مملكة الكراسي
الخشبيّة
قصص للأطفال
الإهــداء
إلى أطفال (قانا) وشهدائها..
إلينا معاً في ذكراكم
الدّامية:
(18 نيسان / أبريل 1996).
دبّي في 8/3/2000
محمّد
جيش صلاح الدّين الأيّوبيّ
سألَ معلّمٌ تلاميذَه:
-"ماذا تودّون أن تكونوا في المستقبلِ؟".
فقالَ أحدُهم:
-"أنا جائعٌ، أريدُ أن أصبحَ رغيفَ خبزٍ".
وقالَ آخرُ:
-"أنا يتيمٌ، أريدُ أن أصيرَ أباً".
وقالَ ثالثٌ، وهو يرفرفُ بجناحيه:
-"أنا عُصفورٌ، أحبُّ الحريّةَ، وأكرهُ الأقفاصَ،
ولن أكونَ في المستقبلِ إلاّ عُصْفوراً".
وحين لاحظَ المعلّمُ أنّ سامراً لم يَنْبِس بكلمةٍ(
)، اقتربَ منه، وربَّت على كتِفه، وسأَله:
-"بمَ تفكّرُ، يا سامرُ؟ ماذا ستكونُ في
المستقبلِ؟".
فكّر سامرٌ هنيهاتٍ، وقالَ:
-"أريدُ أن أكونَ صلاحَ الدّينِ الأيّوبيَّ".
عندئذٍ صفّقَ التّلاميذُ لسامرٍ، وصمّموا أن يكونوا
من فُوْرهم جنوداً في جيشِ صلاحِ الدّينِ الأيّوبيِّ.
حلوى العيد
أضجرته الوحدةُ، فقالَ طارقٌ لأمِّه:
-"أريدُ أخاً صغيراً".
فقالتِ الأمُّ، وهي تضمُّه إلى صدرها:
-"غداً أشتري لكَ عروساً جميلةً".
وقالَ الأبُ، وهو يضحكُ:
-"بل سنشتري لكَ حصاناً".
وفي اليومِ التّالي ركبَ طارقٌ حصانَه الخشبيَّ،
وأخذَ يجري من غرفةٍ إلى غرفةٍ، وهو يصهلُ، فقال الحصانُ:
-"لماذا تَزْعَقُ بوجهي؟ لقد أجْفَلْتَني،
وأخفتَني".
فقالَ طارقٌ:
-"أنا أصهلُ، لا أزْعَقُ".
ثمّ أردفَ الحصانُ:
-"كاد الرَّسَنُ يخنُقني، اِرمِهِ من يدِكَ".
وحين حَرَنَ الحصانُ( )، وهوى على الأرضِ متعباً،
استلقى طارقٌ على سريرِه لاهثاً، وسألَ أمَّه:
-"كيف أتيتُ؟".
ابتسمتِ الأمُّ، وقالتْ:
-"اشترينا يومَ العيدِ عُلبةَ حلوى صغيرةً، وحينَ
فتحنا العلبةَ، نهضْتَ منها كالعِفريتِ، ورحْتَ تصيحُ: ماما، بابا..".
ضحكَ طارقٌ، حتّى دمعتْ عيناه، وقرّر أن يغفوَ
اللّيلةَ، وينتظرَ أيّامَ العيدِ الكبيرِ، حتَى يشتريَ عُلبةَ حلوى كبيرةً.
العصافير تهاجر بعيداً
نفخَ جنديٌّ في بوقِه، فاستيقظتِ النّجومُ، وهبَّ
جنودُ المملكةِ من نومهمْ مذعورين، واجتمعوا في فِناءِ القصرِ، وحين أطلَّ
الملكُ من الشُّرْفةِ متجهّمَ الوجهِ، أرعدتِ السّماءُ، وأبرقتْ، حتّى
ملأتِ الجنودَ مطراً وخوفَاً.
قالَ الملكُ، وهو في أقصى الغضبِ:
-"أنتم جبناءُ، ترتعدون أمامَ أعداءِ الوطنِ
كالفئرانِ. غزا الأعداءُ أطرافَ المملكةِ، وتوغّلوا كالنّملِ في شوارعِها
وساحاتِها، حتّى غدتْ مثلَ عُلبةِ كِبريتٍ، وأنتم لا عملَ لديكم إلاّ
التّآمرُ عليَّ وعلى حاشيتي. ماذا سيكتبُ عنكم التّاريخُ؟ وماذا سيقولُ؟
أيّها الوزيرُ، هؤلاء الجنودُ غيرُ مخلصين لي وللوطنِ، وهم لا يستحقّون
إلاّ الموتَ".
وهكذا سيقَ الجنودُ إلى السِّجنِ، حتّى اكْتَظَّ
بهم. همسَ أحدُهمْ في أذن آخر قائلاً:
-"في أيِّ عصرٍ يعيشُ صاحبُ الجلالةِ؟! لابدَّ أن
يستيقظَ من نومِه الطّويلِ، حتّى يرى أنّ سيوفَنا قد تثلّمتْ( )، وأنّ
طائراتِ الأعداءِ تحصدُ رؤوسَنا".
قالَ الآخرُ، وهو يتلمّسُ رأسَه:
-"هذا الملكُ قصيرُ النّظرِ، لا يرى أبعدَ من
المشانقِ والسّجونِ".
ضحكا في سرِّهما معاً، وأغفى كلٌّ منهما ليلتَه على
حُلُمٍ جميلٍ، لا سلطةَ فيه إلاّ لمَلِكِ النّومِ. وفي الصّباحِ استيقظَ
الجنودُ على قرارٍ ملكيٍّ بالإفراجِ عنهم جميعاً، لأنّ جلالةَ الملكِ عقدَ
ليلةَ البارحةِ صُلحاً مع الأعداء، فنجتْ رؤوسُهم من المشانقِ، ونجا الملكُ
وحاشيتُه من المكائدِ والدّسائسِ.
بكتْ يومئذٍ العصافيرُ، وهاجرتْ إلى بلادٍ بعيدةٍ
بعيدةٍ.
النّورس التّائه
اعترضَ نورسٌ طريقَ موجةٍ في عُرْضِ البحرِ،
فاكْفَهَرَّ وجهُ الموجةِ، وعلاه الزَّبَدُ. هاجتِ الموجةُ، وماجتْ، ولكنّ
النّورسَ لم يأبه لها، بل أمعنَ في اللَّحاقِ بها، ثمّ حطَّ على ظهرِها،
وأرادَ أن يستريحَ من عَناءِ الطّيرانِ الطّويلِ قليلاً.
صرختْ في وجهه، وقالتْ:
-"إلامَ تعترضُ طريقي، أيّها النّورسُ؟".
جَفَلَ النّورسُ، وفَزِعَ، وقالَ متلعثماً:
-"أنا تائهٌ في هذا المدى المَخوفِ، لا أعرفُ طريقاً
إلى الشّاطئ. غفوتُ هنيهةً، وحين فتحتُ عينيَّ، افتقدتُ سِرْبَ النّوارسِ.
أنا وحيدٌ، أيّتها الموجةُ، لا أبَ لي ولا أمَّ، ولا صديقَ لي سواكِ".
قالتِ الموجةُ، وهي تهيجُ، وتموجُ غضباً:
-"ابتعدْ عن طريقي، أيّها النّورسُ، وابحثْ عمّن
يحملُكَ إلى الشّاطئ، فالبحرُ كبيرٌ، والأمواجُ كثيرةٌ".
قال النّورسُ، وهو يركبُ ظهرَ الموجةِ، ويتودّدُ
إليها:
-"أنا متعبٌ، أيّتها الموجةُ، لا أقوى على
الطّيرانِ. سأكونُ صديقَكِ الودودَ، وسأحكي لكِ قصّةً جميلةً، هي قصّةُ
هجرةِ النّوارسِ من بلادِهم الباردةِ إلى بلادٍ دافئةٍ".
أزْبَدَتِ الموجةُ، وراحتْ تتقلّبُ غيظاً، وتتململُ
سُخطاً، حتّى كادَ النّورسُ أن يغرقَ، فطارَ عنها، وحلّقَ ببصرِه إلى
بعيدٍ، وهو يضربُ بجناحيهِ خوفاً وهَلَعاً، فرأى شاطئَ البحرِ، ولمحَ
سِربْاً من النّوارسِ يتطايرُ هنا وهناك، والأمواجُ تتكسّرُ على الشّاطئ
موجةً في إثرِ موجةٍ، ثمّ ترتدُّ، وتتلاشى.
من بعيدٍ..
أبصرَ النّورسُ الموجةَ، وهي تقتربُ من الشّاطئ،
وتلهثُ من التّعبِ لهاثاً مسموعاً، فطارَ إليها، وحنا عليها قائلاً:
-"لن أنسى فضلَكِ عليَّ، ولن أنساكِ ما حييتُ".
هدأتِ الموجةُ، واطمأنتْ، ثمّ تراجعتْ رويداً رويداً
إلى عُرْضِ البحرِ، وهي تترقّبُ بلهفةٍ عودةَ ذلك النّورسِ التّائهِ إلى
بلادِه يوماً ما.
دبي في 25/2/1999
أحلام سمكة سَلْمُون
قرّرتْ يوماً سمكةُ سَلْمُون أن تعودَ إلى بلادِها
البعيدةِ، فلوتْ رأسَها، وحدّقتْ بعينين دامعتين إلى الخلفِ، فلم ترَ إلاّ
نهراً دافقاً، يهدرُ ماؤه كالرّيحِ في ليلةٍ عاصفةٍ، فيملأُ القلبَ هَلَعاً
وخوفاً.
أسرّتِ السّمكةُ ما عزمتْ عليه، وراحتْ تتحيّنُ
الفرصةَ للعودةِ، ولكنّ النّهر لم يسكنْ، ولم يهدأْ. انتظرتْ يوماً، ثمّ
انتظرتْ أسبوعاً فشهراً، والنّهرُ يتدفّقُ غزيراً، ويوغلُ في السّهولِ
والوديانِ، فتبتعدُ السّمكةُ عن بلادِها أكثرَ فأكثرَ.
ضاقتْ السّمكةُ بالنّهرِ ذَرْعاً( )، فسألتْه
بحَنَقٍ وغضبٍ:
-"إلى أين، أيّها النّهرُ؟".
أجابَ النّهرُ بصوتٍ هادرٍ كالعاصفةِ:
-"هناك حقولٌ وبساتينُ عطشى، تنتظرني منذ زمنٍ
بعيدٍ".
قالتْ سمكةُ السَّلْمُونِ:
-"أريدُ أن أعودَ إلى بلادي حالاً".
قالَ النّهرُ، وهو يضحكُ:
-"سيجرُفُكِ التيّارُ إلى أمامٍ، ولن تقدري على
الرّجوعِ خطوةً أو خطوتين إلى الوراءِ".
قالتْ السّمكةُ في أسى وحزنٍ:
-"اِهدأ قليلاً، أيّها النّهرُ الودودُ، وحاولْ أن
تساعدَني مثلما تساعدُ أهلَ القرى، أينما سرتَ، وكيفما اتجهتَ".
قال النّهرُ:
-"طريقُنا طويلةٌ، والثّلوجُ على رؤوسِ الجبالَ
كثيفةٌ، تذوبُ أيّامَ الرّبيعِ، فيفيضُ الماءُ، ويتدفقُ هادراً. أيّتها
السّمكةُ الطّيبةُ، سنمضي حيثُ تتشقّقُ الأرضُ عطشاً، ويتضوّرُ النّاسُ
جوعاً، ونحن خيرٌ وحياةٌ للأرضِ وللنّاسِ. قدرُنا واحدٌ، وهو أن نسيرَ معاً
إلى أمامٍ حتّى النّهايةِ، فلا نلتفتُ إلى الوراءِ أبداً".
بكتْ يومئذٍ السّمكةُ، بكتْ حتّى فاضَ النّهرُ، وكاد
أن يُغرقَ القرى، ولكنّها ذاتَ صباحٍ أحسّتْ أنّ النّهرَ قد ضَحَلَ ماؤه
وقلَّ، فعزمتْ على العودةِ إلى بلادِها، والبلادُ خلفَها تنأى، وتبتعدُ،
فلا يبقى منها إلاّ حُلُمٌ وذكرى.
تقاوتْ سمكةُ السَّلْمُونِ، وارتدّتْ إلى الوراءِ،
وراحتْ تسبحُ عكسَ التيّار بسرعةٍ، والتيّارُ يصدّها مرّةً، ويرأفُ بها
مرّةً أخرى، حتّى قطعتْ سهولاً، واجتازتْ أوديةً.. وفي طريقِها الطّويلةِ
صادفت السّمكةُ جبلاً شاهقاً، لا يَطولُ ذِروتَه أحدٌ، فتوقّفتْ عن
السّباحةِ، وأخذتْ تفكّرُ كيف تخرجُ من هذا المأزقِ الخطيرِ؟ والجبلُ يعلو،
ويعلو أمام عينيها، حتّى يصلَ عَنانَ السّماءِ، فيتلاشى حُلُمُ العودةِ،
وينأى الوطن بعيداً. فجأةً حطَّ طائرُ غُرْنوقٍ على ضفّةِ النّهرِ، ليشربَ
من مائِه العذبِ، فلمحَ سمكةَ السَّلْمُونِ مكتئبةً حزينةً، شَحَبَ وجهها
واسودَّ، وهَزَلَ جسمها ونَحَلَ، فسألها:
-"ما بكِ، أيّتها السّمكةُ؟ أراكِ شاحبةً هزيلةً!".
أجابت السّمكةُ، والحزنُ يعتصِرُ قلبَها:
-"أريدُ أن أعودَ إلى بلادي، وهذا الجبلُ-كما ترى-
يقفُ كالجدار في وجهي، فلا أستطيعُ أن أجتازَه".
ضحكَ طائرُ الغُرْنوقِ، وأخذَ يضربُ بجناحيه سعيداً،
وقال:
-"أنا سأحملُكِ إلى الطّرفِ الآخرِ من النّهرِ خلفَ
الجبلِ".
سألته السّمكةُ بلهفةٍ وتعجّبٍ:
-"أحقّاً تستطيعُ، أيّها الطّائرُ؟! أخشى أن تستغرقَ
وقتاً طويلاً، فأختنقَ، وأنا خارجَ الماءِ".
قال الغُرْنوقُ في عزيمةٍ وإصرارِ:
-"ستكونين على الطّرفِ الآخرِ من النّهرِ في غمضةِ
عينٍ. إنّها مجرّدُ ثوانٍ، لا أكثرَ ولا أقلّ..".
قبض الغُرْنوقُ بقدميه على سمكةِ السَّلْمُونِ،
وطارَ بها بعيداً، حتّى اعتلى قمّةَ الجبلِ، ثم هوى على النّهرِ سريعاً،
وألقى السّمكةَ في الماءِ برفقٍ، وهي تلهثُ، وتتلوّى، ولمّا استردّتْ
أنفاسَها شكرتْ لطائرِ الغُرْنوقِ معروفَه الجميلَ، ومضتْ في طريقها
الطّويلةِ، تسبحُ عكسَ التيّار، وتحثُّ الخطى نحو المجهولِ.
الدّرس المشؤوم
حلّقَ عُقابٌ ماكرٌ في أعالي السّماءِ، وراحَ ينافسُ
الطّيورَ في التّحليقِ بعيداً، وحين بدا عليها التّعبُ حطَّ العُقابُ على
رابيةٍ، تتبعه الطّيورُ، وهي تلهثُ، ثمّ أخذتْ تتنافسُ فيما بينها،
وتتبارى، فقالَ طائرُ لَقْلَقٍ، وهو يقفُ على قدمٍ واحدةٍ:
-"من منكم يستطيعُ مثلي أن يقفَ على قدمٍ واحدةٍ؟".
أجابَ الصَّعْوُ- وهو أصغرُ الطّيورِ- قائلاً:
-"لا تغترَّ بنفسِكَ كثيراً، أيّها الأبلهُ، لستَ
إلاّ أعرجَ".
وأردفَ ببغاءٌ ساخراً:
-"لا شكَّ في أنّكَ تحتاجُ عكّازين، فلعلّكَ تقدرُ
على المشي جيّداً".
ثم رفع هُدْهُدٌ رأسَه عالياً، وأشار إلى قُنْزُعَةٍ
عليه قائلاً:
-"من منكم يستطيعُ مثلي أن يحملَ هذه القُنْزُعَةَ
على رأسه؟".
أجابَ نورسٌ:
-"أيّها الأحمقُ، هي مصدرُ رائحتِكَ الكريهةِ، فلا
تتعالَ بها علينا، ولا تتغافلْ".
وأردفَ غُرابٌ ضاحكاً:
-"حقّاً، إنّكَ تبدو كالملكِ المتوَّجِ، ولكنّكَ
ملكٌ بلا مملكةٍ، ونحن لسْنا رعاياكَ".
ثمّ دسّتْ نعامةٌ رأسها في التّراب، وقالتْ، وهي
تتمايل يَمْنةً ويَسْرةً:
-"من منكم يستطيعُ مثلي أن يدسَّ رأسه في التّراب
هكذا".
وحين دسّتْ النّعامةُ رأسَها في التّرابِ انقضَّ
عليها العُقاب، وقبضَ عليها بمخالبه الحادّةِ، وطارَ بها بعيداً.
جَفَلَتِ الطّيورُ، وطارتْ إلى البعيدِ سرباً
واحداً، لا يتعالى عليه لَقلَقٌ ولا هُدْهُدٌ، ولا يحتالُ عليه نسرٌ ولا
عُقابٌ. ومنذ ذلك اليومِ تعلّمَ كلّ طائرٍ منها درساً قاسياً، لن ينساه
طوالَ حياتِه.
مملكة الكراسي الخشبيّة
إلى صديقي عبد اللّطيف
الباير:
-"بُصرى مملكتك، ولا أرضى لك
أن تكون ملكاً".
دبيّ في 10/3/1999
يُحكى أن في قديمِ الزمانِ جندياً، غافلَ يوماً
الملكَ، وجلسَ على عرشه، وراحَ يصرخُ صراخاً مُدويّاً:
-"أنا الآن ملكُ البلادِ".
تردّدتْ صرختُه في أرجاءِ القصرِ، ووصلتْ أسماعَ
الملكِ وحاشيتِه الّذين فاجؤوا الجنديَّ، وهو مازالَ جالساً على العرشِ،
يرتجفُ من هَوْلِ المفاجأةِ، والجنودُ يُشهرون سيوفَهم الّلامعةَ في وجهِه،
ولكنّ الملكَ أمرهم أن ينصرفوا عنه، ويتركوه وهذا الجنديَّ.
نهضَ عندئذٍ الجنديُّ من مكانِه، فأشار إليه الملكُ
أن يجلسَ، فجلس، والسّيافُ يتراءى أمام عينيه المذعورتين شاهراً سيفه،
يهُمّ بضربِ عُنقِه، فيرتعدُ هَلَعاً وخوفاً. حاول الجنديّ أن يفتحَ عينيه،
ويرفعَ رأسَه قليلاً، فلم يستطعْ، وحاولَ أن ينهضَ من مكانِه ثانيةً، فلم
تحملْه قدماه، والقصرُ يدورُ به، فلا يهدأُ، ولا يستقرُّ.
سأله الملكُ مستغرباً:
-أتظنُّ أنّ هذا الكرسيَّ الخشبيَّ يجعلُكَ
ملكاً؟!".
أجابَ الجنديُّ، وهو يتلعثمُ:
-"هو مجرّدُ حُلُمٍ، يا صاحبَ الجلالةِ، ظلَّ
يراودني منذ صغري".
ثمُ أردفَ الملكُ ضاحكاً:
-"أنتَ الآن ملكٌ، وأنا أحدُ رعاياكَ. بمَ ستحكمُ
عليّ لو انقلبتُ عليكَ".
هبَّ الجنديُّ واقفاً، وقالَ معتذراً:
-"أستغفرُ اللهَ، يا صاحبَ الجلالةِ، ما أنا إلاّ
عبدٌ من عبيدِكَ".
قالَ الملكُ:
-"اجلسْ، اجلسْ، أيّها الجنديُّ، وقلْ لي: كيف
ستحكمُ بين هؤلاء النّاسِ الذين لا همَّ لهم إلاّ التآمرُ عليّ وعلى
مملكتي".
قالَ الجنديُّ، وهو مطرقُ الرّأسِ:
-"إنّهم-يا صاحبَ الجلالةِ- لا يستحقّون إلاّ
الموتَ، فلا رأفةَ بهم، ولا عطفَ عليهم".
قالَ الملكُ:
-"لا شكّ في أنّكَ جنديٌّ مخلصٌ لي وللوطنِ. أيّها
الجنديُّ، أنتَ منذ اليومِ وليُّ عهدي الأمينُ".
يُحكى بعدئذٍ أنّ وليَّ العهدِ انقلبَ يوماً على
الملكِ، وزجّه في السِّجنِ، حتّى ماتَ، وجلسَ على عرشِه منتشياً، لا
يفارقُه لحظةً، ولكنّ جنديّاً غافله يوماً، وجلسَ عليه، وهو يقولُ:
-"أنا الآن ملكُ الزّمانِ".
ويحكى أنّ الملكَ تلمّسَ عندئذٍ رأسَه، وهو يرى أحدَ
جنودِه يجلسُ مكانَه، وأمرَ من فوره السّيافَ أن يضرِبَ عنقَه، حتّى يكونَ
عِبرةً لغيره من الجنودِ الذين لا يروقُ لهم من كراسي القصرِ جميعِها إلاّ
كرسيُّ الملكِ.
للحريّة أفق كبير
أغفى عُصفورٌ ليلتَه، وهو يحلمُ بالحريّة، فرأى
صيّاداً، يتربّصُ( ) بسربٍ من العصافير، وجعلَ يحذّرُ العصافيرَ من
بندقيّةِ الصيّادِ، ويقولُ لها:
-"إيّاكِ والصيّادَ"
وحين نجتِ العصافيرُ، التفتَ إليه الصيّادُ، وقالَ:
-"سينامُ أولادي جياعاً".
قالَ العُصفورُ متعجّباً:
-"ضاقت الدّنيا بكَ وبأولادكَ، فلم تجدْ سوانا
طعاماً!".
وعندما استيقظَ العُصفورُ من غفوتِه مذعوراً، ألفى
بابَ القفصِ مفتوحاً، صفقَه بعنفٍ، زلزلَ الدّنيا، وأرعدَها، وطارَ بعيداً،
يحلّقُ في الأفقِ الكبيرِ.
وردة حمراء لديمة
"صباحُ الخيرِ، أيّها الصبّاحُ
أنا ديمةُ من أقصى الجنوبِ
انتظرني قليلاً
سآتي يوماً،
وأحملُ إليكَ وردةً حمراء".
قانا في 18/4/1996
من دفتر ديمة
نزلتْ قطرةُ مطرٍ على أرضٍ عطشى، والفصلُ خريفٌ،
فارتوتِ الأرضُ، وجرتِ الأنهارُ.. وسقطتْ دمعةٌ حارّةٌ من عين لاجئٍ على
التّرابِ، فنبتتْ سنبلةٌ، وتعالت نخلةٌ.. ووقعتْ قطرةُ دمٍ من شهيدٍ على
حقل ألغامٍ، فأزهرتْ وردةٌ حمراءُ. وحين نهضتْ ديمةُ من نومها أشرقتِ
الشّمسُ.
بَهَرَتِ الشّمسُ عيونَ الأعداءِ، فسدّدوا بنادقَهم
إلى صدرها، وأخذوا يطلقون النّارَ وابلاً، فأصابتْ رصاصاتُهم الطائشةُ
ديمةَ، وهي في طريقها إلى المدرسةِ، وأجهزَ واحدٌ منهم عليها( )، فهوتْ
ديمةُ على الأرض، وسال دمُها على التّراب أنهاراً، نبتتْ على ضفافها ورودٌ
حمراءُ، والعدوُ يطلق النّارَ على الشّمس الّتي غابتْ توّاً خلف ظهور
الرّجالِ.
فتى لا يعرف المستحيل
(1)
قال الرّاوي: في مملكةٍ من ممالكِ الزّمانِ وسالف
العصر والأوانِ كان ما كان.
يُحكى أنّ ملكاً من الملوك شاخ، حتّى بلغ الثّمانينَ
من عمره، فأشار عليه حكيمٌ أن يولّيَ المملكةَ أحدَ أولادِه الثّلاثةِ،
وإلاّ سيتربصُ( ) بها الأعداءُ، وسينقضّون يوماً عليها فريسةً سهلةً،
فناداهم الملكُ العجوزُ على عَجَلٍ، وأمر الحكيمَ أن يختبرَ قوّةَ عزيمتهم
وسدادَ رأيهم( )، فالتفتَ إليهم الحكيمُ قائلاً:
-"الملكُ منكم مَنْ يُقْدِمُ على عملٍ مستحيلٍ،
يجعله وليّاً لعهدِ مولاي الأمينِ".
تهلّلتْ وجوهُ الأمراءِ الثلاثة فرحاً، واستأذنوا
الملكَ أن يمهلهم ثلاثةَ أيّامٍ، يفكّرُ خلالها كلُّ واحدٍ منهم بعملٍ ما،
فوافق الملكُ على مَضضٍ( )، وأمرهم بالانصرافِ إلى شؤونهم، وحين هَمّ
الأمراءُ بالخروج من المجلس ناداهم من جديدٍ محذّراً:
-"أمامكم ثلاثةُ أيّامٍ، وإلاّ سيحيطُ بنا الأعداءُ
كما يحيطُ السِّوارُ بالمِعْصَمِ".
انحنى الأمراءُ الثّلاثةُ، وخرجوا إلى قصورهم
واجمين، يفكّرُ كلٌّ منهم بعملٍ عظيمٍ، يحظى برضى الملكِ، فالكبيرُ علاءُ
الدّينِ يحلمُ منذ صغره أن يصبحَ ملكاً، فكان يضع تاجَ والدِه خِلسةً على
رأسه، ويتباهى به أمام إخوته الصّغار، والأوسطُ صلاحُ الدّين يحلم أن يصبحَ
وليّاً للعهد، فكان يرفع صوْلجانَ( ) الملك في وجهِ الصّغيرِ عزِّ الدّينِ،
ويأمره أن ينحنيَ له، فينحني الصّغير صاغراً( )، وهو يحلمُ أن يغافلَ يوماً
والدَه، ويجلسَ مكانَه على عرشِه العاجيِّ الوثيرِ.
(2)
قال الرّاوي، وهو يقلّبُ كتاباً أمامه، اهترأتْ
أوراقُه، واصفرّتْ:
في صباحِ اليوم التّالي أتى الأميرُ علاء الدّين
القصرَ لاهثاً، ودخل المجلسَ بلا استئذانٍ، فلامه حكيمُ المملكةِ، وأمره أن
يستأذنَ الحاجبَ في الدّخول على الملك، وحين وقف الأميرُ بين يدي الملكِ
قال:
-"أنا أستطيعُ- يا صاحبَ الجلالةِ- أن أقلبَ
النّهارَ ليلاً".
ابتسم الحكيمُ في وجهِ الملكِ المتجهّمِ( )، وسأل
الأميرَ ضاحكاً:
-"كيف ستقلب النّهارَ ليلاً، يا سيّدي الأمير؟".
أجاب الأميرُ- وهو يرفعُ قبضتَه في الوجوه- قائلاً:
-"سآمرُ جنودَ المملكةِ الشّجعانَ أن يلقوا الشّمسَ
في زنزانة".
غضبتْ يومئذٍ الشّمسُ غضباً شديداً، وغربتْ باكراً،
فساد المملكةَ ظلامٌ دامسٌ. خاف عندئذٍ الملكُ أن يباغتَ الأعداءُ
المملكةَ، فأمر- والشّمسُ تشرقُ بوجهٍ ساحرٍ- بإغلاق السّجونِ في وجه ذلك
الأميرِ المغفّل.
وفي اليوم الثّاني جاء الأميرُ صلاحُ الدّينِ قصرَ
والدِه الملكِ، ودَلَفَ إلى مجلسه مستبشراً، فوجد الملكَ وحكيمَ المملكةِ
في انتظاره، ألقى عليهما السّلامَ، وأردفَ قائلاً:
-"أنا أجرؤُ- يا صاحبَ الجلالةِ- أن أمنعَ نهرَ
المملكةِ من الجريان".
سأله الحكيمُ، وهو يبتسمُ:
-"كيف ستمنعُ النّهرَ من الجريان، يا سيّدي
الأمير؟".
أجاب الأميرُ- والملكُ يكادُ يتميّزُ من الغيظ( )-
قائلاً:
-"سأقيم في وجه النّهرِ سدّاً منيعاً".
ضحك النهرُ في سرّه ضحكاً خبيثاً، وراح يترقّبُ
اليومَ الذي ينفّذُ فيه ذلك الأميرُ المغفّلُ ما عَزَمَ عليه، لأنّه عندئذٍ
سيخزُنُ وراءه ماءً غزيراً، يروي به الفلاحون حقولَهم وبساتينَهم بعد أن
كان يذهبُ هدراً في عُرْضِ البحرِ.
وفي اليوم الثّالث حضر الأميرُ عزُّ الدّين المجلسَ،
وطأطأ رأسه بين يدي والدِه الملكِ، فأمره الحكيمُ أن يرفعَ رأسه قليلاً،
ويعرض ما عنده من الرّأي أمام صاحبِ الجلالةِ، فقال الأميرُ:
-"أنا- يا صاحبَ الجلالةِ- أُصْلحُ ما أفسده الدّهرُ
بيننا وبين الأعداءِ".
فسأله الحكيمُ متعجّباً مستغرباً:
-"كيف ستصلح ما أفسده الدّهرُ بيننا وبين الأعداء؟
بيننا وبينهم دمٌ لا ماءٌ، يا سيّدي الأمير!".
أجاب الأميرُ، وهو يُعرِضُ( ) بوجهه عن وجه والدِه
المتجهّمِ:
-"نَعْقِدُ معهم صُلحاً".
انتفض الملكُ كعصفورِ ذبيحٍ، وطلب من حكيم المملكةِ
أن يخرجَ هذا الأميرَ الجبانَ من القصر حالاً، ثمّ أمر بنفيه إلى جزيرة
نائية، لا إنسَ فيها ولا جنَّ.
(3)
قال الرّاوي، وهو يطوي صفحةً من كتابه الأصفر:
تبرّأ الملكُ من أولادِه الثّلاثةِ، وأوصى الحكيم
ألاّ حقَّ لهم في مُلْكٍ ولا إرثٍ، وأرسل إلى الرّعية رسولاً، يطوف بهم
شارعاً شارعاً، وينادي فيهم عالياً:
-"أيّها الناسُ، مَنْ يُقْدِمْ على عملٍ مستحيلٍ،
يُرضي به وجهَ اللهِ وجلالةَ الملكِ، يكنْ وليّاً لعهدِ مولاي الأمين".
سمع النّداءَ شبابُ المملكةِ ورجالُها، وراح كلّ
منهم يفكّرُ بعملٍ ما، وكلّما دخل أحدُهم القصرَ رجع خائباً، ولكنّ فتى
منهم- وهو المنتصرُ بالله- ألحّ على الحاجب أن يقابلَ جلالةَ الملكِ على
انفرادٍ، فلم يأذن له، وظلّ هذا الفتى يتردّدُ على القصر أيّاماً، حتّى سمع
الملك بقصّته، فطلبه، ورحّب به في مجلسه قائلاً:
-"قل ما عندك، يا بنيّ".
وقف المنتصرُ بالله بين يدي الملكِ رابطَ الجَأْشِ
قويَّ العزيمةِ( )، وقال له:
-"إذا كان أبناؤك- يا صاحبَ الجلالةِ- قد خذلوك،
فأنا يتيمٌ، ليس لي أبٌ سواك، أضع عمري بين يديك، لتبقى شاباً قويّاً، أنا
لا أعرف المستحيلَ، يا سيّدي".
لم يتمالك الملكُ نفسَه، فأقبل- وعيناه تَذرفان- على
الفتى، يحتضنه كابنه، ويربّتُ على كتفه، ثمّ أجلسه إلى جانبه، واستدعى
كاتبَ المملكة، وقال له:
-"اكتب: نحن- ملكَ الملوكِ- قرّرنا أن نتنازلَ عن
عرشِنا الجليلِ لفتى الفتيانِ المنتصرِ بالله".
(4)
قال الرّاوي، وهو يغلق كتابَه الكبيرَ أمامه:
وهكذا تنازل الملكُ عن عرشه لهذا الفتى، وزوّجه من
ابنتِه الوحيدةِ بدر البدور التي سُرعان ما طلبتْ منه العفوَ عن إخوتها
الثلاثة، فرفض طلبَها، لأنّ الملك الرّاحل كان قد أوصاه- وهو في النَّزْعِ
الأخيرِ( )- أن يتركَهم وشأنَهم في منفاهُم البعيدِ البعيدِ.
دبيّ في 30/12/1999
سرّ الرّياح الكبير
وقف شرطيٌّ في وجه الرّياحِ، والرّياحُ تعصِفُ
بالأشجار، فلا تَذَرُ على الأرضِ منها زيتونةً ولا نخلةً، وسألها مستغرباً:
-"ماذا أصابك، أيّتها الرّياحُ؟".
أجابتِ الرّياحُ، وهي تجهشُ:
-"أنا حزينةٌ، أيّها الشّرطيُّ".
لم يسألِ الشّرطيُّ الرّياحَ عندئذٍ عن سرِّ حزنِها،
لأنّه كان قد قرأ في الكتبِ القديمةِ أنّ الرّياحَ لا تحزنُ ولا تغضبُ إلاّ
إذا استسلم النّاسُ للأعداء.
دبيّ في 31/12/1999
كلام من ذهب
خرج تمثالٌ يوماً عن صمته الأزليّ( )، وصرخ في
الوجوه قائلاً:
ـ "ليس السّكوتُ من ذهبٍ ولا الكلامُ من فِضّةٍ".
أرجف صراخُُه التّماثيلَ الأُخرى في المُتْحف، وأرعد
أطرافَها، فتململتْ، وكأنّ الرُّوحَ قد نُفختْ في صدورها، وحين سمع شرطيٌّ
ما قاله التّمثال أطبقَ فمَهُ بيده، وقال له محذّراً:
ـ "اسكتْ، فالسّكوتُ أنفعُ للتّماثيل. من سيصدّقُ ـ
أيّها الغبيُّ ـ أنّ تمثالاً يخرجُ عن صمتِه؟!".
حمل الشّرطيُّ التّمثالَ من مكانِهِ، ورماهُ جانباً
في ركنٍ مظلمٍ من أركانِ المُتحفِ، فتكسّرَ قطعةً قطعةً، ولمّا رأتِ
التّماثيلُ الأخرى ما جرى للتّمثالِ الأكبر انزوتْ في أركانها، ولاذت منذ
ذلك الزّمانِ البعيدِ بالصّمتِ.
دبي في 31/12/1999.
(للتعليق
والمشاركة بالندوة الخاصة حول أدب الطفل)
|