعرف أني لا أريد شيئاً، طالما أن الأشياء لن تأتي أبداً. جاءني صوتها رقيقاً مثقلاً بالخيبة، هل قرأت "سورة يس"، إن لم تفعل فاقرأ "قل هو الله أحد"، لم أتمكن من قراءة السورة الكريمة، فجأة انقضت الرماح ضربة رجل واحد، انغرزت في مفاصل جسدي، تدفق دمي، تراجع الجند إلى الوراء بخطوة نظامية، كانت أبواقهم تملأ الفضاء. مرددين لحناً عسكرياً كذلك الذي يردد بعد الانتصارات. وكانت دمائي تملأ الساحة العامة.‏

الكابوس الثاني‏

تتمدد خطيبتي مسكونة بالعزلة على سرير أثري ورثته عن أجدادي الميامين، تتشامخ ذليلة، يحيط وجهها شعر أسود فاحم، تحدث في سقف الحجرة. أمد يدي، لا تصل، مسافة شاسعة تفصلني عنها. تناديني: اقترب، هات يديك يا ضو القلب، أحس بشلل يأكل مفاصلي، أمد اليدين.. عاجزتان عن الوصول. رغبة مجنونة في داخلي تعلو وتهبط، وقلب خطيبتي يصرخ مكتنزاً، وأحس بدوار شديد يقذف بي في أعماق اللجة منفياً عاشقاً عاجزاً، تنتفض خطيبتي كعصفور مذبوح صارخة:‏

اقترب، تلفني الأمواج، أطفو فوق سطح الماء.. تدفعني نحو الأعماق ثم تعيدني قاذفة أملاحها في عيني، أتكور داخل السرير، وتتشابك أخطبوطات مشكلة حلقة دائرية أبدو وسطها حبة رمل مرمية فوق الشاطئ. ضربات قوية على باب الحجرة، هاهم قادمون، أعقاب بنادقهم تضرب الباب بعنف:‏

-اخرج وإلا كسرنا الباب، تهتز الحجرة ويتجمد رعب في عينيها، أحاول النهوض، أستجمع قواي، رجلاي تعجزان عن الوقوف، تسرع مرتدية عباءتها، تندس في أعماق السرير، تغطي أركان الحجرة. تشتد قرعات الباب، ينخلع مرمياً.‏

يتدافعون كالسيل، يملؤون أرض الحجرة، يصيح أحدهم: قيدوه، لم أكن بحاجة إلى قيد، كنت مشدوداً إلى السرير، تفرس أحدهم ملياً في وجهي، وأخرج كرباجاً مخططاً ساطني به عدة مرات كنت فاقداً حركاتي، وسرعان ما قلت له: أي جنون هذا؟‏

-ماذا تريدون من "رجل من غمار الموالي" مثلي؟.‏

-لا يهمنا ذلك.‏

أحسست حركة خفيفة بدأت تدب في أصابع يدي، غطت مسافات يدي، انتقلت إلى الذراع، وبسرعة أمسكت الكرباج وقذفته، وبصقت في وجه الجندي، كان ذلك لثوان معدودة، سرعان ما تقدم آخر وهوى بعصاه المدببة على يدي اليسرى، انخفضت اليد نازفة ارتفعت بقية العصي وأخذ الجند ينهالون عليّ ضرباً.‏

تقدم ثالث إلى خطيبتي وطرحها "مزق ثيابها.. عراها" بدأت ترتعد صارخة، وكان جسدها ينزف، أخذت عيون الجند تغرس مخالبها في أطراف الجسد ثم تناوبوا على جسدها واحداً بعد الآخر، قيدوني.. صرخت: أتقوا الله. كانت الحبال تحيطني من أطرافي، تقدم بعضهم حاملاً جسدي، وكان بعضهم الآخر ما يزال يعتدي على خطيبتي، قطعوا شوارع المدينة الرئيسة، وفي الطرف الآخر صعدوا قمة جبل شفشاون، ثم قذفوا بي إلى أعماق وادي أبي رقراق السحيق.‏

الكابوس الثالث‏

يسطع ضوء الشمس، شروق يتقدم بخطا ثابتة بطيئة، تعانق الشمس قمم الجبال العالية، ثم تنحدر كسلى على السفح ميممة شطر الأفق، يقترب الأفق.. تقترب الشمس، يتلاحمان في عناق طويل، شفق المغيب دم. تتشكل دائرة، دائرتان، ثلاث، ثم سرعان ما ترتسم على صفحة البحر، تبحر السفن مسافرة، تدخل عمق الدوائر، تحيطها من كل جهاتها، ترفرف النوارس محلقة عالياً، تلوّح للشمس الراحلة الضاربة أعماق الاغتراب تلويحة أخيرة، ثم تشد حقائبها قاطعة مسافات شاسعة باتجاه الميناء، تقدّم آخر نورس من قرص الشمس، ضمه بذراعيه ثم انهال عليه تقبيلاً مرتعداً بصمت، غير أن الشمس رمقته باحتقار، ولم تأبه لبكائه الصامت، تركته وحيداً وأسرعت، صفق بجناحيه وارتفع محلقاً متابعاً بقية النوارس، الشوارع قاتمة تمتد من الخواء إلى بوابات المنفى، أمشي.. أتسكع.. أتحسس الجدران.. يلاحقني صمت موحش، أحاول أن أطرده، يرفض، يلتصق بي، يتغلغل داخل مسامات جسدي، أحدق في وجوه المارة تائهاً غريباً، لم أجد وجهاً واحداً يعرفني. يعانق الليل المدينة، يتكوم فوق أرصفة الشوارع، أتابع السير، أتلفت يميناً ويساراً، أبواق السيارات تصم الآذان صخب مجنون يعسكر في المنعطفات والزوايا سيارة تقترب نحوي، تسلط أضواءها الكاشفة. يعميني الضوء، تقترب أخرى قادمة من الجهة الرئيسية، وثالثة من الجهة الفرعية، أحاول الهروب، أركض، تلاحقني السيارات. أنزع حذائي، أتماسك وأنطلق، سرعان ما تلاحقني، أتوسل إلى رجل المرور أن يوقف السيل الزاحف، ينظر إليّ مستهزئاً ضاحكاً. تحجر اللون الأخضر في شارات المرور، غاب البرتقالي والأحمر، كل المنافذ مسدودة من الأمام والخلف، وقلبي يرتعد، تقدمت السيارات جميعها، كنت قادراً على تمييز وجوه سائقيها بشواربهم الطويلة، المسترسلة، ونظاراتهم الزرقاء المستديرة، ضاقت المسافة بيننا، زاد اقترابها، ثم صدمتني جميعها، سقطت نازفاً دمائي في الشارع، بينما ظل رجل المرور يتأمل حركة السيارات، وهي تعود مترنحة سكرى، ويحني قامته لها إجلالاً وإكباراً.‏

الكابوس الرابع‏

يسرع الناس في حزم حقائبهم، أتقدم بطيئاً إلى أحد المارة:‏

-إلى أين يسافر هؤلاء الناس يا أخ؟.‏

يشيح وجهه عني مزدرياً، ويتابع سريع الخطى حاملاً حقيبته وسلة صبار بيده الأخرى، تتقدم امرأة في الخمسينات، اقترب منها مسرعاً:‏

-ماذا أصاب القوم يا خالة؟ لماذا يجمعون حقائبهم؟.‏

-إنهم مسافرون يا ولدي، ألا تريد السفر؟.‏

أقف عاجزاً أمامها ولا أدري ماذا أقول.‏

يبدو أن شيئاً مس عقولهم، ولذا فهم يريدون أن يتركوا الأرض والأهل. تتابع المرأة:‏

الطوفان يا ولدي، ألم تسمع بالطوفان؟ يقولون أن طوفاناً سيأخذ المدينة عن بكرة أبيها، مواشيها وزروعها وبيوتها، أسرع وأحضر حقيبتك.‏

لم يكن لدي حقيبة ولا ملابس ولا كتب، كنت خاوياً تماماً، تركتني المرأة، وتابعت سيرها. تقدمت إلى الميناء، وقفت على الرصيف أراقب السفن المبحرة باتجاه المجهول، كان الضباب كثيفاً، والبحر هائجاً، وثمة سحب سوداء تملأ قبة السماء، ألوح للمراكب المسافرة، لا أحد يلتفت إليّ.. ينفذ صقيع إلى أعماقي. أخيراً هاهو مركب يقف، حمداً لله لا يزال العالم بخير.. يصيح بي أحد البحارة: أصعد بسرعة، لا وقت لدينا، كان المركب محملاً بالصيادين، وببعض النساء اللواتي أفردن شعرهن للريح ولموج البحر، كانوا يرتدون قبعات بيضاء مخططة، وكانت شباكهم تملأ المركب، تتمدد بجوارها أسماك تفتر عن ابتسامات تنبئ عن طمأنينة نفس وراحة بال. سألني أحد البحارة:‏

إلى أين يسافر الأخر؟ لم أكن قادراً على معرفة جهة سفري، لكني أجبت: لا أعرف، إلى حيث يسافر الناس، ضحك البحارة، نظر أحدهم إلى زملائه ورمقني بسخرية هل سمعتم أن مسافراً لا يعرف وجهة سفره؟‏

تابع المركب سيره وسط الأمواج، هبت الريح قوية، تمايل المركب، هزته الريح، تقدم الربان من البحارة، أعطاهم تعليمات لم أفهم منها شيئاً، زادت قوة الريح، تمزق الشراع، صعد بحار شاب محاولاً إصلاحه، لكنه قبل أن يصل أزاحته الريح، فهوى ساقطاً في الماء، صرخ البحارة: لطفك يا رب. احتدت الأمواج، عانقها صخب، هوى الشراع، دار المركب حول نفسه، ودع البحارة بعضهم، عانقوا نساء المركب، ساد صمت ثقيل، ثم سرعان ما قذفت بنا العاصفة إلى أعماق البحر. في الفضاء كانت بعض النوارس تعلو وتهبط معانقة صفحة الماء، وكانت الشمس تجر ذيولها متثاقلة ذابلة نحو خط الأفق الغربي.‏

المغرب-الدار البيضاء ‏          

أضيفت قي 17/04/2005 / خاص القصة السورية

 

 

أحلام مليكة بنت الأخضر

 

 

على أشرعة الموجة أحزم حقائبي, وأقطع ضوء الأفق . تشدّني الآمال البعيدة وأضواء النجوم الشاحبة ومنارات الميناء . لم أسافر منذ مدة .. بدأت تضعف عزيمتي . وحده شاطئ الأمان بعيد مهجور . أيها الشاطئ الحلم متى تقترب ؟

سماء مارس شاحبة صامتة .. أبواق سيارات أمريكا الفاخرة تدغدغ أحلام نساء مدينتي ..الشارع طويل ضيق ، قلب المدينة أسود يتخبّط ملدوغاً بدمائه المسمومة . يأتي مارس محتضناً ضبابه وسماءه السوداء المطيرة .. صوت مطربة شابة تغني وهي منفوشة من جميع أطرافها : (( حبينا وتحبينا )) ، يمزّق الصوت وحشة المساء لتزداد وحشة وفاجعاً . تتأمل مليكة ضباب المدينة ، تصرخ في وجهها : أن أوقفي عربدتك أيتها الماجنة ، فأنا بحاجة ماسة إلى حذاء فرنسي وعطور وفساتين ، ولا بدّ من أن أحتفل بالأعياد القوميّة والوطنية .

فردت مليكة أحلامها العريضة وتأملت مدينتها الأثرية العريقة التي مرّ عليها الغزاة فرادى وجماعات هي ذي تلمسان التي تحبّها وتخبئها في شغاف القلب والروح . هي ذي تلمسان الحصن التي يمرّ منها الزمان شامخا بهامته ممتطيا ألف جواد لا تعرف كبوة, وعندما يصل إلى ضريح سيدي مسعود يرخي لجياده أعنّتها لتغفو قليلا على وقع انتصاراتها, ولينحني إجلالا وتقديرا لزعيم تلمسان الروحي الولي سيدي مسعود الذي يؤكّد التلمسانيون أنّ الملائكة تزوره مساء كل جمعة وفي جميع الأعياد والمناسبات الدينية المقدّسة . هي ذي تلمسان تنزع عظمتها الأسطورية وأبهتها المكللة بنياشين الزمن وأوسمته لتتسربل ببذلات الدرك الوطني السوداء الداكنة، وعصي رجال الشرطة الغليظة المدببة.

وسرحت في الفضاء البعيد وفردت أحلامها الشفيفة . وهمست : يا سيدي مسعود، أيها الولي العظيم أستحلفك بمنزلتك عند مولاك العظيم.. أستحلفك بأحلام البسطاء والشرفاء وبصلوات الثكالى والمقهورين أن تطلق سراح عبد الله العمروش من قبضة فقيه عسكر الرباط وواليها وزعيم الحشاشين فيها .

هبط المساء صقيعا على قلبها الصغير وقد تدثّر بعباءة مراكشية ثقبها الزمن, وهمس : مليكة .. أيتها الغريبة هنا منفاك وموتك, قلبي يقطر عليك جوى, سامحيني ..لا أستطيع أن أمنحك دفئا ولا عطورا ولا فساتين, فأنا خاو وحزين .

تحسست مليكة تذكرة القطار .. صفراء ملتوية تتأهب لقطار العاشرة . فتحت مجلة ( باري ماتش )..أخبار سيدات المجتمع المخملي وفضائحهن ّ تتربّع الصفحات الأمامية بخطوط عريضة برّاقة . وهبطت ذكرى خطيبها عبد الله العمروش الذي اختطفه جلاوزة مولانا الباشا أعزّه الله وأطال عمره ؛ فعانقتها بصمت وأنشدت لها عشرين موشحا وتوسلت : فرّج الله كربتك أيها الحبيب.

بدا حذاؤها قذرا ..هنا وسخ العالم وفئرانه وبعوضه وطينه ، وأخرجت منديلا من ( هاي فاين ) ومسحت الحذاء وشكرت الشركة الوطنية الجزائرية للنسيج والملبوسات القطنية لأنها لم تزد بعد في أسعار مناديلها.. ثمّة بقع بيضاء عليه . وفكّرت : كيف يمكن تلميع الحذاء جيدا ؟ فوهران الحلم بعيدة ، ولا بدّ أن يبدو حذاؤها أحمر مقبولا حتى يليق بوجوه نساء وهران المشعّات ألقا وشبابا، اللواتي يجبن شوارع العربي بن مهيدي, وديدوش مراد، وجميلة بوحريد، ليل نهار, ولا تهدأ لقاماتهنّ الممشوقة صارية ولا سفينة ولا ريح . وأخرجت أحمر شفتيها , وقرّرت أن تطلي بقاع البياض في وجهه.

يا لله كيف يهبط مارس كل عام ضبابيا غولا يفترس شغاف القلب ، ويلدغ الأماني , ويسمّمها بالأفيون والكوكائين ورمال الصحراء! . وشدّت حزام معطفها الذي بدأ يرتجف لوقع صقيع مار س، لو أنّ مولانا الباشا يطلق سراح خطيبها عبد الله العمروش لأسرعت وطلبت منه أن يشتري لها معطفا وواقيات مطرية تقيها من أمطار مارس الطينية . آه .. أين أنت يا ( العمروش ) .. تركت قلبي يمامة مذبوحة على أرصفة تلمسان وأزقتها الضيقة ، وها أنت تستلذّ سجنك , وتعاقر الشمّا والأفيون , وتلعب الدومينو ، وتراهن على أحصنة الأحزاب النافقة .. كم قلت لك إنّ هذه الأحصنة لا خيار فيها ولن تصحو من كبوتها أبدا ، لكنّك لم تصدّقني ، وها أنت ترقد وحيدا ثملا بالفاجعة القاتمة، و رفاقك الأشاوس في الأحزاب يبنون الفيلات ، ويستوردون الكاديلاك ، ويبتنون الإماء والسراري ، ويصنعون الدفوف والمفرقعات الملوّنة . تبا للبوليتيكا الخامجة (1) . . ما أورثتنا إلاّ الفقر وذلّ الحاجة وسيوف السجانين .

وهران الجميلة بعيدة , يقابلها البحر وحمامات السونا ومقصورات نساء العسكر العظماء، وشاطئ السانية يفترش الرمال مراقباً السماء ، ونوارس البحر , وفي الطرف الآخر تشعّ منائر( أليكانت ) الأسبانية البيضاء التي اغتصبها جنود الأسبان يوم كان وزراء الطوائف يتعاركون على غنائم الحروب وسباياها الحسان . وقالت مليكة : خذني أيها النورس إلى ( أليكانت )، لكن ّ النورس أغطس منقاره في صفحة الماء وأخذ سمكة ملوّنة شهيّة وابتسم بصفاء وبهجة وأخذ يغني الموشح الأندلسي :(( أيها الساقي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمع )) .

ـ خذني أيها النورس أغن لك أجمل ما قالته العرب , وأجمل ما لحّنه الأجداد , وأبدع ما غنّته جواريهم الحسان .

لكنّ النورس تأمّلها جيدا ، وقال : أيتها الفاتنة الحسناء ، أنا أكره الأحزاب السياسية.

وهمست مليكة : يا للغبي من قال له : إني أحبّ الأحزاب السياسية .

ـ أيها النورس : ها جدائلي وقلبي .. اربطني بجناحيك .. أشعلني وجدي وتوقي,ومسامات قلبي امتلأت بأضرحة الأجداد،ونخيلهم,وهاماتهم السمر.

وقال النورس : خذي نصف هذه السمكة ولا تثرثري .. ألا تعرفن إلاّ الثرثرة ، وتهريب الحشيش يا نسوة تلمسان ؟

وأقسمت مليكة برأس والدها , وضريح سيدي مسعود أنّها لم تهرّب جرعة حشيش طوال حياتها . وهزّ النورس رأسه ممتعضا : هل تعتقدين أني مغفّل حتى أصدّقك .

تموتين شريدة في تلمسان ، تنبحك الكلاب ، تتعفّن عظامك ، لا كفن ولا سرو تظللك .. مليكة بنت الأخضر .. هنا نور الشمس والمقبرة ، وقاذورات المدينة , وصفصافات تلمسان ، تخرجين من رحم الأرض مرتين : يوم ولدتك أمك ويوم تدخلين المقبرة .

ـ أيها النورس ...

ـ أنت تسببين لي صداعا , اسكتي أو كلي نصف هذه السمكة .

ـ أيها النورس .. خذ رسالة إلى حبيبي ( العمروش ) ، بحقّ الأسماء الحسنى, وبجميع نقوش خاتم سيدنا سليمان وطلاسمه , وبالعرش وأسماء العرش , وحملة العرش .

ـ وأين هذا العمروش الأحمق ؟

ـ في سجن سيدي يعقوب المنصور .

ـ أيتها الحمقاء .. من قال لك إني أتدخل في سياسة مولا نا ؟

ـ ومن قال لك أيها الجاهل أن تتدخل في سياسة مولانا ؟ مجرد رسالة عادية , ولن تضيرك في شيء .

أنهى النورس نصف السمكة , وطلب من مليكة أن تأكل النصف الآخر , وما إن شمّتها حتى قذفتها إلى قاع الموجة .

وقال النورس ممتعضا : نساء تلمسان يجحدن نعمة ربي . لماذا هذه المدينة جاحدة بطرة ؟ أطعمها سمكة .. تقذفها في وجه الموجة . مليكة أيتها الجاحدة الفاتنة ، هنا مقبرتك ومنفاك , وأرضك الطامثة أبدا . وطفق النورس يمتطي ظهر الموجة آخذاً في الابتعاد .

وهران الجميلة تستحمّ بأمواج السانية وشطوطها الساحرة البديعة ومقاهيها , وحاناتها تقيم حفلات الشتائم ومسابقات الدومينو . من هنا عبر الأحبة البحر صوب ( أليكانت ) تاركين غابات البحر والجبال المشعّة بالآفاق والنخيل المضيئة . . ومن هنا عبر الأخضر أول سفينة مرتحلة ، وها عشرون عاما مرّت وما عاد هذا الحبيب . وأحسّت مليكة بغصّة حادة تنخر مسامات روحها لذكرى والدها الذي لا تعرف له وطنا . أيها الأخضر الأب الجاحد القوي في روحي لمن ترحل ولمن تتركني بعد أن ماتت أمي كمدا عليك ؟

سماء مارس تزداد قتامة , ومطرا محمّلا بالأسيد ، وأرض تلمسان يفتك بها الطاعون وأحذية عسكر الباشا العثماني وضباطه . مظلاّت محطّات القطار ترقد مثقوبة على هياكلها الخشبية التي أخذت تتآكل ، وقد غطّتها بعض صور المرشحين للمجالس البلدية من حزبي الاستقلال والكونفيدرالية الديمقراطية للشغل ، وأحزاب أخرى . زاد هطول المطر فتخرّمت صور المرشحين ، ومزّقتها الريح ، فأخذت تلوذ بالصمت وسلال القمامة ، محتضنة برامجها الإصلاحية والتنويرية .

ارتجفت مليكة لوقع قطرات المطر التي بلّلتها ، وتحسست تذكرة القطار ، لا تزال سليمة تنعم بالدفء .. بعد ساعات طويلة تصل إلى وهران .

بدت تلمسان نخلة شامخة من شارع عبّان رمضان حتى ضريح سيدي مسعود ، وهاهي تتلفّع بمآزر موشحات زرياب الموصلي , وتغسل جناحيها ورمشها بسماء مارس هذه السوداء الكئيبة . وقع خطوات المطر يتموسق مع صرير عجلات القطار الذي بدأ يقترب من محطّة تلمسان المركزيّة. يخرج عامل محطّة القطار مهرولا ببذلته ( الخاكي ) التي زُينت بشعارات خطوط السكك الحديدة وبشعارات الولاء والطاعة لمدير المحطّة العظيم. يلفظ القطار آخر اختلاجاته .. يصيح بالمسافرين : أن أسرعوا، بعد دقائق قليلة ستبدأ رحلتنا إلى وهران .

على الكرسي الممزّق بضربات المدى والألفاظ البذيئة, وذكريات المسافرين وحماقاتهم ،تسند رأسها مليكة ، وتعانق خضرة الجبال الساحرة التي تقطعها الأنفاق الطويلة . بعد ساعات تصل إلى وهران. إيه مليكة .. كم رائع أن تصلي إلى وهران .. مدينة البحر والشعراء والنساء الشهيّات ، والعظماء والعباقرة, والمجانين , والمجاهدين الّذين كرسوا كلّ أوقاتهم، بعد أن خمدت الثورة الجزائرية الكبرى, للعراك حول طاولات الدومينو والورق .. مدينة الفضاءات المفتوحة حتى ( آرزيو ) و ( أليكانت ) ، و(سيدي بلعباس) .

ناداها صوت النادل : ما ذا تشربين يا آنسه ؟

ـ زجاجتا ( نواس ) .. يرحم والديك .

ـ لا يوجد( النواس) .. يوجد القهوة والشاي فقط .

لوقع سريان القهوة السوداء ( الكافي برس)، الوحيدة في العالم التي تشعل فراغ الوحشة والذاكرة ، وجنون الحزن الراعف ــ كما يؤكّد عبد الله العمروش ذات ليلة لمليكة، وهما يغادران فاس هرباً من قبضة فقيه العسكر ـ تشعر مليكة بمذاق خاص وبطمأنية داخلية ، يقطعها صوت نقرات خفيفة على زجاج النافذة .

ـ مليكة , ها عدت إليك .. افتحي النافذة .

دخل النورس مرتعشا تحت وقع حبّات المطر الغزيرة .

ـ ما الذي جاء بك أيها الأحمق في هذه الساعة؟ أما زلت تخشى السياسة؟

ـ أستحلفك برأس الأخضر ، وبسيدي مسعود أن تأخذيني معك .

سماء مارس تزداد قتامة .. صرير عجلات القطار يشرخ قلب مليكة .. وقع حبّات المطر .. الأخضر الجميل الهارب وراء حدود البحر .. العمروش المقامر على آخر جواد فاسيّ تُقفل آخر حجرات الدومينو بين يديه , و يسوطه الجلاد مائة سوط لغبائه وخسارته الفادحة في الدومينو .. وهذا النورس الأحمق هو الآخر يريد وهران . عجبا ! كلّ هؤلاء الأغبياء يريدون وهران ، يغازلونها سرًا وعلانية ، ويطاردونها من (( سيدي بلعباس )) إلى (( المحمديّة )) ، ووهران تزدري نزواتهم وصبواتهم , وتكوّرهم ، ثمّ تقذفهم فرادى وجماعات إلى شاطئ السانية .

ـ ماذا قلت ، هل تأخذيني معك ؟ قال النورس .

ـ لماذا لا تبقى في جنتك؟ .

ـ طردني الوالي يا مليكة،وأدانني بجريمة انتمائي إلى أحزاب المعارضة.

ـ أنت تعارض ! أضحكتني .. هشّ مدلل مثلك لا يأكل إلا الأسماك يعارض ؟ مرحبا بالمعارضة .. تبا للبوليتيكا .

ـ أيتها الحمقاء ، من قال لك إني أمارس البوليتيكا الخامجة . أنا لا أعرف إلاّ الموجة والشط والترحال ، ولا أؤذي نملة ، أكتفي بسمكة واحدة في اليوم .. الأسماك تُهرّب إلى جميع دول العالم، وتحسدينني على سمكة يا مليكة .. وا أسفي .. قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق يا مليكة .

وربتت مليكة على جناح النورس ، وشعرت أنّ سكينا تمزّق قلبها وحنجرتها ، وعانقت النورس ، وقبّلته بين عينة وبكت . وأخذت تنشد مواويل حزينة من فلكلور تلمسان.

ـ نم يا عزيزي ، الليل لا يزال طويلا ، وغدا نصل إلى وهران ، وهناك نبني كوخا وشصوصا ، وننتظر العمروش ، ونقيم سمرا للصيادين والمغتربين ، ونشرب شايا أخضر تحت ضوء القمر , فما أروع شاطئ السانية !.

صباح وردي .. ترفل وهران بثياب الأميرة ((الكاهنة )) ، هذه المدينة الحلم العابرة فوق أسوار التاريخ والبحر, يضمّخها ((ماسينا)) بالطيب والسيوف ، ورقصات الفلامينكو . يعلن القطار وصوله .. هنا نهاية الرحلات .. هنا محطّة عباد الله الأخيرة .. هنا يبني التاريخ آخر قلاعه وحصونه وقصوره ، ويعقد العزم على نقل ( أليكانت) على متن الباخرة (( ليبرتي)) لينصبها منارة وشطا ومرفأ فوق رمال السانية الذهبيّة ، بعدها سيرتاح إلى الأبد.

ــ ها قد وصلنا يا عزيزي استيقظ .. أنت في وهران .. كلّ دروب العالم مرّت هنا .. كلّ قادة العالم استراحوا هنا , ولعنوا الصراعات والحروب .. هيّا انهض يا عزيزي .

وهزّت مليكة رأس النورس, لكنّه أغمض عينيه الماسيتين , ونام على صدرها مستسلماً لخلجة الموت الأخيرة .

آه يا الله .. يا أمي .. يا أبي .. لماذا تموت الآن بعد أن وصلنا ؟

وانتحبت .. علا صوتها .. هزّ محطة القطار المركزيّة في وسط وهران ، بينما كانت سماء مارس القاتمة تمطر طينا وأسيدا , وأرض وهران تغصّ بقايا قتلى ومنفيين ومدمني سياسة .

 

إيضاحات

ـ مجلة باري ماتش : مجلة فرنسية تصدر في باريس وهي تهتم بأخبار المجتمع المخملي في فرنسا, وفضائح رجال السياسة ونسائهم .

ـ العربي بن مهيدي , و: ديدوش مراد، و: عبّا ن رمضان , وجميلة بوحريد , هم من أبطال الثورة الجزائرية أيام الاحتلال الفرنسي للجزائر ،

وقد سميت الشوارع الرئيسة في المدن الجزائرية بأسمائهم .

ـ الشمّا والأفيون : مادتان مخدرتان ، منتشرتان في الجزائر.

ـ الدومينو : لعبة تتكون من مجموعة من الأحجار البيضاء والسوداء ، تنتشر بكثرة في بلاد المغرب العربي .

ـ أليكانت : مدينة أسبانية جميلة تقع على شاطئ البحر .

ـ تلمسان ووهران وسيدي بلعباس : مدن جزائرية كبيرة تقع في الغرب الجزائري .

ـ السانية : مدينة ساحلية تقع قرب وهران .

ـ المحمدية : مدينة صغيرة تقع بجوار الدار البيضاء في المغرب .

ـ الكاهنة وماسينا : حاكمان قويان ، حكما بلاد البربر في الجزائر قبل الفتح الإسلامي لها .

(1) ـ هذا مصطلح يتداوله الجزائريون المعاصرون، ويقصدون به السياسة الوسخة الفاسدة.

أضيفت قي 07/02/2005/ خاص القصة السورية

 

 

مواجع الصبا وأحزانه

 

 

انفرجت أساريره.. هادئاً شفيفاً تقدّم.. هي ذي نجمة تومض بعيداً.. وأخذ يعاين النجمة، لكنّ غيمة مرّت سريعاً وغطّتها، فانقبض قلبه: مرّي أيتها الأيام الملعونة.. أسرعي.. دعيني.. فأنا مفرّغ وحزين ومطرود من جنان الأرض والسماء.

حاول أن يفرد شراعاً لأساريره، لكنّها رفضت.. تحسس وجهه.. مليء بالتقاطيع.. أحسّها أودية واسعة تشرح جبهته وخديه.. هو الشباب يزوي.. وتخيّل نفسه ميتاً يتقاطر الأصدقاء والأعداء لتوديعه والشماتة به.

على شاطئ البحر مشى طويلاً.. مئات الشابات الحسناوات والرجال يثرثرون ويمارسون كلّ ما هو منكر ولذيذ ومحرّم.. تأمّلهم جيداً.. لم يستطع أن يتذكّر واحداً منهم.. أمعقول أن لا أعرف أياً منهم؟. أخذ يعاينهم.. تمنّى لو يمتلك الجرأة ويكلّم أيّ واحد.. أو يكلّمه أيّ شخص كان.. بعض النساء كانت ترمقه بازدراء وببرود.. بعض الرجال ينظرون إليه ببلاهة.. وأحسّ بالقهر يفترسه.. كم غريب أنا؟

مدينتي بطولها وعرضها تتربّع جثّة طافية فوق سطح البحر.. يفترسها الذباب والطاعون والنساء والإيديولوجيا الرثّة، وأنا الغريب عنها.. ودعا الله وتوسل إليه كي يرى شخصاً يعرفه.. ساعتين وهو يقطع الكورنيش غرباً وشرقاً، وما عرف أحداً.. مرّت سيدة بجواره.. ابتسمت.. ظنّ أنها تبتسم.. له وهادئاً تأمّلها، ووسوس له خياله: قد تكون زميلته.. هو لا ينكر أنه صار كبيراً، وأنّ ذاكرته بدأت تضعف، وأن بصره نقص درجة أو درجتين، لكنّ وجه هذه المرأة لم تمحه ذاكرته المتعبة المطعونة بالسجون والخمارات والملاهي، وبكلّ ما هو حلال وحرام وحزن وغربة وحشيّة كحدّ المدية.. هي عينها زميلة الصبا.. هي الحلم الجميل الذي رافقه في صباه وشبابه وكهولته.

- مدام.. من فضلك دقيقة واحدة.

- واكفهرّت.. غارت ابتسامتها.. مساحة الوجه الجميل هبطت عليها الوحوش والضباع وقطّاع الطرق، وعنجهية التجار ومقاولو الاستقلال. وما وقفت.

- لحظة من فضلك.

- أيها الأحمق.. لماذا تطاردني؟.. ستفضحني.

- وتذكّر جيداً عندما كان شاباً يافعاً كيف كانت تزوره.. كان يشرح لها دروس الفيزياء والرياضيات.. وكان يلاعبها الشطرنج، ويقرأ لها أشعاراً استغرق أياماً وليالي طويلة في ترديدها وحفظها، وهو يتأمل نوارس البحر، وأشعة النجوم الهابطة عليه.. وعندما كان يحفظ القصيدة عن ظهر قلب كان يتألّق فرحاً، ويزداد وجهه صفاءً وطمأنينة، وينام على أعصابه علّ النهار يشرق ليسمعها هذه القصيدة الجميلة.

- وتذكّر مرّة أنّه غاب عن مدرسته أسبوعاً، ليتفرغ لحفظ قصيدة علي بن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري أعدن لي الشوق القديم ولم أكن سلوت ولكن زدن جمراً على جمر

- وأتته مساءً مشعّة كعادتها، وشرح لها درس التوابع،وقرأ لها القصيدة كاملة، وعندما استرخت هادئة مدهوشة، ظنّ أنّها تحبّه، فاندفع ولمس يدها.. استسلمت لحظة.. ظنّ أنّه سيد البحار والمراكب.. وأنه السلطان المتوج بألف تاج وقمر ونجمة فوق قلب هذه الشابة وسهولها الخضراء الشاسعة.. وسرعان ما انتفضت فجأة، وتملصت:

- عليك اللعنة يا بن الداشرة.. أنت تستغلّني وتدنّس طهارة أثوابي، وعظمة قبيلتي وعشيرتي.

عليك اللعنة أيتها الحمقاء.. هل أنا عبد لأمّك وأبيك. ورمى الكتاب بوجهها.. تباً لك ولكل قصائد الشعر والغزل.. ولكلّ ما قالته الشعراء من غزل عذري وفاضح.. تباً لكل التوابع والزوايا والمستقيمات.. ألا أستحقّ لمسة يد!.. وحزيناً طوى قصائده الملوّنة وليالي سهره الطويلة المضنية.. ودخل تجاويف دماغه وهادئاً جمع كل ما قرأه وأضرم النار فيه.. لتذهبي أيتها القصائد رماداً وهباءً لن ينبعث أبداً، ومن يومها قرر أن لا يقرأ كلمة أدب واحدة، وأن لا يحفظ بيتاً شعرياً واحداً.

- لحظة واحدة من فضلك.. ألست وفاء الملياني؟

- نعم.. أنا هي.

- ألست صديقتي السابقة.. ألا تذكرينني؟.. كنا نقرأ في ثانوية واحدة.

- أنا لا أعرفك يا هذا.

- انظري إلي جيداً.. هي ذي ملامحي لم تتغير كثيراً.

- لا تحاول.. أنا لا أعرفك ولن أعرفك.. فلا تعذّب نفسك.. ابتعد وإلا أطلقت كلابي عليك؟

إذاً من العبث أن تحاول أيها الغريب.. فهذه الجميلة المتألقة انتفاخاً وأبّهة لن تعرفك، وتأكّد أنّها زميلته الأنيقة المعطّرة التي تفوح روائحها في زوايا القاعة الخامسة من ثانويته القديمة، والتي تقدّمت أربع مرات إلى الثانوية العامة، ولم تأخذها. وبعدها غابت،وسأل عنها كثيراً.. قالوا إنها سافرت.

وغاب وتشرّد ورأى نساءً شتى في أصقاع الأرض، وطواها النسيان هي وغيرها من الجميلات.. وها هي تهبط أمامه فجأة بقامتها المديدة بعد هذا الغياب الطويل.. وهاهي تتنكر له.

المرأة المتألقة بغبار الذكريات والعطور، والخطى الواثقة، الداخلة قوياً في صدى الذكريات.. الحاضرة القريبة البعيدة التي تنزع فساتينها وتتمدد شفيفة على رمال الذكريات، وترفو أحلامه البعيدة المثقوبة، وتخيط أكاليل ورد وطرحات بيضاء، ثم تلبسها، فتبدو سروة تتثنّى ببهائها الجليل،هي ذي تهبط إليه فتحاصره بحضورها الطاغي، ثم تعيد صياغة نظرياته الفلسفيّة حول الكون والزمان،والغربة والمواجع، وتشعل مجامره المطفأة منذ زمن بعيد. وكم تمناها في تلك اللحظة، لكنها ابتعدت بنفور وحشي.وتركته مدمى وحشة وغربة، بعد أن هددته بالكلاب والوحوش والأزمنة السوداء.

تابع خطاه.. البحر السيد الجميل المكلل بالقوارب والنوارس أطلّ على المدينة القذرة ببهائه. ورمقها ساخراً.. امتطّت أحلامه بعيداً.. بدا المدى شاسعاً هياباً.. قلبه الصغير استنفر أحزانه النائمة وراقصها.. تألفت غربته وهذا الوجع المزمن.. راقب النساء بأزيائهن المتناسقة والقبيحة.. كم بدت الكثير من النساء بلهاوات مليئات بالدمامة، وهن يتلطخن بأصباغ فاقعة لا تناسق ولا انسجام فيما بينها، وكان مهموماً وحزيناً. ولم يكن حزيناً لأن لا حبيبة ولا زوجة ولا أمّ له.. ولا امرأة يطفئ مواجعه القديمة على شفا نهديها.. و ارتعاشات تأوّهاتها الناعسة، فقد نسي أن يفكر في جسد المرأة، بعد أن اعتقد تماماً أن نساء المدينة محصنات بالأصداف والأساور، والسيارات الفارهة، والكلاب الوالغة، وأنه لا مكان له أبداً في عالم النساء الأسطوري المهيب المكلل بظلال الأسواق والمعاصي وبكلّ ما لذّ وحلا، فانكفأت أمواجه، وخبت التماعات عينيه، ونام قلبه الصغير، وهمدت اختلاجات جسده، وقرر ألا يفكر الدخول في هذا العالم الخرافي المليء بغابات خضراء شاسعة، وورود مزهوة جميلة، تقول عنها أخته إنها أجمل ورود العالم، وأكثرها نقاءً وعطراً .

وقالت أخته: أيها الأحمق، حتى تستطيع أن تلج هذا العالم الخرافي يجب أن تمتلك لساناً منشاراً، يستطيع أن يحيك الكذب ببراعة متناهية.. اكذب على المرأة قل لها أنت جميلة وأميرة.. تغنّ بجمالها، حتى ولو كانت شوكة برية.. قل لها لك رائحة المساء، حتى ولو كانت لها رائحة الخنازير الفتّاكة.. شكّلها وردة مشعة.. قل لعينيها شعراً مهما كانتا باهتين، ولا تعتقد أنها لا تعرف أنك تكذب عليها.. ولن يزعجها ذلك.. وستحتقرك إن كنت صادقاً معها.. فالكثير من النساء يكرهن الصدق ويسخرن به.. اسمع مني ما أقوله يا أخي عندئذ ستتدفق المرأة أمامك نهراً ونبيذاً، وأغنية عذبة، وبكراً وثيّباً، وجداوئل لن تنضب أبداً .

- عجباً أيتها الأخت العزيزة.. أأنت تقولين هذا؟!

- ولن أقول غير ذلك أيها المطعون الذي جفّت أوصاله، وسوائل جسده.. المرأة وطن وسكن وسمفونية لمواجع الرجال، وخيباتهم.. لو أن قلبك اليباب هذا عرف الحب مرة لأدركت كم المرأة عظيمة وآسرة.. لو أنك أحببتها لأوقدت لك المجامر والتنانير، ولسقتك نبيذاً أشهى ألف مرة من حليب أمك المغشوش.. لكنّك وأنت الغبي الذي لم يعرف الحب مرّة لن ترى في المرأة إلا يباباً وسفينة مكسورة، وشاطئاً مهجوراً.. فما ذا أفعل لك.. مت وحيداً وعش..ستظلّ شواطئك مهجورة، ولن ترسو سفينة واحدة على مرافىء قلبك.. هنيئاً لك خوابي نبيذك الفارغة.. هنيئاً لك كل هذا الجفاف والقحط.. والحشرجات الكليمة المكبوتة.. هنيئاً لك كل أحزانك المعفرة بكل غبار الأرض والإيديولوجيا التي ستقتلك يوماً ما. جسد المرأة هو كل أيديولوجيات العالم.. سلني وأنا العارفة بجداول النساء ودغدغاتهن وينابيعهن الدافقة أبداً، سلني أيها المشحون بأفكار الجدل والنصوص المتزمتة، والأحلام الفارغة العريضة التي تبول عليها تلفزات العالم ومحطّاته الفضائية، وعارضات أزيائه وصحفه الوضيعة.. أنت متخلف مغفّل يا أخي.. تحبو الأحزان والغبار حادة شرسة على بيّاراته، فتعكّر جادات قلبه ومنعطفاته .

- اسكتي بالله عليك أيتها المرأة.الأخت. رذاذك الكريه يزيد مواجعي ويدميني، فتهرب غيومي ونجومي.. وتصطادها حيتان البحر.. اسكتي بالله عليك.. كل حليبك مغشوش.. كل نظرياتك تطفئ نجومي ونوارسي.. ستدفنيني حياً .

- أنا الفاتكة المدمرة.. وكم سعيدة أنا. لو استطعت أن أعيدك إلى هذا الواقع الجميل مخلّفاً كل رومانسياتك الخرقاء .

ولم يكن في ذلك المساء حزيناً لأن لا حبيبة له،بل لأن غربة وحشية هبطت عليه فهيّجت ينابيع قلبه وبحاره الأليفة.. وتألّم لأنه لا يعرف أحداً، ولا يعرفه أحد على كورنيش البحر المتثائب فتوراً وضجراً بمئات النساء والرجال الهابطين عليه من قيظ المدينة الوحشي .

كم بدا الجو كئيباً.. يونيو القائظ يهبط كل صيف عليه، فتتدفق أحزانه جداول مرّة.. يفترسه الصداع الحاد.. دماغه تكاد تنفجر.. عصاراته تسيل.. تتحشرج نازفة همومها وآلامها.. كم يبدو هذا الشهر بغيضاً على قلبه.. في هذا الشهر كاد يموت مرّات عديدة.. بكى واحترق هزمته السجون السياسة بالعصي والمواجع.. زنزاناتها الوحشية كانت تلتهب في هذا الشهر بالحمقى والأنفاس الكريهة، وروائح التبغ والشما والحشيش القاتلة، والقات الصنعاني النفيس، وعراك المساجين الوحشي.. تنضح الجدران حرارة مسعورة، فتهجم على خلايا الجسد.. يهتاج المساجين.. لا شيء يبرد خلاياهم النازفة إلا العراك والشتائم.. يلعنون أزمنتهم.. وحيض أمهاتهم والبطون التي أنجبتهم، وقذفتهم إلى هذه الزنازين الخانقة، يلعنون الساعة التي تزوّجوا فيها، وتركوا أبناءهم يلوبون جوعاً، ونساءهم اللواتي تشردن فاقة فأكلن بأثدائهن غير وجلات، شاتمات أزواجهن الأغبياء الملتاثين بالبولتيكا والإيديولوجيا الحمقاء.

شهر يونيو هذا بذكرياته البغيضة يحرق الروح، ويزلزل المنى والأحلام، فتأفل بعيداً إلى أرذل مرافىء العمر.. يتحشرج الدم في المسامات.تولول الذاكرة بالدم الحائض، والإجهاضات الكابوسيّة. لا يعرف عدد المرات التي انتحب فيها داخل زنزانات السجون ومراقدها الخانقة العطنة. في هذا الشهر غير الكريم. ودعا الله بقلب وجل أن يزلزل هذا الشهر، ويلفظه إلى أبعد محيطات العالم.. ما إن يهبط هذا الشهر حتى تلتهب النساء والرجال والأسواق، فيزحفوا إلى شاطئ البحر، ليقذفوا بجوى قيظهم، وليتمددوا مخمورين منهارين بكل أحلامهم البليدة وليصحوا في أعماقهم موج حقدهم، وشهواتهم، الدفينة فيعربدوا ويتعاركوا، وتبيع النساء حليبها المغشوش، ويحيك الرجال مؤامراتهم، ويتقمّصوا أثواب الطهارة البيضاء التي ستذهل هاته النسوة، ثم سرعان ما يقعن في شباك طهارتها غير عابئات ولا نادمات.

في هذا الشهر تعصف مواويل الاغتراب فتنكسر خوابي الروح، وتمزّق أشرعة المدن والسفائن، وتقول أخته عن هذا الشهر: على أكاليل هذا الشهر ولهيب ساعاته تسفح النساء خطواتهنّ وعطورهن.. تتمدد أحلامهن الأنثوية الجامحة بعيداً لتتقمص الرجال والفوارس والفضاءات البعيدة المليئة بالرجال الكرام، الذين يسفحون ماء الوجه، وماء الجيب والزاد والبلح الشهي، وخيرات الفيافي البعيدة.. في هذا الشهر تغني النساء أجمل المواويل، وتحيك لحاظهنّ أكثر إيماءات الغزل والعشق فتكاً. وفي هذا الشهر يفكّ الجسد قيوده، ويعلن إباحيته كما كانت الكاهنات المقدسات ينذرن أجسادهن تقرباً للإلهة عشتار في معابدها ببافوس ورودوس وبعلبك وأصقاع مدن المشرق والمغرب البعيدة. وولاء لها.

تنفجر الدماء ملتاثة في يونيو فتعبّ جرار الخمر سكرى.. ثم تقيم مآتم العشق المحرّم. والمحلل، وولائمه.. وتتراءى الشهوة حلماً شهيّاً، فتهوي النفوس في محطات الرذيلة وخوائها المحبب اللذيذ.. لفاتحة هذا الشهر الكريم، ولأفيونه اللذيذ المسكر يعربد الناس صغاراً وكباراً.. ثكالى ويتامى.. أثرياء وفقراء، ويلفظون بداوتهم وجلافة شهواتهم الجسديّة إلى قاع البحر، وكلما هلّ هذا الشهر تهتاج المدينة وتتعاظم شرورها، وتعظم زيجاتها ومآتمها.وتمنّى لو أن الله يزيل هذا الشهر من خارطة السنة حيث لا مواجع ولا دموع.

ومشى يراقب البحر.. بدا ساكناً.. القيظ الوحشي جعله صفحة راكدة هامدة.. احتمال إصابته بضربة شمس قاتلة ممكنة جداً.. قبل سنوات قليلة كاد يموت في سجنه في هذا الشهر الكريم.. وفي السنة الماضية ماتت والدته، وفي أوائله في هذه السنة حاكت له إحدى قريباته مكيدة تهتزّ لها الجبال الرواسي. فكاد زوجها يقتله بمسدسه الملعون.. وصاح والده: اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أسألك اللطف به.. وأومأ الله.. أن أقدم على منبر أخضر أيها القضاء وألطف بعبدي الأحمق.. وبين الخوف والموت المحتم تقمصت الرصاصة وجع الأحمق وغربته فخرجت من الفخذ اليمنى، ونجا بأعجوبة خارقة فانحنى وجلاً أمام القضاء، وأومأ الأب بنظراته القاسية، تب إلى الله واترك الخمرة.. الجامع مأواك ومنفاك ووطنك.. وكل مسافاتك وبراريك البعيدة.

حاذى كشك الصحف.. اشترى جريدة.. أعطى البائع مبلغاً مالياً.. انتظر حتى يرجع له البقية لكنّ البائع تجاهله.

- والبقية أين يا سيد الصحف؟.. أعطيتك مائة، وبقي لي تسعون.

- أعطيتني عشراً فقط.

- يا هذا حرام عليك.عدّ أموالك، وستجد أني أعطيتك مائة.

- زوجتي طالقاً بالمائة إن أنت أعطيتني مائة.

كادا يتعاركان.. تجمهر الناس حولهما.. وأقسم البائع بتربة أجداده وشيوخه وكل وكالات الأنباء إنه لم يعطه إلا عشراً، فانسحب هادئاً.. لا يريد الفضيحة، وتمتم: حسبي الله ونعم الوكيل، وهجمت رايات السفر والمدن البعيدة، وحنّ إليها.

أختار لوجهي المتعب شراعاً وأفقاً، فأشدّ الرحال تاركاً الأهل والخلان والمدينة وكل لصوصها ومحتاليها.. لا يسقط من عيني ذرة ندم واحدة.. أتوه في بلدان العالم.. ملامحي الحزينة.. علاماتي الفارقة لا تفارقني.أبداً.. معروف في المدن بحزني وترحالي.. وبين الماء والماء يتجمّد وجهي على قسماته المعروفة.. خوف وشرود يفترسان الروح.. سيل من المصائب والهزائم تمرّ جارفة الأماني والأحلام،وكلّما طالعت وجهي بين الأمواج وفوق الشطوط وصواري السفن لا أرى إلا هذا الحطام المرعب، وهذي الصواري المشروخة.

وفردت السفينة أشرعتها بعيداً.. وهبط إلى مقهى بحري ملاصق بالشاطئ.. سيده البحر كبدر مقمر يحتضن بوح الصيادين.. تتلألأ فوق قواربهم نجوم ساحرة.. وبعيداً أرخى سدول همه.. وتسلّق جبال أحلامه وأمانيه التي ما حضرت أبداً طوال حياته، كان المقهى مقسوماً قسمين متلاصقين: واحداً للرجال وآخر للنساء وكلابهن الرشيقة ساحرة العيون.. يفصل بينهما أصص من الأزهار لا تحجب امرأة واحدة.

وسأل صاحب المقهى: هذا مقهى سياحي من الدرجة الممتازة فلماذا تفصلون بين رواده، وردد النادل أقوالاً مأثورة عن الصحابة والفقهاء، تؤكّد نظرية الفصل حتى لا يلعب الشيطان برؤوس النساء والرجال في هذا الصيف القائظ فيرتكبوا المحرمات والموبقات.

- انظر يا هذا.. هاته النسوة شبه عرايا.. ألا ترى أفخاذهن وثيابهن التي تكشف معظم نهودهن؟ فأي فصل تتحدث عنه؟!.

- أنا لا علاقة لي بذلك.. صاحب المقهى رجل متديّن ورع، و لذا فقد قرر أن يفصل بين رواد مقهاه

- أنا أعرفه ماركسياً عتيداً.

- لقد هداه الله، وطلّق الماركسية إلى الأبد، وأصبح ألدّ أعدائها.. التوبة مقبولة يا صاحبي.

واستغرب كيف لا تثلم سيقان النساء العارية، وجدائلهن المسترخية بكسل العالم ونبيذه أخلاق هذا الماركسي الشيخ الجديد الذي أعلن ولاءه المطلق للتجارة والمقاهي، بعد أن سقطت الماركسية هذا السقوط المريع المخزي في عقر دارها.

وأكّد نادل المقهى أنّ الرجل يستطيع أن ينتقل إلى جناح الحريم إذا ما اصطحب أمه أو أخته أو صديقته أو زوجته، وإن لم يجد فعليه بأيّ امرأة يصطحبها من الشارع، لتكون وسيلة دخول في جناح الحريم.. ولم يكن بحاجة إلى ذلك فكل الجناح الحريمي كان مفتوحاً على جناح الرجال، ولم يكن بينهما فاصل إلا أصص الورد التي لا تحجب شيئاً، وراقب الجناحين،ولم يعرف رجلاً أو امرأة واحدة.

صاحب المقهى الماركسي الشيخ لم يكن سيء الذوق، بل كان أنيقاً بهندامه الأوروبي المستورد، وكان لطيفاً دمثاً يعرف كيف يحيّ النساء بأدب جمّ، وينحني لهن، وكيف يختار لهنّ أجمل المقطوعات الموسيقية، فأصول البيع والشراء تقتضي اللباقة، وعليه أن يجلب أكبر عدد من الزبائن حتى يستطيع أن يكمل مشروعه السياحي الضخم الذي ألصق إعلاناً عنه على واجهة مقهاه، وهو مطعم وفندق سياحي بخمسة نجوم ومسبحين، واحداً للنساء وآخر للرجال.

وهبطت الموسيقى على جروحه وهضابه فانداحت بقية الروح، وجرفته أحزان بهية ألقة.. ومرّت غيوم ذكريات تترى، فهبط المزن مدراراً على شغاف قلبه.. وعميقة شجية غنّت أم كلثوم لريح الجنوب والغيرة، ومحيّ الحبيب البدر، وحسدت الشمس في ضحاها لأنها أطلت عليه، وقبلت وجنتيه النديتين.

وآسياً أسمر شعّ الغروب الجميل في أحزانه الطويلة، وانحنى أمام الموسيقى، ونزع ملابسه، ورمى نفسه إلى سيّده البحر، وسبح بعيداً، وما كان يجيد السبح، وتراءت له حوريات البحر يقطرن أسراراً ومراكب وأغنيات عبقة، ففردن له شواطئهن، وأغمض عينيه عميقاً، وتمنّى شاطئاً آمناً مهجوراً، بعدها سيطّلق العالم كلّه، ويلوذ بهذا الشاطئ، وانطلق حصان أحلامه الجامح على سجف الريح بعيداً، فأخذه طوفان قوي لذيذ منعش، وابتنى قصراً وجارية، وتربت كفاه حريراً وذهباً ومالاً وبنين وكل رياش الحياة الدنيا والآخرة وزينتها، وأرخى قلوعه سندباداً عرف الجزر والمحيطات وطيور الرخّ والمراكب والمرافئ الأسطوريات،وجميع ما لذّ وطاب. وشرخ تداعياته وأحلامه الجامحة أصوات لاعبي الورق تهدر من بقبقات نراجيلهم.

- يا حمار العب بنت الديناري.. عليك اللعنة.. ألا تستحي يا غشاش؟

- يا حرامي.. أنا أغشّ؟.. أنت الغشاش وابن الداشرة.. زوجتي طالق ثلاثاً إن لاعبتك بعد الآن.

- لا تكذب.. نعم أنت تغشّ.. لماذا لم ترم "الكوبا" سابقاً؟.

- لم ترموا "كوبا" سابقاً

- وتكذب أيها الوضيع.. من يغشّ في الورق فإنه يخون زوجته وأولاده ووطنه.. إن غشّ العرب في "الديناري" هو الذي جعلهم يخسرون حروبهم الطويلة. والمزمنة.

- أيها الدون.. ما علاقتك أنت بالعرب والحروب.. دعهم في مصائبهم ولا تعكّر رغيد عيشهم.. هم سعداء بهزائمهم، فما علاقتك بهم؟

- خلّصنا بلا فلسفة فارغة.. ارم لهذا "الآس"ختيارك الوحيد.. تيس مثلك لا يعرف لا في السياسة ولا في الورق.

وبوحشية هجما على بعضهما.. أيها النتن.. أنا الحمار والقذر لأني ألاعب بغلاً مثلك.. سأكسر دماغك.

وتجمهرّ رواد المقهى.. وارتجفت لحية الماركسي الشيخ رعباً، وتدخّل بأدب، وبسحرية أسطورية أنهى الخلاف بينهما، وسرعان ما عادوا إلى أوراقهم.

- أخذوا الشيطان يا جماعة.. نحن نلعب لننسى مكايد زوجاتنا لا لنتعارك.

- انزل شاب "الديناري" أبو محمد، وأمسح وجهك بالرحمان.. الحلم في لعب الورق سيّد الأخلاق.

- وتساءل أبو محمد: بأية حانة سنمسح وجوهنا الليلة يا جماعة؟.

وقال أبو نشوان: أنا آسف يا جماعة.. سأمسح وجهي بوجه جارتي أم عبد الله.

ولعبوا وصرخوا وتشاجروا، ومسحوا وجوههم بالفراغ والدموع والخيبات الأبدية والشيطان، والمنى التي لن تأتي أبداً، وبوجوه نسائهم ونساء غيرهم،وحشيش مدنهم ومرافئها.وخمورها.

أنهى شايه الأخضر.. غادر المقهى.. كورنيش البحر يستحمّ بمساء قائظ حزين، وبرواد هجروا قيظ منازلهم، فانفلتوا أحصنة وحشية وقطاطاً تموء طالبة حلالاً وحراماً، وملابس وعطوراً وخموراً. وقرر أن يمسح وجهه.. يجب الليلة أن ينسى أحزانه، فالعمر قصير، فغداً أو بعده يهبط موته، ودلف خمارة بحرية شبه مهجورة.. وبوحشية أخذ يكرع.. وكان حيداً.. ثلاث نساء ورجل كانوا يمسحون وجوههم. وأحسّ بالخوف منهم.. ابتسم النادل.. وأكّد له: هؤلاء أرقّ من نسائم الربيع.. إنهم عصافير الجنة المقرّبون.. سيزيدونك أنساً وطمأنينة فلا تخف.

ومسح وجهه.. وهبطت المراكب. بين دمه والمراكب باقة شذا.. تأتي البلاد البعيدة.. تهبط أسراب النوارس، وعلى كأس خمرته تحطّ بانية ممالكها البيضاء.. يعنكب الأهل والأحبة والمدينة الجثّة شباكهم وحبالهم فوق قلبه.. فراشات البلاد الشفيفة التي لم يشاهدها تحوم حوله.. نجمة بعيدة تهبط خافتة.. يتعلق بأهدابها.. تتوهج أحلامه.. تعلو.. تتركه.. نبيذ دمه يشعّ فيطفئ وهجه شهر يونيو البغيض.. هات أيها الساقي.. ملعون من يصحو بعد الآن.. ملعون حرّ الصيف وقرّ الغربة.. ملعون من لا يمسح وجهه.

 وأتاه صوت والده حزيناً عميقاً: [إنما الخمر والميسر رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون] ( ) اللهم لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف به يا رحيم يا تواب.

( ) سورة المائدة: آية 90. اليمن/ عدن أحد المقاهي البحرية

 

أضيفت في 10/11/2004/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية