أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: د. السيد نجم

       
       
       
       
       

حوار أدبي

دراسات أدبية

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

-اسم: السيد نجم / السيد عبدالعزيز نجم - مصر

-أمين سر اتحاد كتاب الانترنت العرب..

-التخصص الأدبي: إبداع الرواية والقصة القصيرة

 

*الإصدارات:

 -"السفر"-مجموعة قصص قصيرة- "القاهرة"- 1984-"دار الثقافة الجديدة".

-"أوراق مقاتل قديم"-مجموعة قصص قصيرة- القاهرة- 1988-"هيئة الكتاب المصرية".

-"أيام يوسف المنسي"- رواية– القاهرة-1990- "مطبوعات جماعة نصوص90الأدبية".

-"المصيدة"-مجموعة قصص-القاهرة-1992- "هيئة الكتاب المصرية"

-"لحظات في زمن التيه"-مجموعة قصص قصيرة-القاهرة-1993-"هيئة قصور الثقافة".

-"السمان يهاجر شرقا" –رواية-القاهرة-1995- "هيئة الكتاب المصرية"

-"الحرب:الفكرة-التجربة-الإبداع"-دراسة-القاهرة-1995-"هيئة الكتاب المصرية".

-"عودة العجوز إلى البحر"-مجموعة قصص قصيرة-الإسكندرية-2000– "دار الوفاء للنشر".

-"العتبات الضيقة" –رواية-القاهرة-2001-"هيئة الكتاب المصرية".

-"المقاومة والأدب" –دراسة-القاهرة-2001-"هيئة قصور الثقافة".

-"طفل القرن الواحد والعشرين" –دراسة-الإسكندرية-2002-"دار الوفاء للنشر".

-"المقاومة والحرب في الرواية العربية" –دراسة-القاهرة-2005-"دار جريدة الجمهورية".

-"المقاومة والقص في الأدب الفلسطيني.. الانتفاضة نموذجا"– دراسة-غزة -2006- اتحاد الكتاب الفلسطينيين.

-"غرفة ضيقة بلا جدران"-مجموعة قصص –القاهرة-2006-هيئة الكتاب المصرية.

-"يا بهية وخبريني"-ثلاث روايات قصيرة-القاهرة-2006-مطبوعات نادي القصة-.

-"الثقافة والإبداع الرقمي..قضايا ومفاهيم"-دراسة-الدائرة القافية-أمانة عمان الكبرى-الأردن-2008م

-"الروح وما شجاها"..-رواية- هيئة الكتاب المصرية-2008م.     

 

*إصدارات في أدب الطفل:

-"سامح يرسم الهواء" –قصة-القاهرة-2001-دار المعارف المصرية

-"الأسد هس والفيل بص"-مجموعة قصص-القاهرة- 2001-دار المعارف المصرية

-"حكايات القمر"-مجموعة قصص-القاهرة-2002- دار الهلال-80صفحة (حجم صغير)

-"المباراة المثيرة"-مجموعة قصص-القاهرة-2003- دار المعارف المصرية

-"الأمومة في عالم الحيوان" –تبسيط علوم-القاهرة-2004 -دار المعارف المصرية

-"الأشبال على أرض الأبطال"-رواية-القاهرة-2004-هيئة قصور الثقافة

-"روبوت سعيد جدا"-مجموعة قصص-القاهرة-2004- دار الهلال

-"حكايات الولد"-مجموعة قصص-الإمارات المتحدة/الشارقة-2007-دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة

-"كامس..ابن الشمس"-رواية-القاهرة- دار الهلال 2007"سلسلة روايات أولاد وبنات".

-"مرنبتاح.. فرعون الخروج"-رواية-القاهرة-دار الهلال 2008م"سلسلة روايات أولاد وبنات".

 

*النشر المشترك:

-مجموعة قصص عن القصة في أدب الحرب –القاهرة-1995- هيئة الكتاب المصرية

-مجموعة قصص قصيرة-القاهرة-1997-كتاب المقهى الثقافي الأول "معرض القاهرة الدولي للكتاب" -هيئة الكتاب المصرية

-مجموعة قصص-القاهرة-2000-قصص متنوعة لأجيال مختلفة "كتاب الجمهورية"- عن دار التحرير

 

*الجوائز:

-جائزة القصة القصيرة لنادي القصة بالقاهرة عامى1984 و1992.

-جائزة "سوزان مبارك" في أدب الطفل 1993.

-جائزة الرواية العربية "نظمتها صحيفة أخبار اليوم" عام1998.

-جائزة القصة القصيرة (في أدب الحرب) نظمتها القوات المسلحة المصرية عام2000.

- جائزة تكريم المؤتمر الأدبي الأول لأدباء القاهرة 1999.

-الحصول على العديد من شهادات التقدير والتكريم.. آخرها:

-"شهادة تكريم لأعلام الأدباء في العالم العربي عن "الجمعية الدولية للمترجمين واللغويين العرب"- قطر..(ضمن فئة أعلام وعلماء العرب).. يناير2008م.

- شهادة تكريم "دار نعمان" للنشر- بيروت –لبنان في مارس 2008م.

 

*معلومات أخرى:

*رسائل جامعية تتضمن الأعمال التالية للكاتب..

-رواية "أيام يوسف المنسي ضمن مضمون رسالة الدكتوراه للدكتور مصطفى الضبع..جامعة عين شمس.

-رواية "السمان يهاجر شرقا" و "الحرب:الفكرة –التجربة-الإبداع" ضمن مضمون رسالة الدكتوراه للدكتور عبدالمنعم أبوريد..جامعة القاهرة.

-رواية "السمان يهاجر شرقا", و"الحرب:الفكرة-التجربة-الإبداع" ضمن رسالة الدكتوراه للدكتورة غادة عفيفي.. جامعة عين شمس.

*حضور العديد من المؤتمرات الأدبية والثقافية داخل مصر وخارجها.

 

*التأليف في مجال الدراما:

-تمثيلية "نور الظلام" شبكة إذاعة البرنامج الثقافي عام2002

-تمثيلية عن قصة قصيرة بمجموعة"أوراق مقاتل قديم" بإذاعة الإسكندرية.عام2002م

-مسلسل "ساعة الصفر" شبكة إذاعة البرنامج الثقافي عام2003م

                              

*النشاط الأدبي: 

-أمين سر اتحاد كتاب الانترنت العرب.. ومن مؤسسي الاتحاد.

-عضو مؤسس لجماعة "نصوص.9" الأدبية.

-عضو اتحاد الكتاب المصريين.

-عضو نادي القصة.

-حضور العديد من المؤتمرات الأدبية, والاشتراك في العديد من برامج الإذاعة والتليفزيون بمصر والعالم العربي.

-قررت وزارة التربية والتعليم اقتناء رواية "الأشبال على أرض الأبطال"- طفل.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

رحلة صيد

راكية نار

خذ حذرك

قرص الشمس

حكاية

فصول السنة

سؤال

الخماسين

أجنحة الحمام

رقصة الحية

عاشق المياه

على الطريق

عماء الخفاش

عيون الصقر

فتاة المرآة

سرور الذي تذكرته 

بائع متجول بدين

أوامر

 ولد وبنت

ظل النمل

قضية

في الحرب والعتمة

الحالم حلما  

كذبت امرأة

كأن شيئا لم يحدث

 

حكاية

 

يحكى أن عمدة قرية بعيدة قديمة, اشتهر بين الجميع من أهل قريته و القرى القريبة باعتباره أقوى الرجال لأقوى القرى.وبينما كان يراقب الأطفال يلعبون بمرح عند شاطئ النهر..تساءل: ترى ما مصيرهم عندما يكبرون  ويصبحون محاربين, مثلى ومثل صحابي الذين فقدتهم مبكرا في المعارك؟

هكذا كان يفكر ليل نهار, فتوصل إلى أن الأطفال لم يأتوا إلى العالم من أجل المعارك, وأن كل ما يحتاجون إليه عندما يكبرون أن يعملوا في سلام. وهو ما جعله يقرر الاجتماع بشيوخ القرية . تحدث إليهم طويلا, وفهموا أنه على صواب, قرروا ألا يعلموا أطفالهم ألعاب المعارك,إلا في حالة الشعور بالخطر أو عندما يهاجمهم الغير.

تولى أقوى شباب القرية, مهمة إبلاغ الرسالة, إلى القرية  المجاورة. اعترضت طريقه صعاب جمة, لم يشعر باليأس .

فلما عرف سكان القرية المجاورة بأسرار المهمة, خرجوا لتحيته و حمله على الأكتاف.قبل أن يصلوا به إلى خيمة العمدة ..كان عمدتهم في اجتماع طارئ و سريع مع محاربي القرية ..

ثم أمر الرسول بإبلاغ الرسالة التالية كاملة: " أنني سوف أخرج مع أهلي ورجالي وشبابي",وخرج مع أهله ورجاله وشبابه. تقابل في منتصف الطريق بين القريتين مع عمدة القرية الأخرى. هناك تحطمت كل الأسلحة.أعلنت الأفراح في القريتين, خرج الجميع من هنا و من هناك إلى الطريق الموصلة فيما بينهم. تصافح الحاكمان. اختفت كل الأسلحة. ظهرت الآلات الموسيقية و علت أصوات الغناء و رقصوا..كبيرهم وصغيرهم. سهرت الحيوانات البرية من حولهم , أطلت الأسماك من مياه النهر, الشمس لم تشأ الغروب, ولأول مرة قبلت وجود القمر إلى جوارها في نفس الوقت ..ففرح الجميع أكثر.

لولا حادثة بسيطة جدا حدثت, لاستمرت الأفراح لسنوات و قرون طويلة , وربما حتى الآن!..لولا أن تصادم شابان يرقصان مع فتاتين جميلتين, لولا أن سال الدم من رأسيهما مصادفة . بسبب عنف الصدمة فيما بينهما لم يستطع الشابين التعبير عن غضبهما. لكن ما حدث بالضبط أن تولى أهل القريتين , كل سكان القريتين تولوا تلك المهمة  .

ما حدث من بعد.. أدهش الجميع, فقد ظلوا يتقاتلوا معا حتى أهلكوا بعضهم بعضا دون تفرقة ..من يطول أحدهم رقبة جاره , يفتك به , دون أن يعرف من أية قرية يكون. ولما عرفوا السبب من بعد , أعلنوا عذرا مناسبا , يبرر لهم وللأجيال القادمة ما حدث من عار..ذلك لأن الشمس غضبت مما حدث فجأة, وعلى غير اتفاق, فذهبت بعيدا...

كما انزوى القمر خجلا...

فأظلمت السماء و الأرض, ولم يعرف أحدهم من يقاتل من ؟؟!

 

 

أحلام القردة

يحكى أن قردا حملوه من الغابة عنوة.

سألوه ان كان سعيدا في القفص الذهبي ؟

فصرخ فيهم : القفص الزنزانة أصغر من أحلامي !!

أخبروه بما يحملون له من فاكهة لم يذقها منذ زمن ...

فأخبرهم بما يحمل من أحلام:

أحلم بالشمس تغازلني وأنا أعبث مع البراغيث على جلدي..

أحلم بالشجرة ترميني بثمرة لم أشتهيها, وأنا قابض على بطني.

حتى أنى أحلم بالنمرة تدفعني أمامها, ربما تفترسني, فأصرخ وأصرخ وأصرخ..فرحا !!

 

 

السمان والسمكة

 

يحكى أن ثلاثة أو أربعة أو خمسة من طائر السمان انحدروا نحو الرمال. حاموا حول سمكة رمتها الأمواج. أصغت السمكة لقشعريرة الهواء, تقوست ومالت بعيدا.. حاولت.

انزلقت لعلها تختفي عن أعينهم.

لم ينجح السمان في اقتناص السمكة البائسة.  وحط بعيدا , يرقب المشهد في صمت مدهش.  

انه القط يحسم أمره, انقض بمخالبه الحادة وأنيابه الطازجة والتهم السمكة.

فنظرت كل سمانة إلى جارتها, ربما تقول لها: نحن أحوج إليها من القط..عبرنا البحر وهبطنا البر..جائعين.

انتهت السمكة , اختفت في أحشاء القط. لم يبق سوى معاودة السمان للطيران. لم يطل المدى.. نجحت شباك الصياد المنصوبة على الرمال في اقتناصه..!

 

 

أسماك لا يعرفها أحد

 

 

 .. يحكى أن سمكا من نوع لا يعرفه أحد , حاول نسيان البحر ..فسبح وحده بعيدا, نحو الأعماق , هربا منه, عله يتركه وحده.

كلما غاص , لطمته أمواج غير تلك التي يعرف, مرة دافئة وأخرى باردة, وقد تكون جارفة أو حتى هادئة.

.. صخور هنا , وكائنات مفترسة هناك, ولم يفكر السمك المسكين في العودة.

كافح طويلا كي يبقى مفتوح العينين – التي هي بلا جفون !- تمنى لو كان صنفا من تلك التي تضئ في العتمة , أو  التي تعيش على مقربة من ضوء الشمس.

شغلته الأفكار المريبة .. كيف ينجو من الأخطار؟

.. رويدا , رويدا , يتهاوى. ظنت الكائنات التي تتابع ضعضعة زعانفه, أنه حالا سوف يتنازل عن رغبته في الغوص.

أحاطته في انتظار اللحظة الأخيرة ..

ما أن انقضوا عليه حتى انتعشت زعانف السمك الدائخ, نسى هوانه, بدت الأسماك وكأنها تصارعهم من جديد بما لا يعرفون !

.. لما نجحت الأسراب كلها , عادت إلى حيث كانت سالمة , فعلت سمكة صغيرة منها, وقالت :" ولم ننس البحر في الأعماق ..أيضا"!!

 

البهيمــة

 

لأنه كان لا يزال صغيرا , كانوا لا يعبأون كثيرا بوجوده, وربما يطردونه من جلستهم. ففي جلسات الرجال ليس له الحق في المشاركة ولا حتى بالتعليق عما يسمع.وفى جلسات النسوة ليس من حقه الاستماع إلى كل ما يتفوهن به..ربما لأنه أهم كثيرا من أحاديث الرجال..وإلا لماذا يعمدن إلى الهمس و الغمز واللمز ؟!

على الرغم من ذلك, سمع والديه يتصايحان ,دون أن يعبأ أحدهما بوجوده : نحن في حاجة إلى بهيمة بدلا من تلك التي ماتت حين غفلة.. يجب البحث عن وسيلة, ماذا نفعل؟!

ولأنهما لا يملكان ثمن بهيمة أخرى , كانا يبحثان في كل الوسائل, وعند كل الجيران, ولم يلتفتا إلى ولدهما القابع تحت أرجلهما , مشرئب الرأس, معلق الأذنين.

ظل معلق بهما فوق عتبة الدار حتى فقد ظلهما, وضجيج صوتهما المعلق بهما. تركاه وحيدا,  كلماتهما في أذنه حتى  سمع من يأمره..أن يكف عن البكاء و أن يتأمل أصابع يديه!

 بدا و كأن يدا خفيه قذفت به, رمته فوق شاطئ النهر, فتعلقت الأتربة بجلبابه . لم يعد يشعر بالوحدة, مع ذلك غلبته الدموع, صنعت طينا من حوله.

كان في مثل تلك الجلسات , يعبث في الطين , يصنع كرة أو حتى ثعبانا. لكنه في هذه الجلسة صنع  أربعة أرجل, وذيلا غير قصير, وفى المقدمة شكل ما يشبه رأس البهيمة. انشغل بصنيعه كثيرا حتى نسى أنه لم يأكل بعد.

فلما عاد إلى الدار , ورغب في النوم من شدة التعب,  سمع صوت الهاتف يأمره :" خذ البهيمة لترعى في الحقل القريب". ذهب ولم يعد إلا بعد غروب الشمس, هاله أن وجد بهيمته وقد كبرت, وكبر ضرعها حتى لامست الحلمات الأرض!. وهو ما أدهشه و والديه .

لم يسأله أحدهما من أين جاءت وكيف؟!!, سألاه فقط: "هل البهيمة لنا؟!", لم يرد وإن انطلقت بسمة سعيدة غامضة . أسرعت الأم إلى الضرع, شربت و شربوا جميعا حتى كسا اللبن الدافئ اللذيذ نحورهم جميعا. يحار من يراهم إن كان اللبن متسربلا من أعلى إلى أسفل أم العكس.وعلى الرغم من أنه سمع نفس الهاتف يأمره بأن يتأمل نفسه في مياه البئر القريبة, وقد تشكلت رأسه كرأس البهيمة و أصبح من ذوات الأربع و يملك ذيلا غير قصير..عمد الصغير إلى إحكام إغلاق جفونه أكثر كثيرا عما قبل.

 

 

الذبابة والنملة

 

يحكى أن ذبابة كبيرة ونملة صغيرة التقيا, فلعبا معا, ولما فرغا شعرا بالجوع. فقالت الذبابة انتظري يا صديقتى حتى أطير وسريعا أعود إليك بالطعام. لم تنتظر النملة وأخبرتها أنها تملك مخزنا كبيرا من الطعام في بيتها.

وبدأت معركة بينهما, تقول الذبابة أنها أكبر و أقوى منها,وعلى النملة الطاعة . وتقول النملة أنها أذكى من الذبابة وان كانت تبدو أصغر حجما منها, بدليل أنها لا تبحث عن طعامها مع كل وجبة.

بغرور رفضت الذبابة أفكار النملة, ثم طارت بعيدا.

المفاجأ أن التقيا ثانية في بيت النمل. فسألتها النملة عن سبب حضورها, هل لأنها الأقوى جاءت كي تأكل كل طعام مملكة النمل؟

بغرور ردت الذبابة , بقوتي أكلت كل ما أحببت دون فضل منك!, فلم تجد النملة ما تعقب به.

لم تمض سوى دقائق قليلة, حاولت فيها الذبابة أن تخرج من بيت النمل ولم تفلح.. الممرات كثيرة, والطرقات لا توصل إلى أشعة الشمس. عادت الذبابة إلى النملة ترجوها النصح. فابتسمت النملة وقالت:

"لو كان لك في الحكمة التي احملها لفكرتي في الخروج قبل الدخول"!

 

 

الأرنب والأسد

 

يحكى أن أسدا رفض يوما أن يخرج للصيد, وقال :سوف يأتيني طعامي لأنني الأسد .

ساعة بعد ساعة, ويوما بعد يوم , بدأ يشعر بالجوع حتى آلمته معدته, ونال منه الوهن.

قرر أن يعاقب كل الحيوانات التي تجاهلته, سوف ينال منها جميعا عندما تأتيه فور سماع صوت زئيره.

توالت الحيوانات, اقتربت كثيرا منه, والتفوا حوله على غير المعتاد..كلما حاول أن يزأر كان صوتهم أقوى منه. فاقترب من أصغر الحيوانات : الست خائفا منى؟!.

 لم يرد الأرنب, بينما يحاول الأسد أن يزأر, إلا أن سيقانه لم تستطع حمله , فسقط الأسد على الأرض.. ليس فقط بسبب ما أصابه من وهن وضعف..بسبب أن اعتلاه الأرنب, وقد اشرأب برأسه يزأر و يزأر كما الأسد!!

 

 

بئر عين الحــياة

 

كانت الفتاة القبيحة أفقر بنات القرية, ولا تعرف كيف تتخلص من القبح والفقر؟

تعيش مع والديها داخل كوخ من الصفيح  ,الحار صيفا و البارد شتاء.

ذهبت إلى بئر "عين الحياة",بعد أن عرفت من عجوز حكاية البئر. فقد تشققت الأرض وانبثقت مياهها في القرية منذ سنوات بعيدة على غير توقع..زلزلت الأرض زلزالها, هاجمهم الرعد و البرق, ثم هبت عاصفة شديدة . ذهبت العاصفة وتركت القرية محطمة تماما, مع ذلك قال الجميع:أن العاصفة فعلت ذلك من أجل أن تترك لنا تلك البئر , ولكي تشيد قرية جديدة حولها.فأطلقوا عليها اسما "بئر عين الحياة".

قالت الفتاة الحزينة للبئر:كنت سببا في سعادة كل أهل القرية, إلا سكان الكوخ الصفيح..أخبريني كيف أصبح من جميلات أثرياء القرية ؟

فقالت البئر:إذن لك ما أردت حالا, و تصبحين من الجميلات الأثرياء, بشرط أن تنسجي  بيدك شالا بدلا من الشال القديم, وستبقين كذلك مادمت تغسلينه كل يوم في مياهي الطيبة.

على الطريق استقبلها أهل القرية بالدهشة , يسألونها عن سر جمالها..لم ترد. فور وصولها للكوخ بدأت في تجهيز الشال .  قبل أن تهم بصنع النول الخشبي, أخبرتها الشجرة القريبة: خذي يا جميلة هذا الفرع؟

دهشت الفتاة أن سمعت ما سمعته , قبل أن تخبر الناس أو الشجرة بشيء؟ وقبل أن تنسج شالا؟!

صنعت النول, بدأت تنسج الشال الجديد, فقال الخيط الصوفي: اترك الأمر لي. بسرعة اندفعت كرة الخيط و تعلقت بالنول , صنعت شالا..!

امتلأت الفتاة بالدهشة !! 

أول ما فكرت فيه أن تخرج إلى شوارع القرية بالشال الجديد الجميل. هنأها الرجال و النساء قبل الأطفال و الشباب, لكنها لم ترد التحية ولا تبدى أي قدر من الامتنان. فانفض الجميع من حولها. ذهبوا إلى بئر عين الحياة يعاتبونها, فقالت لهم: أنا أعطى لكل من يطلب منى , مثلكم تماما.

فيما بعد شعرت الفتاة بغصة لم تشعر بها من قبل , كلما سارت في شارع , لا يلتفت إليها أحدهم, يتركون الشارع , القرية كلها.. فوجدت نفسها وحيدة فوق الطرقات !

دهشت , تظن أنها لم تفعل ما تستحق عليه هذا السلوك ..!!

إلا أنها سمعت صوت ضحكة كما الرعد, ورأت أشباحا كما البرق..ما فتأت تصدمها عاصفة شديدة تقتلعها من مكانها و تلقى بها أمام الكوخ الصفيح الحار صيفا و البارد شتاء. بينما لم يصب أحد من سكان القرية , كانوا جميعا خارج القرية هربا من الفتاة التي تظن أنها مازالت جميلة!!

 

 

بسمة البقرة

 

يحكى أن الغراب تابع صقرا ينقض على الأرنب الصغير , فيقتنصه في اندفاعه  واحده. قال :أنا أيضا أستطيع فعل ذلك.

كل ما فعله أن التقط من عليائه حيوانا يسير أربع, في الوادي الأخضر يلهو وحده. فقرر أن يكون فريسته الأولى.

هم بالطيران نحوه, كلما اقترب منه , يرى الحيوان يكبر.

فلما أصبح في مواجهته , أدهشه أن تكون البقرة هكذا كبيرة جدا!!

لم يكن يدرى ماذا يفعل وكيف؟؟

فطلب من البقرة أن تساعده كي يحقق رغبته, هكذا كي يصبح طائرا شجاعا وسط الصقور القوية!

لم تزد البقرة عن بسمة خبثه, ثم رفعت ذيلها , وأمرته أن يحملها. فرح الغراب, ونقرها في ذيلها, فامتلأ منقاره بشعر خشن غريب.

لما أسقطت البقرة ذيلها, سقط الغراب على الأرض!.. هنا أدارت رأسها, قالت وهى مازالت تبتسم بسمتها الخبيثة: "هل سألت نفسك أيها الغراب, كيف تنفذ أفكارك قبل أن تسألني المشورة؟"

لم يعقب الغراب !!

 

 

سيقان الزرافة

 

يحكى أن زرافة كانت تشرب من البئر العميقة. مياه البئر رائقة فظنتها مرآة. وقالت في نفسها: آه لو أن سيقاني بقوة قروني الحادة تلك.

لم يطل الوقت إذ شاهدت ذئبا يقترب منها خلسة.

منذ تلك اللحظة , بدأت مرحلة جديدة في حياة الزرافة. همت تعدو بعيدا. كلما وقفت لتأكل أو لتشرب تراه خلفها , فتعاود الجري بعيدا, ولا تقف إلا عندما تعجز سيقانها على حملها.

يوما بعد يوم اخترقت الوديان , واعتلت الجبال, وعبرت الأنهار..فاكتشفت أنها فعلت ما لم تكن تثق أنها قادرة أن تفعله. لقد رأت خلال فترة قصيرة ما لم تره طوال سنين عمرها.

كل ذلك بفضل سيقانها التي كانت فيها النجاة, وقد استضعفتها من قبل!!

 

 

 

جبل قــرن الثور

 

 

كان يقيم في الدار الجميل فوق جبل راسخ في الصحراء. قمة الجبل تشبه قرن الثور , فأطلقوا عليه لقب "جبل قرن الثور".

عندما كان يشعر بالعطش, يمد ذراعه, يقطف طرفا من السحابة الممطرة تعلوه..فيرتوي.  لو جاءه الجوع , تكفيه ثمار أشجار الفاكهة الباسقة التي تحيط بالدار من كل جانب.. يشبع.

وكان يعدو كما الغزلان, خفيف الحركة نشطا مثل القردة والنسانيس, يفوق قوة خرتيت. لكن يبدو له أن الزمن بطيء من حوله, ولا يجد ما ينافسه , فأصبح كئيب الطلعة .

ذات مساء شعر به الجبل الراسخ..ضحك و قال: أعرف ما يقلقك يا ولدى..كان أبوك هكذا مريبا؟! أقترح عليك إنجاز مهمة , ووصفها بأنها مهمة قاسية. أن يهبط الجبل عدوا , ويصعده هرولة..ثم وعده أن يهبه قمته "قرن الثور" يتنافسان معا , هبوطا و صعودا.فهبطا من نقطة بداية واحدة معا...

نجح وحيد الجبل أن يصل إلى السفح, تأمل الصحراء الممتدة الخاوية , سرعان ما عاد صاعدا...فسعد مهللا: وصلت قبل قرن الثور , قبل قمة الجبل الراسخ.

وقف يلهث, مبتسما بسمة عريضة ...

كان يمكن أن يبقى هكذا سعيدا لفترة طويلة, لولا أن سرقته الدهشة و الحيرة.. أنه لم يجد داره !!.. تذكر أنه شيدها على قمة الجبل الراسخ التي قهرها منذ قليل!!!

 

 

سعادة صياد 

 

فيما كان الصياد سعيدا وهو يأكل من  صيد يومه, دارت رأسه وهو يضرب  على صدره بكفه القوية, منتشيا بما أنجز. وهو على تلك الحالة من الشعور           بالعنفوان و القوة , شردت رأسه! سرقه مشهد الكائنات من حوله ...

لاشيء سوى الوثوب , بلا تردد ولا سنه. معا ذهبوا ومعا عادوا. تلك هي حركة  هبوط أسراب الحمام فوق سطح قمة التل الباسقة القريبة..

سرقته أكثر تلك العيون الزجاجية ونظراتها المستقيمة القوية, بلا غضب ولا فرح, بلا اضطراب ولا غرور. عينا السلحفاة تخترق حالا الحاجز المائي الأخير لمياه البحر القريبة, لعلها تطمح لاحتواء العوالم الهوائية هاهنا..

وهذا الصقر السماوي, يعرف مقاصده الداخلية كلها وهو يحوم فوق كل شئ. يبدو هكذا واثقا من نفسه . بعد أن ترك قرص الشمس الدامي من خلفه والصيد الدامي بين شقي منقاره .

هنا أسقط الصياد ناظريه, مكتفيا بما تناوله من رصيد صيده , ولا أحد يدرى ماذا يجول في رأسه و في صدره..؟!!

 

 

حصان المعارك

 

يحكى أن الحصان ذا النجمة البيضاء على جبهته,مقوس الظهر,كما كان في زمن الحرب,  بقى فرسا مقداما..مع أنه الآن ليس أكثر من حيوان جر لعربة خشبية , يتمنى لو ينساها.

يعبر الشق الغائر , والمحشو بالنمل الأبيض , فينفر ويرفس الهواء بقوائمه الخلفية ..يسرع النمل إلى أغوار الشق.

يصادف فأرا يعدو , فيسرع من عدوه , ظننا منه أن الفأر ينافسه في مضمار سباق . إنه لا يدرى أن الفأر هكذا يعدو بعيدا دوما كي يدبر أمره.

وقد يرقد للراحة بجوار القنفذ المتكور تحت أشواكه , يظنه لعبه  تداعبه , فيدغدغها, لتنال منه أشواك القنفذ الخبيث.

يتذكر انتصاراته و معاركه .. ينهض.

كان برفسته يشطر سطح القمر, وبصرخته يأتي بالزمن البعيد...

اندفع نحو القنفذ, فغاص في أشواكه..زادت رفساته التي شطرت حوافره هو , وزادت صرخاته التي شلت حنجرته.

اندفع وحده مع آلامه وصمته , تعلق بالعربة التي تمنى لو ينساها ا!

 

 

قرص الشمس

 

جمعهم قرص الشمس كعادته كل نهار, حتى جاء مساء شتوي طويل, فقرر رجال الوادي البارد ألا يتركوا قرص الشمس يغيب عنهم أبدا!.

وقال كبيرهم: " حان الآن ميعاد قطف قرص الشمس"

طلبوا من نسائهم يضفرون حبلا طويلا من شعورهن. ينجحن في قص الشعر , صنعن منه حبلا طويلا مناسبا, لكنه لم يكن طويلا بما يكفى..فقد كان طريق الشمس طويلا جدا.

وصلوا إلى صخرة سوداء لامعة بعيدة ومرتفعة فوق قمة الهضبة. ليس عليهم سوى وضع الفخ الحديدي . نجحوا في صنع فخا كبيرا من كل حدائد قريتهم, لكنه لم يكن كبيرا بما يكفى..فقد كان قرص الشمس كبيرا جدا.

راودتهم فكرة خبيثة, خلعوا ملابسهم, رتقوها معا, صنعوا ستارا . لو وضعوه بعيدا ضمنوا قنص قرص الشمس قبل أن يغرق عند الأفق البعيد. نجحوا في كل خطوة, وإن فقدوا كل سترهم, لم يخطر ببالهم أن قرص الشمس هكذا .. راوغهم وهبط بعيدا جدا, فقد كان قرص الشمس أخبث منهم.

ماذا لو نجح كل منهم في القبض على جزء من قرص الشمس المراوغ, من فتحة نافذة الخيمة , من بين فروع الشجرة الباسقة , وحتى من بين شقوق الجبل..؟ وفى المساء يلملمون ما يمتلكون , يصنعون قرصا كاملا للشمس.

هاهي ذي الشمس تشرق, تعلو في السماء, تتسلل النوافذ, تخترق الشقوق وأفرع الأشجار الكبيرة و النباتات الصغيرة . وها هم الرجال ينجحون , يحملون قدرا من القرص, فرحون بما أنجزوا.

وفى المساء التالي جمعتهم صحراء قريبة, وضعوا أحمالهم, يثرثرون طويلا في انتظار وهج الشمس الجديدة....لم يجدوا نورا ولا أشعة يعرفونها ...

 أعلنها أحدهم في حسرة:" يبدو يا أصدقاء أن ظلام الليل أقوى كثيرا من نور الشمس"....

فعقب كبيرهم في سكينة وهدؤ:

 " يا أبنائي, لأننا نحب القنص.. نسينا أن قرص الشمس يكره الأسر"

 

                                 

خذ حـذرك

 

سار على الطريق المستقيم نحو نجم سقط من السماء هناك .

كانت الأرض متشققة و العشب جافة من تحته , ولأن الأشجار ماتت عطشا و انطفأت الحياة من حوله , تعلق بالنجم أكثر..لا يبعد سوى مسيرة ليلة واحدة.

فقالت له الجرذان: خذ حذرك . تمتم في نفسه: لم أهرب من الموت إلا لأنني حويط و حذر. فقالت له الديدان: خذ حذرك . همهم لأذنيه: النجم البعيد على مسيرة شارفت على الانتهاء..هناك لا يعرف الهلاك. فقالت له أشياء لم تبين له :خذ حذرك. غمغم ثم قال بصوت شارف حدود النجم هناك: أستطيع أن أحفر قبرى وأتجاوزه.

فلما كانت أصداء صوت ضحكة طويلة و عميقة وقوية.. زلزلت السماء والأرض والأشياء من حوله..فهم أن النجم الآفل في انتظاره رابط الجأش !

 

 

راكية نار

 

أخذ صاحب العينين المدغمستين يبحلق في السماء , لم تستوقفه السحب .. ثم عمد ذو الندوب الحمراء إلى صفحة المياه يتأملها , لطمته عكارتها

ترك جسده يسقط على الرمال , ونام يحلم . حلم بالفتاة الجميلة التي تشيح بوجهها كلما رأته ..لم تعد كذلك .

اقتربت منه , ابتسمت له , غنت أغنية لم يسمعها من قبل . ولما استيقظ , لم يتذكر كلماتها وأن بدا منتشيا بلحنها.

تنساب الأغنية لحنا شجيا من بين شفتيه , ردده فوق الطرقات وفى جلسات المساء بجوار راكية النار , فنسيت الجيران مشهد عينيه وندوبه. تعلقوا أكثر بشفتيه , يرجون لو يسمعونه ثانية وللمرة المائة .

بات الشاب مقهور العضلات , قوى الحنجرة , شجى اللحن .. قبلتهم .

لم يروا منه سوى شفتين مبرومتين , ولم ير فيهم سوى أذنين كبيرتين.

وكلما كف عن لحنه .. يصيحون فيه أن يعيد , ثم يلعنون راكية النار التي جعلتهم يتعلقون به بعد أن أطلقوا عليه لقب "الدرويش المخبول". 

 

 

رحلة صيد

 

لا يكف عن الثرثرة , حتى وهو يرصد سمكة في النهر أو طائر في السماء, فتهرب منه فريسته دوما.

المدهش أنه لا يشعر بالندم ولا بالألم ولا حتى بقدر ضئيل من الكدر. على العكس من زوجته , لكنها لا تعرف الهدؤ من جراء ثرثرته حتى أثناء نومه , بينما يخلو كهفهما من الزاد و الزواد .

فكرت الزوجة أن تجعله ينظر مليا فيما حوله , فزرعت الريحان ينمو في طريقه وهو ذاهب إلى النهر أو وهو معلقا بالسماء.

نجحت...

وفيما كان ينمو الريحان وكأنه نبتة زرعها الجن . بينما امتلأت به الطرقات , وعبأت رائحته خياشيم الكائنات, وطوت أوراقه سماء الكهف .. تاه طريق النهر منه. انشغل الزوج بالريحان أكثر كثيرا عما تمنته الزوجة وتلبسه الصمت.

فقالت في نفسها: الثرثرة أفضل!!

فشلت ...

عادت وقررت أن تبنى عشا معلقا بأفرع شجرة كبيرة فيما بين السماء و الأرض, ربما تجعله يخرج عن صمته .

قال لها: أنا لا أعرف البناء, ثم لماذا أتعب نفسي , سوف أجد حتما فرعا كبيرا يلائمني للنوم وحدي ؟!

ما حدث بالضبط أن ذهبت الزوجة وحدها إلى شاطئ النهر , سمعت الأطفال يصرخون في مرح وهم يلعبون , بينما الأسماك تقفز فوق الماء وتجرى بغير هدى, والطيور البيضاء تعلوها .

أسرعت إلى زوجها ليرى ما ترى , بدت مياه النهر براقة جميلة أكثر كثيرا عما قبل, ليس من جراء أشعة شمس الغروب , بسبب أن رافقته رحلته للمرة الأولى. ولما امتلأت السلال بالأسماك الطازجة, عادا معا سعيدين وقد تشابكت يداهما في رحلة صيد لم يخطط أحدهما لها ..!

 

 

رقصة الحية

 

يحكى أن الحية العاصرة تنجح دوما .

تنقض على فريستها, ترشق أنيابها فيها , فيفرغ كيس السم. ترقص الحية طويلا , وتلتوي حولها , ثم تلتهمها. وقد تلقى بها من فرط ما أكلت وشبعت .

يوما بعد يوم تتعفن الفريسة .. تترك عظاما.

يوما بعد يوم تعلو المسافة بين الحية ورمال أرضية الكهف.

امتلأ الكهف بعظام الفرائس.. لم يعد للحية أثرا على الأرض الرملية, ربما لأنها لم تعد تسير كما نعرف .

أصبحت رافعة الرأس دوما وهى تتقافز فوق العظام .

كل من يراها يتساءل: ترى هل فقدت الحية الذاكرة؟ أم ترى هي رقصة جديدة؟!!

 

 

أجنحة الحمام

 

يحكى أن الحمام حط على البرج العالي ليلا, وانشطر البرج وتبرقش  بسبب سطوة الطائر الصغير.فأثار الرعب في سكان المدينة.

شهقت الناس وتنهدت.

الحمام لا يلوى على شئ, تماطل أن تبرح موقعها, ولا تتثاءب.. لا شئ سوى طعن موقعها على البرج بأجنحتها الصغيرة.

وفى لحظة , افترس نور الشمس..البرج.

لم يدهش الناس أن يجدوا البرج خاويا, وان اكتسى بمخلفات الحمام, وكأنه عاش عليه مائة سنة.

وفى الليلة التالية  أدهشهم حقا, أن سمعوا صوت أجنحة صغيرة تصنع عاصفة في اتجاه البرج

 

 

 

الخماسين

 

كانت  الخماسين تحكم أرض الصحراء التي لا تعرف الاستقرار أبدا.

رغم ذلك, لم يخف منها العصافير, لأنها لا تحكم الدنيا كلها..فرياح الجنوب تقدر على قهرها, حتى وإن بدت أضعف منها.

الأمر ليس على هذه الدرجة من السهولة, فريح الخماسين لا تترك فرصة لبشرى بالحركة إلا وتملأ العيون وفتحتي الأنف بالرمال الساخنة.

يعرف العصافير تلك الحقيقة , كما تعرفها الناس و الأشجار و الحيوانات. فالناس يلجأون إلى خيامهم المحكمة . أما الحيوانات , فلكل صنف منهم خصلته وخلاصه. الثعابين و السحالي و الديدان تعرف كيف تعيش بين الرمال..والفئران تصنع بيتا له ألف باب فتضل الريح طريقها إليها..ولا عليك فالجمال والماعز وبقية حيوانات البدو تملك صبرا يحسدها عليه الجميع.

وحدها العصافير هي القادرة على أن تحتفظ بهدوئها , وتصدر الأحكام التي يصعب على الآخرين اتخاذها . وإلا بماذا تفسر يسمعونها .. تنادى على رياح الجنوب غير عابئة بشباك الصيادين؟!

شعر الجميع بالرعب وهم يشاهدونها تعدو طائرة جنوبا, بينما  الخماسين تملك من الحيل الكثير..قادرة هي على الفتك بتلك العصافير الصغيرة.

لن تترك لها فرصة لأن تذهب إلى ريح الجنوب الندية..

فخرجت الحيوانات و الزواحف و الناس من تحت الأرض و فوقها..يحذرون:

"ريح الخماسين أقوى منكم ألف مرة

قادرة هي .. أن تهشم الأشجار الراسخة

لا تجعلوا شيئا يتحقق بالقتال من غير أن تأخذوا حذركم

ومهما كان عدوكم أقوى أو أضعف منكم .

هل تسمعون يا عصافير السماء؟

إذن لم تسمعوا ..ربنا معكم!!"

 

 

سؤال؟!

 

في زمن لا يعرفه أحد, كانت المياه تسقط من ارتفاعا شاهق, فتصنع شلالا يبتلع كل ما يصادفه, وتصدر صوتا كصوت الرعد.

ابتعد الناس عن مكانه إلا من صبى صغيرا يكبر..سنة بعد سنة يسعى لأن يصعد الشلال..فأطلقوا عليه لقب "الولد الجن" بسبب مغامراته كل ربيع.

يتجه نحو الشلال حيث تفور المياه وهى تزمجر في الهواء في طريقها من أعلى إلى أسفل..يتمنى لو ينجح في الوصول إلى ذروته, ليس بهدف اجتياز الصعاب, لكنه يسعى لأن يرى تلك الفتاة الجميلة الذي كانت سببا في صنع الشلال.

قالوا أن الفتاة الجميلة الصغيرة تقدم لها شباب القرية كلهم, لكن أهلها زوجوها بعجوز بخيل, ظنا منهم أنه سيعطيهم من أمواله. لم يفعل العريس العجوز. كان يترك عروسه بلا طعام أو شراب, يشغله تأمل أمواله.

قالت العروس في نفسها:"الأفضل أن أهرب", وفى الظلام خرجت من الخيمة حتى وصلت إلى قمة الصخور المرتفعة. لم تكف البكاء فانسابت الدموع, وهطلت كالأمطار فصنعت الشلال.

منذ تلك الليلة لم يرها أهلها, وجيل بعد جيل يردد حكاية الشلال. إلا الولد الجن الذي قرر وحده مقابلة العروس.

ظن أنه لو علق قاربين صغيرين في قدميه, يمكنه اعتلاء مياه الشلال..فعل و فشل. وفى الربيع التالي , ظن أنه سوف ينجح لو علق طائرين كبيرين على ذراعيه يمكنه اعتلاء الصخور من الجهة الأخرى ..فعل و فشل.

وفى الربيع الثالث استنفر الولد الجن كل خبراته ومعلوماته وما سمع وما عرف حول الشلال ..فكر مليا في طريقة جديدة مبتكرة يصعد بها إلى الفتاة.دبر أمره,ولما اهتدى إلى الطريقة والطريق,لم يبق أمامه إلا سؤالا وحيدا:لماذا كل هذا الذي أصنع؟ على الرغم من نجاحه في الإجابة على كل الأسئلة ,إذا به يصاب بما يشبه الإغماءه .لم يجد في رأسه إجابة !!

 

 

فصول السنة

 

فصول السنة على أرض تلك الجزيرة النائية كريمة معطاءة.ففي الشتاء تعدهم السحابة المخملية بالماء الزلال طوال العام. وفى الربيع يتزوج الأولاد و البنات وكذا الكائنات من حولهم ومن فوقهم وتحتهم وعند الشاطئ .

يأتي الصيف لترميهم أمواج البحر الشقية بكائنات يجهلونها لكنها شهية. وعندما يصل الخريف يأتي زمن الحصاد ..مع ذلك لا يشعر أهل الجزيرة بالرضا, يملأهم الضجر من شهيق وزفير أنفاسهم. لا يكفون عن التساؤل: لماذا فصول السنة؟؟

يأتي الشتاء يلعنون برده وصقيعه, يتبعه الربيع يظنون أن الزهور أسعد منهم. يجئ الصيف يشكون من حرارته, يحط الخريف يلعنون مشقة حصاد ثمار أشجارهم!!

اجتمعت فصول السنة , و كان قرارهم الغامض. حل ميعاد الشتاء, فأخذ الثلج يتساقط بشدة وبلا انقطاع, حتى امتلأت الطرقات بذاك الأبيض الهش البارد, وزاد الشعور بالبرد, حتى تعبت النار معهم ولم تعد تكفيهم. فلما جاء الربيع و تراءى لسكان الجزيرة حلم واحد غريب وغامض: لو استمر الدفء البادي هكذا , ستغرقهم مياه الثلوج المنصهرة. كان عليهم تحصين ديارهم من فيض مياه لا حيلة لهم أمامها.

فاضت المياه امتلأت الطرقات بالوحل, لم يكن لهم من حيلة إلا سكنى أعالي الجبل.  سرعان ما جاء الصيف , وهبهم حرارة شمس لم يشعروا بها من قبل, لم تتركهم قبل أن جفت الأرض المزروعة وذبلت الزراعات وهلكت, ونضبت ضروع حيواناتهم.

وفى صباح جديد , فركوا عيونهم, واستيقظوا . قرروا أن يجلسوا مع حكيم جزيرتهم يسألونه : "لماذا فصول السنة؟!".. نصحهم بالانتظار !!

لم ينتظروا, القوا بقاربهم الكبير في  البحر, جدفوا نحو الجزيرة الأخرى, فوصلوا قبل أن تصل موجات البحر. بدت الجزيرة مهجورة, كل الأشياء ساكنة من حولهم.. حتى الشمس عرفوها تغرب عندما أغمضت جفونها, زراعات الأرض لا تنمو ولا تهلك وان هرسوها, عرفوها بروائحها الزكية.

انشغلوا في نحت حصون بحجم أجسامهم, و بالبحث عن جدول يرتوون منه,ثم بقدر مناسب من شعلة صغيرة جدا من النار..لم يجدوها. تابعوا بإصرار جماعي , شعروا بالتعب ولم يسقطوا ما في رأسهم .

 ما حدث بالضبط أن سقطت أجسادهم من شدة التعب مثل حجر صلب , فأشفقت  الأرض المشقوقة عليهم , واحتوتهم بحنان وخفة دون أن تسألهم إن كانوا حقا يبغون ذاك الحنان و تلك الخفة . لم تترك الأرض لهم الفرصة , كانت على يقين غامض بأن سكان الجزيرة الجدد لن يشكون ثانية!

 

 

فتاة المرآة

    

كانت الفتاة الجميلة تئن مثل كلب مسعور يجرجر نفسه على الأرض إلى حيث لا يدرى. بينما صديقتها المرآة الكبيرة تصيح عليها:"لا تتركيني وحدي".

تذكرت المرآة ما قالته في نفسها يوم أن تصادقا: "أخيرا وجدت لي موطنا في تلك القرية الغريبة". فأهل تلك القرية –قرية الصيادين- انشغلوا عنها بالتقاط الأسماك الخبيثة من مياه البحيرة القريبة. بينما انشغلت الفتاة بجمالها أكثر.

ولأنها جميلة بحق تعلق بها كل شباب القرية, وتعلقت هي بالمرآة. ففي الفجرية تحمل المرآة وتخرج من الكهف الجبلي, تغمز بكلتا عينيها إلى عيني الشمس..تفهم الشمس وتتواري قليلا. وفى المغربية تشوح بكلتا يديها إلى قرص القمر..يفهم القمر ويخبوا قليلا. فيقول الصيادون في جلسات السمر وهم حول النار : " إنها فعلة الفتاة الجميلة, لكن جمالها لا يغنينا عن نور الشمس ولا هالة القمر. لو تزوجت وملأت طرقات القرية بأطفال يصبحون صيادين مثلنا كان ذلك أفضل" .

لم تعلن الجميلة عن غضبها, كل ما علقت به:" اتركوا لي برهة من الوقت, لعلى أصبح أكثر جمالا"!. وتعلقت بالمرآة أكثر كثيرا عما قبل, فبدت وكأنها ولدت مع توأمها المرآة واستغنت بها عن كل سكان القرية.

و اعتادت الجميلة في الفجرية والمغربية تسأل المرآة: "هل أصبحت أكثر جمالا؟", ترد المرآة:"لم يصل شعرك الناعم إلى الكعبين كعروس البحيرة , ولا أرى العينين

واسعتين لامعتين كعيني سمك البحيرة, ولا شفتيك مبرومتان..ولا...". فلا يطول الحوار, حتى يتجدد في اليوم التالي, هكذا بلا نهاية. فيما أصبح شباب القرية على فريقين, جماعة منهم تعلقوا بالجميلة يلوحون لها لو تقبل الزواج بأحدهم,و جماعة منهم تعلقوا بالمرآة أكثر!

طال الحوار بين الجماعتين, أصبح الحوار صراخا, لم يعد يحسم أمرا..حتى أيقن أهل القرية أن شبابهم انشغلوا عن الفتاة الجميلة ومرآتها التوأم.

للمرة الأولى تشعر الجميلة بالحيرة ثم بالغضب, وحتى منتصف الليل, لم يغفل لها جفن...

قررت أن تخرج إليهم  ...

فلما خرجت, لم تجدهم...

شعرت الجميلة وكأنها تسكن قرية يقطنها الأشباح, ربما لأنها نسيت أن من حق أهلها النوم و الراحة!!

لم يعد يمكنها أن تفعل شيئا بعد أن طرقت الأبواب بشدة , وصرخت بقوة عليهم , لم تفعل شيئا بعد ذلك سوى البكاء.. وأن تعدو بعيدا عن المرآة, حتى بدت وكأنها تئن مثل كلب مسعور يجرجر نفسه على الأرض والى حيث لا يدرى.

 

 

عيون الصقر

 

يحكى أنه كلما ضرب الصقر بجناحيه أكثر , هام واعتلى , فطوى الوادي كله: بأشجاره , أباره , وكل حيواناته البائسة غير القادرة على الطيران!

الآن تصرخ عينا الصقر يقول: " أنا أملك الوادي كله"

فما هي إلا دقائق , إذا بالريح تقتلع الأشجار العصية , والأمطار تغرق الزروع القائمة .. ثم صنعت غشاوة , حتى فقدت العينان الرؤية .

لحظات بعدها , حتى ثبتت الجناحان , سقطت الريشات الطويلة القوية.

ربما بسبب الدوار الذي  قبض على رأس الصقر, أو بسبب تلك الصخور المدببة أعلى الجبل.. سقطت عينا الصقر.

وفى اللحظات الأخيرة , لمحت العينان دم القلب ممزوجا بوحل الوادي , فأدركت أنها لم تكن تملك شيئا !!

 

 

عماء الخفاش

 

يحكى أن عيون الخفاش تمنت العماء ليلا على عكس طبيعتها.

حاول الخفاش أن ينام ليلا , ويستيقظ مع ضوء الشمس , كما كل حيوانات الغابة من حوله.

لم ترحب به كائنات الشمس , تكتلوا عليه , حرموه من رغبته الأخيرة . فلما تفصد عرقا , أشفقوا ثم سألوه.

قال : أمتلك اليوم عينين بحنكة كل الكائنات .

قالوا: كيف ؟

قال : ليلا وفى الظلمة , ترى عيني ما لم تكن ترى  من قبل.

سألوه عما يراه ؟ , فأجاب بصوت رخيم :

" رأيت تحت الأرض , سكينا حجريا باترا .. تآكلت ذؤابته..

رأيت تحت الأرض , مياه آسنة , بينما العشب الضئيل على السطح في حاجة إلى قطرة ماْء ..

رأيت تحت الأرض,رفات الصياد الماهر الذي أعرفه,ما خابت سهامه ذات مرة ."

 

 

على الطريق

 

 

.. حدث هذا في الشتاء , أن انتهى من كتابة قصيدة جديدة , لم يستخدم الحيلة كي ينتهي منها وهو هكذا سائرا على الطريق.

كان طريق الشتاء رمليا , تبدو حبيباته وكأنها تسعى لأن تلتصق ببعضها البعض , فكانت هيئة قدميه عليها غائرة.

.. فلما جاء الربيع , وشاهد الفتاة الجميلة تمر من أمامه في الاتجاه الآخر , لم يتردد في قراره كي يضاجعها مضاجعة الأبطال , بطلا لأنه الوحيد الذي فاز بها وقبلته , وقد أحاطتهما مباركة شيوخ الطريق و حراسه.

كان طريق الربيع ناعما , تبدو أوراق الأشجار المهروسة , والتي جمعها لمضاجعة جميلته عليها ..لينة. ومن فرط رضاها كستهما بصبغتها الخضراء من عصيرها حتى ضحكت نسوة الطريق وأطلقت عليهما لقب العرسان الخضر.

..وفى الصيف التالي , راح بعيدا جدا, التهبت فروة رأسه من لهيب الشمس ,  لم ترحمه وزوجته .. وقد نال منهما الوهن.

كان طريق الصيف مختلفا , كل ما استطاع أن يقوله عنه : أنه على غير ما توقع فدخل الخيمة . ما أن وضع قدميه على العتبة , حتى تسمر في مكانه , بدا كأنه سيمد قدميه إلى تحت , يتمنى لو يصنع جذرا في المكان ..هيهات.

.. لقد حملته ريح الخريف بعيدا , وكأن الطرق كلها قد تهدمت , فنسى النار التي تشتعل ليلا , و الأشجار التي قد تواتيه مصادفة.

لم ير سوى الرمال التي ما تفتأ أن تميد أمامه إلى مالا نهاية , تصنع طريقا من طريق..

آه من العواصف تجرجره ..

آه من الذكريات تؤلمه ..

آه من المتربص به هناك ولا يراه ....

فتمنى لوعاد ثانية إلى الطريق الأولى .. ربما يكتب قصيدة .

 

 

عاشق المـياه

                                                                

رغم معرفة أصدقائه به, لم يفهموا أبدا قراره بالبقاء في الصحراء وحده. كانوا يعرفون أن بإمكانه أن يتحول إلى مثقاب يغوص في الرمال أو طائر يصدح في السماء.المؤكد أنه لن ينشغل بالسحابة الممطرة ..ليس لأنه يملك القدرة على البقاء بلا ماء, لأنه يستطيع جلبها من جوف الصحراء.

نصحه الأصدقاء:احترس من السحابة الممطرة, فهي قادرة على الفتك بك حتى لو تحولت إلى خفاش يعشش في شقوق الجبال, إنها تغرق الوديان و التلال. فأجابهم مبتسما:"لا تشغلوا بالكم, بالنهار سوف تحميني خيمتي وفى الليل سوف أشعل نارا وأعمل". اعتقد الأصدقاء أنهم لن يرونه ثانية, فتابعوه حتى اختفى في الأفق.

أصبح وحيدا, شرع في العمل, فامتلأت خيمته باللحم المقدد وبالحطب ,وقربة ماء مصنوعة من جلد الماعز. وعاش حياة تخصه وحده..يحلم ويغنى, يعمل ويغنى.عليه أن يحفر تلك البئر قبل أن تنفد مياه القربة. اهتدى بالنار إلى شواهد ساعدته ..إلى العشب النابت والديدان التي لا تنمو إلا في الأرض الرطبة. فبدأ يدق أول ضربة بالفأس الصغير التي هي أصابعه.

في ذلك الوقت وصلت السحابة الممطرة, في غرور تساءلت:كيف يعيش هذا الغريب,ولا ينتظر زيارتي؟!. مكثت فترة ولم يشعر بها. صرخت: هذا الغبي, لو لوح لي بيديه,وقدم التحية, كنت أرحته من مشقة العمل".وفى الليلة التالية وما بعدها..بقى الرجل يعمل , وأصبح الغناء حزينا, كلما غاص في الرمال هالت الرمال وملأت الحفرة , البئر المنتظرة..لقد قاربت مياه القربة على النفاد.

بينما تتابعه السحابة , تضحك: "أية لعبة تلعبها وحدك..لا يضيرني أن ألقى إليك بشيء من أطرافي الممتلئة بالماء, وأنت تستريح, فقط لو رجوتني". فابتسم لها وقال: "أراك ترتعشين, اقتربي منى إلى جوار النار وأنت تشعرين بالدفء".في تلك اللحظة أدركت أن هذا الغريب يملك عقلا, أذكى من كل كائنات الصحراء, فهي لا تخشى إلا النار. بسرعة تركت موقع الخيمة و النار.

استشاطت بالغضب الذي كاد يحرقها, فتسيل بعض أطرافها إلى قطرات من الماء, تهوى فوق رمال الصحراء. لاحل عندها إلا مقاتلة الغريب. أخبرته برغبتها, حسب الأمر بحكمة:لقد أضعف الغيظ السحابة الشريرة, والنار جعلتها تعدوا بعيدا..إذن هي اللحظة المناسبة.

اندفع, تحول إلى خازوق يحفر في الرمال..ويغنى, يتابع فيتحول إلى رافعة ترفع الرمال بعيدا..ويغنى. تزداد السحابة غيظا, تضعف, وقد بدأ جسدها يرق من فرط ما فقدته على شكل قطرات مياه.

وعندما أشرقت شمس الفجر الجديدة , صرخت السحابة الشريرة , وأطلقت ساقيها إلى مكان آخر.. بينما الرجل الخازوق يغوص ..ويغنى . فيعلو صوت الغناء أكثر سعيدا برائحة الرطوبة التي هي بشائر البئر المنتظرة.

 

 

 

ظل النمل

 

يحكى أن النملة الملكة لا يشغلها شئ سوى تجاوز ظل الكائنات والأشياء, فيما تكون في مقدمة طابور نمل القبيلة .. حتى أنها لا تنقض على الوجبة الثمينة لحشرة نافقة أو دودة هلكت, إلا في ضوء الشمس.

خبرتها الأيام أسرار الظل كله. أكثر ما تخشاه ظلا يتحرك, أما ظل الشجرة الباسقة و الأعشاب الواطئة.. لا تعيرها اهتماما . و بينما يخشى طابور النمل خلفها ظل الصخور والحصى الصغيرة وكأنها لجبل.. ترشدهم بثقة العارف المحنك.

إلا ما حدث ذات يوم.. نالت منها الحيرة, إذا بالظل والنور يتبادلان فوق الجميع. كانت القرود الشرسة تتقافز في الهواء , ولا ظل ثابت لها على الأرض, فتهرس من أفراد القبيلة الكثير , و تشتت الطابور الطويل .

فور أن تجاوزت الملكة أرض المعركة , واستقرت في بقعة ضوء ناصعة. وقفت, نظرت إلى بقايا أفراد المملكة,صاحت قائلة:"أقبلوا..هنا نور الشمس من غير ظل"!

فلما تجمعوا وصنعوا معا بقعة سوداء على الأرض, يقول الراوي..أن أصغر النمل طلبت الكلمة. صرخت تعلل سر ما حدث قائلة:

"لأن النمل بلا ظل, حتى النملة الملكة..لذا لا تخشانا الكائنات كلها"

ومنذ ذلك الزمن البعيد, لا يرى الرائي أفراد المملكة  إلا والملكة على قمة طابور النمل المتراصة فوق بعضها البعض ..تصنع ظلا.

عاد وأكد الراوي يقول:

" بعد تلك الواقعة , لم تهرسها أقدام الظل أبدا .....

ربما بسبب ظلهم السائر إلى جوارهم دوما, أو لأن عيون الملكة

ما عادت ترشدهم وحدها.. شاركتها عيون النمل كله!!

 

 

ولد و بنت

كان الوقت قد أزف ...

البنت ناهدة الصدر تعدو على غير هدى , والولد نابت الذقن على أثرها فوق الرمال..سحابة سوداء لأسراب من الطائر الغامض فوقهما, و شمس عاجزة عن قهر العتمة المنصوبة بينهما.

الولد غرس أسنانه في سبابته ثم صاح , يتمنى لو تسمعه . دون أن تحذره العتمة الملعونة داعبته,  فسقط على الرمال مذعورا.البنت تتشمم حبيبها , زحفت قدر طاقتها , عجزت .

ما حدث.. أن تلبستهما نار تخصهما , فتملكتهما خفة أقدام غزاله , وحلقت بهما جناحا نسر علوي . لا ينغص عليهما سوى العتمة , مع ذلك لم ينتظرا ولو فرجة صغيرة فيما بين أسراب الطيور الغامضة فوقهما.

الولد والبنت وعلى غير اتفاق حدقا إلى هناك , فأشفقت الشمس عليهما وقالت:

" لست أدرى ما الذي يمكنني أن أفعله ؟!"

عادا ونطقا معا بالتعويذة السحرية :" أنا هنا يا حبيبي" , " أنا هنا يا حبيبتي" ...

دون أن يدريا , انجذبا , تجاورا , ومعا اتجها ناحية عتبة نار طيبة لا يرونها!!!

اقتحما النار معا , فاهتزت الأرض من تحتهما. البنت ارتطمت بالولد , فابتهج  الولد  لرائحتها التي سرعان ما تعرف عليها ...

معا صرخا صرخة صحراوية , خلاء , فذهبت ولم تعد ...

تشابكت كفاهما ...

أقسما ألا يتركا لأناملهما أن تتحرر أبدا ......

أضيفت في 12/12/2005/ خاص القصة السورية

 

 

 

أوامـــــر

 

 

عفوا ترقرقت دمعة, تذكر نبوءة العجوز السقيمة المملة: "سوف تموت على عودك يا ولد يا حسنى". "أم السعد" صاحبة البشرى هي التي ماتت في ليلتها!,مزقها القطار إربا عند مزلقان البلدة. ومنذ ذاك اليوم البعيد, يقص حكايتها معه ساخرا, منذ صباه وقد أصبح رجلا كهلا. يقص ليضحك ويضحك من يسمعه: "الملعونة لم تتنبأ بموتها , ولا بميتتها".

اليوم فقط شعر بهزيمته أمام شبحها الذي لم يبرح طرقات حواري البلدة, ولا رؤوس أهلها. تمنى لو لم تكن العرافة قابلته, ولم تكن من سكان البلدة كلها. يوم أن قابلته عفوا في السوق, ولأنها من أهل الخير, لها عادة قراءة الطالع لبعض الصبية صدقة ورحمة على موتاها.. وهو بالضبط تبريرها له و هي تأمره أن "يوشوش" الودع.

لم يتمن أمنية, ولم يفكر في أمر, حتى لم يدع الله أن يحقق له حلما. يعلم أنه ثأثأ وبكبك وأخرج أصواتا لا توصف بكلمة في العربية وفى كل لغات العالم.. ثم أعطاها الودع وطلب منها أن تزف البشرى, فأخبرته بثقة الواثق في ثعلب. فضلت أن تكتفي, أزاحت "فرشة" الودع..القماشة البالية وحبيبات الرمل الرطبة مع مجموعة الودع الصغيرة, كورتها في صمت , اندفعت إلى حيث لا يدرى . لم تترك له فرصة لأن يفهم..؟

 

عفوا أجبروه على تحرير استمارة باسمه وممهورة بتوقيعه الذي هو برسم اسمه, بلا تبديل أو تغيير. وكثيرا ما يعلق الزملاء المحنكين في الوظائف الميرى, أمثال أمين العهدة ومدير الخزينة: "أنت إنسان برى, بلا مثيل..واضح وصريح, حتى في توقيعك". لم يفهم.

فيما بعد عرف أنها استمارة طلب الإحالة إلى المعاش المبكر!. لا شئ يهم, فقد أمره السيد المدير العام أن يملأها وقد فعل. وهو بالضبط رده وتعليقة على بعض الزملاء سلالة "نمرود" الذين رفضوا تحرير الاستمارة.. تمردا على الأوامر غير المعلنة. بينما رئيس الشركة يعلن ويصيح أن تحرير الاستمارات لا يكون إلا بمحض إرادة العامل , ثم يدس بين الجميع من يروج بزهق أرواح من قد يرفض!

كل ما شغل العم حسنى من بعد, استلام مبلغ عدة آلاف من الجنيهات, وهو ما لم يره, مجرد الرؤية من قبل. كيف إذن يرفضها؟! حمل الجنيهات في كيس قماشي خاص, كلف زوجته بصنعه كي يلفه حول بطنه. يتمنى  لو يصل بالمبلغ كاملا سليما إلى زوجته, ينثر الأوراق المالية كلها فوق السرير؟!ثم يخرج لصلاة المغرب في المسجد القريب كعادته. فلما لمح رجل الأمن يحكم إغلاق الباب فور عبوره عتبتها, أيقن أنه آخر من غادر الشركة.

 

عفوا شعر "العم حسنى" بالورطة..ألبسته مشاعر حزن غامض .. ربما لأنه لن يسمع أمرا ما! ولعله كان يخشى الفرحة بسبب الكيس القماشى الممتلئ بالأوراق المالية . انتهى إلى نتيجة ارتاح لها: "هي "الأوامر" وقد نفذتها صاغرا طوال حياتي". لكنه لا يدرى أية أوامر يعنى؟!

يظن أن حياته لم تستقم له, إلا بعد أن أطاع الله ورسوله, ثم والديه, ثم رؤسائه في العمل, كيف له الآن يرفض أمرا ما, ومن أين ستأتيه الأوامر؟ المشكلة الوحيدة التي أرقته وهو في طريق عودته: "إطاعة أوامر الرؤساء كانت سبيلي إلى إطاعة الله ورسوله. لما أخبروني أنني الأمين على أسرارهم وأوراقهم الهامة ..عرفت أنني أطيع الأمر بالأمانة والصدق والإخلاص . وعندما وصفوني بالساكت , أيقنت أنني على طريق الله, لا أنطق إلا الكلمة الطيبة.... والآن ماذا أفعل ؟!!"

في صباح اليوم التالي, استيقظ باكرا كعادته , أسرع الخطى إلى محل الأدوات الكهربية. أشار إلى لمبة حمراء, ثم أمر البائع بتجهيز لوازمها. ابتسم الرجل, ولأنه يعرفه, مال نحو أذنه, أخبره بأنه سوف يركب له اللمبة بنفسه, وبلا أجر. وقبل أن يزيح شفتيه بعيدا سأله:

"لكن , أين ستركب اللمبة الحمراء يا عم حسنى؟"

بعد فترة صمت , لم تطل, صاح زاعقا:

"فوق باب حجرة النوم!!"

الخبيث لم يعقب, والعم حسنى لم يتابع, ولا بكلمة واحدة.كلاهما اكتفيا بالصمت, ولكل منهما سببه, المؤكد أن البائع تبدو عليه علامات الدهشة, وإلا لماذا يتمتم إلى أذنيه:"موقف غريب حقا, يصادفني للمرة الأولى" ؟!

 

عفوا نطق لسان الزوجة, فاض بها الكيل, يبدو أنها ملت زوجها وتصرفاته الجديدة الغريبة, تقول له كلما عبرت باب حجرة نومهما:

"ماذا تفعل في السرير كل تلك الساعات , في مثل هذا الوقت من النهار؟؟!"

وأصبح سؤالها المتكرر بإلحاح, هو كل حديثها معه.

استبدل الرجل حديثه معها باللمبة الحمراء, وإن زاد عليها فيما بعد جرسا مشاكسا. تضئ اللمبة ويدق الجرس, تدخل عليه , فيشير إلى فمه, إن صباحا أو بعد الظهر أو في المساء .. فلتناول الطعام. يكررها ثم يبسط كفيه, فتفهم المسكينة أنه يريد الجريدة التي لا يتحمل قراءتها. أما أن يكور قبضة يده مشيرا إلى فمه, فيكون مطلبه كوبا من الشاي التمام. وهكذا يمضى العم حسنى ساعات يومه..وأيامه التي توالت حتى قاربت على السنة!!

  

عفوا مضت الأيام الخاملة..طويلة وثقيلة. حزمت الزوجة أمرها, تلبستها شجاعة تضمرها ولم تبح بها طوال سنوات زواجهما العشرين. انهالت عليه بكل الكلمات الشرسة, وأمرته بأن يترك سريره, ثم بكت بحرارة وهى تردد: "الدنيا تغيرت, أخرج لها".. ثم أخبرته بالمفاجأة. عند باب الحجرة توقفت, طلبت منه أن يستمتع بالدش والفيديو وحده, و..وبكل التجديدات التي طالت شقتهما. أما هي, فلم تعد في حاجة اليها. لم يفهم حتى بعد أن غربت وتركته وحده مع سريره حتى يفيق.

أسرع إلى حيث يحتفظ بالمكافأة , آلاف الجنيهات التي تسلمها , ورقد إلى جوارها, لم يجدها! أنتفض نحو باب الشقة, لم ير زوجته في الخارج, تمنى لو يفهم من زوجته..لم يجدها!, ولم يفهم سر التغيرات التي ألمت بالشقة الصغيرة التي يقطنها..  من أثاث جديد , وطلاء جديد ,  و.....!!

 

عفوا أو جبرا جلس إلى أقرب مقعد في الصالة للمرة الأولى انتبه أنه جلس على مقعد فوتيه, وليست الكنبة الاسطنبولى التي تزوج بها!. لم يشأ أن يشغل رأسه في التفكير, اكتفى بهزهزة قدميه , تأملها في صمت, بينما ترقرقت عيناه بالدموع, وهو لا يدرى لماذا تذكر نبوءة العجوز السقيمة المملة "أم السعد" وقد تأخرت طويلا؟!

أضيفت في 04/12/2005/ خاص القصة السورية

 

 

بائع متجول بدين

 

- 1 -

الوحيد الذي نجا من تلك المماثلة الغريبة بين سكان الحي الذي أقطنه بمدينة القاهرة..مجهول الاسم والعنوان. الجميع يتعرفون عليه ولا يعرفونه.. غامض. وهو بالضبط سر انجذابي إليه. أتلصص خطاه, وإيماءة رأسه, ونظرته نحوك قابضا على جفونه, كأنه يسعى لأن يغمضهما. شغلني: من أي مادة يصنع وجوده هذا البدين القصير اللئيم الذي حارت فيه العقول.. ترى من الرصاص أم من الزهور ؟!

ربما تدهش لو عرفت قراري فور أن رأيتهم حوله, شيوخ الحي يسألونه: لماذا ترفض صحبتنا؟ لماذا تراهن على غفلتنا؟ .. مادمت نجحت في الظهور والاختفاء بين طرقتنا, فما الذي يمكنك إنجازه أكثر ؟!

كأنه مصنوع من النحاس والأسلاك. نادرا ما تجده يبتسم, عفوا تسمع فحيحا من خلف شفتيه.. منتظم الخطو بين شوارع وحارات الحي.. يبدو وكأنه غير معلقا بشيء على الأرض..فلا تنتبه إليه.

إلا يوم أن اكتشفوا نقطة ضعفه, يوم أن عرفوا أنه يغيب في غداة يوم هزيمة فريق كرة القدم الذي يشجعه.  فهو لا يعرف أيام الإجازات أو الأعياد والعطلات الرسمية. دوما له ميقاته بين الطرقات, كأنه يحرص على شئ ما في رأسه, أكثر من حرصه على الشراء والبيع !!

صامتا يتحرك خلف عربته الخشبية. بخفة وبسرعة تثير التساؤل: ماذا يبغي هذا البائع المتجول البدين؟  تأكدت أنه يعمل في حرفة بيع وشراء المخلفات أو "الروبابيكيا".. من الأثاثات حتى هلاهيل الملابس القديمة.

الصحف التي كثرت في الآونة الأخيرة, وقد اعتاد الناس على شرائها, ربما يسرون على أنفسهم ليضحكوا في صمت من كثرة ما يقرأون وغرابة ما يعرفون: عن رجالات السياسة المرموقين, ولاعبي الكرة المشهورين, وفناني السينما.. يطون خلف جلودهم أسرارا تشيب لها الأجنة في الأرحام.

نجح الملعون, فلا يصيح ولا ينادى, يبتاع كل ما يقتنون.. الكل في انتظاره للتخلص مما يقتنون .. وقد راجت ظاهرة بيع الكتب والصحف القديمة.

دعوني لا أنسى أن أخبركم عما حدث لسكان الحي. بدا لي خلال السنوات الأخيرة, أنك لا تستطيع أن تفرق بين أفراده إن أصدرت حكمك من نظرة أولى. فملابسهم التي تعلو أجسادهم, لا تعنى شيئا. تنتشر بينهم البنطلونات الجينس وفوق عضلات صدورهم "تى شيرت" تبرزها. والفتيات الصغيرات بألوان ملابسهن الفاقعة الزاهية, وجيباتهن المشقوقة من الأمام أو من الخلف و ربما على الجانبين.

الحي الذي أقطنه منذ ميلادي, مواطنوه من الموظفين الفقراء وصغار الحرفيين وعمالهم. لكنني أعلم تماما أنهم يملكون أجهزة التليفزيون, وبعضهم اقتنى الفيديو حين رواجه.. و مازالت تعلو أطباق استقبال الأقمار البعيدة. يكفى طبقا واحدا لأن يجعل كل سكان المنزل يرددون في خيلاء أن أحد جيرانه يقتنى "الدش", ناهيك عما سمعته من مشاجرات بين الأزواج على اقتناء المزيد منه, اسوة بالجيران.

ولا أدرى لماذا لا أشعر بضعف جيراني وقلة حيلتهم, إلا إذا زرت المستشفى العام بالحي        أو حتى تلك الملحقة بالمساجد ؟!.. ومع ذلك أراهم يسيرون أمامي, وكأنهم يتساقطون عفوا في مياه آسنة عميقة.

-2-

"حمامة" الذي نجا من تلك المماثلة الغريبة بين أفراد الحي, هو هذا الكائن. "حمامة".. لقب أطلقه البعض عليه, ربما كي يميزونه حين يتحدثون عنه, وكثيرا ما يفعلون. وإن دهشت لقراري بأن أعرف الرجل حقيقة, أخبرك أن هذا الشيء السائر إلى جواري, بل الذي أعدو إلى جواره علني الحق بخطواته. تسبقني وتسبقه ألعربه الخشبية التي يجرها بكل سهولة و يسر. لم ينبس عندما ألقيت التحية, ولم يكف عن الاندفاع.. ألست أحد الزبائن؟!

القيت نظرة سريعة نحو صندوق العربة. لم أر سوى كومة من الكتب القديمة والصحف و المجلات. أمرته بالانتظار حتى ألقى نظرة متأنية .. فأنا كاتب, والكتاب يعشقون اقتناء الكتب.

وقف صامت, بدأ اللعبة معي. كتابا تلو آخر, وفى كل مرة يسلمني كتابا واحدا, فأمره بآخر.. وهكذا حتى مللت اللعبة . و كأنه لا يسعى للبيع ولا يرغب في الشراء. لفت انتباهي أن وجدته يفر الكتاب قبل أن يسلمه لي, فسألته وأجاب: "حاكم الجماعة بتوع الكتب.. كل أسرارهم يدسوها فيها. إما يكتبوها أو يخبأنها بين أوراقها". لم أفهم و إن سعدك بحديثه الأليف.. أفاض قائلا:" ذات مرة لقيت واحد داسس عشرة جنيه, وآخر داسس شكوى إلى ربنا, وكتير لقيت خطابات غرامية".. فلما اقترب أكثر من أذني ليسر بما يعرف, نفرت أنفى من رائحته الحادة النفاذة الكريهة, لا توصف, ربما كأشواك ثمرة التين!!

أخبرته برغبتي في شراء جميع ما يحمل, علني أبقيه إلى جوارى لفترة أطول. إيماءات الرجل زادت, لمحته يثنى ركبتيه بآلية غريبة, وكأنه حصان يهم بالعدو حالا. بدلا من أن أناديه بالعم حصان , فضلت أن أناديه ب"العم فارس". لم يعترَض, لكنه فاجأني بالتحرك تجاه الشارع. لم نتفق على قيمة الكتب.. بعضها بين كفى وأكثرها في قعر الصندوق الخشبي. بدأ يثرثر ويسرع الخطو معا. حدثني عن ورثة كاتب معروف يقطن الحي, لم تصبر أسرته على بقاء مكتبته, كوموها والقوها بأقل الأسعار إلى فارس, حملها ثم لعنهم كلهم..لم يلحق به أحد..

العم فارس بقدميه الحافيتين, إنسان آخر أعدو خلفه: يثرثر وهو يزيد من سرعته, يبدو وكأنه لا يعبأ بالبيع أو بالشراء, ولا بمشهد تلك الحشرات التي تتقافز بين الكتب هناك.رفض أن يبيع بأقل مما حدد .. فلعنته وأنا أتوعده بيوم خاسر.. لم يغضب.

مازال على حال عجلته و ثرثرته. رويدا زاد غضبى.. ويزيد هو من سرعته  مائلا نحو عربته الخشبية العفنة.. خلته والعربة شيئا واحدا.. يتدحرجان معا حتى فاق خطواتي. وقفت أتابعة و أنا أراه يطوى أسفلت الشارع, و كأنه يهم بالطيران.

 

 

"سرور" الذي تذكرته!!

 

أيقن "محفوظ العتر" أن داء النسيان نال منه بفعل الأيام والسنين...

بعد أن كان السهو واللبس والإحلال يشكلون ما يشبه مواقف الانقلاب الدرامي, في حياته اليومية, يتندر عليها وبها الأصدقاء. انتبه فجأة لنفسه, وقرر أن يقف وجها لوجه متحديا "النسيان".

فبدا وكأنه يصارع تاريخ أيام عمره كله.

ما حدث بالضبط أنه أخطأ عفوا أو سهوا أو غفلة, ونادى على زوجته بثقة واطمئنان: "احضري فنجان القهوة يا "سرور"؟!.

قامت الدنيا ولم تقعد, ولم تفلح كل الحيل الزوجية معها. فأقسم أنه لا يعرف إحداهن اسمها "سرور", ثم سألها إن كانت قرأت يوما عن أنثى اسمها "سرور"..لم تقتنع "عزة"!!

للمرة الأولى عبرت عن غضبها المكظوم, يكفى أنه ينادى على "سرور" كل ليلة في منامه, حتى بات أو باتت الغريم الخفي!.. فشعر بكبر حجم المشكلة, وأنه يجب مواجهة النسيان الملعون!!

بدأ بالبحث عن أصل الكلمة في المعجم, وجد السر وأسرار, السريرة والسرائر, سرة الوليد التي تقطع بعد الولادة, ومنها السرير وسرر الشهر حيث يختفي القمر لليلة أو ليلتين, وأسرار الكف والجبهة وهى خطوطهما ومنها أسارير, ومنها أيضا السراء أي الرخاء..  حتى كانت الطامة الكبرى, ما قاله "الأخفش": هي مشتقة من السرور لأنه يسر بها, يقال "تسرر" جارية وتسرى!

لعل زوجته "عزة" عرفت ما قاله "الأخفش", وفهمت أنه ينادى على الجارية كل ليلة!! عاد وطمأن نفسه أن "عزة" لا تعرف للمعاجم طريقا.. فقرر الذهاب إلى عيادة الطب النفسي.

لم تكن خطوة سهلة. في الزيارة الأولى, أمره الطبيب:

 "تكلم".. "عم أتكلم", "عن أي شيء".. "مباراة الأمس سيئة وانهزم الفريق القومي, شيء عبيط". بانفعال أمره الطبيب بالحديث عن أي شيء آخر غير كرة القدم, فتحدث عن فريق كرة اليد الذي فقد عرشه, زاد الطبيب انفعالا, وأمره بالعودة للزيارة في يوم آخر.

في الزيارة التاليه, بدأ معه لعبة جديدة, طالبه الطبيب بإجراء بعض العلميات الحسابية البسيطة من ضرب وجمع وقسمة وطرح, بأرقام مفردة ثم زوجية وثلاثية وهكذا, لعله ينشط ذاكرته. لكنه يكره الأرقام..فشل.

في زيارة أخرى بادره الطبيب, وطلب منه أن يسجل اسماء كل من يقابلهم طوال اليوم في ورقة, ثم يعرضها عليه. فلما عاد إلى بيته, وذهب إلى السرير, هم بمحاولة تذكر الاسماء, فسمع صوت شخير هين من بين شفتي زوجته المكتنزة, تلك الراقدة إلى جواره في سلام جميل.. القي بالورقة والقلم على الأرض, فابتسمت من ضجيجه المتعمد الذي تعرفه.. وفشلت المحاولة أيضا.

هذه المرة قرر الطبيب وأمره بأن يكتب أمامه الاسماء التي ترد إلى ذهنه..الآن؟؟.

سرعان ما بدأ "محفوظ" اللعبة, بلا أدنى شعور بالتحفظ أو المبالاة, كتب.... "سرور.. سرور.. سرور.." حتى اسودت الصفحة كلها!!

كمن كتب اعترافاته الإجرامية بخط يده, وبقى على المحقق الرصد, وإعلان الإدانة. هذا ما شعر به "محفوظ" وقد انتفض الطبيب واقفا, يصرخ:

"من هو؟ من "سرور" هذا"؟؟!

ترك الطبيب مقعده خلف المكتب, هائجا يقول:

"من سرور هذا.. تكلم, أنت تعرفه أكيد"!!

فابتسم محفوظ, وأخبره بما كان من زوجته يوم أن نادى عليها ب"سرور".. تمتم في نفسه: "من سرور الملعون هذا, أراه يغضب الملائكة".. عاد وأخبر الطبيب بحكايته مع زوجته بسبب سرور أيضا, بل انه لم يذهب إلى عيادة الطب النفسي, إلا من أجله, وليس من أجل النسيان! لكن الطبيب لم يبتسم.

بهدؤ وثقة نطق محفوظ العتر وتابع:

"يا سيدي الطبيب..لم أعرف في حياتي سوى "العسكري سرور", حامل قاذف اللهب الذ.....", قاطعه الطبيب, أمره بالنوم فوق سرير الفحص أولا وبسرعة, ودون تلكؤ. وما أن اعتلى الرجل السرير, سأل الطبيب إن كان يريد أن يحدثه عن حياة سرور أم عن مماته.. لم يسمع ردا, فعقب "محفوظ" وقرر وحده أن يحدثه عما حدث بينه وبين زوجته عندما أخبرها حكاية استشهاد "سرور" عفوا!! 

روحي معلقة بتفاصيل الحكايات التي سردتها على مسامع "عزة" ليلة عودتي من الجبهة لأول مرة, فبدت وكأنها أذنان كبيرتان تتحركان في اتجاه شفتي. كنت أقص عن زملاء الكتيبة ونحن نعبر القناة, ونسعى لاعتلاء الساتر الترابي.

سرعان ما بدت زوجتي أقل اهتماما, وأنا أقص عما جرى وكان, أراها تتعمد جلبة ما, نجحت في جذبي إليها, انتبهت, نظرت نحوها, رأيتها تكور جدائل شعرها المبللة بالمياه الدافئة.

بين الفينة والفينة ترمى أطراف شعرها الطويل ناحيتي في آلية وسكينة لم المحها من قبل, فنلت من القطرات الندية نفحة طلية. لم تتمهل طويلا, فضلت أن تقتحمنى بملابسها الداخلية الوردية الشفافة, ولا أدرى لماذا فضلت أن يبقى جسدها مبللا؟.. لعلها كانت في عجلة من أمرها, وقد حذرتها فيما مضى من عادتها القديمة في البقاء طويلا مع جسدها وحدهما في الحمام.

تعمدت التحدث إليها بافتخار عما أنجزته كتيبتي "كتيبة المشاة الأولى" من اللواء الثالث للفرقة 19, وقد نجحنا في رشق العلم المصري فوق أعلى قمة الساتر الترابي هناك. ولم أشر إلى ميتة زميلنا العسكري "سرور", ولا إلى ساق "سالم المسلمى" التي بترت, ولا حتى إلى الملازم "رفعت" الذي فقد بصره. لم أذكر شيئا منها البتة, فقد يتعكر صفو لقاء انتظرناه سويا أكثر من ثلاثة شهور كاملة.. منذ العبور, لولا "الحصار" لعدت إليها قبل كل تلك الشهور.

فلما همت برفع الخوذة الحديدية من فوق رأسي, تذكرت أنني لم أنزعها, طوال تلك الشهور الثلاثة.. كما لم أبرح جلستي فوق طرف السرير منذ أن التقينا, ولا أستطيع أن أقدر كم من الوقت انقضى.

قد يبدو الأمر مستغربا لمن يراني وأنا انهرها أن تعيد الخوذة إلى رأسي.. من كان معي أو شارك في جعجعة المعارك سوف يعذرني أكيد, وربما يهون من غضبة زوجتي التي كظمتها عنوة!..الخوذة هي سترى وسر اطمئناني. كنت أضعها تحت رأسي لأنام, وأحفظ فيها بولي لأشربه أثناء فترة الحصار, وأخبئ تحتها بعض كسرات الخبز الجافة لحين القحط, وقد سد الأعداء طرق الإمداد والتموين إلينا على الضفة الشرقية للقناة بعد الثغرة.

تربعت "عزة" على الأرض, وحفظت قدمي في حجرها لتنزع "البيادة" الثقيلة عنها.. انطلقت "آه" حادة, سريعة, وعن غير رغبة منى. رمقتني متسائلة بعينيها اللامعتين, لم أستطع تجاهلها وأنا التقطها من أعلى, وهى متكورة داخل غلالتها الشفافة اللامعة وقد التصقت بجسدها البض. لا أدرى ماذا كان يعلوها ويحيطها من كل جانب..لأنني سمعت صوتا ملائكيا يقول:

"سلامتك!!"

لم تكن البسمة التي ارتسمت على سحنتي تخص الحقيقة التي أرجو أن أخفيها. كانت بسمة مرتبكة هزيلة, من جراء الآم غبية المت بمفصلي القدمين, بعد قفزة مهرولة خاطئة وأنا أعتلي القارب المطاطي في بداية العبور, حتى كدت أغوص في أعماق مياه القناة. لولا أن بعضهم تصرف بحكمة أكثر منى.. وبقيت قدمي تؤلمني حتى الآن. تصرفت بحكمة وبسرعة هونت عليها الأمر كله. تمتمت بكلمات أعنيها وقد لا تفهمها إلا زوجتي في هذا العالم, فضحكت وضحكنا معا بعد أن بدت الطمأنينة في سواد عينيها الواسعتين!

لم تربط الخلفة بيننا بولد أو ببنت, وان حرضتنا على اندغام جسدينا أكثر, ولطالما ساعدتنا الأيام والليالي.. إلا أيام الحرب.  بدت واثقة من نفسها ومنى وهى تنهض بخفة من جلستها,  تتعلق برقبتي وبشفتي لفترات طويلة. ثم فضلت أن تخلع عنى ملابسي العسكرية, علها تزيح عن أنفها رائحة العرق التي أظنها أقرب إلى رائحة البول. طال انتظارها لأن أجيب على سؤالها, أعلنت أنها ستنفذ وحدها المهمة, بدت وكأنها تريد أن يسمعها جيران سكان الشارع الذي نقطنه, نهرتها أن تخفض من صوتها. فارتسمت علامات الدهشة ولم تنطق, ولم يطل انتظاري, عادت وبين ذراعيها وعاء من البلاستيك والصابونة المغلفة بورقها الأزرق اللامع مع تلك المنشفة الجديدة وقطعة اللوف الطويلة!

لم تترك موضع من جسدي العاري إلا دعكته, هرسته بقوة. توقفت فجأة مستفسرة عن سر تلك البقعة السوداء التي لا تعرفها من قبل في جسدي. افتعلت البسمة, قلت:

"كنا قد نجحنا في اعتلاء الساتر الترابي دون أية خسائر تذكر سوى مفاصل القدمين,

لكن شظية طائشة مكتوب عليها اسمي..أصابتني في كتفي!"

ثم تابعت بعد برهة, وأنا أضرب على صدري:

" لكنني الآن تمام ومثل الحصان..."

يبدو أن المزاح لم يعجبها, لم تبتسم..!

أسرعت وشرحت لها كيف أنني نسيت ألمي فور أن هبطنا جميعا على الجانب الآخر من الساتر الترابي؟ وكيف كانت أجساد زملاء الكتيبة كلها ونسه لروحي, تحفزني على متابعة المهمة لاقتحام الدشمة الحصينة للعدو؟!

فتابعت بسرعة:

"بينما كنا على حال اندفاعنا, إذا بالعسكري "سرور" حامل مدفع "طالق اللهب" يصوبه عفوا نحوى وإلى الضابط رفعت بجواري, فاحترقت في جزء من جسدي, وفقد الضابط بصره. كانت إصابتي أهون, بدليل أنني استطعت أن أرفع رأسي من فوق الرمال لأسب جد أجداده, وأمه التي ولدته معتوها!".

انشغلت الزوجة في مهمتها الخاصة جدا, حكت كل جسدي وأنا منتصبا وسط الغرفة, فوق الطست الفارغ. يبدو أن أمرا ما شغلها, فلم تعلق, حتى بعد أن تابعت بأن "سرور" لم يكن يقصدنا أكيد, لكنها الحرب القادرة على فعل كل شئ غير متوقع!. وجدتها تلوى رقبتها إلى أعلى بعد جملتي الأخيرة, تشجعت وتابعت:

"بدليل أن أصابه الذهول ونال منه الصمت, ولم يتح لنا فرصة لأن نسبه أكثر. المدهش هو ما حدث بعد ذلك, العسكري "سرور" ابن الشياطين غافلنا وتجاهل سبابي, ثم اندفع قبلنا جميعا نحو فتحة المزغل, موجها لسان اللهب إلى ذاك الرابض خلف المزغل, حتى أسكته وحتى تقدمنا كلنا من خلفه, ونحن نهلل ونكبر وقد تجاوزنا جثته المدرجة بالدماء.. جثة "سرور" المثقوبة بعشرات الرصاصات!!"

لم تكن المحنكة في فنون الحب, راغبة في المزيد عن حديث الحرب. ليست مصادفة أن تركتني دون أن تجفف المياه الرائقة عن جسدي, ولا أن تترك لمبات نجفة الحجرة مضاءة على غير عادتها في الحب معي. هالها ما عبرت عنه بالدهشة, لأنني فقدت بريق شعر صدري الذي ينافس صدور ممثلي السينما.  كما أدهشها شكل المساحات القاتمة بسبب حروق اللهب, حتى رسوم الوشم الأخضر بتعويذة الحسد بهتت!!

ذاك الجسد الذي ظنت يوما أنها تعرفه وهى مغمضة العينين, لم يعد كما تعرف. وعبرت عن ذلك بجملة واحدة:

" ماذا فعل "سرور" فيك يا محفوظ ؟؟!"

لم أعقب, اكتفيت بمتابعتها تدور من حولي, وان تمنيت ألا أتابع ما كان وما حدث, طلبت منها أن تتحدث بلطف أكثر مما تفعل عن الشهيد "سرور", فلوت شفتيها. وصلتني معان لكلمات لم تنطق بها, لم أعهدها فيها من قبل !!  

أدرت وجهي عنها, التحفت بالظلمة, ضغطت على زرار الإنارة, رشقت رأسي بين الوسادتين, ثم عاهدت نفسي مستقبلا ألا أمارس الحب معها إلا في الظلمة, وألا أذكر "سرور" هذا أبدا!!

 

 

قضية

(متى يواكب الإبداع الأدبي الخالد الحدث التاريخي؟؟)

لم تلق أحداث الحروب العربية المعاصرة, ولا انتصارات صلاح الدين الأيوبي, الرصد الخالد في قصيدة أو قصة أو رواية.. هذا ما يردده البعض؟!!

عن فترة "صلاح الدين" رصد "العماد الأصفهاني" (519-597هجرية) وهو الذي عاصر الأحداث, بل عمل كاتبا لدى "صلاح الدين". جمع أشعار الفترة من أواخر القرن الخامس وحتى السبعينيات من القرن السادس في كتابه "خريدة القصر وجريدة العصر", ثم سجل في مقدمة كتابه أن الشعر لم يواكب الحدث, ولو انه حدثا عظيما. وهى نفسها المقولة التي ترددت حول الذاكرة الثقافية / الإبداعية لتسجيل أحداث الحروب العربية المعاصرة!!

في البدء ..  العمل الإبداعي (نثر/شعر) يقع دوما في دائرة السؤال القديم/الجديد: هل هو انعكاس مباشر للحياة الواقعية؟ إذن بما يتميز عن لغة الحياة اليومية التقريرية؟ ثم وان كان مستقلا عن الواقع..بما سينتهي إليه , هل إلى عالم مثالي منعزل؟؟

ليصبح السؤال: كيف يمكن للعمل الإبداعي أن يظل مستقلا ومتصلا بالواقع.. دون الوقوع في المحاكاة أو الشطط؟؟

نظرة تاريخية .. المتابع للمنتج الإبداعي العربي سوف يتوقف أمام عدد من الملاحظات, في مجملها على علاقة بالتجربة الحربية والأحداث الجسام ذات الصلة بالعامة والخاصة.

: النثر العربي قبل الإسلام في الجزيرة العربية اقتصر على ما يمكن أن نطلق عليه الفن الحكائى (القصص), والخطب في الأسواق, ونوادر السمر في المجالس, ولم يحرص أحدهم على تسجيلها كاملة وبدقة(ربما بسبب نقص وسائل التسجيل, فيما عدا الذاكرة البشرية التي وجدت في الإيقاع والموسيقى الشعرية, عونا للحفظ والاحتفاظ بالمنتج الإبداعي الشعري).. وقد يرجع القول بأن الشعر ديوان العرب إلى هذا السبب, وليس للشعر نفسه كجنس إبداعي.

مع ذلك للعرب ككل شعوب العالم, لها حكاياتها وقصصها وأساطيرها.الملاحظ أن كل شعوب العالم لها هذين الضربين من القص..المروى والمكتوب.فمن الشعر للهند"المهابهاراتا" وللفرس "الشاهناما" و لليونان "الإلياذة".. ومن النثر للعرب "أيامهم" و"دون كيشوت" بأسبانيا و"الأيام العشرة" لإيطاليا وغيره.

لقد لعب التاريخ دوره الهام في فن النثر القصصي الحكائى ذاك, يمكن إجمالا القول بأن الاختلاف بين الشعوب في موضوع القص, أن اهتمت أغلب الشعوب بأسلوب الحكى و جماله أكثر كثيرا عما هو الحال في القصص العربية التي بدت أسلوبا مهلهلا و تأليفه ركيكا.. (د.مصطفى عبد الشافي /كتاب التراث القصصي عند العرب).

أغلب الظن أن انفصل القص عن التاريخ, وبدا مستقلا بعد نزول القرآن..فكانت قصص الأولين والأمم الماضية, وتحدث عن الأنبياء. وهو ما افرز فيما بعد القصص الديني. كما اعتاد الخلفاء الاستماع إلى القصاص في مجالسهم, فكانت قصص أخرى غير التي يعرفها و يقرأها العامة..والتي هي غالبا أخلاقية وتسعى للموعظة الحسنة.

كما قال بعض العرب بمثل ما قال به الغرب. فقال د. محمد غنيمى هلال:"لم يكن للقصة قبل العصر الحديث عندنا شأن يذكر", وقال توفيق الحكيم:" كل تفكير العرب و كل فن العرب في لذة الحس والمادة, لذة سريعة, مفهومة, مختطفة اختطافا".إن التسليم بتلك المقولة يجعلنا نقول أن العرب غير كل الشعوب حتى البدائية .. وقد تغلب الافتراض الأخير ودلل عليه برفض فكرة القياس على المنتج الحكائى القديم بنفس أدوات القياس الحديثة.

ارتبطت القصة العربية القصيرة منذ نشأتها بالأساطير القديمة التي روت أحلام الإنسان البدائي وعلاقته بالمجتمع والطبيعة وما وراء الطبيعة. منها قصة فتنة الزهرة للملكين هاروت وماروت, ومنها ما كانوا يتحدثون به عن القمر حين أراد أن يتزوج البدران من الثريا. ومنها ما تحدثوا به عن أصنامهم: هبل رب الأرباب, واللات و العزى و ثالثهما مناة. ومنها حديثهم عن الكعبة والحجر الأسود والصفا والمروة, وقصة عام الفيل, وقصص الغيلان وشياطين الشعر, ثم قصصهم عن العرب البائد كأرم ذات العماد وعاد وثمود, وحديث العماليق كعوج بن عنق..وغيرها  مما يشير إلى  ارتباط القص بالتاريخ و الأحداث الحياتية .

:أما عن الشعر ارتبط الكثير من الشعر الجاهلي بأحداثهم الهامة, مثل قصيدة"مهلهلية" في يوم البسوس.. كذا بالنظر إلى المعلقات أن أربعا من المعلقات السبع, تتناول الحرب مباشرة (وليس الصراع بعامة) وهى معلقات: عنترة بن شداد, زهير بن أبى سلمى, عمرو بن كلثوم, والحارث بن حلزة. حتى أن الناقد العربي القديم "محمد بن سلام الجمحى (متوفى231هجرية) هو صاحب نظرية نضوج الشعر العربي قبل الإسلام بالحرب. كما أن "ابن سلام" في كتابه "طبقات فحول الشعراء" أرجع قلة الشعر عند أهل قريش والطائف وعمان إلى قلة الحروب.

فيما ترى "د.ريتا عوض" في كتابها "بنية القصيدة الجاهلية" أن مقولة ابن سلام لها وجاهتها وما يبررها.. أما القول بربط الشعر بالحرب فيحتاج إلى مناقشة لعدة اسباب, منها: أن جانبا كبيرا من الشعر الجاهلي لم يلتفت إلى الحرب.. كما أن الشاعر العربي لم يواكب الفتوحات الإسلامية (التي هي حروب أيضا)..باستثناء القليل مما قيل حول موقعتي بدر وأحد. والمثال "عمرو بن أبى ربيعه" الذي عرف بالغزل , بينما مات في معركة بحرية !!

وترجع الباحثة سبب ما أصبح عليه الحال بعد الإسلام, مع رفضها لنظرية الربط بين الشعر والحرب, ترجعه إلى سببين: أولهما عام, حيث مازال الشعراء على فهم وتكوين أصول قبلية, بينما الفتوحات والمفاهيم القومية لم تتغلغل في النفوس بعد. ثانيهما خاص لأن الشاعر يكتب شعره اختياريا, وحسب مزاجه وتوجهه الخاص.

هاهو ذا "جميل بن معمر" شاعر الغزل يرفض الحرب قائلا:

"يقولون جاهد يا جميل بغزوة

وأي جهاد غيرهن أريد

لكل حديث بينهن بشاشة

وكل قتيل بينهن شهيد "

:ومع ذلك يمكن الجزم بأن باهتمام العرب بالأيام فيما بعد, كما فعل "ابن الأثير" الذي جمع حوالي السبعين يوما, والميداني جمع مائة وثلاثين يوما, وهكذا فعل الأصفهاني و غيره. الهام هنا الإشارة إلى أنه لم تصلنا قصص عن العرب في الجاهلية, لا يعنى عدم وجود تلك القصص, فقد تأكد أن الشعر أيضا في الفترة الأولى من الجاهلية لم تصلنا. خصوصا أن الأيام كانت من أغزر ينابيع القصص الشعبي و القومي و البطولى, حتى عصر التدوين فدونت. وربما سر غلبة القصة الشعرية أو القصيدة القصصية هو افتتان العرب بالشعر قبل غيره من الفنون .

:ثم كانت الأمثال و الحكم في الأدب الجاهلي وكلها تحمل في حياتها قصصا عديدة. أما بقايا القصص ومنها قصة امرئ القيس "يوم دارة جلجل", وقصة عمرو بن كلثوم ,وقصة نديمي المنذر "بن ماء السماء" وغيرها.

أصبحت القصة في صدر الإسلام, انعكاسا للقصص القرآنية, ثم أكسب الفتح الإسلام النثر العربي أفقا جديدة ومنابع أصيلة.. ومن أشهر القصاصين الصحابي" تميم بن أوس". وقد ذكر المسعودى أن الخليفة"معاوية بن أبى سفيان كان يحرص على سماع القصاصين. أغلب تلك القصص مرتبطا بالبيئة العربية وبأخلاق العرب وعاداتهم.كما يمكن القول بأن عمر بن أبى ربيعه اصطنع أسلوبا قصصيا في مجال العاطفة وتصوير الواقع.ولا يمكن إغفال القصص الشعرية مثل قصة الغزل العذري التي كانت تروى شعرا مثل جميل وبثينة, وكثير وعزة وغيرهم.

لما اتسعت الدولة الإسلامية أيام العباسيين, كانت ألف ليلة وليلة, كليلة ودمنة, وشهرتهما حتى يومنا هذا لا تغفل.وان كانت أصولها من غير بلاد العرب إلى أنها تحولت للتعبير عن البيئة العربية .

كما لا يمكن إغفال القص في فن المقامات, بحيث تناولت موضوعات أقرب إلى القص الحديث المتنوع مثل: الطعن في الأدباء, الهزل و الإضحاك, المدح, الوعظ, المقدرة اللغوية, وغيرها.وان بدت متميزة أكثر في رسم الشخصيات. وهاهو الحوار يبدو من ملامح القصائد القصية على يد شعراء كبار مثل أبونواس وغيره ممن شاركوا في التجديد و الإضافة إلى الشعر العربي عموما.

:يجئ الآن السؤال حول القصص الطويل , وهل وجد منه ما يجعلنا نشير إلى هذا الجنس الأدبي أو الشكل القصصي المعروف الآن؟

هناك ثلاث قصص طويلة لا يمكن إغفالها: رسالة الغفران, رسالة التوابع والزوابع, رسالة حي بن يقظان.

الأولى لأبى العلاء المعرى, وقد كتبها ردا على رسالة أحد معاصريه من الكتاب"على بن منصور الحلبي" المعروف بابن القارح. والرسالة تعتبر قمة تطور الأدب القصصي عند العرب وهو ما أكدته د.بنت الشاطئ في دراستها الهامة حولها.

و رسالة"التوابع و الزوابع"لابن شهيد الأندلسي, مما يشير إلى أن الفن القصصي لم يكن في الشرق العربي فقط, إنما امتد حيث بلاد الأندلس وقد كتبت قبل رسالة المعرى. لقد اتخذ الكاتب وادي الجن , واتخذ من الجن أبطالا حملهم آرائه في معاصريه من الأدباء و الشعراء الذين ينافسونه.

أما قصة حي بن يقظان لابن طفيل , تحمل آراء و فلسفة الكاتب في الحياة. أكثر ما تتميز به أن أسلوبها جزل وسلس بالإضافة إلى ما تتمضنه من أراء وأفكار عميقة وفلسفية. وقد نالت تلك القصة ما تستحقه من اهتمام حتى يومنا هذا.

:مع ذلك كتبت القصيدة العربية رفيعة المستوى على يد اثنان من فحول الشعر العربي: أولهما هو "أبا تمام" (متوفى 231 هجرية) , ففي ففتح المعتصم "عمورية" كان مولد أول قصيدة حربية ناضجة بعد الإسلام وفى ذروة التقدم الحضاري للعرب. في بائية أبى تمام يقول:

"فتح عمورية تعالى أن يحيط به

نظم من الشعر أو نثر من الخطب

فتح تفتح أبواب السماء له

وتبرز الأرض في أثوابها القشب"

أما ثانيهما هو "أبا الطيب المتنبي" الذي يصفه البعض بأنه شاعر الحرب الأكبر, والملفت (وهو ما رصدته د.ريتا عوض" في دراسة لها بمجلة العربي العدد 539) أنه جاء والأمة العربية/الإسلامية في حالة من التحلل الحضاري أو تكاد.

الطريف أن الشاعر خلد قائدا لم تتفق على كفاءته الوثائق التاريخية وهو "سيف الدولة الحمدان"! , وقال فيه:

"ولست مليكا هازما لنظيره

ولكنك التوحيد للشرك هازما"

فالانتصار ليس بين ملكين, بل هو انتصار الدين والتوحيد على الشرك.. تجاوز إذن الانتصار حدود الانتصارات التقليدية إلى آفاق أبعد وأرحب.

يبرز السؤال: هل هناك انفصال ما بين النضج الثقافي, والنضج الاقتصادي والسياسي؟ هل يمكن أن تكون الأوضاع الاجتماعية /الحضارية في حالة انحلال أو تكاد, ومع ذلك تنمو الثقافة و(الإبداع) تحديدا.

لابد أن نقول بما قال به بعض المستشرقين, أن الانحلال الاجتماعي والاقتصادي عند العرب قبل الإسلام, لم يمنع النضج الثقافي. كما نقول بما تقول به "د.ريتا" من أن اجمل واعظم منجز شعري عن "الحرب" جاء على الحالتين: التقدم الحضاري, والانحلال الحضاري. 

ولا تناقض أن نقول أن ما جاء معبرا عن الحروب الصليبية ومعارك العرب المعاصرة, على عظم النتائج التي انتهت إليها.. أن المنتج الأدبي حولهما لم يكن على المستوى الذي برز على يد شعراء الجاهلية, وأبى تمام, والمتنبي(وان عبر الجميع عن التجربة الحربية, وحول صراع مصيري خطير.).

لكننا نضيف بعض الأسباب, ربما لو جمعت معا أو درست أضافت بعدا آخر, ذلك من خلال التشابه أو أوجه الشبه بين الحروب الصليبية والحروب العربية المعاصرة(منذ النصف الآخر من القرن العشرين حتى الآن):

أن كلتا الحدثين حول قضية/قضايا محورية أصيلة, ومع ذلك لم تحسم نهائيا بالحرب. ففي خلال المعارك المتفرقة للحروب الصليبية, ما بين المد والجذر, كانت تتفاوت الإنجازات, ولم تحسم "القضية" بعد معركة محددة منها. كليهما استتبعت بعدد من الاتفاقيات أو لنقل الإجراءات أو المعارك الدبلوماسية.. كما لم يشعر العرب بانتهاء الحرب وجنى ثمار نتائجها في الحروب الصليبية بعد انتصار صلاح الدين, حيث تتابعت الحملات على مصر (ثلاث حملات شرسة).. تماما كما ندعى الآن.. أنه لم تحسم نتائج معارك/المعارك العربية المعاصرة.. القضية الأصيلة التي هي جوهر الصراع. الفرق الوحيد أن الصراع القديم كان محدد الهدف وواضح أكثر كثيرا من الصراع العربي/ العربي والعربي/ الاسرائيلى والأجنبي الآن!, غير واضح لتعدد أغراضه ومناحية, وليس لعدم فهمنا من أهدافه!!

نخلص إلى حقيقة جلية أن الكاتب/ الشاعر/ المبدع ..يبدو أنه لم يزل يستشعر خطرا ما الآن , فيكثر على نفسه الفرحة والتعبير عنها.. وربما الحق أنه ينتظر الحسم في القضية/القضايا المحورية وأصل الصراع, وهو في ظني الحال مع المبدع أيام الحروب الصليبية !!

أضيفت في 15/10/2005/ خاص القصة السورية

 

 

في الحرب والعتمة نسمع ونرى!

 

                                                                      

الحرب ألبستني صفات لم أكن أعلم معناها....

تردد المذيعة ذات الصوت الرائق: "وهذه الأغنية مهداه إلى أبطالنا الشجعان على الجبهة". ولأنني ضمن أفراد جبهة السويس, فهي تخاطبني حتما .. إنها الشجاعة إذن!

يأمرنا الضابط الشاب العفى بأن نهيل الرمال نسد بها عين الشمس, أعنى تلك الحفر المنتشرة في صحراء الوحدة. يعود ويأمرنا بإعادتها وتجريف الحفر نفسها ثانية, فتحاصرنا هياكل لا تعد من الأهرامات الرملية. يسعد لفعلتنا الغامضة, يخبرنا في عزة واعتزاز: "فتوة, وقوة .. يا شباب". يبدو أنه يصفنا بالأقوياء!

الشاويش "عيسى" يبعثرنا على أرض الطابور صائحا: "انتشروا..". يعود ويصرخ فجأة: "انتباه.. اصطفاف". لحظات ويتابع: "سرية.. عد". نبدأ, تلتوي أعناق ألفاظ الأرقام, جيلا بعد جيل ينطقونها هكذا: "حد.. تنين.. تلات .....". يردد فرحا:"سرية منضبطة منظمة". أنتشي بدوري لكوني منظما!

في السنة التالية سرحوني من الجندية. استلمت عملي بإحدى القرى..قتلت رئيسي في العمل. لم أعترف بجريمتي. أقسمت أن ما تم وكان..محض صدفة. صوبت نحوه مسدسا قديما, وجدناه عفوا تحت ظل شجرة عجفاء عجوز شامخة. كان ملقى بإهمال, كسته الأعشاب الذابلة , والطحالب, فبدا وكأنه جذر متمرد من جذور الشجرة.

لأنني المحنك في معرفة هيئات الأسلحة, التقطته عيني, بحلقت صامتا, دهشا أشرت بسبابتي. الملعون رئيسي هذا , اندفع قبلي, كعادته!

أؤكد ..أنا الذي تعرف على المسدس المطمور في الطين, وهو الذي أمسك به سعيدا, كطفل استلم لعبته على التو.

ولأنني الخبير في مواجهة المواقف المفاجئة, لم أتململ قدر أنملة وهو يصوب مسدسه..مسدسي, إلى صدري. بفرح يقول: "قف, سوف أضربك بالنار".

ضحكت على جهله بقواعد "التثبيت". أخبرته بالسر..أن يقول: "قف من أنت.. ", ثم أطلب منه أن ينطق كلمة السر. إن عرفها, أسأله أن يتقدم حتى أتعرف عليه, إن لم يعرفها..حتى ولو كان رفيق الملجأ أو الخيمة, لن أرحمه. زاحفا أدفعه أمامي حتى مقر الضابط النوبتجى. طوال الطريق أزجره, أنهره, أسبه, أنغزه , وأزيد من عصبيتي , ليس لشكوكي لكونه من الأعداء, كي أثبت للقائد أنني ..شجاعا, قويا, ومنظما.

الآن أؤكد أن تجربتي الطويلة هناك, كشفت لي أننا قد نعيش أخطر المواقف دون أن ندريها في حينها. وهو بالضبط ما انتابني مع رئيسي ..ذاك الربعة القصير المحتقن الوجه. رأيته يستبدل صراخه بالصمت, ظنا منه أنه يعلن عناده وأنه حزم أمره, غير مبال. وإلا كيف تبرر سر قدرتي على البقاء ليلا - في الظلمة – أنفذ العمليات الحربية, واحدة تلو الأخرى.

يموت بسببها من يموت, لكنها تحمل تقدير النجاح عندي, فقط لأنني عدت من جديد إلى مرقدي في الملجأ أتنفس بانتظام .. حتى وان وجدت المرقد جواري خاويا , سويعات ويحتله جسد آخر.

الحق كنت أحزن, وسرعان ما أنسى. أي شيطان هذا الذي تلبسني , فأبكى بحرارة على فقد رفيقي, ثم أعانق بحرارة رفيقا آخر.. لا أعرفه.

ربما أهم ما خبرتني به الأيام ولا يبرح رأسي منذ تلك الفترة الماضية ..أن الضرورات أولى بالرعاية. لا أدرى  لماذا استفزتني تسريحة شعر رأس رئيسي. للمرة الأولى أنتبه إليه .. شعر رأسه الأسود الطويل الناعم, وسوالفه الغزيرة الطويلة.. حتى خلته جنديا من أهل الإغريق.

ولأنني أمضيت سنوات شبابي مع الحرب, حبا في أهلي, وكرها في كل معتد أثيم. تفحصته مليا, أراه على هيئة لا أحبها, كأنه من كوكب آخر . يرتدى البنطلون المحزق , والقميص المشجر, والحذاء الذي أعجبني. قلت في نفسي..إذا كان الحذاء إيطالي الصنع , فلا تسأل عن بقية التفاصيل .

على كل حال , أثناء العمليات الحربية, وأثناء التدريبات العسكرية.. لم نكن نضحك, ولا نبكى. أما لماذا ضحكت وبكيت في لحظة واحدة في مواجهة هذا الرجل . لأنه عندما ضغط على زناد المسدس, انزلق إصبعه  من فرط  اللزوجة , بفعل الرطوبة والطين والطحالب . ومع ذلك أدار وجهه بعيدا ثم أغمض عينيه بشدة , كأنه سيطلق قنبلة ذرية . لم يطلق رصاصة , ولا حتى أطلق صوتا .. فضحكت.

وما كان منى إلا أن تلقفت المسدس الذي انفرط من كفه, وقبل أن يصل إلى الأرض اللزجة حملته بين راحتي. لا أدرى كم من الوقت انقضى عندما مسحته جيدا بمنديلي, ثم حشرت منديلا آخر في فوهته . وإن منعتني غبشة المغربية من بيان إذا ما كانت الخزينة فارغة أم لا؟ا وقد أفرجتها خارج جسم المسدس ومسحتها جيدا.. أحسنت تنظيفها.

ثم.....

ثم سمعت صوتا يشبه خروج طلقة رصاص. أتذكر أنني ضغطت على الزناد أكثر من مرة... وفى كل مرة أضحك..ضحك هو نفسه لضحكاتي الهستيرية . ظل يقهقه حتى عجز , عجز عن الضحك لأنه سقط على الأرض مدرجا في دمائه.

فبكيت لأنني تأكدت من أن الصوت الذي سمعته تخلله صوت انطلاق طلقة حية أو حقيقية , لم تفسدها الرطوبة ولا الأتربة!!

لأن الحرب علمتني الشجاعة.. ارتميت نحو صدره, أتسمع نبضات قلبه الهامد.. وعلمتني القوة, فحملته بذراعي وحدي حتى باب منزله .. وعلمتني النظام, فاتصلت بشرطة النجدة , رويت على مسامع الضابط الشاب العفى بكل التفاصيل, رويتها كلها, ثم أقسمت له أنني لم أقتله, وأن هذا كل ما حدث!!

 

 

 

الحالم حلما لا يعرف تفسيره

 

                                                               

لن تخطئه لو رأيته للمرة الثانية, يكفى أن تراه للمرة الأولى.. يسير الهرولة بخطواته القصيرة العرجاء, على قصر قامته ونحافته, منتفخ الصدر, متسع العينين, دهشا, وإلا لماذا تلك الانفراجة بين شفتيه؟!

لو لم تتح لك فرصة رؤيته في الشارع بسبب الازدحام, حتما لن تنساه لو قابلته عند أحد جيران الحي. يردد البسملة والدعاء لك بالصحة والعافية وطول العمر. يبدو في حضرتك أهم منك ومن مضيفك, ببساطة لأنه لم يحضر للمسامرة وتبادل أطراف الحديث حول شئون الحرب وأفاعيل الساسة. موجود هنا كي يطبب مضيفك, الذي حتما سيهملك حتى ينتهي الرجل من مهامه.

أما وقد صادفته ورأيته, لن يتردد لسانك أمامه, ستنطق فورا:"أهلا عم خلف". الرجل غير منتبها تماما لاسمك ورسمك, لكنه حتما سيرد التحية بأحسن منها. لن يتوقف عن عمله, فهو في عجلة من أمره, مرضى البول السكري في انتظاره قبل تناول الوجبات, وكل سيدات الحي الحوامل كذلك, أضف إلى كل هؤلاء شباب ورجالات الحي يعرفونه جيدا, يدعمون رجولتهم بحقنة من أدوية شد العصب.

 

يعمل العم "خلف" بأطراف مهنة التمريض, فهو ليس ممرضا, لم يدرسها ولم يشتغل بها في أي مكان.لا..لا, انه فقط يجيد "ضرب" الحقن, ولا شئ غير ذلك.

أهل الحي لهم رأيا آخر, جعلوه في مكانة أعلى من طبيبهم, فلا دواء ولا حقن يكتبها الطبيب يتناولونها..إلا بعد موافقته. وهو بتواضع جم لا يعترض أبدا, يعلم أنه لو أشار بإيماءة امتعاض دهشة أو مترددة, حتما سيمتنع المرضى عن تناول الدواء!

كما يعلم أنه ليس مسئولا عن مكانته في قلوب الناس, على يقين أن دعاء أمه طوال فترة مرضها هو السبب.وبسبب مرضها تعلم "ضرب الحقن"ضمن محاولة رعايتها,وتوفيرا للنفقات.

سر الأسرار فيما وصل إليه, بسبب دعاية أمه له لزائريها, ولأنه استبدل عمله كصبى صغير بمحل البقالة بناصية الشارع إلى مهنة حقن الحقن. خلال تلك الفترة , فترة السبعينيات من القرن الماضي كانت جماعات من الشباب المسرحين من الجيش بعد الحرب, وكذا أصحاب المهن والحرف الصغيرة, وأيضا صغار التجار يهاجرون إلى إحدى دول الخليج تحت وطأة حلم يرجون تحقيقه.. حلم بحياة جديدة, وربما ببعض الثراء, وقد تكون لرغبة البعض العيش بعيدا عن المعاناة التي طالت منذ عام سبعة وستين.

 

لا تدهش أن نال هذا الرجل القصير المكير, كل ما ناله بسبب شكشكات الإبر!, لأنه ببساطة نجح في وخز ابر الحقن بلا ألم, ونال لقب صاحب اليد الخفيفة.

لا تتسرع وتحسبه لصا نال لقب اللصوص, فهو ليس "هجاما" يقفز أسطح المنازل, ولا"ملقاطا" يلتقط حافظة النقود في عز الظهر, ولا "هباشا"..ولا أي درجة من درجات اللصوص.

كانت تجربتي الأولى معه مدهشة, بل ورائعة . في ذلك اليوم قررت أن أتلصص على جمجمة رأسه وأغزو أمفوخه. وددت لو أحطم حاجز الألفة الغامض الذي شيده حول نفسه, عامدا أو عن غير عمد. انه نمط غامض من الناس, لا تستطيع إلا أن تحبه, ولا تستطيع أن تطرح السؤال:"لماذا لا نكره هذا الرجل؟ من الطبيعي أن تكرهه, لأنه مرتبطا بالأمراض والعلل؟

فور أن دخل على, تفحص الأمبول, هزهزه, قال:"زيتي", فتح علبته المعدنية الصغيرة السوداء الكالحة من غير صدأ, عبث وأخرج "إبرة" برقم ما,وأمرني بغلي الحقنة الزجاجية والإبرة..

"ياه..هل ما زلت تستخدم تلك الحقن؟ أحضرت لك حقنة بلاستيكية ترميها فور استخدامها؟", لم يبد اعتراضا ولا قبولا, فقط ظل ممدود الذراع, وبين أطراف أصابعه الحقنة, مبتسما!!

في ذلك اليوم شاركت الجميع, ياله من رجل ماهر. الجديد, وما أسعدني حقا, أنني اكتشفت السر, لأنه يستخدم تلك الحقن القديمة, ولكل نوع من سوائل الأمبولات مقاسا من الإبر مختلفا عن غيره. فلما واجهته بما اكتشفت, ابتسم كعادته, لم يرفض ولم يقبل.. كما أنه لم يصمت, قال: "كله من عند ربنا". فأضاف معلومة جديدة إلى اكتشافي, أن رأس هذا الرجل خالية من أحلام المستقبل, رحل كل أحلامه إلى الآخرة.

طالت فترة لقاءنا الأسبوعي , أتذكر أن الطبيب المعالج يوم أن قرر علاجي أسبوعيا بتلك الحقن, لشد العصب, . نظر نحوى من تحت نظارته الطبية الصغيرة, وقد علقها في منتصف أنفه, قال:"مضطر أنت لحقنة كل أسبوع".لم أتململ, غير مكترث بشكشكات ابر الحقن, عندي العم "خلف". يبدو أن الطبيب لم يفهم, ظل معلقا بناظريه نحوى في صمت. بسرعة أدرت الحديث نحو الحلم الذي لا يبرح رأسي كل ليلة, انشغل عنى, ولأنني أطلت الحديث, أمرني بالذهاب إلى الطبيب النفسي.

 

لا أدرى لماذا وضعت ثقتي كلها في العم "خلف", مثل كل سكان الحي على كل حال, لم أعد أتخابث كي أصل إلى تلافيف مخه..؟؟..وكانت تلك هي الخطوة الأولى.

أما الخطوة الثانية, سألته وبإلحاح أن يفسر لي الحلم الذي لا يبرح رأسي, وأن يعطني شيئا من خبيئته في العلبة المعدنية السوداء الكالحة من غير صدأ...

بدأ بالبحلقة في سماء الغرفة, تابعا بالعبث المنشود في علبته. فجأة أمرني بالصمت, يدهشني تصرفه, ما عاد "خلف" الذي أعرف..النحيف القصير المكير, دقيق الملامح إلا من أنفه الكبير, لأول مرة أكتشف هذا الأنف, وقد خلصت إلى نتيجة , ربما تصدق في المستقبل.. ربما هذا الأنف سببا لأن نتذكره ولا ننساه أبدا!!

ليست خطواته القصيرة العرجاء, ولا صمته المريب, ولا ثرثرته التي تخصه وحده, ولا قربه الشديد إلى أنفسنا حتى أننا لا نتمكن من رؤيته جيدا, أعنى معرفته جيدا.

عدت وتساءلت بيني وبين نفسي, ربما السر في الناس أنفسهم, لأن الناس لا تحب الألم..أعجبتني الفكرة, وتفرغت أتأملها منتشيا بأفكاري.

فلما صمت , ثرثر هو, لم أستطع أن أوقفه. دهشت, الرجل يتحدث عن نفسه كما الناس كلها, بل وقادر على جذب انتباهي, على الرغم أنه لم يحدثني عن حلمي. اكتفى بالكلام عن حلمه هو, حلمه الذي يتكرر كل ليلة, ولا يبرح رأسه في الصباح, ثم سألني أن أفسره له!!!

 

 

كذبت امرأة

                                     

 كان باب الشقة يعاند الانفراج, حتى سمعت وزوجتي من خلفه, صوت حشرجة وخشخشة, لم أعرف مصدره, إلا بعد أن هاجمتنا كومة ضوء باهت, احتوت الممر المظلم.

بدت لنا من خلال الفرجة الضيقة..مترددة في دعوتنا للدخول. نظرت إلى زوجتي سريعا, ومليا حدقت مبحلقة في صمت, بدت وكأنها لاتنظر الى شىء.

لأنني أعرف ماذا أريد, ولماذا جئت؟..قررت ونفذت ما لم أستطعه منذ عشرين سنة, لعشرين سنة تمنيت لو أرى موقع سترها مع زوجها الذي فضلته على. اقتحمت المكان الذي يمارسان فيه ما تمنيته معها , هي حبيبتي التي كانت وهو زوجها الذي مات.

 

سارعت بالاندفاع إلى الداخل, على غير قواعد "الاتيكيت" التي عادة ما أتبعها مع زوجتي, أو أية امرأة أخرى, بالضبط كما سارعت بالثرثرة. لم أكن أدرى ما ينطق به لساني, انشغلت عيناي بجوانب الحجرة, ذي الطلاء المتشقق, وحتى ارتطمت بعينيها. أعترف, أنا لم أذهب للعزاء, كنت أتحدى الزمن الذي انقضى؟!!

 

نطقت بكل الكلمات المملة السخيفة التي أعرفها في مثل تلك المناسبات الموجعة. ألفاظ العزاء كلها كاذبة.. كل همي ألا أترك لها فرصة واحدة لاكتشاف كذبي, فبالغت في العزاء. المدهش أنها تركتني أثرثر بلا أدنى انفعال, تمنيت لو لم تصمت, علنى أتأكد أنها لم تكتشف ما أضمر.

 

فجأة, توجهت بكليتها ناحية زوجتي: "أهلا يا حبيبتي", لم تحاول أن تومئ برأسها شاكرة, أو حتى تسبل جفونها امتنانا بما سمعت. انزاحت إلى مقدمة المقعد الفوتية ذي القاعدة المتسعة, وأدارت كل جسدها..كله, حتى قدميها, وقد ارتدت "شبشب زنوبة" بلاستيك, لم تسع لأن تستبدله من باب اللياقة مع ضيوفها. ولا حتى استبدال هذا الجلباب أو الفستان الكالح الأسود. لمحت أحد أزراره الصدفية البيضاء يتدلى على الجانب الأيسر لصدرها. طلبت منها لو تمزقه حتى لا يسقط وتفقده. الغريب أنها ابتسمت ولم تعقب. فضلت الحديث مع زوجتي الصامتة.

 

قالت ضمن ما قالت, أنها تعيش خريف العمر, وأن زوجها مات في الوقت المناسب!. أظن أنه في مثل تلك المناسبات , لا يتحدثون سوى عن مآثر موتاهم. وربما التأكيد على الشعور بالحرمان بسبب فقد المرحوم.. ماذا في رأس تلك السيدة المحنكة؟!

اقتحمت حديثهما, الذي هو من طرف واحد. بدأت بذكريات طفولة الولد الجن..طفولتي, وشبابي الماجن , وكيف أنني لم أترك ضلالة إلا وعقرتها إمعانا في أنني فقدت شيئا لم أستشعره في حينه, أما الآن...

ما أن نطقت (الآن), حتى أزاحت "الشبشب" , وأخفت قدميها تحت فخذيها. فضلت أن تستربع في جلستها . هكذا في بساطة وسلاسة العشم , بلا أدنى درجة من الحرج, على الرغم أنها لم تر زوجتي من قبل. زوجتي التي لم تنبس ولم يبدو عليها علامات القبول أو الرفض.

.."ماذا لو شربنا فنجانا من القهوة....السادة؟"

وكأني لم أنطق, تابعت هي حديثها الغامض, بينما لمحت أنا أظافر زوجتي تسحج المسند الخشبي لمقعدها.

 

بعد كل تلك السنوات لم أكن أعرف أن هذه السيدة التي أظن أنني كنت أحبها, تستطيع أن تكذب!!

كيف لها بكل تلك القوة ..وأدارت جسدها ضد رغبتها؟ , على يقين أنا, أنها على شوق لأن تنظر إلى بؤرة رأسي من خلال فرجتي عينيها.. واثق أنا, مثلما كانت تفعل, وتفتعل الأفاعيل كي لا أنظر إلا لعينيها. وما كنت أرى عينيها إلا أنها من عسل ولبن وخمر لا يسكر.

سيماء وجهها محايدا في بلادة. لا يبدو عليها التفاته المنتبه إلى جسده الذي يتكاثر. ما كانت إلا رشيقة القد, نحيلة في رقة. كانت نسمة موجة بحر مالح تتهادى .. لا تعلو ولا تبقى ساكنة.

ذاكرتها البيضاء, اكتشفتها من كلماتها.. لا يقدر عليها إلا من يكره على فعله ما. تبدو لي وهى تتلمس جسدها على غير إرادة منها, منهمكة في حديث لم أسمعه, ولم تنفعل له زوجتي الصامتة. فقط , أراها تربك هذا الجسد , وبحذق خبرة الأيام تابعت وشوشات أناملها, تلك التي بدت وكأنها كائنات غامضة تزحف فوق صحراء فسيحة.

شعور أشبه بالفرح انتابني, أحسسته بين ضلوعي, لأنها تريد أن تكشف لي عن أسرار جسدها!!..وان بدا لي عن غير إرادة منها, وهكذا يبدو عفويا!!

طال انتظاري, أكيد تلك السيدة تضمر أمرا لا تريد الإفصاح عنه. بينما تبدو زوجتي كلوحة "الموناليزا" التي تظنها تراك أينما كنت واقفا أمامها.. لولا أن لمحت تلك السجحات آلتي بدت أكثر عمقا عما قبل, في المسند الخشبي لمقعدها !!

 

فلما عبرت عتبة باب الشقة إلى الخارج مسرعا, عانقت السيدة الحزينة زوجتي التي بدت باسمة , وطلبت منها معاودة الزيارة.

سألتني: "كم انقضى من الوقت؟", أخبرتها واثقا: "ساعتان"....

فضحكت زوجتي بفرح غامض , وبصوت عال , بينما نحن  في حدود مسامع حبيبتي: "بل أقل كثيرا من ساعتين"

انفرط العقد , لا أدرى كيف اندفعت قائلا بأنها سيدة مملة, ولا تحمل أي قدر من الكياسة أو الذوق , حتى أنها لم تقدم القهوة السادة الواجبة ..وكيف أنها لم تستقبل عزاءنا بالحزن الواجب؟ وكأننا جئنا لرؤية قوامها البدين, وطول قامتها القصيرة, وشعرها المجعد, والهالة السوداء حول عينيها المدغمستين.. إنها سيدة مربكة حقا.. نادم أنا على ما بذلناه من جهد من أجل مواساتها ......

 

اقتربت زوجتي أكثر , كنا مازلنا فوق إفريز الشارع. كادت أن تسد فمي بصفحة وجهها  , بينما أطراف أصابعها فوق شفتيها, تأمرني بالسكوت..

فسكت..ليس لتحقيق رغبتها, ولا كرها في الأرملة , ولا لأنني اكتفيت بما نطقت.. لأن أطراف أصابع زوجتي بدت واضحة لي, مصبوغة بالدم , وقد علقت بأظافرها نسائل رقيقة من ألياف خشب مسند مقعدها الفوتيه هناك.

 

 

كأن شيئا لم يحدث, ولم يكن!

                                                     

تراه صامتا, قاطبا ما بين حاجبيه, يتأمل مقدمة حذائه إذا جلس وموضع قدميه إذا سار, وسقف الحجرة إذا استلقى على قفاه.

أما وقد جلس أمامك وحدكما, فلا حيلة أمام صمته إلا أن تدعوه للغداء أو العشاء في غير ميعاد تناولها, حتما سينهض معتذرا عما بدر منه من إزعاج!

المشكلة إذا نجحت في إسقاط حجاب الصمت. ثرثرته بغير حد, ممدودة في الزمان والمكان نحو سنوات بعيدة. كأن الزمن توقف بعد تلك الفترة, الطريف أنه حتما سيلحق كلماته بجملة لا يمل تكرارها: "عادى, كأن شيئا لم يحدث, ولم يكن"..ثم يتابع تكرار حكايته القديمة والوحيدة, يقول....

 

لم يهنأ لي بال طوال فترة تجنيدي, كنت مشغولا بالحرب وبحبيبتي.. على أرض الطابور, وفى الخنادق, وأثناء العمليات الحربية المحدودة. انشغل بها أكثر وأنا منزوي وحدي في قاع البئر. 

لم يكن بئرا, حفرة برميلية زرعتها بيدي, ميزتها عن بقية حفر الوحدة, وشيدتها على مزاجي,

كي تسعني وأنا مقرفص داخلها, بحيث تلامس فخذاي جدران بطني, وترتاح كرة رأسي أعلى ركبتي. يخال لعيني أن الحفرة المقبرة بدلتها رحما, ثم أشرد.

الطلقات التي تصفر من فوقى, والدانات التي تدوي من حولي, لا أعرها اهتماما. اعلم أن الفأر يرفض الأسر وهو داخل المصيدة, بينما يبقى ساكنا أسيرا لو التقط أنفاس قطة أمامه في الضياع الواسعة والجبال الممتدة. اجىء بحبيبتي أسألها واسأل نفسي:"لماذا غدرت بي؟!"

كان يمكنها التصرف بكياسة  وذكاء أفضل مما فعلت. لو أخبرتني أنها ما عادت تحبني لأنني ممل وسخيف, فما كنت أتحدث سوى عن المعارك والعمليات الحربية التي شاركت فيها, وقتلت أحدهم لا أعرفه.. وعن حياة "الملجأ" أو "قفص القرد" الذي يضمني وخمسة من رفقاء الوحدة, أعيد على مسامعها النكات القبيحة التي أضحكتنا ولا تضحكها, وعن "الجراية" و"الطبخة السوداء" أو الخبز والباذنجان التي تكرهها, وعن موت رفيق وقد تمزق جسده إربا.

لو أخبرتني في تلك الأيام بصراحة: أنت لا تتحدث عن الحب والعشق, أين أنت من تفاحتي؟ فلا تشهيني ولا أنا شهية, كما كل العشاق الكذابين. آه لو قالت.. كنت عاتبت غباء رأسي, وارتحت.

كنت أفضل لو قابلتني غاضبة لأتفه الأسباب, ثم تتهمني بسؤ معاملتها..أكيد كنت سأرد عليها, وأسبها :"يا مفترية!!", ثم أفرغ لنفسي , والعن فقرى وقلة حيلتي.. لأنني أكتفي بكيس الترمس والفول المسلوق المملح ونحن خلف سور كورنيش النيل, بينما على بعد خطوات سور كازينو فخم ومريح.

كلما طالت أيام المعارك, اشتد أزيز الطائرات فوق رأسي, ودوى الدانات من حولي, فلم أعد أستطيع الإجابة على سؤال تلبسني: من أي الجيشين سيأتي الموت؟ و زاد بقائي مع حبيبتي في البئر, اقصد الحفرة. 

ذات مرة, غلبتني أحوال الحرب, فلم تجالسني حبيبتي في البئر, وعلى الرغم أنني أقسمت لها, وأخبرتها بكل التفاصيل.. أنها المرة الوحيدة التي نسيتك فيها, شغلتني روحي المعرضة للقبض أكثر, اتهمتني بأنني أناني, ولم تحضر في المرات التالية, حتى عندما ذهبت إلى مجلسنا خلف سور كورنيش النيل في الإجازة الميدانية !

لم تكتفي بما فعلت, عامدة متعمدة تهبط من السيارة الفارهة  , أمامي والى جوار أحدهم, يتجهان إلى الكازينو الفخم المريح. أيا من يكون ..حبيبها, خطيبها, عشيقها الداعر, لا تهمني صفته!

وقفت منتبها في صمت, لم تبد اهتماما, تابعت حديثها الذي لم أسمعه, دخلا الكازينو إذن...

كنت في عجلة من أمري, غدا آخر أيامي في الجندية, وسوف أنهى علاقتي بها بتسليم "مخلتى" القماش بكل العهدة.

وقف وسط رفقاء الوحدة الملاعين أمام "الزفتاوى". لو كنت جربت الجندية, تقدر أنني أصفه لك بأنه أهم شخصية يمكن أن تقابلها في حياتك. كما أنه بالفعل هكذا..هاما. الجميع يصيحون باسمه.."يا زفتاوى جهزت كشوف الأسماء", "يا امباشى زفتاوى اجمع الناس , وابدأ حالا", " يا حضرة الصول زفتاوى أنا تحت أمرك"..الآن تستطيع أن تفهم أن رؤسائه من الضباط والصولات يعملون باسمه, والمسرحين من زملائي ينافقونه.

فلما جاء دوري, نهرني: "أين البطانية الصوفية يا عسكري؟؟"

بهدؤ مبتسم أخبرته أنني فقدتها بسبب المعارك, وطول فترة تجنيدي, وأن الحرب هي السبب. لم يبتسم, فتابعت بسرعة قبل أن يصدر حكمه, قلت: "يكفى أنك لو وضعتها أمام عينيك, حتما سترى ما خلفها" وضحكت, لكنه لم يضحك. أعطاني درسا بليغا في المسئولية العسكرية, ودلالة كلمة "عهدة" التي هي في مقام الروح والجسد..أحافظ عليها , ولا أهملها مهما كانت الأحداث.

زملائي الملاعين , شاركوه السب واللعنات, وافقوه على عسكريتي الخائبة, وإهمالي في العهدة أثناء زمن الحرب. احترت, كل هذا بسبب تلك البطانية الصغيرة الصوفية البالية. لم أتابع ما قيل وما حدث..لكنني متأكد الآن أن الشاويش أو حضرة الصول "زفتاوى" دخل إلى حجرة الضابط ولم يخرج.. كأن شيئا لم يحدث, كن شيئا لم يكن!!

 

أما وقد انتهى الصامت من ثرثرته فجأة, لا تجد حافزا لأن تسأله..إذا ما كان سلم مخلته أم لا؟ ولا حيلة أمامك لأن تجعله يعاود الحديث, وقد عاد إلى صمته, وتأمله لحذائه. لكن حتما ستسمعه يقول: عادى..كأن شيئا لم يحدث, ولم يكن؟!!

 

أضيفت في 06/02/2005/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية