أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: محمد محيي الدين مينو-الإمارات العربية المتحدة

       
       
       

فنّ القصّة القصيرة

الغوّاصون السبعة-قصة أطفال

   

يوم تعرّى النهر-قصص

معجم القاصّين العرب

   

مملكة الكراسي الخشبية-قصص

تعاريف للقصّة القصيرة

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

-من مواليد مدينة حمص في سورية 4/ 7/ 1956.

-حصل من جامعة دمشق على إجازة في اللغة العربيّة وآدابها 1980، ودبلوم الدراسات الأدبيّة 1981، وماجستير في الآداب 1988.

-عمل معلّماً ومدرّساً فمعيداً في قسم اللغة العربيّة وآدابها في كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة البعث في حمص، ومنذ عام 1992 عمل مدرّساً للغة العربيّة في إحدى مدارس دبيّ الثانويّة، ثمّ تحوّل عام 2007 إلى موجّه للغة العربيّة في منطقة الشارقة التعليميّة.

-نال جائزة مجلس مدينة حمص الأولى للقصّة القصيرة 1998، وجائزة غانم غباش الأولى للقصّة القصيرة 1998 والتقديريّة 2001، وجائزة قصّة الطفل العربيّ الثانية 1999.

-عضو اتّحاد كتّاب وأدباء الإمارات.

 

أعماله:

-الدائرة: قصص قصيرة، المطبعة الحديثة في حماة 1981.

-العالم للجميع: قصص للأطفال، مطبعة ابن الوليد في حمص 1995.

-شعر عمرو بن أحمر الباهليّ: دراسة وتحقيق، دار الجيل في بيروت 1999.

-أوراق عبد الجبّار الفارس الخاسرة: قصص قصيرة، اتحاد الكتّاب العرب في دمشق 1999.

-قصّة الطفل العربيّ : دراسة ( مشترك )، الهيئة العليا لقصّة الطفل العربيّ في أبو ظبي 1999.

-الغوّاصون السبعة: قصّة طويلة للأطفال، الهيئة العليا لقصّة الطفل العربيّ في أبوظبي 1999.

-فنّ القصّة القصيرة: مقاربات أولى، منطقة دبي التعليميّة، الطبعة الأولى 2000 والطبعة الثانية 2007.

-مملكة الكراسي الخشبيّة: قصص للأطفال، اتحاد الكتّاب العرب في دمشق 2001.

-معجم الإملاء: منطقة دبيّ التعليميّة، الطبعة الأولى 2002 والطبعة الثانية 2007.

-عمرو بن أحمر الباهليّ: حياته وشعره، مدرسة الإمام مالك الثانويّة في دبيّ 2003.

 

تجارب جديدة في القصّة السوريّة القصيرة:

-الجزء الأوّل: عالم عبد الحليم يوسف التعبيريّ، دار ملهم في حمص 2004. 

-الجزء الثاني: عالم خطيب بدلة السرديّ، دار ملهم في حمص 2005.

-كتب اللغة العربيّة للصف الرابع الابتدائيّ ( مشترك )، ط 1، وزارة التربية والتعليم في الإمارات 2006 / 2007.

-كتب اللغة العربيّة للصف الخامس الابتدائيّ ( مشترك )، ط 1، وزارة التربية والتعليم في الإمارات 2007 / 2008.

-القصّة القصيرة في الإمارات: الأصوات الجديدة ( مشترك )، ط 1، دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة 2006.

-يوم تعرّى النهر: قصص قصيرة، اتحاد الكتّاب العرب في دمشق 2008.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

أحزان إبراهيم الدرويش الدامية

الرأس المقطوع

ما حدث ليوسف

 يوم تعرى النهر

الجرذان

 

 

 

 

 

 

يوم تعرّى النهر

 

ابني الحبيب حسن..‏

 

جارتنا أمّ جواد رأت صورتك البارحة في (الجزيرة)، رأت مجنّدةً أمريكانيّةً شقراء تجرّك وراءها بالحبل مثل كلب سَلوقيّ عارياً مثلما ولدتك بين يدي خالتي الزهراء التي راحت تزغرد قبل أن تقطع حبل السُّرّة، فاجتمع أهل الكاظميّة كلّهم على زغردتها المعهودة، ورأوك عارياً. أبوك ـ رحمه الله ورحم أموات المسلمين ـ سرعان ما كبّر في أذنيك عالياً، وفَرَج بين ساقيك الطريّتين أمام الرجال، وقال لأبي هاشم الختّان:‏

 

ـ "أنا اليوم أبو حسن لا أبو فطّوم، يا أبا هاشم".‏

 

فقال له بصوت أجشّ، وهو يهدّئ من روعه:‏

 

ـ "اصبر سبعة أيّام على الأقلّ حتّى يجمُد لحم الوليد قليلاً".‏

 

طارت يومئذ حمامتك الصغيرة، طارت في سربٍ من الحمائم طويلٍ، وحلّقت بعيداً، وكلّما لمحتُ حمامةً بيضاء في السماء قلت لأبيك: "هذه هي حمامة حسن"، ولكنني منذ دخل الأمريكان بغداد لم أر حماماً، ولم أسمع هديلاً. الأمريكان هم الأمريكان، والإنكليز هم الإنكليز، وأنا لا أفرّق بين الكلب والخنزير ولا بين غوانتنامو وأبو غريب.. أنا لم أخفْ يوماً من صدّام حسين ولا من علي الكيماويّ حتّى أخاف من هؤلاء الكلاب والخنازير.. أنا لا أعرف الخوف إلاّ عليك، يا حسن.‏

 

حين فتح أبو هاشم الختّان حقيبته الجلديّة السوداء رجاه أبوك ـ رحمه الله ـ أن يشحذ الموسى جيّداً، وأن يرأف بحمامتك، وأهل الكاظميّة يتحلّقون حولك رجالاً ونساءً، وهم يكبّرون عالياً، ولكنّ أبا هاشم لم يلتفت إلى دموع أبيك الساخنة إلاّ عندما فَرَج بين ساقيك المرتجفتين، وقال له متحديّاً:‏

 

ـ "امسكْ ساقي ابنك، إن كنت رجلاً".‏

 

أغمض أبوك عينيه، وراح يبكي بكاءً مريراً. لم أر أباك يبكي مثل هذا البكاء إلاّ يوم دخل الأمريكان بغداد، وأحرقوا بيوتها ومساجدها ووزاراتها ومصارفها ومتاحفها وجامعاتها ومكتباتها ومسارحها وأضرحتها وأشجارها وقصائدها ونهرها وقلوب أهلها.. عاد أبوك في ذلك اليوم مهاناً كخريف ذابل مكسوراً كرمح، يسعل سعالاً حادّاً، ويعلو الدم وجهه وثيابه الممزّقة، فلا يكاد يرى طريقه.‏

 

نام أبوك ـ رحمه الله ـ ليلته، وفي الصباح لم يستيقظ.‏

 

ذهبت إلى بيت جارتنا أمّ جواد، وأنا أتلمّس الطريق بعصاي الخشبيّة، ورحت أنتظر أن تعيد (الجزيرة) من جديد صورتك، ولكنني لم أستطع أن أراها جيّداً، لأنّ المياه الزرقاء قد أتت على عينيّ واحدةً تلو الأخرى، ولأنّ تلفزيون أمّ جواد صغير، لا ترى فيه الأمريكان إلاّ مثل الجراد أو مثل النمل الأبيض. قرّبت أمّ جواد التلفزيون الملوّن من وجهي، والدمع يترقرق في عينيّ، فرحت أتلمّس جسمك العاري بأصابعي المرتجفة، وكأنك ما زلت صغيراً في القماط، لكنّ تلك المجنّدة الأمريكانيّة الفاجرة ليندي إنجلاند نهرتني، وصرخت في وجهي، وكأنّك كلبها الحقيقيّ.‏

 

هذه المرأة الشقراء تحسبنا مثل الزنوج أو مثل الهنود الحمر، ويحسبنا سيّدها في البيت الأبيض عبيداً له ولأبيه من قبله، هذه المرأة لو عرفت رجلاً مثلك لعرفت معنى الرجولة، ولكنّها لم تعرف إلاّ الكلاب ولحم الخنزير والهمبرغر والبترول ومايكل جاكسون وصديقها العريف تشارلز جرانر.. أنت لا تعرف هؤلاء النساء، ولا تعرف من ليندي إنجلاند إلاّ اسمها، حتّى تنحني لها، ولا تعرف من أمريكا إلاّ كلاي، تصفّق له، وهو ينقضّ على غريمه بقبضته الفولاذيّة التي لن تكون يوماً أقوى من قبضتك، ولكنّك لا ترضى أن تضرب امرأةً مثل ليندي إنجلاند.‏

 

 

يا لطيف، يا حسن، يا لطيف، أُلطفْ ببناتنا وبنات المسلمين.‏

 

عادت ليندي إنجلاند إلى أهلها في ولاية فرجينيا، وهي حامل، لا تعرف لابنها أباً، ولا تحمل من ذكرياتها الكثيرة في بغداد إلاّ الحبل الذي جرّتك به مثل كلب سلوقيّ. وبعد شهور لن تنجب هذه الأمريكانيّة الفاجرة إلاّ كلباً، ربّما ترأف به أكثر ممّا ترأف بك، ولكنّه سيعوي يوماً في وجهها، ويتركها وحيدةً كأيّ أم أمريكانيّة.‏

 

لم يغمض البارحة لي جفن، وصورتك تتراءى أمام عينيّ عارياً مهاناً ذليلاً مثل كلب، وأنت منذ كنت صغيراً تكره الكلاب والخنازير، تكره أن تتعرّى، وأنت تسبح في دجلة، وأهل بغداد لا يخجلون من دجلة. كان أولاد الكاظميّة جميعهم يخلعون ثيابهم الرثّة، ويرمونها على ضفّة النهر، ويسبحون عراةً، لا يسترهم إلاّ الماء، وكنت تأتي إلى البيت مبلولاً مثل قطط الشتاء، وأنت ترتجف من البرد والخوف.‏

 

كان في أعلى جدار غرفة النوم حمامة تهدل هديلاً حزيناً، فلم أشأ طوال الليل أن أحرّك ساكناً، حتّى لا تهرب من مخبئها، وتكون هدفاً للأمريكان الذين لم يتركوا حمامةً في سماء بغداد إلاّ أطلقوا النار عليها. وأنا ـ كما تعرف ـ أحبّ الحمام الأبيض منذ رحت تطلق صرختك الأولى، وأنت بين يدي أبي هاشم الختّان، يفرج بين ساقيك المرتجفتين، فتطير من بينهما في غمضة عين حمامة بيضاء.‏

 

في الصباح تلفّعت بملاءتي السوداء، ورحت أتلمّس الطريق إلى أبو غريب، وأنا أعرف الطريق إليه منذ كان أبوك أحد نزلائه يوماً، لكنّه خرج بعد خمس سنوات، وهو مكسور الظهر، لأنّ تهمة الانتساب إلى الحزب الشيوعيّ المحظور لم تثبت عليه، لكنّهم سرعان ما طردوه من وظيفته في وزارة الثقافة، فراح يبيع الكتب المستعملة في شارع المتنبيّ. حين وصلت السجن وجدت كثيراً من النساء الثكالى الملفّعات مثلي بالملاءات السوداء، وهنّ يبكين أولادهنّ وأزواجهنّ، ويسألن عنهم كلّ من يخرج من بوّابته الكبيرة.‏

 

سامح الله جارتنا أمّ جواد، لم تقل لي: إنّ هناك عراةً آخرين من رجال بغداد، كانت أمهاتهنّ يحملن صورهم، ويلوّحن بها في وجوه الجنود الأمريكان الذين كانوا يرتعدون منها كالجرذان، فيطلقون الرصاص في الهواء كالمطر. ولمّا لم يسمح لنا هؤلاء الجنود الأوغاد بزيارتكم لجأنا إلى جمعية الهلال الأحمر القريبة، وكتبت كلّ امرأة منّا بدموعها الساخنة رسالتها إلى ابنها أو إلى زوجها، فلعلّ رسائلنا تصل إليكم.‏

 

في طريقنا إلى الجمعية كان الجنود الأمريكان مازالوا يطلقون الرصاص، وكان ثمّة سربٌ من الحمائم طويلٌ، يعبر سماء سجن أبو غريب، وما هي إلاّ لحظات حتّى هوت أمام عينيّ حمامة بيضاء، تتضرّج بدمائها، وتهدل هديلاً حزيناً، ينفطر لها ـ يا بنيّ ـ قلب الصخر.‏

 

حملت الحمامة بيديّ المرتجفتين، وقلت للنساء الملفّعات مثلي بالملاءات السوداء:‏

 

ـ "هذه هي حمامة حسن".‏

 

 

ما حدث ليوسف

 

كالعنكبوت كان يتدلى من سقف الغرفة!‏

 

دخلت أمه في ذلك المساء الأسود غرفته، وألقت كعادتها نظرة على سريره، فراعتها وسادته التي تناثرت أحشاؤها في أرجاء الغرفة، واصطبغت بلون الدم، وكأن جريمة ارتكبت هنا الليلة. كتمت صرخاتها المتدفقة، وتمالكت أعصابها، وحين همت بالخروج من الباب لاحظت أن صورته المعلقة على الجدار قد تهشمت شظايا، حتى لم يبد من ملامح وجهه سوى عينين غائرتين، تترقرق في محجريهما دموع وحزن مريع. أجهشت أمه بالبكاء، وراحت ترقأ بيديها المرتجفتين دموعه الساخنة التي كانت تنساب على الجدار كنهر جارف.‏

 

من أعلى سقف الغرفة كان ينظر إليها نظرة حزن وأسى، ولكنه كان يحاول أن يكتم أنفاسه اللاهثة، ويحاذر أن يقوم بأي حركة، حتى لا تراه على هذه الحال الشنيعة. كان يعرف أنها تتقزز من العناكب، وترجو من أبيه أن يعسفها من أسقف البيت بالمكنسة، وكانت تلعن البيوت القديمة التي لا تجلب لأهلها إلا الفأل السيئ والعناكب والجرذان.. ولكنها منذ هوى أبوه من أعلى السلم يوماً لم ترفع رأسها إلى سقف، ولو نخر مساميكه الدود. كان يظن أنه كجبل فولاذي لا يهوي، ولا يلين، مهما زلزلته الأيام، ومهما عصفت برأسه الرياح.‏

 

حزن على حالها أشد الحزن، وراح يراقبها، وهي تبحث عنه، وتلملم ما تكسر من صورته وما تناثر من وسادته الدامية.. فكر أن يطمئنها على وجوده في الغرفة، ولكنه اكتشف أول وهلة أنه فقد صوته، وكأن أباه ليلة البارحة قد ألقمه حجراً، فأخرسه، وشل أطرافه، فلم يقو على الحركة، لكنه في منتصف الليل تحامل على نفسه، وزحف كالعنكبوت إلى أعلى الجدار، وهو يجر قدميه المشلولتين جراً، ويلهث لهاثاً مسموعاً.. تمنى أن يكون ما رآه وأحس به ليس سوى حلم من أحلامه المروعة، فأبوه ما زال مُقعداً في فراشه، لا يقوى على الحركة ولا على الشجار،‏

 

وصورته ما زالت معلقة على الجدار، تحتفظ بوجهها الزجاجي. تلمس جسده، فأحس أنه نحيل وأزغب، وتململ في مكانه، فشعر أن أطرافه قد استطالت كأرجل العناكب.‏

 

قال في سره مستغرباً:‏

 

-"كان أبي يرفع يديه إلى السماء، ويرجو الله أن يمسخني قرداً لا عنكبوتاً!".‏

 

لم تكن كلمة (أبي) تجري على لسانه منذ حرك قدميه أول مرة، فاكتشف أنهما مشلولتان، لا تقويان على حمله، ولم يكن أمامه إلا أن يتكئ على أمه أو على أحد أخوته، ولكنهم سرعان ما أخذوا يتذمرون منه، ويعيرونه بعاهته، حتى قرر أن ينزوي في غرفته، فلا يخرج منها إلا إلى القبر. كان أبوه يريده منذ صغره أن يقف على قدميه كالرمح، ولكنه حين رآه كحشرة زاحفة اتقد الغضب بين أضلاعه حقداً ضارياً عليه وعلى أمه، وكان كلما رمقه ببصره انتابه شعور بالذنب والخوف، وإذا سمع صوته الأجش ارتجف هلعاً كطائر ذبيح.‏

 

تناساه أبوه وأخوته الأربعة..‏

 

تناساه النهار وقطه الهزيل الجائع..‏

 

تناساه عكازه الخشبي..‏

 

تناساه معطفه الدافئ..‏

 

تناساه وجهه، وتنكر له، حتى إذا نظر يوماً في المرآة حار بصره، وارتاب في ملامحه وراح يسأل نفسه في بؤس ويأس: "من أنا؟"، وحين لم يجد جواباً جمع قبضته، وهوى بها على المرآة، حتى تحطمت، وتناثرت شظايا ووجوهاً شوهاء كوجه أبيه وأخوته الأربعة.. ومنذ ذلك اليوم نسي وجهه، ونسي اسمه واسم أبيه وأخوته.. ولكنه لم ينس وجه أمه، وهي تقبل جبينه كل صباح، وتمسح على رأسه اللاهب يديها المعروقتين.‏

 

بعد أن خرجت من الغرفة بهدوء، وهي تنشج نشيجاً متقطعاً، حاول أن ينزل من أعلى السقف: اطلع إلى الأرض، فرآها هوة بلا قرار، تعلوها خيوط لامعة متشابكة.. وما إن حرك أحد أطرافه حتى أفزعته أرجله المتعددة، وأيقن أن حقيقته البائسة ليست حلماً ولا كابوساً.. حرك أرجله، وراح يجر جسده الهزيل نحو النافذة المغلقة منذ زمن طويل، فقد كان يشعر بالاختناق، وكان يخيل إليه من خوفه الشديد أن السماء استجابت حقاً لدعاء أبيه عليه، والسماء لا تفتح أبوابها أيام الشدة إلا للآباء المتجهمين القساة..‏

 

تناهى إلى سمعه وقع أقدام كثيرة تقترب من غرفته، فأوجس منها خيفة، وكتم أنفاسه اللاهثة، حتى كاد يختنق.. وما إن ركل أحدهم الباب بقدمه حتى انفتح على مصراعيه، فاندفع أخوته، وأخذوا يتوزعون أثاثها بينهم، وهو ينظر إليهم في حسرة وأسى، حتى لم يبق منه إلا صورته المعلقة على الجدار وعكازه الخشبي المركون في إحدى الزوايا منذ زمن بعيد. ولما انتهوا راحوا‏

 

يسددون سهامهم الدامية إلى وجهه في الصورة، فانبجس الدم من أنفه وعينيه المذهولتين، وسال على الجدار، حتى غطى الأرض.‏

 

راعه ما فعله أخوته الأعداء به، فتجمد في مكانه في ذل وانكسار، وخيل إليه أنهم لو اكتشفوا حقيقته المرة لأتوا عليه بمعسفة أبيهم، وداسوه بأقدامهم، فأطبق عينيه المذعورتين، وانزوى خلف خيوطه اللامعة المتشابكة، وهو يرتجف خوفاً وهلعاً.. ومن بعيد سمع أحدهم يقول لآخر في صلف وحقد:‏

 

-"لم يبق منه إلا عكازه الخشبي".‏

 

وقال الآخر، وهو يتنهد بارتياح غامر:‏

 

-"سنتكئ عليه في شيخوختنا".‏

 

وقال الثالث مستهزئاً:‏

 

-"لا نريد شيئاً يذكرنا به".‏

 

وقال الرابع ساخراً:‏

 

-"احفظوا ذكرى أخيكم الصغير يوسف".‏

 

ولما رجعت الأم إلى غرفته من جديد، تناهى إلى سمعها لغط شديد، ينبعث منها، فتوقفت على الباب هنيهة، تسترق السمع، ولكنها لم تفهم ما يحدث فيها، فارتدت إلى الوراء، وتريثت في الدخول قليلاً، وحين تعالت الأصوات، فتحت الباب، ودلفت إلى الداخل، فراعها أن أولادها الأربعة مسخوا بين ليلة وضحاها قروداً هوجاء، أخذت تحطم كل ما وقعت عليه. وما إن لمحها أحدهم حتى هاجمها بلا اكتراث، فانطلقت من أعماقها صرخة حادة، وهوت على الأرض جثة هامدة.‏

 

في تلك اللحظة فتح عينيه، فرأى من بعيد شمساً توشك أن تأفل، وهي تغمر وجهه الشاحب بصفرة الموت. لف على عنقه خيطاً لامعاً، وراح حثيثاً يتدلى كالعنكبوت من أعلى السقف.‏

دبي في 28/9/2001‏

 

 

الرأس المقطوع

 

بلا رأس ألقوا جثّته على قارعة الطّريق ! .

ما إن غادرت سيّارة الجيب الخضراء حارة الميدان حتّى تجرّأ أهلها على الاقتراب من الجثّة ، وكتموا صرخاتهم في نفوسهم ، وهم يتلمّسون رؤوسهم المترنّحة ، يخشون أن تتدحرج على الأرض ، وكأنّ الخوف سيف مسلّط على رقابهم جميعاً . كان للجدران آنذاك عيون وآذان ، وكان ثمّة سجون وجلاّدون وأحكام جائرة .. وكان أهل الحارة قد اعتادوا أن تمرّ تلك السّيارة الخضراء بأزقّتهم الضّيّقة ، وتطلق بين الفينة والأخرى صفيرها المروّع ، وهي تغصّ برجال متجهّمي الوجوه ، لا ملامح لهم ولا أسارير ..

سأل أحدهم بارتياب :

ـ " كيف سنعرف صاحب الجثّة ؟ أهو فيصل الصّابوني المعتقل منذ تسع سنوات أم منصور بن أشرف النّحّاس الّذي قبض عليه منذ أيّام ؟ " .

فأجاب آخر ، وهو يمسك رأسه بيديه المرتجفتين :

ـ " الصّابوني محكوم بالسّجن لا بالإعدام ، وابن النّحّاس لصّ ، لا علاقة له بحزب ولا سياسة " .

وبينما راح بعض الرّجال يقلبون الجثّة على ظهرها كانت زوجة فيصل الصّابوني تعوّل عالياً ، وتندفع باتّجاهها ، فيمسك أحدهم بملاءتها ، ويدفعها بعنف إلى الوراء ، فتقع أرضاً .. وكانت أمّ منصور النّحّاس ثكلى ، تلطم خدّيها ، وكأنّ الجثّة هي جثّة ابنها الوحيد منصور الّذي لم يترك بيتاً من بيوت حارة الميدان إلاّ دخله في وضح النّهار ، حتّى روّع أهلها ، وأقضّ مضجعهم . ومنذ أيّام قلائل نزل دار رئيس مخفر الميدان الملازم صالح الدّقّة ليلاً ، ولكنّه لم يسرق منه شيئاً ، فأقسم رئيس المخفر ألاّ يغمض له جفن الليلةَ إلاّ بعد أن يلقي القبض عليه ، حتّى تبلى عظامه في السّجن ، ويريح الحارة وأهلها من شروره ، فباغته ، وهو سكران ، وألقى رجاله الأشدّاء القبض عليه .

حين قلب الرّجال الجثّة على ظهرها وقفوا واجمين حائرين ، ولمحوا رقماً ، لم يستطيعوا أن يحدّدوه ، لأنّ الدّم غطّى الجثّة ، فلم يبد منها إلاّ جورب أسود وسروال مخطّط كسراويل السّجناء ، ولكنّهم سرعان ما أدركوا أنّ هذا الرّقم ـ مهما كانت قيمته ـ لن يكشف لهم الوجه الحقيقيّ لصاحب الجثّة الّذي لن يكون سوى رجل غريب من حيّ آخر ، أخطأت سيّارة الجيب الخضراء برميه في حارتهم المنكوبة ، وحارة الميدان وسط المدينة ، لا تخفى عن عيون أحد بيوتُها وأزقّتها الضّيّقة وأولادها ذوو الوجوه الصّفراء .

صرخت زوجة فيصل الصّابوني في وجوه أهل الحارة المتجمهرين حول الجثّة ، وهي تندفع نحوها من جديد :

ـ " أنا أعرَف النّاس بزوجي ، ابتعدوا ، ابتعدوا قليلاً " .

سألها أحدهم بيأس واستغراب ، وهو يفسح لها الطّريق بيديه :

ـ " كيف ستعرفين رجلاً بلا رأس ؟! " .

فقالت بصوت متهدّج :

ـ " الزّوجة أدرى بزوجها " .

انكفأ الرّجال بقلوب واجفة عن المرأة ، ومالوا بوجوههم المتغضّنة عنها ، وهي تنحني على الجثّة ، تقلّب أطرافها برفق ، وتقبّل كفّيها ، وتمسح على عنقها المقطوع وصدرها الدّامي يديها المعروقتين ، ثمّ تكشف طرف السّروال الممزّق ، وكأنّها تبحث عن أثر ما في الكتف ، وحين لا تقع على شيء تنهض من مكانها ، وترتدّ إلى الوراء ذاهلةً مهيضة الظّهر ، تنتظر على قارعة الطّريق أن يعود زوجها ، ولكنّه لم يعد ، ولو جثّةً هامدةً بلا رأس .

حين همّ هؤلاء الرّجال بحمل الجثّة الّتي أخذت تنبعث منها رائحة الموت الزّكيّة ، اندفعت نحوها أمّ منصور ، ترجوهم أن تلقي نظرةً خاطفةً عليها ، فدفعها بعضهم إلى الوراء ، وأشار عليها أحدهم أن تذهب إلى مخفر الحارة ، لترى ابنها هناك قبل أن يرحّل إلى السّجن المركزيّ ، فاطمأنّت أمّ منصور قليلاً ، وتلفّعت بملاءتها السّوداء جيدّاً ، وهي تشيّع بعينين دامعتين الرّجال الّذين حملوا الجثّة على عارضة خشبيّة باتّجاه المقبرة الحيطة ببيوتهم .

عند دخولهم المقبرة رأوا أوّل وهلة حمامةً بيضاء ، راحت تحوم فوق الجثّة المجهولة ، وهي تهدل هديلاً حزيناً ، انفطرت له قلوبهم الواجفة ، فلم يخلعوا عن صاحبها ملابسه الدّامية ، ولم يصلّوا عليه صلاة الجنازة ، ولم يكتبوا على قبره اسماً ولا تاريخاً .. وحين خرجوا من المقبرة رأوا الحمامة ترفرف بجناحيها بعيداً ، وتحلّق في سربٍ من الحمائم طويلٍ .

في الصّباح ..

في صباح اليوم التّالي استيقظت حارة الميدان على عويل زوجة مصطفى الصّابونيّ وصراخ أولادها ، فخرج أهلها من بيوتهم متوجّسين ، ولمحوا من بعيد سيّارة جيب خضراء ، تنطلق مسرعةً باتّجاه مخفر الميدان .

دبيّ في 3 / 2 / 2003

 

 

أحزان إبراهيم الّدرويش الدّامية

 

 

قبل أن يُلحد إبراهيم الدّرويش رفع رأسه قليلاً ، وأمعن في وجوه الرّجال الّذين حملوه إلى المقبرة توّاً ، فلمح بينهم س . فرزات رجل المبـاحث الّذي ما زال يتستر وراء وظيفة ( مختار الحارة ) ، وهو يهيل عليه التّراب بيديه المرتجفتين الدّاميتين ، ويبكي بكاءً مرّاً ، أدمى قلوب هؤلاء الرّجال ، فراحوا يواسونه ، وكأنّه واحد من أهل القتيل .

قال إبراهيم في سرّه ، وهو ينظر في عيني سليمان المذعورتين :

ـ " دمي ـ يا بن فرزات ـ لن يذهب هدراً ، وهذا الأنـف الأفطس سيلقى يوماً من يمرّغه في التّراب " .

وحين رفع رأسه أكثر ، لفتت النّاسَ حركته ، فولّوا مدبرين ، وهم بين مصدّق ومكذّب ، والمقبرةُ مقفرة إلاّ من قهقهات حارسها الشّيخ سميح الّتي تعالت في أرجائها ، وكأنّها نعيب غراب . تململ إبراهيم في كفنه ، وأخذ يفكّ وَثاق يديه ورجليه ، ليخرج من لحده الضّيّق كزنزانة ، ويثأر لدمه الّذي أهرقه س . فرزات ، وهو في غرفة التّحقيق ، يريد أن ينتزع منه بالسّوط اعترافاً بالانتساب إلى حزب محظور .

اقترب الشّيخ سميح ـ وهو مازال يقهقه ـ من القبر المفتوح بخطى متّئدة ، وأشرف على جوفه السّحيق ، ولمّا رأى إبراهيم الدّرويش الّذي صلّى على جثمانه قبيل قليل ، يخرج من كفنه عارياً ، وينفض الغبار عن وجهه ، تجمّد الدّم في عروقه ، ولكنّ إبراهيم هدّأ من روعه ، وبادره قائلاً :

ـ " لا أريد أن أموت قبل أن أثأر لدمي ، لا أريد لأولادي أن يلوّثوا أيديهم بدم ابن فرزات ، ويقضوا عمرهم مثل أبيهم وراء القضبان " .

مدّ الشّيخ سميح إليه يديه المرتجفتين ، وساعده على الخروج من القبر ، ثمّ ستر عورته بكفنه ، وهو ما زال يرتعد ، وكأنّه في حلم من أحلامه الموحشة الّتي تتراءى له كلّ ليلة منذ أخذ يعمل حارس مقبرة ، ولكنّه تحامل ما رآه ، واندفع إلى إبراهيم يعانقه عناقاً حارّاً . كانت جراحه الغائرة ما تزال تنزف ، حتّى اصطبغ كفنه الأبيض بالدّم ، وكانت الشّمس حينئذ تأفل ، وتلفّ القبور بأكفان دامية ، تراءت للشّيخ سميح أنّها تنذر بقيامة أصحابها من أجداثهم .

قال له الشّيخ سميح في دهشة وأسى ، وهو يتلمّس جراحه النّازفة :

ـ " ابقَ الّليلة هنا ، فربّما ألقوا القبض عليك من جديد ، وزجّوك في السّجن " .

قال إبراهيم :

ـ " لن يهدأ لي بال ، حتّى أثأر من ابن فرزات " .

قال الشّيخ سميح ، وهو يشير بيده إلى المقبرة الّتي تعجّ بالقبور :

ـ " انظر ، هؤلاء هم ضحاياه ، وأنت لست الأوّل والأخير " .

أطرق إبراهيم رأسه ، وراح يجهش حزناً على أؤلئك الرّجال الّذين قضوا مثله تحت التّعذيب ، لا تهمةَ عليهم إلاّ الانتساب إلى حزب محظور ، قيل يوماً في التّحقيق معه : إنّه حزب رجعيّ ، وإبراهيم يقسم ـ والسّوطُ يلهب ظهره ـ أنّه لا يعرف من أمر هذا الحزب إلاّ اسمه ، ولكنّ س. فرزات رجل المباحث كان يواجهه في كلّ يوم بتقرير سرّيّ ، يؤكّد ضلوعه في مؤامرات الحزب ودسائسه ، ثمّ يضع في أذنيه ملاقطَ مكهربةً ، تجعل جسده ينتفض قليلاً ، ثمّ يسقط في دوار عنيف .

التفت أحد الجلاّدين إلى س. فرزات ، وقال له متعجّباً :

ـ " ابن الكلب لم يعترف بعد ! " .

قال س. ، وهو يكاد يتميّز من الغيظ :

ـ " لا تتركه الّليلة ، حتّى يعترف ، ولو كانت ليلتَه الأخيرة " .

هزّ الجلاّد رأسه ، وانحنى قليلاً ، ثمّ استدار إلى إبراهيم الدّرويش ، وهو يصدر أنيناً مكتوماً ، وراح يضربه بسوطه ضرباً مبرّحاً ، حتّى تفسّخ لحمه ، وجرى دمه على الأرض غزيراً ، وحين أحسّ الجلاّد أنّ حركته سرعان ما هدأت ، امتقع وجهه غيظاً وصَلَفاً ، وأخذت أطرافه ترتعد ، ولكنّ سليمان فرزات نهض من وراء طاولته ، وراح يربّت على كتفه ، ثمّ جرّه من يده إلى غرفة تحقيق أخرى ، وسوطه الأسود ما زال يقطر دماً .

تداعى إبراهيم على الأرض ، وكاد أن يسقط من جديد في القبر الّذي أعدّه له أبناؤه في جانب مقفر من جوانب المقبرة ، ولكنّ الشّيخ سميح تلقّفه من حافّتـه بيده ، ونفض الغبار عن وجهه وكفنه الدّامي ، ثمّ أسنده إلى ذراعه ، وسار به حثيثاً نحو باب المقبرة الّتي كانت تلفّها أكفان سوداء .

تحامل إبراهيم في مشيته ، وراح يجرّ جسده المتهالك صوب الحارة ، والشّيخ سميح يشيّعه بعينين دامعتين . كان الظّلام دامساً كوجه جلاّد ، وكانت الطّريق تبدو له كأفعوان أسود ، يعصب رأس الّليل ، كما كان س. فرزات يعصب رأسه بعصابة سوداء ، وهو تحت التّعذيب ، فلا يرى من وجوه جلاّديه إلاّ حقدهم الأعمى . الطّريق طويلة طويلة ، وإبراهيم منهك ، يكاد يسقط من الإعياء والأسى ، ولكنه كان في شوق عارم إلى الحريّة خارج جدران القبر وقضبان الزّنزانة ، وكان مصمّماً أن يقضي الّليلة في بيته ، فقد اشتاق إلى زوجته وأولاده الّذين لم يرهم منذ عشر سنوات ، ظنّها دهراً ، حتّى أخذ يعتقد أنّه لن يخرج من الزّنزانة إلاّ إلى القبر . في كلّ يوم كانت تلك الزّنزانة الضّيّقة تفقد واحداً من نزلائها المعتقلين الّذين كانت تغصّ بهم ، يُستدعى ليلةً إلى غرفة التّحقيق ، ثمّ لا يعود إليها أبداً ، حتّى لم يبق وراء قضبانها إلاّ إبراهيم الدّرويش .

حثّ خطاه ، حتّى وصل ناصية الحارة الّتي تغيّرت معالمها قليلاً ، ولكنّه استطاع أن يميّز بيته من بيوتها الأخرى بعد تلك السّنين الطّويلة ، وقبل أن يدلف إلى بوّابته تناهى إلى مسمعه لغط ، ينبعث من إحدى نوافذه المضاءة في هذا الوقت المتأخّر من الّليل ، فاستند إلى الجدار ، وأصاخ للأصوات الّتي أخذت تتعالى . كان كلّ واحد من أولاده الثّلاثة يريد أن يستأثر دون الآخر بأكبر نصيب من إرثه ، أحدهم أراد أن يبيع البيت بثمن بخس ، والآخر أراد أن يستولي على معاشه التّقاعديّ ، والثّالث أراد أن يطالب بحصّة أبيه من إرث جدّه ، وكانت الأمّ تصرخ في وجوه أولادها أنّها ستتبرّأ منهم ، وستغضب عليهم جميعاً ، إن هم حرموها من حصّتها الشّرعيّة ، وستتزوّج رجلاً من رجال الحارة الأشدّاء ، يوقفهم عند حدودهم ، ويضمن لها حياةً سعيدةً ، تعوّضها عن شبابها الّذي ضيّعته مع أبيهم

ارتاع إبراهيم ، وكأنّ وحوشاً تحاصره ، وتمزّق لحمه أشلاءً ، وكاد أن يسقط على الأرض جثّةً هامدةً ، لكنّه تماسك قليلاً ، واستند إلى الجدار ، يحاول أن يلتقط أنفاسه الّلاهثة ، ثمّ قفل عائداً إلى المقبرة ، يتلمّس طريقه المظلمة كسوط أسود . وحين رآه الشّيخ سميح يدخل المقبرة لاهثاً ، ويتّجـه من فوره إلى قبره ، استوقفه ، وسأله :

ـ " إلى أين ، يا إبراهيم ؟ " .

أجاب ، وهو مطرق الرّأس :

ـ " إلى القبر ، يا صديقي " .

قال الشّيخ سميح مستغرباً :

ـ " لا شيء هنا إلاّ الموت ! " .

قال إبراهيم بصوت متقطّع حزين :

ـ " ربّما كان الموت أرحم من الحياة ، يا شيخ سميح " .

قال الشّيخ متسائلاً :

ـ " لمن ستترك دمك المهدور ؟ لمن ستترك زوجتك الثّكلى وأولادك اليتامى ؟ " .

أجاب ، والأسى يعتصر قلبه :

ـ " ليس لي دم لدى أحد " .

طأطأ إبراهيم رأسه حزناً وأسىً ، ونزل قبره المفتوح ، وراح يهيل التّراب بيديه المرتجفتين على جسده الدّامي الّذي أخذ ينتفض كطائر ذبيح . وفي الصّباح جاء الشّيخ سميح القبرَ لاهثاً ، فألفى زوجة إبراهيم الدّرويش على قبره تجهش ، وهي تشقّ ثيابها السّوداء ، ووجد أولاده الثّلاثة ينتحبون .

 

 

الجرذان

 

لأمر ما حلق مختار الحارة شاربيه !

ضجّت الحارة بالضحك الخبيث ، وأخذ رجالها يفتلون شواربهم الكثة ، ويعقفونها كجناحي عُقاب ، والمختارُ يقسم أمامهم ألا علاقة البتّة لزوجته الجديدة ولا القديمة بهذا الأمر .

قال أحدهم بصوت حانق : " أين نداري وجوهنا من وجوه نساء الحارة ؟ خير لنا أن ندسّ وجوهنا في التراب ، ونحلق شواربنا جميعاً " .

وقال آخر بصوت مرتجف : " اقتربت الساعة ، وصار الرجال نساءً والنساء رجالاً " .

قرّر يومئذ أولئك الرجال أن يواجهوا المختار ، ويطلبوا منه أن يترك حارتهم وشأنها ، وما إن انصاع لطلبهم حتى أغارت طائرات الأعداء على الحارة ، فولّوا مدبرين ، وهم يرتعدون كالجرذان ، والمختار يضحك ملء شدقيه ، حتى يكاد يقلب على قفاه .

دبي في 18 / 1 / 2001

                                           

 

أضيفت في 15/11/2004/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية