أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

مقالات الكاتب: د. محمد عبد الرحمن يونس

الأسطورة في الشعر والفكر

إلى صفحة الكاتب

 

 

لقراءة المقالات

 

 

المقالات

بكين.. العلم والشعوذة في مكان واحد

العلاقة بين الكاتب العربي والناشر

الأسطورة في الشعر والفكر

 

الأسطورة في الشعر والفكر

 

 

توظيف الأسطورة في النص الشعري العربي المعاصر مسألة في غاية الأهمية، فما من شاعر عربي معاصر معروف إلا ووظف الأسطورة في أعماله. إنها تشكل نظاما خاصا داخل بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، وقد يبدو هذا النظام عصياً على الضبط والتحديد، وذلك لضبابية الرؤية المراد طرحها، ولكثافة الأسطورة نفسها، غموضا وتداخلا مع ظواهر أخرى وعندما نستحضر الأسطورة، فإننا نستحضر التاريخ متداخلا مع الميثولوجيا والخرافة، ولذا فإنه يصعب علينا تلمس أوجهها كاملة، وذلك لتناصّها مع الحقول المعرفية الأخرى، التاريخية والميثولوجية والسحرية والخرافية. فهل الأسطورة هي الخرافة أم هي التاريخ، أم هي الفلكلور، أم هي جزء لا يتجزأ من اثنولوجيا وصفية، لا تزال بوصفها بنية معرفية عميقة تتعلق بمعتقدات الشعوب وروحانياتها وأعرافها وتقاليدها، تفعل فعلها في تاريخنا المعاصر؟ إنها مزيج من هذا وذاك، ومع ذلك تبقى عصية على الضبط والتحديد، لأنها رؤية متنامية متشعبة في بنية الزمان التاريخي، والمكان الاثنوجرافي. وقليلون هم النقاد والباحثون الذين استطاعوا ضبط مصطلح الأسطورة ضبطا دقيقا، ولذا نلاحظ غموض النصوص النقدية التي تناولت هذا المصطلح، بحيث لا يعادل غموضها إلا غموض النص الإبداعي نفسه.

 

تصبح الأسطورة أحيانا تاريخا وخرافة، وتداخلها مع الخرافة يزيدها تعمية وغموضا، والتاريخ نفسه يصبح لدى جيل من الأجيال أسطورة، فشخصية الحلاج وشخصية الحسين بن علي، والمسيح بن مريم، شخصيات تاريخية لكن بعدها الإنساني، ومدى تأثيرها في الفكر العربي لا يزال يفعل فعله بشكل أسطوري يفوق حد التخيل.

 

وبغض النظر عن كون شخصيتي شهر زاد وشهريار من التاريخ أو الأسطورة فإنهما يبقيان في بنيتهما العامة جزءاً من السحر والأسطورة والخرافة والتاريخ، والميثولوجيا والفكر والفن في آن. سيف بن ذي يزن، وضاح اليمن، بلقيس، عمرو بن عامر مزيقا، شخصيات تاريخية يمنية أثرت في تاريخ اليمن لحقبة طويلة، ولا تزال تؤثر في بنية الحياة المعاصرة على مستوى الفن والأدب، فهي تشكل رؤية جمالية، وظفها الخطاب الشعري العربي المعاصر، وكذلك القصة والرواية، ولم يقتصر تأثيرها على أدباء اليمن ومثقفيها ، بل تجاوز هذا التأثير حدود اليمن الجغرافية ليشمل أدباء آخرين من لبنان وسوريا والعراق والخليج وتونس والجزائر ومصر، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً. وتاريخياً كانت الأسطورة هي الملاذ الأول للإنسان للانتصار على خيباته ولتخطي فواجعه، وسياسيا كانت محاولة لخلق بديل جديد، أكثر إشراقا وجمالا، أنها البؤرة التي يرى منها الإنسان العربي النور والفرح، لأنها تشكل له حالة توازن نفسي مع محيطه ومجتمعه، فبوساطتها تتم عملية الحلم والتخيل والاستذكار. وبالرغم من التحليلات الاجتماعية والفكرية التي تؤكد أن اللجوء إلى الفكر الأسطوري هو هروب من مواجهة الواقع، وهو دعوة لسيادة الظلم، ودعوة إلى إلغاء العقل: "فالفكر الأسطوري القائم على أساس غيبي ـ لا عقلاني.. له منطقه المختلف تماماً عن منطق الفكر الموضوعي. والأسطورة المكونة لهذا الفكر تنزع دائما إلى إضفاء صفات قدسية غامضة على مواضيعها وأشيائها، وأشخاصها، ولا مشادة أن الأسطورة لها عمليا مستلزمات غيبية تستند إليها في الواقع، وتنعكس بواسطتها على المجتمع وعلى السلوك السياسي ـ الطبقي فيه. فالوسائل المتولدة من جراء الأسطورة أو المولدة لبعضها، تتحول في المجتمع إلى أدوات إضافية للسيطرة ـ ملكية طبقة محددة لوسائل الممارسة الأسطورية، إذا جاز التعبير والافتراض" وهو تكريس للعبودية الاجتماعية التي تعتمد عليها الطبقات السياسية ضمانا لاستمرار سلطتها، فـ "الفكر الأسطوري إذ يقدم للإنسان مثالاً عن إرادة القوة الغيبية، يضعه في نفس الوقت في وضع "العبد" المندهش، المرتعب من سلطان هذه القوة، التي يزعم المستبدون إنهم يمثلونها أو ينطقون باسمها. كما يرى بعض النقاد، وبالرغم من هذه التحليلات، فإن الأسطورة من حيث كونها فكرا وفنا وتاريخا، فإنها تشكل خطابا يمكن أن يقال عنه إنه أدبي يتناصّ مع التاريخ والميثولوجيا. وما يجعل الأسطورة خطابا أدبيا قدرتها على توسيع آفاق المخيلة عن طريق الحلم والتخيل، وما الأدب في بنيته العميقة إلا نظام رمزي قادر على الإيحاء والتأويل، ومن ثم كشف اللا إنساني واللا أخلاقي في رؤية المجتمعات البشرية ونظام قيمها، وإذا قلنا إنه كلما تراجع المجتمع حضاريا وثقافيا، وبقي مغلفا بالغيبيات والشعوذات والسحر، زادت أساطيره وخرافاته، فإن ذلك لا يعني التقليل من شأن الأسطورة لأنها تبقى عنصراً بنائياً مكونا للفكر الإنساني. ينمو الفكر الإنساني ويتحرر، ويزداد عقلانية مع تطور المعارف والعلوم، لكن ذلك لا يمنع عنه حالة الحلم والتخيل، والأسطورة في أهم خصائصها إنها رؤية حلميّة تخيلية. وترافق الأسطورة الإنسان في حله وترحاله باعتبارها رمزاً مضيئاً وأصيلا، وقد تتعدد مستويات هذا الرمز من حيث الإضاءة والعتمة، لكنه يبقى على صلة قوية بصيرورة التاريخ وتشكل طبقاته الاجتماعية. وتبقى الأسطورة في المجتمعات المتخلفة حلاً جمالياً لرفض حالات الاستلاب والخيبة التي يمر بها إنسان هذه المجتمعات، أما في المجتمعات المتقدمة حضاريا وتكنولوجيا، المتراجعة على مستوى العلاقات الاجتماعية بشرطها الإنساني، فأنها "مرض من أمراض اللغة" على حد تعبير ماكس مولر، وهي في آن مرض من أمراض لوثات العصر بتعقيداته، وما تفرزه الحضارة المتقدمة صناعيا من استلاب وتشيؤ بمفهوم لوسيان غولدمان وجورج لوكاش. إننا إذ نستحضر الأسطورة في وقتنا الراهن، حيث الهزائم على المستويات كافة، فإن نزعة نوستالجية تتأجج في أعماقنا نحو الماضي، ونحو المجهول، ونحو عوالم بكر لم تستكشف بعد، وتزداد هذه النزعة مع تكاثر خيباتنا المتلاحقة في ظل أنظمتنا الاجتماعية والسياسية. إن عصر توليد الأساطير قابل لأن يمتدّ حاضرا ومستقبلا. من منا لم يعجب بأسطورة جلجامش وانكيدو الملحمية؟. وتوق جلجامش وانكيدو المطلق للدفاع عن قضايا الإنسانية. ومن منا لم يعجب بتصميم جلجامش على قطع غابات العالم وبحاره للبحث عن النبتة المقدسة التي تعطيه هو وقومه في أوروك سر الخلود الأبدي؟. وكم كان محزناً حينما سرقت الأفعى النبتة المقدسة التي حصل عليها. إن اللجوء إلى الأسطورة في الفكر العربي المعاصر هو استحضار للبطولة الغائبة، وحنين لها، وعندما نستدعي البطل الأسطوري والتاريخي عبر زمن القصيدة وشفافيتها، فإن توقاً شديداً ليدفعنا إلى تمثّل حالات هذا البطل عله يكون المفدي والمخلص، والشعلة التي تنير لنا طريقا مظلما. إن توليد الأسطورة وتشكيلها وإعادة صياغتها عملية جمالية تهدف للبحث عن عالم فسيح جميل، لم تقتله بعد الشعارات الإيديولوجية، لكن العصر الذي شكلها ويشكلها ليس عصراً مضيئاً، فهي تولد لتمنع زحف ظلامه على المستوى التخيلي والتأملي. ما من شاعر عربي مبدع إلا ولاقى الظلم والمهانة، مما كسر شموخه الإنساني وشرده، فلجأ إلى الحلم والتخيل واستخدم الرموز الأسطورية المضيئة والموحية. وقبل أن يكون توظيف الأسطورة عودة إلى التاريخ والميثولوجيا فإنه رؤية تستمد مكوناتها من الواقع واتجاهات هذا الواقع ورؤاه، فالتاريخ والميثولوجيا والواقع كلها مكونات للفكر الأسطوري، وما من شاعر عربي مبدع إلا وعانى من اغتيال هذا الواقع لأحلامه وفرحه وكبرياء قصيدته. فكان اللجوء إلى الأسطورة رفضاً لهذا الواقع، وبالتالي كان استخدام الرمز الأسطوري المكثف الدلالة، بعيد الإيحاء، هروباً وخوفاً من سلطة هذا الواقع، كان الشاعر العربي يرتحل ويحمل همه وهم قصيدته، ورموزه الأسطورية، وانّى حل كان ينشد الفرح والحرية عبر دلالات هذه الرموز، فخليل حاوي ذهب إلى لندن وكتب أجمل قصائده "السندباد في رحلته الثامنة"، وبدر شاكر السياب حمل "أدونيسه" المضرج بدمائه منتقلا من مشافي بيروت إلى لندن ثم الكويت، وعبد الوهاب البياتي حمل "حلاجه" وسيزيفه عبر رحلاته من بغداد إلى بيروت إلى مدريد، وعبد العزيز المقالح أنارت له رموز بلاده: سيف بن ذي يزن، وضاح اليمن، بلقيس، منية النفوس، طريفة، عاقصة، عروض، لياليه المظلمة عندما كان غريبا خارج بلاده.

 

حينما ترافق الأسطورة التكوين البشري منذ الأزل حتى أقرب العصور، فإنّ ثمة وضعاً إنسانيا مستلباً بحاجة إلى تشكيلها وإبداعها، واللوذ بها، وتواتر الأسطورة وتناقلها عبر مثاقفة حضارية بين الأمم والحضارات قديماً وحديثاً، لدليل حي على قدرتها على النفاذ إلى أعماق الرؤية المعاصرة، باعتبار هذه الرؤية نسقاً عصياً على التحديد الزماني والمكاني، إنها ممتدة من الماضي إلى الحاضر.

 

إن بنية الخطاب الشعري المعاصر لا تعني الانقطاع عن التراث والأساطير فقد أثّر التراث في تشكيل هذه البنية ولا يزال يؤثر بدرجات متفاوتة من شاعر إلى آخر. وبالرغم من ادعاء البعض على مستوى التنظير، بأن اللجوء إلى التراث ليس فعلا إبداعيا، إلا أن ذلك لم يمنعه من الرجوع إلى الموروث بشتى توجهاته، ومع ذلك فإن العودة إلى التراث لا تعني هيمنة الرؤية التراثية على الرؤية المعاصرة، بل لقد استطاع الشاعر أن ينطلق من البنية التراثية نفسها ليشكل بديلاً منها ويتجاوزها، وصارت الحكاية الأسطورية والخرافية عند الأدباء المعاصرين "ترد إلى عناصرها وكثيرا ما تضاف إليها عناصر جديدة تتواصل مع العناصر التقليدية، ثم يعاد تركيبها جميعا في شكل يشع ضوءاً جديداً على الحكاية نفسها، فإذا هي قد تحولت إلى شكل جديد ومغزى جديد، نابعين من الرؤية الفنية والفكرية للكاتب، تلك الرؤية التي تعتمد على ثقافته وعلى قدرته على تحليل مجتمعه والكشف عما في هذا المجتمع من مشاكل إنسانية أو سياسية أو اجتماعية". صار التراث في القصيدة العربية المعاصرة جزءا من رؤية جمالية، بعد أن تعامل معه الشعراء المعاصرون وفقاً لمنظور إنساني وحضاري، إذ أن كثيرا من الرموز التراثية قادرة على الاستمرار في نسق الواقع المعاصر، وتغييره بفعل بعدها التاريخي ودلالة هذا البعد على المستوى الإنساني والاجتماعي والسياسي، ومع ذلك فالشعر المعاصر ليس وليدا للرؤية التراثية، بالرغم من الاستفادة من مكونات هذه الرؤية، لأن له شرطه التاريخي والحضاري وامتداد هذا الشرط داخل بنية الحياة المعاصرة، بتشعبها وتناميها، وفرحها وفواجعها في آن. الرؤية التراثية خيط شفيف يربطنا بالتاريخي والأسطوري والمعاصر والعقلاني، قد ينقطع الخيط وقد يمتدّ، ولا يعني انقطاعه فشلاً في الرؤية العربية المعاصرة. الرؤية التراثية إضاءة لزمن القصيدة، إنها رؤية تستنفر بعدا جماليا، ومع ذلك نستطيع تشكيل رؤية بديلة عنها، وهي الرؤية للعالم Monde ViSion Du بتحديدات لوسيان جولدمان لمفهوم الرؤية، وتتجلى أهمية هذه الرؤية بامتدادها ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وبقدرتها على التعامل مع مكونات الأجناس الأدبية كافة.

 

إن مهمة الرؤية الحديثة إحداث الجديد في الأنظمة القوالبية الموروثة: في الشكل الشعري، في القافية، في الوزن، وفي الموسيقى، وبالتالي في المضمون نفسه، ولها دورها في تشكيل شعر جديد خصب ومتنام، من أهم ميزاته انه لا يخضع للتحقيب التاريخي، والتأطير الزمني، باعتباره شعراً منفتحاً على كل أشكال التطور الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وعلى كل الزوايا المضيئة في كل العصور.

 

ولذا فالقصيدة العربية المعاصرة من خلال هذه الرؤية الحديثة تعمل على تفكيك بنيات العالم العربي المعاصر وكثيراً من قيمه الزائفة، وتعري بنياته الهشّة، ومن ثم تعيد صياغته وفق حركية ترفض الثبات والجمود، وتشيد عالماً مفتوحاً على الصيرورة التاريخية، والسيرورة الزمنية في آن، ولا اقصد بذلك تبني هذه القصيدة لخطابات الايدولوجيا، وفرزها السياسي، وإشكاليتها المعرفية في بنية المجتمع. الإبداع لأجل الإبداع، والفن لأجل الفن، ظاهرتان أدخلت عليهما الرؤية المعاصرة مفاهيم جديدة، فالإبداع وجمالية الفن مضافا إليهما حركية التغيير والهدم تأسيساً للبناء الجديد، ولا قيمة للترف الشكلي والزخرفي والإغراق في الحلم، والهذيانات السريالية، إلا إذا كان الهدف من ذلك تأسيس رؤية إنسانية قادرة على إدانة المظاهر السلبية في بنية الحياة العامة، و"قد ساعد فتح الأبواب أمام الإبداع الشعري الجديد على وجود هذه التيارات وتعددها داخل حركة الشعر الجديد، ونشأ عن ذلك اجتهادات وتيارات منحرفة لا تنشر سوى هذيان لا علاقة له بالشعر أو الفن ولا علاقة له بالتجديد أو الابتكار وخطر هذه التيارات المنحرفة إنها تدفع نحو اللامبالاة اللغوية ونحو اللامبالاة العقلية."

 

ولم يكن طغيان الهذيان في الخطاب الشعري العربي المعاصر إلا تعبيراً عن فشل إنساني عام، مستمد بالدرجة الأولى من بنيات المجتمع القاتمة، وتراجع هذا المجتمع وهزائمه، وبغض النظر عن كون الهذيان ظاهرة مرضية ـ بفتح الميم والراء ـ في الشعر العربي المعاصر، إلا انه يستمد كثيراً من مكوناته من بنية الأسطورة والخرافة والتفكير الميثولوجي، لأنّ الهذيانات الشعرية كثيرا ما ترتبط بامتداد الأسطورة معرفيا وزمنيا، وحينما يتداخل الهذيان مع الحلم والأسطورة، والإيحاءات السريالية، تنشأ ظاهرتان شعريتان هما الغموض والإبهام. فالتداخل العشوائي اللامنظم المضطرب والمتوتر يشكل حالة من الإبهام التي يستحيل فك طلاسمها، واكتشاف ما وراء ضبابية هذه الطلاسم، أمّا التداخل الجمالي الرؤيوي، فإنه يشكل حالة شفيفة من الغموض الموحي والمرمز، وعموماً ترتبط هذه الحالة بالذاتي والموضوعي من حياة الإنسان داخل حقله الثقافي والمعرفي، ووسطه الاجتماعي والإنساني. ويشكل الحلم بالنسبة لكثير من المبدعين مفتاحاً للرؤية الشعرية، انه أساس الفعل الشعري، وجوهر العملية الإبداعية بالنسبة إليهم، وهنا يشترك الحلم مع الأسطورة في كونها عملية تخيلية تتخطى حدود الواقع الممكن إلى أفق أكثر رحابة في بنية الفضاء المكاني والزماني، يقول الشاعر أنسي الحاج: "خلافا للأكثرية أنا أؤمن بالحلم، من لا يحلم لا يفعل، الحلم يسبق الفعل، كما يسبق الغيم المطر... الحلم جوهر غير أنه وجود... والحلم هو العقل والروح والخيال. إنه الفردوس الممكن... الحلم أولاً، الحلم فوق الجميع، الحلم الذي هو محرض الواقع وروحه وعقله وعصبه، الحلم الذي هو المستقبل، الحلم الذي هو... الشاعر"

إن للتجريب الشعري، شكلا ومضمونا أهمية كبيرة في إبداع المتميز المتنامي والمعاصر، وما "من شاعر عظيم أو روائي عظيم إلا وقد أضاف من خلال التجريب بعدا جديدا إلى الفن الشعري والروائي، وأثبت انه غير خاضع وغير مستسلم لكل المواصفات السائدة والمألوفة. التجريب إذا ومحاولة الإضافة نزعة صحية وضرورية في كل فنان أصيل وفي كل كاتب موهوب، وفي كل شاعر يريد أن يضيف إلى التراث ولا يكرره أو يقلده".

 

إنّ استخدام الأسطورة والرمز والتاريخ في الخطاب الشعري العربي المعاصر نوع من التجريب الجمالي، قبل أن يكون عودة إلى التراث، والتأكيد على حضوره، وهذا التجريب في بنيته العميقة ينبغي أن يؤكد مكانة الإنسان ودوره الحضاري، ويستحضر أدقّ مشاعره الإنسانية، "فالأشكال الفنية ليست أشكالا فارغة، وإنما تقوم بوظيفة خاصة في تنمية خبرة الإنسان، وفي تنظيم هذه الخبرة، كما تؤدي دوراً أساسياً في بناء عالم الإنسان، وفي تحقيق ما يصبو إليه الإنسان من معنى لحياته ولعالمه". وكل تجريب جمالي مبدع ينبغي أن يكون إنسانيا، ولا قيمة لتجريب على مستوى الشكل الشعري ومضمونه إذا اقتصر على الظاهرة الشكلية والسطحية. أن التجريب على مستوى بنية الشكل الجمالي، وإضافة الظواهر الجمالية والمغايرة إلى هذا الشكل أمر ضروري، لكنه ليس كافياً لتحقق طرفي العملية الإبداعية، فالعملية الإبداعية فكر وفن ونزعة إنسانية وأخلاقية، تعمل على تأسيس أدب إنساني يرفع الإنسان راية وهدفاً.

أضيفت في 25/04/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

العلاقة بين الكاتب العربي والناشر العربي

 في المجتمعات العربية والإسلامية - مقالة


 

 

إنّ من يتأمل طبيعة العلاقة بين الكاتب العربي والناشر العربي، سيجدها علاقة استلابية،واضطهاديّة أحيانا، حيث يستغل الطرف الثاني الطرف الأول، دون خوف أو حياء أو وجل. فعندما يتقدّم الكاتب العربي بمخطوطه إلى الناشر العربي،

 

هذا المخطوط الذي بذل فيه جهداً كبيرا، وسهرا طويلا، وبحثاً وتنقيباً واستقصاءً، وعلى حساب وقته وماله، وظروف عائلته الاقتصادية، المتدنية في معظم الأحيان، نجد أن الناشر يتأمل المخطوط بنوع من الاستهجان، والازدراء أحياناً، والعنجهية مرة ثالثة، ويضع فيه ألف عيب. وإذا كان بعض الناشرين على قدر من التهذيب والأدب، فإنهم يفاجئون الكاتب بمجموعة من المسوّغات التي تقف سدا منيعا دون نشر الكتاب، ومنها: إن عدد القراء العرب قد تدنّى في الآونة الأخيرة بشكل ملحوظ، وأنّ الجمهور العربي على الرغم من اتساع رقعته جغرافياً ومكانيا، داخل حدود الدول العربية، وخارجها في المنفى، هو جمهور لا يقرأ، وأنّ المحطات الفضائية أسهمت في تخريب ذوق المواطن العربي، فصرفته عن القراءة، يضاف إلى ذلك شبكة الانترنت التي أسهمت في تقليل عدد القراء‘ بما تقدّمه من إمكانات معرفيّة غزيرة جدا، سواء أكانت نافعة جيدة، أم هابطة رديئة. ثمّ إنّ المواطن العربي لم تعد تستهويه الثقافة المعرفية الجادة التي تعمل على توسيع مخيلته،و حثّها على التفكير والتأمل والمحاكمة والتحليل والشكّ والاستنتاج، لأن هذه المخيلة صارت عاطلة ومتكاسلة ومتبلّدة في أحيان كثيرة، إنّها بحاجة إلى الوجبات السريعة، من ثقافة استهلاكيّة لا تمسّ إلا السطح. ويبدو لنا ـ من الوهلة الأولى ـ أن ما يقوله هذا الناشر دقيق إلى درجة كبيرة. وأمام هذه المسوّغات بعدم النشر، يضطرّ الكاتب إلى الانسحاب حاملا مخطوطه، يائسا من أن يجد طريقه إلى النشر. غير أن بعض الناشرين بعد أن يضعوا مثل هذه العيوب في الجمهور العربي المتلقي، الذي بدأ ينصرف عن تحصيل المعرفة الجادة الرصينة، والثقافة إلانسانية العميقة إلى الثقافة الاستهلاكية الرخيصة يتكرّمون على الكاتب قائلين: نعم سننشر لك مخطوطك على الرغم من خسارتنا الفادحة، لأننا نشجع الثقافة الحقيقية والأصيلة، لكننا لا ندفع عائدا ماليا ، بل سنعطيك خمسين نسخة من الكتاب، أو مائة نسخة مكافأة على جهودك. و إذا كان بعض الناشرين يتكرمون بأن يرضوا ويدفعوا لهذا الكاتب أو ذاك 10% من ثمن المبيعات، تدفع كل سنة مثلا، أو كل ستة أشهر‘ فإنّه عندما يأتي موعد دفع هذه القيمة للكاتب، نجد أن الناشر يفاجئ الكاتب بأن يقول له: و الله لقد بعت من كتابك نسختين، أو ثلاثا، أو لم أبع أي نسخة. أو ها هوا مكدس في المستودع، و تستيطع أن تراه بنفسك، أو تأخذه ـ إن شئت ـ بعد أن تدفع لي تكاليف نشره ـ وفي أغلب الأحيان تبدو مرتفعة إلى درجة كبيرة ـ عندها يضطرّ الكاتب إلى أن ينسحب خجلا مهانا، ويائسا، فهو بحاجة ماسة إلى هذه الدريهمات القليلة التي كان يتوقّع أن يدرّها عليه كتابه، حتى يدفع غول الفاقة والحرمان، عن أطفاله وأهل بيته. غير أن الناشر العربي في معظم الأحيان يكون كاذباً، يدفعه سعار جشعه لأن يستغلّ الكاتب، و يأكل حقوقه وعرق جبينه. فإذا كان كلامه صحيحا فمن أين له السيارة الفارهة، أو الفيلا الواسعة، أو دار النشر الكائنة في أجمل شوارع المدينة، والتي تبلغ قيمتها الملايين العديدة؟ ومن أين لابنه أو زوجته أو صديقته أو خليلته مثل هذه السيارة أو تلك؟ ومن أين له كل تلك الأموال التي تدفعه منتقلا حاملا كتبه من مدينة إلى مدينة، ومن معرض إلى آخر، مرتادا أرقى الفنادق وأجمل المطاعم وأغلاها؟ إذا كانت الذائقة العربية في هذه الأيام مخرّبة نافرة من الثقافة الجادة، لائذة بكل ما هو استهلاكيّ، سريع وهشّ‘ فأن كثيرا من الناشرين العرب قد أسهموا في تخريبها إلى حد بعيد، وإبعادها عن البحث عن القيم الجمالية والإنسانية المعرفيّة. وذلك بلجوئهم إلى نشر الكتب عديمة الفائدة، والتي تسهم في تخريب الذوق الجمالي والثقافي لدى جمهور القراء المتلقي، وذلك بنشرهم سلسلة واسعة من كتب الطبخ، والأزياء والأبراج، ونجوم السينما والرياضة، و جرائم الحب والجنس، و أشهر قصص الحب، و الجرائم، و القضايا البوليسية، و المخدرات، و أجمل جميلات العالم، وعلاقة المشاهير من رجال السياسة بشهيرات العالم وحسناواته، وأشهر فضائح رجال المال والاقتصاد و السياسة، و أشهر قضايا الاغتصاب والدعارة، و كثيرا من الكتب الجنسية غير المعرفيّة التي لا تقدّم معرفة علمية حقيقية بالجنس وأهميته الإنسانية و الحضارية، بل تركّز بالدرجة الأولى على الجنس باعتباره سلعة، وإثارة وشهوة مسعورة، يضاف إلى ذلك سلسلة من الكتب الكثيرة التي تقدّم المرأة سلعة، أو وعاء للذة والإنجاب، أو عاهرة متهتكة فاسدة مفسدة، لا أمّا طاهرة، أو زوجة مخلصة وفيّة، أو أختا كريمة، أو ابنة صالحة فاضلة. و قد أسهم ناشرو المجلات العربية ـ أيضا ـ إلى حد كبير في تهميش القارئ العربي، و الاستخفاف به، و الضحك عليه، و ذلك بالتركيز على الحسّ الشهواني عنده، والسلعي الاستهلاكي، و الغزيزي الدوني المنحطّ، و ذلك بالتركيز على صور الإثارة والأزياء، و أخبار فضائح النساء، و غرامهنّ و عشقهنّ وخيانتهن الزوجية، وتعدد زيجاتهن و طلاقهنّ. إنّ مثل هذه الثقافة الرائجة في أوساط المجتمع العربي المعاصر ستزيد في خلق الهوة الشاسعة بين الكاتب الجاد، و المسروق في بحثه وتطلعه، و أفقه المعرفي والحضاري، و بين الناشر، الذي لا يرى في عملية النشر إلاّ مزيدا من الثراء، والأموال، و الإسراع في تكديسها، و ليذهب القارئ الجاد، و الباحث عن الحقيقة و المعرفة هو وكاتبه إلى الجحيم.

 

بكين.. العلم والشعوذة في مكان واحد

سافر الدكتور محمد عبد الرحمن يونس من سوريا إلى الصين ليعمل محاضراً في قسم اللغة العربية بجامعة الدراسات الأجنبية في بكين، وهي أكبر الجامعات الصينية التي تدرس اللغات الأجنبية الكثيرة للطلاب الصينيين. وكان له دور أكاديمي وثقافي فاعل ومؤثر بين زملائه وطلابه، كما كان له نشاطه الاجتماعي والعلمي في تأمل الحياة الصينية ومحاولة فهمها، فضلا عن رصد الواقع الصيني وتحولاته الجديدة. وهذه الرحلة صدرت  في سلسلة “سندباد الجديد” وفيها يقول يونس:

 

لم تكن الحياة في بكين سهلة، فهي مدينة شاسعة جداً، والجامعة التي أعمل بها خالية تماماً من العرب، سواء أكانوا أساتذة أم طلاباً، فجميع الطلاب العرب موجودون في جامعة اللغات والثقافة، وجامعة العلوم الخاصة بالطيران، وجامعة بكين. والطعام الصيني مختلف تماماً عن الطعام العربي والأوروبي، وجميع مطاعم الصين لا تقدّم لروادها شوكة ولا سكيناً، وكان عليّ في البداية أن أحمل معي شوكة وسكيناً، وبقيت أحملهما كلما دخلت مطعماً، إلى أن تعلمت استخدام العصوين اللذين يبدو استخدامهما صعباً بالنسبة للأجنبي، يضاف إلى ذلك، أن مطاعم الصين تقدّم لحم الخنازير والكلاب والحمير والقطط والضفادع والثعابين والعقارب وغيرها في جميع وجباتها، وأنواع اللحوم هذه هي التي يفضّلها الصيني على بقية الأنواع الأخرى. وكان عليّ عندما أدخل أي مطعم -في البداية- أن أبرز لعاملة المطعم ورقة مدوّنا عليها باللغة الصينية المعقدة جداً ماكان قد كتبه لي أحد طلابي في الجامعة: “أرجوكِ، أريد وجبة خالية تماماً من لحم الخنازير والقطط والحمير، أريد لحم دجاج أوسمك فقط”.

 

وعلى الرغم من الصعوبات التي يجدها الأجانب في الصين، يبقى الرحيل إلى الصين مثيراً وممتعاً، فالصين عالم غريب وأسطوري، ومغاير لمعظم بلدان العالم وعواصمها وعاداتها وتقاليدها؛ عالم مثير، مليء بالغرابة والتناقض والسحر والدهشة والجمال. فبكين المدينة الثريّة، البطرة العملاقة التي يقول الناس عنها إنها ثالث مدينة في العالم من حيث الزحام والحركة وعدد السكان والكبر (بعد نيويورك وطوكيو) غاصّة بالمشاكل. فإلى جانب التقدم التقني والحضاري والعمراني الذي وصلت إليه، يوجد الفقراء والشحاذون الذين يملؤون أرصفة الشوارع الراقية فيها، وتوجد البيوت القصديرية الضيقة التي تفتقر إلى أبسط شروط العيش الكريم. وإلى جانب متاجر الألبسة الفخمة الفارهة التي تضاهي أكبر متاجر العالم، توجد دكاكين الأسواق الشعبيّة (البالة) الغاصّة بالفقراء وذوي الدخل المحدود، وإلى جانب المعاقل والمعالم العلميّة الكبرى التي تعلّم العلوم والمعارف الحديثة، كجامعة الدراسات الأجنبية في بكين وجامعة بكين وجامعة رين مين داشي: (الشعب) وغيرها من الجامعات، يوجد المشعوذون الذين يقفون أمام أبواب هذه الجامعات ليقرأوا ما تخفيه الأقدار والحظوظ، من خلال قراءة أكفّ الأيدي وتقاطيعها وبصماتها، والغريب في الأمر أن الطلاب الصينيين الذين تربّوا تربية ماركسية يتوجهون إلى هؤلاء المشعوذين ليكشفوا لهم حظوظهم ومصائرهم.

 

وأمام معابد المعلم بوذا (حكيم الصين)، تنحني نساء بكين، طالبات منه أن يرزقهن غلاماً، ويتقدّم إليه طلاب الثانوية العامة بالنذور علّه يمنحهم بركته، وينجحون في الامتحانات النهائية. أمّا الرجال المهووسون بالسفر والترحال إلى أمريكا وأوربا، فإنّهم أيضاً يذهبون إلى المعبد ويتضرّعون إلى بوذا علّه يمنحهم تأشيرة خروج من الصين. وفي الأحياء الأرستقراطية الثريّة في بكين حيث ينتشر التجار الأجانب ورجال الأعمال الأثرياء، تجد النساء ملاذاً لأحلامهنّ في الثراء واكتناز المال، فينذرن أنفسهنّ خليلات ومرفهات ومدلكات لأجساد هؤلاء الرجال. وكلّ ذلك أمام مرأى رجال البوليس.

 

إنّ الصين المعاصرة التي انتهجت سياسة الإصلاح والانفتاح نحو أمريكا والغرب الأوروبي بعد وفاة الزعيم ماوتسي تونج (1976)، بدأت في عهد خلفه (دنج شياو بينج) بالتخلي عن معظم مبادئ النظام الاشتراكي، فباعت الشركات والمصانع الحكومية إلى القطاع الخاص، وباعت منازل الدولة إلى الملاك الجدد، وودّعت الاقتصاد الاشتراكي منتهجة اقتصاد السوق وسياساته، وهي الآن في عهد الرئيس الحالي تزداد قرباً من أمريكا، وتقيم معها أوثق العلاقات والروابط السياسية والتجارية.

 

تحول القيم: وفي ظل سياسة الإصلاح والانفتاح، شهد المجتمع الصيني تحولا كبيرا في المفاهيم والقيم والأخلاق. ففي الصين، ومع هذه السياسة، “صار كل شيء موجودا؛ أمّا في هونج كونج فصار كل شيء مباحا”، على حدّ تعبير الصينيين المعاصرين. وإذا كان كلّ شيء موجوداً في الصين، فإن كلّ شيء مسموح به، ما عدا انتقاد الحكومة الصينية والتظاهر ضدّها. وفي بكين التقيت بمجموعة من نخبة المثقفين والمستعربين الصينيين، أساتذة الجامعات الصينية، الذين يتقنون اللغة العربية إتقاناً جيداً يعادل إتقان العرب لها، بل ربما يتفوّقون على الكثير منهم، وتحدثنا في السياسة والثقافة والفكر وأوضاع الصين الداخلية والخارجيّة، وأجريت معهم عدة حوارات شفاهية ومكتوبة. ولم أنس التجوّل الطويل في الشوارع والمتاجر والأحياء الشعبية الفقيرة، والأرستقراطية في آن، وأن أتحدّث مع الناس والبائعين بصحبة بعض طلابي وأصدقائي الصينيين الذين كانوا يترجمون لي، على الرغم من أن الصينيين يتصفون بالحذر الشديد من الأجنبي. وقد ساعدني على فهم ما يدور في الصين المعاصرة كثير من المراجع والمقالات المكتوبة عن الصين والمتوافرة في مكتبة كلية اللغة العربية بجامعة الدراسات الأجنبية التي كنت أقضي فيها وقتاً طويلاً، وبدا ضروريا أن أدوّن في كتابي هذه الحوارات، لأنها تحاول أن ترصد أهمّ مظاهر الحياة الاجتماعية والسياسية والفكرية. وقد قصدت من إعدادها إعطاء القارئ العربي لمحة موضوعية عن الصين المعاصرة في ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح التي قادها زعيم الحزب الشيوعي السابق دنج شياو بينج، والتي أطاحت بأنصار الزعيم ماو تسي تونج وبالمقربين منه، من زعماء السلطة السياسية، وسياسة الانفتاح هذه أسست لمفاهيم وقيم رأسمالية جديدة لم تكن سائدة في مجتمع الصين وعلاقاته في حقبة الزعيم ماو تسي تونج.

 

أمراض الانفتاح: في البداية أحبّ أن أشير إلى أنّه إذا كان من المعروف أنّ ثمة أمراضا مزمنة تتحكم في علاقات مجتمعات بلدان العالم الثالث كالرشاوى والفساد والسرقات والمحسوبيات والعلاقات الشخصيّة والبيروقراطيّة الإدارية والعمولات، فإنّ الصين المعاصرة بدأت تغصّ بهذه الأمراض التي أخذت تنخر جسد المجتمع الصيني وروحه، وتفتته وتقسمه طبقياً، بحيث يزداد الفقراء فيه فقرا والأثرياء ثراء، وذلك في ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح، إذ يعتقد كثير من الصينيين المعاصرين أنّ في هذه السياسة خلاصاً اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً من مشاكلهم وأمراضهم السياسية والاجتماعية، وأنّها ستحقق لهم أحلامهم في الثراء والرفاهية، التي لم تتحقق في حقبة الرئيس ماو تسي تونج.. ونظراً لما عانته الصين من الاستعمار الأجنبي الطويل، وما رافق هذا الاستعمار من ظلم للشعب الصيني، وقهره، واستغلال خيراته، فقد تشبّعت نفوس الصينيين بحساسية شديدة ضدّ أي أجنبي يقيم على الأراضي الصينية، ويعمل في مؤسسات الصين. فبعد أن استولى ماو تسي تونج على مقاليد السلطة، قامت السلطات الصينية بمصادرة أملاك الإقطاعيين وتوزيعها على أفراد الشعب، وأمّمت المصانع العائدة لطبقة الرأسماليين، وطردت جميع الأجانب المقيمين على الأراضي الصينية، باستثناءات جدّ محدودة، تشمل مجموعة من الأشخاص المساندين للثورة الصينية والفاعلين فيها.

 

إنّ الصيني، على الرغم من اتساع الصين، ورحابة أراضيها (6.9 مليون كيلو متر مربع) وعدد سكانها المذهل (بلغ عدد سكان الصين حتى نهاية عام 1998) 1284،1 مليون نسمة، عدا سكان هونج كونج وتايوان، وماكاو)، على الرغم من هذه المساحة الواسعة، وهذا العدد الضخم، فإنّ الصيني يحذر الأجنبي، ويضعه دائماً في دائرة الشكّ والحذر وعدم الثقة بنواياه الخبيثة أو الطيبة، ويحاول دائماً أن يخفي عنه ما جرى ويجري في بلاده، وينبّه الآخرين من الصينيين حتى يحذروا منه، ويعاملوه بريبة -هو في أغلب الأحيان بريء منها- ويرى أنّ حريته يجب أن تكون محدودة وناقصة مقارنة بالصيني لأنّه أجنبي، فبينما كنت أناقش أحد طلابي حول مسائل الحقوق والحريات وقيادة السيارات، قال لي: أنت لا يسمح لك أن تفعل كذا وكذا، وربّما لا يسمح لك أن تقود سيارة في الصين. فقلت له: لماذا؟ قال: لأنك أجنبي. قلت: هل يوجد عنصرية ضدّ الأجنبي في الصين إلى هذا الحدّ؟ قال لي وبكلّ وضوح وبدون خجل: نعم، وأكثر من ذلك. إنّ تتالي الحملات الاستعمارية على الصين جعلنا عنصريين ضدّ الأجانب. إننا في الصين لا نسمح للأجنبي أن يتصرّف كما يتصرف الصيني. فقلت له: إنّ بلدي لم يستعمركم أبداً. فقال: أنت أجنبي، على كلّ حال.

 

طبقة العمال: أسهم المثقفون الصينيون وأساتذة الجامعات وطلابها، وقيادات الحزب الشيوعي الصيني وكوادر الدولة في العمل اليدوي مع الفلاحين والعمال في مواقع عملهم، وكانوا فاعلين حقيقيين في ثورة ماو تسي تونج. ويرى بعض الصينيين المعاصرين المناوئين له أنّ وضع المثقفين وأساتذة الجامعات جنباً إلى جنب مع العمال والفلاحين إساءة حقيقية لهم، فهؤلاء يجب أن يكونوا في مواقع الثقافة الحقيقية، وعلى منابر الجامعات، حيث يجب أن يقدّموا جهودهم العقلية، بدلاً من أن ينهمكوا في أعمال يدوية مجهدة تستهلك ثلث وقتهم، وتشغلهم عن قضايا أساسية ومهمة، وهي قضايا المعرفة والبحث العلمي، وفي حقيقة الأمر لم يكن ماو تسي تونج يولي كبير الاهتمام بقضايا البحث العلمي، فقد كادت الجامعات الصينية في عهده تخلو من فروع الدراسات العليا واختصاصاتها، وكان على الصيني الراغب في إكمال دراساته العليا أن يسافر إلى خارج الصين لإكمالها.

وقد حدّثني صديق صيني مفكّر معروف في الوسط العلمي الصيني، وبينما كنا نتجاذب أطراف الحديث حول الحبّ والزواج والسياسة في عهد ماو، وعندما سألته: هل سبق لك أن أحببت امرأة غير زوجتك الحاليّة حبّاً رومانسياً شفيفاً وعميقاً ملأ ذاكرتك ووجدانك؟ فقال: نعم، وكان أكبر مما تتصور وأول حب في حياتي، ولكني لم أوفّق إلى الزواج بها، لأنّ طبقتها الاجتماعية كانت أعلى منزلة من طبقتي، فقد رفضني والدها، لأنه كان من طبقة العمال، أمّا أنا فكنت محسوباً على طبقة المثقفين التي لا ترقى منزلة إلى طبقة العمال وفق رؤية نظام ماو تسي تونج السياسي والاجتماعي.

 

وإذا ما قارنا هذه الحادثة بما يجري اليوم في الصين المعاصرة، وفي ظلّ سياسة الإصلاح والانفتاح، فإنّ الرجل الصيني المعاصر يطمح في أن يتزّوج من طبقة الأثرياء والملاك الجدد وأصحاب الشركات التجاريّة والمقاولين ورجال الأعمال، لا من طبقة العمال والفلاحين، لأنّ كثيراً من الأثرياء الجدد يتأففون من منظر الفلاحين القادمين إلى بكين. وقد قال لي أحد الطلاب، وهو ينتمي إلى أسرة ثريّة، بكثير من الاستعلاء والطبقية، وبينما كنّا نتجوّل في منطقة (كون جوفن): “إنّ الفلاحين الكثر القادمين من الأرياف إلى بكين يخلقون مشاكل كثيرة، ويسهمون في تشكيل الفوضى والزحام والتلوّث، بالإضافة إلى أنّ مناظرهم الريفية تسيء إلى الوجه الجمالي والسياحي لمدينة بكين. وقال لي صديق صيني آخر، وبينما كنّا نتجوّل، عندما شاهدنا بائع أوراق اليانصيب: “إنّ الحياة حظوظ، وهنيئا لمن يحالفه الحظّ ويربح جائزة اليانصيب”. وذكر أنّ عاملاً صينياً ربح قبل عامين ثلاثين مليون يواناً صينياً، وصار الآن رجلاً مهماً ومرموقاً ومن كبار رجال الأعمال. وقال بالحرف الواحد: “ولم يكن يساوي حتى بصلة عندما كان عاملاً”. فالعامل، الذي قامت على كتفه ثورة ماو تسي تونج، انتهى إلى هذه الحال.

 

وفي عهد ماو “كان الرجل الصيني التقليدي يخجل من أن يذكر المال في حديثه، أو يبدي اهتماماً به في ظلّ المفاهيم التقليدية. ومن يبدي اهتماماً بالمال يستخفّ الناس به ويحتقرونه، أمّا الآن فقد ظهر اهتمام قوي بالكسب السريع، والتفنن في الملذّات الشخصيّة من شراب ورقص وخمور وطعام وجنس”، كما يقول الأستاذ الدكتور شريف شي سي تونج في الحوار الذي أجريته معه. وأصبح المال في المجتمع الصيني المعاصر غاية الغايات، وسيداً مطاعاً، وأخذ كثير من أبناء الجيل الجديد يدخلون الجامعات لا رغبة في المعرفة والتحصيل العلمي، بل أملاً في الحصول على الوظيفة في الشركات الخاصة التي تدرّ الأموال الكثيرة.

 

الطفرة الرأسمالية: بدأت بوادر الطفرة الرأسمالية تتجذّر واضحة في الصين ابتداء من عام ،1993 ودخلت في أهم معاقل الشيوعية الصينية في بكين، وهو ميدان (تيان آن مين)، وقاعة الشعب الكبرى الموجودة في هذا الميدان، فقد افتتح بار (كاراوكي) الضخم بجوار بوابة مدينة الصين القديمة، وكان يُقدم في هذا البار أغاني (البوب) متزامنة مع صور الفيديو. وكانت تعقد في هذا البار العلاقات الغرامية المحرمة، وقد حظيت هذه البوابة التي يرجع تاريخ تشييدها إلى عهد الإمبراطور الصيني (يونج) في القرن الخامس عشر -الذي ينتمي إلى أسرة “مينج” الإمبراطورية التي حكمت الصين من عام 1368 حتى عام 1644- برعاية كبيرة من الحكومة الصينية لأنها من أهم المعالم الأثريّة القومية في الصين. وقد علل مدير البوابة( هو بي يون) -في ذلك الوقت- سبب افتتاح هذا البار قائلا: “لا نستطيع التفكير في حماية آثار الصين من دون الأموال الكثيرة”.

 

وجرياً وراء سياسة الكسب السريع وجمع المال من أيّ مصدر كان، شرعت الحكومة الصينية في فتح الأماكن المحرّمة للسياح الأجانب، كما حدث في ميدان (تيان آن مين) في عام ،1988 وأقامت فيها مقاهي وحوانيت مليئة بالهدايا. أمّا قاعة الشعب الكبرى الموجودة في هذا الميدان، والتي تعد مقرّ الحكومة الصينية الرئيسي، والتي كانت قلعة محرّمة أيام ماو تسي تونج، فقد افتتحت أمام عامة الناس في عام ،1979 وقد زارها حسب الإحصائيات الصينية ما بين عام 1979 وعام 1992 حوالي 41 مليون شخص، وقد دفعوا رسوما مالية للحكومة على هذه الزيارة.

مقال نشرته جريدة الخليج عن كتاب ( رحلة إلى بكين ـ ملامح من الصين المعاصرة ) الصادر عن دار السويدي للنشر، أبو ظبي، وعن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2004م للدكتور: محمد عبد الرحمن يونس

 

أضيفت في 07/02/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية