الغربة والرحيل ينميان معارف الكاتب وخبراته العلمية ويسهمان في تشكيل إبداعاته
النص الإبداعي هو نص أول وليس من مهمته أن يطوّع نفسه لرغبات ومعايير النص
النقدي
حاوره في سوريا: د. عجاء زينة
القاص والروائي والباحث د.محمد عبد الرحمن يونس ؛ عاد مؤخراً من
الصين بعد تجربة التدريس في إحدى الجامعات هناك . لقد عانى من غربة حادة مسكونة
بالآلام والأحلام الكبيرة على حد قوله . وله تسعة كتب مطبوعة في القصة والرواية
والنقد الأدبي , بالإضافة إلى ( 150 ) مائة وخمسين بحثا ودراسة نقدية وأكاديمية
منشورة في (66) ست وستين مجلة ودورية عربية تصدر في الوطن العربي وأوروبا
واستراليا والصين .
عمل مدرسا في عدة جامعات عربية , وحصل على ثماني جوائز عربية في
القصة والرواية والنقد الأدب. وهو يحمل شهادة دكتوراه الدولة في النقد الأدبي .
من الجامعة اللنبانية في بيروت . درس وتخرج في الجامعات الآتية : جامعة الجزائر
بالجزائر , وجامعة محمد الخامس في المغرب بالرباط , والجامعة اللبنانية / الفرع
الأول ـ بيروت .
وحول تجربة الغربة والرحيل في حياته وأثرهما في العملية الإبداعية
في كتاباته , كان لنا معه الحوار التالي :
* أنت من الكتاب المغتربين والمسافرين كثيراً . دعنا نتحدث عن مرحلة الغربة
والرحيل ، ودورهما في التأثير في أعمالك الأدبية ؟
- نعم .. لقد اغتربت طويلاً في حياتي ، فقد بقيت خمس عشرة سنة ، زرت
فيها كثيراً من دول الوطن العربي وأوربا والصين ، حيث تابعت دراساتي الجامعية
الأولى والعليا ، ومارست مهنة التدريس في غير جامعة عربية وأجنبية . وقد كان
لهذه الغربة الطويلة أثر كبير على كتاباتي القصصية والروائية والنقدية ، لأني
عانيت من غربة حادة مسكونة بالآلام والأحلام الكبيرة .
وقد كان لهذه المعاناة دور واضح في تشكيل نصوصي القصصية والروائية .
كنت أحس بالغربة في الشارع والمدينة والسكن والجامعة التي أدرس فيها ، والتي
ألقي فيها محاضراتي فيما بعد .فالمواطنون في كثير من دول العالم ينظرون إلى
الأجنبي نظرة خاصة .إنهم يطلقون عليه : الأجنبي أو الغريب . حتى أننا نجد أن
بعض الدول العربية تطلق على العرب الوافدين إليها اسم : الأجانب . ومرات عديدة
ترددت في مسامعي ، حينما كنت أراجع بعض دوائر الدول العربية و الأجنبية : أنت
غريب .
أنت أجنبي ،ليس لديك حقوق مثل أبناء البلد . إلا أنني في هذه الدول
استطعت أن ألتقي بنخبة من المثقفين الكرام ،المتحررين من عقد الحساسية و
الكراهية ضد الأجنبي . و الذين أضافوا إلى معارفي أشياء كثيرة ، في الثقافة و
الأدب و الفكر ، وعلى الرغم من شعور الفرد بالاغتراب و الفقر و الحاجة أحيانا
، و الشوق العاصف إلى ذكريات الصبا و مواطنها ، إلا أن للغربة و الرحيل فضلا
كبيرا على الكاتب .
إنهما ينميان معارفه و خبراته العلمية و يجعلانه قادرا على
أن يكون أكثر رفاهية في الحس و المشاعر .انهما يسهمان بشكل واضح في تشكيل
النصوص الإبداعية ،بأزمنتها و أمكنتها و بنياتها الفنية و الجمالية المتعددة .
لقد علمتني الغربة أن أكون صبورا جدا على قراءة النصوص الإبداعية و النقدية ،و
تشكيلها ،و وسّعت من دائرة معارفي ، و جعلتني أتعرف على أخلاقيات جديدة ، و قيم
مغايرة لتلك التي كنت أؤمن بها . و جعلتني رافضا لأن أتعصب لأي مذهب فكري أو
نقدي ، أو نظرية أدبية كنت أراها سابقا الأصلح و الأسلم . و قد أثرت المناهج
الأجنبية المعاصرة التي فُرض علي دراستها في الجامعات التي درست فيها ، في بنية
تفكيري ، و رؤيتي للحياة و الكون ، وللخطابات الأدبية و الفكرية التي قرأتها
فيما بعد .
* لنتحدث عن التكوين الثقافي و الفكري و عن أهم الإبداعات التي أثرت في نصوصك
النقدية و الإبداعية ؟
- أحب أن أشير إلى أن للجامعات التي تابعت دراساتي فيها (جامعة
الجزائر - جامعة محمد الخامس في الرباط - الجامعة اللبنانية في بيروت ) و
لأساتذتي الكرام في هذه الجامعات دورا كبيرا وواضحا في تكويني الثقافي و الفكري
، فقد نهلت من هذه الجامعات معارف عديدة ، و تعلمت فيها أصول البحث العلمي و
أسسه المعرفية . و نظرت إلى حد ما - و أنا أقرأ النصوص النقدية و الفكرية و
الإبداعية ، ثم و أنا أشكلها فيما بعد - برؤية أكاديمية جعلتني أبتعد كثيرا عن
الهجوم على النصوص الإبداعية و الخطابات الفكرية التي قرأتها ، وجعلتني أبتعد
عن تسفيهها و مهاجمتها حينما أكتب عنها ، و مهما كانت رؤاها و أطروحاتها .
فعندما ننقد نصا قصصيا أ و روائيا أو شعريا ينبغي علينا أولا أن نبعد عن
أذهاننا أية حساسية مسبقة ضده ، و أن نعامله بمحبة لا بعدوانية وكراهية وإذا
وجدنا أنفسنا أننا محكومون بحساسية ضده ، علينا أن نبتعد عن نقده أو دراسته ،
لأن النقد الأكاديمي الذي يقترب من الموضوعية و العلمية ليس من مهمته أن يبرز
عيوب النص وينقده ويسفهه ويسفه أطروحاته الفكرية ،بل عليه أن يحلله ويشرحه ويفك
استغلاقاته الرمزية والمبهمة ويبين مدى تناصّه وتعالقه مع نصوص أخرى فكرية أو
إبداعية إنه يجب أن ينهمك بأدواته المعرفية المتعددة ، في تشكيل قراءة جديدة
غير عدوانية ، وغير شللية ، وغير إيديولوجية أو مذهبية سياسية .
فالنص الإبداعي
هو نص أول ، أما النص النقدي فهو نص ثان ، وليس من مهمة النص الأول أن يطوّع
نفسه أو يلوي عنقه لرغبات النص النقدي الثاني ومعاييره . بل على النص الثاني أن
ينهمك بأدواته المعرفية ، وطرائقه المتعددة في فهم النص الأول ودراسة بنياته
الفكرية والجمالية ، والفنية والتشكيلية, نستثني من ذلك ، بطبيعة الحال ،
النصوص الأولى التي لا تقول شيئاً ، والتي هي غير قادرة على أن تضيف جديداً على
مستوى الرؤية والفكر والفن ، وفي الحقيقة لا أدري - تماماً - ما هي الخطابات
الفكرية والإبداعية التي أثرت في تكويني المعرفي وفي قصصي ، إلا أنني أقول :
إني قرأت بمحبة واستمتاع كبيرين نصوصاً تراثية كثيرة ، منها : ألف ليلة وليلة
والملاحم والأساطير اليونانية ، والحكايات والأساطير والسير العربية القديمة
كسيرة بني هلال والزير سالم ، وسيف بن ذي يزن ، والأميرة ذات الهمة ، وشجرة
الدر ، والملك الظاهر بيبرس وغيرها ، وقرأت نصوصا تراثية خصبة بالأبعاد
والدلالات و المعارف الكثيرة ومنها نصوص الجاحظ والتوحيدي وعبد الله بن المقفع
، وأبي الفرج الأصفهاني ، ونصوصاً كثيرة في العشق والحب واللذة ومنها نصوص شهاب
الدين أحمد التيفاشي والحافظ مغلطاي ، والشيخ النفزاوي ، ومحمد بن أحمد التجاني
، وابن قتيبة ، وابن قيم الجوزية ، وعبد الرحمن الشيرازي, والسيوطي وغيرهم
.....
وتأثّرت بنصوص القرآن الكريم تأثّرا كبيرا وبالشعر العربي القديم
والحديث وكنت في أحيان كثيرة أقتبس بعض الآيات القرآنية والأبيات الشعرية
،وأستعين بها في قصصي القصيرة لخدمة السياق المعرفي والرؤية الفكرية التي أريد
طرحها ،فقد شدّتني قصائد أبي نواس وبشار بن برد وأبي العلاء المعري وأبي الطيب
المتنبي , والشعراء الصعاليك , لما فيها من قيم جمالية رافضة لبنيان مجتمعها
وعلاقاته غير الإنسانية , ومن القراءات غير الأدبية كان التاريخ فسحة جمالية
أتأمّل فيها , وعبراً كثيرة , أجعل أبطالي القصصيين والروائيين يتأمّلون
ويفكّرون من خلالها أحياناً، ويدينون بؤر الظلام الشاسعة .
وربّما أثّرت - إلى
حدّ ما - في أعمالي نصوص أخرى في علم الاجتماع والنفس والأنثروبولوجيا
وميثولوجيا الشعوب وفولكلورها . وهذه العلوم، وإن كانت غير أدبيّة، فإنها تشكّل
خلفية معرفيّة مهمّة للكاتب ، لأنها تتداخل كثيرا مع الأجناس الأدبية المعاصرة
،ولا يمكن للنصوص الإبداعيّة الأولى أن تستقلّ عنها أو تنفصل . وأفدت - إلى حدّ
بعيد - في أبحاثي ودراساتي النقديّة من النقد الأجنبي الحديث ، فقد قرأت بعض
أعمال جورج لوكاش ورولان بارت وجوليا كريستيفا ، وجيرار جينيت ، وتزيفيتان
تودوروف ، وجاك دريدا ،وميخائيل باختين وأندريه ميكيل وميتشيل بوتور وغاستون
باشلار ،وغيرهم من الكتّاب الذين كنّا ندرس نصوصهم في الجامعة ،وقد ساعدتني هذه
النصوص على أن أقرأ النص الأدبي وأفهمه وأحلّله ، بعيداً عن أيّ إيديولوجيا
خاصّة أؤمن بها ، أو أعتنقها .
ومن الكتاب الأجانب الذين قرأت بعض أعمالهم وأثّّرت في نفسي :
غابرييل غارسيا ماركيز ، وأندريه جيد ، وأرنست همنجواي ،وغي دو موبان، ونيكوس
كانتزاكيس ، وبلزاك واريك سيغال، وهرمان ملفيل، وجاك لندن ، وألبير كامو ،
وغوستاف فلوبير وأمبيرتو إيكو وتورجنيف ، ودو ستوفسكي وآخرون . وقرأت لكثير من
كتّاب الرواية والقصة في الوطن العربي ، وبخاصّة كتاب المغرب العربي (تونس
والجزائر والمغرب واليمن ) لأني عشت في هذه الدول وقتاً طويلاً ، ومن هؤلاء
الكتّاب : محمد برادة ، محمد شكري ، محمد زفزاف ،أحمد بو زفور، عبد الله العروي
، رشيد بو جدرة ، الطاهر وطّار ، واسيني الأعرج ، عبد الحميد بن هدوقة ،كاتب
ياسين ، مولود فرعون ، محمود المسعدي ، رضوان الكوني ، محمد العروسي المطوي ،
زيد مطيع دماج . وعندما رجعت إلى بلدي سورية مؤخراً ، انهمكت في قراءة القصّة
والرواية السورية اللتين هما على قدر من المتعة والجمال ، وقرأت لكثير من
الكتاب السوريين الذين يطول ذكرهم . بالإضافة إلى أعمال كتّاب القصّة والرواية
المبدعين في بقية دول الوطن العربي . ولا أنسى كتاب الرواية والقصة القصيرة في
مصر، فقد قرأت لمعظمهم، وبخاصة أعمال نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف القعيد
وجمال الغيطاني, وصنع الله إبراهيم وإدوارد الخراط, وغيرهم كثيرون.
إنّ كاتب القصة والرواية لا يعرف أين يتحاكى أو يتناص نصّه القصصي
أو الروائي ، هو يقرأ كثيرا في شتى مجالات المعرفة الإنسانية ، ومن خلال
قراءاته تبدأ ذاكرته ووعيه بجمع المعرفة ، ثمّ تحليلها وتركيبها ، والإفادة
منها ، ثمّ تشكيلها في نصّ قصصي أو روائي أو شعري أو نقدي أو غير ذلك ، وفق رؤى
وأبعاد ودلالات قد تكون إبداعية جديدة ، وقد تكون مطروقة مكرورة . وإذا كان
النص الأدبي " يتألف من كتابات متعدّدة تنحدر من ثقافات عديدة وتدخل في حوار مع
بعضها البعض وتتحاكى وتتعارض " على حدّ تعبير رولان بارت ، فإنّه يصعب على أيّ
كاتب ، مهما كان واسع الإطلاع والمعرفة ، أن يكشف عن هذه الثقافات بتعدّد
مصادرها ، وأن يعرف أين تتحاكى وتتعارض . إلا أنّ أهمّ عمل كبير كان له تأثير
عميق في نفسي وذاكرتي هو ألف ليلة وليلة ، فقد قرأته مرّات عديدة ، وأنجزت
دراسات عديدة منشورة حول حكاياته ،هذه الحكايات التي كانت موضوعاً لأطروحة
دكتوراه الدولة التي دافعت عنها .
* لماذا ألف ليلة وليلة تحديدا ؟ وما هو موضوع أطروحتك ، وما هي أهمّ المواضيع
التي عالجتها في هذه الأطروحة ؟
- لأنّ نصوص ألف ليلة وليلة نصوص مثيرة جريئة وخصبة , إنها تخدش
أعماق الإنسان في ماضيه وحاضره ,وما توسوس له نفسه الأمّارة بالمعاصي ,ولا تخشى
أحداً. تعلن مشروعها المعرفي لتدين النساء والرجال والمدن وقيمها وعاداتها ,
والسلاطين واستبدادهم، والأسواق وعلاقاتها الاجتماعيّة والتجاريّة .إنها شمولية
في خطابها المعرفي , وفي امتدادها إلى أبعد الحضارات وأقربها ,فعلى سبيل المثال
نجد أنّ المرأة في ألف ليلة وليلة هي جميع نساء الحضارات الأخرى, وخطابها
الكيدي و الاحتيالي هو خطاب المكيدة أنّى كان -في أيّ زمان وأيّ مكان - . فلم
تترك نصوص ألف ليلة وليلة امرأة من نسائها المنتميات إلى حضارات ومذاهب عديدة
إلا وكشفت عن أهم الجوانب الدفينة في أعماقها ,ولم تترك سلطاناً, أو حاكماً من
حكامها إلا وتوغلت إلى أبعد دهاليز قصوره ، و مقاصيره الخاصّة , وعرّت نساءه
وجواريه الحظايا ,وطقوس فرحه وحزنه وجسده , وخطاباته الفكريّة والسياسيّة
,وعلاقاته مع أفراد شعبه , وسلّطت الضوء على طعامه الفاخر,وخموره المعتّقة ,
فشعّت متلألئة شهيّة على وقع الصاجات والدفوف، وقامات الجواري المليئات جمالاً
التي تهتزّ مغناجة مثيرة .
فهذه النصوص تتمرّد ثائرة على معظم الخطابات
التاريخيّة والقصصيّة , والحكائية التي سبقتها , والتي عاصرتها , غير أنّ هذا
التمرد يبقى مغلّفاً بشال من الحرير المعطّر سحراً وأساطير . إنّ لها القدرة
السحريّة على التوغل إلى أعماق الذات لتعري خطاباتها الفكريّة ,وتناقضاتها
وأدقّ خفاياها, وسكينتها واستسلامها المطلق لقدرها الغيبي، ولسلطات مدنها
الغاشمة , ومن ثمّ لتحلّق بها إلى مدن جديدة وسحريّة ,على أجنحة خيال أسطوريّ
حالم تارة ,متوثّب جامح تارة أخرى ,فتحلّق هذه الذات حالمة بالنساء العبقات
الشهيّات ,والثراء الفاحش ,مع الجنّ والأحصنة الطائرة المسحورة , والمصابيح
السحريّة, وخواتم شبيك لبيك،المال والقصور وجواري الأرض بين يديك - اطلب تُطع -
إن أنت دعكت هذا الخاتم السحري ,فأنا المارد خادم هذا الخاتم القادر على فعل
العجائب ,سأكون حالاً بين يديك " ,وترحل صوب المدن الفاضلة التي لا خوف فيها
ولا بطش ولا استبداد ،عندها تسكن الروح عميقاً ،وتستسلم لحال من الطمأنينة
والرضى،والأحلام الشفيفة التي لن يتحقق منها شيء, لأنّ واقع مدن ألف ليلة وليلة
واقع مهان محكوم بحفنة من الحكام الظلمة الذين لا يعملون إلا على تحقيق مصالحهم
الخاصة , وإشباع نزواتهم المتأججة دائماً.
أما موضوع أطروحتي فقد كان :" المدينة والسلطة في ألف ليلة وليلة "
وقد بلغ مجموع صفحاتها ( 510 ) صفحة , تناولت فيها ملامح مدن ألف ليلة وليلة
الإسلامية وغير الإسلامية , الواقعية والمتخيلة ,اجتماعياً وثقافياً وسياسياً
وحاولت فيها التركيز على سلوك رجال السلطة وأعوانهم في مدن الليالي , وعلاقاتهم
بمواطنيهم البسطاء على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والطبقي , كما درست
بالتفصيل بنية الفضاء المكاني في ألف ليلة وليلة وعلاقاته بقاطنيه , وملامحه
وأوصافه ,وعلاقات قاطنيه فيما بينهم , ودوره في بناء الحكاية وتشعبها ,وتحدثت
عن نساء ألف ليلة وليلة السلطويات وأفعالهن ومؤامراتهن , ودورهن في تخريب ما هو
إنساني وأخلاقي وجميل في مدن ألف ليلة وليلة .
* هل لك أن تحدّثنا عن تجربة اغترابك في الصين , ولماذا اخترت الصين تحديداً ؟
- بعد أن انتهيت من إعداد أطروحة الدكتوراه، وجدت نفسي لا أملك ولا
مبلغاً بسيطاً أستطيع من خلاله أن أشتري علبة دواء، أو أسافر إلى دمشق أو
بيروت، لأن ست سنوات متواصلة من التحضير للدكتوراه كانت قادرة على إفلاسي
تماماً ،وعلى تبديد جميع ما ادّخرته عندما كنت أعمل محاضراً في جامعة صنعاء
وأذكر تماماً أنّي استدنت مبلغاً مالياً وقدره ألفي ليرة سورية من ابن عمي
الأستاذ علي أحمد يونس، وسافرت به إلى دمشق لتصديق شهادتي الماجستير والدكتوراه
من ملحق وزارة الخارجية، وفي دمشق زرت أستاذي وصديقي الأديب عبد المعين الملوحي.
وقال لي : ماذا ستفعل الآن بعد أن أنهيت دراستك ؟ ولم أكن أعرف ماذا سأفعل فقال
لي :ادع الله أن يساعدني لكي أساعدك في الحصول على عمل وكان الرجل نبيلاَ
وكريماً ورشّحني للعمل في جامعات بكين، لأنه سبق له وأن عمل أستاذاً في جامعة
بكين- قسم اللغة العربية .
واتصل بي مساء أحد الأيام، وأبلغني أنهم قبلوا ترشيحه لي، وأنّه
عليّ الإسراع لإنجاز معاملات السفر. وكان فرحي شفيفاً كنوارس البحر، وعميقاً
كزرقة عينيه. وكان عليّ أن أحصل على مبلغ مالي ليس قليلاً ،لأعدّ أوراق السفر
وحاجاته، فما كان مني إلا أن أسرعت وبعت جهاز الكمبيوتر الشخصي الذي أنجز من
خلاله طباعة أبحاثي ودراساتي وتخزينها. وسافرت إلى بكين. وهناك عملت محاضراً في
جامعة الدراسات الأجنبية في بكين ،وهي أكبر الجامعات الصينية التي تدرس اللغات
الأجنبية الكثيرة للطلاب الصينيين. وفي كلية اللغة العربية في هذه الجامعة
ألقيت محاضرات لطلاب شعبة الدراسات العليا - الماجستير، وطلاب السنتين الثالثة
والرابعة، درّست من خلالها نصوص ودراسات أدبية في الشعر والقصة القصيرة
والمقالة والمسرح وتاريخ الأدب العربي لطلاب شعبة الماجستير، ومادة المحادثة
الشفوية لطلاب السنتين الثالثة والرابعة. ولم تكن الحياة في بكين سهلة، فبكين
مدينة شاسعة جداً، والجامعة التي أعمل بها خالية تماماً من العرب، سواء أكانوا
أساتذة أم طلاباً، فجميع الطلاب العرب موجودون في جامعة اللغات والثقافة،
وجامعة العلوم الخاصة بالطيران، وجامعة بكين، والطعام الصيني مختلف تماماً عن
الطعام العربي والأوربي، وجميع مطاعم الصين لا تقدّم لروادها شوكة ولا سكيناً،
وكان عليّ في البداية أن أحمل معي شوكة وسكيناً، وبقيت أحملها كلما دخلت مطعماً
،إلى أن تعلمت استخدام العصوين الذين يبدو استخدامهما صعباً بالنسبة للأجنبي،
أيضا، ً يضاف إلى ذلك أن مطاعم الصين تقدم لحم الخنازير والكلاب والحمير والقطط
والضفادع والثعابين والعقارب وغيرها في جميع وجباتها، وأنواع اللحوم هذه هي
التي يفضّلها الصيني على بقية الأنواع الأخرى. وكان عليّ وعندما أدخل أي مطعم -
في البداية - أن أبرز لعاملة المطعم ورقة مدوّن عليها باللغة الصينية المعقدة
جداً كان قد كتبها لي أحد طلابي في الجامعة :" أرجوكِ أريد وجبة خالية تماماً
من لحم الخنازير والقطط والحمير أريد لحم الدجاج والسمك فقط ". وعلى الرغم من
الصعوبات التي يجدها الأجانب في الصين يبقى الرحيل إلى الصين مثيراً وممتعاً ،
فالصين عالم غريب وأسطوري، ومغاير لمعظم بلدان العالم وعواصمها وعاداتها
وتقاليدها، عالم مثير، مليء بالغرابة والتناقض والسحر والدهشة والجمال، فبكين
المدينة الثريّة، البطرة العملاقة التي يقول الناس عنها إنها ثالث مدينة في
العالم من حيث الزحام والحركة وعدد السكان والكبر ( بعد نيويورك وطوكيو ) غاصّة
بالمشاكل، فإلى جانب التقدم التقني والحضاري والعمراني الذي وصلت إليه يوجد
الفقراء والشحاذون الذين يملؤون أرصفة الشوارع الراقية فيها، ويوجد البيوت
القصديرية الضيقة التي تفتقر إلى أبسط شروط العيش الكريم .
وإلى جانب متاجر الألبسة الفخمة الفارهة التي تضاهي أكبر متاجر
العالم، يوجد دكاكين الأسواق الشعبيّة ( البالة ) الغاصّة بالفقراء وذوي الدخل
المحدود. وإلى جانب المعاقل والمعالم العلميّة الكبرى التي تعلّم العلوم
والمعارف الحديثة، كجامعة الدراسات الأجنبية في بكين وجامعة بكين وجامعة ( رين
مين داشي ) وغيرها من الجامعات، يوجد المشعوذون الذين يقفون أمام أبواب هذه
الجامعات ليقرؤوا ما تخفيه الأقدار والحظوظ ، من خلال قراءة ما تخفيه أكفّ
الأيدي وتقاطيعها وبصماتها، والغريب في الأمر أن الطلاب الصينيين الذين تربّوا
تربية ماركسية يتوجهون إلى هؤلاء المشعوذين ليكشفوا لهم حظوظهم ومصائرهم .
وفي معابد الإله بوذا في بكين تنحني نساء بكين أمام بوذا ، طالبات
منه أن يرزقهن غلاماً ، ويتقدّم إليه طلاب الثانوية العامة بالنذور علّه يمنحهم
بركته، وينجحون في الامتحانات النهائية . أمّا الرجال المهووسون بالسفر
والترحال إلى أمريكا وأوربا، فإنّهم أيضاً يذهبون إلى المعبد ويتضرّعون إلى
بوذا علّه يمنحهم تأشيرة خروج من الصين . وفي الأحياء الأرستقراطية الثريّة في
بكين حيث ينتشر التجار الأجانب ورجال الأعمال الأثرياء ، تجد النساء ملاذاً
لأحلامهنّ في الثراء واكتناز المال، فينذرن أنفسهنّ خليلات ومرفِّهات ومدلِّكات
لأجساد هؤلاء الرجال . وكلّ ذلك أمام مرأى رجال البوليس .
إنّ الصين المعاصرة التي انتهجت سياسة الإصلاح والانفتاح نحو أمريكا
والغرب الأوربي بعد وفاة الزعيم ماوتسي تونغ ( 1976م ) بدأت في عهد سلفه ( دنغ
شياو بينغ ) بالتخلي عن معظم مبادىء النظام الاشتراكي، فباعت الشركات والمصانع
الحكومية إلى القطاع الخاص، وباعت منازل الدولة إلى الملاك الجدد . وودّعت
الاقتصاد الاشتراكي منتهجة اقتصاد السوق وسياساته، وهي الآن في عهد الرئيس
الحالي تزداد قرباً من أمريكا، وتقيم معها أوثق العلاقات والروابط السياسية
والتجارية، أمّا علاقاتها مع إسرائيل فهي وطيدة جداً ،إذ يسهم الخبراء
الإسرائيليون في تطوير الترسانة العسكرية الصينية. والإعلام الإسرائيلي قوي
ونشيط جداً بينما - وللأسف - نجد أن الإعلام العربي في الصين هزيل جداً ومحدود،
وغير فعّال، وفي أحيان كثيرة ملغى تماماً .
* ما هي الجامعات التي تدرّس اللغة العربية في الصين ؟ وكيف تنظر إلى آفاق
تعلّم اللغة العربية في الصين في ظلّ سياساتها الجديدة ؟
- يوجد في الصين عدّة جامعات تدرّس مادة اللغة العربية، ففي مدينة
بكين العاصمة وحدها يوجد خمس جامعات وهي : جامعة بكين ، جامعة الدراسات
الأجنبية ، جامعة اللغات والثقافة ، جامعة الدراسات الأجنبية الثانية ، جامعة
الاقتصاد والتجارة الخارجية .
أمّا بقية الجامعات الأخرى في أنحاء الصين التي تدرّس اللغة العربية
فهي : جامعة الدراسات الأجنبية في شانغهاي ، الجامعة العسكرية في مدينة ( لويان
) ، الجامعة المتكاملة في مقاطعة ( يونان ) ، ويوجد جامعة أخرى في جزيرة تايوان
الصينية التي تعيش وضعاً سياسياً متمرداً على الصين، وانفصالياً عنها، وهي :
الجامعة السياسية بتايوان .
كما يوجد جامعة أخرى في مقاطعة ( شينجيانغ )
الويغورية المسلمة، ذات الحكم الذاتي، وهي تختص بتعليم الطلاب المشتغلين بالحقل
الديني حتى يستطيعوا أن يؤمّوا المساجد، ويقرأوا القرآن باللغة العربية،
ويعلّموه للراغبين في ذلك، من أبناء مقاطعتهم . بالإضافة إلى أكثر من عشرة
معاهد حكومية وأهلية تقوم بتدريس اللغة العربية لأبناء المسلمين، ولأي صيني
يرغب في دراسة اللغة العربية .
لقد كانت الصين في عهد ماوتسي تونغ، تولي أهمية كبيرة لتعلّم اللغة
العربية، وتدريسها في الجامعات الصينية، لأنّ الحكومة الصينية كانت طموحة في
إقامة علاقات وطيدة - تجارياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً - مع دول الوطن
العربي أكبر من طموحها في أن تقيم مثل هذه العلاقات مع أمريكا وأوربا، لأنّ
السياسيين الصينيين في عهد ماو، كانوا ميّالين إلى العرب أكثر من ميلهم إلى
أمريكا وأوربا، وكان الطالب الصيني الذي يتخرّج من الجامعة متقناً اللغة
العربية، يجد عملاً وبسهولة بعد تخرّجه، ويتدرّج في عمله حتى يستلم مناصب مهمّة
في الدولة . أمّا اليوم فقد تراجع تعليم اللغة العربية في الجامعات الصينية
بشكل واضح، وصار الطلاب الصينيون ميّالين إلى تعلم اللغات الأجنبية الأخرى
كالإنكليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والإسبانية واليابانية والكورية
والروسية. وغيرها، لأنّ الحكومة الصينية الحالية لم تعد تولي أهمية لطلاب
الأقسام العربية. ويجد خريجو هذه الأقسام صعوبة بالغة في الحصول على وظيفة،
سواء أكانت في شركات القطاع العام أم الخاص، وقد وعى الطلاب الصينيون دارسو
اللغة العربية ذلك، فأخذوا يتعلّمون في جامعتين في الوقت نفسه، في جامعة يدرسون
اللغة العربية، وفي جامعة أخرى يدرسون السياسة والتجارة والاقتصاد أو اللغة
الإنكليزية، وغير ذلك .
إنّ الحكومة الصينية المعاصرة في هذه الأيام تعمل على توطيد
علاقاتها مع أمريكا والغرب الأوربي والعالم الصناعي، أكثر من ميلها إلى مثل هذا
التوطيد مع دول الوطن العربي،لأنّها ترى أنّ مصالحها الكبرى تتجسّد بانفتاحها
نحو أمريكا وأوربا، ومن هنا فقد بدأت الجامعات الصينية التي تدرّس اللغة
العربية في تقليص عدد الطلاب الذين تقبلهم، حتى أننا نجد أنّ بعض هذه الجامعات
تخلو من صف من الصفوف، فعلى سبيل المثال نجد أنّ جامعة بكين في العام 2001م ،
كانت تخلو تماماً من طلاب الصف الثالث / السنة الثالثة / ، وفي جامعة أخرى لا
نجد أيّ طالب من طلاب السنة الأولى أو الرابعة، وهكذا . وإذا ما بقيت الحكومة
الصينية مستمرة في تخليها عن الاشتراكية، وفي اندفاعها السريع صوب إقامة المزيد
من الانفتاح صوب أمريكا والغرب وإسرائيل، فإنّ مستقبل اللغة العربية في
الجامعات الصينية - بلا شكّ - سيتراجع تدريجياً .
|