فنّ القصّة
القصيرة
مقاربات أولى
المقدّمة
ظلّت القصّة القصيرة حتّى عهد
قريب عالةً على النقد الأدبيّ، وكأنّها فنّ هجين، لا نظريّةَ له، تتعامل
بوضوح مع معطياته ومنجزاته، فهي في منظورنا النقديّ التقليديّ حكايةFabula
فحسب، تستوي فيها مختلف أنواع السرد القصصيّ الأخرى من رواية وقصّة وخرافة
ونادرة ومقامة وأسطورة.. ولعلّ الطبيعة اللدِنة للقصّة القصيرة – وهي طبيعة
لا تستقرّ على شكل فنّيّ واحد – قد أسهمت في هذه البلبلة النقديّة، وربّما
أوقعتها في شَرَك الرواية وأهلها بطريقة أو بأخرى، وصار هؤلاء ينظرون إليها
نظرة صَغَار، ولا سيّما الناقد المجريّ جورج لوكاتش
Georg Lukacs
الذي عدّها شكلاً من الأشكال الملحميّة الثانويّةMinor
epic forms. وهذه النظرة
إلى القصّة القصيرة لا تكاد تختلف عن النظرة القديمة إلى القصّ عموماً، إذ
عدّه بعضهم – وهو ينظر إلى طبيعته الخلاّقة - بدعةً كاذبةً، وازدرى أهله،
واتّهمهم بالغفلة والحمق تارةً وبالضلالة والكذب تارةً أخرى.
لا شكّ في أنّ البناء الفنّيّ
للقصّة القصيرة يتميّز من البناء الفنّيّ للرواية، فلكلٍّ منهما تقنيّته،
ولكلٍّ منهما طبيعته ووظيفته، وإنّ اتّفقتا في العناصر، والتقتا في
الأهداف. وقد تنبّه بعضهم – ولا سيّما الكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بوEdgar
Allan Poe ( 1809 – 1852
) - إلى ضرورة تمييز هذه من تلك، فسعى إلى تقنين القصّة القصيرة كشكل فنّيّ
يخالف الرواية في بنائه وشكله وهدفه، ورأى أنّ قِصرها لا يعني روايةً
مبتورةً أو موجزةً، بل يعني نوعاً وشكلاً مختلفاً، ولكنّ نقدنا العربيّ
الحديث ظلّ يعامل القصّة القصيرة معاملةً مهينةً، وكأنّها سرد
Narration
فحسب، وراح يحلّل بناءها السرديّ أفقيّاً وعموديّاً، ويقلّبه على صفيح
ساخن، بل ينظر إلى عناصر البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة من خلال علاقة كلّ
منها بالسرد وحده، فإذا كنّا يوماً تحت سطوة الرواية ونقّادها، فنحن اليوم
أسرى السرد ونظرياته ونقّاده.
وهذه النظرة أحاديّة الجانب
لا تختلف عن نظرة أخرى، عانت منها القصّة القصيرة رَدْحاً من الزمان، وهي
النظرة إلى المضمون Content
وحده على حساب الشكل Form،
فراح أهل الواقعيّة Realism
يعملون مباضعهم في اتّجاهاتها الواقعيّة، وطفق أهل الرومانسيّة
Romanticism
يبحثون في أوصالها عن أوصاف الطبيعة وملامح البطل الرومانسيّ، وجعل هؤلاء
جميعاً يخلطون بين مصطلحاتها النقديّة وعناصرها الفنّيّة، فلا يميّزون
أركان الشكل من اتّجاهات المضمون ومذاهبه. ولا شكّ في أنّ مثل هذه
الاتّجاهات النقديّة المتعصّبة والمتشنّجة قد أثّرت في القصّة القصيرة
تأثيراً فادحاً، فخرجت عن مسارها الطبيعيّ كواقعة
Factإلى
أفكار مؤدلجة مسبقة الصنع، سيطرت عليها الرومانسيّة فترةً طويلةً، وطغت
عليها الواقعيّة فترةً أطول.
من هنا أخلصتُ للقصّة القصيرة
إخلاصاً كبيراً، ورحت بشغف أكتب عنها دارساً لا مؤرّخاً ولا ناقداً، وأسعى
ما وسعني الجهد إلى تخليصها ممّا لحق بها من الأدران، وما أحاق بها من ظلم
وخلاف واضعاً في الحسبان التقنيّة
Technicality
قبل أيّ اعتبار آخر، فلعلّني أستطيع أن أضع بين يدي أدبائنا الشباب
وطلاّبنا ومدرّسينا معاً حدوداً واضحة المعالم لهذا الفنّ اللدِن الذي لم
يستقلّ بعدُ بنظريّته ولا نقده، والذي ظلّ على المدى عرضةً للتطوّر، يحتاج
إلى رصد دائم واهتمام بالغ، وأنا لا أدّعي هنا أنّني قد استطعت أن أتخلّص
من براثن نقد الرواية وسلطة نقّادها، أو أنّني قد أتيت بما لم يأت به
الأوائل.
هي مجرّد مقاربات
Approaches
أولى، لا تؤسّس نظريّةً، ولا تبني قصوراً منيفةً، وإنّما تلملم أشلاء
مبعثرةً هنا وهناك برفق، افتقدناه طويلاً في علاقاتنا وحيواتنا. والقصّة
القصيرة وجهنا الحقيقيّ الذي نحاول دائماً أن نخفيه بمختلف الوسائل عن
الأعين والألسن معاً، وكأنّها مرآة حقيقيّة، تتناثر عليها تناقضاتنا
الصارخة وخفايانا الفاضحة.
هي محاولة ذات صبغة تعليميّة
إلى حدّ ما، تتوجّه إلى المتعلّم لا إلى الخبير، وتحلّل البناء الفنّيّ
للقصّة القصيرة عنصراً عنصراً مركّزةً على المصطلحات النقديّة والمفاهيم
الأدبيّة، وتسعى أن تعطي فكرةً موجزةً عن جذور هذا الفنّ في تراثنا العربيّ
وفي أدبنا الحديث من غير إفراط ولا تفريط، وجرّبت أن تدخل مخبر الكتابة،
لتحلّل قصّةً، وتكتب أخرى، وذلك بأسلوب بسيط يسير، لأنّ مثل هذا الأسلوب
التعليميّ نادر وشاقّ، ولو بحثنا في مكتبتنا العربيّة عن كتب من هذا الباب
لما تجاوز عددها أصابع اليد الواحدة. والقصّ ليس موهبةً فحسب، وإنّما هو
نظام، وإن كانت قوانين هذا النظام ليست صارمةً كقوانين الفيزياء، فإذا لم
يصقُل القاصّ موهبته بمعرفة أصول القصّة القصيرة وقواعدها، ولم يثقّفها
بالقراءة والاطّلاع، تعثّرت تجربته، وتوقّفت في خطواتها الأولى.
أشكر أخيراً لأخي الأستاذ
الفاضل الدكتور سمر روحي الفيصل فضلَ مراجعته هذا الكتاب، فقد وفّر لي من
وقته وجهده ما أقام أَوَده، وقوّى عوده.. وكلّ ما أرجوه أن أكون قد أخلصت
النيّة، وقصدت إلى الخير كلّ الخير.
دبيّ في 30 / 5 / 2000
محمّد محيي الدين مينو
• تعقيب:
لاقت الطبعة الأولى من هذا
الكتاب صدى واسعاً عند صدورها عام 2000 لدى القرّاء من أهل النقد والقصّ
معاًُ ، وهو ما شجعني بعد نفاد نسخ هذه الطبعة على إعادة النظر في فصوله
استدراكاً وإغناءً، وهي تعديلات طفيفة، لا تمسّ في الواقع جوهره، فلا تقلّل
من قيمة تلك الطبعة الأولى، ولا ترفع كثيراً من شأن هذه الطبعة الثانية.
دبيّ في 25/ 1/
2007.
الفصل الأوّل
أوليّة
القصّة في تراثنا العربيّ
أوّلاً - الجذور الأولى
للقصّة:
ثمّة سؤال عريض يثيره دارسو
القصّة القصيرة بين وقت وآخر، وهو: " أ حقّاً عرف العرب القصّة ؟ "، ومن
هؤلاء مَن وجد لها في تراثنا العربيّ جذوراً، هي تلك السير الشعبيّة
والمقامات والنوادر والقصص الدينيّ والتاريخيّ.. ومنهم مَن أنكر علينا هذه
الجذور الأصيلة، وردّ أصول القصّة العربيّة إلى الغرب، وادّعى أنّنا منذ
أوائل القرن الماضي أخذنا نقتبسها من الغرب عن طريق الترجمة والتعريب تارةً
أو المحاكاة والتقليد تارةً أخرى. وسواء أ كانت القصّة القصيرة وليدة
مؤثّرات داخليّة أم خارجيّة لا يمكننا أن نغفل عن تراثنا القصصيّ العريق
الذي لابدّ أن يكون قد أثّر بشكل أو بآخر في تجاربنا القصصيّة المتعدّدة
والذي يشكّل مصدراً مهمّاً من مصادر ثقافتنا المعاصرة. و" الواقع – كما
يقول صبري حافظ – أنّ العلاقة بين السرد العربيّ الحديث وأشكال السرد
الغربيّ أو القصّة العربيّة القديمة ليست علاقة نسب فحسب، وإنّما هي تناصّ
فعّال " .
ولا شكّ في أنّ
هذا القصّ قد بدأ كالشعر روايةً لا كتابةً، لأنّ الكتابة لم تشع بين عرب
الجاهليّة، ثمّ دُوّن بعد زمن طويل، مثله في ذلك مثل أيّ سرد عربيّ آخر.
وأكثر ما كان يستهوي هؤلاء الأعراب من القصص أحاديث قصّاصهم عن وقائعهم
وفرسانهم وملوكهم، تختلط بالخرافات والأساطير، وتتلوّن بأطراف من أيّام
الأمم المجاورة وأخبارها. وربّما كان معاوية أوّل مَن سعى إلى تدوينها، فقد
ذُكر أنّ عُبيد بن شَرِيَّة الجُرْهميّ " وفد على معاوية بن أبي سفيان،
فسأله عن الأخبار المتقدّمة وملوك العرب والعجم وسببِ تبلبل الألسنة وأمرِ
افتراق الناس في البلاد، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه إلى ما أمر،
فأمر معاوية أن يُدوّن، وينسب إلى عبيد " .
ومنذ وقت مبكّر كنّا نرى
القصّاص يجلسون في المسجد للعِظة، وأخذت تنشأ منهم طبقة من مثل أبَان بن
عثمان بن عفّان وعُروة بن الزبير وعاصم بن عمر بن قَتَادة ، تُعنى بغزوات
الرسول
وأخبار العرب الماضين وأساطيرهم، ويروي ابن الجوزيّ بسنده في كتابه (
القصّاص والمذكّرين ) أنّ الرسول
" سمع عبد الله بن رَواحة يقصّ "، فلمّا قصّ، وفرغ قال
:
" الحمد للّه الذي جعل من أمّتي مَن يذكّرهم بأيّام اللّه "، ويذكر في
روايةٍ أنّ " أوّل مَن قصّ تميم بن أوس الداريّ، استأذن عمر بن الخطّاب
أن يقصّ على الناس، فأذن له "، ويقول في روايةٍ أخرى: " إنّ أوّل مَن قصّ
عُبيد بن عُمير على عهد عمر
"، ثمّ ينقل عن ابن عمر
قوله: " لم يُقصّ على عهد رسول اللّه
ولا أبي بكر ولا عمر، ولكنّه شيء أحدثوه بعد عثمان " .
ومهما يكن من أمر هذا الخلاف
فإنّ هذه الظاهرة اتّسعت في عصر بني أميّة اتّساعاً شديداً، " إذ استخدمتها
الدولة كما استخدمها خصومها في الدعوة السياسيّة، وقد أمر معاوية أن يكون
ذلك مرّتين في اليوم: مرّةً بعد صلاة الصبح ومرّةً بعد صلاة المغرب، وعيّن
للقصّاص مرتّباتٍ خاصّةً " ، وكان " من تمام آلة القصّ أن يكون القاصّ
أعمى، ويكون شيخاً بعيد مدى الصوت " ، حتّى تصل مواعظه إلى سامعيه، سواء
أكانوا في المسجد أم ساحة القتال.
ومن أوائل
التأليف القصصيّ لدى العرب ما جمعه عُبيد بن شَرِيَّة الجُرْهُميّ لمعاوية
من أخبار اليمن وملوكها في كتاب ( الملوك وأخبار الماضين )، وما رواه أيضاً
وَهْب بن مُنَبِّه ( 114 هـ ) في كتاب ( التيجان في ملوك حِمْير )، و( قصص
الأنبياء ) و( قصص الأخيار )، وهي كتب تجمع بين الحوادث التاريخيّة والقصص
الدينيّة من جهةٍ وبين الأسطورة والخرافة من جهةٍ أخرى. ويرى الدكتور
إبراهيم بن عبد العزيز الجميح في بحثه ( القصّاص ودورهم السياسيّ في العصر
الأمويّ ) أنّ لروايات وهب بن منبّه وكعب الأحبار بعد إسلامهما " الأثر
الكبير في دخول كثير من القصص اليهوديّ إلى الدين الإسلاميّ، وهو ما أصبح
يعرف بـ ( الإسرائيليّات )، أي: ما ينقل عن بني إسرائيل، ويندر صحّته "
.
وفي العصر
العبّاسيّ ارتقت الحياة، وشاعت الثقافة، وازدهرت الترجمة، وكان لا بدّ أن
تدخل القصّة دائرةَ الترجمة والتأليف كغيرها من الفنون، ففي المجال الأوّل
نجد أنّ أول هذه الثمار كتاب ( كَليلة ودِمْنة ) الذي ألّفه الفيلسوف
الهنديّ بيدبا، وترجمه عبد اللّه بن المقفّع ( 142 هـ ) من اللغة البهلويّة
– وهي الفارسيّة القديمة – إلى اللغة العربيّة، وزاد فيه بعض الفصول
والقصص، ثمّ طبع سنة 1896 م، وترجم إلى الإسبانيّة سنة 1261 م، ولم يكد هذا
الكتاب يعرف في أوربة، حتّى عدّه الناس المثل الأعلى لكتب المواعظ التي
تلقى على ألسنة الحيوان والطير، أو ما يسمّى بالقصص الحيوانيّ
Animal stories،
كما كثرت محاولات نظمه شعراً ( أبَان اللاحقيّ، وبِشْر بن المعتمد، وابن
الهَبَّاريّة.. ) ومحاكاة منطقه وتقليد منهجه الفنّيّ الذي يقوم على القصّ
المتتابع أو المتلاحق
Consecutive tale حيث
تنبجس قصّة من قصّة ، وعلى منواله نسج كثيرون كتبهم، ومنهم: إخوان الصفا في
رسالتهم ( محاكمة الإنسان والحيوان أمام مللك الجان )، وابن ظَفَر ( 565 هـ
) في كتابه ( سُلْوان المطاع في عدوان الطباع )، وسهل بن هارون ( 215 هـ )
في كتابه ( ثَعْلة وعفراء ) و( النمر والثعلب )، وابن عَرَبْشاه ( 901 هـ
) في كتابه ( فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء )، وأبو العلاء المعرّيّ ( 449
هـ ) في كتابه ( منار القائف )..
وفي مجال التأليف
القصصيّ كتب الجاحظ ( 255 هـ ) موسوعته ( الحيوان ) التي حفظت لنا ما ارتبط
بالحيوان من قصص وأساطير، وكتاب ( البخلاء ) الذي حوى صوراً واقعيّةً،
التقطها من البصرة وخراسان، ولاسيّما عاصمتها مَرْو، وجعلها ساخرةً إلى
أقصى حدّ، " فأمّا ما سألت من احتجاج الأشحّاء ونوادر أحاديث البخلاء،
فسأوجدك ذلك في قصصهم مفرَّقاً وفي احتجاجاتهم مجملاً.. ولك في هذا الكتاب
ثلاثة أشياء: تبيُّنُ حجّةٍ طريفة، أو تعرّفُ حياةٍ لطيفة، أو استفادةُ
نادرةٍ عجيبة، وأنت في ضحك منه إذا شئت وفي لهو إذا مللت الجِدّ " . وقد
وفّر الجاحظ لقصصه بيئةً واقعيّةً، وصوّر شخصيّاتها تصويراً حسّيّاً
ونفسيّاً، فأبرز لنا حركاتهم ونظراتهم القلقة أو المطمئنّة ونزواتهم
النفسيّة، وكشف أسرارهم وخفايا نفوسهم، وجعلته شخصيّته المرحة المطبوعة على
السخرية والتهكّم يمزج في تصويره الجِدّ بالعبث والنقد بالفكاهة، فأظهر
مقدرةً فائقةً على التكلّم بلسان كلّ شخصيّة، ولاسيّما لسان العامّة
والحمقى. ومن قصصه ما يطول، حتّى يبلغ مبلغ القصّة القصيرة كقصّته مع (
محمّد بن أبي المُؤَمَّل ) ، ومنها ما يقصر، حتّى يصبح طرفةً أو نادرةً
كقصّة ( ديكة مَرْو ) التي رواها عن ثُمَامة بن أشرس النُّميريّ، وهي أنّ
الديك في كلّ مكان " يأخذ الحبّة بمنقاره، ثمّ يلفِظها قُدّام الدجاجة إلاّ
ديكة مرو، فإنّي رأيتها تسلُب الدجاج ما في مناقيرها من الحبّ " . وممّا
ينسب إلى الجاحظ من كتب القصص والحكايات كتاب ( المحاسن والأضداد )، وهو
يحوي أخبار الجاهليين وأقاصيصهم، ويتضمن أقاصيص منقولةً عن الهند واليونان
وفارس.
وبعد ابن المقفّع
والجاحظ صار المؤلّفون يُعنون بجمع القصّة وتأليفها سواء أ كانت واقعيّةً
أم خياليّةً، وكان من أشهر مؤلّفاتهم الخالصة لهذا الفنّ وأقدمها: كتاب (
عيون الأخبار ) لابن قتيبة ( 276 هـ )، وكتاب ( المستجاد من فعلات الأجواد
)، و( نِشْوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ) و( الفرج بعد الشدّة ) لأبي عليّ
المحسِّن التَّنوخي ( 384 هـ )، وهي تحوي قصص المجتمع البغداديّ وأيّامه،
وتجمع بين القصّة والنادرة، وكتاب ( المكافأة وحُسن العُقبى ) لأحمد بن
يوسف المعروف بابن الداية ( 340 هـ )، وهو يحوي واحدةً وسبعين قصّةً، تشيع
في أرجائها مختلف البيئات العربيّة وغير العربيّة. وبعض هذه الكتب مبوّب
تبويباً موضوعيّاً، يجمع في كلّ باب جملةً من القصص تحت موضوع واحد، فابن
الداية قسّم كتابه إلى ثلاثة أبواب، هي: ( المكافأة على الحُسن )، و(
المكافأة على القبيح )، و( حُسن العُقبى ). ولعلّ هذا يدلّ على أنّ العرب
لم يعرفوا القصّة فحسب، وإنّماعرفوا أيضاً مجاميعها القصصيّة.
وفي هذا العصر
شاعت قصص المتصوّفة والفلاسفة ، وهي قصص تصوّر جهاد المتصوّفة العنيف في
قمع شهوات النفس ولذّاتها، وتتّصل بها الحكايات التي أخذت تُؤثر عن
كراماتهم المدهشة وخوارقهم الخياليّة، وتعرِض نظرة الفلاسفة إلى الوجود
والحياة، فمن الأولى ما كتبه الحكيم التِّرْمذي ( 320 هـ ) في ( ختـم
الولاية )، والجعفر الخلديّ ( 348 هـ ) في ( حكايات المشايخ )، وابن
السرّاج البغداديّ ( 500 هـ ) في ( مصارع العشّاق ).. ومن الثانية ما كتبه
ابن سينا في قصّة ( حيّ بن يقظان ) وقصّة ( سَلامان وأُبْسال ) ورسالة (
الطير )، وهي قصص فلسفيّة رمزيّة، سينسِج على منوالها بعد حين يحيى
السُّهْرَوَرْديّ ( 587 هـ ) قصّته ( الغريبة الغربيّة )، ويكتب ابن طُفيل
( 581 هـ ) قصّته ( حيّ بن يقظان ).
وبعد زمن سيعرف
العرب القصّة الطويلة أو الرواية على يد أبي العلاء المعرّيّ ( 449 هـ ) في
كتابه ( رسالة الغفران )، وهي رحلة إلى النعيم والجحيم، جعل المعرّيّ شيخه
الحلبيّ عليّ بن منصور المعروف بابن القارح ( 424 هـ ) يقوم بها، ويلقى
هناك شعراء من أهل الجاهليّة والإسلام ، يعرِض أحوالهم وأشعارهم، ويسألهم
عمّا يعترضه فيها من المسائل الأدبيّة واللغويّة والعقليّة بأسلوب روائيّ،
يقوم على السرد المرسل والحوار المباشر معاً وعلى غرارها كتب الشاعر
الإيطاليّ دانتي Dante (
1321 م ) ملحمته الشهيرة
( الكوميديا الإلهيّة ).
وبعده يكتب ابن حَزْم
الأندلسيّ ( 456 هـ ) كتابه ( طوق الحمامة )، وهو مجموعة من مقالات الحب
العذريّ وأقاصيصه، أخذها الكاتب من تجربته الشخصيّة وواقعه المحليّ دون
مُواربة ولا خجل، ويكتب ابن شُهَيد الأندلسيّ ( 426 هـ ) رسالته ( التوابع
والزوابع )، أي: رسالة ( الجنّ والشياطين )، وهي رحلة خياليّة
Fantastic voyage
إلى وادي الجنّ، التقى فيه بشياطين الشعراء والكتّاب، يعرِض عليهم شعره
ونثره، فيستحسنون ما يعرِض، ويُجيزونه، فهي تدور على ما شاع على ألسنة
العرب في العصر الجاهليّ الوثنيّ من تصوّر شياطين للشعراء، يلهمونهم
الأشعار، ثمّ يكتب ابن شُهَيد أيضاً قصّته ( حانوت عطّار )، وهي رسالة في
وصف ثعلب وبرغوث وبعوضة، ويكتب ابن طُفيل الأندلسيّ ( 581 هـ ) قصّته
الطويلة ( حيّ بن يقظان ) على غِرار قصّة ابن سينا نفسها، وهي قصّة
فلسفيّة، بطلها حيّ الذي تربّيه غزالة في جزيرة منعزلة من جزر الهند
وحيداً، يتوصّل إلى معرفة الله – جلّ جلاله - على طريقته من الوَجْد
والإشراق الروحيّ، ثمّ يلتقي برجل من جزيرة مجاورة، يعلّمه الكلام، ويكتشف
أنّ ما وصل إليه حيّ من عقيدة هو دينه السماويّ نفسه، ثمّ يسعيان معاً إلى
هداية الناس، فلا يفلحان، ويعودان إلى الجزيرة خائبين. وكان الإنكليزيّ
إدوارد بوكوك Edward
Poucock أوّل من ترجمها
إلى اللاتينيّة في أكسفورد عام 1671 م، وعلى ضوئها كتب دانييل ديفو ( 1731
) Daniel Defoe
قصّته الشهيرة ( روبنسن كروزو ) 1719، وكتب جراثيان
Gratin
اليسوعي قصّته ( الكريتيكون ) التي نشرت في منتصف القرن السابع عشر.
وخلال حركة
التأليف هذه كانت القصص والسير الشعبيّة
Folk tales
قد بلغت أوج انتشارها ونضوجها الفنّيّ، وأخذ النسّاخ يدوّنون ما يسمعون
منها، ويعملون على تنقيحها وتهذيبها، ولكنّها ظلّت أقرب إلى لغة العامّة
وأنماط حياتهم، فعافها الخاصّة، وعدّوها من الأدب المرذول، وجعلها ابن
النديم ( 385 هـ ) في كتابه ( الفِهرست ) من باب الخرافة والمسامرة . وممّن
أخذ يدوّن هذه الخرافات والمسامرات أبو عبد اللّه محمّد بن عَبْدوس
الجَهْشَيَاريّ ( 331 هـ ) الذي " ابتدأ بتأليف كتاب، اختار فيه ألف سَمَر
من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كلّ جزء قام بذاته، لا يَعْلق بغيره،
وأحضر المسامرين، فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار من الكتب
المصنّفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه " .
ثانياً - أشكال القصّ في
التراث العربيّ الإسلاميّ:
عرف تراثنا العربيّ
والإسلاميّ أشكالاً من القصّ متنوّعةً : ( أ ) منها ما كانت غايته العبرة
والموعظة كقصص الأمثال، ( ب ) ومنها ما كان يهدُف إلى المتعة والتسلية
كالخرافة والأسطورة، ( ج ) ومنها ما كانت له غاية دينية محضة كقصص القرآن
وقصص الأنبياء. ولا شكّ في أن القصّة القصيرة الجديدة قد استفادت من هذه
الأشكال المتنوّعة، ورأت فيها مصدراً ثرّاً للتجديد والتجريب، وهو ما يؤكّد
الصلة الوثيقة لتجاربنا القصصيّة المعاصرة بجذورها الأولى.
- قصص الأمثال
Proverbs:
المثل: قول موجز سائر مرسل
بذاته أو مقتطع من كلام أو شعر، ينطوي على حكمة وعبرة، ويُنقل ممّن ورد فيه
إلى مشابهه بلا تغيير، شبّهوه بالمثال الذي يُعمل عليه غيره، فالأصل في
المثل: حُسن التشبيه، وجودة الكناية، وإصابة المعنى، وإيجاز اللفظ.. والمثل
– سواء أكان مدحاً أم قَدْحاً – معيارٌ " لقياس أفكار الناس وأخلاقهم
وعاداتهم وأنشطتهم.. معيارٌ صادق، ليس في حاجة إلى الكذب والخداع حتّى في
حالة تناقض الأمثال مع بعضها بعضاً، فهو تناقض النفس البشريّة ذاتها بكلّ
أفراحها وأتراحها، بكلّ آمالها وآلامها، بكلّ مخاوفها وإحباطاتها " .
ووراء كلّ مثل من أمثالنا
القديمة قصّةٌ أو أسطورة أو خرافة، لا غايةَ منها إلاّ العبرة والموعظة،
ففي المثل القائل: " طال الأبد على لُبَد " نقرأ قصّةً من قصص لقمان الحكيم
، وفي المثل القائل: " لأمرٍ ما جَدَع قَصير أنفه " نقرأ قصّة ( الزَّبَّاء
) ملكة تدمر ، وفي المثل القائل: " جزاء سَنِمّار " نقرأ قصّة ( النعمان بن
امرىء القيس الَّلخْمِيّ والبنّاء الرومي سَنِمّار ) .. ومن أقدم من ألّف
فيها صُحَار بن العبّاس العَبْديّ الخارجيّ أحد النسّابين والخطباء في
أيّام معاوية بن أبي سفيان ( 41 – 60 هـ ) وعُبيد بن شَرِيَّة الجُرْهُميّ
معاصره أيضاً ، ومن أشهر كتب الأمثال وأقدمها: ( أمثال العرب ) للمفضّل بن
محمّد الضَّبّيّ ( 178 هـ )، وكتاب ( الأمثال ) لأبي عِكرمة الضَّبّيّ (
250 هـ )، و( جمهرة الأمثال ) لأبي هلال العسكريّ ( 395 هـ )، و( فصل
المقال في شرح كتاب الأمثال لابن سلاّم ) لأبي عبيد البكريّ ( 487 هـ )،
وهو شرح لكتاب ( الأمثال ) لابن سلاّم الجُمَحيّ ( 231 هـ )، و( مجمع
الأمثال ) لأبي الفضل أحمد بن محمّد الميدانيّ ( 518 هـ )، و( تمثال
الأمثال ) لأبي المحاسن محمّد بن عليّ العَبْدَريّ الشَّيْبيّ ( 837 هـ ).
وهذه الكتب تعجّ
بالحكايات، ومن أشهرها ما رواه الميدانيّ في قصّة المثل المعروف " في بيته
يُؤتى الحَكَمُ "، فقال: " هذا ممّا زعمت العرب عن ألسن البهائم، قالوا:
إنّ الأرنب التقطت ثمرةً، فاختلسها الثعلب، فأكلها، فانطلقا يختصمان إلى
الضَّبّ، فقالت الأرنب: يا أبا الحِسْل، فقال: سميعاً دعوتِ، قالت: أتيناك،
لنختصم إليك، قال: عادلاً حكّمتما، قالت: فاخرج إلينا، قال: في بيته يُؤتى
الحَكَم، قالت: إنّي وجدت ثمرةً، قال: حُلوةً فكُليها، قالت: فاختلسها
الثعلب، قال: لنفسه بغى الخير، قالت: فلطمته، قال: بحقّك أخذت، قالت:
فلطمني، قال: حرٌّ انتصر، قالت: فاقضِ بيننا، قال: قد قضيتُ، فذهبتْ أقواله
كلّها أمثالاً " . وهذا الأسلوب الرمزيّ من القصّ على ألسن الحيوان عرفت به
من قبل قصص ( كَليلة ودِمْنة ) وبعض حكايات ( ألف ليلة وليلة )، وهو لا
يخلو من عناصر القصّ الرئيسة، ولا سيّما الحدث والحوار، ولا يخلو أيضاً من
متعة وتشويق وحكمة، هي في النهاية غاية القصّة القصيرة ومَقصَدها.
- المقامات
Rhythmic prose:
المقامة – وهي في
الأصل " المجلس والجماعة من الناس " - قصّة مسجوعة الأسلوب تعليميّة
الغاية، لأنّها من جهةٍ درس في مختلف فنون البلاغة وأنواعها وفي شوارد
اللغة ونوادرها، ولأنّها من جهةٍ أخرى عبرة وموعظة كأيّ شكل حكائيّ آخر،
بطلها متخيّل، يروي أخباره راوية متخيّل أيضاً، وأحداثها تدور حول الكُدْية
والخداع والاحتيال، لا حبكة تربط بينها، ولا شخصيّة تؤثّر فيها.
ويردّ الباحثون
نشأة المقامة في شكلها الفنّيّ على يد أبي الفضل أحمد بن الحسين الملقّب
ببديع الزمان الهمذانيّ ( 398 هـ ) إلى ثلاثة من المصادر الرئيسة، وهي:
1 – ( مقامات الزهّاد عند
الخلفاء والملوك ) التي رواها ابن قتيبة ( 276 هـ ) في كتابه ( عيون
الأخبار ) ، ومنها: مقام ( رجل من الزهّاد بين يدي المنصور )، ومقام ( صالح
بن عبد الجليل بين يدي المهديّ )، ومقام ( أعرابيّ بين يدي سليمان ).. وهي
مقالات زهّاد بين يدي ذوي السلطان من خلفاء وملوك، تسودها العبرة والنصيحة،
ويشيع فيها القصّ بأسلوب مرسل، لا أثر فيه لصنعة ولا سجع.
2 - ( أحاديث ابن دريد ) التي
رواها أبو علي القاليّ ( 356 هـ ) في كتابه ( الأمالي ) ، ومنها: حديث (
البنين السبعة الذين هوت عليهم الصخرة )، وحديث ( النسوة اللاتي أشرن على
بنت الملك بالتزوّج )، وحديث ( أوس بن حارثة ونصيحته لابنه مالك ).. وهي
حكايات عربيّة قديمة، غلب عليها الخبر التاريخيّ وشرح الغريب من الشعر
واللغة..
3 – حكاية ( أبي القاسم
البغداديّ ) التي كتبها أبو المُطَهَّر محمّد بن أحمد الأَزْديّ ( أواسط
القرن الرابع الهجريّ )، وهي عرض لفكاهات أهل بغداد وأصفهان ونوادرهم ووصف
لمجالس اللهو والمجون ومواقف الاحتيال والنفاق، حقّقها وترجمها إلى
الألمانيّة ميتس Mez
عام 1920.
والبديع عارض هذه الحكايات
التي تزخر بالوعظ والصنعة، وأفاد في تدوين نوادره وألغازه من أحاديث أستاذه
أبي الحسين أحمد بن فارس ( 395 هـ )، وحفظ عنه علوم العربيّة وآدابها
ومسائل النحو ودروسه، وترك لنا من المقامات واحدةً وخمسين مقامةً، بطلها
أبو الفتح الإسكندريّ الرجل البليغ الفصيح الذي سعى في الاحتيال على دهره
القاسي بمختلف الوسائل، وراويتها هو عيسى بن هشام، وسار القاسم بن عليّ
الحريريّ ( 516 هـ ) على هديه في خمسين مقامةً، بطلها أبو زيد السَّرُوجيّ
المتسوّل الذي اتخذ من فصاحة لسانه وسيلةً للاحتيال، وراويتها هو الحارث بن
هَمّام، ثمّ قلّدهما كثيرون، منهم: ابن الأَشْتَرْكُونيّ الأندلسيّ ( 538
هـ )، ومحمّد بن يوسف السَّرَقُسْطيّ ( 538 هـ )، وجار اللّه
الزَّمَخْشَريّ ( 538 هـ )، وأحمد بن الأعظم الرازيّ ( 630 هـ )،
والسُّيُوطيّ ( 911 هـ )، والشّهاب الخَفَاجيّ ( 1069 هـ ).
وفي العصر الحديث
كتب محمّد المويلحيّ ( 1930 ) كتابه ( حديث عيسى بن هشام 1907 ) على نمط
مقامات الهمذانيّ والحريريّ، لكنّ التحليل النفسيّ فيها أظهر والحوادث أكثر
تسلسلاً وتنوّعاً.. ومن كتب المقامات: ( مجمع البحرين 1856 ) لناصيف
اليازجيّ ( 1871 )، و( مقامات الأوهام في الآمال والأحكام ) لأمين إبراهيم
شُمَيِّل ( 1897 )، و( سنوح الأفكار ) لعلي مبارك ( 1893 ).. وهذه المقامات
هي حلقة فاصلة بين القصّ القديم والقصّ الجديد، بل هي الأساس الأوّل لنشوء
القصّة العربيّة الحديثة، ظلّ مهيمناً حتّى وقت طويل على بوادرها الأولى
ومؤثّراً فيما عُرّب وترجم من القصص الغربيّ، فعبد اللّه فكري ( 1889 ) على
سبيل المثال كان يخلع على قصصه لبوس المقامة، ومثله فعل أحمد فارس
الشِّدْياق ( 1887 ) في كتابه ( الساق على الساق فيما هو الفارياق 1855
).
- الأسطورة
Myth:
الأسطورة هي حكاية خياليّة،
ترادف الخرافة غالباً، لأبطالها طاقةٌ فوق طاقة البشر، وهم إمّا أخيار أو
أشرار، وإمّا من الطبقة العليا كالملوك وأهل السلطان أو الطبقة الدنيا من
عامّة الناس، لا يتقدّم بهم العمر، بل ربّما يشيخون فجأةً، ولأحداثها مظاهر
تاريخيّة أو طبيعيّة، يخترعها الخيال الشعبيّ للتسلية أو الموعظة ، ويختلط
فيها البشريّ بغيره من الجنّ والحيوان والجماد، ومع مرور الزمن تخضع
للتشذيب والتهذيب وللتحوير والتبديل، حتّى تصل إلى شكلها الأسمى.
و" قد دلّت الاكتشافات
الحديثة للنصوص المبكّرة على أنّ الإغريق مدينون بشهرتهم في مجال الأسطورة
لكتّاب الشرق، ولا سيّما الذين أرسوا تقاليدها في بابل وآشور وأساطير بيدبا
عند الهنود وأساطير لقمان عند العرب، فقد تركت بصماتها واضحةً على أساطير
إيسوب Esop
الإغريقيّ الذي عاش في آسيا، وتأثّر بالأساطير السائدة هناك " .
ولا شكّ في أنّ عرب ما قبل
الإسلام قد عرفوا هذا النوع من القصّ على نطاق واسع، حتّى أطلقوا على كلّ
عمل خارق للمألوف والواقع اسم أسطورة، ولذلك عندما بهرتهم رسالة نبيّنا
محمّد ،
ورأوا في أضعافها ما رأوا من قصص وآيات، قالوا من فورهم:
أسطير الأوّلين
التي تكرّرت على لسانهم في القرآن الكريم غير مرّة . ومن أساطيرهم ( إساف
ونائلة )، و( طَسْم وجَديث )، و( ربيبة الجان ).. وممّا لا شكّ فيه أنّ عرب
الجاهليّة قصّوا كثيراً عن الجنّ والعفاريت والشياطين، و" زعموا أنّها
تتحوّل في أيّ صورة شاءت إلاّ الغول، فإنّها دائماً تبدو في صورة امرأة عدا
رجليها، فلا بدّ أن تكونا رجلي حمار " .
- القصص القرآنيّ
Quranic tales:
جعل القرآن
الكريم القصّة إحدى وسائله في تحقيق غاياته المقدّسة من إثبات الوحي وتأكيد
الرسالة وتأصيل الدعوة المحمّديّة وإظهار القدرة الإلهيّة وعواقب الخير
والشرّ.. قال تعالى:
نحن نقصّ عليك أحسنَ القَصص بما أوحينا إليكَ هذا القرءانَ وإن كنتَ من
قبله لمن الغفلين
، وقال :
وكلاً نقصّ عليكَ من أنباء الرُّسُل ما نُثبّتُ به فؤادك وجاءك في هذه
الحقُّ وموعظةٌ وذكرى للمؤمنين
. فهي لا تخضع دائماً لمعايير فنّيّة من تحديد للزمان والمكان أو تسمية
للشخصيّات أو ترتيب للأحداث، لأنّها تستهدف الإقناع والاعتبار، وتنشد
التأثير والتذكير.. وقد لاحظ سيّد قطب " أنّ التعبير القرآني يؤلّف بين
الغرض الدينيّ والغرض الفنّيّ فيما يعرضه من الصور والمشاهد، بل لا حظنا
أنّه يجعل الجمال الفنّيّ أداةً مقصودةً للتأثير الوجدانيّ، فيخاطب حاسّة
الوجدان الدينيّة بلغة الجمال الفنّيّة " .
ورأى قطب أنّ
القصص القرآني في خضوعه للغرض الدينيّ يترك آثاراً واضحةً في طريق عرضه
ومادّته، وهي:
أ – " ترد القصّة الواحدة في
معظم الحالات مكرّرةً في مواضع شتّى، ولكنّ هذا التكرار لا يتناول القصّة
كلّها غالباً، إنّما هو تكرار لبعض حلقاتها، ومعظمه إشارات سريعة لموضع
العبرة فيها، أمّا جسم القصّة كلّه، فلا يُكرّر إلاّ نادراً ولمناسبات
خاصّة في السياق. هناك ما يشبه أن يكون نظاماً مقرّراً في عرض الحلقات
المكرّرة من القصّة الواحدة، يتّضح حين تُقرأ بحسب ترتيب نزولها، فمعظم
القصص يبدأ بإشارة مقتضبة، ثمّ تطول هذه الإشارات شيئاً فشيئاً، ثمّ تُعرض
حلقات كبيرة، تكوّن في مجموعها جسم القصّة، وقد تستمرّ الإشارات المقتضبة
فيما بين عرض هذه الحلقات الكبيرة عند المناسبات حتّى إذا استوفت القصّة
حلقاتها،عادت هذه الإشارات هي كلّ ما يُعرض منها " . ومن أكثر القصص
تكراراً في القرآن الكريم قصّة ( موسى
) التي وردت في أكثر من ثلاثين موضعاً.
ب – " تُعرض بالقدر الذي يكفي
لأداء هذا الغرض ومن الحلقة التي تتّفق معه، فمرّةً تعرض القصّة من أوّلها،
ومرّةً من وسطها، ومرّةً من آخرها، وتارةً تعرض كاملةً، وتارةً يُكتفى ببعض
حلقاتها، وتارةً تتوسّط بين هذا وذاك حسبما تكمن العبرة في هذا الجزء أو
ذاك.. ذلك أنّ الهدف التاريخيّ لم يكن من أهداف القرآن الأساسيّة " .
ج – " تُمزج التوجيهات
الدينيّة بسياق القصّة قبلها وبعدها وفي ثناياها كذلك " ، ومثال التوجيهات
في ثناياها قوله تعالى:
أو كالذي مرّ على قرية وهي خاوية على عُروشها قال أنّى يُحي هذه اللّهُ بعد
موتها فأماته اللّهُ مائة عام ثمّ بعثه قال كم لبثتَ قال لبثتُ يوماً أو
بعض يوم قال بل لبثتَ مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يَتَسَنَّهْ
وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءايةً للنّاس وانظر إلى العظام كيف نُنشزها ثمّ
نـكسوها لحماً فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير
. وهكذا تعترض سياق القصّة عبارة، هي:
ولنجعلك ءايةً للناس
، وتعترض في نهايتها عبارة أخرى، هي:
قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيء قدير
.
- القصص التاريخيّ
Historical tales:
هو قصص واقعيّ،
يتمثّل في أيّام العرب ووقائعهم، بعضه قديم جدّاً، ابتعد قليلاً أو كثيراً
عن الحقيقة، ومنه: قصّة ( زنوبيا ) ملكة تدمر، وبعضه جاهليّ أو إسلاميّ،
تعِجّ به كتب التاريخ والأدب، ومنه قصّة ( عنترة العبسيّ ) وقصّة ( مجنون
ليلى ) وقصّة ( المُرَقّش الأكبر وصاحبته أسماء ).. وعلى نحو ما كانوا
يقصّون عن ملوكهم وأبطالهم كانوا يقصّون عن ملوك الأمم الأخرى وشجعانهم،
فقد ذُكر أنّ النضر بن الحارث بن عَلْقَمة قَدِم الحيرة، وتعلّم أحاديث
ملوك الفرس وأحاديث رُسْتم وأسفنديار، فـ " كان إذا جلس رسول اللّه
مجلساً،
فدعا فيه إلى اللّه تعالى، وتلا فيه القرآن، وحذّر قريشاً ما أصاب الأمم
الخالية، خَلَفه في مجلسه إذا قام، فحدّثهم عن رُسْتم الصِّنْديد وعن
أسفنديار وملوك فارس " .
- الطرائف أو النوادر
Anecdotes:
هي شكل حكائيّ
بسيط، لا يخلو من سرد خاطف وخيال جامح وحدث طريف وحوار لمّاح، ويزدهر هذا
الفنّ بوجود شخصيّات طريفة كشخصيّة أبي نُواس وجحا وأشعب وأبي ضَمْضَم
وسيفويه.. أو شخصيّات مثيرة للجدل كشخصيّة الخليفة هارون الرشيد وشخصيّة
القائد التركيّ قراقوش نائب صلاح الدين الأيّوبيّ في مصر.. وثمّة تصانيف
معروفة في هذا الباب ، من أهمّها : كتاب ( المكافأة وحُسن العُقبى ) لابن
الداية ( 340 هـ )، و( أخبار سيبويه المصريّ ) لابن زُوْلاق الحسن بن
إبراهيم ( 387 هـ )، و( الفاشوش في حكم قراقوش ) لابن مَمَّاتيّ أسعد بن
مُهَذَّب ( 606 هـ )، و( نوادر جحا ) لمؤلّف مجهول، و( البخلاء ) للجاحظ (
255 هـ )، و( أخبار الحمقى والمغفّلين ) لابن الجوزي ( 597 هـ )، و(
المستطرف من كلّ فنّ مستظرف ) للأَبْشِيهيّ (852 هـ )، و( فاكهة الخلفاء
ومفاكهة الظرفاء ) لابن عَرَبْشاه ( 901 هـ ).. ومن التصانيف الحديثة: (
قصص العرب ) لمحمّد أحمد جاد المولى ورفيقيه، و( ألف حكاية وحكاية من الأدب
العربيّ القديم ) لحسين أحمد أمين، و( جمهرة قصص العرب ) للدكتور قصي
الحسين..
وفي شروط رواية
النادرة قال الجاحظ: " متى سمعت بنادرة من كلام الأعراب، فإيّاك أن تحكيها
إلاّ مع إعرابها ومخارج ألفاظها، فإنّك - إن غيّرتها بأن تلحن في إعرابها،
وأخرجتها مخارج كلام المولّدين والبلديّين - خرجت من تلك الحكاية، وعليك
فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام ومُلْحة من مُلَح
الحُشْوة والطَّغَام، فإيّاك أن تستعمل فيها الإغراب، أو تتخيّر لها لفظاً
حسناً، أو تجعل لها من فيك مخرجاً سَرِيّاً، فإنّ ذلك يفسد الإمتاع بها،
ويخرجها من صورتها ومن الذي أُريدت له، ويُذهب استطابتَهم إيّاها
واستملاحَهم لها " .
- القصص والسير الشعبيّة
Folk tale:
يأخذ هذا الفنّ
أشخاصه وأحداثه من التاريخ أو المجتمع أو الأدب.. ولكنّه يتجاوز ملامحها
الشخصيّة وحدودها الزمانيّة والمكانيّة، لأنّ حكاياته ليست إلاّ نتاج مراحل
زمنيّة متعدّدة وأمكنة مختلفة، وكأنّ الحكاية لم تكن لتستقرّ في تلك العصور
على حال، وعلى سبيل المثال: تجري أحداث سيرة ( عليّ الزيبق ) عندما كان
أحمد ابن طولون ( 270 هـ ) يحكم مصر أيّام خلافة هارون الرشيد ( 193 هـ )،
وبين الأوّل والآخر في الواقع زُهاء سبعين عاماً، وتجعل السيرة عليّ الزيبق
يتردّد على الأزهر الشريف، والأزهر بناه جوهر الصِّقِلِّيّ بأمر من المعزّ
الفاطميّ عام ( 359 هـ/ 970 م )، أي: بعد أن حكم ابن طولون بعقود، وتملك
شخصيّاتها قدرةً خارقةً على التنقل بسرعة من مكان بعيد إلى مكان أبعد ،
لأنّ حوادثها تعتمد على المصادفة لا على المنطق والواقع. ومن أشهر هذه
القصص الشعبيّة:
- ألف ليلة وليلة ( نشرت بين
1882 و1885 ): هي في الأصل نصّ فارسيّ قديم، يدعى ( هزار أفسانه )، أي: ألف
خرافة، ويرجع في نشأته الأولى إلى أصول هنديّة، وكان محمّد بن عَبْدوس
الجَهْشَيَاريّ ( 331 هـ ) قد قام في العراق بكتابة أوّل مسوّداته وتعريبه
والإضافة إليه.. ومع مرور الزمن أضيفت إليه أيضاً قصص هنديّة ويونانيّة
وعبريّة وعربيّة كحكاية حاتم الطائيّ وجميل بن مَعْمَر وحكايات هارون
الرشيد.
وهي باختصار قصّة
الملك شهريار الذي اكتشف أنّ امرأته تخونه مع عبده الأسود، فجعل طوال ثلاث
سنوات يتزوّج كلّ ليلة عروساً، يقتلها صباح اليوم التالي انتقاماً من
امرأته الأولى، وحتّى لا يعطي لها فرصةً لخيانته من جديد، ولكنّ شهرزاد
تنجح بالاحتيال عليه والاستيلاء على مخيّلته بقصصها المثيرة التي لا تتمّها
إلاّ في اليوم التالي . وهكذا ظلّت شهرزاد تسرد على شهريار حكاياتها
الطويلة والشائقة ألفَ ليلة وليلة، لتنقذ بذلك نفسها، وتحمي رقاب النساء من
سيف شهريار وسطوته الدامية، وذلك بعد أن أصبحت ملكةً البلاد وأمّ أولاده
الثلاثة.
ولـ ( ألف ليلة
وليلة ) مكانةٌ كبيرةٌ في الثقافة الإنسانيّة، فقد لعبت دوراً بالغ
الأهميّة في الحياة الأدبيّة العربيّة بعامّة والآداب الأجنبيّة بخاصّة،
وأسهمت في تطوّر فنّ القصّة الغربيّ نفسه، لأنّها ترجمت إلى أغلب اللغات
العالميّة الحيّة. وعلى منوالها " ابتدأ الجَهْشَيَاريّ بتأليف كتاب، اختار
فيه ألف سَمَر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كلّ جزء قام بذاته، لا
يَعْلق بغيره، وأحضر المسامرين، فأخذ عنهم أحسن ما يعرفون ويحسنون، واختار
من الكتب المصنّفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه " ، حتّى اجتمع له
منها 480 ليلةً، ولكنّه مات قبل أن يصل إلى الليلة الألف.
- سيرة عنترة بن شدّاد
العبسيّ ( بين 1865 و1871 ): حوّلت هذه السيرة حياة عنترة الشاعر الجاهليّ
إلى أسطورة، امتدّت حتّى نهاية القرون الخمسة الأولى للهجرة، وكتبها أوّل
الأمر يوسف بن إسماعيل أيّام العزيز الخليفة الفاطميّ ( 365 – 386 هـ )،
ثمّ أخذت الأجيال تزيد فيها حتّى أوائل القرن السادس الهجريّ، وحتّى أصبحت
في أربعة مجلّدات، لا يمتدّ زمانها فحسب، وإنّما يمتدّ مكانها أيضاً، لتشمل
بطولات عنترة الهندَ وفارس ومصر والشام والحبشة والسودان وجنوب أوربة وشمال
إفريقية.. وقد صيغت هذه السيرة صياغةً قصصيّةً جذّابةً، وكتبت بلغة يوميّة
حتّى نالت اهتماماً شعبيّاً كبيراً، وحظيت بمكانة خاصّة لدى الغرب منذ
ترجمها أنطونيو كالان
Antonio Galan إلى
الفرنسيّة سنة 1704، والمستشرق النمساويّ فون هامر بوجستال
Von Hammer Yogistal
إلى النرويجيّة والدانمركيّة سنة 1802.
- سيرة سيف بن ذي يزن: هي
قصّة سيف بن ذي يزن سليل ملوك حِمْير الذي ناهض الأحباش حتّى طردهم من
اليمن والجزيرة العربيّة وحتّى أعلى كلمة اللّه، وهي في سبعة عشر جزءاً،
تحمل كثيراً من الأساطير والمغامرات.
- سيرة بني هلال ( 1869 ):
قوام هذه السيرة هو الحروب الطاحنة بين بني هلال ومَن دخل معهم من القبائل
القيسيّة الأخرى كسُلَيم وعُدي وربيعة إلى إقليمي طرابلس وتونس وشمال
إفريقية وبين من كان في هذه الأقاليم من الصنهاجيين وزناتة من القبائل
المغربيّة، وذلك في منتصف القرن الخامس الهجري، فأساس الأحداث تاريخيّ
صحيح، لكنّها سرعان ما تتحوّل إلى أساطير ومغامرات وأضغاث أحلام. وللسيرة
ثلاث مراحل: الأولى هي هجرة بني هلال إلى المغرب واعتقال بطلها الخياليّ
أبو زيد الهلاليّ وأبناء أخته في تونس ثمّ فراره واستنفار قبيلته لتخليص
أبنائها، والثانية هي ما يعرف بـ ( تغريبة بني هلال 1871 )، وفيها تهاجر
قبيلة بني هلال إلى تونس وتمكّنها سُعْدى ابنة ملكها الزناتي خليفة من
دخولها وفكّ أسراها، ثمّ تمضي القبيلة حتّى تصل أقصى المغرب، والثالثة هي
مرحلة أبناء أولئك الأبطال، وفيها يجمع زيدان بن أبي زيد الهلاليّ العرب من
الشام والحجاز، ليكمل مسيرة والده، لكنّه في النهاية يعود إلى مصر
خائباً.
- سيرة الظاهر بيبرس: هو بطل
موقعة عين جالوت ( 658 هـ ) التي لم تقم بعدها للتتار قائمة، لاحقهم حتّى
اتّجهوا شرقاً إلى شمال العراق، وكال للصليبيين ضرباتٍ قاصمةً، وهو حاكم
مصر، اتّسع بها حتّى أقصى بلاد النوبة، وحتّى دانت له ليبيا. ويبدو أنّ
السيرة لم تكتب في عهد قريب من الظاهر، لأنّ أحداثها التاريخيّة وأسماء
أبطالها يشوبها كثير من الخيال، وتحفل بأساطير وأعمال خارقة للعادة.. ولم
يصلنا من مجلّداتها الخمسة التي أخذ جورج بوهاس
George Bohas
وجان باتريك غيوم John
Patrik Guillaume
يترجمانها إلى الفرنسيّة منذ عام 1985 سوى مجلّد واحد.
- سيرة علي الزيبق ( 1870 ):
هي مجموعة ألاعيب أو مغامرات، يقوم بها علي الزيبق نفسه، وتكاد كلّ أُلعوبة
أو مغامرة منها تشكّل قصّةً، لها عقدتها الخاصّة، ولها أحداثها وشخصيّاتها،
لا يجمع بين هذه القصّة وتلك إلاّ شخصيّة صاحب السيرة.
- ومن السير والقصص الشعبيّة
الأخرى: سيرة الأميرة ذات الهمّة، وحمزة البهلوان، والزير سالم ( 1866 )،
وقصّة عامر الكنانيّ ( 1896 )، ومجنون ليلى ( 1868 )، وحمزة البهلوان ( بين
1886 و1888 )، وفيروز شاه ( 1887 )، والراعي الأمين ( 1896 ).
- ومن السير الشعبيّة
المجهولة التي لا نعرف عنها شيئاً حتّى الآن: سيرة الأرقط، وهي مخطوطة في
سبعة عشر مجلّداً، وسيرة سيف التيجان التي ترجمها بيرون
Perron
إلى الفرنسيّة سنة 1862، ولم تحقّق، أو تترجم إلى العربيّة بعد .
والسيرة اليوم
جنسٌ من السرد القصصيّ خالصٌ، يتحدّث فيها المؤلّف عن أهمّ أحداث حياته
ومؤثّراتها، ويتوخّى في هذا الصدقَ في الرواية والتاريخ والدقّةَ في
التحليل والتفسير.. وهي نوعان:
( أ ) السيرة الذاتيّة
Autobiography،
وهي أن يقصّ الكاتب فيها سيرة حياته الخاصّة، ومنها: كتاب ( الاعتبار )
لأسامة بن منقذ ( 584 هـ )، و( الأيّام ) لطه حسين، و( حياتي ) لأحمد أمين،
و( أنا ) لعبّاس محمود العقّاد، و( سبعون ) لميخائيل نعيمة، و( حصاد العمر
) لتوفيق يوسف عوّاد، و( شيء من حياتي ) لمراد السباعي..
( ب ) والسيرة الموضوعيّة، أو
ما يسمّى بالترجمة Biography،
وهي التي يقصّ فيها المؤلّف حياة غيره، ومثالها: ( جبران ) لميخائيل نعيمة،
و( الرافعيّ ) لسعيد العريان، و( الجنوبيّ أمل دنقل ) لعبلة الروينيّ..
وهذه السير العربيّة غير صريحة، لا تكاد تبوح بأسرار أصحابها وتجاربهم
الحقيقيّة، ولا تبلغ ما وصلت إليه السيرة الغربيّة من صراحة واعتراف، نراها
مثلاً لدى جان جاك روسّو، وأندريه جيد، وجان جينيه..
ثالثاً - الموقف العامّ من
القصّة:
ظلّت النظرة إلى القصّة لدى
العرب قاصرةً حتّى عهد قريب، ينظرون إليها في أنّها بدعة كاذبة، تضلّهم عن
جادّة الفضيلة، وتشغلهم عن أمور دينهم، وتؤثّر في عقول العامّة وقلوبهم،
وظلّ القاصّ في نظرهم وضيعاً مهيناً، لا يقف على قصصه إلاّ العامّة أصحاب
العقول القاصرة. ومن هنا نشأ هذا الفنّ شعبيّاً، يزدريه الخاصّة، ويزدرون
أهله، ويتّهمونهم ترفّعاً بالغفلة والحمق تارةً وبالضلالة والكذب تارةً
أخرى، ولو كان القصّ كذباً، لأعرض العرب عن رواية الشعر، والشعر ديوان
العرب، به يأخذون، وإليه ينتهون، حتّى رأوا أنّ أعذب الشعر أكذبه.
في كتابه ( كتاب القصّاص
والمذكّرين ) ينقل ابن الجوزي ( 597 هـ ) عن بعض السلف أنّه كره القصص "
لأنّ القوم كانوا على الاقتداء والاتّباع، فكانوا إذا رأوا ما لم يكن على
عهد رسول اللّه
أنكروه.. وأنّ القصص لأخبار المتقدّمين تندر صحّته.. وأنّ التشاغل بذلك
يُشغل عن المهمّ من قراءة القرآن ورواية الحديث والتفقّه في الدين، وأنّ في
القرآن من القصص وفي السنّة من العظة ما يكفي عن غيره ممّا لا يتيقّن
صحّته، وأنّ أقواماً ممّن كان يدخل في الدين ما ليس منه قصّوا، فأدخلوا في
قصصهم ما يُفسد قلوب العوام، وأنّ عموم القصّاص لا يتحرّون الصواب، ولا
يحترزون من الخطأ لقلّة علمهم وتقواهم. فلهذا كره القصص مَن كره، فأمّا إذا
وعظ العالم وقصّ مَن يعرف الصحيح من الفاسد فلا كراهة " .
ولمّا كان الرأي أنّ كلّ بدعة
ضلالة عُرض هذا الفنّ الجديد على أهل الفتوى، فأفتى بعضهم بحرمته، ففي
كتابه ( الكلام والخبر ) ينقل سعيد يقطين عن أبي العبّاس الوَنْشَريسيّ في
كتابه ( المعيار المعرّب ) سؤال بعضهم عن ( سيرة عنترة ) و( ذات الهمّة ):
" هل يجوز بيعها ؟ فأفتى ابن قدّاح قائلاً: لا يجوز بيعها ولا النظر فيها،
ثمّ سُئل عمّن يسمع هذا الحديث: هل تجوز إمامته ؟ فقال: لا تجوز إمامته ولا
شهادته، لأنّهما كذب، ومستحلّ الكذب كاذب " .
وهذه التهمة بالكذب ظلّت
تتردّد حتّى أوائل القرن الماضي، وهو زمن ولادة القصّة من جديد، ولعلّ من
الغريب حقّاً أن تصدر عن أحد رجالات اليقظة العربيّة وأكبرهم، فالباحث
يقطين في كتابه المذكور آنفاً ينقل عن الشيخ محمّد عبده وصفه لكتب السير
والقصص الشعبيّة بـ " كتب الأكاذيب الصرفة "، ويذكر منها: سيرة أبي زيد
الهلاليّ، وعنترة، وإبراهيم بن حسن، والظاهر بيبرس .
وهذه المواقف من القصّة - وهي
مواقف عِلْية القوم وخواصّهم – تؤكّد جميعها من طرفٍ أنّها مواقف ( طبقيّة
) و( رسميّة )، لا تلبي نوازع أهل السلطة ورغائبهم كما كان الشعر يفعل،
وتؤكّد من طرفٍ آخر أنّ القصّة فنّ شعبيّ، تداوله سواد الناس وعامّتهم منذ
عهد بعيد، ولكنّه لم يسدْ كالشعر، ولم ينم نموه، لأنّ الموقف منه كان
خطيراً وعظيماً كالموقف من الخمرة والميسر !
إنّ ما اعترى القصّة من كذب
لا يعدو أن يكون خروجاً عن الواقع والمألوف، لأنّ القصّة في أبسط مكوّناتها
تخييل، يحاكي الواقع، وربّما لا يحاكيه عن قرب، ولمّا كان أغلب شخصيّات
قصصنا الشعبيّ من أهل الجاهليّة أو من الشطّار والعيّارين واللصوص، وكانت
أحداثها وقائع ثأر وسَرِقة تارةً أو مغامرات عشق وهيام تارةً أخرى، فإنّنا
عندئذٍ نفهم الأسباب الأخرى التي جعلت السلف يكره القصص، ويكذّبه، ثمّ يلجأ
أخيراً إلى تحريمه.
ولا شكّ في أنّ هذه البداية
العسيرة للقصّة العربيّة لا تكاد تختلف عن القصّة الغربيّة التي بدأت في
العصور الوسطى على شكل مغامرات وخرافات وأساطير، ولكنّ قصصنا الشعبيّ الذي
بدأ قبل هذه العصور بوقت طويل لم يكتب له أن يتطوّر على المدى، بل لم يُكتب
له أن يُذاع، وينتشر، لأنّ ما بقي منه مازال مخطوطاً أو بعيداً عن التناول
لسبب أو لآخر، والمكتبات العربيّة والعالميّة تزخر بالعشرات من مخطوطات
السير الشعبيّة والحكايات التي لا نعرف عنها شيئاً بعد .
الفصل الثاني
أنواع القصّة
خلط بعضهم بين
مصطلحي الرواية والقصّة، لأنّ مادّة كلّ منهما الحكاية، ورأى أنّ ما يميّز
أحدهما من الآخر هو الحجم ودرجة التكثيف ومقدار التعامل مع تلك العناصر
الفنّيّة المشتركة بينهما ، ولكنّ النقّاد اليوم تخلّصوا من هذا الخلط
الصُّراح، وأصبحت القصّة فنّاً، له عناصره الفنّيّة، وله أسئلته
الخاصّة.
أوّلاً - الرواية
Novel:
هي قصّة طويلة،
تصوّر جانباً واسعاً من جوانب الحياة والمجتمع، لا يستغرق ساعاتٍ أو
أيّاماً، بل يمتد أشهراً وسنواتٍ، وتنهض كالقصّة القصيرة على طائفة من
العناصر كالشخصيّة والحبكة والزمان والمكان والحدث واللغة.. ولكنّها تختلف
عنها – كما قلنا - في الحجم ودرجة التكثيف ومقدار التعامل مع تلك العناصر
الفنّيّة المشتركة بينها وبين القصّة القصيرة.
والروائيّ يقف على عكس القاصّ
عند التفاصيل الدقيقة للأحداث والوقائع، يربط بعضها ببعض ربطاً محكماً،
ويختار شخصيّاته المتعدّدة من وسط ملائم لهذه الأحداث، فيبرز لإنجاز هذه
الأحداث ملامحها الذاتيّة، ويحلّل نفسيّاتها، ويرصد انفعالاتها وعلاقاتها..
ففي الرواية مجال كبير للتحليل والتصوير والتفسير، وكاتبها أشبه بالباحث
الاجتماعيّ أو المؤرّخ أو العالم النفسيّ، أو كأنّ فيه من هؤلاء جميعهم
نِسباً متفاوتةً. وإذا كانت الرواية أكثر الفنون الأدبيّة التصاقاً بحركة
المجتمع وتطوّره، فإنّها على الدوام قد عرفت أنماطاً جديدةً، وشهدت
اهتماماً نقديّاً كبيراً، وربّما كان هذا الاهتمام قد أفاد القصّة القصيرة
حقّاً، ولكنّه في النهاية حرمها من نظريّة نقديّة خاصّة بها.
ثانياً - القصّة القصيرة
Short story:
تختلف القصّة
القصيرة في الحجم عن الرواية والأقصوصة / القصّة القصيرة جدّاً، ولكنّها لا
تكاد تختلف عنهما في عناصر البناء الفنّيّ ووسائله، لأنّ هذه الأنواع
الثلاثة في مجملها سرد حكائيّ. وقد ظلّت القصّة القصيرة عصيّةً على
التعريف، لأنّ علاقتها حميميّة أيضاً بمختلف أشكال هذا السرد الحكائيّ
الأخرى كالأسطورة والخرافة والحكاية، حتّى اختلف مَن عايشها على تعريفها
تعريفاً جامعاً مانعاً. وهنا سنعرِض ما وجدناه من محاولات لتعريف القصّة
القصيرة قبيل أن نخلص إلى محاولة جديدة لتعريف هذا الفنّ الحكائيّ:
- يقول رينيه غودين
Rene Godenne
في موضع: " إنّ القصّة هي أساساً تعبير عن حكاية "، ويقول في موضع آخر: "
هي أحدوثة " .
- يقول الدكتور الطاهر أحمد
مكّي: " إنّ القصّة حكاية أدبيّة، تدرك لتقصّ، قصيرة نسبيّاً ذات خطّة
بسيطة وحدث محدّد حول جانب من الحياة لا في واقعها العاديّ والمنطقيّ
وإنّما طبقاً لنظرة مثاليّة ورمزيّة، لا تنمّي أحداثاً وبيئاتٍ وشخوصاً،
وإنّما توجز في لحظة واحدة حدثاً ذا معنى كبير " .
- يؤكّد والبول
Walpole
أنّ " القصّة لا تكون قصّةً إلاّ إذا كانت سجلاً لأمور مملوءة بالأحداث
وبحركات متتابعة وبتدرّج غير متوقّع، يقود إلى الذروة خلال عمليّة التشويق
" .
- يقول روبرت شولز
Robert Schole:
" القصّة هي حكاية مختلقة " .
- يقول ولسن ثورنلي
Wilson Thornley:
" هي سلسلة من المشاهد الموصوفة التي تنشأ خلالها حالة مسبّبة، تتطلّب
شخصيّةً حاسمةً ذات صفة مسيطرة، تحاول أن تحلّ نوعاً من المشكلة من خلال
بعض الأحداث التي ترى أنّها الأفضل لتحقيق الغرض، وتتعرّض الأحداث لبعض
العوائق والتصعيدات، حتّى تصل إلى نتيجة " .
- يقول إدوارد فورستر
Forster Edouard:"
القصّة سرد للحوادث مرتّبةً تبعاً لتسلسل زمنيّ " .
_ يقول إنريكى أندرسون إمبرت
Enrique anderson imbert:
" إنّ القصّة القصيرة هي تخيّل، لأنّها تعرض حدثاً لم يقع أبداً، وأحياناً
تعيد ترتيب أحداث فعليّة، لكنّها تركّز بصفة أساسيّة على الجماليّة أكثر من
الحقيقة " .
ومهما يكن من أمر هذا
الاختلاف في التعاريف، فإنّ مفهوم القصّة القصيرة في مخيّلة المتلقّي صار
واضح الملامح والقسمات، لا لبسَ في جنسه، ولا اضطرابَ في عناصره الفنّيّة.
والقصّة القصيرة الجديدة خرجت عن أيّ محاولة للتعريف، وحاولت أن تتمرّد على
تلك العناصر التي لم تكن في يوم من الأيّام أقفاصاً، تسلبها كثيراً من
حريّتها ومن سحرها وروائها.. وهي فنّ لَدِن، لا ينظمه شكل أو أشكال محدّدة،
ولا يمكن أن يحدّه تعريف، ولا أن يقسِره قيد، لأنّ الحياة نفسها بلا تعاريف
ولا قيود، والقصّة هي الحياة أو صورة من صورها، تعكسها مرآة الفنّ غير
المستوية، قال روبرت شولزRobert
Scholes : إنّ " كسر
الحقيقة بطريقة هادفة وسارّة هو عمل كاتب القصّة.. وإذا كان للقصّة وجود
حقيقيّ، فإنّ تجربتنا معها غير حقيقيّة " .
هي باختصار حكاية قصيرة
النَّفَس، تتّجه من فورها إلى حدث من أحداث الحياة، فلا تحتمل الاستطراد في
السرد ولا الإسهاب في الحوار، ولا يتحقّق لها التأثير
Effect
الشامل إلاّ إذا توافرت فيها وحدة الفعل والزمان والمكان، وهو ما عبّر عنه
الكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بو
Edgar Allan Poe ( 1809 – 1852
) بوحدة الانطباع Unity of
impression، وعدّها
خصيصةً أساسيّةً من خصائصها، ولمّا كان زمانها قصيراً ومكانها محدوداً،
تقيّدت حركة شخصيّاتها، وضعفت ردود أفعالهم، وبَهِتت ملامحهم. ولعلّ هذا هو
الذي جعل القصّة القصيرة تجيب عن سؤال واحد وحقيقة واحدة لا عن أسئلة
وحقائق متعدّدة كالرواية، فالقاصّ ينظر إلى الحياة نظرةً أحادية الجانب على
عكس الروائيّ، ويلتقط منها حدثاً خصب الدلالات محدّد الشخوص، ثمّ يحاول أن
يجعل منه موقفاً فنّيّاً، يؤدّي إلى توضيح حقيقة من الحقائق بأسرع الطرق
وأبلغها، ولا سيّما التكثيف والاقتصاد والبلاغة.. وقد تدور القصّة القصيرة
حول فكرة أو مشهد أو حالة نفسيّة أو لمحة محدّدة من ملامح الحياة الجيّاشة.
ولا بدّ لهذا الكاتب أن يكون شديد الصلة بالحياة وحقائقها، خبيراً بالواقع
وأحداثه، متمكّناً من اللغة وأساليبها. ومن هنا تهيّب بعض الكتّاب هذا
الفنّ، وعملوا على تجويده وتنقيحه مرّات، حتّى بلغت لدى وليد إخلاصي مثلاً
ثلاثاً ولدى زكريّا تامر عشراً، وربّما بلغت سنواتٍ، وهذا ناثانيال هوثورن
Nathaniel Hawthorn
– وهو أوّل كاتب قصّة قصيرة أمريكيّ – يعكف اثني عشر عاماً على كتابة
مجموعته القصصيّة الأولى.
ولمّا أخذت القصّة القصيرة
ملامحها الخاصّة، وصارت عملاً فنّيّاً صِرْفاً، يتطلب جهوداً مضنيةً،
فإنّنا نجد أنّ هناك نقّاداً، انصرفوا إلى دراستها ووضع أسسها ومبادئها.
وأوّل مَن حاول في وقت مبكّر أن يقنّن القصّة القصيرة كفنّ يخالف الرواية
في بنائه وشكله وهدفه هو الكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بوEdgar
Allan Poe الذي " مارس
كتابة قصص تستهدف الفنّ القصصيّ في ذاته ومتعة الإثارة الدراميّة التي
يمكن أن يحدثها هذا الفنّ، فيهزّ ركود الحياة، ويؤدّي فيها عنصر المفاجأة
والتشويق وإثارة الفزع والشفقة دوراً أساسيّاً.. وأدرك أنّها لا تتحمّل
اللغو الكثير والحشو والتفصيلات المتعدّدة، وعرف كذلك أنّها تعتمد على خلق
الجوّ ببضع كلمات لا بصفحات مطوّلة، ثمّ ما لبث أن وضع لهذا الفنّ قواعد
ومقاييس وقيوداً " .
وللقصّة القصيرة قدرةٌ خاصّة
على التشكّل في مختلف الأشكال القصصيّة التي تحتفظ من جهةٍ بجذورها
المتشعّبة كالمقامة والنادرة والخرافة والسيرة.. أو التي تطرأ على بنائها
الَّلدِن من جهةٍ أخرى، فتكسر وتيرة السرد تارةً، أو تتلاعب بمستوياته
تارةً أخرى، ومن هذه الأشكال الجديدة: قصص اليوميّات، والتداعيّات،
والمونولوج، وقصص الأحلام، والوثائق، والكوابيس.. وهذه الأشكال كلّها " لا
تلتزم بالمألوف في البناء التقليديّ من بداية وعقدة وحلّ، بل أصبح البناء
يتكوّن من بنى جزئيّة متراصّة البنية الشموليّة، فأصبح الحدث لا يتمركز حول
نقطة ما في نسيج القصّة، بل تتبعثر دلالته في البنى الجزئيّة للقصّة " ,
وبالتالي تكوّن هذه البنى بناءً كليّاً جديداً، يقول ما يقوله أيّ بناء
آخر، ويوحي بما يوحي به، " فلم تعد القصّة القصيرة سرداً مباشراً أو تكوينَ
عقدة ومحاولة الخلاص منها، بل سادت ظاهرة التفتّت، فصارت القصّة لحظاتٍ
مكثّفةً ودفقاتٍ قصصيّةً متواليةً، تتراصّ في وحدة متماسكة، لتبرز في
عالمنا إيحاءاتٍ فنّيّةً، تعرّي زيف الواقع " ، فالقصّة القصيرة صارت تربةً
صالحةً للتجديد والتجريب، تتيح للقاصّ أن يستخدم مختلف معطيات الفنون
الأخرى، وكلّما خرجتْ على نظامها الفنّيّ كانت أكثر جدّةً وألصق بالحياة،
لأنّ الحياة نفسها لا تسير على وتيرة واحدة ونظام صارم. ومع كلّ هذه
الأشكال لا تتخلّى القصّة القصيرة عن مشابهة الواقع ومحاكاته.. ومن هنا
ميّزت إيلين بالدشوايلر
Eileen Baldeshwiler بين
نوعين من القصص القصيرة: نوعٍ يعتمد على المحاكاة
Imitation،
وآخر يعتمد على الغنائيّة
Lyricism، وهي تصف قصص
المحاكاة بـ " أنّها المجموعة الأكبر من القصص التي تتميّز بفعل خارجيّ،
يتطوّر على نحو منطقيّ ومن خلال شخصيّات يتمّ صنعها أساساً، لتتقدّم
بالحبكة، وتبلغ ذروتها بالنهاية الحاسمة التي تعطي أحياناً بصيرةً شاملةً،
وتستخدم لغة الواقعيّة النثريّة، وأمّا قصص الغنائيّة، فهي تركّز على
التغيّرات الداخليّة والأمزجة والمشاعر مستخدمةً أنماطاً بنائيّةً مختلفةً،
تعتمد على تشكيل العاطفة نفسها، وتعتمد في معظم الأحوال على النهاية
المفتوحة، وتستخدم لغة القصيدة الموجزة والمثيرة للعواطف والمشخّصة " .
فهذا النوع من قصص الغنائيّة يشترك مع قصص تيار الوعي Stream
of consciousness – وهي
في الأساس تقنيّة روائيّة – في استخدام لغة قريبة من لغة الشعر وفي ارتياد
منطقة متشابهة من التجربة الإنسانيّة، هي منطقة المشاعر والصور الغائمة
التي لم تدخل بعدُ طور التشكيل النهائيّ، ولكنّ قصص تيار الوعي لا تكتفي
برصد حركة الداخل فحسب، وإنّما تسعى أيضاَ إلى رسم الشخصيّة الإنسانيّة في
مختلف جوانبها: داخلها وخارجها، ماضيها وحاضرها، أحلامها وهواجسها.. وهكذا
تتحوّل القصّة إلى عالم ذهنيّ مضطرب ومتشابك، يزخر بالتداعيّات، ويفيض
بالمشاعر المبهمة. وممّن برع في هذا الاتّجاه: هاني الراهب، ووليد إخلاصي،
وإدوار الخرّاط، وعبد الحليم يوسف..
ثالثاً - الأقصوصة
Novella،
أو القصّة القصيرة جدّاً
Very short story:
مؤخّراً استقرّ
مصطلح القصّة القصيرة جدّاً في مواجهة مصطلح الأقصوصة الذي كان يختلط بدوره
مع مصطلح القصّة القصيرة، وصارت الحدود فاصلةً بين القصّة القصيرة والقصّة
القصيرة جدّاً التي غدت فنّاً راسخ المعالم محدّد الملامح واضح المقوّمات..
وإذا كنّا قد وجدنا أنّ معيار الحجم هو الفيصل الرئيس بين الرواية والقصّة
القصيرة، فإنّ هذا المعيار هو أيضاً يميّز القصّة القصيرة من القصّة
القصيرة جدّاً التي لا تكاد تتجاوز صفحةً أو بضعة أسطر.
ومن أوائل الذين
كتبوا قصصاً قصيرةً جدّاً التشيكيّ فرانز كافكا
Franz Kafka ( 1883 – 1924
) في مجموعته القصصيّة ( وصف الصراع وقصص أخرى ) . ومن أوائل الذين
استخدموا هذا المصطلح الروائيّ الأمريكيّ أرنست همنغواي
Ernest Hemingway ( 1898 – 1961
) الذي أطلق عنوان ( قصّة قصيرة جدّاً ) على إحدى قصص مجموعته ( حدث في
زماننا ) الصادرة في نيويورك عام 1958 . وعربيّاً يبدو أنّ أوّل من استعمله
فتحي العشريّ الذي ترجم رواية ( انفعالات ) للكاتبة الفرنسيّة ناتالي ساروت
Natalie Sarraute
عام 1971، وأطلق عليها ( قصصاً قصيرة جدّاً ) لا روايةً ولا قصّة.
والقصّة القصيرة جدّاً حدث
خاطف، لَبوسُه لغة شعريّة مرهفة، وعنصره الدهشة والمصادفة والمفاجأة
والمفارقة Irony
.. هي قصّ مختزل وامض، يحوّل عناصر القصّة من شخصيّات وأحداث وزمان ومكان
إلى مجرّد أطياف، ويستمدّ مشروعيّته من أشكال القصّ القديم كالنادرة
والطرفة والنكتة.. فالشكل قديم، يعود إلى تلك البدايات الأولى، وربّما يعود
إلى الرواد الأوائل كـ ( خواطر ) محمّد تيمور الملحقة بمجموعته القصصيّة (
ما تراه العيون ) 1922.
وللقصّة القصيرة جدّاً أسس
أربعة، تستند إليها، وهي:
1 – الموضوع
Motif:
يختار القاصّ من الموضوع لمحةً عميقةً أو مشهداً عابراً أو ركناً خفيّاً من
أركان الحياة أو زاويةً بعيدةً من زوايا النفس.. ويسلّط عليها الضوء،
ليكتشف سرّها الذي قد لا يلاحظه سواه من الناس. وهذا القاصّ لا يعنيه من
الموضوع كلّه إلاّ هذا الكشف، يومض في نهاية القصّة إيماضاً خاطفاً، حتّى
يَبْهَر الأعين، ويُرْعِد الأطراف. وإذا كانت القصّة القصيرة جدّاً تملك
مثل هذه الجرأة على سبيل المضمون، فلا شكّ في أنّ جرأتها على الشكل كانت
أكبر وأظهر، وذلك حين خرجت على البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة، وتناولت
عناصره على طريقتها الخاصّة بالتكثيف
Intensification
والاختزال Stenography
والانزياح Displacement
.. وهو ما جعل الدكتور أحمد جاسم الحسين في كتابه ( القصّة القصيرة جدّاً )
يعدّ الجرأة ركناً مهمّاً من أركانها المكوّنة .
2 – التكثيف
Intensification:
هو عنصر جوهريّ من عناصر القصّة القصيرة جدّاً، يلجأ إليه القاصّ، ليضمن
لقصّته غنائيّةً صريحةً وقصراً شديداً، فلا مجال في هذا الفنّ للترادف، ولا
مكان للهذر ولا للوصف.. فإذا ما احتاجت القصّة القصيرة جدّاً إلى التعبير
عن تطوّر الحدث وتقدّمه رصدته كليماتٌ قليلةٌ ذات إيقاع وإيحاء، وكأنّ هذه
القصّة تبني الحدث كلمةً كلمةً بناءً محكماً، لا فضل فيه ولا زيادة، لأنّ
انزياحها عن النظام المألوف للقصّة القصيرة إلى نظام آخر يقوم على الاقتصاد
في مختلف العناصر بشكل عام وعلى التكثيف الشعريّ والدراميّ بشكل
خاصّ.
3 – الإيماض
Scintillation
: لا بدّ أن تخلص القصّة القصيرة جدّاً إلى هذا الإيماض الذي يترك في الذهن
والنفس تأثيراً عميقاً، ربّما فاق ما تتركه القصّة القصيرة من تأثيرات وما
تثيره من مشاعر، والإيماض في أبسط غاياته كشف وفضح ودهشة..
4 – المجاز
Metaphor
المفرط: تظهر القصّة القصيرة جدّاً اهتماماً كبيراً بلغة المجاز لا لغة
الحقيقة، لأنّ مادتها ليست إلاّ أطياف الواقع لا الواقع نفسه وظلال الحياة
لا الحياة نفسها، وهي مادّة تأخذ من وسائل التعبير ما يلائمها من فنون
البديع كالتورية والطباق، وتأخذ من وسائل التصوير ما يناسبها من فنون
البيان من تشبيه واستعارة وكناية.
إنّ في طبيعة هذا
الفنّ مزالقَ، تجعله يتداخل مع أجناس أدبيّة أخرى، فالتكثيف قد يجنح به إلى
( الخاطرة )، والموضوع قد يوقعه في إسار ( المقالة )، واللغة الشعريّة قد
تقرّبه جدّاً من ( قصيدة النثر )، ووميضه الخاطف قد يميل به إلى ( الومضة )
الشعريّة.. وهنا سنعرض بعض النماذج من القصص القصيرة، ونرى ما استدعته من
العناصر وما اعتورها من العلل.
( 1 ) في قصّة ( عطاء ) تقول
القاصّة وفاء خرما: " في الطريق خلع حذاءه، ووضعه في قدمي مشرّد، كما تخلّى
لآخر عن كنزته، وحين بكى أطفال الجيران مطالبين أمّهم بالطعام دفع إليهم
بكلّ ما في حوزته من خبز وجبن وزيتون.. وعندما لم يعد يخرج من غرفته
تلصّصوا عليه، فرأوه يجلس متقوقعاً على نفسه عارياً جائعاً مقروراً " .
فالقصّة على
قِصرها الشديد تفصح عن أربع صور قصصيّة مؤثّرة، توحي جوامع كلماتها
المعدودة بما توحي به من مشاهد البؤس والفاقة والجوع، وتبلغ ذروتها
الدراميّة في المشهد الأخير الذي تلخصّه أربع أحوال، تصوّر ما انتهى إليه
البطل من مصير فاجع. وهذا البطل لا نعرف من ملامحه الشخصيّة سوى ضميره
النبيل ( هو ) الذي أغنى عنها، وجعل السرد موضوعيّاً، لا ترادف بين مفرداته
ولا هذر، وذلك بما يحمله هذا الضمير الغائب / الحاضر من الإيثار، وهو غاية
النبل الإنسانيّ وهدفه.
ومن حيث الحجم لو نظرنا في
سواها من القصص القصيرة جدّاً في مجموعتها ( الأجنحة المتكسّرة ) لرأينا
أنّ أقصرها – وهو قصّة ( الحبيب الأوّل ) وقصّة ( الحبّة الزرقاء ) – يبلغ
ستّ عشرة كلمةً، وأنّ أطولها – وهو قصّة ( صرخة ) وقصّة ( رؤيا ) – يبلغ
زهاء مئتي كلمة، وفي هذا الحجم الرهيف يكمن سرّ هذا النوع من القصّ كأيّ
طرفة أو نادرة من نوادرنا الشعبيّة أو كأيّ مثل من أمثالنا العربيّة، يُخفي
وراءه قصّةً كبيرةً، ويلخصّها في عبارة أو عبارتين تلخيصاً بليغاً.
( 2 ) في قصّة ( ابتسامة )
يقول الدكتور فاروق أوهان: " زوجة المرحوم لا تسمع من الَّلغَط الظاهر
والمخفيّ إلاّ رنين ضحكات الحبيب الغائب، فقد ألهتها، فصارت بعيدةً
بحواسّها عابرةً الأمكنة والأوقات، تقطُف من كلّ لحظة سعيدة صورةً أو ذكرى
أو موقفاً أو جملةً أو لمسةً.. هي شريط حياتها مع زوجها الراحل بعيداً،
فتعجب لهذا التناقض، فصور الزوج وكلامه وأفكاره لا تزال تعيش معها حارّةً
دافئةً، لكنّها سريعة كرعشة دافقة ومأزومة كعاطفة جيّاشة.. بينما لا يستجيب
وجهه في الصورة لأيّ ردّ فعل، وكأنّه يبتسم للمدعوين على أمل اللقاء " .
في هذه القصّة يصوّر الدكتور
أوهان مشاعر امرأة عجوز، مات عنها زوجها، فلم يبق لها منه إلاّ صورة وذكرى،
وهو موضوع قد يتلاءم والقصّةَ القصيرة، لأنّ فضاءها للوصف أوسع وللمشاعر
المتدفّقة والأحزان المتلاحقة أرحب. ولذلك كان " شريط حياتها مع زوجها "
خالياً من الصور إلاّ أنّه يضجّ باللغط المبهم، وتشيع فيه الأسماء المعطوفة
والمفردات المترادفة، وكأنّه سرد قصير لا قصير جدّاً، أو كأنّه خاطرة لا
قصّة. والكاتب لجأ في النهاية إلى التكثيف، ولكنّ الموضوع كان أكبر ممّا
يرمي إليه، وكان مزلقها الوخيم.
وإذا ما اطّلعنا على مجموعته
( رسائل حبّ من نيرغال ) – وهي مجموعة من القصص القصيرة جدّاً – رأينا أنّ
الكاتب كان يحسّ بالصلة الوثيقة بين هذا النوع من القصّ وبين قصيدة النثر،
فكتب قصصه من حيث الشكل على طريقتها وطريقة شعر التفعيلة أشطراً متفاوتة
الطول، وحاول من حيث المضمون أن يستفيد من قدرتها على الإيماض وعلى التكثيف
الشعريّ والدراميّ، ولكنّه أثقل هذه القصص بالأسماء والرموز البعيدة التي
احتاجت إلى شروحٍ وحواشٍ، أفقدتها كثيراً من رونقها وحيويّتها وقدرتها على
التوصيل والإيحاء.
( 3 ) في قصّة ( القفص ) يقول
القاصّ عدنان محمّد : " صنع الحدّاد قفصاً جميلاً، وضع خبرة عمره في تمتينه
وتزيينه، دخل إليه، أحكم إغلاق الباب خلفه، تذكّر أنّه لم يصنع مفتاحاً
للخروج منه، فجعل يتغنّى بالحرّيّة " .
والقاًصّ محمّد لم يسمّ هذه
القصّة وأمثالها من مجموعته ( حقل من ريح ) قصصاً قصيرةً جدّاً، بل أطلق
عليها اسم ( أحلام )، وكأنّه كان يشير إلى أنّ هذا النوع من القصّ مجرّد
حلم خاطف، لا غاية له إلاّ الإيحاء، ولا قدرة له على الإسهاب في التعبير
والتصوير. ومن هنا تخلّت الجملة عن أيّ فضلة، ولو كانت هذه الفضلة حروف
العطف، أو كانت تابعاً من التوابع. والقصّة تعتمد – كما نرى – على عنصر
المفاجأة الذي يملأ العين دهشةً والقلب أسىً، والذي لم تستكن له شخصيّة
الحدّاد، بل راحت تنشد الحرّيّة، لأنّها كانت تدرك سلفاً ألاّ فرقَ بين قفص
الواقع وقفص الحديد، وهو ما جعل الحدّاد – وهو في أوج حرّيّته - يبني لنفسه
قفصاً جميلاً.
وممّن أخلص لهذا الفنّ
إخلاصاً كبيراً، حتّى كان رائد القصّة القصيرة جدّاً بلا منازع الأديب
الفلسطينيّ محمود علي السعيد ( ترشيحا 1943 ) الذي أصدر تسع مجموعات قصصيّة
خلال عقدين من الزمن، هي على التوالي: ( الرصاصة 1979 )، و( المدفأة 1980
)، و( المنقل 1982 )، و( القصبة 1982 ) ، و( المحاولة 1983 )، و( الشكل
1983 )، و( نصف البرتقالة 1985 )، و( بطاقة رقم 5 ) 1985، و( إلى فراشة
البحر 1987 ). ولعلّ قصّته ( الرصاصة ) المنشورة في مجلّة ( الموقف الأدبيّ
) السوريّة عام 1973هي أوّل قصّة فنّيّة قصيرة جدّاً، وهو يرى في حوار معه
منشور في ( ملحق الثورة الثقافيّ ): 69 في 13/ 7/ 1997 أنّ القصّة القصيرة
جدّاً " تتوسّل الشعريّة مرتكزَ بثّ وإرسال عبر جملة من الصور المجنّحة،
يلعب فيها التخييل الوثّاب دورَ البطولة، والتكثيف والتلخيص والاختصار
دستورَ تعامل، وزاوية الرؤية البؤريّة محطّةَ رنوّ "، هي " تقطير الزمان في
لحظة والمكان في قطرة، أو قل: شذرة مشهد، الشخصيّات والحدث في فتحة فرجار
جدّ مضغوطة توخّي المغنطة والإدهاش.. ".
ومن كتّاب القصّة القصيرة
جدّاً في مصر: نجيب محفوظ في ( أصداء السيرة الذاتيّة )، ومحمّد المخزنجيّ،
ويحيى الطاهر عبد اللّه، ومحمّد مستجاب، وناصر الحلواني، ومنتصر القفاش،
ورفقي بدويّ، وأحمد عوض محمّد، وعبد الحكيم حيدر.. وفي فلسطين: محمود شقير،
وطلعت محمود سقيرق في ( الخيمة ) و( السكّين ) 1987، وفي الكويت: وليد
الرجيب، وفي العراق: إبراهيم أحمد، وفاروق أوهان، وعبد الرحمن مجيد
الربيعيّ، ومحمود البياتيّ، وعبد الستّار ناصر..
وفي سورية أصدر بعض الكتّاب
مجاميع من القصص القصيرة جدّاً، ومنهم: وليد إخلاصي في ( زمن الهجرات
القصيرة 1970 )، و( الدهشة في العيون القاسية 1972 )، ونبيل جديد في (
الرقص فوق الأسطحة 1976 )، وضياء قصبجي في ( إيحاءات 1995 ) و( إيحاءات
جديدة 1999 )، ود. أحمد جاسم الحسين في ( همهمات ذاكرة 1997 )، ومروان
المصريّ في ( أحلام عامل المطبعة 1996 )، ونجيب كيّالي في ( ميّت لا يموت
1996 )، وعزّت السيّد أحمد في ( الموت بدون تعليق 1994 )، وهيمى المفتي في
( ومضات 1998 )، وفوزيّة جمعة المرعي في ( بحيرة الشمع 1999 )..
وبعضهم الآخر ألحق بمجاميعه
القصصيّة عدداً منها، وهم: زكريّا تامر في أغلب مجموعاته القصصيّة، وأيمن
الطويل في ( الدائرة 1981 )، ووليد معماريّ في ( حكاية الرجل الذي رفسه
البغل 1987 )، ونضال الصالح في ( الأفعال الناقصة 1990 )، ومحمّد إبراهيم
الحاج صالح في ( قمر على بابل 1993 )، و( دفقة أخيرة 1995 )، وعدنان محمّد
في ( حقل من ريح 1997 )، وخطيب بدلة في ( وقت لطلاق الزوجة 1998 )، ووفاء
خرما في ( الأجنحة المتكسّرة لسين وعين 1999 )، ومحمّد محيي الدين مينو في
( أوراق عبد الجبّار الفارس الخاسرة 1999 )، ومحمّد الحاج صالح في ( يوم في
حياة مجنون 1990 )، وفراس سليمان محمّد في ( الأشعث والرجل الضئيل 1996 )،
ونجاح إبراهيم في ( حوار الصمت 1997 )، وجمانة طه في ( عندما تتكلّم
الأبواب 1998 )، ونور الدين الهاشميّ في ( قصّة انتحار معلن 1998 )، ومحمّد
إبراهيم الحاج صالح في ( قمر على بابل 1993 ) و( دفقة أخيرة 1995 )،
وابتسام شاكوش في ( محاولة للخروج من المجال المغناطيسيّ 1997 ) و( إشراقة
أمل 1998 ) و( الشمس في كفّي 1999 )، وإبراهيم خرّيط في ( حكايات ساخرة
1998 )، وأمية الجاسم العبيد في ( عسلها مرّ 1999 )، ومحمّد منصور في (
سيرة العشّاق 1999 )..
وفي مجال هذا القصّ القصير
جدّاً يفتقر نقدنا العربيّ الحديث إلى دراسات نظريّة وتطبيقيّة، بل توشك
هذه الدراسات أن تكون غائبة تماماً، ولعلّ دراسة الدكتور أحمد جاسم الحسين
هي الوحيدة التي أخلصت لهذا الفنّ، ولكنّنا نجد هنا وهناك نُثاراً من
الدراسات التي لم تؤسّس بعدُ لنظريّة نقديّة خاصّة بهذا الفنّ، ومنها:
دراسة الدكتور خيري دومة ( القصّة القصيرة جدّاً: دراما الاختزال والتكثيف
) في كتابه ( تداخل الأنواع في القصّة القصيرة ) ، ودراسة الدكتور نضال
الصالح ( القصّة القصيرة جدّاً ) في كتابه ( القصّة القصيرة في سوريّة: قصّ
التسعينات ) ، ودراسة الدكتور جميل حمداويّ المنشورة في عدّة مواقع على (
الإنترنت ) .
الفصل الثالث
البناء
الفنّيّ للقصّة القصيرة
للقصّة القصيرة
كغيرها من الفنون بناء فنّيّ متعدّد العناصر، إذا ما افتقد واحداً منها
تداعى، وهي فنّ سريع التفلّت، ينسرب من بين يدي صاحبه من غير رويّة ولا
إحكام، فيستحيل أقصوصةً أو حكايةً أو خاطرةً..
إنّ عمليّة
البناء القصصيّ تبدأ من حدث ما، ينشأ من موقف من مواقف الحياة، وينمو،
ويتفرّع أحداثاً أخرى، تحتبك، وتتعقّد حين تبلغ الوسط، لتخلص في لحظة فاصلة
إلى نهاية الحدث، ولكنّ القصّة الجديدة اليوم لم تعد تلتزم بهذا القانون
الراتب للأحداث التي تنطوي على بداية ووسط ونهاية، لأنّ الحياة نفسها –
والقصّة قطعة من الحياة – لا تسير على وتيرة واحدة. وهذا لا يعني دائماً
أنّ القصّة تشتمل على حدث، يتغصّن، ويتعالى، فقد تجيء خبراً أو مجموعة
أخبار، وقد تكون رسالةً أو حلماً، تداعياتٍ أو يوميّاتٍ.. وللقصّة الحديثة
أشكال جديدة، خرجت بجرأة عن الشكل السرديّ المألوف للقصّة القصيرة، فحقّق
بذلك أصحابها تميّزاً ومكانةً وحضوراً لافتاً.
وهنا سنحاول أنّ
ندرس عناصر البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة عنصراً عنصراً، فلعلّنا نتعرف
أكثر إلى عمليّة البناء القصصيّ نفسها، وهي كأيّ عمليّة فنّيّة لا يمكن أن
تقوم إلاّ على عناصر، هي عمادها، وهي مادتها الأولى.
- البيئة
Environment:
هي عنصر رئيس من عناصر
القصّة Elements of story،
وإن يكن أحياناً عنصراً غير لافت، فإذا ما كان للقصّة وجود حقيقيّ، فإنّ
لهذا الوجود عناصرَ فنّيّةً عدّةً، تجعل من القصّة قطعةً من الحياة، وسواء
أكانت هذه الحياة واقعاً
Reality أم خيالاً
Fiction
لا يمكن لشخصيّاتها إلاّ أن تحيا في محيط أو وسط أو إطار.. وهي مسمّيات
واحدة، ترادف البيئة في المحصّلة، يقول أوستن وارين
Austin Warren
في معرِض حديثه عن ( طبيعة السرد القصصيّ وأنماطه ): " الإطار هو البيئة،
والبيئة – ولا سيّما البواطن البيتيّة – قد تصوّر على أنّها تعبيرات
مجازيّة عن الشخصيّة "، ويراها المكوّن الأكبر للقصّة، فيقول: " إنّ البيئة
قد تكون المكوّن الأكبر – المحيط منظوراً إليه كسببيّة اجتماعيّة أو
طبيعيّة كشيء ليس للفرد عليه سيطرة فرديّة كبيرة " .
إنّ مصطلح البيئة فضفاض رحب،
فهو ليس مفهوماً اقتصاديّاً أو اجتماعيّاً أو جغرافيّاً أو سياسيّاً فحسب،
وإنّما هو أيضاً مفهوم فكريّ، يتردّد في مختلف جوانب الفكر، ليعبّر عن جملة
الظواهر المؤثّرة في الفرد، وهو في اللغة: المنزل والحالة، قال ابن منظور:
" البيئة والباءة: المنزل.. وبوّأته منزلاً، أي: جعلته ذا منزل " ، وقال
الفيروز أباديّ: " البِيئة بالكسر: الحالة " ، والبيئة في الاصطلاح تطلق "
على مجموع الأشياء والظواهر المحيطة بالفرد والمؤثّرة فيه، تقول: البيئة
الطبيعيّة أو الخارجيّة، والبيئة العضويّة أو الداخليّة، والبيئة
الاجتماعيّة، والبيئة الفكريّة " . فالبيئة بيئات، تتنوّع، وتتلوّن، لتشمل
مختلف جوانب الحياة في أُطُر عامّة من الزمان والمكان واللغة، تحيط بتلك
الظواهر، وتجعلها ذات صبغة محليّة، حتّى كأنّ هذه الصبغة خصيصة وميزة، أو
كأنّها الوجه الحقيقيّ للنصّ نفسه، فقصص نجيب محفوظ في كثير من وجوهها هي
في الواقع بيئة ( القاهرة )، وزكريّا تامر هو ( دمشق )، وإبراهيم الكوني هو
( الطوارق )، ومحمّد المرّ هو ( دبيّ )، وخطيب بدلة هو ( إدلب ).
بعد هذا وذاك نتساءل: ما صلة
البيئة بالواقعيّة ؟
إنّ البيئة القصصيّة هي
الواقع نفسه دون تمويه ولا تزييف، بل هي التمثيل الموضوعيّ للواقع المحلّيّ
في مختلف مستوياته: الزمانيّة والمكانيّة واللغويّة والاجتماعيّة، سواء
أكان هذا التمثيل وصفاً أميناً كلّ الأمانة أم تصويراً فنّيّاً، لا يضع
البيئة في الحُسبان هدفاً وأرَباً.
المستوى الاجتماعيّ :
المستوى اللغويّ : المستوى المكانيّ : المستوى الزماني :
المجتمع: مظاهره، وتقاليده،
وانتماءاته.. وعلاقته بمختلف العناصر الفنّيّة الأخرى، ولا سيّما الشخصيّة
واللغة.
السرد: أنواعه،
وعلاقته بمختلف العناصر الفنّيّة الأخرى ـ ولا سيّما المكان والزمان ـ من
جهةٍ، وعلاقته بالضمير من جـهةٍ أخرى.
الحوار: الداخليّ والخارجيّ،
وعلاقة كلّ منهما بمختلف العناصر الفنّيّة الأخرى، ولا سيّما الشخصيّة.
الوصف: علاقته بالعناصر
الأخرى، ولا سيّما المكان، ووظائفه. المكان الحقيقيّ ـ الواقعيّ.
المكان الفنّيّ ـ الافتراضيّ. تتابع المكان أو تقطّعه أو تعدّده أو
انعدامه. الحسّ المكانيّ لدى الكاتب. علاقة المكان بالعناصر الفنّيّة
الأخرى ـ ولا سيّما الشخصيّة ـ من جهة، وعلاقته بالزمان من جهة أخرى.
الفضاء الجغرافيّ. قيمة المكان ومظاهره ودلالته الرمزيّة أو الواقعيّة أو
الرومانسيّة.. الزمان الحقيقيّ ـ الواقعيّ. الزمان الفنّيّ ـ الافتراضيّ.
تتابع الزمان أو تقطّعه أو انعدامه. الحسّ الزمنيّ لدى الكاتب. علاقة
الزمان بمختلف العناصر الفنّيّة الأخرى ـ ولا سيّما الحبكة ـ من جهة،
وعلاقته بالمكان من جهة أخرى..
مستويات البيئة
ومن هنا يتردّد في صور شتّى
مصطلح البيئة غير مرّة في كتابات الواقعيين، ولا سيّما الواقعيين الطبيعيين
منهم، حتّى إنّ أكبر نقّادهم في القرن التاسع عشر – وهو الفرنسيّ غوستاف
بلانش Gostaf Blanche
– كان يقصد صراحةً بالواقعيّة
Realism
" اللون المحليّ، أي: التفاصيل المستمدّة من البيئة المحليّة، لتعطي
الانطباع بالواقعيّة وصدق التعبير " ، ثمّ نجد إنجلز
Angles
يستعمل مصطلح البيئة في إحدى رسائله ، وبعد زمن سيشيع هذا المصطلح
ومرادفاته المتعدّدة في كتاباتهم، وسيغدو واضح المعالم والحدود. والواقعيّ
يخلص للبيئة، ولا يحيد عنها، وهو متأثّر بها دوماً لا مصوّر لها، لا يعنى
البتّة بالتسجيل الدقيق لمعالم البيئة وحدودها، ولا يُشغل عن نفسه بمظاهرها
الخارجيّة، وإنّما يجد واقعيّة البيئة في العمق لا في السطح، ويراها
انعكاساً للوعي والمُثل، لأنّها في الأساس جذوره وملامحه وانتماؤه
الحقيقيّ، تؤثّر في تكوينه الفكريّ والاجتماعيّ والنفسيّ، وتسهم في رسم
شخصيّاته وتحديد معالمها ورصد حركاتها.. والقصّة بلا بيئة نصّ في العراء أو
وجه بلا ملامح ولا أسارير، والقاصّ أيّ قاصّ لا يمكنه إلاّ أن يتفاعل مع
بيئته المحليّة، مهما كان زمانها قصيراً ومكانها ضيّقاً.
- الزمان والمكان
Time and Place:
إنّ للقصّة القصيرة زماناً
ومكاناً مفترضين أو تخييليّين، يتتابعان في مجرى الأحداث، ويتوازيان
كخطّين، فلا يمكن لأحدهما أن يستقلّ عن الآخر، لأنّهما وليدا واقعة، لا
تجري في فراغ. والدكتورة نبيلة إبراهيم تتحدّث عن تجربة الإنسان مع الزمان
والمكان، فترى أنّها " تعتمد إلى حدّ كبير على ميل الحسّ الإنسانيّ نحو
الزمان أو المكان، فإذا كان الإنسان أكثر ميلاً لمراقبة الأشياء في حركة
الزمن المستمرّة... فإنّنا نتحدّث عن الحسّ الزمنيّ عند الكاتب، أي: إنّ
الكاتب واقع تحت ضغط الإحساس بالزمن، والزمن في هذه الحالة إمّا أن يُصوّر
على أنّه تيّار مائيّ متدفّق، يجرف أمامه كلّ شيء، أو يُصوّر على أنّه
الحاضر الدائم الذي يستدعي الماضي تارةً والمستقبل تارةً أخرى... وإذا مال
الكاتب إلى إيقاف حركة الزمن، ليعايش الأشياء في امتداداتها المكانيّة
وعلاقتها بالأشياء الأخرى المتجاورة وغير المتجاورة من ناحية ثمّ بموقف
الكاتب النفسيّ من ناحية أخرى، فإنّنا نتحدّث عن معايشته للامتداد المكانيّ
" . من هنا يبدو أن شكل القصّة القصيرة رهين زمان ومكان محدودين، فإذا ما
تتابعا على نحو منطقيّ كان شكل القصّة تقليديّاً، وإذا تتابعا على نحو غير
منطقيّ تولّدت أشكالٌ من القصّة جديدةٌ.
أ – التتابع المنطقيّ أو
السببيّ Logical sequence:
ينهض على حتميّة منطقيّة واضحة، تقود فيها المقدّمات إلى النتائج ، و"
يعتمد على النموّ التدريجيّ المتسلسل في العمل القصصيّ سواء أكان هذا
النموّ التدريجيّ المتسلسل للشخصيّة أم للحدث أم للغة مع تتابع الزمان
والمكان في خطّ تدريجيّ، فالزمان يبدأ من الماضي ثمّ الحاضر فالمستقبل،
والمكان ينتقل من موضع طبيعيّ إلى آخر متناسباً طرديّاً مع الزمان، لأنّ
التتابع الزمنيّ يحدث بدوره تتابعاً للمكان في اتّجاه واحد " ، وعندئذٍ
تؤدّي مختلف العناصر الفنّيّة دورها على نحو طبيعيّ، تحكمه وحدة الزمان
ووحدة الموضوع. ومع هذا التتابع يشعر القارئ بالقدرة على التنبّؤ
بالتطوّرات المقبلة، وهو شعور قد يتحقّق في بعض الأحيان، وقد يؤدّي إلى عكس
ما يتوقّعه في بعضها الآخر. وهذا التتابع يتجلّى بوضوح في القصص التقليديّة
والواقعيّة، ولا سيّما قصص عبد السلام العجيليّ، ومحمّد المرّ، ونجيب
محفوظ، ومحمّد نور الدين..
ب – التتابع غير المنطقيّ أو
الكيفي Illogical sequence
: لا تجري فيه الأحداث على نحو موضوعيّ، ولا تتتابع تتابعاً طبيعيّاً، بل
تعكس حالةً من التداخل الديناميكيّ، يتداعى فيه الزمن الماضي في لحظة
الحاضر، ويتراءى المستقبل حلماً أو هاجساً، وهذا ( الاسترجاع
Analepsis
) و( الاستشراف Exaltation
) على حدّ تعبير جيرار جينيت
Gerard Genette
يتطلّب قيماً إيحائيّةً ودلالاتٍ موحيةً.. والكاتب عندئذ " لا يعنيه البناء
التقليديّ بقدر ما يعنيه إبراز القيمة الكيفيّة للصورة والمشاهد القصصيّة
وتراصّها في نسيج كلّيّ موحّد، فنهاية قصصه دائماً تبدأ من نقطة الحركة،
وتنتهي إلى نقطة السكون " . وأكثر ما تجلّى هذا النوع من التتابع في قصص
الهواجس والأحلام وقصص تيار الوعي، ولا سيّما قصص وليد إخلاصي، ويحيى
الطاهر عبد اللّه، وهاني الراهب، وعبد الحليم يوسف.
المستقبل المستقبل
الماضي
الحاضر الماضي
الحاضر
التتابع
المنطقيّ التتابع غير المنطقيّ
فالزمان والمكان يحدّدان شكل
القصّة القصيرة، ويعملان على إبراز البيئة القصصيّة، ولكنّ بعض الكتّاب –
ولا سيّما في تجاربهم الأولى – قد يديرون ظهورهم للزمان والمكان، ويلحّون
على قصص بلا زمان ولا مكان قصصيّين، وكأنّها قصص إنسانيّة عامّة، يمكن أن
تدور في كلّ زمان وكلّ مكان، وهو ما يترك القصّة بلا ملامح ولا أسارير، تقف
على قدم واحدة، أو تسير على عجلة واحدة، أي: يتركها بلا هويّة خاصّة، لا
يمكن أن تتحدّد إلاّ إذا انتسبت إلى زمان ومكان محدّدين، قد يكونان مفترضين
أو تخييليّين شديدي الصلة بالواقع. ومن هؤلاء: شيخة الناخي، ومحمّد
المخزنجي، ودريد يحيى الخواجة.
- الشخصيّة
Character:
لكلّ شخصيّة من الشخصيّات
القصصيّة ظروفها الاجتماعيّة وملامحها الشخصيّة والنفسيّة، ولها مستوى من
اللغة والفكر محدّدٌ، وليس من الضروريّ أن يحرص القاصّ على إبراز هذه
الأبعاد كلّها ، لأنّ القصّة القصيرة هي فنّ الفرد لا فنّ المجتمع
كالرواية، وهذه الأبعاد لا تجتمع معاً إلاّ في علاقة ( هذا ) مع ( هؤلاء )،
وهي في القصّة القصيرة علاقة محدودة، وربّما هي علاقة عابرة. ومن هنا لا
تدور أحداثها إلاّ حول شخصيّة رئيسة
Main character
، يحدّد اتّجاه سلوكها ومواقفها نوازع وصفات مسيطرة، وتخدم دورها الفنّيّ
شخصيّات ثانويّة Sub-by
characters، قد لا تحرّك
حدثاً، وقد لا تثير دافعاً، ولكنّ علاقاتها معها تفضي إلى موضوع
Theme،
يتألّف من وحدات موضوعيّة كبرى، وكلّ وحدة منها تتألّف من وحدات موضوعيّة
صغرى، هي الجمل التي يتألّف منها القصّ، ويتضمّن كلٌّ منها حافزاً
Motive
خاصّاً بها . وكلّما كان عدد الشخصيّات الثانويّة في القصّة محدوداً كان
دورها أكثر تأثيراً، و" كقاعدة عامّة إذا كنت تستطيع أن تورد القصّة
القصيرة بشخصيّة ثانويّة واحدة، فلا تستعمل اثنتين، وإذا كنت تستطيع أن
توردها باثنتين فلا تستعمل ثلاثةً " .
والشخصيّة في القصّة القصيرة
ليست حقيقيّةً تماماً، ولكنّها تشبه الشخصيّة الحقيقيّة من حيث المشاعر
والانفعالات ومن حيث المظاهر والعلاقات، بل يمكن أن نقول:" إنّ الشخصيّات
في قصّة ما هي كائنات بشريّة، أو تبدو أنّها كذلك " ، وكلّما حاول الكاتب
أن يربط شخصيّاته بالحياة نأت عنها، وتحوّلت إلى شخصيّات حكائيّة خياليّة،
لا صلة لها بالواقع العيانيّ ولا رابط.. أي: هي - على حدّ تعبير أوستن
وارين Warren Austin
- شخصيّات نموذجيّة Model
characters، وهو يشير إلى
مبدأ خلق الشخصيّات في الأدب قائلاً: " إنّه مزج النموذج مع الفرد لإظهار
النموذج في الفرد أو الفرد في النموذج. والشخصيّة التي هي فرد بقدر ما هي
نموذج ألّفت بحيث تظهر أنّها نماذج متعدّدة، فهاملت: عاشق أو عاشق سابق،
وبحّاثة، وخبير بالدراما، ومبارز حاذق.. كلّ إنسان ملتقى للنماذج وصلة
بينها " .
وهكذا تدخل هذه الكائنات
النموذجيّة دنيا القصّة قسراً كما يدخل الوليد الدنيا، و" تصل مشحونةً بروح
التمرّد، ولمّا كانت تمتلك تلك المتوازيات الكثيرة مع أناس مثلنا، فإنّها
تحاول أن تعيش حياتها الخاصّة، ومن ثمّ تُشغل في النتيجة بخيانة مشروع
الكتاب، تفرّ، وتنزلق من الأيدي، لأنّها ابتكارات داخل ابتكار، تتنافر معه
في الغالب " ، ولأنّها في النهاية شخصيّات حكائيّة لا حقيقيّة.
وثمّة قصص تأخذ شخصيّاتها من
الواقع نفسه أو من التاريخ والتراث، ولكنّها عندما تلج باب القصّة تتلاشى
ملامحها الأصليّة، وتنقطع صلتها بالماضي، وتغدو نماذجَ مجازيّةً: مقنعةً
ومتساوقةً مع نفسها ومع محيطها من جهةٍ ومتطوّرةً ومتفاعلةً من جهة أخرى،
يحمّلها الكاتب ما يحمّلها من الدلالات والرموز، إذ ليست القصّة نقلاً
أميناً للأفكار، كما هي في الواقع والتاريخ، وإنّما هي " وسيلة لإحداث
المواقف من الأفكار " . وهو ما فعله زكريّا تامر عندما أخرج طارق بن زياد
من صفحات التاريخ في قصّة ( الذي أحرق السفن ) من مجموعته ( الرعد 23 )،
وأنهض عمر المختار من قبره في قصّة ( الإعدام ) من مجموعته ( دمشق الحرائق
89 )، ثمّ حوّلهما إلى شخصيّات نموذجيّة، لا تعيش داخل عصرها فحسب، وإنّما
تعيش خارجه أيضاً.
وللشخصيّة نوعان، هما على حدّ
تقسيم إدوارد فورستر Forster
Edouard:
- الشخصيّة المسطّحة أو
البسيطة Simple character:
وهي شخصيّة " كانت تُعرف في القرن السابع عشر بالشخصيّة الهزليّة، وكانت
أحياناً تعرف بالنموذج وأحياناً بالكاريكاتير، وهي تُرسم في أنقى صيغها،
وتدور حول فكرة أو خاصّة واحدة، وذلك عندما لا يتوافر فيها أكثر من عامل..
تميّزها عاطفة القارىء لا العين الباصرة، وتبقى ثابتةً في مخيّلته، لأنّها
لا تتبدّل نتيجة الظروف، بل تتحرّك من خلال تلك الظروف التي تمنحها صفة
استعادة حوادث الماضي " .
- الشخصيّة المغلقة أو
المركّبة Complicated character:
وهي شخصيّة، تبدو قيمتها في " قدرتها على الإدهاش والإقناع، فإن لم تدهش
بتاتاً فهي مسطّحة، وإن لم تقنع فهي مسطّحة أيضاً " .
- وجهة النظر
Point of view:
ينطلق السارد – سواء أ كان
سارداً ذاتيّاً أم موضوعيّاً، أو كان سارداً عليماً أم محدود العلم - من
زاوية أو موقع محدّد من الأحداث، يمكّن البطل
Hero
– وهو الشخصيّة الرئيسة أو الحاسمة
Psychological character
في القصّة القصيرة – من رؤية مختلف جوانب القصّة والتفاعل مع أحداثها
وشخصيّاتها، وكأنّ هذا الموقع أحد أركانها، أو كأنّه البطل نفسه في سعيه
إلى بلوغ غايته، لأنّ ما يحدث هو في الأساس من أجله هو، ولأنّ المشكلة في
الواقع هي مشكلته هو. وفي القصّة القصيرة الحديثة " تغيّر مفهوم البطل
ووظيفته، وأصبح شخصيّةً عامّةً، لم يعد لها الحضور الكامل من خلال تميّز
صوتها بين الأصوات أو من خلال تحكّمها في جميع الأصوات عند تجمّعها حول
وجهة نظر محدّدة " ، أيّ: إنّ الشخصيّة الرئيسة لا تقتصر بالضرورة على
الشخصيّة ذات الملامح الصارمة والنفس الأبيّة والكلمة العليا.. وإنّما يمكن
لها أن تكون شخصيّةً ضعيفةً مثيرةً للشفقة، تتبنى وجهة نظر واقعيّة لا
مثاليّة، أو أن تكون شخصيّةً هزيلةً مثيرةً للضحك، تتبنى وجهة نظر ناقدة لا
مجاملة.. وفي كلّ الأحوال تتجلّى وجهة النظر أساساً في سلوك الشخصيّة وفي
طريقة تفكيرها وتعبيرها عن نفسها وفي رؤيتها العالمَ، لأنّها اللسان الناطق
بالموقف الأيديولوجيّ لهذه القصّة أو تلك، وربّما تعدّدت وجهة النظر بتعدّد
الشخصيّات الرئيسة في القصّة القصيرة، وأكثر ما يبدو ذلك في الرواية، لأنّ
فضاءها أرحب وشخصيّاتها أكثر.
ومن أجل علاقة وثيقة بين
القارئ والنصّ ينصح الأمريكيّ ولسن ثورنلي
Wilson Thornley
القاصّ أن يحسن اختيار وجهة نظره، فلا يغيّرها، ولا يحرفها عن وجهتها، وأن
يسلك أفضل السبل لإيصالها إلى القارئ.. ويرى أنّ لوجهة النظر ميزاتٍ، هي: (
أ ) الذاتيّة، وكأنّ القصّة اعتراف حقيقيّ، و( ب ) الموضوعيّة، وكأنّها
حقيقيّة، و( ج ) كليّة، وكأنّها نظرة شاملة
Weltanschauung
. فإذا ما كانت وجهة النظر ذاتيّةً جنحت بالسرد الذاتيّ
Subjective narration
إلى القصص الرومانسيّة
Romanticism، وكان الراوي
هو الشخصيّة الحكائيّة الرئيسة غالباً، يصوّر الأحداث بضمير المتكلّم من
الداخل تصويراً ذاتيّاً ( الرؤية الداخليّة
Internal sight
)، وإذا ما كانت موضوعيّةً مالت بالسرد الموضوعيّ
Objective narration
إلى القصص الواقعيّة Realism،
وكان الراوي موضوعيّاً، يصف الأحداث بضمير الغائب من الخارج وصفاً محايداً
كما يراها هو ( الرؤية الخارجيّة
External sight
)، أو كما يستنبطها من أذهان أبطاله ونفوسهم، ولكنّ وجهة النظر في كلتا
الحالين تبقى كليّةً، لا تنظر إلى الحياة من ثقب الباب، ولا تراها بعين
واحدة، وإنّما تشرف عليها إشرافاً شاملاً.
إنّ أوّل من طرح مصطلح ( وجهة
النظر ) هو الروائيّ الأمريكيّ هنري جيمس
Henry James
الذي حاول إيجاد مركزCenter
أو بؤرة Focus
سرديّة لرواياته وقصصه لتفادي تفكّكها، فاستطاع ببصيرته النقديّة الثاقبة
أن يبلور مفهومه عن وجهة النظر في الفترة بين 1907 – 1909 في مقدّمات
رواياته ، ومنذ ذلك التاريخ حظيت وجهة النظر باهتمام أهل النقد، وخضعت
لتطوّرات كبيرة، وأخذت أسماء متعدّدةً، منها: الرؤية، والمركز، والمجال،
والمنظور، وبؤرة السرد، وزاوية النظر، والموقف الأيديولوجيّ.. ولكنّ مصطلح
وجهة النظر ظلّ هو الأكثر ذيوعاً وانتشاراً.
ففي عام 1943 اقترح كلينث
بروكس Cleanth Brooks
وروبرت بن وارين Robert Penn
Warren في كتابهما (
استيعاب الرواية
Understanding fiction )
مصطلح بؤرة السرد Focus of
narration معادلاً لوجهة
النظر، جعل جيرار جينيت
Gerard Genette يتبنّى
مصطلح التبئير الذي يتجاوب مع تعبير بروكس ووارين، وسمّى الحكاية الكلاسيّة
اسماً جديداً هو الحكاية غير المُبأرة
Nonfocalized
أو ذات التبئير الصفر Zero
focalized أو اللاتبئير
Nonfocalization
، وأطلق على حكايات الألغاز والمغامرات حيث لا يسمح لنا البطل بمعرفة
أفكاره وعواطفه اسم الحكاية ذات التبئير الخارجيّ
External focalization،
ودعا سوى ذلك من الحكايات – ولا سيّما الحكاية ذات المنولوج الداخليّ -
بالحكاية ذات التبئير الداخليّ
Internal focalization
، سواء أكان: ( أ ) ثابتاً في الشخصيّة ( ب ) أم متغيّراً من شخصيّة إلى
أخرى ( ج ) أم متعدّداً حسب عدد الشخصيّات، ثمّ نبّه جينيت إلى أنّ التبئير
لا ينصبّ دائماً على العمل الأدبيّ كلّه بل على قسم سرديّ محدّد، يمكن أن
يكون قصيراً جدّاً، وأنّ التمييز بين وجهات النظر ليس دائماً بالوضوح الذي
قد يمكن أن يوهم به تناول هذا النوع أو سواه من أنواع التبئير، فقد يكون
التبئير الخارجيّ على شخصيّة داخليّاً على شخصيّة أخرى .. ولكنّ جينيت نفسه
سرعان ما تخلّى عن مصطلح التبئير، ليعود من جديد إلى استخدام مصطلح وجهة
النظر في مواضع كثيرة من كتابه ( خطاب الحكاية ).
ومن التطوّرات الأخرى لوجهة
النظر ما رآه السوفييتيّ بوريس أوسبنسكي
Boris usbensky
في مطلع السبعينات في كتابه ( شعريّة التأليف
A poetics of composition
) من تصوّر أشمل، هو ( المنظور السرديّ
Narrative perspective
) الذي يشتمل على أربعة مستويات، تمثّل مواقع متعدّدة، يدار منها السرد،
وهي:
1 - المستوى الأيديولوجيّ أو
التقويميّ: وهو منظومة القيم العامّة لرؤية العالم ذهنيّاً من موقع أو
أكثر، تتمدّد في تضاعيف النصّ، لتعبر عن وعي الراوي بصوت جهير، وهو يقود
شخصيّاته، ويعلّق على الأحداث، ويتّخذ موقفاً محدّداً منها. ومن هنا قد
تتعدّد الأصوات حين تحضر وجهات نظر متعدّدة في داخل النصّ. ومن الوسائل
الخاصّة بالتعبير عن المستوى الإيديولوجيّ لوجهة النظر: إطلاق النعوت
والألقاب.
2 - المستوى النفسيّ: وهو
الزاوية التي يقدّم من خلالها الراوي حالة الشخصيّة النفسيّة ذات العلاقة
بالأحداث والدوافع التي تحكم أفعالها.
3 - المستوى التعبيريّ أو
اللغويّ: وهو الأسلوب الذي يعبّر به الراوي عن نفسه، ومن خلال تحليل خصائص
هذا الأسلوب يمكن تحديد رؤيته ووجهة نظره، كما يمكن تحديد وجهات نظر
شخصيّاته وسرودها.
4 - المستوى الزمانيّ
والمكانيّ: وهو يسهم في تحديد زمان المنظور ومكانه، ويساعد في التركيز على
موقع الراوي وحضور شخصيّاته في لحظة وجغرافيّة محدّدتين. وقد يتطابق موقعه
مع موقعها، وكأنّه يقوم بالسرد من النقطة التي تقف فيها، فيتبنّى مؤقّتاً
أنظمتها الأيديولوجيّة والتعبيريّة والنفسيّة .
- الحبكةPlot
:
هي حركة الحدث
Action
المتتابعة من بداية القصّة إلى نهايتها، هي صعود الشخصيّة سفحَ القصّة
وارتقاؤها قمةَ الأحداث المعقّدة ثمّ هبوطها إلى حلّ أو نتيجة، هي نسج محكم
بين يدي نسّاج ماهر، يشدّ حُبَكه جيّداً، ويحسن تدبيرها وفكاكها، قال ابن
منظور: " الحَبْك الشدّ.. والحُبْكة الحبل يشدّ به على الوسط، والتحبيك
التوثيق، وقد حبّكت العقدة، أي: وثّقتها.. وروي عن ابن عبّاس في قوله
تعالى:
والسماءِ ذاتِ الحُبُكِ
: الخَلْق الحسن.. والمحبوك المحكم الخلق من حبكتُ الثوب إذا أحكمت نسجه "
.
في خطواته المتصاعدة ينتهي
الحدث إلى ذروة التأزّم، وهي العقدة
Climax،
فيثير في نفس القارئ أقصى درجات التوتّر، وفي انحداره وهبوطه يخفّف الحدث
من حدّة التوتّر، ويبعث في النفس شيئاً من الراحة والانفراج.. فالعقدة بهذا
المعنى هي لحظة تشابك الأحداث وتأزّمها. ولا شكّ في أنّ في كلّ عقدة صراعاً
Conflict
مؤثّراً لا مفتعلاً، يعتلج في نفس الشخصيّة، أو يشتعل في محيطها القصصيّ،
ويجعلنا نحسّ بمغزى القصّة ومجراها وحرارتها، ويعمل على تطوير الحدث
ونموّه، وهو:
صراع داخليّ
Interior conflict:
يعتمل في نفس الشخصيّة من الداخل كالصراع الذي يشتعل في نفسها بين (
الإقدام ) و( الإحجام )، بين ( الشرّ ) و( الخير )، بين ( الفعل ) و(ردّ
الفعل ) بين ( الغفلة ) و( اليقظة ).. ومنه ما اختلج في نفس الأب من مشاعر
جيّاشة في قصّة ( أنامل على الأسلاك ) لشيخة الناخي، ذلك الأب الذي تمزّق
بين ابنته من زوجته الأولى التي هجرها وبين زوجته الجديدة: " انتابته حيرة،
ماذا يعمل الآن ؟ أحسّ في تلك اللحظة بالذات بمدى القسوة التي ارتكبها
بحقّها وحقّ أمّها دونما سبب، تطلّع حوله، كلّ شيء أمامه لم يعد يسعده:
البيت، زوجته.. ماذا يفعل ؟ أخذت الأفكار تلحّ عليه، وشعر بوحدة غريبة،
وبدأ وعيه يستيقظ من سبات عميق، لا بدّ من اتّخاذ القرار الصائب " .
وصراع خارجيّ
External conflict:
يدور في محيط الشخصيّة وبيئتها كالصراع بين (الإنسان ) و( البحر )، بين (
شخصيّة رئيسة ) و( أخرى ثانويّة )، بين ( أخيار ) و( أشرار )، بين ( عبد )
و( سيّد )، بين ( ظالم ) و( مظلوم ).. ومنه الصراع بين الغربان وأهل
الجزيرة في قصّة ( مناقير ) لإبراهيم مبارك من مجموعته ( عصفور الثلج ) ،
وبين النمر والمروّض في قصّة ( النمور في اليوم العاشر ) لزكريّا تامر من
مجموعته ( النمور في اليوم العاشر ) .
الأزمة
العرض الحلّ
البداية العقدة النهاية
عناصر الحبكة
- البداية
Introduction،
والنهاية Conclusion:
إنّ بداية القصّة القصيرة هي
بوّابتها، يلج القارئ منها إلى معرفة الأحداث والشخصيّات، فلا بدّ أن تكون
شائقةً ومتماسكةً، تشدّه إليها، وتثير اهتمامه، وكأنّها جزء من حياته
الشخصيّة. هي ليست وصفاً بليغاً ولا إنشاءً صُراحاً، وإنّما هي حدث،
يتشظّى، ويتفرّع، فلا يذر مجالاً لأيّ مقدّمة ولا بلاغة، قد تخنق القصّة في
مهدها، فالبداية إذن تحدّد نجاح القصّة أو إخفاقها، لأنّها هي المفتاح، وهي
الصفحة الأولى من القصّة.
أمّا النهاية، فلا تقلّ
أهميّةً عن البداية، لأنّها ليست مجرّد خاتمة، وإنّما هي ( لحظة تنوير
Lightening
)، تحدّد معنى الحدث Action،
وتكشف عن دوافعه وحوافزه، وتثير في مخيّلة القارئ ما تثير من الصور
والمشاعر والانفعالات.. فينبغي أن تنتهي القصّة نهايةً محكمةً، تنهض
ببنائها الفنّيّ في حلّ العقدة التي يترقّبها القارئ، فلا تترك مجالاً
لثغرات ولا لأحداث جديدة. والنهاية في القصّة القصيرة على شكلين:
أ – النهاية المغلقةEnd:
وهي النهاية التي تصل إلى حلّ
Denouement،
يتناسب وأحداث القصّة من بدايتها. وعلى هذا الشكل تجريّ القصص التقليديّة،
ولا سيّما قصص محمود تيمور، وعبد السلام العجيليّ، ويوسف إدريس.. ومنها أن
تنتهي القصّة بحادث مأساويّ بعد صراع مرير، أو بالزواج بعد تجربة حبّ، أو
باللقاء بعد فراق طويل..
ب –النهاية المفتوحة
Run on end: يترك هذا
النوع من النهايات مجالاً لتصوّرات القارئ وتخيّلاته، يخلص من خلالها إلى
نهاية مناسبة، تتوافق من جهةٍ مع مواقفه الفكريّة من الحياة، وتتلاءم من
جهةٍ أخرى مع منطق الحياة وأحداثها ومشاكلها المختلفة، وكأنّ القارئ هو
المؤلّف الآخر للقصّة. وعلى هذا الشكل تجري أغلب القصص الجديدة، ولا سيّما
قصص خطيب بدلة، ونجم الدين سمّان، وعبد الحليم يوسف.. ومن هذه النهايات
التي تبقى مفتوحةً على احتمالات متعدّدة نقرأ في مجموعة ( الرحيل ) لشيخة
الناخي هذا السؤال الذي ظلّ عالقاً بلا إجابة في قصّة ( الرحيل ): " أصحيح
هو عازم على الرحيل ؟ " ، وهذا العطف الذي ظلّ بلامعطوفٍ جملةٍ ولامعطوفٍ
مفردٍ في قصّة ( أنامل على الأسلاك ): " التفت، لتلتقي نظراته بمن تقف
ذاهلةً، وقد استغرقتها المفاجأة، و… " ، وهذا الحرف الناسخ الذي ظلّ
بلاخبرٍ مفردٍ ولاخبرٍ جملةٍ في قصّة ( من زوايا الذاكرة ): " بدأ يبتعد
شيئاً فشيئاً عبر مرآة سيّارتي إلى أن توارى عن ناظري، واختفى، لتبقى صورته
ماثلةً في مخيّلتي. إنّه.. " .
وأهل النقد يختلفون في قيمة
البداية والنهاية، فبعضهم يرى أنّ البداية والنهاية هما كلّ شيء في القصّة
القصيرة، ومنهم سدكويك
Sedgwick الذي ذهب إلى "
أنّ القصّة القصيرة تشبه سباق الخيل، أهمّ ما فيها هو البداية والنهاية " ،
وبعضهم الآخر يجد أنّهما لا تهمّان هذا الفنّ القصير، ومنهم تشيخوف
Chekhov
الذي قرّر " أنّ القصّة القصيرة يجب ألاّ تكون لها بداية أو نهاية " .
- الحدث
Action :
هو الفعل الذي تقوم به
الشخصيّة داخل القصّة، وهو محورها وعنصرها الرئيس الذي ينمّي المواقف،
ويحرّك الشخصيّات، ويجري الحوار على ألسنتها.. ولمّا كان القاصّ يستمدّ
أحداثه من الحياة المحيطة به، لتكون مشاكلةً للواقع نفسه إلى حدّ ما، كان
لا بدّ له من اختيار هذه الأحداث وتنسيقها، لتجري من جهةٍ في زمان ومكان
محدّدين وملائمين، ولتضمن من جهةٍ أخرى عنصر التشويق ولحظة تنوير مؤثّرة.
و" تطوّر الحدث لا يقتصر على
كيفيّة وقوعه ومكانه وزمانه، بل يمتدّ، ليشمل السبب الكامن وراء وقوعه، وهو
ما يفرض على الأديب البحث عن هذا الدافع وتجسيده، حتّى يبرز الأساس الذي
أقام عليه قصّته. وهذا الدافع يكمن في الشخصيّات التي فعلت الحدث، أو
تأثّرت به، إذ إنّه لا يمكن تخيّل دافع دون بشر معينين، وهو ما يفرض
التوحّد بين طبيعة الدافع وطبيعة الشخصيّة المتحركّة به أو المحرّكة له،
ولذلك يستحيل الفصل بين الحدث والشخصيّة، فالشخصيّة هي الحدث عندما تعمل،
وإذا وصف الأديب الفعل دون الفاعل، فإنّه يخرج من مجال البناء القصصيّ إلى
ميدان السرد الخبريّ " . والقصّة الجديدة لم تعد حدثاً فحسب، وإنّما يمكن
أيضاً أن تدور حول فكرة أو مشهد أو حالة نفسيّة أو لمحة من ملامح الحياة.
- اللغة
Language:
هي النسيج الذي يشتمل على
السرد والحوار، ويساهم في رسم الشخصيّات وتصوير الأحداث وتطويرها، فإذا كان
للشعر لغته، فإنّ للقصّة القصيرة لغتها التي تأخذ من النثر قدرته على
التعبير والتصوير ومن الشعر طاقته على الإيحاء والإيجاز، وكأنّها تحتلّ
المسافة الفاصلة بين الشعر والنثر، وتمزج بين ما هو واقعيّ وعقليّ ومنطقيّ
وبين ما هو خياليّ وعاطفيّ ومثاليّ.. وهي لذلك تحمل عبئاً ثقيلاً، وتفيض
بالدلالات والإيحاءات، حتّى تكون قادرةً على التوصيل واستحواز القارئ
والإمساك بالموقف كلّه.
أوّلاً – السرد
Narration:
هو قصّ الحدث
واقتفاؤه سواء أكان حقيقيّاً أم متخيّلاً، يحيله السارد – وهو هنا الراوي
أو الحاكي – بطريقة من الطرق السرد وأنماطه نصّاً أو جنساً أدبيّاً، والسرد
في اللغة: الكلام المتتابع المتّسق، قال ابن منظور: " سرد الحديث ونحوه
يسرُده سَرْداُ إذا تابعه، وكان جيّد السياق له، والسَّرْد المتتابع ،
والسرد الخرز في الأديم.. وسردها نسجها، وهو تداخل الحَلَق بعضِها في بعض "
.
وللسرد أنواع من
حيث: ( أ ) علاقته بالموضوع من طرفٍ، ( ب ) وعلاقته بالضمير من طرفٍ آخر، (
ج ) وعلاقته بالزمان من طرفٍ ثالث. وهنا سنحاول أن نستعرض كلاً من هذه
العلاقات الثلاث:
( أ ) السرد والموضوع: يميّز
الدكتور عبد اللّه أبو هيف في كتابه ( القصّة العربيّة الحديثة والغرب )
بين خمسة أنواع من السرد، هي:
1 - السرد الأدبيّ: وهو
السرد القصصيّ الذي يستفيد من معطيات غير سرديّة كالشعر والمثل والمقامة
وسواها من الموروث الأدبيّ، ويمثّل هذا النوع إميل حبيبيّ الذي اغتنى بهذا
الموروث، فقدّم أشكالاً من القصّ مختلفةً في ( الوقائع الغريبة في اختفاء
سعيد أبي النحس المتشائل ) و( سداسيّة الأيّام الستّة ).
2 - السرد الدينيّ: وهو السرد
الذي يستعيد أسلوب ( السند ) في الحديث الشريف، ويمثّل هذا النوع محمود
المسعديّ في ( حدّث أبو هريرة قال ).
3 – السرد التاريخيّ: وهو سرد
يأخذ من كتب التاريخ أحداثها وأخبارها، ويحفل بلغتها وأسلوبها السرديّ..
وجمال الغيطانيّ هو أشهر مَن عُني بأساليب السرد التاريخيّ، ولا سيّما
أسلوب المؤرّخين في العصر المملوكيّ بدءاً من مجموعته ( أوراق شابّ عاش
منذ ألف عام )، ويلاحظ في أغلب قصصه ورواياته " طريقة المؤرّخ العربيّ في
سرد الوقائع وتقطيعها ولغتها وحكائيّتها المباشرة للشخصيّات والأحداث
والتركيز على وصف اللحظة التاريخيّة بنظرة الشاهد والخبير بما جرى وتدخّل
الراوي في الشرح وطريقته في الدعاء وذكر الأصل والنسب وإيراد الحواشي
وتضمين الوقائع التاريخيّة أو الرواية على منوالها وذكر الشعر والاعتماد
على بعض الأخبار على سبيل التوليف " .
4 – السرد الصوفيّ: وهو سرد
أفاد من مصطلحات المتصوّفة ومفرداتهم ولغتهم اللمّاحة وأشواقهم الغامضة..
وربّما استدعى شخصيّاتهم، واكتنه مواقفهم الحياتيّة والوجوديّة والسياسيّة،
" فينكسر السرد بعناصر غير واقعيّة، وتتغلّب النجوى الذاتيّة على حوار
التاريخ، وينتشل القاصّ الواقعة من براثن الرؤى المجنّحة والمعاني المبهجة
والكشف اللانهائيّ لأبعاد الفعل الإنسانيّ الذي غالباً ما يتداخل مع لغة
الإشارة واللمح " ، وهو ما فعله نجيب محفوظ في ( أصداء السيرة الذاتيّة )،
وجمعة اللاميّ في ( اليشن ) و( الثلاثيّات ).
5 – السرد الفولكلوريّ أو
الشعبيّ: وهو السرد الذي يستفيد من الموروث الحكائيّ العربيّ وأساليبه
وتقنيّاته من سيرة أو حكاية أو أسطورة أو نادرة.. ويردّ بعض الباحثين تطوّر
القصّة العربيّة الحديثة منذ أوائل القرن الماضي إلى هذا الموروث الذي
استلهمه الخيال العربيّ، وراح يجاريه، ومن كتّاب هذا الاتّجاه المعاصرين:
زكريّا تامر، وإميل حبيبي، وغسّان كنفاني..
( ب ) السرد والضمير: هي
علاقة شكليّة، تكشف عن أشكالٍ من السرد ثلاثةٍ، فإذا استخدم القاصّ هذا
الضمير أو ذاك حدّد شكل السرد ونمطه:
1 - يسرد القاصّ أحداث قصّته
بضمير المتكلّم، وكأنّه هو البطل، أو كأنّ القصّة هي تجربته الشخصيّة،
وينظر إلى الشخصيّات الأخرى بحسب وجهة نظره هو لا حسب ظروفها ومشاعرها،
وذلك على طريقة الترجمة الذاتيّة
Biography،
وهذا الضمير لا يجعل القصّة عندئذٍ سيرةً ذاتيّةً
Autobiography،
بل يسبغ عليها ما يسمّى بـ ( شعريّة
Poetics
النثر )، لأنّ الكتابة به هي خاصّية اللغة الشعريّة التي ليست مسألةً
شكليّةً فحسب، وإنّما هي أيضاً مسألة رؤية للعالم من وجهة نظر ذاتيّة، ومن
هذا الأسلوب: ( المذكّرات
Memos )، و( اليوميّات
Diary
)، و( الرسائل Epistles
)، و( الأحلام Dreams
)، و( التداعيّات Recalling
the past )، و( المونولوج
Monologue
).. وهو ما يسمّى أيضاً بـ ( السرد غير المباشر ). والأمثلة على هذا النوع
من السرد الذاتي Subjective
narration قليلة، ولعلّ
القاصّ السوريّ خطيب بدلة هو من أبرع القاصّين الذين استفادوا من تقنيّات
هذا النوع من السرد وأنماطه، حتّى غدا اسمه أو كنيته – وهو أبو مرداس –
جزءاً من لحمة القصّة، وصارت تجربته الشخصيّة مصدراً مهمّاً من مصادر
تجربته القصصيّة، ففي قصّة ( الكاتب والشرطيّ ) نقرأ: " عندما استقلت من
وظيفتي، واحترفت الكتابة، صار كلّ من يلتقيني من معارفي يسألني: صحيح – أخي
أبو مرداس – أنّك تركت الوظيفة ؟ فأقول: أي، واللّه " .
2 – ويسرد القاصّ أحداث قصّته
بضمير الغائب، وكأنّه الشاهد المحايد، ويصف الأحداث وصفاً موضوعيّاً، كما
يراها، أو كما يستنبطها من أذهان أبطاله، وهي الطريقة الأرحب والأكثر
شيوعاً.. وهي ما تسمّى بـ ( السرد المباشر ). والأمثلة على هذا النوع من
السرد الموضوعيّ Objective
narration كثيرة، ومنه
هذه المقدّمة لقصّة محمّد نور الدين ( عينان ضاحكتان ): " عندما انهار جبل
الجليد السامق الذي كان يحتلّ صدره حتّى نياط قلبه، لم يكن بسبب اشتداد
الحرارة الناتجة عن زيادة ثاني أوكسيد الكربون في الجوّ، ولم يكن كذلك بسبب
انهيارات أرضيّة تحت الجبل، لكنّه انهار فجأةً عندما هوى كلّ كيانه في
أعماق عينين زرقاوين.. " ، فالضمير في القصّة غائب بل مستتر من أوّل القصّة
إلى نهايتها، لا نعرف صاحبه، وكأنّ العلاقة في هذه القصّة بين ( هو ) و( هي
)، وهي علاقة رومانسيّة جميلة بين زوجين، لا نشعر البتّة بالحاجة إلى معرفة
اسميهما.
3 - ونادراً ما يسرد القاصّ
أحداث قصّته بضمير المخاطب، وكأنّه يقود الشخصيّة إلى الحدث والصراع،
ويقرّر مصيرها، ويدلّ هذا النوع من السرد الخطابيّ
Narrating speechعلى علاقة حميمة بين القاصّ وشخصيّاته، فيرفق بها، ويتعطّف عليها.. ومن
هنا يكشف استخدام ضمير المخاطب ( أنت ) عن انفعالات الـ ( أنا ) ومشاعرها
وعُقدها، بل يزيدها بروزاً ومثولاً بين يدي القارىء، ولكنّ ضمير الـ ( أنت
) يظلّ يحتفظ بشخصيّته المتميّزة وملامحها الخاصّة. وهذا النوع من السرد
قليل بل نادر في القصّة العربيّة القصيرة، جرّبت أن أستخدمه مرّةً في قصّتي
( هذيان )، فقلت مخاطباً بطلها، وهو عامل طُرد من عمله في مطعم بعد أبلى
عمره في خدمته وخدمة زبائنه: " احذر أن تخنق آخر توهّج في نفسك، وترميه
جانباً قرب تلك النفايات التي تزداد يوماً بعد آخر.. "، ثمّ جعلته يتحرّك
بين يديّ كبيدق أو كلعبة من ألعاب مسرح العرائس.. " هيا اعبر جسر الماضي،
لا تحاول استرجاع ملامحه. أسلحة الإنسان الأوّل لا تجدي في زمن سباق
التسلّح النوويّ والنيترون وعابر القارّات.. هيّا اعبر، تقدّم، اقترب،
توقّف. ها قد وصلت الحظيرةَ الرطبة، توقّف لحظةً قبل أن تدخل، وانظر إلى
الشمس قليلاً، وانفض التعب عن عينيك، لعلّك تجد بعض العزاء " ، وهي تجربة
طريفة وصعبة حقّاً، لم أجرؤ أن أجرّبها من جديد، لأنّها تحمل من عواقب
السرد ما تحمل، ولأنّها في النهاية لا بدّ أن تجنح إلى شكل من أشكال السرد
الذاتيّ ومزالقه.
السرد الذاتيّ ( بضمير
المتكلّم ): القاصّ = الشخصيّة الحكائيّة الرئيسة.
السرد الموضوعيّ ( بضمير
الغائب ): القاصّ ≠ الراوي ≠ الشخصيّة الحكائيّة.
السرد الخطابيّ (
بضميرالمخاطب ): القاصّ = الراوي ≠ الشخصيّة الحكائيّة الرئيسة.
معادلة السرد والضمير
( ج ) السرد والزمان: يميّز
جيرار جينيت Gerard Genette
من وجهة نظر الموقع الزمنيّ وحده بين أربعة أنواع من السرد ، هي:
1 – السرد اللاحق: وهو الموقع
الكلاسيّ للحكاية بصيغة الماضي، هو سرد ينظم أغلب الحكايات.
2 – السرد السابق: وهو
الحكاية التكهّنيّة بصيغة المستقبل عموماً، ولا شيء يمنع من إنجازها أيضاً
بصيغة الحاضر، هو سرد قليل ونادر أكثر ما يبدو في حكايات الاستشراف
والأحلام.
3 – السرد المتواقت أو
المتزامن: وهو الحكاية بصيغة الحاضر المزامن للحدث، هو السرد الأكثر بساطةً
مادام التزامن الدقيق بين القصّة والسرد يقصي كلّ نوع من التداخل واللعب
الزمنيّ.
4 – السرد المُقحم: وهو ما
يعترض لحظات الحدث نفسه، هو السرد الأكثر تعقيداُ مادام سرداً متعدّد
المقامات، أي: هو سرد داخل سرد.
وللسارد عدّة
وظائف، يجعلها جينيت حسب مختلف مظاهر الحكاية التي ترتبط بها في خمس ٍ،
ينبغي على حدّ قوله ألاّ ننظر إليها على أنّها جامعة مانعة، لأنّ واحدة
منها قد تستغرق مجمل الحدث في حكاية ما، ولكنّ تنوّعها دليل حريّة الراوي
في أداء مهمّات متعدّدة، ترتفع بمكانة النص وقيمته، وهي:
1 – " أوّل هذه المظاهر هو
القصّة، والوظيفة التي ترتبط به هي الوظيفة السرديّة المحضة التي لا يمكن
لأيّ سارد أن يحيد عنها دون أن يفقد في الوقت نفسه صفة السارد التي يمكنه
كثيراً أن يحاول أن يحصر فيها دوره ".
2 – " والثاني هو النصّ
السرديّ الذي يمكن أن يرجع إليه السارد في خطاب لسانيّ واصف نوعاً ما (
سرديّ واصف في هذه الحالة )، ليبرز تمفصلاته وصلاته وتعالقاته، وباختصار:
تنظيمه الداخليّ. ومنظِّماتُ الخطاب هذه تنتمي إلى وظيقة ثانية، يمكن أن
نسمّيها وظيفة الإدارة ".
3 – " والمظهر الثالث هو
الوضع السرديّ نفسه الذي محرّكاه هما: المسرود له الحاضر أو الغائب أو
الضمنيّ، والسارد نفسه. فتوجّه السارد إلى المسرود له واهتمامه بإقامة صلة
به بل حوار معه حقيقيّ أو تخييليّ أو الحفاظ عليه توافقه وظيفة تذكِّرُ في
الوقت نفسه بوظيفة اللغة الانتباهيّة ( التحقّق من الاتصال ) والوظيفة
الندائيّة ( التأثير في المرسل إليه ) عند جاكبسن
Jakobson.
وربّما علينا أن نسمّي الوظيفة التي يميلون إلى تفضيلها وظيفة تواصل ".
4 – " إنّ توجّه السارد نحو
نفسه يحتّم وظيفةً مماثلةً جدّاً للوظيفة التي يسمّيها جاكبسون الوظيفة
الانفعاليّة، إنّها تلك التي تتناول مشاركة السارد في القصّة التي يرويها،
أي: تتناول العلاقة التي يقيمها معها، إنّها علاقة عاطفيّة حقّاً، ولكنّها
أخلاقيّة وفكريّة، يمكن أن تتخذ شكل شهادة، كما هو الشأن عندما يشير السارد
إلى المصدر الذي يستقي منه خبره أو درجة دقّة ذكرياته الخاصّة أو الأحاسيس
التي تثيرها في نفسه مثل هذه الحادثة. وهذا شيء قد يمكن تسميته وظيفة
البيّنة أو الشهادة ".
5 – " لكنّ تدخّلات السارد
المباشرة أو غير المباشرة في القصّة تستطيع أيضاً أن تتخذ الشكل الأكثر
تعليميّةً لتعليق مسموح به على العمل. وهنا يتأكّد ما يمكن تسميته وظيقة
السارد الأيديولوجيّة ".
والراوي أنواع،
يحدّدها الفرنسيّ جان بويون
J.Pouillon ومن بعده
الروسيّ تزفتيان تودروف
Tzvetan todorov حسب
زاوية رؤيته والعلاقة بينه وبين الشخصيّة في ثلاثة أنواع :
1 - الراوي < الشخصيّة، أي:
الراوي يعرف أكثر ممّا تعرفه الشخصيّات التي تقوم بالأحداث دون أن تعلم
شيئاً عن مصائرها المجهولة التي تنتظرها، لأنّها لا ترى إلاّ ما تقع عليه
عيونها، فهي مخلوقات محدودة العلم والخبرة، تسيّرها قوّة الراوي العليم
الذي تُكشف أمام عينيه الحجب. وهو ما يسمّيه بويون بـ ( الرؤية من الخلف )،
وهي شبيهة لدى جينيت بالتبئير في درجة الصفر.
2 - الراوي = الشخصيّة، أي:
الراوي يعرف ما تعرفه الشخصيّة، فإذا فعلت فعلاً، أو اتّصفت بصفة، فإنّه
يُقدّم فعلها أو صفتها. وهو يأخذ شكلين، أحدهما أن يكون مشاركاً في الأحداث
أو شاهداً عليها، والآخر أن يتّخذ من إحدى الشخصيّات أو من أكثر من شخصيّة
مرايا تعكس الأحداث. وهو ما يسمّيها بويون بـ ( الرؤية مع )، وهي شبيهة لدى
جينيت بالتبئير الداخليّ.
3 - الراوي > الشخصيّة، أي:
الراوي يعرف أقلّ ممّا تعرفه الشخصيّات، سواء أكان واحداً من الشخصيّات أو
من المشاهدين أم كان من المستقلّين متّخذاً لنفسه مستوى زمانيّاً أو
مكانيّاً أو إيديولوجيّاً خاصّاً به. وهو ما يسمّيه بويون بـ ( الرؤية من
الخارج )، وهي شبيهة لدى جينيت بالتبئير الخارجيّ.
فالرؤية السرديّة – كما نرى –
تختلف بين نوع وآخر باختلاف المعرفة والموقف معاً، وهذا التقسيم ليس إلاّ
إطاراً عامّاً للرؤى، لأنّها يمكن أن تتداخل وتتعدّد حول الحدث الواحد.
تودروف بويون جينيت
الراوي < الشخصيّة
الرؤية من الخلف التبئير في درجة الصفر
الراوي = الشخصيّة
الرؤية مع التبئير الداخليّ
الراوي > الشخصيّة
الرؤية من الخارج التبئير الخارجيّ
أنواع الراوي حسب زاوية
الرؤية
ثانياً – الوصف
Description:
هو تشخيص الأعمال
والأحداث والشخصيّات.. ويميّزون بينه وبين السرد، فيقولون: إذا كان السرد
يشكّل الحركة الزمنيّة في الحكي، فإنّ الوصف هو أداة تشكّل صورة المكان،
فالحاجة إليهما معاً ماسّة في كلّ عمل قصصيّ، لا ينهض بلا زمان ولا مكان.
وللوصف وظيفتان
أساسيّتان، هما:
1 - الوظيفة الجماليّة
Aesthetic rol:
" يقوم الوصف في هذه الحالة بعمل تزيينيّ، ويشكّل استراحةً في وسط الأحداث
السرديّة، ويكون وصفاً خالصاً، لا ضرورة له بالنسبة إلى دلالة الحكي " .
ومنه هذه الأوصاف للصباح في قصّة ( التاجر والموت ) لأيمن الطويل، ففي موضع
منها يقول: " الصباح الناعم يشعّ راكضاً خلف غمامة سوداء تعانق الرياح
الباردة في أعلى الفضاء، فتنشر الخصب، وتزرع الأمل، وتحيي الموتى على وجه
الكرة الأرضيّة، والتاجر عبّاس يلهث مهرولاً إلى حانوته " ، وفي موضع آخر
من القصّة نفسها يقول: " الصباح ما زال نديّاً، وغمامة سوداء أسدلت ستاراً
كثيفاً حول عبّاس، فشعر بالظلام يطبق من جميع الجهات. ظلمات بعضها فوق بعض
" ، وهي أوصاف تتماهى وحالة الشخصيّة، وتشيع حولها الأمل حيناً والبؤس
حيناً آخر، ولكنّ هذا الوصف يبقى فضلةً، لا حاجةَ ماسّةً له في جريان
الأحداث ودلالة الحكي.
2 –الوظيفة التوضيحيّة أو
التفسيريّة Explanatory role: هي "
وظيفة رمزيّة دالّة على معنى معيّن في إطار سياق الحكي " . ومنه هذه
الأوصاف لحارةٍ في قصّة ( في ليلة من الليالي ) لزكريّا تامر: " يجيء الليل
كفناً أسود، فيبتعد أبو حسن بخطى هارب عن حارته الخرساء، وأزقّتها الملتوية
المظلمة، وناسها العجاف، وبيوتها الرثّة المتلاصقة، ومقهاها الذي يشبه
تابوتاً مهترىء الخشب. وحين يبلغ الشوارع العريضة تبهره ضوضاؤها وسيّاراتها
المسرعة وناسها المتأنّقون وأنوارها الساطعة المتعدّدة الألوان، فيمشي بخطى
ذاهلة متباطئة مشدود القامة مرفوع الرأس شديد الزهوّ بشاربيه الكثّين الذين
كانا يغريان عيوناً كثيرةً بالتحديق إليه بفضول ودهشة " ، وهي أوصاف
رمزيّة، صنعت مفارقةً Irony
بين ( الأسود ) من أحيائنا الشعبيّة و( الأبيض ) من أحيائنا الراقية، لا
بدّ أن تؤدّي في النهاية لدى البطل والقارئ على السواء إلى الذهول والأسى
معاً.
ثالثاً – الحوار
Dialogue:
هو حديث بين شخصيّتين أو أكثر
في سياق حدث ما، لا شأن للراوي في مجراه ولا في مفرداته، لأنّه لغة
الشخصيّة نفسها، أو هو لسانها وأسلوبها، يكشف عن سلوكها وانفعالاتها
ومشاعرها، ويحرّك أحداث القصّة ووقائعها. فالحوار يرسم صورةً مثلى للشخصيّة
القصصيّة في مختلف ظروفها الفكريّة والنفسيّة والاجتماعيّة، ولكنّ هذه
الظروف كما هي في الحياة لا يمكن أن تنقل إلى حوار أدبيّ صرف إلاّ بعد أن
تشذّب وتهذّب، حتّى لا يعرض القارئ عنه، ويدعوه إلى الملل. ومن شروط الحوار
أن يكون مكثّفاً وموحياً وموائماً بين الشخصيّة ومختلف ظروفها، فحديث الشيخ
يختلف عن حديث الفتى، وحديث ابن البادية يتميّز من حديث ابن الحاضرة،
ولكلٍّ حديثه الذي يتلاءم وتلك الظروف. إنّ الشخصيّة القصصيّة تفقد لمحةً
بارزةً من ملامحها، إن لم تتحدّث بلغتها الخاصّة، لأنّ اللغة جزء لا يتجزّأ
من تكوينها .
في كتابه ( الحوار القصصيّ )
يميّز الدكتور فاتح عبد السلام بين نوعين من الحوار، هما:
- الحوار الخارجيّ
Dialogue:
هو حوار مع الآخر، يجري على
شكلين: مباشر وغير مباشر، فإذا تناوبت فيه شخصيّتان أو أكثر الحديث وجهاً
لوجه، فهو حوار مباشر، أو هو حوار تناوبيّ، نذكر من صيغه أفعال القول وما
في معناه، نحو: ( قال، وأجاب، وهمس، وصرخ، ونادى.. )، وإذا أوجز الراوي
بضمير الغائب ما جرى على ألسن الشخصيّات من حديث خلال سرده الحكاية ، فهو
حوار غير مباشر، أو هو حوار سرديّ، لا يتقيّد بالنصّ الحرفيّ للحوار، لأنّه
يجري على لسان الراوي نفسه لا لسان الشخصيّة.
- الحوار الداخليّ
Monologue:
هو حوار مع النفس، يجري على
خمسة أشكال، هي:
1 - حوار تيّار الوعي
Stream of consciousnes:
هو نوع من الحوار، يتداعى من
ذهن الشخصيّة، بل يفيض من نفسها فيضاً عارماً، يكسر منطق الأحداث، ويخلخل
تسلسلها السببيّ، ويستمدّ طاقته التعبيريّة من قدرة الراوي أو الكاتب على
الدخول إلى نفس شخصيّته في لحظة محدّدة، ليسبر أغوارها، ويرصد وعيها،
ويستكشف قرارها العميق الذي ترسّبت فيه تجارب الحياة وأحلامها وذكرياتها..
وهذا الخليط من الصور في القصّة يظهر على شكل تساؤلات وانفعالات وعلى شكل
أحلام وأوهام، تضطرب فيها الأزمنة، وتختلط الأمكنة، وتتداخل الضمائر.. وهنا
لا يحمّل الكاتب الشخصيّة محدودة الوعي أكثر ممّا تحتمل، فلا يحمّل رجلاً
معتوهاً على سبيل المثال إلاّ وعياً متخلّفاً.
2 – المونولوج
Monologue
:
إذا كان حوار تيّار الوعي -
وهو مصطلح سيكولوجيّ – هو حوار الراوي مع ذات الشخصيّة ودواخلها، فإنّ
المونولوج – وهو مصطلح أدبيّ – هو حوار الشخصيّة مع ذاتها، فالراوي هنا
يتقمّص دور الشخصيّة التي تقدّم نفسها بنفسها، وتكشف عن خباياها دون
مواربة، وتصوّر بصدق وصراحة ما يعتلج في داخلها من مشاعر وأفكار، وما
يتراءى لها من صور وأخيلة. ولعلّ ما يميّز حوار المونولوج من حوار تيّار
الوعي هو: التعبير المتسلسل منطقيّاً، والبوح الوجدانيّ.
3 – المناجاة
Soliloquy :
إنّ ما يميّز المناجاة من
المونولوج هو أنّ الأولى تفترض وجود سامع حاضر ومحدّد، وكأنّ المناجاة
تقنيّة مسرحيّة، بل هي في الأصل كذلك. وغالباً ما تكشف المناجاة عن حوارٍ
مع النفس خاطفٍ، تتقاصر جمله، وتتعدّد ضمائره، وربّما تقع أسئلته المتلاحقة
على أجوبة.
4 – الارتجاع
Flashback
:
هي عمليّة نفسيّة تقوم بها
الذاكرة لاسترجاع أحداث من الماضي وتنشيطها في مجرى الحاضر وأحداثه، ويطلق
أهل النقد على هذه العمليّة اصطلاح ( الخطف خلفاً )، وهو أن يقطع الراوي
التسلسل الزمنيّ والمنطقيّ لأحداث القصّة، ويستطرد في ذكر أحداث ماضية،
توضّح ملابسات موقف من مواقفها.
وهذا الارتجاع قد يكون
منظّماً، يرصد الواقع كما تراه أعيننا ويلاحظه عقلنا، وقد يكون نُثاراً من
الذكريات أو فتاتاً من الأحداث، وسواء أكان ارتجاعاً منظّماً أم غير منظّم
لا يخرج على قصد الراوي ومراميه، لأنّه وسيلة من وسائله الفنّيّة، يضطرّ
إليها السارد حيناً، وتلجأ إليها الشخصيّة حيناً آخر، فهي إذن وسيلة سرديّة
وحواريّة معاً. إنّ صورةً معلّقةً على الجدار تبعث في المخيّلة ذكريات، لا
يمكن للسارد والشخصيّة أن يتجاهلا صورها المتلاحقة، فالسارد يتذكّر حكايته
معها، والشخصيّة تحاورها وجهاً لوجه، وكأنّها شخصيّة من لحم ودم، تمثل الآن
أمامها .
5 – أحلام اليقظة
Daydreaming،
أو التخيّل Imagination
:
هو القدرة على استحضار صور
شتّى، تخدع العقل، وتخضع لإرادة الشخصيّة وحسّها الانتقائيّ، فالتخيّل هنا
إراديّ، مجاله لاوعي اليقظة ، وشرطه الحريّة، ومَلَكَته الجدّة والابتكار.
وأحلام اليقظة تتراءى لنا على أرض الواقع، لكنّها أرض بعيدة وغير مكتشفة من
قبل، وتنطوي على انفعالات وصور جديدة، يعبّر عنها نوع من الحوار جديد، له
معجمه اللغويّ، وله صيغه المعهودة التي قد تكون إشاراتٍ خاطفةً، أو تكون
عباراتٍ صريحةً كقول أحدهم: " خيّل إليّ أنّ.. "، وقول الآخر: " تراءى لي
أنّ .. ".
الفصل الرابع
بوادر القصّة
العربيّة القصيرة
رأينا في فصل سابق أن القصّة
العربيّة القصيرة لم تنشأ من فراغ، وإذا كان شكلها الفنّيّ الجديد مديناً
للغرب، فإنّنا لا يمكن أن نغفل عن جذورها الأولى من أساطير وقصص وسير
شعبيّة ومقامات.. إنّ حافظ إبراهيم ( 1932 ) على سبيل المثال لم يكتب قصّته
( ليالي سطيح ) إلاّ بالتأثير الأزليّ للمقامة، وكأنّها هي النموذج الأوّل
للقصّة، أو كأنّ القصّة هي وريثها الشرعيّ.
أريد هنا أن أقول: إنّ للقصّة
العربيّة القصيرة ثلاثة روافد، هي مصادرها الأولى، وهي: التراث السرديّ
العربيّ، والتعريب، والترجمة. وإذا كنّا قد تحدّثنا عن المصدر الأوّل،
فإنّنا هنا سنحاول أن نو جز القول في مصدريها الآخرين اللذين أسهما حقّاً
في ظهور بوادرها الأولى مع: نشوء الصحافة ، وظهور الطباعة، وانتشار
التعليم.. وهي عوامل نشأت في أواخر القرن التاسع عشر، وهو القرن الذي شهد
نهضة القصّة الأوربيّة بعد أن كانت في القرون الوسطى مجرّد حكايات
وأساطير.. فالقصّة فنّ قومي، رافق نهضة الشعوب جميعها على أشكال بدائيّة،
عملت هذه العوامل على تطويرها، حتّى وصلت إلى هذا الشكل الفنّيّ الجديد
للقصّة القصيرة والرواية معاً. وفي ظلّ ما اصطلح عليه بالمثاقفة
Culturalization
التي ما زلنا رهائن لها – وهي تأثير ثقافة غازية أو مستعمرة في ثقافة
وطنيّة مغزوّة مقهورة – لا يمكننا إلاّ الحديث تأثير متبادل، وإن كنّا –
نحن العرب – الطرف الأضعف في معادلته الصعبة، وهنا لن ننسى التأثير الهائل
لـ ( ألف ليلة وليلة ) في الثقافة الأوربيّة وفي تطوّر الفنّ القصصيّ
الأوربيّ نفسه.
إنّ القصّة العربيّة القصيرة
هي وليدة مؤثّرات داخليّة وخارجيّة معاً، لا تكاد تخرج على تلك العوامل
الثلاثة، ولعلّ مكوّناتها التراثيّة هي الأساس في تطوّرها، وربّما كانت
مرحلة التعريب هي الحلقة التي تربط بين عامليّ التراث والترجمة، فالمعروف
أنّ القاصّين الأوائل عرّبوا ما نقلوه من القصص الغربيّ، وكأنّه جزء من
بيئتهم العربيّة، وأضفوا عليه من تجاربهم الشخصيّة وأساليبهم ما يتلاءم
وزمانَه ومكانه وشخوصه.. واليوم من يشهد أنّ ( عبرات ) المنفلوطيّ ( 1924 )
التي عرّبها من اللغة الفرنسيّة ليست دموع عينيه وزفرات قلبه ؟! والتعريب
بهذا المعنى المألوف هو استمرار لأسلوب السرد التراثيّ العربيّ وطريقته في
العرض، لا يخلو من تسجيع ولا تداخل ولا ترميز.. ولو لم يكن استمراراً لهذا
السرد لكان ترجمةً صرفةً، لا شأنَ للمترجم في لغتها، ولا يدَ له في أحداثها
ومجراها وبيئتها الغربيّة.
إنّ الصحافة – وهي مهد
المحاولات القصصيّة الأولى - تركت تأثيراً كبيراً في بنية القصّة ولغتها،
فصارت من حيث الحجم تتقاصر، وبلورت لغةً مرسلةً جديدةً، أخذت تنأى رويداً
رويداً عن لغة المقامات، وعقلنت الشخصيّات، واقتربت أحداثها من الواقع أكثر
فأكثر، فلم تعد القصّة تجري على ألسن البهائم، وتتّجه إلى الأساطير
والأوهام.. وكأنّها صارت جزءاً من هذا الواقع الناهض الذي بات في حاجة
ماسّة إلى القصّة، كتب جبران خليل جبران إلى إميل زيدان صاحب مجلّة (
الهلال ) في أواخر 1919 قائلاً: " .. على ذكر الحكاية ألا ترى أنّنا بلغنا
في نهضتنا أو شبه نهضتنا الأدبيّة نقطةً، تستدعي تشجيع الكتّاب وترغيبهم في
إبداء أفكارهم ومنازعهم وأخلاقهم في قالب الحكاية. لقد ملّ الناس المقالات
والقصائد.. إنّ الشرقيّ يميل طبعاً إلى سرد الحكايات، بل هو الذي ابتدع هذا
الفنّ، ولكنّ الشرقيّ في أيّامنا هذه لا يتحوّل إلى كاتب أو شاعر، حتّى
ينسى أفضل مواهبه. إنّ الحكايات أو الروايات هي سبب الانقلابات الاجتماعيّة
أو السياسيّة في أوربا وأمريكا. وعندي أنّه يجب علينا إيقاظ هذا الميل، وهو
وضعيّ في الشرقيين، لأنّه أفضل وسيلة إبراز ما تكنّه الغريزة الفنّيّة.
فالحياة القوميّة لا ولن تصير ذات شأن إلاّ بواسطة الاختلاق الفنّيّ، وليس
هناك شيء أدعى للاختلاق الفنّيّ من الحكاية " .
وثمّة صحف ومجلاّت أفردت
للقصّة القصيرة باباً، ومنها: صحيفة ( حديقة الأخبار ) لخليل الخوري (
بيروت 1858 )، و( لسان الحال ) لخليل سركيس ( بيروت 1877 )، ومجلّة (
الجنان ) لبطرس البستانيّ ( بيروت 1870 )، وفيها نشر سليم البستانيّ أولى
قصصه القصيرة الإصلاحيّة، و( اللطائف ) لشاهين مكاريوس ( القاهرة 1886 )،
و( مرآة الأحوال ) لرزق اللّه حسّون ( لندن 1876 )، و( المقتطف ) ليعقوب
صرّوف وفارس النمر ( بيروت 1876 فالقاهرة 1885 )، وهي من أشهر المجلاّت
الأدبيّة، و( مرآة الشرق ) لسليم عنحوري ( القاهرة 1879 )، و( مرآة الأخلاق
) لسليم وحنّا عنحوريّ ( دمشق 1886 )، و( الهلال ) لجرجي زيدان ( القاهرة
1892 )، و( الضياء ) لإبراهيم اليازجي ( القاهرة 1898 ) و( فتاة الشرق )
للبيبة هاشم ( القاهرة 1906 )، وصاحبتها أهمّ من كتب فيها، وترجم لها.
وهناك مجلاّت فتحت صفحاتها
كلّها للقصّة القصيرة والرواية، ومنها: سلسلة ( الفكاهات ) لنخلة قلفاط (
بيروت 1884 )، و( ديوان الفكاهة ) لسليم شحادة وسليم طراد ( بيروت 1885 )،
وهي أوّل مجلّة روائيّة عربيّة، و( حديقة الأدب ) لنجيب غرغور ( القاهرة
1888 )، و( الراوي ) لخليل زينيّة ( الإسكندريّة 1888 )، و( منتخبات
الروايات ) لإسكندر كركور ( القاهرة 1894 )، وسلسلة ( الروايات ) لمحمّد
خضر وبشير الحلبيّ ( القاهرة 1899 )، و( مسامرات النديم ) لإبراهيم رمزي
وعزّت حلمي ( القاهرة 1903 )، و( الراوي ) لطانيوس عبده ( بيروت 1909 )، و(
السمير ) لقيصر الشميل ( الإسكندريّة 1911 ) .
وقد اختلفت الآراء في أوّل
قصّة فنّيّة في أدبنا العربيّ الحديث، فمنهم مَن رأى أنّها قصّة ميخائيل
نعيمة ( العاقر 1913 ) أوقصّته ( سنتها الجديدة 1914 )، ومنهم مَن وجد
أنّها قصّة محمد تيمور ( في القطار ) المنشورة في العدد 107 من صحيفة
السفور الصادرة في 7 يونيو 1917 ، و" ثمّة من يقول: إنّ محمّد لطفي جمعة هو
أوّل من كتب قصّة قصيرة فنّيّة حين أصدر عام 1904 مجموعة ( في بيوت الناس )
" ، وسواء أكان هذا أم ذاك نقول: إنّ ثمّة قصّة جديدة قد بدأ تظهر في مطلع
القرن الماضي، وهي نفسها الفترة التي ظهرت فيها أوّل رواية فنّيّة في أدبنا
الحديث، وهي ( عذراء دنشواي 1906 ) لمحمود طاهر حقّي في رأيٍ، أو هي (
أمراض العصر الجديد ) 1908 لرفيق رزق سلّوم في رأيٍ آخر، أو هي رواية (
زينب ) 1912 لمحمّد حسين هيكل في رأيٍ ثالث.
وهكذا ساعدت
الصحافة على نشر القصّة بين جمهور القرّاء، وكان التعريب والترجمة عاملين،
يساعدانها على أداء هذه الرسالة، بل كان لهما كبيرُ فضلٍ في اتّصالنا
بالقصص الغربيّ ومعرفتنا بأعلامه، ولا سيّما هوغو وكورني وموليير وموباسان
وغيرهم. و" كان الاتّجاه نحو الترجمة عن الفرنسيّة هو الاتّجاه الغالب على
جملة الاتّجاهات، بل لعلّه أوّل اتّجاه يقابلنا. ولقد احتلّ الأدب الفرنسيّ
في بلاد الشام كما احتلّ في مصر منزلةً ساميةً، ويعود ذلك إلى أنّ فرنسة
منذ حملتها على مصر ودخول الإدارة المصريّة بلاد الشام كانت النافذة الأولى
التي أطلّ منها الشرق على الفكر الغربيّ والتمدّن الحديث " ، وكان من أشهر
المعرّبين الأوائل: حنّا عنحوريّ ( 1890 ) الذي نشر قصصه الفرنسيّة
المعرّبة في مجلّته ( مرآة الأخلاق 1886 دمشق )، ومصطفى لطفي المنفلوطيّ (
1924 ) الذي عرّب كتابه ( العبرات ) 1915 عن مجموعة من القصص الفرنسيّة،
وهي مقالات قصصيّة، يغلب عليها الوصف الرومانسيّ، وتسودها المشاعر الذاتيّة
للمؤلّف، فلا عمق في أحداثها ولا تعمّق في شخصيّاتها، حتّى نأت عن فنّ
القصّة، واقتربت من المقال القصصيّ.
في كتابه ( التطوّر الفنّيّ
لشكل القصّة القصيرة في الأدب الشاميّ الحديث ) يستخلص الدكتور نعيم
اليافي خصائص هذه الترجمات وسماتها، فيرى " أنّ أكثرها نُقل عن نماذج
رديئة من الدرجتين الثانية والثالثة لكتّاب مغمورين، كانوا يعنون بالغريب
والمدهش والعجيب أكثر ممّا يعنون بالقيم الفنّيّة للعمل الأدبيّ، ويظهر
أنّهم لم يفرّقوا بين الرواية والقصّة القصيرة … ولم تسلك الترجمة طريقاً
معيّنةً عند سائر المترجمين وعلى امتداد نصف قرن أو يزيد ( 1870 – 1925 )،
فتارةً تأخذ شكل النقل الحرفيّ الأمين، وأخرى يغيّر في أسماء شخوص الرواية
أو أعلامها حتّى توافق ذوق الجمهور، وقد يلجأ المترجم أحياناً إلى تغيير
كليّ في بناء الشكل الروائيّ أو التصرّف فيه.. وبين هذا وذاك كثيراً ما كان
المترجم يدسّ نفسه بين السطور، فيضيف فكرةً، أو يقيم جملةً، أو يزيد ما
يراه من شعر يستملحه أو مقدّمةً يراها مناسبةً أو خاتمةً يجدها ملائمةً..
تدفعه في هذا كلّه رغبة جامحة في إرادة الترفيه عن القرّاء وتثقيفهم على
السواء. وفي أكثر قصص هذه المجلاّت المترجمة لا يذكر عادةً اسم المؤلّف
الأصيل ولا اللغة التي ترجم عنها النصّ ولا اسم المترجم نفسه، وإن كان
غالباً صاحب المجلّة، وكان المترجم يبدأ قصّته أحياناً بجملة من التركيبات
أو التعابير، مثل: " أخبرني صديق عاد من بلاد كذا "، أو " حُكي أنّ.. "،
حتّى يوحي أنّه رأى حوادث القصّة رأي العين، أو سمع بأخبار شخوصها، فصاغها
في هذا القالب الجديد… وكان بعضهم يستهتر بالصحّة والسلامة وطرائق التعبير،
وبعضهم الآخر لا يعرف من اللغة إلاّ ما يعرفه الرجل العاديّ الذي تشيع في
تعابيره الأغلاط اللغويّة والصرفيّة والإملائيّة. ومهما يكن من أسلوب
الترجمة فعلينا ألاّ ننسى فضل المترجمين، فهم أوّل من وضع أمام الأدباء
والقرّاء العرب نماذج من القصص الغربيّة، أثارت الرغبة في محاكاتها "
.
وكان من أشهر المترجمين
الأوائل: جبرائيل بن يوسف المخلّع ( 1851 ) الذي ترجم ( الحديقة ) للفارسيّ
صلاح الدين السعدي ، وهي قصص مسجوعة جمعت ما عرض لمؤلّفها في أسفاره من
حكايات طريفة، ورفاعة رافع الطهطاويّ ( 1875 ) الذي يعدّ أوّل من ترجم
قصّةً من الأدب الأوربيّ عام 1867، وهي قصّة ( تليماك ) للفرنسيّ فنلون،
وفرج أنطون ( 1832 )، ومحمّد عثمان جلال ( 1898 )، ومحمّد كرد علي ( 1952
)، وحافظ إبراهيم ( 1932 ) وسواهم.
وهكذا نرى أنّ القصّة القصيرة
– سواء أكانت عربيّةً أم معرّبةً – تدين في نشأتها لعوامل ثلاثة، هي:
الصحافة والترجمة والموروث القصصيّ العربيّ، وذلك مع نشوء الطبقة
البرجوازيّة العربيّة التي أخذت القصّة القصيرة تعالج مشكلاتها، وتثير
قضاياها، أو تدعوها إلى التسلية والاتّعاظ، فكانت القصّة بالنسبة إليها
فكاهةً أو روايةً أو حكايةً..
وهنا سنحاول أن نتعرّف بشكل
خاطف إلى روّاد النشأة الأولى وأعلام الخطوات الأخرى الذين حملوا على
عاتقهم عبء التأسيس والتأصيل، فمن روّاد القصّة القصيرة في سورية: صبحي أبو
غنيمة صاحب ( أغاني الليل 1922 )، وهي تجمع بين القصّة والمقالة على طريقة
جبران والمنفلوطيّ، وسامي الكيّالي صاحب ( أنواء وأضواء 1947 )، وهي قصص
تجمع بين الرومانسيّة والواقعيّة، وعلي خلقي صاحب ( ربيع وخريف 1931 )، وهي
قصص لصيقة بدم صاحبها وأعصابه، أتيح لها من التجربة الخصبة ما أغناها
بنماذج واقعيّة حيّة، جعلت من قصصه التسجيليّة علامةً فارقةً في تاريخ
القصّة السّوريّة القصيرة، ومحمّد النجّار صاحب ( في قصور دمشق 1937 )،
وفؤاد الشائب صاحب ( تاريخ جرح 1944 )، ونسيب الاختيار صاحب ( طيف الماضي
1952 )، وليان ديرانيّ صاحب ( الشمس في المرج 1954 )، و( السهم الأخضر 1976
)، وخليل الهنداويّ، ومظفّر سلطان، وعلي الطنطاويّ، ووداد سكاكيني، ومحمّد
الحاج حسين.. ولعلّ أبرز هؤلاء الرواد الدكتور عبد السلام العجيليّ الذي
أغنى الحياة الأدبيّة في سورية بثروة من الروايات والقصص ذات الطابع
الواقعيّ التسجيليّ أو الشخصيّ: " أبطال قصصنا هم نحن جزءاً أوكلاً، وأحداث
تلك القصص جرت لنا حقّاً في الواقع أحياناً وفي الخيال أحياناً. إنّ الواقع
والخيال عندي فيما أكتبه من قصص هما واحد في القوّة وفي القيمة، أحدهما
منطلق الآخر، وأحدهما يتمّم الآخر. من الواقع ينبثق الخيال، ومن الخيال
أرسم صوراً، وأصف أحداثاً تصبح بقدرة الفنّ واقعاً " .
ومن أعلام القصّة السوريّة
القصيرة: إسكندر لوقا، وبديع حقّي، وحسيب كيّالي، ومراد السباعيّ، وجورج
سالم، ومظفّر سلطان، وخديجة الجرّاح، ودلال حاتم، وناديا خوست، وإلفة
الإدلبيّ، وياسين رفاعيّة، وشوقي بغداديّ، وحيدر حيدر، وعادل أبو شنب،
ورياض عصمت، ودريد يحيى الخواجة، وكوليت خوري، وسعيد حورانيّة، وغادة
السمّان، وقمر كيلانيّ، وعدنان الداعوق، وسلمى الحفّار الكزبريّ، ونصر
الدّين البحرة، وجان ألكسان، وفاضل السباعيّ، ورياض نصّور، وأحمد زياد
محبّك، ومحمّد أبو معتوق..
وممّن ترك تأثيراً كبيراً في
القصّة السّوريّة القصيرة: عبد اللّه عبد الذي امتلك قدرةً متميّزةً على
الغوص في دقائق عالم الطبقة الكادحة المسحوقة ونفوس فقرائها، وامتلك قدرةً
فائقةً على الإمساك بعناصر القصّة القصيرة ومختلف أساليبها الفنّيّة .
وزكريّا تامر، وهو كاتب
تعبيريّ، حوّل المشاعر الإنسانيّة من قنوط وقهر إلى مسوخ في أسلوب قصير
النَّفَس شديد التركيز متين البناء ..
ووليد إخلاصيّ الذي " كتب
عدداً كبيراً من القصص على مدار عقدين من الزمن، وكان سعيه خلال هذه
السنوات مكرّساً لاختبار كتابة جديدة، تتيح للقناع أن يلتحم بالوجه، وتوطّد
في الوقت نفسه أسباب الممارسة، وقد تخلّصت من الأعباء التقنيّة، وقاربت
الأشكال الجديدة " .
من روّاد القصّة القصيرة في
لبنان: سليم البستانيّ ( 1884 ) الذي نشر في مجلّته ( الجنان ) بعض قصص
الوعظ والإرشاد، منها ما هو مترجم، ومنها ما هو موضوع، وأوّلها قصّته (
رمية من غير رامٍ ) المنشورة في تلك المجلّة عام 1870، ومنهم: لبيبة هاشم (
1947 ) صاحبة مجلّة ( فتاة الشرق )، وجبران خليل جبران ( 1931 ) في
مجموعتيه ( عرائس المروج 1906 ) و( الأرواح المتمرّدة 1908 )، وهما جملة من
الأفكار الاجتماعيّة الإصلاحيّة المكتوبة بروح رومانسيّة وأسلوب شعريّ، لا
يتقيّد بعناصر القصّ وحدوده، وميخائيل نعيمة في ( كان ما كان 1937 ) و(
أكابر 1956 ) و( أبو بطّة 1959 )، وكرم ملحم كرم الذي نشر في مجلّتيه ( ألف
ليلة وليلة 1928 ) و( العاصفة 1931 ) عدداً من القصص المترجمة والموضوعة،
وجمع أرقاها في مجموعتيه ( أشباح القرية 1938 ) و( أطياف من لبنان 1952 )،
وهي صور صادقة للقرية وأحوال أهلها وأخلاقهم، ومارون عبّود، وتوفيق يوسف
عوّاد، وخليل تقي الدين..
من روّاد القصّة القصيرة في
مصر: عبد الله النديم ( 1845 – 1896 ) الذي " تمثّل الشكل الغربيّ في
أشكاله القصصيّة التي كان ينشرها في ( التبكيت والتنكيت )، ولكنّه لم يكن
لديه وعي واضح بطبيعة النوع الفنّيّ الذي يكتبه، كي يسعى إلى تطويره " ،
ومحمّد تيمور ( 1921 ) الذي " وُلدت القصّة العربيّة الحديثة مع قصّته
الأولى ( في القطار )، وجاءت ثمرةً ناضجةً لاتّصاله القويّ والمباشر
والمبكّر بالثقافة الأوربيّة.. التقط مادّة قصصه من الفلاّحين ومظالمهم
والموظّفين وانحرافاتهم والمرأة ومشاكلها، وجاءت في لغة سليمة خالية من
الركاكة ومن الصناعة اللفظيّة على السواء، وحرص على أن تجمع السمات
الفنّيّة لهذا الجنس الأدبيّ الجديد على اللغة العربيّة من الشخوص
والأحداث، وأن يزاوج فيها بين القصّ والحوار، وتأثّر في واقعيّته وأنماط
قصصه بالأدب الفرنسيّ بعامّة وموباسان
Maupassant
على نحو خاصّ، ومَصَّر بعض قصص أحياناً، لم يكتم ذلك، ولا أخفاه " . وبعد
موته جمعت قصصه القصيرة في مجموعة، عنوانها ( ما تراه العيون ) 1922. ومع
أخيه رائد القصّة العربيّة القصيرة محمود تيمور ( 1973 ) تطوّرت القصّة
القصيرة خطواتٍ متلاحقةً، أعانته صلته بالأدب الأوربيّ ومعرفته بأصولها على
أن يجوّد فنّه، ويمارس النقد، والتقطت قصصه صورها من مختلف الطبقات الكادحة
والبرجوازيّة، وجاءت في عشرين مجموعةً، أوّلها ( الشيخ جمعة وقصص أخرى )
التي نشرت عام 1925.
ومن هؤلاء الرواد: صالح حمدي
حمّاد صاحب مجموعة ( أحسن القصص 1910 )، والقصّة لديه مواعظ وصور بائسة، لا
تخلو من العيوب الفنّيّة، وعيسى عبيد ( 1923 ) الذي ترك مجموعتين قصصيّتين،
هما: ( إحسان هانم 1921 ) و( ثريّا 1922 )، وأخوه شحاته عبيد ( 1961 ) الذي
كتب مجموعةً وحيدةً، هي( درس مؤلم 1922 )، والقصّة لدى الأخوين عبيد – وهما
من أصل سوريّ - سجل شخصيّ لحقائق حياتهما وظروفها . ومحمود طاهر لاشين (
1954 ) الذي ترك ثلاث مجموعات، هي: ( سخرية الناس 1926 )، و( يحكى أنّ 1928
)، و( الحاج شلبي وقصص أخرى 1930 )، و( النقاب الطائر 1940 )، وقصصه تعالج
الأمراض الاجتماعيّة، وتبدي اهتماماً بالغاً بالأمكنة والشخوص، ولكنّ تدخله
في الأحداث لم يكن ليساعد على نموّ الشخصيّة وتطوّرها.
ومن أعلام القصّة المصريّة
القصيرة: يحيى حقّي، ونجيب محفوظ، ومحمود البدويّ، وطه حسين، ويوسف إدريس،
وإحسان عبد القدّوس، ومحمّد عبد الحليم عبد اللّه، ويوسف الشاروني، وشكري
عيّاد، وثروت أباظة، وجاذبيّة صدقي.. ومن بعدهم: سليمان فيّاض، وجمال
الغيطانيّ، وإدوار الخرّاط، وفتحي غانم، ويوسف القعيد، ومجيد طوبيا، وخيري
شلبي، وصبري موسى، وبهاء طاهر، وإبراهيم أصلان، ويحيى الطاهر عبد اللّه..
وفي العراق شهدت
الخمسينات البداية الفنّيّة الحقيقيّة للقصّة القصيرة على يدي محمود أحمد
السيّد ( 1903 – 1937 ) الذي نشر في عمره القصير ثلاث روايات وثلاث مجموعات
قصصيّة، هي: ( النكبات 1922 )، و( الطلائع 1929 )، و( في ساعة من الزمن
1935 )، وأعاد في المجموعتين الأخيرتين كتابة بعض قصص مجموعته الأولى
تصحيحاً وتحسيناً ، وجعفر الخليليّ، وعبد الحقّ فاضل، وذو النون أيّوب،
وأنور شاؤول، وعبد الملك نوري، وفؤاد التكرلي، ومهدي عيسى الصقر.. ومن
أعلامها: أحمد خلف، وموسى كريدي، وعبد الستّار ناصر، ومحمّد خضير، ولطيفة
الدليميّ، وحسب اللّه يحيى، وشوقي كريم، ونزار عبّاس، وديزي الأمير..
ومن روّاد القصّة القصيرة في
فلسطين: خليل بيدس الذي " كان فيها متأثّراً بشكل واضح بمعرفته بالأدب
الروسيّ، كما كان على وعي بطبيعة السرد وبطبيعة الدور الحيويّ الذي تلعبه
القصّة وبشعبيّتها لدى جمهور القرّاء.. غير أنّ معظم تجاربه القصصيّة قد
أفسدها تدخّل المؤلّف
Authers intrusion
المباشر في السرد بإعطاء توجيه مباشر ورسائل أخلاقيّة خارج الموضوع وكثرة
استعمال الصدف والمفاجآت " ، وهو صاحب ( مسارح الأذهان ) 1924 ومجلّة (
النفائس العصريّة 1908 – 1914 )، ونجاتي صدقي، ومحمود سيف الدين الإيرانيّ،
وعبد الحميد ياسين، ومحمّد أديب العامريّ، وسميرة عزّام، وعيسى الناعوريّ..
ومن أعلامها: غسّان كنفانيّ، ونجوى قعوار، وإميل حبيبي، وتوفيق فيّاض.. وفي
الأردن: أمين فارس ملحس، وسليمان موسى، ومتري شرايحة، وعبد الحليم عبّاس..
وفي المغرب العربيّ – ولا
سيّما الجزائر - تأخّر ظهور القصّة القصيرة عنه في مصر وسورية والعراق
لأسباب وأسباب، منها: أنّ المغرب العربيّ خضع فترةً طويلةً للاستعمار،
فسادت لغته وثقافته، وتأخّر التعليم، وتخلّفت الطباعة والصحافة.. ولذلك نجد
أنّ كثيراً من كتّابه قد هاجروا إلى الغرب، وكتبوا بلغاته.
وقد شهدت القصّة القصيرة
هناك تطوّراً كبيراً على صعيدي الشكل والمضمون، وكان من أبرز روّادها: علي
الدوعاجي، ومحمّد المقّريّ، وصالح القيروانيّ، وعبد المجيد بن جلّون، وعبد
الكريم غلاّب، وعبد العزيز بن عبد اللّه، وأحمد رضا حوحو.. ومن أعلامها:
الطاهر بن جلّون، ومحمّد زفزاف، والطاهر وطّار، ومبارك ربيع، وإدريس
الخوري، وأحمد المدينيّ..
ومن روّاد القصّة الخليجيّة
القصيرة: في السعوديّة: حمزة بوقري، وحسين عرب، وأحمد السباعي.. وفي
الكويت: فرحان راشد الفرحان، وخالد الفرج، وفهد الدويريّ، وسليمان الشطّيّ،
وفاضل خلف، وليلى العثمان.. وفي البحرين: أحمد سليمان كمال، وخلف أحمد خلف،
ومحمّد عبد الملك، ومحمود يوسف.. وفي قطر: يوسف نعمة، وكلثم جبر.. وفي
عمان: عبد اللّه محمّد الطائيّ، وسعود المظفّر، ومحمود الخصيبيّ.. وفي
اليمن: زيد مطيع دماج..
الفصل الخامس
القصّة
الإماراتيّة القصيرة
- النشوء والتأسيس:
إنّ القصّة
الإماراتيّة القصيرة فنّ طارئ، أخذ في أوائل السبعينات ينهض مع النهوض
الفكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ لمنطقة الخليج العربيّ، فقد انتقل المجتمع
بعد ظهور النفط من ظلّ ( الاحتلال ) إلى ( الاستقلال ) من جهةٍ ومن (
القبيلة ) إلى ( الدولة ) من جهةٍ أخرى، وكان لا بدّ للأدب – ولا سيّما
القصّة القصيرة – أن يعبّر عن هذه التحولات الكبرى في مختلف المجالات، وذلك
في الوقت الذي كانت فيه القصّة العربيّة القصيرة قد بلغت أوجها، وكأنّ
القاصّ في الإمارات قد فتح عينيه على واقع قصصيّ ناهض، فأتيحت له فرصة
الاطّلاع على منجزاتٍ من القصّة القصيرة متقدّمةٍ، لم تكن متوفّرةً لسواه
من القاصّين العرب.
في ( توصيفات عامّة حول
القصّة والرواية في الإمارات ) يرى عبد الحميد أحمد أنّ " عبد اللّه صقر
كان أوّل من خطا خطوةً في مجال القصّة دون غيره في الإمارات، فكتب عدداً من
القصص القصيرة كقصّة ( قلوب لا ترحم ) المنشورة في نشرة نادي النصر
الرياضيّ في أواخر الستينات.. كذلك أصدر أوّل مجموعة قصصيّة في الإمارات
بعنوان ( الخشبة ) على حسابه الخاصّ، ولكنّ هذه المجموعة لم تصل إلى القارئ
حتّى الآن، فقد صودرت، وأحرقت، لأنّ موضوعاتها دارت حول الإنجليز بشكل
عنيف، فغابت عن ذاكرة الناس، وكأنّها لم تصدر إطلاقاً، وتاريخ صدورها
الفعليّ لا يعرفه إلاّ صاحبها. ومع عبد اللّه صقر كان لفيف آخر من الشباب
قد بدأوا محاولاتهم في نشرات الأندية، ومنهم: مريم جمعة فرج التي بدأت
الكتابة مبكّراً عن غيرها " .
والمتأمّل في هذه التوصيفات
العامّة يكتشف أوّل وهلة أنّها لا تستند إلاّ إلى الذاكرة، لأنّ النشرة
الأولى من ( الخشبة ) تشير من جهةٍ إلى أنّها صدرت عن مطبعة دبي في نوفمبر
من عام 1975، ومن جهة أخرى نقرأ المجموعة نفسها في طبعتها الثانية عام
1999، فنجد أنّها لا تتعرّض للإنكليز تعرّضاً مباشراً، وإنّما ثمّة سبب
لافت قد يكون وراء منعها وقتئذٍ من النشر، وهو أنّ في تضاعيفها جنساً
صُراحاً، اعترى بعض قصصها، وبلغ ذروته الشاذة في قصّة ( الحفلة ) وسـواها،
فمنعها على ما يبدو من النشر. والمجموعة لا صلة لها بالإنكليز من قريب ولا
من بعيد، وإنّما هي مجرد قصص صريحة، تقف بجرأة في وجه أيّ اعتقال تعسفيّ أو
أيّ عادة اجتماعيّة مبتذلة أو قيمة بالية، وتشيع فيها ألفاظ السجن
ومرادفاته وأفعال التمرّد وانفعالاته.. والمجموعة تنأى عن التعامل مع
الواقع تعاملاً مباشراً، فلا تراه إلاّ من خلال الأحلام والرموز في جرأة
نادرة، قد تخرج أحياناً على حدود اللياقة واللباقة، فجنت المجموعة على
نفسها، وأخفقت محاولات صاحبها الثلاث في نشرها ، حتّى كتب لها عام 1999 أن
تذاع، وتنتشر.
ومن الغريب حقّاً أن تنطلي
هذه التوصيفات على عدد من الباحثين، ولا سيّما الدكتور ثابت ملكاوي في
كتابه ( الرواية والقصّة القصيرة في الإمارات ) والدكتور أحمد عبّاس
المحمّد في كتابه ( القصّة في دول الخليج العربيّ ) ، فيتداولها هؤلاء دون
تمحيص ولا تدقيق. والدكتور الرشيد بو شعير في كتابه ( مدخل إلى القصّة
القصيرة الإماراتيّة ) تنبّه إلى ما اعتورها من الخطأ وما أصابها من
الخلل، فراح يؤرّخ لمجموعة ( الخشبة ) في طبعتها المحظورة تأريخاً
متأنّياً.
وإذا كان عبد الحميد أحمد قد
جعل أوّليّة القصّة الإماراتيّة القصيرة لعبد اللّه صقر، فإنّ ناقداً آخر –
وهو الدكتور ثابت ملكاوي – قد جعلها لشيخة الناخي، فرأى أنّ قصّتها (
الرحيل ) المؤرّخة عام 1970 هي " أوّل قصّة إماراتيّة " ، ولكنّ القاصّة
الناخي ستنتظر طويلاً، حتّى تصدر مجموعتها الأولى ( الرحيل ) عام 1992،
وإذا علمنا أنّ قصص ( الخشبة ) قد كتبت تحديداً بين أواخر عام 1974 وأوائل
عام 1975، وأنّ قصص ( الرحيل ) قد كتبت بين عام 1970 وعام 1992، فلا شكّ في
أنّ هذه الأرقام لن تغيّر كثيراً من نظرتنا إلى ريادة القصّة الإماراتيّة
القصيرة، وهي على ما يبدو ريادة جيل لا ريادة أيّ فرد من أفراده. وسواء أ
كانت البداية على يد عبد اللّه صقر ومريم جمعة فرج أم على يد شيخة الناخي
لا يمكن أن نغفل عمّن جايل الرواد، وأسهم في الانطلاقة الأولى للقصّة
الإماراتيّة القصيرة، ولعلّ نظرةً عجلى إلى مجموعة ( كلّنا نحب البحر )
المشتركة تؤكّد لنا أنّ كوكبةً من الكتّاب قد نجمت معاً، وربّما راحت في
وقت واحد تؤكّد حضورها اللافت، فعلى سبيل المثال: نلاحظ أنّ مظفّر الحاج
مظفّر يكتب قصّته ( ذكريات وأمان ) عام 1971، وأنّ عليّ عبيد عليّ يكتب
قصّته ( ضحيّة الطمع ) عام 1972، وأنّ محمّد المرّيّ يكتب قصّته ( يوم في
حياة موظّف صغير ) عام 1974.
- أوّل قصّة إماراتيّة قصيرة:
تحليل وتاريخ.
لدينا إذاً مجموعة من القصص
لجيل رائد، تمثّل البداية والخطوة الأولى، ومن هذه القصص ندرس أوّل قصّة
إماراتيّة قصيرة، وهي قصّة ( الرحيل ) المؤرّخة عام 1970، فلعلّ هذه
الدراسة تجعلنا نقف على الصورة الأولى لتلك البدايات، وفي هذه الخطوة
الأولى تقول شيخة الناخي: " كانت تجربةً جميلةً ودافعةً للمشاركة في المشهد
الثقافيّ وصوتاً احتجاجيّاً لافتاً للأنظار ونقداً لاذعاً للأوضاع السائدة
آنذاك، عبّرت عن التفاعل مع قضايا المجتمع، وكان لها خصوصيّتها في طرح
مسائل الزواج وغلاء المهور، فكان من الجرأة بمكان أن تكتب فتاة في موضوع
كهذا، تُعاب عليه. بهذه المحاولات الأوليّة بدأت خطواتي على الطريق في
كتابة القصّة " .
وهذه القصّة – الوثيقة
تستوقفنا في نشرتين اثنتين، إحداهما تختلف عن الأخرى اختلافاً كبيراً،
فالأولى هي صورتها الأصليّة في مجموعة ( كلّنا نحبّ البحر ) المشتركة،
والأخرى صورتها الجديدة في مجموعة ( الرحيل ) القصصيّة، أي: إنّ الكاتبة
شيخة الناخي لجأت إلى تعديل القصّة وتنقيحها بعد عقدين من الزمان، حتّى
تواكب تطوّر تجربتها ونضوجها الفنّيّ، وهي في ذلك لم تدرك القيمة الفنّيّة
والتاريخيّة لهذه الوثيقة في تجربتها القصصيّة وفي تاريخ القصّة
الإماراتيّة القصيرة، لأنّ مثل هذه التجربة قد دخلت التاريخ، وصارت جزءاً
منه، فلا يجوز لصاحبها - ولو بعد حين - أن يعبث بها. ومن هنا كان لابدّ أن
ننظر – ولو نظرةً خاطفةً - في الصورة الأصليّة للنصّ، فلعلّنا نستطيع أن
نجيب عن سؤال عريض، يطرح نفسه في مثل هذه التجربة التاريخيّة، وهو: هل
تتمتّع قصّة ( الرحيل ) بالخصائص الفنّيّة للقصّة القصيرة ؟
تبدأ الكاتبة القصّة بهذا
التشبيه التمثيليّ، وكأنّها قطعة من البلاغة لا قطعة من الحياة: " الحياة
سفينة، تعوم فوق بحر غامض، لا أمانَ له، يصوّر لك الأحلام حلوةً كخيوط شمس
الغروب الذهبيّة اللامعة المرسلَة عبر أطياف الشفق الأحمر الخلاّب، يدغدغ
قلوب العاشقين، ويزيد من هيامهم، ويصوّر لهم الأحلام في إطار من خيال
متجدّد، كلّما غاب عنهم عاد حاوياً أحلامهم العذبة، وتارةً تجد هذه السفينة
في يمّ هادر ثائر، يأتي على كلّ شيء، ويجرفه بتياره الغاضب، لا يرحم
ركّابها، وتكمل الحياة خطاها على هذا المنوال بصورها الحلوة الجميلة
والمرّة القاسية " ، وعلى المنوال نفسه تسترسل الكاتبة في هذا الإنشاء
الصُّراح الذي لا يمتّ بصلة إلى لغة السرد القصصيّ في مختلف مستوياتها،
فإذا ما اكتملت ذيول التشبيه وأوصافه المتلاحقة أخرجت الكاتبة شخصيّة
القصّة الرئيسة من هذا العُباب الزاخر من أفانين البلاغة وصورها، وهي علياء
التي " تداعب أفكارها أحلام طفولة بريئة، لا تدري من أمر الحياة شيئاً سوى
اللعب مع رفيقاتها اللاتي يقاسمنها فرحة الطفولة وبهجتها " ، ثمّ أخذت
علياء تكبر بين سطر وآخر أيّاماً وسنواتٍ بلا أيّ إجراءات فنّيّة سوى هذه
العبارات التي ظلّت تتكرّر في تضاعيف القصّة بلا مبرّر ولا مسوّغ: " ومرّت
السنون، لتصبح علياء بعدها شابةً "، " وتتابعت الأيّام في مسيرتها "، "
وذات يوم سمعت طرقاتٍ خفيفةً بالباب "، " سنوات وسنوات وهي تتمنّى رؤية
سعيد "، " ومرّت الأيّام، وقلب علياء يخفق بحبّ سعيد "، " وذات ليلة كانت
وحدها في غرفتها الصغيرة ".. وهكذا امتدّ زمان هذه القصّة القصيرة، وتعدّد
، فلم ينسجم مع بنائها الفنّيّ، ولم يتلاءم ومناخها النفسيّ الذي يسوده
الأرق والأسى، وهو مناخ لا أحداث فيه ولا وقائع، وكأنّه بمعنى آخر لا يحتاج
إلى التزمين Temporalisation،
وعلّة التزمين الخاطف هذه ستعتري كثيراً من قصصها القصيرة اللاحقة، والقصّة
القصيرة زمان خاطف، لا يمتدّ أيّاماً ولا أعواماً.
وقصّة ( الرحيل ) من جهة أخرى
تعاني من مشكلتين بارزتين:
إحداهما أنّ صوت الكاتبة يطغى
على صوت الراوي وصوت الشخصيّة، وهو من بعدُ دَيْدَن القاصّة الناخي في
قصصها الأخرى، تعلّق على موقف من المواقف، وتقطع تواتر السرد بتساؤلات،
وتسيطر على لغته.. ومن الأمثلة قولها: " أصبح الورق رسول غرامها، يبثّان
أشواقهما فوقه بمداد من عصارة قلبيهما، وكثرت عبارات الشوق والحنين
المقرونة بالخوف من مصير مجهول ومن كلّ شيء، وتراكم العديد من الأسئلة
الحائرة: إلى متى نبقى هكذا حيارى تائهين ؟ وأيّ مصير سوف ينتظرنا ؟ وأيّة
حياة ستجمعنا ؟ وكيف ستكون النهاية ؟ ومتى يحين اللقاء ؟ ليتنا نعلم " .
والمشكلة الأخرى أنّ الكاتبة
تعتمد في روايتها للقصّة على المفاجأة اعتماداً مفتعلاً غير طبيعيّ ولا
منطقيّ، فلا تمهّد لهذا العنصر، ولا توطّئ له. ومن الأمثلة قولها: " وإذا
بالقلب فجأةً يتعلّق بالحبّ الطاهر البريء لجار يقربها سنّاً " ، وقولها: "
وإذا بها ترى الظلام الحالك يحيط به فجأةً، ليحلّ مكان الضياء الذي كان
يلفّها " .
والقصّة من حيث الموضوع هي
حكاية رومانسيّة من حكايات الحبّ العذريّ بين علياء ابنة الطبقة الغنيّة
وسعيد ابن الطبقة الفقيرة، تبدأ على الورق رسالةً في إثر رسالة، فيقف الأب
كالعادة في طريق هذا الحبّ، وتنتهي الحكاية كالعادة أيضاً بحادث سيّارة
مروّع، يودي بحياة الحبيبة. فالحكاية إذن مألوفة، لا جديدَ البتّة في
موضوعها ولا في طريقة عرضها، ولعلّها تمرين من تمارين البداية، أو هي على
حدّ تعبير أهل النقد عمل من أعمال اليفاعة والصبا، لا يخلو من رومانسيّة
فجّة ولا من تقليد ولا تقصير. والقصّة بهذا المعنى أو ذاك تتعالق نصّيّاً
Interaction مع قصص
الحبّ ورواياته، ولا سيّما رواية ( الطريق الطويلة ) لنجيب الكيلانيّ ، وهي
من الروايات الرومانسيّة الجميلة التي كانت ترفد قراءاتنا الأولى، ولعلّ
القاصّة شيخة الناخي قد قرأتها في بداياتها، فتأثّرت بها أو بغيرها من تلك
الروايات والقصص. والكاتب أيّ كاتب في بداياته الأولى عرضة لتأثيرات
قراءاته المختلفة، يقع تحت وطأتها، فلا يستطيع أن يتخلّص من سطوتها عليه
إلاّ بمزيد من الخبرة والدربة والتجربة.
فالقصّة إذن من قصص اليفاعة
أو الصبا في تجربة شيخة الناخي القصصيّة، لا تخلو من علل البداية وعثراتها
وأخطائها.. ولعلّ هذا ما دعا الكاتبة إلى مراجعتها وتعديلها عند نشرها من
جديد، وإذا ما قارن المرء بين النشرتين ( راجع: الملحق 2 )، رأى أنّ ثمّة
تعديلاتٍ كبيرةً، قد طرأت على القصّة، وكان من أهمّها هو حذف مشهد حادث
السيّارة المروّع من خاتمتها، لتبدو القصّة مفتوحةً على احتمالات متعدّدة،
وهي واحدة من النهايات الجديدة للقصّة القصيرة، أو هي تقنية جديدة من
تقنيات السرد القصصيّ الحديث.
تاريخيّاً تمثّل إذن قصّة (
الرحيل ) بداية تجربة القاصّة شيخة الناخي القصصيّة، وهي في الواقع بداية
القصّة الإماراتيّة القصيرة، ما دمنا لم نطّلع بعد على قصّة ( قلوب لا ترحم
) للقاصّ عبد اللّه صقر الذي نشرها في أواخر الستينات، ولم ينشرها في
مجموعته القصصيّة ( الخشبة ) 1975 و1999، فلا نعلم من أمرها شيئاً. وهذه
البداية لا تكاد تختلف عن بداية القصّة القصيرة في أيّ بلد عربيّ، والقصّة
القصيرة فنّ طارئ على منطقة الخليج، بدأ رومنسيّاً، وبدأ متعثّراً، ولعلّ
ما يميّز هذه التجربة من سواها هو أنّها بدأت تنضج فنّيّاً، وتتخلّص من
ربقة التقليد على عجل.
- النهوض والتأصيل:
وبعد هذه البداية الرومانسيّة
المتعثّرة، بعد توقّف عبد اللّه صقر عن الكتابة توقّفاً تامّاً وانصراف
شيخة الناخي إلى التدريس والنشاط الاجتماعيّ، وبعد ظهور صحف يوميّة كصحيفة
( الخليج 19 أكتوبر 1970 ) و( الاتّحاد 20 أكتوبر 1969 ) و( الوحدة 6 أغسطس
1973 ) و( صوت الأمّة 8 مارس 1975 ) و( الفجر 17 مارس 1973 ) و( البيان 10
مايو 1980 ) ومجلاّت رائدة كمجلّة ( المجمّع 1973 ) و( الأهليّ 1975 ) و(
أخبار دبيّ 1965 ) و( الشروق 1970 )، و( الأزمنة العربيّة 1979 ).. أخذت
أسماء جديدة تظهر في حركة القصّة الإماراتيّة القصيرة، ومن أبرزها: مريم
جمعة فرج، وإبراهيم مبارك، وعبد الحميد أحمد.. وأمّا الأسماء الأخرى فمنها
ما توقّف عن الكتابة بعد مجموعة قصصيّة واحدة ( د. علي عبد العزيز الشرهان،
وأمينة عبد اللّه، ومحمّد ماجد السويديّ.. ) أو بعد نشر مجموعة متفرّقة من
القصص ( علي عبيد علي، ومظفّر الحاج مظفّر، وعبد العزيز خليل المطوّع.. )،
ومنها ما التفت إلى كتابة الشعر ( جمعة الفيروز، صالحة غابش، وظبية خميس،
وكريم معتوق.. )، أو الرواية ( عليّ أبو الريش )، أو البحث ( عبد الغفّار
حسين ).
ويرى عبد الحميد أحمد أنّ "
عام 1979 كان حاسماً ليس بالنسبة إلى القصّة القصـيرة فحسب، وإنّما بالنسبة
إلى الشعر الحديث والمسرح والتشكيل "، فقد وجده " بداية مرحلة ثقافيّة
واجتماعيّة جديدة "، شهدت " هامشاً من الحريّة، ساعد على طرق مواضيع
ومجالات في الفكر جديدة على المنطقة وعلى وعي الناس، فبدأت تظهر انبثاقات
حديثة في القصّة والشعر على مستوى المضمون والشكل على السواء وعلى مستوى
تقديم أسماء جديدة، بدأت تخوض غمار هذا الفنّ بشكله الحديث بعد أن كانت
تتلمّس خطاها في الكتابة الأدبيّة البسيطة على مستوى الخاطرة وغير ذلك،
فكان من اهتمام القصّة الجديدة في الإمارات قصّة هذه المرحلة التأكيد على
المضمون الاجتماعيّ الإنسانيّ كحريّة الإنسان ومبدأ العدالة والمساواة وكشف
الزّيف والخلل الكامن في المجتمع النفطيّ نتيجة لتطوّره العشوائيّ الهشّ "
. ومن تلك الأسماء التي ظهرت في تلك المرحلة: محمّد حسن الحربيّ، ومحمّد
المرّ، وعبد الرضا السجوانيّ، وليلى أحمد.. ولعلّ أول ما يلفت في تجربة
هؤلاء بخاصّة وتجربة القصّة الإماراتيّة القصيرة بعامّة هو محليّتها
المفرطة، أو هو خليجيّتها، وهي ميزة قد لا تبدو بوضوح واستمرار في تجاربنا
العربيّة الأخرى، وإن كنّا نجد أحياناً نثاراً من الموضوعات العربيّة
والإنسانيّة هنا وهناك، ولا سيّما لدى إبراهيم مبارك وسعاد العريميّ وعبد
الحميد أحمد وناصر الظاهريّ، وناصر جبران.. ومن موضوعات هذا النزوع المحليّ
اللافت، التحوّلات الاجتماعيّة قبل ظهور النفط وبعده، والعمالة الأجنبيّة
الوافدة، والظواهر الأسريّة من هجر وطلاق وزواج من أجنبيّات، والعلاقة مع
الطبيعة من بحر وصحراء ونخيل.. وهي موضوعات تستوحي صورها من أرجاء البيئة
المحليّة، وتأخذ لغتها من مفردات المعجم المحليّ.
وللحديث عن اتّجاه واحد
للقصّة الإماراتيّة القصيرة – وهو المحليّة – مبرّراته، فهي أوّلاً تجربة
فتيّة، لا يتجاوز عمرها عقوداً ثلاثةً من التحوّلات على مختلف الأصعدة
الاجتماعيّة والفكريّة والاقتصاديّة.. وهي ثانياً تجارب أسماء معدودة،
توقّف أغلبها عن الكتابة بعد مجموعة أو مجموعتين.. ومن هنا يرى الدكتور
الرشيد بو شعير أنّنا: " نتنكّب جادّة الصواب إذا زعمنا أنّ هناك اتّجاهاتٍ
قصصيّةً إماراتيّةً متعاقبةً على نحو ما نجد في الأدب العربيّ والآداب
الأوربيّة، لأنّ التجارب القصصيّة الإماراتيّة تظلّ في مرحلة الشباب، وهي
تحتاج إلى عقود أخرى من السنوات حتّى تتضح معالم اتّجاهات ومذاهب أدبيّة،
وترسم حدود الأجيال الأدبيّة بشكل صريح.. ولكنّ هذا لا ينفي وجود حساسيّات
واتّجاهات في طور التشكّل، تتعايش فيما بينها، ولا تتعاقب تعاقباً
تاريخيّاً بحيث يُبنى اتّجاه على أنقاض اتّجاه آخر، ومن هنا نستطيع أن
نميّز: ملامح الاتّجاه الرومانسيّ في أعمال شيخة الناخي ود. علي عبد العزيز
الشرهان وسعاد العريمي، وملامح الاتّجاه الواقعيّ في مختلف فروعه وألوانه
في أعمال كلّ من عبد الحميد أحمد ومحمّد المرّ، وملامح الاتّجاه الرمزيّ أو
الأسطوريّ في أعمال عبد اللّه صقر ومريم جمعة فرج وسلمى مطر سيف، وملامح
الاتّجاه الوجوديّ في أعمال علي أبو الريش، ولكنّ هذه الملامح جميعاً
تتجاور، وتتعايش، وتتصاقب، ولاتتعاقب " .
هي إذن مجرّد تجارب قصصيّة،
لم تكتمل بعد، ولكنّها حظيت باهتمام نقديّ حافل، ورعته ملتقيات متعدّدة
وندوات متلاحقة، بدأ أوّلها عام 1985، وعمرُ التجربة لمّا يتجاوز العقد
ونصف العقد. ومن يقرأ ما صدر عن تلك الجهود النقديّة من بحوث ودراسات يجد
أنّ أغلبها نقد مجامل ومخاتل، لا يبرح ( السطح الاجتماعيّ ) للقصّة
الإمارتيّة القصيرة، ولا يعنى البتّة بمختلف مستوياتها الأخرى ولا ببنائها
الفنّيّ الذي ينبغي أن يكون قد تجاوز مرحلة التأسيس.
الملاحق
( 1 ) ثبت: أعلام القصّة
الإماراتيّة القصيرة ومجاميعهم المطبوعة:
* إبراهيم مبارك ( دبي 1952
): أخلص للبحر وبيئته المحليّة، ففي بعض قصصه هدوء البحر وعنفوانه، وفي
بعضها الآخر إخلاص صادق للإنسان في مختلف أحواله: بائساً يائساً، مُعوزاً
وفقيراً، ثائراً وهائجاً.. وسعى في تجاربه الأخيرة إلى الخروج على البناء
التقليديّ للقصّة القصيرة، فتعدّدت لديه أشكال السرد، واختلط فيها الرمزيّ
بالواقعيّ، وتكاثفت لغته، وتنامت شخصيّاته.. حمل القاصّ المبارك دبلوماً من
معهد المعلّمين وإجازةً في علم النفس من جامعة الإمارات 1984، وعمل مديراً
لإدارة الأنشطة في وزارة التربية والتعليم. له ( الطحلب 1989 )، و( عصفور
الثلج 1992 )، و( خان 1998 ).
* أسماء الزرعونيّ ( الشارقة
1961 ): شاعرة وروائيّة وقاصّة، حملت دبلوم التأهيل التربويّ، وتخصّصت في
المكتبات، وحرّرت في مجلّة ( الأشرعة ) و( مزون )، وكتبت للأطفال مجموعةً
من القصص، منها: ( أحمد والسمكة 1992 )، و( العصفورة والوطن 1992 )، و(
غابة السعادة 1995 )، و( سلامة 2000 ).. ولها ( همس الشواطئ 1995 )، و( قصص
وأشعار لأجنحة الصغار ) بالاشتراك مع أحمد الحمّادي، و( الشواطئ الفارغة
2003 ).
* أمينة عبد اللّه بو شهاب (
عجمان 1960 ): تعنى الكاتبة بعلاقة الإنسان المتوتّرة مع المدينة وغربائها،
وتسعى أن تقف في وجهها القبيح بأدوات فنّيّة طموحة، ولكنّها تتوقّف عن
الكتابة بعد مجموعة قصصيّة مشتركة، هي ( النشيد ) التي أصدرتها عام 1987
بالاشتراك مع سلمى مطر سيف ومريم جمعة فرج.
* باسمة محمّد يونس ( 1964 ):
تجري قصصها الأولى مجرى الحكاية الرومانسيّة لا القصّة الفنّيّة، ولكنّها
في قصصها الجديدة أدركت أنّ القصّة لم تعد مجرّد حكاية، فأخذت تعمل على
تجريب أشكالٍ من القصّ جديدةٍ. تحمل القاصّة إجازةً في اللغة الإنكليزيّة
من جامعة الإمارات 1986 وإجازةً في في الحقوق من جامعة بيروت العربيّة
1993، وفازت بعدّة جوائز، منها: جائزة سعاد الصاح للقصّة القصيرة 1992،
وجائزة مجلّة ( الصدى ) للقصّة القصيرة 1999. لها ( عذاب 1986 )، و( اغتيال
أنثى 1988 )، و( طريق إلى الحياة 1989 )، و( ملائكة وشياطين 1990 ) و( هجير
1993 )، و( رجولة غير معلنة 2000 )، و( ماذا لو مات ظلّي 2003 ).
* جمعة الفيروز: ولد في رأس
الخيمة 1955، ودرس في مدرسة القاسميّة، ومنذ صغره شُغف بالقراءة، حتّى أحرق
والده كتبه خوفاً عليه من لَوْثة وجنون، ثمّ تخرّج في معهد الموسيقا
العربيّة في القاهرة 1975، وعمل في وزارة الإعلام وبلديّة رأس الخيمة، وفي
أوائل التسعينات استقال من العمل، وانزوى في غرفة من بيته القديم مطليّة
بالأسود، ليتفرّغ لوحدته وغربته وآلامه، ولكنّه عاد حثيثاً قبيل وفاته
بسنتين يكتب الشعر والقصّة والقصيرة، وينشر بضراوة. أتقن العزف على العود
والكمان والبيانو والقانون، وله أوبريت ( عشّ المحبّة 1981 )، وله أكثر من
أربعين لحناً، منها ألحانه لمسرحيّة ( الرسالة وجزر السلام )، كما أتقن
الإنكليزيّة والأورديّة، وأخذ يترجم قصائد لطاغور، وأسهم في تأسيس مسرح رأس
الخيمة الوطنيّ، واتّحاد كتّاب وأدباء الإمارات 1982، كما أسهم في تأسيس
فرع الاتّحاد في رأس الخيمة 1999. وقد عانى في أواخر أيّامه خيباتٍ مخزيةً
ومحزنةً، فانزوى من جديد في بيته أشهراً، يعاني الوحدة والنكران والمرض،
وهو الذي كان يعيش بمزقة من كبد ويأس من الحياة والأهل والأصدقاء، حتّى
توفّي في 21/ 2/2001. وفي حوارٍ مع هيثم يحيى الخواجة قبيل رحيله بأشهر
منشورٍ في جريدة ( الاتّحاد في 22 فبراير 2001 ) يقول: " نحن نعيش في عالم
الأساطير، لنتحمّل الواقع الذي لا يرحم. ليس لديّ أيديولوجية أو نظريّة
فلسفيّة، بل أستسلم تماماً للشعور الداخليّ، لديّ رغبة محمومة للانعتاق من
الوجع، أشعر - وأنا أكتب - أنّني أفتّش عن شيء ضاع منّي منذ فترة، أشعر أن
الإنسان مقهور ومظلوم في هذا العالم مكلّل بالغبن ومحاط بالحظّ السيّئ ".
له ( أنت مسافة العشق الأولى 2000 )، و( علياء وهموم سالم البحّار 2001 )
.
* حارب الظاهريّ ( العين 1964
): يحرص القاصّ الظاهريّ على لغة شعريّة وروح رومانسيّة، تطغى على
شخصيّاته، فتحاصرها الهواجس، ويعتريها الإحباط والانهيار، ويغيب الحدث،
لتغدو القصّة بين يديه خاطرةً أو ما يشبه الخاطرة . حمل إجازةً في العلوم
الإداريّة من جامعة كونكورد الأمريكيّة 1989، وعمل زمناً رئيساً لاتّحاد
كتّاب وأدباء الإمارات. له ( مندلين 1997 )، و( ليل الدمى 2005 ).
* حصّة جمعة الكعبيّ: قصصها
رومانسيّة فجّة في إطارٍ من الحكي تقليديٍّ، لا أثر فيه لتجديد ولا لحياة.
لها ( شجن بنت القدر الحزين ).
* ريّا مهنّا البوسعيديّ:
تصدر في قصصها عن نَفَس قصير وإحساس رهيف، فتتقاصر قصصها، وتتحوّل إلى
مجرّد خواطر حيناً وقصص قصيرة جدّاً حيناً آخر، وربّما تكون هذه الكاتبة هي
الوحيدة التي أخلصت لهذا الفنّ في حركة القصّة الإماراتيّة القصيرة، ووفّرت
له لبوسه من العناصر الفنّيّة كالحدث الخاطف واللغة المجازيّة والمفارقة
المؤثّرة وأطياف الحياة وظلالها، وهي لا تكتفي بهذه العناصر، بل تحاول
ببراعة ومهارة فائقتين أن تستفيد من مختلف طاقات هذا القصّ الإيحائيّة، ولا
سيّما قدرة حكايته على التناصّ الحكائيّ وقدرة شخصيّاته على التحوّل
التعبيريّ. لها ( الرحلة رقم 8 ) 2003.
* سارة الجروان: تمتلك
الكاتبة ناصية القصّ امتلاكاً فنّيّاً، لا ينمّ إلاّ عن خبرة وموهبة،
وتوفّر له مختلف وسائل التحفيز، فمتى ألّفت النصّ أحكمت تأليفه، ومتى صوّرت
الحياة كشفت عن أغوارها وأعماق شخصيّاتها، وفي قصصها تحاول أن تجرّب
أشكالاً من القصّ متنوّعةً، ففي قصّة ( الرهان ) تنهض الحبكة على حيلة
للإيقاع بضحيّة، وفي ( أيقونة الحلم ) تبدو الأحداث في النهاية مجرّد حلم،
وفي ( الجحيم الآخر ) تقوم أحداثها على التوازي بين صورتين أو خطّين من
الأحداث يمثّلان خيانتي زوجين، وفي ( شطايا امرأة ) تتحوّل الأحداث إلى
هواجس ومجموعة رسائل ، وفي ( مشاهد من بتر ) تتقطّع أوصال الأحداث ذكرياتٍ
وعناوين فرعيّة. والكاتبة لا تألو جهداً في توفير مختلف العناصر الفنّيّة
لأشكالها القصصيّة، فالحكاية داخلها ضاجّة بالأحداث، والشخصيّات واضحة
المعالم والأبعاد، والوصف يملك مقدرةً كبيرةً على تشخيص الأحداث والشخصيّات
والأمكنة، والحوار في مختلف ألوانه يتوازن مع السرد، ولكنّه أحياناً يجنح
إلى اللهجة العاميّة، كما جرى على ألسنة شخصيّات ( أيقونة الحلم ). لها (
أيقونة الحلم 2003 ).
* سعاد العريمي ( العين 1956
): بين الرمز والواقع تتساوق قصص العريميّ، وكأنّهما وجهان لعملة واحدة، هي
الحياة، فواقعها هو ما تراه من أحداث واقعيّة، تسردها من منظورها الذاتيّ،
ورمزها هو ما تشير إليه من الواقع نفسه، ويدخل في ذلك ما هو متخيّل أو
مؤسطر، وهذا الأسلوب ليس إلاّ واحداً من وسائل التحفيز الواقعيّ، إذ إنّ
هناك حدثاً واقعاً فعلاً وهناك حدثاً رامزاً إلى ما هو واقع حقّاً. ومن هذه
( الواقعيّة الانطباعيّة ) ترى الأسود أسود، وتصرخ في وجه الظلم والتلوّث
والخديعة، فلا تهادن واقعها، ولا تتستّر على أزماته، وربّما كانت قصصها
الرمزيّة أشدّ احتجاجاً وأكثر غوراً من سواها، ففي قصّة ( أنمار ) تفضح جهل
التسلّط وسطوته، وفي قصّة ( لقمان الملك ) تكشف عن خنوع الرعية وخضوعها
المشين، حتّى كأنّ القصّة لديها ( موقف فكريّ ) لا ( نصّ حكائيّ )، وفي ظلّ
هذا الموقف كان زمانها راكداً ساكناً وزمانها خواءً من مثل زنزانة أو
مستشفى أو بئر جافّة.. وكانت شخصيّاتها مهمّشةً مكسّرةً، ومن هذه
الشخصيّات: عفراء التي تكسّرت أحلامها حين عرفت أنّ حملها كاذب، وغمران
الذي أراد أن يتمرّد، فاكتشف أنّ لسانه جاف كالخشبة، ونهار الذي اكتشف أنّ
صرخته مكتومة، فأذعن لسطوة السيّاف.. فالفضاء القصصيّ لديها معادل حقيقيّ
للواقع، أو هو الواقع نفسه من منظورها الشخصيّ الذي يلحّ على مجالٍ من
الرؤية ضيّقٍ ومحدودٍ، حتّى تغدو القصّة قصيرةً جدّاً، تبهَت ملامح
شخصيّاتها، وتتلاشى حركة أحداثها، وتغدو لغتها القصصيّة شعراً.. والقاصّة
العريميّ تسعى من جهةٍ في مجمل قصصها إلى تجريب مختلف أنواع السرد
ومستوياته، حتّى تميّزت كلّ قصّة من الأخرى، وتحرص من جهةٍ أخرى على لغة
شعريّة، لا تخلو أحياناً من الشعر نفسه. لها ( طفول 1990 )، و(حقل غمران
1997 ).
* سلمى مطر سيف ( عجمان 1968
): للمرأة موقف أخّاذ في قصصها، وكأنّ القصّة القصيرة لديها احتجاج على
الواقع الاجتماعيّ ورفض لمواقفه ضدّها. لها ( عشبة 1988 )، و( هاجر 1991 )،
و( النشيد 1987 ) بالاشتراك مع أمينة عبد اللّه بو شهاب، ومريم جمعة فرج.
* شيخة مبارك سيف الناخي (
الشارقة 1952 ): حملت من جامعة الإمارات إجازةً في الآداب 1985، ودبلوماً
في التربية 1987، وكتبت قصصاً للأطفال، وأصدرت ( الزهور ) أوّل مجلّة
للأطفال في الإمارات عام 1974، وترأست زمناً رابطة أديبات الإمارات، وتحرير
مجلّة ( أشرعة ) التي تصدر عن الرابطة نفسها. لها ( الرحيل 1992 )، و( رياح
الشمال 1997 ).
* صالح كرامة: يرصد في قصصه
حالاتٍ إنسانيّةً فاجعةً في مواجهة واقع قاس عديم الرحمة، لا يبالي
بمشاعرها ولا همومها ولا معاناتها المريرة.. ففي كلّ قصّة من قصصه وجهان
متناقضان، أحدهما هو وجه الشخصيّة الرئيسة المتغضّن، والآخر هو وجه المجتمع
المتجبّر، ومن خلالهما يشكّل السرد حركة الزمان اللاهث، ويرسم الوصف صورة
المكان المحليّ، ويضمحلّ دور الحوار، فلا يكاد يكون إلاّ مونولوجاً، يظهر
بوضوح ما يعتلج في داخل الشخصيّة من مشاعر، وما يتراءى لها من صور. له (
سهرة مع الأرق 2003 ).
* ظبية خميس المهيريّ ( أبو
ظبي 1958 ): هي صوت أدبيّ متميّز، خسرته القصّة القصيرة، وربحته القصيدة،
هي صوت الإنسان أينما كان وكيفما كان.. مقهوراً ومعذّباً ومسلوباً.. درست
العلوم السياسيّة والفلسفة في جامعة إنديانا الأمريكيّة، والسياسة الدوليّة
في جامعة لندن، ومنذ عام 1989 انتقلت إقامتها الحافلة إلى القاهرة. لها (
عروق الجير والحنّة 1985 )، و( خلخال السيّدة العرجاء 1990 )، و( ابتسامات
ماكرة وقصص أخرى 1996 ).
* عائشة الزعابيّ: صوت قصصيّ
جديد في القصّة الإماراتيّة القصيرة، يحاول أن يخرج على إسار الحياة والحكي
معاً، وذلك من خلال لغة شعريّة جميلة وتصوير أخّاذ لمختلف مظاهر الحياة
وخفاياها. فازت مجموعتها ( غشاوة ) بالجائزة الأولى في الدورة الثانية من
مسابقة مجلّة ( الصدى ) للقصّة القصيرة عام 2002، ولها أيضاً ( للموت لغة
1997 ).
* عائشة عبد الله: تهيّئ
لقصصها من ألوان التصنيع وأشكال التصوير ما يجعلها في أجمل حلّة وأبهى
هيئة، وربّما يجعلها أكثر تأثيراً وأكثر حيويةً وحياةً. فإذا ما أوردت (
الموت ) حافزاً موضوعيّاً لجأت إلى ( الطوفان ) حافزاً حرّاً، وشبهت الموت
به، وهي لا تعدم طريقةً من طرق التحفيز الجماليّ إلاّ لجأت إليها، لتوفّر
لقصّتها نصيباً لائقاً من التصوير والتعبير، ففي قصّتها ( باقة ورد ) تلجأ
إلى التكرار، وفي ( نداء النهّام ) تلجأ إلى الحذف، فتبدّل بالمحذوف علامات
ترقيم موحية، وفي ( الطوفان ) تلجأ إلى الطباق، وفي ( أيّها الـ.. من أنا ؟
) تلجأ إلى السؤال، وكأنّ القصّة مجموعة من الأسئلة، وفي ( الموت الأبيض )
تلجأ إلى الفعل المضارع الذي يجعل القصّة تضجّ حيويةً وحياةً. لها ( ما بعد
الطوفان 2003 ).
* عبد الحميد أحمد ( دبي 1957
): " تنضوي تجاربه الأولى تحت باب الاتّجاه العامّ للواقعيّة النقديّة
مركّزةً على تحليل مشكلات الفرد المستلب والمحبط في مواجهة واقع قاس وعديم
الرحمة.. وفي قصصه الأخيرة لا يكشف الواقع عن كثافة حسيّة ملموسة، بل يبدو
هلاميّاً، وتتشكّل تجربته القصصيّة على مستوى أقرب ما يكون إلى التعبيريّة
أو الرمزيّة.. ونشهد فيها دمجاً بين ما هو واقعيّ وحسيّ وملموس وما هو
غرائبيّ ومتخيّل " . والقاص أحمد عمل محرّراً في مجلّة ( الأزمنة العربيّة
) وجريدة ( الاتّحاد ) ومديراً لتحرير جريدة ( البيان )، وله ( السباحة في
عيني خليج يتوحّش 1982 )، و( البيدار 1987 )، و( على حافّة النهار 1992 ).
* عبد الرضا السجوانيّ (
الشارقة 1957 ): يلحّ الكاتب على معالجة المشكلات الاجتماعيّة كغلاء المهور
والزواج المتعدّد، وكأنّ القصّة لدية وثيقة اجتماعيّة لا أقلّ ولا أكثر.
تخرّج في قسم اللغة العربيّة من جامعة الإمارات عام 1981. له ( ذلك الزمان
1978 )، و( زلّة العذارى 1981 )، و( الرفض 1992 )، و( انحدار 2001 )، و(
هتاف الشمس 2001 ).
*عبد اللّه صقر أحمد المرّيّ
( دبيّ 1952 ): هو أحد روّاد القصّة الإماراتيّة القصيرة، نشأ بحّاراً
وقاصاّ وشاعراً، ولكنّه عام 1972 تحوّل لاعباً لكرة القدم في نادي الشباب
في دبي فمدرّباً لهذه اللعبة منذ 1984 حتّى اليوم. له أوّل مجموعة قصصيّة
إماراتيّة، وهي ( الخشبة ) الطبعة الأولى 1975، والطبعة الثانية 1999، وله
مجموعة شعريّة، هي ( اغتراب في زمن مسلوب 1975 ).
* عليّ أبو الريش ( المعيريض
في رأس الخيمة 1956 ): ضاقت عليه القصّة القصيرة، فاتّجه بعد مجموعة قصصيّة
وحيدة إلى الرواية، فكان من أهمّ أصواتها العربيّة، وفي تلك المجموعة
تسامقت لغته، حتّى بلغت سماء الشعر، وأوغلت قصصه في الواقع المحليّ، حتّى
وصلت أغواره وخفاياه. والقاصّ أبو الريش حمل إجازةً في علم النفس من جامعة
عين شمس، وترأس تحرير جريدة ( الاتحاد ). له عدّة روايات ومجموعة قصصيّة
واحدة، هي ( ذات المخالب 1984 ).
* علي أحمد الحِمْيريّ ( 1948
): يغلب السرد الذاتيّ على تجربته، وكأنّ قصّته تجربة شخصيّة، أو هي حقّاً
كذلك، لأنّ السارد يشارك في صنع أحداثها، ولأنّ أحداثها شديدة الصلة به،
فهي مجرّد حكاية، تجري أحداثها جرياناً طبيعيّاً، لا أثر فيه لأيّ انزياح
فنّيّ ولا خروج فيها عن البناء التقليديّ للحكاية. فمن ناحية الشكل هي
مجرّد حكايات، ومن ناحية المضمون هي ذكريات وتجارب واقعيّة. والحقّ أنّ
الكاتب يمتلك ذاكرةً حكائيّةً وقّادةً، لا ينقصها إلاّ الجرأة على تحويل
الوصفيّ إلى سرديّ والحكائيّ إلى قصصيّ. له ( قزم وعملاق 1999 )، و(
الداسيات 2000 )، و( ذرة فوق شفة 2001 )، و( شيء من هذا القبيل 2001 )، و(
عيون السمك الباردة 2002 ).
* د. علي عبد العزيز الشرهان:
عني بالبيئة المحليّة، ولا سيّما البحريّة منها، وذلك في سرد خاطف، تقصر
جمله، حتّى تغدو كلمةً أو كلمتين، ولكنّها تظهر مشاعر إنسانيّةً جيّاشةً،
وذلك في إطارٍ من القصّ تقليديٍّ. تلقّى علومه الأولى في الإمارات، وحمل
إجازةً في اللغة الإنكليزيّة من جامعة بغداد عام 1976، وحصل على درجة
الماجستير في علم اللغة من الجامعة الأمريكيّة في واشنطن عام 1983، وعلى
درجة الدكتوراه في فلسفة علم اللغة الاجتماعيّ من جامعة إزكس في إنكلترا
عام 1988، وتبوّأ الدكتور الشرهان أرفع المناصب العلميّة، فكان مديراً
لمركز بحوث التاريخ والتراث الشعبيّ، ومديراً لمركز التعليم الأساسيّ،
ونائباً لمدير جامعة الإمارات لشؤون التخطيط، فوزيراً للتربية 1997 - 2005.
له ( الشقاء 1977 و1992 )، وممّا ترجمه قصّة ( السمكة الصغيرة ) للكاتب
الإيرانيّ صمد بهرنجيّ 1986.
* فاطمة محمّد الهديديّ:
للوهلة الأولى يلاحظ القارىء أنّ قصصها ليست واقعاً فنّياً فحسب، وإنّما هي
أيضاً واقع ذاتيّ، تسوده لواعج النفس، وتستبدّ به التجربة الشخصيّة، فتبدو
بعض القصص، وكأنّها قطعة من الذات لا من الواقع كالخاطرة، لا تملك مفاتيح
القصّ، ولا تقوى إلاّ على البوح الحكائيّ الذي أغوى القصّة، فضلّت الطريق،
وكانت مجرّد هاجس أو خاطر. ومنها قصّة ( الصمت المسنون ) التي " تتوالى
عليّ خواطر عتيقة " على حدّ تعبيرها، فتسأل القصّة عن عناصرها الفنّيّة،
فلا تقبض إلاّ على إنشاء صُراح ووجوه غائمة وبيئة قصصيّة بلا ملامح ولا
أسارير. تخرّجت في كليّة التربية من جامعة الإمارات. لها ( آثار على نافذة
1995 ).
* فاطمة المزروعيّ: في قصصها
يتساوق الخيال والواقع، وكأنّهما وجها الحياة، فواقع الكاتبة هو ما تراه من
أحداث واقعيّة، وخيالها هو ما تسترجعه من الواقع نفسه أحلاماً وذكرياتٍ.
ومن هنا سيتحوّل الحكائيّ إلى قصصيّ، وربّما كان هذا التحوّل على حساب
المتن الحكائيّ نفسه، ففي قصّة ( زهرة العشق ) يتحوّل رحيل ( ليل ) الفاجع
إلى قصيدة من الأحزان، أي: يتحوّل القصصيّ إلى شعريّ، لا أثر في أضغافه
لحبكة ولا عقدة، ولا لغة فيه إلاّ لغة الوصف، وفي أسطرها الأولى يشير
ساردها الشاعر إلى أنّه سيفتتح كتاب الحكايات، ليروي قصّةً داميةً من قصص
البشر، ولكنّه سرعان ما يخلص إلى الاعتراف صراحةً أنّ ما سرده لم يكن إلآّ
مجرّد قصيدة، حاول عبثاً أن يفكّ طلاسمها الغامضة. وهذا الخروج عن الحكائيّ
إلى أشكالٍ من السرد قصصيّةٍ سيكون ديدن الكاتبة وأسلوبها الدائب في قصصها
الأخرى. لها ( ليلة العيد 1996 ).
* فهد الفلاسيّ: لا يعير
الكاتب في مجموعته الوحيدة ( قلوب تائهة 2002 ) السرد اهتمامه، أو يبدو
أنّه غير عابئ بأهميّته في عمليّة البناء القصصيّ، وكأنّ القصّة لديه مجرّد
حوار بين شخصيّاتها، ففي قصّة ( أبراج الغرام ) حوار طويل بين بثينة
وصديقاتها ثمّ بينها وبين أهلها، لا تقطعه إلاّ جمل سرديّة قصيرة من الفعل
( قال ) ومرادفاته، وبذلك لا تقوى القصّة أن تصف مشهداً لحدث من الأحداث،
ولا أن ترسم بعداً من أبعاد الشخصيّة، ولا أن تهيّئ الحبكة لعقدة من العقد،
وفي قصّة ( أشباح الغيرة ) و( الحقيبة الشقيّة ) و( قلوب تائهة ) يتخلّص
أحياناً من هذه الجمل، لتصبح القصّة في أغلب مقاطعها حواريّة، لا أثر فيها
للسرد ولا للوصف، وفي ( لعبة الحبّ ) يبدّل بالفعل ( قال ) شرطةً، وتتحوّل
القصّة إلى مسرحيّة خالصة.
* ليلى أحمد ( 1960 ): ترصد
الكاتبة تحوّلات الشخصيّة في المجتمع المحليّ والعربيّ، وتصوّر تناقضاتها،
وتحاول أن تخرج في ذلك على إسار البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة بجرأة
ووضوح. لها ( الخيمة والمهرجان والوطن 1984 ).
* محمّد حسن الحربي ( 1957 ):
يعنى القاصّ الحربيّ بأغوار الإنسان المتوترة وشوارعه الخلفيّة، ويؤمن أنّ
القصّة القصيرة ليست سرداً مباشراً ولا بناءً مقدّساً، فيخرج على إسارها
التقليديّ إلى مستوياتٍ من السرد رحبةٍ حتّى غدت تجربته القصصيّة حقلاً
مفتوحاً على التجريد والتجريب. عمل محرّراً في مجلّة ( الأزمنة العربيّة )
وفي صحيفة ( الوحدة ) و( الفجر ) و( الخليج ). له ( الشيخ والقرية )
للأطفال، و( الخروج على وشم القبيلة 1981 )، و( حكاية قبيلة ماتت 1987 )،
و( من لفائف الربع الخالي 1999 ).
* محمّد ماجد السويدي: له (
دانة يا بحر دانة ).
* محمّد المرّ ( دبي 1955 ):
هو كاتب واقعيّ، تجرّأ على رصد التحوّلات في المجتمع الإماراتيّ على مختلف
الأصعدة، ولكنّ هذه الجرأة لم تنعكس البتّة على الشكلّ الفنّيّ لقصّته
القصيرة، فظلّ بناؤها تقليديّاً، وكأنّها هي الحياة، أو كأنّها قطعة حيّة
منها . تخرّج القاصّ المرّ في جامعة سيراكيوز الأمريكيّة، وعمل رئيساً
لندوة الثقافة والعلوم في دبي ولمجلس دبيّ الثقافيّ، وأصدر أولى مجموعاته
القصصيّة ( حبّ من نوع آخر ) عام 1982، وصدرت أعماله القصصيّة الكاملة في
ثلاثة مجلّدات عن دار العودة في بيروت عام 1992، وبعدها أصدر ( سحابة صيف
1993 ) و( فيضان قلب 2000 )، وترجم له المستعرب الإنكليزيّ بيتر كلارك
مختارات من قصصه، جمعتها: ( قصص دبويّة )، وصدرت عن دار فوريست في لندن عام
1991، ودرس الدكتور سمر روحي الفيصل تجربته القصصيّة في كتابه ( أساليب
السرد عند محمّد المرّ 2005 ).
* مريم جمعة فرج ( دبيّ 1956
): هي رائدة من روّاد القصّة الإماراتيّة القصيرة، أخذت تنشر قصصها القصيرة
منذ أوائل السبعينات، ولكنّها لم تجمعها إلاّ في وقت متأخّر، و" تتّسم
لغتها بالجموح المكبوت والشاعريّة المتمرّدة، وبالرغم من أن قصصها تنحو
منحى حداثيّاً في مبناها من خلال تفتيت الفعل القصصيّ المتكامل واللجوء إلى
النهايات المفتوحة، تظلّ واقعيّةً في معناها ضاربةً بجذورها الدلاليّة
ورموزها الفكريّة في البيئة الخليجيّة المحليّة ذات النكهة المتميزة، وهي
بذلك تعدّ صوتاً متميّزاً جديداً " ، وتحمل إجازةً في اللغة الإنكليزيّة من
جامعة الإمارات 1980. لها ( فيروز 1988 )، و( ماء 1998 )، و( النشيد 1987 )
بالاشتراك مع أمينة عبد اللّه بو شهاب، وسلمى مطر سيف.
* منصور عبد الرحمن: له (
المخلوقات الأخرى 1995 ).
* ناصر جبران ( عجمان 1952 ):
شاعر وقاصّ، يملك مقدرةً فائقةً على تحويل العيانيّ إلى قصصيّ، ويلهج بلغة
الواقع نفسه، فلا تخلو من المفردات الدارجة والمسمّيات المحليّة، ولا
تتعالى على شخصيّاته الموصوفة من الخارج وحده دون أي اعتبار لمشاعرها
ودوافعها. له ( ميادير 1989 )، و( نافورة الشظايا 1993 ).
* ناصر الظاهريّ ( العين 1959
): يحيل القاصّ الظاهريّ اليوميّ من صور الحياة ومشاهدها المخزية قصصاً
قصيرةً، ولا سيّما الواقع المحليّ الذي يعجّ بالغرباء من مختلف الجهات. وفي
هذا اليوميّ يهجس بلغة الشارع، ويخلط الفصيح بغيره، فربّما احتاج توضيحه
إلى حواش. والقصّة لديه ليست وصفاً مباشراً لهذا اليوميّ، وإنّما هي سرد
متعدّد المستويات، يحاول أن يستفيد من مختلف أنماطه وأشكاله، ولكنّ هذا
السرد غالباً ما يختلط بالحوار، وربّما اختلطت أيضاً ضمائره، فلا نكاد
نميّز أحياناً السرد الذاتيّ من السرد الموضوعيّ. والقاصّ الظاهريّ تخرّج
في كليّة الإعلام من جامعة الإمارات 1984، وأكمل دراسته العليا في الصحافة
والإعلام يفي جامعة السوربون في باريس، وعمل سنوات مديراً لتحرير صحيفة (
الاتّحاد ) و( مؤسّسة الإمارات للإعلام ) ورئيساً لاتّحاد كتّاب وأدباء
الإمارات. له ( عندما تدفن النخيل 1990 )، و( خطوة للحياة.. خطوتان للموت
1995 ).
* نجيبة محمّد الرفاعيّ (
عجمان ): تستوحي قصصها من الواقع الاجتماعيّ، فلا تحيد عنه إلى أغوار النفس
ولا أرجاء الحياة، وكأنّ القصّة لديها حكاية من حكايات الخدم والمخدّرات
والتفكّك الأسريّ والزواج المبكر. وأسلوبها لا يخلو من عثرات البداية
الأولى وأخطائها، ومنها: تداخل السرد بالحوار، واختلاط السرد الذاتيّ
بالسرد الموضوعيّ من غير مبرّرات فنّيّة، وطغيان صوت الكاتبة على صوت
الراوي وصوت الشخصيّة، والتزمين الخاطف الذي يعتري كثيراً من أحداث قصصها،
والأسلوب التقريريّ الذي يعجّ بالأخطاء اللغويّة، ويخلو من أيّ تحفيز
جماليّ. حملت إجازةً في الأحياء والكيمياء من جامعة الإمارات، وعملت
مدرّسةً. لها ( قصاصة من الورق 1995 )، و( نبض في حياتي 2000 ).
* نعيمة ثاني المرّيّ: تبدو
قصصها مجرّد خواطر، ليس فيها من عناصر البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة سوى
عنصر القصّ أو الحكي. هي سرد مباشر، لا أثر فيه لحوار، ولا ملامح لشخصيّة،
ولا نماء لحدث.. والقصّة القصيرة ليست حكاية فحسب، لأنّ الحكاية عنصر من
عناصر ذلك البناء الفنّيّ. لها ( قطرات من المرشّ 1998 ).
وثيقة: أوّل قصّة إماراتيّة
قصيرة:
( الرحيل ) للقاصّة شيخة
الناخيّ
الحياة سفينة
تعوم فوق بحر غامض عجيب، لا أمان له، يصوّر لك الأحلام حلوةً كخيوط أشعة
شمس الغروب الذهبيّة اللامعة المرسلة عبر أطياف الشفق الأحمر الخلاّب،
يدغدغ قلوب المحبّين، ويزيد من هيامهم، ويصوّر لهم الأحلام في إطار من خيال
متجدّد، كلّما غاب عنهم عاد حاوياً أحلامهم العذبة.. وتارةً تجد هذه
السفينة في يمّ هادر ثائر، يأتي على كلّ شيء، يجرفه بتياره الغاضب، لا يرحم
ركّابها.
وتكمل الحياة
خطاها على هذا المنوال بصورها الحلوة الجميلة والمرّة القاسية، تتهادى في
مسيرتها، تشقّ الطريق بكاهلها الثقيل المحمّل بهموم أنفاس حائرة، قُدّر لها
أن توجد في مجتمع، تكالبت عليه صنوف المادّة، وأغوته مظاهرها الخدّاعة،
فجرفت أفراده إلى هاوية الشقاء والتعاسة، ولم تعد هناك فرحة ولا بسمة.
وكانت علياء من
بين تلك الأنفاس الحائرة، وُجدت، وخلقت، لتعيش بين رحابه طفلةً، تداعب
أفكارها أحلام طفولة بريئة، لا تدري من أمر الحياة شيئاً سوى الّلعب مع
رفيقاتها اللاتي يقاسمنها فرحة الطفولة وبهجتها.
ومرّت السنون،
لتصبح علياء بعدها شابةً حلوةً جميلةً في عمر الزهور، وتفتّحت لها أبواب
الحياة، ووعت ما يجري حولها. أيّ حياة هذه التي ستحياها ؟ فمجتمعها قاس
وعنيد، لا يقيم وزناً للفتاة ! إذاً فهي لا تملك من أمر حياتها سوى الأحلام
والأوهام.. ولكن هل يقدر لهذه النفس البريئة المتفتّحة للحياة أن تخمد،]
ويُقضى عليها بما تعارف عليه المجتمع [ ، هل يحطّمها كما حطّم الكثيرات
أمثالها ؟ لم تكن تدري.
وتتابعت الأيّام
في مسيرتها، وإذا بالقلب يفتح مصراعيه للأمل المنتظر للأمنية التي طالما
راودته، ولعبت بأوتاره، ولفّته بردائها الدافئ العطوف، وإذا به فجأةً
يتعلّق بالحبّ الحبّ الطاهر البريء لجار، يقربها سنّاً، وعاشت على الأمل،
تحرق شمعة شبابها، لتنير لأملها الطريق، ] ليأخذ طريقه إلى التحقّق [،
وبادلها سعيد – وهذا اسمه – حبّاً بحبّ، ] وأوسع في قلبه مكاناً لهذا
الحبّ، وأصبح الورق رسول غرامهما، يبثّان أشواقهما فوقه بمداد من عصارة
قلبيهما، وكثرت عبارات الشوق والحنين المقرونة بالخوف [ من مصير مجهول ومن
كلّ شيء وتراكم العديد من الأسئلة الحائرة: إلى متى نبقى هكذا حيارى تائهين
؟ وأيّ مصير سوف ينتظرنا، وأيّة حياة ستجمعنا ؟ وكيف ستكون النهاية ؟ ومتى
يحين اللقاء ؟ ليتنا نعلم.
وذات يوم سمعت
طرقاتٍ خفيفةً ]بالباب [ ، ولم يكن بالبيت أحد غيرها، فأسرعت تفتح الباب
للطارق، وكانت المفاجأة مذهلةً: إنّه هو سعيد بدمه ولحمه.. يا إلهي، ماذا
أتى به الآن ؟ تورّد وجهها الأسمر بحمرة خجل، وخفق قلبها، وازدادت دقّاته،
فلم تستطع أن تنطق بحرف واحد، فقد أذهلتها المفاجأة. وتدارك سعيد الموقف،
فقد أحسّ بنفس الشعور، وهو الذي كان يمنّي نفسه برؤيتها عن كثب.. أمّا الآن
فعلياء أمامه وجهاً لوجه، ها هي أمنية تتحقّق، ]إنّها حقيقة لا خيال..[
ويسألها:
- أين أخوك ؟
فتجيبه بشيء من الخجل:
- إنّه غير موجود.
ويودّعها بنظرة،
أدركت مغزاها، وأغلقت الباب، وأسرعت إلى غرفتها، فألقت بجسدها على السرير،
وحدّقت في السقف طويلاً، وطال سكونها، وعَمُق تفكيرها، واستسلمت للأحلام،
تنسج حولها صوراً رائعةً للحبّ.
سنوات وسنوات وهي تتمنّى رؤية
سعيد، ولم تكن تدري أنّها ستواجهه وجهاً لوجه، ويكلّمها، وتكلّمه، هل هي في
حلم أم في حقيقة ؟ وتجيب: بل حقيقة، ها هو وجهه كما عرفته منذ زمن، لم
يتغيّر، وشعرت في هذه اللحظة بالذات بأنّ الهمّ قد انزاح عن قلبها، وبأنّ
تيّار الحياة يتدفّق من قلبها مهلّلاً نشيطاً.
ومرّت الأيّام، وقلب علياء
يخفق ]بحبّ [ سعيد. ] كانا لا يستطيعان اللقاء حتّى ولو كان في الخفاء،
فليس هناك من يشّجع مثل هذا اللقاء، فهما على يقين بأنّهما لو تقابلا دون
أن يعلم بهما أحد، لكانت هناك عيون متربصّة تراقبهما. ومن أجل ذلك كثرت [
زياراته لأخيها عليّ، ] فلعلّ عينه تقع على الحبيبة، فيفوز منها بنظرة [ ،
تريح قلبه المعذّب وروحه الهائمة، وأقدم على الخطوة التي ]سـتقرّر مصيرهما،
وطلب يدها [ من أبيها، ولكنّ توقّعه كان في محلّه الرفض بالطبع، فهذا
الوالد من هذا المجتمع المتكالب على المادّة، وهو يريد لابنته زوجاً ثريّاً
لا شاباً فقيراً كسعيد. وكَتَم سرّه في نفسه، فقد باءت جميع المحاولات
لانتزاع كلمة الرضى من فم أبيها بالفشل، بل وصل به الحال إلى أكثر من ذلك،
فقد طرده من بيتهم عندما أتى لزيارة عليّ.
وذات ليلة كانت وحدها في
غرفتها الصغيرة، وشمعتها مضاءة حولها، تقرأ متّكئةً على طاولتها إلى جانب
النافذة المفتوحة، والرياح العابرة تهبّ، وتلعب، وتلتقي برؤوس تنكسر، وعقول
تحلم، ونفوس تتألّم، وأهواء تضطرم، وضروب من الشقاء تعوي، تلتقي بها،
وتحرقها بتيّارها اللعوب، ] لا ترحم الشقيّ ولا التعيس، كلّهم سواء عندها
[.
وتقاطرت عليها ضروب الهواجس،
وامتزجت بتفكيرها المبهم، تقرأ رسالةً رسالته هو، وبينما هي في غمرة من
الفرحة الفرحة بقراءة أسطره إذا بها ترى الظلام الحالك، يحيط بها فجأةً،
ليحلّ مكان الضياء الذي كان يلفّها فيما سبق حيث كانت تشعر بابتهاج رائع
ابتهاج برسالته، ولكن لِمَ كلّ هذا ؟ وتابعت القراءة، ] لقد أدركت من أوّل
أسطرها أنّها ليست كالرسائل التي تلقّتها فيما مضى، إنّها تختلف عنها كلّ
الاختلاف، فلعلّ في الأمر سرّاً [ ، وكان ما تخشاه، فإذا بها تجد السرّ
السرّ الغامض وراء هذه الرسالة. نعم، لقد وقعت عيناها على كلمة الرحيل.
- آه ما أقسى هذا ؟ أ صحيح هو
عازم على الرحيل ؟ ] أحقيقة أم هراء ؟ ولكنّ الكلمات تؤكّد أنّه حقيقة.
وغشى الظلامُ عيني علياء،
وتساءلت، وهي تنهار: ألا يوجد أمل ؟ وتمتمت في سرّها: الأمل، لقد قلت: يا
سعيد، إنّك ستضحّي بكلّ شيء لأجلنا. بحقّ حبّنا لا تتركني وحيدةً. لا لا
ترحل. سأقنعك، وسنضع الجميع أمام الأمر الواقع.. وانتابتها حيرة قاتلة. أيّ
خبر هذا الذي تقرؤه ؟ وأيّ موقف هذا الذي هي فيه ؟ إنّه – لا شكّ – أخطر
ممّا يتصوّر. يتركها وحيدةً، ويرحل ؟ يرحل، ليمزّق قلبها المعذّب، ويطعنها
في الصميم، يرحل، ليزيد من شقائها وتعاستها، ويتركها لقمةً سائغةً لأفواه
جائعة. لا.. مستحيل أن يرحل، مستحيل أن يذهب، وليكن ما يكون مهما كلّف
الأمر. لقد كانت مفاجأةً قاسيةً، تفرض نفسها على مسرح قلبها، بينما في داخل
أعماقها راحت تصرخ مستجدةً، لتستيقظ من حلم فظيع، وتتحرّر من الكابوس
الرهيب الذي خيّم على صدرها، ثمّ عادت إلى سابق وعيها، وراحت تفكّر في شيء
تفعله.
كان كلّ شيء في البيت ساكناً،
فقد انسحب كلّ فرد إلى فراشه، ولكنّ علياء ظلّت ساهرةً، ترسم في خيالها
خططاً للهرب، إذ يجب ألاّ يطلع الصباح عليها قبل أن تنفّذ مايجول بخاطرها،
ولكن كيف السبيل إلى ذلك ؟ إنّها خائفة خائفة من أن يستيقظ أحد في البيت،
فيكتشف تغيّبها، ولكنّها صمّمت على الخروج، فالليل طويل، ولن يشعر بها أحد،
وفتحت نافذة غرفتها بحرص بالغ بعد ما تأكّدت من إغلاق باب غرفتها جيّداً،
ومرّت لحظات تردّد، تناولت عباءتها المعلّقة، ولفّتها حول جسمها، ثمّ
تسلّلت من النافذة، وهبطت الأرض.
كان كلّ ما حولها ساكناً،
وقرّرت أن تغامر بالتوجّه نحوه.. بينما هنا وهناك كانت أصوات ساهرة تمزّق
صمت الليل، ومن خلال السحب المبعثرة كان نور خافت مرسل من القمر ينير بعض
جنبات الطريق، وعند ما تأكّدت تماماً من خلوّ الطريق مشت عبر الزقاق الضيّق
المظلم والمؤدّي إلى بيت سعيد، تطلب لقاءه، كي تثنيه عن الرحيل، ولم تعلم
ما يخبّئه القدر لها. لقد رحل قبل وصولها بلحظات، تراءى لها غبار السيّارة
التي أقلّته، فأطلقت لساقيها العِنان، علّها تلحق به، ولكنّ القدر أبى إلاّ
أن يحول بينها وبين ما تريد، فإذا بسيّارة مسرعة مجنونة في سيرها، تأتي بلا
إنذار سابق، لتسدل الستار المخيف على قصّة حبّ لم تكتمل، وإذا بالجسم البضّ
ملقى تحت عجلات ضخمة جائعة، وإذا بصرخة مروّعة تطلق في جوّ السّكون الشامل
والظلام المخيّم، فتوقّفت العربة، وإذا بجمع غفير من الناس يحتشد، ليشهد
قصّة الحبّ كاملةً، وإذا الأب أمام الزهرة المتفتّحة فاغراً فاهه مروّع
الوجه غائر الوجنتين زائغ البصر محطّم القلب.. لقد أدرك السرّ المطويّ وراء
كآبة ابنته التي كانت تلفّها فيما مضى، وإذا به الآن أمام جسم ملقى، يصارع
الموت، وينشد اللحاق بمَن ذهب.
وبعجز بالغ رفعت رأسها، لتلقي
نظرة وداع أخيرة على الطريق الذي سلكه الحبيب الراحل، تشيّعه بنظراتها
الواهنة الحائرة، ودموع غزيرة تنسكب على وجنتيها، تبكي مَن رحل دون أن يلقي
عليها نظرة وداع، وشَحَب وجهها، وابتسمت في آن واحد، لم يعد ثمّة حياة، كان
ثمّة شيء آخر لم يكتب له النجاح، وتلاشت ابتسامتها تدريجيّاً، وتعاقبت
أنفاسها، وتعاظمت نظراتها.. كانت تستشعر أنّ لها جناحين، وما عليها إلاّ
الطيران واللحاق بمن رحل [.
1970
(3) مصادر القصّة
الإماراتيّة القصيرة ومراجعها:
1.
إضاءة العتمة لفاطمة السويديّ، ط 1، اتّحاد أدباء وكتّاب الإمارات 1995.
2.
أطياف من الأدب الإماراتيّ لهيثم يحيى الخواجة، ط 1، دائرة الثقافة
والإعلام في الشارقة 2003.
3.
ثقافة المكان للدكتور رمضان بسطاويسيّ، ط 1، دائرة الثقافة والإعلام في
الشارقة 1998.
4.
الرواية والقصّة في الإمارات: نشأة وتطوّر للدكتور ثابت ملكاوي، ط 1،
المجمّع الثقافيّ في أبو ظبي ( بلا تاريخ ).
5.
الصوت الآخر: الجوهر الحواريّ للخطاب الأدبيّ لفاضل ثامر، ط 1، دار الشؤون
الثقافيّة العامّة في بغداد 1992.
6.
الظواهر الاجتماعيّة في القصّة الإماراتيّة لبدر عبد الملك، ط 1، دار
الكنوز الأدبيّة في بيروت 1995.
7.
القصّة في دول الخليج العربيّ: دراسة في النشوء والتطوّر للدكتور أحمد
عبّاس المحمّد، ط 1، دار طلاس في دمشق 1998.
8.
القصّة القصيرة في الإمارات: الأصوات الجديدة، وقائع الندوة التي انعقدت في
الشارقة بين 11 و12/ 5 / 2004، أعدّها عبد الفتّاح صبري، ونشرتها دائرة
الثقافة والإعلام في الشارقة 2006.
9.
القصّة القصيرة والصوت النسائيّ في الإمارات لبدر عبد الملك، اتّحاد أدباء
وكتّاب الإمارات 1995.
10.
كشّاف الأدب الإماراتيّ: 1954 - 1999 لأحمد محمّد عبيد، ط 1، الشارقة 2000.
11.
المرأة وقيثارة الكلمة لأنور الخطيب، ط 1، مطبعة الفوّال في دمشق 1991.
12.
مرايا البحر لعزّت عمر، ط 1، دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة 2001.
13.
مجلّة ( البيان: 277 إبريل/ نيسان 1989 ): القصّة القصيرة في دولة الإمارات
العربيّة المتّحدة لعلي محمّد راشد.
14.
مجلّة ( الرافد: 29 يناير 2000 ): ملفّ ( القصّة القصيرة في الإمارات:
دراسات ورؤى وشهادات ونصوص ).
15.
مجلّة ( الكاتب العربيّ: 47، إبريل 2000 ): ملفّ القصّة القصيرة في
الإمارات من إعداد أحمد حسين حميدان.
16.
مدخل إلى القصّة القصيرة الإماراتيّة للدكتور الرشيد بو شعير، ط 1، اتّحاد
أدباء وكتّاب الإمارات 1998.
17.
مشكلات مجتمع الإمارات في قصص محمّد المرّ لأحمد محمّد عبيد، ط 1، دار
الخليج في الشارقة 1998.
18.
الملتقى الأوّل للكتابات القصصيّة والروائيّة في الإمارات ( 27 فبراير -
1مارس 1985 )، ط 1، اتّحاد كتّاب وأدباء الإمارات بالتعاون مع دائرة
الثقافة والإعلام في الشارقة 1989.
19.
الملتقى الثاني للكتابات القصصيّة والروائيّة في الإمارات ( 15 – 18/ 10/
1989، ط 1، اتّحاد أدباء وكتّاب الإمارات 1989.
20.
الملتقى الثالث للكتابات القصصيّة والروائيّة في الإمارات ( 2 – 4 فبراير
1993 )، ط 1، اتّحاد أدباء وكتّاب الإمارات 1993.
21.
المكان في القصّة القصيرة في الإمارات لبدر عبد الملك، المجمّع الثقافيّ في
أبو ظبي 1997.
22.
ندوة الأدب في الخليج العربيّ ( 10 – 14 يناير 1988 )، ط 1، اتّحاد أدباء
وكتّاب الإمارات، الجزء الأوّل 1990، والجزء الثاني 1991.
23.
المرأة وقيثارة الكلمة: مقالات في أدب المرأة في الإمارات لأنور الخطيب، ط
1، مطبعة الفوار 1991.
24.
معجم القاصّات والروائيّات العربيّات للدكتور سمر روحي الفيصل، ط 1، دار
جرّوس برس في طرابلس لبنان 1996.
25.
معجم القاصين العرب للدكتور سمر روحي الفيصل، ط 1، دائرة الثقافة والإعلام
في الشارقة 2005.
Short
Story In the U. A. E: Daoud Tahboub. Ministry Of Information & Culture
in U. A. E 2000.
الفصل السادس
فن كتابة
القصّة القصيرة
- المقدّمة:
نادرة هي الكتب التي تعالج
عمليّة كتابة القصّة القصيرة بعيداً عن ( التنظير ) وقريباً جدّاً من (
التطبيق العمليّ ) لا ( التطبيق النقديّ )، وإذا ما سألتَ مكتبتنا العربيّة
عنها لم تجد كتاباً تعليميّ النزعة إلاّ كتاب ( فنّ كتابة القصّة ) لحسين
القبّانيّ، ثمّ تجد كتاباً آخر مترجماً، هو ( كتابة القصّة القصيرة ) لولسن
ثورنلي Wilson Thornley
مدرّس القصّة القصيرة في إحدى المدارس الثانويّة الأمريكيّة، والكتابان
مدرسيّان، لا أثر فيهما للنظريّات، ولا صلة لهما إلاّ بالجانب التعليميّ،
وهو ما نفتقده حقّاً في تدريس القصّة القصيرة وتعليمها.
- تجربتي في كتابة قصّة
قصيرة:
مسترشداً بهذين الكتابين
وبتجربتي الشخصيّة في كتابة قصّة قصيرة ، هي ( حمارة المختار البيضاء ) ،
سأحاول هنا أن أدخل ( مخبر ) الكتابة، لأجيب عن سؤال عريض، يؤرّق أدباءنا
الشباب وطلاّبنا ومدرّسينا معاً، وهو: كيف نكتب قصّةً قصيرةً ؟ ثمّ سأطرح
السؤال نفسه على أربعة من أساتذة القصّة القصيرة في عالمنا العربيّ، لهم
باع طويل وخبرة كبيرة في كتابة هذا الفنّ الجميل، وهم: الدكتور عبد السلام
العجيليّ، والأستاذ وليد إخلاصي، والأستاذ محمّد نور الدين، والأستاذ خطيب
بدلة، فلعلّ مثل هذه القامات تلقي ضوءاً ساطعاً على فنّ كتابة القصّة
القصيرة.
لا تصنع الموهبة وحدها
قاصّاً، إن لم يمتلك أصول كتابة القصّة القصيرة وقواعدها التي تصقل الموهبة
كما يُصقل الماس، وتثقّفها كما يُثقّف الرمح، وهي على كلّ حال ليست قواعدَ
صارمةً كقوانين الفيزياء، لأنّ القصّة من جهةٍ ذات طبيعة لَدِنة مرنة، لا
ينظمها قانون، ولا يؤلّفها عِقد، ولا تحدّها أسلاك.. ولأنّها من جهةٍ أخرى
مجرّد حدث، يبقى مثار أسئلة لا قوانين، يجيب عنها بصر حادّ وبصيرة نافذة.
ما زلت أذكر أنّ أجمل ما كتبت
من قصص قصيرة كان يختلج في نفسي سنواتٍ أسئلةً هوجاء، يثيرها خبر، ويشعل
أُوارها حدث، لا أستطيع أوّل وهلة أن أصفه، وأجعله قصّةً قصيرةً، لأنّه لم
ينضج بعد. وكلّما خلوت إلى نفسي لحظةً تراءى هذا الحدث أمام عينيّ، واضّطرب
كزورق يمخر عُباب الماء، ثمّ جعل بعد زمن يتشعّب علاقاتٍ، ويتغصّن كشجرة
خضراء: من أحدث هذا ؟ لماذا حدث ؟ كيف حدث ؟ وسواء أكان السؤال استنكاريّاً
أم تعجّبيّاً أحاول على المدى أن أجد له جواباً شافياً، قد يكون في صيغة
احتجاج ورفض، وقد يكون في صيغة فضح وكشف، فلا أكون هِداناً ولا متخاذلاً،
لا أرسل نفسي على سجيّتها، ولا أترك لخيالي العِنان، فيذهب شأواً بعيداً،
لأنّ ثمّة ( حدوداً ) ينبغي أن أراعيها، أو أقف عندها، وبعد أن أقبض على
مختلف الأجوبة يبدأ مخاض القصّة في لحظة ما قد تطول وقد تقصر، فلا أتوانى
عندئذ عن كتابتها دفعةً واحدةً في أغلب الأحيان، والقصّة كالقصيدة تجربة
انفعاليّة حادّة، تتحكّم المشاعر في تدفّقها، ثمّ أعود إليها مرّاتٍ بين
وقت وآخر منقّحاً ومعدّلاً تعديلاتٍ طفيفةً، لا تمسّ البتّة من بنية
القصّة سوى لغتها، كأن أبدّل كلمةً بأخرى، أو أنّ أقدّم كلمةً في تركيب
وأؤخّر أخرى، أو أصطنع تشبيهاً هنا واستعارةً هناك.. أي: أعدّل في ( شعريّة
Poetics
القصّ ) وحدها لا في ( قصصيّته )، لأنّ البناء الفنّيّ للقصّة كان قد اكتمل
منذ ما يمكن أن أسمّيه بـ ( الكتابة الأولى ) لها أو ( النسخة الأولى )
منها.
إنّ تلك الأسئلة المؤرّقة هي
أسئلة القصّة القصيرة التي تترى في المخيّلة سؤالاً في إثر سؤال، لا يجد
القاصّ خلاصاً منها إلاّ بالكتابة والبحث عن أجوبة شافية، ولعلّ رواية
القصّة على هذا النحو أو ذاك تحرّرنا من التوتر النفسيّ الذي كان يعتري
نفوسنا يوماً. وهنا أضع بين يدي القارئ على سبيل التجربة حدثاً حقيقيّاً،
اعترضني يوماً، وأنا ما زلت معلّماً في إحدى قرى مدينة ( حمص ) السوريّة،
وهو أنّ مختار هذه القرية قد أقدم على ذبح حمارته البيضاء، لأنّها أنجبت
جحشاً أسود من غير لونها ولون حماره الأشهب ! . هالني الحدث، وجعلني أضطرب
أشهراً، وراحت أسئلته المرّة تجيش في نفسي سنواتٍ وسنواتٍ، لا أجرؤ أن أجيب
عنها، وأحيلها قصّةً حقيقيّةً، لأنّني أعتقد أنّ مثل هذا الحدث النادر
والمريب قد لا تستوعبه القصّة القصيرة، بل قد لا يصدّقه الناس: لِمَ أقدم
المختار على فعلته الشنيعة هذه ؟ أهو الجهل أم الشرف ؟ كيف يحدث هذا ؟ متى
وأين ولماذا ؟ أسئلة كثيرة، ظلّت تؤرّقني سنواتٍ، منها ما وجد جواباً،
ومنها ما لم يجد، وطوال هذه السنوات العديدة ظلّت ( لماذا ) تتردّد بلا
طائل ولا جواب، حتّى اختمرت القصّة، ونضجت على نار هادئة، ثمّ تدفّقت من
مخيلتي في لحظة من اللحظات كالنهر الجارف، فرحت أسردها – وأنا لا أكاد
ألتقط أنفاسي – خلال ساعتين اثنتين سرداً مباشراً، لأدين ذلك المختار
الجاهل، وأكشف عن بيئة اجتماعيّة متخلّفة، تسودها الأميّة والقحط والجهل ..
وتشطرها العصبيّة الدينيّة حيين كبيرين، لا يفصل بينهما إلاّ شارع عريض !
حين أردت أن أبدأ قصّة (
حمارة المختار البيضاء ) وقعت في حيرة كبيرة: كيف أبدؤها، والبداية مفتاح
القصّة وبوّابتها ؟ كيف أهيّئ القارئ نفسيّاً لصدمةٍ، قد لا يتقبّلها، وقد
لا يصدّقها عقل ؟! أ أبدأ بالحدث الفاجع أم أتركه سرّاً حتّى نهاية القصّة
؟
" على زلزال استيقظت ( خربة
النمل ) !
هذا الزلزال أجهض الحوامل
فئراناً، وأرجف البيوت ولحى الرجال. كان مختار ( خربة النمل ) قد ضرب الأرض
بعصاه الغليظة، فأيقظ الموتى في القبور، ودوّى صوته في أرجاء القرية، ففزعت
العصافير، وأجفلت الغيوم ".
هكذا كان لا بدّ لي في
البداية أن أجعل القرية تستيقظ باكراً على صوت مختارها المستطير غضباً
وسخطاً، وأجمع رجالها الأشدّاء في ساحتها العامّة: هذا يهدّئ من روع
المختار، وذاك يواسيه ويخفّف عنه مصابه الجلل، ثمّ جعلت الجمع يتفرّق للبحث
عنـ ( ها ) في مختلف أرجاء القرية، وذلك من غير أن أصرّح للقارئ في هذه
الصفحة أو تلك بصاحبة الضمير المفقودة، لأضمن لقصّتي عنصر ( المفارقة
Irony
) ولحظة ( تنوير )
Lightening مؤثّرة، وحين
تيقنّت أنّ الأحداث قد أخذت تتشابك، وتتصاعد إلى أعلى، فاجأت القارئ
بالعثور على حمارة المختار المفقودة التي كان يظنّ أنّها ابنته أو زوجته،
وهي في أوج حِملها، وهنا مشكلة القصّة وعقدتها الصعبة التي لن يتقبّلها
المختار بسهولة، فيقسم على أن يغسل شرفه المهدور، فيتدخّل رجال القرية
مستمهلين ومستعطفين.. وحين يستجيب المختار لرجائهم يأخذ السرد بالانحدار
إلى تلك النهاية الفاجعة التي لم أكتف بها فحسب، وإنّما جعلت القرية كلّها
تغرق ببحر من الدم، هو إشارة إلى جهلها وتخلّفها المريع.
" ضجّت ( خربة النمل )،
وشَبّت النار في نفوس أهلها وحقولهم، وشحذت النساء سكاكين المطابخ.. فجأةً
دوّت في سماء ( خربة النمل ) صرخة، أجفلت الطيور، فهاجرت إلى بلاد بعيدة
بعيدة، وعلا الأرض الدم، فملأ الشوارع والبيوت والبالوعات، حتّى وصل ذقون
الرجال ولحاهم، وغطّى أثداء النساء ".
اخترتُ هذه الشخصيّات من تلك
البيئة المتخلّفة، وجعلتهم يتحدّثون بلغتهم ولسانهم، وكشفت عن أبعاد
شخصيّاتهم النفسيّة والخارجيّة والاجتماعيّة، وأخذت في الحسبان شخصيّة
البطل، وهو أهبل القرية ومغفّلها الذي ينتابه الصرع من وقت إلى آخر، وهو في
الواقع العاقل الوحيد الذي يستطيع حقّاً أن يعثر على الحمارة، لينجو في
النهاية من طوفان الدم.
" وحده كان عيداوي في أعلى
التلّ، فنجا من الطوفان، و( خربة النمل ) تغرق رويداً رويداُ، حتّى تتلاشى
البيوت والرؤوس، فلا يبدو من معالمها إلاّ رأس سكّين ".
حرصت على تقديم الحدث الفاجع
نفسه والشخصيّات الحقيقيّة نفسها، ولا سيّما شخصيّة عيداوي الرئيسة، كما
سعيت إلى زمان ومكان محدّدين لهذه القصّة الواقعيّة، فكان الزمان هو زماننا
زمانُ العلم والجهل معاً زمانُ التناقضات المريعة، وكان المكان هو تلك
القرية شديدة القرب من مدينتي ( حمص ) وشديدة الجهل والتخلّف في الوقت
نفسه. ولا شكّ في أنّ القاصّ أيّ قاصّ يسبغ على أحداث قصّته وأفكارها شيئاً
من تجاربه الشخصيّة التي نعتقد أحياناً أنّها في بعض مواقفها تجارب مهمّة
ومثيرة ومفيدة.. وربّما يتقمّص شخصيّة البطل نفسه أو إحدى الشخصيّات
الرئيسة، ويعيش مشاهد القصّة وأحداثها، وكأنّها جزء من تجربته الشخصيّة،
وهذا النوع من ( التّآلف
Harmony ) الفنّيّ بين
الشخصيّة والمؤلّف ممكن وضروريّ.. وقد جهدت عند كتابة ( حمارة المختار
البيضاء ) في الاستفادة إلى أقصى حدّ ممّا أعرفه عن قرية ( خربة النمل )،
وأنا من قبلُ معلم في إحدى مدارسها الابتدائيّة، يستقبلني عيداوي نفسه كلّ
صباح بابتسامته البريئة الطيّبة، ويمدّ يده إليّ، يتلقّف منّي نصف الليرة،
ليشتري بها مرآةً، ينظر إلى وجهه المتناثر عليها، ثمّ يقذفها من فوره على
الأرض !. وفي الواقع لم أستطع وقتئذٍ أن أردّ هذا التصرّف الغريب والمدهش
معاً إلاّ إلى لُوثة عيداوي وغفلته، ولكنّني عندما أردت أن أجعله شخصيّةً
حكائيّةً رئيسةً بعد سنوات أحسّست أنّ وراء هذا التصرّف ما وراءه من العقل
على نحو ما، فرحت أبحث له عن مسوّغ، فوجدته في براءته التي يتلمّسها في
وجهه بعيداً عن شرور القرية وآثامها.. وهو الذي أحبّ ( نوف ) من قبل أن
يتزوّجها المختار، فأخلص لها الحبّ كما أخلصت له. ومثل هذه اللقطات الصغيرة
والنادرة من حياة الشخصيّة الرئيسة ذات دلالة كبيرة، تثري السياق القصصيّ،
وتجعله أكثر ديناميكيّةً وحياةً وغنىً.. وقد اختلقت تجربة الحبّ غير
الحقيقيّة، لأجعلها معادلاً موضوعيّاً لشرف المختار الذي أهدرته الحمارة
البيضاء، فراح يدافع عنه، وأهدرته زوجته، فلم يعلم به في غمرة انشغاله
بالحدث الأهمّ، وهوهروب حمارته البيضاء من الزريبة خارج القرية. وهذا
الاختلاق Creativity
الفنّيّ هو جوهر عمليّة القصّ، لولاه ولولا مخيّلة الكاتب الخلاّقة لكانت
القصّة القصيرة صورةً فوتوغرافيّةً أو وثيقةً اجتماعيّةً، لا صلةَ لها
بالقصّ من قريب ولا من بعيد.
هي قصّة واقعيّة لا رمزيّة
ولا سرياليّة، كما قيل عنها، وإنّ كانت بعض جوانبها مختلقةً، ولكنّه اختلاق
فنّيّ شديد الصّلة بالواقع نفسه غير بعيد عنه، أحسّست أنّ بناء القصّة
وحدثها الفريد والغريب معاً يحتاجان إليه، فمن يصدّق اليوم أنّ امرأً يُقدم
على ما أقدم عليه المختار ؟ وكيف نفهم ما اعتاد عيداوي أن يفعله، وهو ينظر
إلى وجهه في المرآة، ثمّ يرميها من فوره على الأرض ؟ إنّ فنّ كتابة القصّة
القصيرة هو الإجابة الحقيقيّة عن تلك الأسئلة الكبيرة التي تثيرها الحياة،
ويذروها الواقع، فلا نملك إلاّ أن نجيب عنها تارةً، أو نغضّ النظر عنها
تارةً أخرى، ولكنّها ستظلّ تتردّد في الآفاق حتّى يلتقطها الفنّان، فيحيلها
لوحةً، أو يجعلها قصيدةً أو روايةً أو قصّةً قصيرةً.
- شهادات وتجارب أخرى:
كيف تكتب قصّةً قصيرةً ؟
( 1 )
" تختلف كتابتي
للقصّة القصيرة باختلاف الدوافع والمحرّضات، وباختلاف الأفكار والأحاسيس،
وباختلاف الظروف التي أكتبها فيها، وأحياناً باختلاف مَن أكتبها لهم من
قرّاء أو مستمعين، هذا إذا لم أكن أكتبها لذاتي وحدها، فليس هناك طريقة
واحدة ولا أسلوب واحد لكتابتي لها.
الدوافع عديدة،
قد تكون واقعةً سمعت حكايتها، أو فكرةً مرّت بخاطري أثناء قراءاتي العلميّة
أو ممارساتي المختلفة في حياتي أو ممّا أتعرّض له شخصيّاً في جسمي أو في
محيطي. وقد يكون الدافع إحساساً مجرّداً عن الوقائع، تنشحن مشاعري به،
فأسعى إلى إفراغه في قصّة متخيّلة، أبتكر شخصيّاتها والأحداث التي تخوضها
هذه الشخصيّات.
أضرب لما أقوله
أمثلةً من قصصي التي كتبتها منذ بداياتي في هذا الفنّ: أوّل قصّة نشرت لي
كانت بعنوان ( نومان )، وهي قصّة قاطع طريق، اسمه ( نومان )، سمعت حكايته
من أحد شهودها، فأعجبتني، وعمدت إلى تسجيل هذه الحكاية كما جرت دون أن أدخل
فيها ما لم يحدث إلاّ أنّ طريقة الكتابة كانت قصصيّةً في وصف الأجواء
والشخصيّات وفي إيراد الحوار. إنّها قصّة كان المحرّض على كتابتها التأثّر
بسماع واقعة معيّنة، وهي في هذا تختلف عن قصّة ( قطرات دم ) أولى قصص
مجموعتي ( بنت الساحرة )، وهذه القصّة كان مبعثها فكرةً، كانت تتردّد في
وعيي أثناء تلقّيّ دروسي الطبيّة في الجامعة، تلك الدروس كانت تقول: إنّ
الدم معروف التركيب بدقّة، فهو سائل، قوامه ماء، تُذاب فيه معادن وأشباه
معادن ومركّبات عضويّة معروفة الأنواع والصفات والمقادير والتأثيرات..
وكانت كتب الطبّ لا تعدّ من هذه التأثيرات إلاّ الجسديّة البحتة. كنت
أتساءل في نفسي: ولكن أليس للدم تأثيرات غير جسديّة ؟ تأثيرات نفسيّة
وروحيّة مثلاً ؟ نحن نقول عن فلان: إنّه ثقيل الدم، وعن فلان: إنّه ذو دم
نبيل.. هذه التساؤلات التي لم أكن أملك إمكانات للإجابة عنها علميّاً دعتني
إلى محاولة الإجابة عنها بطريقة قصصيّة، فكتبت عند ذاك قصّة ( قطرات دم )
مستخدماً واقعةً، كنت قد شهدتها في مستشفى الجامعة حين أُتي إلينا بسيّدة
جريحة، نزفت دمها، واحتاجت إلى نقل دم في زمن لم يكن هناك بنوك للدم.
فالقصّة تدور على تلك الواقعة إلاّ أن مبعث كتابتها ليس الواقعة نفسها،
وإنّما هي الفكرة التي تحوّلت إلى قصّة، ولعب فيها الخيال الدور الأكبر
والأهمّ.
قلت: إنّ الدافع
لي إلى كتابة القصّة القصيرة قد يكون أحياناً إحساساً مجرّداً من الوقائع.
ثمّة قصّة أخرى من مجموعة ( بنت الساحرة ) تصلح مثالاً لما أقوله، وهي قصّة
( حمّى ) التي لم تكن وراءها أيّة واقعة حقيقيّة لما ترويه شخصيّاتها
وأحداثها.. وما دفعني إلى كتابتها هو أنّي أصبت – وأنا في السنة الأخيرة من
دراستي الطبّ – بحمّى عارضة، ألزمتني الفراش ثلاثة أيّام أو أربعة، ارتفعت
في تلك الأيّام حرارتي، وتضعضعت قواي، وساقتني الحمّى إلى الهذر والهذيان
بما كانت تخلّفه من هلوسات وأحلام يقظة أثناء ذلك، وحينما أبللت من الحمّى
تذكّرت أحاسيسي الغريبة إبّان مرضي، فكتبت تلك القصّة التي كانت أحداثها
وأشخاصها خيالاً مطلقاً، ولكنّ خالق هذا الخيال المطلق كان تلك الأحاسيس.
ومثل هذا أستطيع أن أقوله عن قصّتي المشهورة ( قناديل إشبيليّة ) التي
كتبتها بعد شهور من عودتي من زيارتي إلى هذه المدينة الأندلسيّة، كنت طوال
هذه الشهور أحسّ بالمشاعر المتضاربة التي خلّفتها في نفسي تلك الزيارة من
انبهار بالجمال وحنين إلى الماضي وحسرة على ما ضاع منّا في الماضي وألم
نعيشه في الحاضر. كنت أحسّ بهذه المشاعر، تتأجّج في كياني، وتدعوني إلى
التعبير عنها بعمل أدبيّ كان هو تلك القصّة. الخيال هو المسيطر في أحداثها
إلاّ أنّ الأفكار هي أفكاري والمعاني هي معانيّ التي تنتمي إلى معتقداتي
وتأثّراتي وتمنّيّاتي كإنسان عربيّ واعٍ لتاريخ أمّته، مدركٍ لحالها في
الحاضر، وباحثٍ عمّا يُعلي شأنها في المستقبل.
ولعلّ القارىء
سيستغرب قولي: إنّي أكتب أحياناً قصّةً قصيرةً, لا تنتسب دوافعها إلى واحدة
من هذه العوامل التي ذكرتها آنفاً، بل إنّ الدافع إليها خارج عن ذاتي
تماماً. مرّةً ثالثةً أعود إلى مجموعة ( بنت الساحرة )، لأعطي مثالاً على
ما أقول، وهو قصّة ( ميراث ) التي كتبتها في نهاية عام 1944 - وكنت لا أزال
طالب طبّ - استجابةً لاقتراح من الدكتور شكيب الجابريّ الذي كان يصدر
مجلّته ( أصداء ) في ذلك الزمن، أراني الدكتور الجابريّ رسماً بالحبر
الصينيّ لرجلٍ، يلبس أسمالاً باليةً، ويحمل على ظهره أو في يده سَطْلاً من
التَّنَك، واليوم لا أذكر كيف كانت الصورة على التحقيق، وقال لي: ألا توحي
إليك هذه الصورة بشيء ؟ قصّة مثلاً ؟ اكتب للمجلّة قصّةً عنها، فننشرها في
العدد القادم !. كان ذلك شبه رهان، لم أشأ التخلّف عن خوضه، فأخذت الرسم
معي إلى ( البنسيون ) الذي كنت أنزل فيه، وكتبت قصّة ( ميراث ). لم تكن
ثمّة فكرة أو ثمّة إحساس سابق لرؤيتي رسم ذلك البائس، فالرسم وحده هو الذي
أثار خيالي، فجعلني أبتدع حكايةً، وأصوّر شخصيّةً، وأعالج فكرةً، وأصنع من
كلّ ذلك قصّةً قصيرةً.. علاوةً على أنّ الدافع لكتابة هذه القصّة لم يكن
ذاتيّاً، بل كان تلبيةً لاقتراح من إنسان آخر.
في كلّ الأمثلة
التي أوردتها يتبيّن لنا أنّ الخيال هو العنصر المهمّ في تحويل الفكرة أو
الإحساس أو في تلبية طلب الآخرين، تحويل هذا أو ذاك أو تلك إلى قصّة قصيرة
مكتوبة. حتّى القصص التي يكون الواقع فيها مسيطراً على الحدث لا بدّ للخيال
أن يتدخّل في كتابتها، لتتحوّل من مجرّد رواية خبر إلى عمل فنّيّ، ففي أغلب
قصصي الفلسطينيّة مثلاً كنت أحرص دوماً على الابتعاد عن الزيف وعن التزيّد
فيما أرويه، لئلاّ أختلق بطولاتٍ وهميّةً أو عنتريّاتٍ كاذبةً إلاّ أنّ
الخيال لا بدّ من أن يتدخّل في كتابة هذه القصص عند إيراد الحوار أو في وصف
الأجواء التي تدور فيها أحداثها الواقعيّة أو في غير هذين من جوانب العمل
الفنّيّ التي لا تمسّ حقائق تلك الأحداث.
د. عبد السلام
العجيليّ
من رسالةٍ خاصّةٍ للمؤلّف مؤرّخةٍ في 8/ 3/ 2000
( 2 )
" إنّ أيّ عمل – ولا سيّما
القصّة القصيرة – يهبط عليّ دون أن أبحث عنه بأيّ حال من الأحوال. هل كلّ
ما يهبط عليّ بصورة عفويّة يصبح قصّة ؟ يخيّل إليّ أنّني أحياناً أقع في
فخّ المباغتة، فأظنّني وقعت على فكرة تصلح لقصّة ما، وما أن أباشر في
كتابتها حتّى تتكشّف لي الحقيقة بعد أن أعجز عن المتابعة، فالفكرة قد تكون
عاجزةً عن خلق ما يعادلها من اللغة أو أنّها مجرّد لمحة، لا تمتلك القدرة
على النموّ والتطوّر، فأتوقّف عن الكتابة لاقتناعي بأنّ ما أكتبه لن ينتهي
إلى الشيء الفنّيّ الذي أحلم به.
كنت في بداية عمري الأدبيّ
أكتفي بإجراء ترميمات وإصلاحات على القصّة المكتوبة، والآن لا تقلّ أو تنقص
إعادة كتابتي للقصّة الواحدة عن ثلاث مرّات، وكثيراً ما تكون الصياغة
مختلفةً في المرّة الواحدة عمّا عداها، وكأنّني أكتب القصّة القصيرة من
جديد، وتلك من الحسنات التي علّمني إيّاها الشّكّ.
في كثير من الأحايين تتوالى
عليّ أفكار قصص قصيرة متعدّدة، وذلك ضمن سياق مجموعة متماثلة من القصص، أو
تأتي مجموعة القصص عبر شعور متوتّر متماثل وواحد، أو تكون لديّ القدرة
للاستجابة لظروف تاريخيّة وسياسيّة قاسية وضاغطة.. أحياناً تسيطر عليّ فكرة
مجرّدة كالتأفّف، وتظلّ مسيطرة على مشاعري فترةً طويلةً، فلا أجد حلاً
للخلاص منها إلاّ في البحث عن شخوص مناسبة وأحداث متوافقة للتعبير عن تلك
الفكرة المسيطرة. وهذا ما حدث لي مثلاً، وأنا أكتب قصّة ( الأستاذة فاطمة
)، فقد عثرت بالمصادفة على بطلة القصّة التي كانت نموذجاً لتصوير حالة
التأفّف الإنسانيّ بشكل لا يجاريها أحد فيه ".
وليد إخلاصي
مجلّة ( الموقف
الأدبيّ: 197 و198 و199، السنة 17، 1987 ).
( 3 )
" إنّ كتابة القصّة القصيرة
هَمّ حقيقيّ، يحتاج إلى مجهود مضنٍ منذ أن تدقّ الفكرة نوافذ العقل بشكل
رقيق حيناً، أو تضرب أبواب الفؤاد بشكل عاصف حيناً آخر، وفي كلتا الحالتين
يستجيب الكاتب لهذه الأحاسيس التي تبدو كآلام المخاض قبيل لحظة الولادة،
وحتّى يكون المولود الجديد من القصص القصيرة كاملاً أو شبه كامل لا بدّ أن
يمتلك مكوّنات تخليقه أو تصنيعه:
( أ ) من هذه المكوّنات ما
يكون سابقاً على مجيء الفكرة من مثل الموهبة والثقافة وقراءة قصص الأعلام،
وهذا كلّه سيكون بمثابة الوعاء لاستقبال أيّ فكرة قصّة جديدة، ويكون
معياراً ذاتيّاً لصلاح هذه الفكرة أو تلك ومدى ملاءمتها لشروط القصّة
القصيرة وبنائها الفنّيّ، فإذا ما تلاءمت الفكرة والثوب القصصيّ، كسبت
القصّة أوّل أسباب نجاحها، وهو التناسب والتناسق بين الشكل والأسلوب من جهة
وبين أجزاء القصّة نفسها من جه أخرى، وذلك بحيث يرى القارئ في النهاية
بناءً فنّيّاً جميلاً ومتماسكاً ومتوازناً، يسرّ الناظرين. فالفكرة هي التي
تحدّد الشكل الذي ترتديه القصّة دون غيره من الأشكال ودون أن يكون فضفاضاً
ولا حاسراً، وهنا لا أقصد أن يقيّد الكاتب فكره بأيّ شكل تقليديّ، سبقه
إليه غيره من الكتّاب، ولو كانوا من العباقرة، لأنّ أجمل ما في الإبداع هو
الحريّة المطلقة في الفكر والشكل والأسلوب، وإلاّ لما كان هناك عباقرة جدد،
ولأصيب عالم الأدب بما يمكن أن أسمّيه بـ ( الأدب الاستنساخيّ ).
( ب ) ومنها ما يكون لاحقاً
بالفكرة، وهو الألوان المناسبة لطلاء واجهة ذلك البناء وتفاصيله الداخليّة،
وهنا تلعب اللغة دورها الأهمّ، اللغة بما تحمله من دلالات وعاطفة وتأثير
وجدانيّ صادق، يصل إلى قلب المتلقّي ووجدانه ومشاعره، فإذا ما كانت الفكرة
خلاّبةً امتلكت عقله، وإذا ما وجدت الفكرة بناءها الفنّيّ المتماسك
المتناسق شعر بالارتياح، وامتلكت مشاعره أيضاً.
من تجربتي القصصيّة أضرب
مثلاً على ما أقول: بعد رحلة بريّة صعبة من الإمارات إلى مصر، عانيت فيها
وأسرتي ما عانينا من مصاعب الحدود ومشاقّها، راودتني فكرة كتابة قصّة
قصيرة، تصوّر معاناة العربيّ خلال اجتيازه الحدود العربيّة، ولكنّ مساحة
القصّة المحدودة لا تسمح بمثل هذا الموضوع الذي يتناسب والمقالة السياسيّة،
أو يتلاءم وفنّ الرواية. كيف يمكنني أن أعالج أمراً، استغرق عدّة أيّام في
لقطة سريعة، والقصّة القصيرة ومضة خاطفة من حياتنا اليوميّة ؟!
في ظلّ هذا السؤال لم يكن
أمامي إلاّ أن ألجأ إلى حيلة فنّيّة كالفانتازيا أو الخيال اللامحدود الذي
يتحرّر من حدود المنطق، ويخرج على وحدة الزمان والمكان.. لماذا لا أستحضر
روح ابن بطّوطة الرحالة العربيّ الشهير، ليكون خير شاهد على مرارة الحدود
التي نعانيها اليوم ؟ وحين ارتحت إلى هذه الحيلة الفنّيّة فرض الشكل نفسه
عليّ كثوب وحيد لتلك الفكرة، وهو شكل ( المقامة ) التي كانت تشكّل البدايات
الأولى للقصّة القصيرة في تراثنا العربيّ، وعلى هذا الشكل ترتّب اختيار ما
يناسبه من المحسّنات البديعيّة، ولا سيّما السجع والازدواج والجناس، وذلك
بالقدر الذي لا يفسد العمل القصصيّ نفسه، وترتّب عليه أيضاً اعتماد أسلوب
ابن بطّوطة نفسه في التصوير والتعبير.. وهكذا رحت أستذكر من جديد فنّ
المقامة، وأقرأ ما كتبه ابن بطّوطة من رحلات وأسفار حتّى أتقمّص شخصيّته
بقدر ما أستطيع محافظاً في الوقت ذاته على عناصر البناء الفنّيّ للقصّة
القصيرة ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
بعد أن أعددت للفكرة ما أعددت
كانت قد اختمرت في مخيّلتي، فانتظرت أن تتدفق في عروقي كالدم يوماً بعد آخر
وساعةً بعد أخرى، وحين جلست إلى أوراقي الخاصّة رميت كلّ شيء ممّا جمعت
وقرأت وراء ظهري، وتركت لقلمي الحريّة أن يغترف من معين اللاشعور ما كنت قد
عانيته في تلك الرحلة البرّيّة الصّعبة، فكانت قصّتي القصيرة ( رحلة ابن
بطّوطة الأخيرة من مصر إلى الفجيرة ) من مجموعتي القصصيّة الأولى ( البعض
يفعل هذا )، وكانت موضع إعجاب كلّ من قرأها، وصارت بالنسبة إلي ككلّ قصّة
من قصصي همّاً لذيذاً حقّاً.
محمّد نور
الدين
من
رسالةٍ خاصّةٍ بالمؤلّف مؤرّخةٍ في 23/ 3/ 2000
( 4 )
كيف أكتب القصة القصيرة ؟ لو
أردت أن أجيب عن هذا السؤال في الماضي لقلت ممازحاً: " أكتب القصّة القصيرة
بالقلم، وأمّا اليوم فأنا أكتبها بالكومبيوتر، ومع ذلك أكتب في أعلاها: "
بقلم خطيب بدلة ". هذا يعني أنّ أدواتنا تتطوّر، وأنّنا نتأبّى على
التطوّر، ولو كنّا نتطوّر حقّاً لكتبت: " بكومبيوتر خطيب بدلة " لا بقلمه.
كيف أكتب القصّة القصيرة ؟
إنّني أكتب، لكي أشعر بمعنى حياتي ووجودي الإنسانيّ، ولكي يحبّني الآخرون،
ولا سيّما ( الجنس اللطيف )، ولكي أحقّق شيئاً من الشهرة النظيفة، ( وأقول:
النظيفة، لأنّ بعض الناس بعدّون مشاهير في مجالات وسخة كاللصوصية وما
شابهها )، والشهرة النظيفة تقرّب المرء من الخلود زلفى، وتخرجه من الهامش
ومن التشابه الذي تختصّ به القطعان، وللشهرة لذة خاصّة، لا يعرفها إلاّ
المشهورون.
وبالطبع لن أقول: إنّني أكتب،
لكي أعبّر عن حبّي لوطني وشعبي، فأنا أبعد ما أكون عن لغة الشعارات، لأنّ
الكتابة في سبيل الوطن والشعب تدخل في باب تحصيل الحاصل، ولأنّني لا أمتلك
هاجس التنويريّة، وفي رأيي أنّ السجيّة الصالحة تنويريّة حكماً، وذلك من
مبدأ: " الإناء بما فيه ينضح ".
في البدء لم يكن في حياتي ما
يوحي بأنّني سأكون كاتباً، فأنا إنسان مولع بالحياة إلى حدّ قد يتجاور مع
البوهيميّة، ولديّ حيويّة عالية ومرح مؤجّل.. وهذه سجايا يبدو أنّها تتناقض
مع فعل الكتابة القصصيّة بوصفه فعلاً من إنتاج العقل الهادئ المنظّم، يحتاج
إلى جَلَد واستعداد للجلوس الطويل وراء الطاولة، أو كما كانت أمّي تقول: "
يحتاج إلى مؤخّرة كبيرة ! ".
أقول: استطعت الآن أن أحقّق
معادلةً صعبةً إلى حدّ ما، وهي أنّني ظللت أعيش حياتي على قدر ما أستطيع،
وفي الوقت ذاته أكتب، وأسدّد متطلبات الكتابة من قراءة وشغل وجلوس طويل..
وفي صياغة أخرى للمعنى أقول: بعض الزملاء الكتّاب يخرجون إلى الحياة،
وواحدهم يصيح: " ابتعدوا من طريقي، فأنا كاتب ". هؤلاء لا يمتلكون الوقت
الكافي، لكي يعيشوا الحياة، بل يحاولون الاطلاع عليها من باب الفضول
وبالقدر الذي يلزم لهم في مجال الكتابة وحده. وحقيقة أنا أختلف مع هؤلاء في
الرأي إلى أبعد الحدود.
ذكرت أعلاه أن لديّ حيوية
عالية ومرحاً مؤجّلاً.. ولشرح عبارة ( المرح المؤجّل ) التي قد تبدو
ملتبسةً أقول: إنّني تربّيت في كنف أب ذي هيبة ورهبة.. ولم يكن أحد منّا
نحن الصغار ولا حتى إخوتي الكبار ليجرؤ على التحدّث أو التنفّس في حضوره.
من هنا كنت أضطرّ إلى تأجيل حيويتي ومرحي إلى حين خروجه من البيت، لنحوّل
البيت أنا وإخوتي إلى ما يشبه المسرح الكوميديّ.
ولو انتقلنا بالمعنى العريض
إلى خارج البيت، أي: إلى الحياة في المجتمع، لوجدنا المجتمع أشدّ هيبةً
ورهبةً من الوالد الكريم، ووقتها يصبح لزاماً على الكاتب أن ( يؤجّل ) مرحه
وأفكاره وسخريته إلى حين يستفرد بالورق الأبيض ( أو كيبورد الكومبيوتر ).
كيف أكتب القصّة القصيرة ؟
كنت وما أزال أكنّ إعجاباً خاصاً بالقصّة الشفاهيّة التي ترويها ألسن الناس
الذين لا يمثلون أيّ سلطة من أيّ نوع. ولديّ طموح أن أبلغ منزلة ( القصّاص
الشعبيّ ) التي أطلقت يوماً على الكاتب الإذاعيّ حكمت محسن.
إنّ القصّة التي تستمدّ
موضوعها من حياة الناس لا تبلى لها جِدة، ولا يستطيع الزمن أن يتجاوزها.
وهنا ينبغي أن نبتعد عن خلط الأوراق، فأنا لا أدعو إلى محاكاة الواقع أو
نقله حرفيّاً من الأرض إلى الورق، بل أرى أنّ على الكاتب أن يتمثل التجارب
الحياتيّة، ويعيد إنتاجها بفنيّة عالية، وأكبر برهان على هذا قصص تشيخوف
العظيم وقصص جي دي موباسان وعزيز نسين.
لقد كان يوسف إدريس يقول: "
تتمثل مقدرة القاصّ على الإبداع بمقدرته على الحكي أولاً ". وفي قصصه يجد
المرء هذا الحذق الخاصّ في مجال الحكي ظاهراً، ولكنّه يجد أيضاً درجةً
عاليةً من الفنّ والعمق والأفكار الطريفة.
قلت: في البداية لم يكن في
حسباني أن أكون كاتباً، ولكنّني الآن كاتب متفرّغ للكتابة، لا أمارس معها
أيّ عمل آخر. ومن هنا نستنتج معاً أنّني أحببت الكتابة إلى درجة العشق،
وأنّني أكتب بمتعة حقيقية، وقلّما أكتب من قبيل الواجب أو الضرورة. وحقيقةً
أنا مع ما رآه رولان بارت يوماً حول النصّ الذي يُكتب بلذّة، فيتلقاه
القارئ بلذّة.
بقي أن أقول: ليس لديّ نظام
زمنيّ ولا روتين أتّبعه في الكتابة. والمشكلة الوحيدة التي كنت أعاني منها
( سابقاً ) هي أنّني أدخن كثيراً أثناء الكتابة. وكثيراً ما كانت تدخل عليّ
زوجتي، وتهرع إلى فتح النافذة، وهي تقول بعصبيّة: " يا لطيف، قسماً بالله
مانك مبيّن. بدّو يجي يوم، وتختنق بدخانك ! ". ( ملاحظة: هجرت التدخين
مرغماً على إثر عملية القلب المفتوح التي أجريتها يوم 12/ 10/ 2003 ).
أنا رجل هادئ الطبع لطيف
المعشر، قلّما صرخت في وجه أحد، ولكنّ صوتي يعلو، وأتحوّل إلى رجل عصبيّ،
إذا دخل عليّ أحد من أفراد أسرتي، وأنا منسجم في كتابة قصة أو أي نصّ آخر.
والغريب في الأمر أنّ زوجتي وأولادي يضحكون حينما أعصّب عليهم، ولا يبالون
بهذا الأمر، والدليل أنهم يعاودون الدخول عليّ، وأنا أكتب، وكثيراً ما تقول
لي زوجتي أشياء تجعل الواحد يخرج من جلده في العجل.
كيف أكتب قصّةً قصيرةً ؟ هو
عنوان كبير جدّاً، وما ذكرته حتّى الآن لا يعدو أن يكون رؤوس أقلام، يمكنني
إغناؤها أكثر بما يقوله الأصدقاء عن تجربتي. فالصديق الشاعر فؤاد كحل اتّصل
بي بعد قراءته مجموعتي ( حادث مرور )، ليقول لي: " أنت تلغي أيّ نصّ، لتقدم
الحياة مكانه "، وصديقي الروائيّ عبد العزيز الموسى شهد مرةً بأنني أكتب
تماماً مثلما أعيش وأتنفس. وإذا كان من المخجل أن يتحدث المرء عن نفسه، أو
يأتي بالأقوال التي تمتدحه، فسوف أعتذر عن ذلك مسبقاً، ومع ذلك أؤكّد بأنّ
الملاحظتين اللتين قالهما الصديقان فؤاد وعبد العزيز صحيحتان تماماً.
خطيب بدلة
القصّة في سوريّة: أصالتها
وتقنيّاتها السرديّة 197 وما بعدها.
- تجربة في كتابة قصّة قصيرة:
أمعنْ في وجه الحياة المتغضّن
تجدْ في كلّ لمحة من ملامحه قصّةً وفي كلّ سَريرة من سرائره ألف حكاية
وحكاية.. ولكن كيف يمكننا أن نحيل هذه الصورة أو تلك من صور الحياة قصّةً
قصيرةً ؟ إنّ في نفس القاصّ مَلَكةً للحكي، يحرص على تنميتها بالملاحظة
الدقيقة والقراءة المتأنّية والفكر الجليل.. فموهبة القصّ وحدها لا تجعل (
الحكواتي ) قاصّاً، إن لم يمتلك أدوات القصّ بحذق ومهارة، ويسعى إلى صقلها
– كما يُصقل الماس أو السيف – بالقراءة والاطّلاع وطول التأمّل وبعد
النظر.. فانظر حولك بإمعان وصدق، واختزن في نفسك ما تراه وما تقرؤه وما
تسمع به، فلعلّه يجيش في نفسك، حتّى ينضج يوماً على نار هادئة، فيتراءى في
مخيّلتك واقعةً فنّيّةً، لها زمانها ومكانها، ولها بطلها وشخوصها.. تعيش
المشهد القصصيّ، وكأنّه جزء من تجربتك الشخصيّة، وتترك لخيالك العنان،
وكأنّه فرس رهان، وأنت حريص على ألاّ يجمح بك الخيال بعيداً، وألاّ يكبو بك
الفرس أرضاً. واعلم أنّ أحداث الحياة ليست كلّها صالحةً للقصّ، فمنها ما
يكون مألوفاً معروفاً، لا جديد فيه ولا عبرة، ومنها ما يكون مشوّقاً
مؤثّراً، لا يخلو من جدّة وعظة، والقاصّ ينظر إلى الحياة نظرةً ثاقبةً،
ويتخيّر منها ما يتلاءم ومجتمعه، فلا يخدش حياءً، ولا يهين معتقداً .
بين يديك صورة طفل يرمي
قنبلةً يدويّةً على دبّابةٍ من دبّابات العدو الصهيونيّ، رأيتها في جريدة،
أو شاهدتها في تلفاز، فأثارت في نفسك حماسةً وأسئلةً شتّى، وظلّت مشاعرك
تتأجّج أيّاماً، لا تهدأ ولا تستكين، وأنت تحاول أن تجد أجوبةً شافيةً لتلك
الأسئلة، وتبحث عن دوافع هذا الحدث ومكوّناته الاجتماعيّة وعناصره الفنّيّة
من بداية ونهاية وزمان ومكان وشخوص..
فالطفل أراد أن يثأر لأب شهيد
وحقّ سليب، فجعل يصنع بيديه النديّتين قنبلةً يدويّةً من موادّ أوليّة
قابلة للاشتعال، وراح يتحيّن الفرصة للانقضاض على دوريّة من دوريّات
الأعداء غير آبه برصاصهم اللعين وحقدهم الدفين.. فالمسوّغ للحدث الماثل بين
يديك هو أوّل ما تفكّر به تفكيراً عميقاً، حتّى تملك القصّة مبرّراتها
الموضوعيّة والفنّيّة، وحتّى لا تكون عبئاً على القارئ، لا يعرف كيف حدث
هذا، ولماذا حدث ؟
ينقضّ الطفل على الدبّابة
بشجاعة نادرة، ويحيلها في غمضة عين ركاماً، فيُلقى القبض عليه بصورة
مؤثّرة، تحاول أن ترسمها – وهو يعاني ما يعانيه من وسائل التعذيب – رسماً
دقيقاً، فلعلّك تضمن بذلك عنصر التشويق والتأثير، ثمّ توفّر لها ما يلائمها
من الحوار والوصف، فتجري حواراً بين الطفل ومحقّق من المحقّقين الذين لا
يراعون حقّاً لطفولة ولا لأرض، وأنت حريص أن توازن بين السرد والحوار، فلا
يطغى أحدهما على الآخر.. وحين يصرّ الطفل على أن تصرّفه فرديّ، ليس وراءه
جهة من جهات المقاومة، يُرمى في زنزانة رطبة، أخذ يكتب على جدرانها أناشيد
الحريّة والكفاح والبطولة.. وهنا لا بدّ أن توفّر لوحدته الموحشة ما
يلائمها من الأوصاف والأحاسيس، كأن نجعل الطفل يتذكّر والده الذي قضى نحبه
تحت التعذيب، ويتذكّر أمّه التي ستتفاخر به أمام جيرانها، يتذكّر زملاءه في
المدرسة وأساتذته الذين أشعلوا النار في نفسه ضدّ المحتلّين، ولقّنوه تلك
الأناشيد التي كتبها على جدران زنزانته الضيّقة، وهو البطل الذي رأيناه
يواجه صراعاً مريراً وظروفاً صعبةً، ينبغي أن توفّرها له، ليكون حقّاً
شخصيّةً حاسمةً، تسعى أن ترصد أبعادها النفسيّة والشخصيّة والاجتماعيّة،
وهي الأبعاد الثلاثة التي ترسم الشخصيّةَ القصصيّة على حقيقتها، وتجعلها
أقرب إلى الحياة والواقع.
وفي ذروة الصراع الدراميّ
تصوّر الأعداء، وهم يدكّون داره بالحديد والنار، ويحيلونها ركاماً، ويتركون
أمّه وإخوته في العراء بلا معيل ولا مأوى، وأنت هنا لن تنسى ما يلزم هذه
الصورة من الأوصاف والأحاسيس. وفي النهاية لا بدّ أن تترك أملاً كبيراً في
نفس القارىء، وهو أنّ الأعداء إذا كانوا قد أحالوا البيت ركاماً، فإنّ في
صحن الدار شجرة زيتون هرمة، ظلّت تتعالى حتّى أعنان السماء، وتتحدّى جنود
الاحتلال.
وخلال سرد هذه القصّة سرداً
موضوعيّاً بضمير الغائب – وهو الضمير الذي يتلاءم وهذا النوع من الأحداث -
تحرص على تحديد زمان القصّة ومكانها، لأنّ هذين العنصرين يوحيان بحقيقة
الحدث وصدقه، ويجعلانه حدثاً واقعيّاً، فزمان قصّتنا هو أيّام المقاومة
التي بلغت أوجها في ( انتفاضة ) أهلنا في الأرض المحتلّة، ومكانها هو تلك
الأرض، أو هو جنوب لبنان، أو هو الجولان.. لأنّ الأرض في النهاية واحدة،
وأنّ المصير واحد.
وأنت كقاصّ يجب أن تستعمل لغة
القصّ، و" هي النسيج الذي يشتمل على السرد والحوار، ويساهم في رسم
الشخصيّات وتصوير الأحداث وتطويرها، فإذا كان للشعر لغته، فإنّ للقصّة
القصيرة لغتها التي تأخذ من النثر قدرته على التعبير والتصوير ومن الشعر
طاقته على الإيحاء والإيجاز، وكأنّها تحتلّ المسافة الفاصلة بين الشعر
والنثر، وتمزج بين ما هو واقعيّ وعقليّ ومنطقيّ وبين ما هو خياليّ وعاطفيّ
ومثاليّ.. وهي لذلك تحمل عبئاً ثقيلاً، وتفيض بالدلالات والإيحاءات، حتّى
تكون قادرةً على التوصيل واستحواز القارئ والإمساك بالموقف كلّه " . ولعلّك
تعيد النظر في كلّ ما كتبت مراراً، كأن تبدّل كلمةً بأخرى، أو أنّ تقدّم
كلمةً في تركيب، وتؤخّر أخرى، أو تصطنع تشبيهاً هنا واستعارةً هناك.. لأنّ
القصّة القصيرة كأيّ فنّ من الفنون الجميلة لا تستقيم إلاّ بإعادة النظر
فيها مراراً، حتّى تصل في النهاية إلى شكلها الأسمى.
ولا شكّ في أنّ مثل هذا
الحدث قد وفّر لهذه القصّة القصيرة عقدةً ملائمةً، أو وفّر لبطلها مأزقاً
مناسباً، خَلَص به في النهاية إلى الزنزانة وتدمير داره على رؤوس أهله، وهو
مصير فاجع، ولكنّنا حاولنا ألاّ نجعل القصّة تنتهي على هذا النحو المؤلم،
فرأينا شجرة زيتون تتعالى في وجوه جنود الاحتلال، لأنّ الأشجار كالأبطال لا
تموت إلاّ واقفةً.
- محاولة لأحد الطلاّب في
كتابة قصّة قصيرة:
" .. سنواتٍ وسنواتٍ قضت
الأمّ في غياهب السّجن بعد أن ادّعت أمام رجال الشرطة أنّ الحقيبة لها
خوفاً على ابنها الوحيد ".
وضعتُ يوماً بين يدي طلاّبي
هذه النهاية الوخيمة لأمّ، ضحّت بحياتها من أجل ابنها الذي سقط في براثن
الجريمة، وطلبتُ إليهم أن يجعلوا منها قصّةً قصيرةً، يحدّدون هم أحداثها
وأشخاصها، ويراعون سواها من العناصر الفنّيّة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً،
فكتب هذا وذاك من الطلاّب يتعاطفون مع الأمّ تعاطفاً مؤلماً، ويدينون تخاذل
الابن وتهاونه في سبيلها، فمنهم مَن ظنّ أنّ الأمر مجرّد موضوع إنشائيّ من
مواضيع التعبير الكتابيّ، ومنهم مَن كتب قصّةً حقيقيّةً، سمعها، أو
تخيّلها، أو قرأها هنا أو هناك.. ولم أكن أرمي من سؤالي إلاّ أن يكتب
الطالب قصّة فنّيّةً قصيرةً بعد أن تعرّف في دروس سابقة على العناصر
المتعدّدة لبنائها الفنّيّ، وقرأ نخبةً من القصص العربيّة القصيرة.
ومن هذه القصص المتعدّدة أضع
بين يدي القارىء هذه التجربة المؤثّرة للطالب أحمد عبد اللّه عليّ السميطيّ
، أضعها على عللها – كما وردت في دفتره - في جانب، ثمّ أضع ملاحظاتي – وهي
ملاحظات نقديّة - في جانب آخر، فلعلّ هذه التجربة الطريفة تجعلنا نقف
دائماً على مواهب كامنة في نفوس طلاّبنا، ولعلّها تقدّم درساً مفيداً من
دروس فنّ كتابة القصّة القصيرة وموعظةً حسنةً من عظات الحياة.
القصّة التعليقات
جراح الماضي
- " عشرون عاماً من السجن مع
الأشغال الشاقّة . عشرون عاماً.. عشرون... ".
تردّدت العبارة في ذهنها
طويلاً، وهي تجلس أمام نافذة الزنزانة الضيّقة الكئيبة، ترنو إلى الأفق
البعيد. ها هي ذي تجد نفسها متّهمةً بحيازة مجوهرات مسروقة، تربو قيمتها
على ثلاثة ملايين درهم، والأخطر من ذلك أنّ الأدلّة كلّها ضدّها، وسيّد
الأدلّة كان اعترافها أنّ تلك الحقيبة السوداء لها على الرغم من إدراكها
أنّ لهذا الاعتراف عواقبه الوخيمة.
إنّها حقيبة ولدها
الوحيد، فلذة كبدها !
لن تنسى ذلك اليوم
المشؤوم حين دلف إلى حجرتها في هدوء وسكينة، وقبّل رأسها كما يفعل كلّ ابن
بارّ بوالديه، وسألها عن صحّتها وأحوالها، ثمّ طلب منها أن تحتفظ له بتلك
الحقيبة أيّاماً، وحين سألته عن محتوياتها أجابها في بساطة وهدوء:
" إنّها مجرّد أوراق شخصيّة،
لم أجد من يحفظها لي سواك ؟ ".
أعادتها ذكرياتها
المؤلمة إلى تلك الليلة التي داهم فيها رجال الشرطة منزلها، وقاموا يفتّشون
كلّ ركن من أركانه، ليجدوا في النهاية تلك الحقيبة المشؤومة، وقبل أن
يفتحها أحدهم سألها عن محتوياتها، فلم تجد جواباً، وعندما أخبرها بحقيقة
تلك الحقيبة ادّعت أنّها لها، وأنّ ابنها لا علاقة له بها.
تمرّ السنوات العشرون دهراً
كاملاً من العذاب والألم ومن الصبر والدموع.. وها هي ذي تخرج إلى المجتمع
من جديد. ما أجمل الحرّيّة، ما أجمل الحياة ! أين هم هؤلاء الأحباب ؟
مضت عشرون سنةً، ولم يأت أحد
منهم إلى زيارتها في السجن، ولم يسأل عن أحوالها أحد حتّى ولدها الذي ضحّت
من أجله بعشرين سنةً من حياتها وشبابها وحرّيّتها لم يزرها، ولم يسأل عن
حالها.
طرقت بابه بهدوء، ووقفت
تنتظر كأيّ زائر أن يُفتح لها الباب، انتظرت دقائق، ظنّتها دهراً، ولمّا
انفتح الباب انتصب أمامها رجل أشيب الشعر محنيّ الظهر.. إنّه هو، نسخة طبق
الأصل من والده. قلبها دلّها عليه، فاتّقدت مشاعرها، وضمّته إلى صدرها، وهي
تهتف بحنان جارف:
" ولدي، ولدي.. ".
ما أجمل الأمومة، وما
أصعب الفراق !
ظلّ بارداً جامداً
كالصّخر، فنظرت في عينيه، لتجد نظرةً خاويةً، لا تشفّ عن شيء، وسألته عن
سرّ فتور مشاعره، فأجاب بأعصاب باردة:
" لا أحد سوانا يعرف الحقيقة،
وأنت في نظر الناس جميعاً سارقة. إنّ هذا العار ظلّ يطاردني عشرين سنةً،
وأنا أخبئ وجهي من عيون الناس.. ".
أغمضت عينيها، وصمّت
أذنيها، وتمالكت أعصابها، وهي تردّد في سرّها: أهذه هي ثمار التضحية ؟ أهذا
هو ردّ الجميل ؟ ثمّ استندت إلى جدار، وانطلقت إلى الشارع، لتهيم على وجهها
في دنيا اللّه الواسعة.
يستخدم الكاتب هنا أسلوب
الارتجاع حواراً داخليّاً مع النفس، ولكنّه حوار خاطف، لا يكاد يفصح عمّا
عانته الأمّ خلال فترة طويلة من الزمان.
لا يخفى هنا طغيان صوت الكاتب
على صوت الراوي السارد وصوت الشخصيّة الحاسمة، وهي الأمّ.
لم يحسن وصف هذا الموقف
العصيب، فاختصره في كليمات معدودات.
اختلط هنا السرد بالحوار، فلم
نميّز هذا من ذاك.
اختصر السنوات العشرين في
عبارات معدودات، فكان زمان السرد محدوداً وخاطفاً.
قصّر الكاتب هنا في وصف مشاعر
الأمّ التي ستكون في مثل هذا الموقف جيّاشةً مضطربةً لا باردة كالثّلج.
تدخّل صوت الكاتب من جديد،
وطغى على صوت الرّاوي وصوت الأمّ.
أحسن الكاتب حين ترك الخاتمة
مفتوحةً على احتمالات متعدّدة، ولكنّ وصف المشاعر ظلّ ضعيفاً ضعيفاً.
الخاتمة أو ما يشبه الاستدراك
لا شكّ في أنّ الطبيعة المرنة
للقصّة القصيرة قد جعلتها عرضة للتجريب والتجديد، ومنذ أواخر الستّينات
وأوائل السبعينات راح كثير من القاصّين العرب في عالمنا القصصيّ يخرجون
عمّا نسمّيه ( النظام الحكائيّ ) الرتيب للقصّة القصيرة، ويتمرّدون على (
قواعده ) وشكله الموباسانيّ، وينوّعون في طرق السرد أو آليّات الحكي،
ويكسرون وحدة الزمان والمكان، فتفتّت البناء الفنّيّ للقصّة القصيرة، وغدا
أشكالاً وألواناً متعدّدةً. وقد أطلق هؤلاء ( الخوارج ) على تجاربهم عدّة
تسميات، ففي سورية انتشر مصطلح ( النصّ المفتوح ) وفي مصر ذاع مصطلح (
الحساسيّة الجديدة )، ثمّ راحت تشيع مصطلحات كثيرة، منها: ( القصّة –
اللوحة )، و( القصّة – القصيدة )، و( القصّة – الصورة )، و( تجارب قصصيّة
)، و( تجارب ميدانيّة )، و( لوحات قصصيّة )، و( نصوص ).. وعلى سبيل المثال
سمّى خطيب بدلة قصص مجموعته ( التداوي بالأدب 2005 ) " نصوصاً قصصيّةً
تجريبيّةً "، ثمّ سمّى قصص مجموعته الأخرى ( إمبرطوريّة المجانين
الديمقراطيّة العليا 2006 ) " تجارب قصصيّةً ميدانيةً ".
ومن هنا صرنا نجد خيولاً
جامحةً خارج المضمار، أو أبناء بلا آباء ولا بطاركة، أو تلاميذ بلا
أساتذة.. وهي تعبيرات راحت تشيع على ألسن بعض هؤلاء القاصّين وبعض النقّاد،
فقد صرخ القاصّ المصريّ محمّد حافظ رجب يوماً: " نحن جيل بلا أساتذة " ،
وقال القاصّ السوريّ عبد الحليم يوسف في حواري معه: " ما يهمّني في هذه
الحياة هو أن أكتب نفسي واحتراقي الداخليّ، وأكتب آلامي وأفراحي العارمة.
إنّني أراهن على صدق التجربة الشخصيّة وخصوصيّتها، وأسعى إلى إنتاج نصّ
إبداعيّ خاصّ " .
والواقع أنّ ( تحوّلات القصّة
العربيّة القصيرة ) تحتاج إلى دراسة متأنّية، لسنا في هذه الخاتمة إلاّ في
معرض الإشارة إليها على سبيل الاستدراك على الطبعة الأولى من هذا الكتاب،
حتّى لا يذهبنّ الظنّ بقرّائي من المواهب القصصيّة الشابّة أنّني ألحّ في
الفصل الثالث منه على عناصر البناء الفنّي للقصّة القصيرة في ( إطارها
الحكائيّ ) التقليديّ. وقد أشرت مراراً في تضاعيف كتابي إلى أنّ القصّة
القصيرة من جهةٍ ذات طبيعة لدنة مرنة، لا ينظمها قانون، ولا يؤلّفها عقد،
ولا تحدّها أسلاك، وأنّها من جهةٍ أخرى مجرّد حدث، يبقى مثار أسئلة لا
قوانين، لا تجيب عنها الموهبة الأصيلة وحدها فحسب، وإنّما يجيب عنها أيضاً
البصر الحادّ والبصيرة النافذة.
معجم المصطلحات
أحلام
Dreams
أحلام اليقظة
Daydreaming
اختزال
Stenography
اختلاق
Creativity
ارتجاع
Flashback
استرجاع
Analepsis
استشراف
Exaltation
أسطورة
Myth
أشكال
ملحميّة ثانويّة
Minor epic forms
أقصوصة
Novella
أمثال
Proverbs
انزياح
Displacement
أيديولوجيّ
Ideological
إيماض
Scintillation
بؤرة
Focus
بؤرة السرد
Focus of narration
بداية
Introduction
بطل
Hero
بيئة
Environment
تآلف
Harmony
تاريخ
History
تبئير داخليّ
External focalization
تبئير خارجيّ
Internal focalization
تتابع غير
منطقيّ / كيفيّ
Illogical sequence
تتابع منطقيّ
/ سببيّ
Logical sequence
تخيّل
Imagination
تداعيّات
Recalling the past
تدخّل
المؤلّف
Authers intrusion
تزمين
Temporalisation
تعالق نصّيّ
Interaction
تعبيريّ
Expressional
تقنيّة
Technicality
تكثيف
Intensification
تناصّ
Intertextuality
تيّار الوعي
Stream of consciousness
حافز / موضوع
Motif
حبكة
Plot
حبكة بسيطة
Simple plot
حبكة معقّدة
Complicated plot
حدث
Action
حكاية
Fabula
حكاية غير
مُبأرة
Nonfocalized
حكاية ذات
التبئير الصفر
Zero focalized
حلّ
Denouement
حوار / حوار
خارجيّ
Dialogue
حوار داخليّ
Monologue
حوافز حرّة
Free
motives
حوافز مشتركة
Common motives
خيال
Fiction
دراما
Drama
رؤية خارجيّة
External sight
رؤية داخليّة
Internal sight
رحلة خياليّة
Fantastic voyage
رسائل
Epistles
رواية
Novel
رومانسيّة
Romanticism
زمان
Time
زمانيّ
Temporal
سرد
Narration
سرد خطابيّ
Narrating speech
سرد ذاتيّ
Subjective narration
سرد موضوعيّ
Objective narration
سيرة ذاتيّة
Autobiography
سيرة
موضوعيّة / ترجمة
Biography
سير شعبيّة /
قصص شعبيّة
Folk tales
شخصيّات
نموذجيّة
Model characters
شخصيّة
Character
شخصيّة
ثانويّة
Sub-by characters
شخصيّة حاسمة
Psychological character
شخصيّة رئيسة
Main
character
شخصيّة
مسطّحة / بسيطة
Simple character
شخصيّة مغلقة
/ مركّبة
Complicated character
شعريّة
Poetics
شكل
Form
صراع
Conflict
صراع خارجيّ
External conflict
صراع داخليّ
Interior conflict
صيغة بلاغيّة
Figure of speech
طرائف /
نوادر
Anecdotes
عقدة
Climax
عناصر
القصّة
Elements of story
غنائيّة
Lyricism
قصّة
Story
قصّة / حكاية
Narrative
قصّة قصيرة
Short story
قصّة قصيرة
جدّاً
Very short story
قصص تاريخيّ
Historical tales
قصص حيوانيّ
/ قصص الحيوانات
Animal stories
قصص قرآنيّ
Quranic tales
قصّ متتابع /
متلاحق
Consecutive tale
لاتبئير
Nonfocalization
لحظات ما قبل
النوم
Hypnogogic
لحظات ما بعد
الاستيقاظ من النوم
Hypnopopic
لحظة التنوير
Lightening
لغة
Language
مثاقفة
Culturalization
مجاز
Metaphor
محاكاة
Imitation
مذكّرات
Memos
مركز
Center
مضمون
Content
مفارقة
Irony
مفارقة
دراميّة
Dramatic irony
مقاربات
Approaches
مقامات
Rhythmic prose
مكان
Place
مكانيّ
Spatial
مناجاة
Soliloquy
منظور سرديّ
Narrative perspective
موضوع
Theme
مونولوج
Monologue
نظرة شاملة
Weltanschauung
نفسيّ
Psychological
نهاية
Conclusion
نهاية مغلقة
End
نهاية مفتوحة
Run
on end
واقع
Reality
واقعة
Fact
واقعيّة
Realism
وجهة النظر
Point of view
وحدة
الانطباع
Unity of impression
وصف
Description
وظيفة
جماليّة
Aesthetic role
وظيفة
توضيحيّة / تفسيريّة
Explanatory role
المصادر والمراجع
أوّلاً – الكتب:
1.
الأجنحة المتكسّرة لـ ( س ) و( ع ) لوفاء خرما، ط 1، دار الحقائق في حمص
1999.
2.
أركان الرواية لإدوارد فورستر، ترجمة موسى عاصي، مراجعة الدكتور سمر روحي
الفيصل، ط 1، دار جروس برس في طرابلس لبنان 1415 هـ/ 1994 م.
3.
ألف ليلة وليلة، ط 6، دار مكتبة التربية في بيروت 1412 هـ/ 1992 م.
4.
أوراق عبد الجبّار الفارس الخاسرة لمحمّد محيي الدين مينو، قصص قصيرة، ط 1،
مطبعة ابن الوليد في حمص 1999.
5.
البيان والتبيين للجاحظ، تحقيق عبد السلام محمّد هارون، دار الفكر في بيروت
( بلا تاريخ ).
6.
البخلاء للجاحظ، دار صادر في بيروت ( بلا تاريخ ).
7.
بنية النصّ السرديّ للدكتور حميد لحمداني، ط 2، المركز الثقافيّ العربيّ في
بيروت والدار البيضاء 1993.
8.
تاريخ الأدب العربيّ: العصر الجاهليّ للدكتور شوقي ضيف، ط 7، دار المعارف
في القاهرة 1976.
9.
تاريخ كيمبردج للأدب العربيّ الحديث، ترجمة عبد العزيز السبيل وآخرين، ط 1،
النادي الأدبيّ الثقافيّ في جدّة 1423 هـ/ 2002 م.
10.
تحليل الخطاب الروائيّ لسعيد يقطين، ط 3، المركز الثقافيّ العربيّ في بيروت
والدار البيضاء 1997.
11.
تداخل الأنواع في القصّة المصريّة القصيرة: 1960 – 1990 للدكتور خيري دومة،
الهيئة المصريّة العامّة للكتاب في القاهرة 1998.
12.
التصوير الفنّيّ في القرآن لسيّد قطب، ط 8، دار الشروق في بيروت والقاهرة
1403 هـ/ 1983 م.
13.
التطوّر الفنّيّ لشكل القصّة القصيرة في الأدب الشاميّ الحديث للدكتور نعيم
اليافي، اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق 1982.
14.
حضرات السادة العشّاق لمحمّد نور الدين، مطبعة العاصمة في القاهرة 1992.
15.
حقل من ريح لعدنان محمّد، ط 1، طرطوس 1997.
16.
الحوار القصصيّ: تقنيّاته وعلاقاته السرديّة للدكتور فاتح عبد السلام، ط 1،
المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر 1999.
17.
الخشبة لعبد اللّه صقر أحمد المرّيّ، ط 2، دار الفارابيّ في بيروت 1999.
18.
خطاب الحكاية لجيرار جينيت، ترجمة محمّد معتصم وعبد الجليل الأزديّ وعمر
حلّي، ط 2، المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة 1997.
19.
الدائرة لأيمن الطويل ومحمّد محيي الدين مينو، ط 1، المطبعة الحديثة في
حماة 1981.
20.
دراسات في القصّة القصيرة ليوسف الشارونيّ، ط 1، دار طلاس في دمشق 1989.
21.
دليل الناقد الأدبيّ للدكتور نبيل راغب، دار غريب في القاهرة 1998.
22.
دمشق الحرائق لزكريّا تامر، ط 3، رياض الريّس للكتب والنشر في لندن 1994.
23.
الرحيل لشيخة الناخي، ط 1، اتّحاد أدباء وكتّاب الإمارات 1992.
24.
رسائل حبّ من نيرغال للدكتور فاروق أوهان، ط 1، دار الانتشار العربيّ في
بيروت 1999.
25.
رسالة الغفران لأبي العلاء المعرّيّ، دار صادر في بيروت ( بلا تاريخ ).
26.
الرعد لزكريّا تامر، ط 3، رياض الريّس للكتب والنشر في لندن 1994.
27.
الرواية والقصّة في الإمارات: نشأة وتطوّر للدكتور ثابت ملكاوي، المجمّع
الثقافيّ في أبو ظبي ( بلا تاريخ ).
28.
السيرة النبويّة لابن هشام، تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل في بيروت (
بلا تاريخ ).
29.
شعريّة التأليف لبوريس أوسبنسكي، ترجمة سعيد الغانمي وناصر حلاوي، المجلس
الأعلى للثقافة في القاهرة 1999.
30.
الصوت الآخر: الجوهر الحواريّ للخطاب الأدبيّ لفاضل ثامر، ط 1، دار الشؤون
الثقافيّة العامّة في بغداد 1992.
31.
الظواهر الفنّيّة في القصّة القصيرة المعاصرة في مصر: 1967 – 1984 للدكتور
مراد عبد الرحمن مبروك، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب في القاهرة 1989.
32.
عصفور الثلج لإبراهيم مبارك، اتّحاد أدباء وكتّاب الإمارات في الشارقة
1992.
33.
عناصر القصّة لروبرت شولز، ترجمة محمود منقذ الهاشميّ، ط 1، دار طلاس في
دمشق 1988.
34.
عيون الأخبار لابن قتيبة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب في القاهرة 1973.
35.
فكرة القصّة للدكتور عبد اللّه أبو هيف، اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق
1981.
36.
فنّ الشعر لأرسطو، ترجمة الدكتور إبراهيم حمادة، مركز الشارقة للإبداع
الفكريّ ( بلا تاريخ ).
37.
فنّ القصّ في النظريّة والتطبيق للدكتورة نبيلة إبراهيم، مكتبة غريب في
القاهرة ( بلا تاريخ ).
38.
الفنّ القصصيّ بين جيلي طه حسين ونجيب محفوظ للدكتور يوسف نوفل، ط 1، دار
القلم في دبي 1412 هـ/ 1992 م.
39.
فنّ كتابة القصّة لحسين القبّانيّ، الدار المصريّة للتأليف والنشر في
القاهرة 1965.
40.
الفنّ ومذاهبه في النثر العربيّ للدكتور شوقي ضيف، ط 9، دار المعارف في
القاهرة 1980.
41.
الفهرست لابن النديم، تحقيق إبراهيم رمضان، ط 1، دار المعرفة في بيروت 1415
هـ/ 1994 م.
42.
القاموس المحيط للفيروز أبادي، ضبطه ووثّقه يوسف الشيخ محمّد البفاعيّ، دار
الفكر في بيروت 1995.
43.
كتاب القصّاص والمذكّرين لابن الجوزيّ، تحقيق الدكتور قاسم السامرائيّ، ط
1، دار أميّة في الرياض 1403 هـ/ 1983 م.
44.
القصّة الجزائريّة القصيرة للدكتور عبد اللّه خليفة ركيبيّ، ط 3، الدار
العربيّة للكتاب في ليبيا وتونس 1397 هـ/ 1977 م.
45.
القصّة العربيّة الحديثة والغرب للدكتور عبد اللّه أبو هيف، ط 1، اتّحاد
الكتّاب العرب في دمشق 1994.
46.
القصّة الفرنسيّة القصيرة لرينيه غودين، ترجمة الدكتور محمّد نديم خشفة، ط
1، دار فصّلت للدراسات والترجمة والنشر في حلب 1420 هـ/ 2000 م.
47.
القصّة في الأدب العربيّ الحديث: 1870 – 1914 للدكتور محمّد يوسف نجم، ط 2،
دار الثقافة في بيروت 1966.
48.
القصّة في دول الخليج العربيّ: دراسة في النشوء والتطوّر للدكتور أحمد
عبّاس المحمّد، ط 1، دار طلاس في دمشق 1998.
49.
القصّة في سوريّة: أصالتها وتقنيّاتها السرديّة، إعداد د. جمال شحيّد وإيف
كونزاليز - كليخانو، ط 1، المعهد الفرنسيّ للدراسات العربيّة في دمشق
2004.
50.
القصّة في سورية: محاضرات عن القصّة في سورية حتّى الحرب العالميّة الثانية
للدكتور شاكر مصطفى، مطبعة الرسالة في القاهرة 1957 و1958.
51.
القصّة القصيرة جدّاً لأحمد جاسم الحسين، دار عكرمة في دمشق 1997.
52.
القصّة القصيرة للدكتور سيّد حامد النسّاج، سـلسلة ( كتابك ) 18، دار
المعارف في القاهرة 1977.
53.
القصّة القصيرة: دراسة ومختارات للدكتور الطاهر أحمد مكّي، ط 2، دار
المعارف في القاهرة 1978.
26.
القصّة القصيرة في الإمارات: الأصوات الجديدة، وقائع الندوة التي انعقدت في
الشارقة بين 11 و12/ 5 / 2004، أعدّها عبد الفتّاح صبري، ونشرتها دائرة
الثقافة والإعلام في الشارقة 2006.
27.
القصّة القصيرة في سوريّة: قصّ التسعينات للدكتور نضال الصالح، اتّحاد
الكتّاب العرب في دمشق 2005.
28.
القصّة القصيرة: النظريّة والتقنيّة لإنريكى أندرسون إمبرت، ترجمة عليّ
إبراهيم عليّ منوفيّ، المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة 2000.
29.
القصّة وجدل النوع للدكتور محمّد مصطفى سليم، ط 1، الدار المصريّة
اللبنانيّة في القاهرة 2006.
54.
القصّة والرواية للدكتورة عزيزة مريدن، دار الفكر في دمشق 1400 هـ/ 1980 م.
55.
كتابة القصّة القصيرة لولسن ثورنلي، ترجمة الدكتور مانع حمّاد الجهنيّ، ط
1، النادي الأدبيّ الثقافيّ في جدّة 1412 هـ/ 1992 م.
56.
الكلام والخبر: مقدّمة للسرد العربيّ لسعيد يقطين، ط 1، المركز الثقافيّ
العربيّ في بيروت والدار البيضاء 1997.
57.
كلّنا كلّنا.. كلّنا نحبّ البحر: قصص من الإمارات لمجموعة من الكتّاب، ط 2،
اتّحاد أدباء وكتّاب الإمارات 1992.
58.
كليلة ودمنة لبيدبا، ترجمة ابن المقفّع، مكتبة المعارف في بيروت 1415 هـ/
1994 م.
59.
لسان العرب لابن منظور، تحقيق أمين محمّد عبد الوهاب، ومحمّد الصادق
العبيديّ، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربيّ، ومؤسّسة التاريخ
العربيّ في بيروت 1416 هـ/ 1996 م.
60.
مجمع الأمثال لأبي الفضل الميدانيّ، تحقيق نعيم حسين زرزور، ط 1، دار الكتب
العلميّة في بيروت 1408 هـ/ 1988 م.
61.
مدخل إلى القصّة القصيرة الإماراتيّة للدكتور الرشيد بو شعير، ط 1، اتّحاد
أدباء وكتّاب الإمارات 1998.
62.
المصطلح السرديّ لجيرالد برنس، ترجمة عابد خزندار، ط 1، المجلس الأعلى
للثقافة في القاهرة 2003.
63.
المعجم الفلسفيّ للدكتور جميل صليبا.
64.
معجم القاصين العرب للدكتور سمر روحي الفيصل، ط 1، دائرة الثقافة والإعلام
في الشارقة 2005.
65.
المفارقة والأدب: دراسات في النظريّة والتطبيق للدكتور خالد سليمان، دار
الشروق في عمّان 1999.
66.
المفارقة وصفاتها لدوغلاس ميويك، ترجمة الدكتور عبد الواحد لؤلؤة، ( موسوعة
المصطلح النقديّ ) 13، دار المأمون في بغداد ( بلا تاريخ ).
67.
مفاهيم نقديّة لرينيه ويليك، ترجمة الدكتور محمّد عصفور، سلسلة ( عالم
المعرفة ) 110، المجلس الوطنيّ للثقافة والفنون والآداب في الكويت 1407 هـ/
1987 م.
68.
مقامات الحريريّ، دار بيروت 1405 هـ/ 1985 م.
69.
مقامات الهمذانيّ، تحقيق الدكتور قصيّ الحسين، ط 1، دار الشمال في طرابلس
لبنان 1989.
70.
الملتقى الأوّل للكتابات القصصيّة والروائيّة في الإمارات ( 27 فبراير -
1مارس 1985 )، ط 1، اتّحاد كتّاب وأدباء الإمارات بالتعاون مع دائرة
الثقافة والإعلام في الشارقة 1989.
71.
نظريّة الأدب لأوستن وارين ورينيه ويليك، ترجمة الدكتور محيي الدين صبحي،
ومراجعة الدكتور حسام الخطيب، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم
الاجتماعيّة في دمشق 1392 هـ/ 1972.
72.
النمور في اليوم العاشر لزكريّا تامر، ط 3، رياض الريّس للكتب والنشر في
لندن 1994.
73.
نظريّة الرواية: دراسة لمناهج النقد الأدبيّ في معالجة فنّ القصّة للدكتور
السيّد إبراهيم، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة 1998.
74.
وقت لطلاق الزوجة لخطيب بدلة، وزارة الثقافة في دمشق 1998.
ثانياً –
الدوريّات:
1.جريدة
الاتّحاد: 8665 في 27/ 3/ 1999: حوار الأستاذ هيثم يحيى الخواجة مع شيخة
الناخي.
2.الرافد: 29
يناير 2000: ملفّ القصّة القصيرة في الإمارات.
3.مجلّة
جامعة الملك سعود:مج 12، الآداب 2، 1420 هـ/ 2000 م: القصّاص ودورهم
السياسيّ في العصر الأمويّ للدكتور إبراهيم بن عبد العزيز الجميح.
4.ملحق (
الثورة ) الثقافيّ: 69 في 13/ 7/ 1997، حوار الأستاذ فايز العراقيّ مع
محمود عليّ السعيد.
5.الموقف
الأدبيّ: 197 و198 و199، السنة 17، 1987: عدد خاصّ بالقصّة القصيرة.
ثالثاً –
الرسائل الخاصّة:
1.د. عبد
السلام العجيليّ في 8/ 3/ 2000.
2.محمّد نور
الدين في 23/ 3/ 2000.
حقوق النشر
محفوظة للمؤلّف الطبعة الثانية
1428 هـ/
2007 م منطقة دبي التعليميّة
|