أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

الكاتب: عدنان كنفاني-فلسطين

       
       
       
       
       

حوار أدبي

غسان ... المعلم

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

مواليد يافا ـ فلسطين

مهندس ميكانيك

أديب وكاتب وصحفي

عضو اتحاد الكتّاب العرب

عضو اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين "فرع سورية" ومقرّر جمعية القصّة فيه.

 

صدر له:

غسّان كنفاني، صفحات كانت مطويّة.. سيرة

حين يصدأ السلاح.. قصص

قبور الغرباء.. قصص

على هامش المزامير.. مجموعة قصص قصيرة (ومترجمة للإنكليزية)

بِدّو.. رواية "وهو اسم قرية فلسطينية تقع شمال غرب مدينة القدس"

أخاف أن يدركني الصباح.. قصص

رؤى.. قصص مشاركة مع مجموعة قاّصين

بروق.. قصص مشاركة مع مجموعة قاصّين

أطياف.. قصص مشاركة مع مجموعة قاصّين

مسرحيّة وطنية "مونودراما" بعنوان "شمّة زعوط"

رابعة.. رواية

الحرية 313 .. رواية

حبيبتي ما اسمها.. رواية

مجموعات قصصية وروايات وديوان شعر تحت الطبع

ويكتب أيضاً الشعر المقالة والدراسة والبحث وينشر في الصحف والمجلاّت والدوريات المحليّة والعربية والأجنبية.

دمشق/ سورية ص. ب 10481

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

من سرق الكيس الأصفر

الطابق السابع

ريختر، ومقاييس أخرى

أخاف أن يدركني الصباح 

وتطير العصافير

وجعي هو المكان

بارود

وطن وامرأة

 

 

أخاف أن يدركَني الصباح

 

 

مهداةُ إلى صديقي "أبو عرب"

الذي ما زال في الأسر..

 

هل كان الأمرُ يستحق كلََّ هذا العناء.؟

تحدّثي عنّي يا شهرزاد، فأنا الحكاية..!

أذكر أمي وأغنياتها المخنوقة، تطوي قنباز أبي المقصّب عند عودته قبيل كل مساء، وتسجّيه برفق كأنه قطعة من حكاياتك، فوق صندوق خشبي محدّب.

ثم تغسل حطتّه البيضاء الحريرية، وتبقى واقفةً على عتبة باب الدار تنفضها في وجه الريح حتى تجّف، تعلقُّها على المسمار.. فتنصبّ برّاقةً مثل شفرة سيف مسرور..

تفعلُ كذلك كل مساء..

يجلس والدي على حجر أسود عريض، مزروع منذ قرون في مكانه خارج باب الدار..

يصفق بيديه، فتهبط رفوف حمامِ، تملأ ألوانها الزاهية الساحة الترابية، ينثرُ حبوب الذرة.. ويبدأ صراعُ حميم بين الطيور الأليفة، ويضّج الفضاء بصوت الهديل..

نخرج متراكضين وراء بعضِنا يأخُذنا حماسُ اللعب، فتفزعُ الطيورُ إلى حين، تقفزُ مرتفعةً، تدركُ أن الأمر لا يستحق، تحطُ ثانيةَ بين يديه..

يتبعنا صوتُه الأجش..

- اقلب تقلب ترضع..

فنتوارى بين أشجار الخروب البعيدة حتى نرى شبحه المسربل بالأبيض يغيب داخل الدار، ندركُ أنه سيدخل المضافة، يحمّص القهوة، ويستعدُ لاستقبالِ الرجال..

يحمل بين يديه أخي سعيد وسنوات عمره الثلاث، يسجّيه على فراش رقيق، يحرصُ أن يستقبلَ وجهه الجنوب، ويهيل على جسده حطّتَهُ البيضاء، يغلق باب الغرفة الأخيرة بالمفتاح، تلحقه أمي تضرب على صدرها، يمسكها، يكتم صوتها بكفّ يده الكبيرة..

- إذا سمعتُ صرخةً واحدةً.. أنت طالق..

كان القيد ثقيلاً يا شهرزاد..

كأنني ثور "أبو حسن" الذي جنَّ فجأة، وراح يطعن بقرنيه كل عابر سبيل..

يومها شدّوا قوائمه بقيد واحد. أربعة أساور من حديد، تجمعها جنازير قصيرة.

مطويّ على صندوق أمي المحدّب..

أطرافي الأربعة تتوجّع، وتبصقُ دماً وصديداً أصفر اللون..

كنت مثل قطّة.. أنطوي تحت نافذة غرفة أمي.. يتسرّب لهاثها إلى أذنيّ، أسمع أنينها المكبوت، وتلفحُني بين الفينة والأخرى أنفاسُها الحرّة..

تهمس ولا تجرؤ حتى على الحزن..

- سعيد مات يمّا.. بدال ما يحضروا طهوره، يحضروا جنازته..

وتنهال على صفحة وجهها دموع ما رأيت مثل غزارتها كلَّ عمري.. شممتُ رائحََها ممسّكةً تنبعث سخيّةً من "مناسف" البرغل والرز..

يومها لم أبكِ..

بقيت صاحياً.. لم أنم، وحين شقَّ صوت المؤذن حلكة العتمة، يفسح الطريق أمام زحف فجر جديد، أدركتُ أن الشمس ستستبيح بأشعتها الصفراء الساحات والدور والبيادر كما في كلِّ صباح..

صوته يضرب أذنيّ في اللحظات الحالكات..

- البكا للنسوان يابا..

لو قلتُ آه واحدة، أعطيه انتصاراً ليس له مثيل..

صدّقيني، لقد ضاقت سبل المعركة، ولم يتبقَّ في ساحتِها إلا أنا وهو.. أنا أو هو..

كنت أحمل بارودة، أعلّق على ماسورتها صبوتي، وتحدّثُني كما حكاياتِك، تركّبُ انتصاري ليلة إثر ليلة فأراه بارقاً مشعّاً.. وتحمل همّي وحُلمي..

اليوم أحملُ قيدي..

تحسستُ أطرافي فوجدت فيها بقيةَ من حياة، تقول لي:

- ما زلت هنا، وما زال هنا، والمعركة مفتوحة..

عيناه الزرقاوان الغائرتان، وفمُه الصغير الصارم الخالي من الشفتين كأنه يرجوني، يقسم علي لو أقول آهِ واحدة، ليخلصّني من العذاب..

كيف أعطيه تلك المتعة، وذلك النصر.؟

كان القيد ثقيلاً يا شهرزاد..

حملتُه ثلاثين يوماً، صار قطعةً مني.. مثل يدي وساقي ورأسي..

رفاقي يحشونه خلسةً بالخرق، لتفصل بين حوافيه الحادّة ولحمي..

لو قلت لك لن تصدّقي، لو ينزعونه عني سأفقد إحساساً رائعاً..

أراه يعتصر خيبتَهُ وهو يتابع خطواتي المطّوية تحت ثقل جسدي، تقول لي شفتاهُ المعصورتان حتى الاختفاء..

- لو تقول آهِ واحدة..

كان النطعُ أقرب إليك من الوريد، جمالُك يا شهرزاد ألقى بك تحت شفرةِ السيف..

ذلك المأفونُ يملك كلُّ شيء حتى رقاب الناس، وأنت في ثوبك الشفيف، ورهبَتِك وخوفك..

كيف خلقت سبيل خلاصك.. وأيقظتِ شهوتَهُ ألفَ ليلةِ وليلة.؟ ثم أجهزتِ عليه..

كان الوقتُ مساءً والشمسُ تودّع النهار على حدود الأفق، يركض بفرح، يحسُّ أن الحفلَ وهذا الجمهور يعنيه، تتعثّر خطواته الصغيرة، يسقط في الحفرة المعدّة لشواء الذبائح، يأكُلُهُ الجمر ويموت..

هل يستحق الأمر كل ذلك العناء.؟

يوم غلبني نزيفُ القيدِ واستهلكَ دمي، حملوني إلى المستشفى.. قالوا وهم يحسبون بأنَهم يزّفون لي البشرى، إنهم استبدلوا بمدير السجن الذي لا يحسنُ الترويض، ضابطاً جديداً..

نزعوا القيد من أطرافي، جاهدوا ليقتلعوه من لحمي الذي انغرز فيه، وترك مكانه حتى اليوم ندباً وبثوراً زرقاء وسوداء..

جلس قبالتي ينقر بعصاه القصيرة على الطاولة، ينظر في وجهي بقلق، ويقضم غيظه، ثم همهم:

- تراجعا عن إعلان الإضراب.. أرسلنا طاهر إلى سجن الرملة.. ومحمود إلى مستشفى الهداسا..

ازدادت سرعة نقرات عصاه على الطاولة، كأنه يوصل إلى لهفتي رسالةً واعدة.. ثم دفعها بقوة حتى لامست صدري..

- ماذا عنك..؟

يقولون إن سجن الرملة "للأوادم"، نسمع كثيراً عن حياة الترف التي يعيشُها المعتقلون فيه قياساً إلى المعتقلات الأخرى، ونعرف أيضاً ماذا يعني قضاء مدّة اعتقال في مستشفى..

الناس تنتظر شيخ البلد ليطهّر الصبي..

يومها رأيت أبي يمشي لأول مرة بانكسار وراء نعش سعيد، يخفي قنبازه المقصّب تحت عباءة سميكة، ويلّف رأسه ونصف وجهه بحطّة منقطّة غامقة اللون..

لأنني من أقدم المعتقلين، كنت واحداً من ثلاثة ننظّم حركتهم، اتفقنا على إعلان إضراب شامل واعتصامِ داخل القواويش في الخامس من أيار القادم، المصادف لأول زيارة يقوم بها وزير الأمن، ومدير السجون، والمحافظ ومجموعة من مرافقيهم..

كنت أعلم أن تراجعي يرسلني كما أرسل رفيقيّ إلى سجن "خمس نجوم.." أو إلى مستشفى مكتظّ بملاءات بيضاء ناصعة، وستائر وردية، وحسناوات..

ما قيمةُ لياليك يا شهرزاد.؟ ما قيمة ألف جرعة هوان انسفحت على جسدك، في ألف ليلة..

إن توقفّتْ حكاياتك، تموتين..

كيف أستطيعُ التراجع عن قدري واختياري ومعركتي.؟

هل أجرؤ أن أفعل وأغنيات أمي المخنوقة ببحّتها الجارحة تستحلفني.؟

ظهيرة اليوم التالي، هطلت مع انتشار الخبر المفجع غيمات ذهول فوق رؤوس الناس، وليس لهم والدهشة تمسك بتلابيبهم إلا ثوابُ مرافقة الجنازة.. يوارونه الثرى، ثم ينفضّون.. يعصرهم الحزن إلى بيوتهم وقراهم القريبة..

بعد أيام مات أبي.. قالوا انفطر قلبه.. وقتله..

حملوني فوق أكتافهم.. رفعت يدي، وصرخت:

- صامدون حتى سقوط المشروع الصهيوني..

كان القيد بانتظاري يا شهرزاد..

أخرجي يا شهرزاد من صمتك الأبدي، وتحدّثي عنّي، فأنا الحكاية..

أنا شفرة سيف مسرور المشرعة وراء الحلم، أنا القدر الآتي إذا نضب نبع خرافاتِك..

مثلما انقضوا على قبيلتك الساكنة في قلب السحاب، وانتزعوك.. قالوا أنت من خنت فراشَهُ، واستبحتِ فحولةَ سواه، وأنت أطهر من صهيل مهرة بكر.. عرّوك حتى العظم، ثم صلبوك.. أي ثمن تدفعينه عن خيانة غيرك.؟

أعادوني إلى المعتقل بعد رحلة الشفاء، قادوني مباشرة إلى مكتبه الوثير..

حسبتُه من أبناء العمومة، يحمل سمرتي، ويتحدث لغتي.. بادرني يقول من بين أسنانه:

- أنت "أبو الهيجا" إذن..؟

ضرب على صدره بخيلاء، وأطلق صوتاً كفحيح أفعى:

- يقولون إنني الأفضل..

كان يتحدث بثقة، يحاولُ أن يعصرَ حاجبيه، فيلتويان كعقرب، يضرب بيده الثقيلة على الطاولة، فيهتز شاربه الكثّ، وينفرج عن شفتين غليظتين:

- أستطيع أن أقذفك إلى جهنّم.. هكذا.. (وقذف العصا إلى فوق).. لكنني لن أفعل قبل أن أحطّم هذا الرأس.. (وطعن بإصبعه صدغي).. وأجعل منك أمثولة..

وكأنه رتّب الأمر مسبقاً.. دخل علينا رجال غلاظ، قادوني إلى الزنزانة رقم "خمسة"..

تسع وتسعين ليلةً، يا شهرزاد.. وأنا مطويّ مثل قنباز أبي..

السقف أقرب إلى مستوى كتفيّ.. والمساحة الضيّقة التي تكاد تتسّع لغفوتي، تشاركني فيها حنفية ماء معطوبة وبالوعة صفراء، عرفت لونها من ثلاثة ثقوب في أعلى الباب الحديدي، يراقبونني منها، وأراقبهم..

يا شهرزاد.. وفتحة مربّعة في أسفله لا تتسع لأكثر من دائرة صحن ألألمنيوم الطافح بالبرغل، والمغطى برغيف مقدّد، يزحف نحوي كل مساء، يحمل معه بصيص ضوء تعرفّت منه على مدى تسع وتسعون ليلة تفاصيل أصابعي المتصلّبة، وقشور قبيحة تتعربش أطرافي خلفّتها مقابض القيد القديم..

أسمع وقع خطواته، يدُقّها بقوة على الأرض، فأقفز.. أراقبه من الثقوب حتى يقترب، فأخفي رأسي.. أعرفُ أنه ينظر إلى الداخل ولا يرى شيئاً.. يضرب الباب بعصاه، ليطمئن على وجودي حياً، فأرسل له صوتي..

- يمّا مويل الهوى يمّا مويليا.. ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا..

تبتعدُ خطواته، فأحسُّ بنسمة انتصار تقبّل وجهي..

صدّقت يا شهرزاد كيف تعودت المكان طيلة ألف ليلة وليلة.. وذلك الأفّاق يسترسل بوعد الخاتمة، والسيفُ مسلط..

صدّقت كيف تراكمين نصرك ليلة إثر ليلة..

همس لي حارس الزنزانة:

- زيارة لك.. 

فجأة فُتح الباب السميك، فأرسل صريراً كثيفاً، كان الضوءُ مبهراً، فأطبقتُ جفنَيّ..

جلستُ أمامه، أكاد لا أرى منه غير بذلته المبرقعة.. وأشعرُ بطيف ابتسامة تتعلّق بوجنتيه المتوردتين، وشاربه الغزير:

- سأسمح لك بزيارة..

سكتَ قليلاً وكأنه ينتظر فرحي، ثم تابع:

- إذا صرت "آدمي" أعدك بتكرار ذلك..

بعد ثلاث عشرة سنة.. تزورني أمي..

هل تفرحين يا شهرزاد.؟

حين تسرّب اسمي بين جداول المعتقلين، ردّتني الحياةُ إليها.. نَزَفَتْ فرحَتَها على عتبات مراكز الصليب الأحمر، وضباط الأمن، وحصلت على تصريح زيارة..

تحسستُ أطرافي ورأسي، وجدتُ أنني ما زلت، ورأيت أنه ما زال أيضاً، والمعركة مفتوحة..

وقفتُ يا شهرزاد..

كنتُ مطويّاّ مثل الحلم الموشّى بالقصب.. لكنني جاهدت ووقفت.. خطوت خطوتين في طريقي إلى الباب..

صوتي ينزلق فوق لساني، صلباً كأنني أبدأُ الآن..

- أمي ماتت من زمان..

 أبي يربّت على كتفي ويتمتم:

- البكا للنسوان يابا..

وقبل أن أغيب وراء الباب.. ركض ورائي صوته المعبأَ بالشك والدهشة:

- آمنة بنت صايل الزينات.؟

تريثت لحظة، حاولت رفع قامتي قدر ما أستطيع، وحرصت على أن يصل صوتي نقياً لا تخالطُه قطرات من عبرات، أحسست بطعمها المرّ يجرح حلقي..

- آمنة بنت صايل الزينات.. أمي.. ماتت من زمان..

*  *  *  *

بيني وبين دارنا وبرج الحمام وغابة الخروب وقبر سعيد.. جدار، وشريط، وحقل ألغام..

على جانبيه بزّات مبرقعة، وبواريد ثقيلة تترصّدني إن تقدمت خطوة..

وأنا طليق..

قالوا.. هنا حدود وطنِك الجديد.!

كيف أفهم هذا الهراء.؟

يلوح لي قنباز أبي المقصّب من نافذة دارنا الشرقية، وصوت أمي المبحوح يزّف أغنية وهي تنفض حطّته الحريرية، وهديل الحمام يشقّ صمت الأفق..

 دلّيني يا شهرزاد..

كيف أنجو من هذا الاختناق.؟

 

 

ريختر، ومقاييس أخرى

 

 

تدور الغرفة بي. أحسب أن السرير يروح ويجيء، فأغرز وجهي في الوسادة..

تقفز أمامي كلمات سمعتها صدفة من عالم  ألمعي استضافته محطة تلفزيونية ليتحدث في ندوة علمية عن الظواهر الطبيعة المختلفة، وذلك بمناسبة يوم الكسوف الكبير.. فاستفاض صاحبنا في سرد تفاصيل دقيقة وصغيرة عن المضار التي يمكن أن تصيب من ينظر ولو للحظة إلى منظر الكسوف نادر الحدوث لأكثر من مرات معدودة في حياة الإنسان..

وقد عرج بحديثه متطوعاً للتحدث عن الزلازل..

يومها أتى على ذكر معلومات كثيرة ودقيقة، وأدلى بنصائح وتعليمات أكثر في سبيل اتخاذ أسباب الحيطة والحذر، لكنه لم يستطع أن يعطي تعريفاً محدداً، ولا تفسيراً مقبولا،ً ولا معلومة واحدة يستدل منها، متى يمكن توقّع حدوث زلزال.

ولم يفته لفت انتباه المستمعين والمشاهدين الكرام إلى أن بعض الحيوانات "الطيور بشكل خاص" تشعر ولأسباب مجهولة "غريزية على الغالب" بوقوع زلزال قبيل لحظات من وقوعه، وليس أكثر، داعماً نظريته بذكر الكثير من الإشارات التي تدلل على ذلك، كالحركة المضطربة وغير المألوفة التي يفتعلها الطير وكأن مساً من الشيطان أفقده صوابه..

بينما لا يستطيع الإنسان برجاحة عقله، وتصنيفه الأرقى بين المخلوقات، التكهن بوقوع زلزال، إلا في اللحظة التي  تهتزّ فيها "الثريا" المعلقة في سقف بيته..

أشار إلى الثريا الثمينة المعلقة فوقهما في الاستديو الفخم..

ثم أطلق ضحكة سخيفة..

ماذا لو أنني أنظر إلى السلك المعلّق في سقف غرفتي، يطبق آخره كحبل مشنقة على عنق مصباح قوة إشعاعه لا تزيد عن 60 شمعة.. أراقبه وهو يهتزّ كذيل إبليس.!

لكنني صممت أن لا أفعل..

أطبقت بقوة أكثر على جفنيّ، وغرزت وجهي في الوسادة..

زلزال قوي سجل ستة درجات على مقياس ريختر ضرب ساحل المكسيك..

زلزال آخر سجل درجة أعلى "لم يعلن عنها لأسباب سياحية على الغالب" ضرب وسط تركيا، وأتى على عشرات القرى..

الضحايا بالمئات، والخسائر تقدّر بملايين الدولارات..

زلزال في جزيرة يابانية، سجل سبع درجات على مقياس ريختر.. الخسائر ماديّة فقط..

حتى الطبيعة تحارب الفقراء.!

فأنا لم أسمع يوماً أن فيضاناً ابتلع قصراً لملك، أو أن حمم أحد البراكين التهمت صالة اجتماعات مجلس رسميّ، ولا صاعقة ضربت هوائي إذاعة تبث على مدار الساعة أخبار الإنجازات الخرافية التي حقّقها هذا الزعيم أو ذاك..

لم أسمع أن غضب الطبيعة بأشكاله المختلفة طال أغنياء أثروا من رشوة أو سرقة، ولم أسمع أنه قضى على أحد من المخططين الاستراتيجيين لدمار الشعوب، ولا على أحد من اللاعبين في ملاعب السياسة وتصاريفها العجيبة والخبيثة..

ترى هل يملكون تلك الحصانة.؟

الآن سيحتدم السباق بين ناقلي الأخبار، ومراسلي وكالات الأنباء العالمية، وملوك الإعلام، أصحاب المحطات التلفزيونية الفضائية واسعة الانتشار في العالم..

يرسلون رجالهم على أجنحة السرعة، يحمّلونهم الكاميرات المتطوّرة، والفتيات الجميلات المغناجات، مع ميكروفوناتهم، وأفلام الدعايات، يتقاطرون خفافاً وثقالاً إلى موقع الحدث الطازج، سعياً محموماً لتحقيق سبق إعلامي، يبثّونه بعد لحظات على الشاشات العالمية بالصوت والصورة..

إشارة تبرز على زاوية الشاشة الفضيّة تقول "خبر عاجل" ويبدأ المذيع الوسيم بالإعلان عن حدوث هزّة أرضية اجتاحت بقعة أرض فقيرة من أرض الله الواسعة، سجلت......... درجة على مقياس ريختر.!

بعد لحظات ستتهاوى الجدران علينا، ويسقط السقف فوقنا، وتتناثر أغراض البيت وحجارته تحمل مزقنا ولحمنا..

ماذا أفعل عندما تأتي زوجتي من الغرفة المجاورة.؟ 

تحمل أطفالها الثلاثة والرعب ينضح من أطرافها، ويقفز الفزع مختلطاً على لسانها مع فيض كلمات متلعثمة ترجوني أن أفعل شيئاً.!

قبل قليل سمعت نشرة الأخبار..

ورأيت حدائق ومنتزهات، وقصور ريفية، وقاعات وردهات..

رأيت عن بعد وكأن عدسات كاميرات المصورين تسرق رؤوسهم من بين فروع الأشجار الكثيفة.. وجوه طافحة بالابتسام، وسواعد تشتدّ على بعضها، وبروتوكولات، ومجاملات..

تساءلت والدهشة تكاد تعقد لساني..

ترى ماذا يفعلون، وعلى أي أمر يتفاوضون، وبلسان من يتحدثون، ومن يمثّلون.؟

لماذا لم يسألني أحد.؟

وأنا في ركني هنا، على بعد شاسع،  أترقّب زلزالاً يشحنني إلى عالم أفضل أو أسوأ أنتظره الآن، وليس لي من أمري شيئاً..

ألا يستطيع هذا الإعلام المعجز، أن يشرح لي حقيقة ما يجري.؟

هذا القادر بوسائله المدهشة على نبش الدودة من قلب الحجر الصلد، والحريص على مطاردة راقصة جميلة ورخيصة، يحصي عليها حركاتها وسكناتها، سهراتها وعشّاقها، آخر مايوه مثير تلبسه، وأحدث صرعات الملابس الفاضحة التي تبتكرها أرقى صالونات "الفضيلة" في العالم..

هذا الإعلام لماذا يحرص على أن يقول ما يجعلني أعيش هموماً جديدة على الدوام ليست لها علاقة بهمّي أو بمشكلتي الأولى وإفرازاتها..

أبو سيّاف يحتجز رهائن.!

طائرات أمريكية وبريطانية تقصف راداراً عراقياً تجرأ ورصد تحرّكها في سمائه الخاصّة.!

متطرفون إسلاميون يذبحون عائلة من سبعة أشخاص في ريف الجزائر.!

فصيل سوداني ديمقراطي يطالب بالانفصال عن السودان.!

ليبيا تدعو لإقامة ولايات متحّدة إفريقية.!

وفود رفيعة المستوى تواصل لليوم العاشر اجتماعاتها المكثّفة تحت مشعل الحريّة.! 

قلت.. النوم أفضل.!

حملت الوسادة رأسي، وبدأت فيضانات كاسحة تهزّني شيئاً فشيئاً..

كأن الأرض تدور بي، كأن الزلزال قادم..

فجأة قفزت من ذاكرتي صورة المساعد "أبو سرّي" رئيس المخفر السابق في حيّنا، ذلك الرجل القصير السمين دائم الابتسام، الذي ابتدع أسلوباً عجيباً لفضّ النزاعات المستفحلة والعميقة بين أفراد عائلات المنطقة التي تقع تحت سلطان مخفره.

فكلما حصلت مشاجرة بين طرف وآخر يرسل دورياته للقبض على رؤوس عائلات المتخاصمين، وهم ليسوا بمتخاصمين بالأصل..

يزجّهم في النظارة، ولن يطلق سراحهم حتى يعلنوا المصالحة وتقبيل الشوارب فيما بينهم، بينما تبقى الخلافات والمشاجرات مستمرّة على أشدّها بين المتشاجرين أنفسهم..

وهكذا في كل مرة..

ما كان يقع في دائرة استغرابي، أن سلوكه ذاك كان على الدوام يلقى الرضا والاستحسان عند رؤسائه، وعند أرباب العائلات أنفسهم..!

تركت زوجتي قبل قليل تتابع الحلقة الـ 120 من مسلسل تلفزيوني مكسيكي فاقت أحداثه العجائبية ما تعودنا على متابعته في المسلسلات العربية والهندية..

يبدو أنها موجة إعلامية عالمية فيّاضة تجتاح عالم الفقراء، وتحملهم في لحظات إلى أحلام حريرية، يعيشون دقائقها على أمل انتظار نقلة سحريّة واسعة تحملهم إليها ورقة يانصيب رابحة..

أو حصول معجزة يتحسسونها حيّة يمكن أن تقفز في ثانية مع سير أحداث المسلسل، وتنبسط بألقها بين أيديهم.. 

يستسلمون في متابعة الأحداث السلسة والشيّقة إلى متعة انتظار مفاجآت لقدر يأتي فجأة بأب غني كان غائباً، أو بثروة من أم أنجبت حراماً..

كأنني أسمع طقطقة السقف، يكاد ينقضّ هو الآخر، والغرفة تدور بي..

ماذا أفعل.؟

- أنقذ الأطفال أولاً.! أحملهم وأخرج بهم مع زوجتي، أبحث لهم عن مكان أمين بعيد عن العمران..

بعد لحظة أبعدت الفكرة عن مخيلتي..

إن أقرب مكان يمكن أن أقصده سيستغرقني أكثر من عشر دقائق، لن تنقذني وأسرتي بأي حال من إطباق جدران البيوت علينا، شوارع الحي الذي أقيم فيه ضيقة، وتكاد أسقف البيوت أن تتشابك..

هؤلاء الفقراء النهمون، يبلغ بهم الأمر إلى استغلال الشبر من الأرض واستعماله لبناء خشّة، غالباً ما تقوم في ظلام ليل، وعلى عجل، فالمنطقة كلها تعتبر منطقة مخالفات  لخرائط التنظيم، ورسومات تجميل المدينة، وتعليمات البلدية، لتجدها مع تباشير الصباح مأهولة بالسكان، تنقذهم إلى حين من قرارات الهدم الفوري، لتسقط وحدها ذات يوم..

يهتزّ السرير تحتي، فأتشبث بالجدار..

أذكر عندما بدأنا في بناء البيت كيف اضطر العمال لاستخدام الديناميت لحفر كتلة الأساس  الصخرية..

وكيف كان والدي رحمه الله يطلب من العمّال إضافة كيس من الإسمنت زيادة فوق كل جبلة، وإضافة قضيب من الحديد بين كل شبكة..

كان الإسمنت والحديد برخص التراب، وكان والدي يردد في كل مرة.. سأجعله قلعة..

ترى هل تستطيع هذه الجدران الصخرية الصمود في وجه القادم العاتي.؟

يوم استقدمت أحد العماّل لتبديل خط سير قصير لأشرطة الكهرباء المهترئة داخل الجدار، لعن الساعة التي جاءت به للحفر في كتلة من الحديد، "كما قال وهو ينظر بحسرة إلى إزميله الرابع المكسور، ويلقّط سيل العرق الناضح من كل جزء فيه.." 

- لو أعطيتني أضعاف الأجرة التي اتفقنا عليها سأبقى ألعن حظي السيء الذي قادني إليك..

قال بنزق وهو يتقاضى أجرته..

أعتقد أن آمن مكان ألجأ إليه مع أسرتي هو هذا الركن بالذات، فلو سقط السقف ستبقى الأعمدة العتيدة والزوايا المتينة التي تحملها.

مساحة ضيقة جداً لكنها تكفينا وتؤمن لنا حداً من الحماية..

- ترى هل نخسر كل شيء.؟

تذكّرت في تلك اللحظة أشياء كثيرة طالما حرصت على الاحتفاظ بها..

إلى جانب ما استطعت توفيره من مال أبيض للأيام السوداء.. العجيب أن الأيام السوداء التي نحرص كل عمرنا على الاستعداد لها، تأخذ في طريق قدومها كل شيء نوفّره لها..

- على كل الأحوال ما قيمة المال عند وقوع المصيبة..

لن أفكر في ذلك الآن..

عندما اندلعت حرب حزيران، واستقبلنا ساعاتها الأولى بالبشر، قلت مع من قالوا أننا نشعل السيجارة هنا، وقبل أن تنتهي نكون على شاطئ بحر يافا..

بعد اليوم الأول بدأت الناس تحزم أغراضها القليلة للانطلاق بأسرع ما يمكن إلى الشرق..

قال والدي يومها ألا يترك البيت أحد..

وكعادته في فلسفة الأمور أتحفنا بمحاضرة طويلة سحب فيها تجربة رحيله الأول، وكيف حملنا مثل الفراخ، وقفز بنا إلى بر السلامة..

ثم بدأ مسيرة الموت البطيء..

قال:

- البقاء والصمود في المكان له احتمالان لا ثالث لهما، إما الموت قتلاً تحت الأنقاض، وإما النجاة..

أما الموت فهو حالة قدرية لا يستطيع أحد الوقوف في وجهها، هكذا تقول الرسالات السماوية..

وأما النجاة رغم الخسائر المحتملة فتبقيك إلى جانب أشيائك، تعيد بناءها يوماً بعد يوم..

سأقول أنا أيضاً، أن لا أحد يترك البيت..

إذا خرجنا أمامنا احتمالان أيضاً، إما الموت وإما النجاة، السؤال الذي يجب أن ندركه..

ماذا يمكن أن نفعل بعد النجاة.؟

هذا الركن الحصين يحمينا..

لن يغادر أحد البيت..

حاولت أن استجمع شجاعتي وأنهض قليلاً لأجمع قدر ما أستطيع من الأغراض التي أحرص على الاحتفاظ بها، لكنني تراجعت في اللحظة الأخيرة، خفت أن يسقط السقف فوقي..

 

يبدو أن زوجتي لم تشعر حتى الآن بالخطر الذي يدهمنا..

ليتها لا تشعر.!

ممتع أن يموت الإنسان هكذا فجأة ولا يعرف كيف أتاه الموت..

كثيراً ما كان جدّي يردد أن الموت ليس سهلاً كما يتصور لكم، بل إنه يتطلب هزّ الأكتاف.!

في العام 1937 وبينما كانت طائرات الانتداب البريطاني تستعرض قوتها في سماء عكا أفلت "قازان" سهوا أو عن قصد من إحداها وسقط تماماً فوق بيت جدّي..

وجدّي يرحمه الله كان رجلاً من فحول الرجال، صالحاً وتقيّاً وقائماً بواجباته الدينية والدنيوية على خير ما يرام..

صلى العصر، واستلقى عل سريره المرتفع ذي القوائم النحاسية، بعد لحظات أخذته القيلولة..

انفجر القازان المرعب، وسقط البيت..

المعجزة التي حصلت أن قوّة الانفجار الهائلة قلبت الخزانة الثقيلة، ووضعتها تماماً فوق قوائم السرير، كأنها شكلّت بوضعها الجديد غطاءً متيناً أمّن الحماية الكاملة لما تحته، فانهال الركام فوقها، ونجا جدّي المستلقي بطمأنينة على فراشه..

أخرجوه بلا خدش واحد من تحت الأنقاض، لكن قوة الانفجار أفقدته غشاء السمع في إحدى أذنيه.. 

زوجته الرابعة التي كانت بعيدة عن البيت في ذلك الوقت، وسمعت صوت الانفجار، وشاهدت بيتها المنهار عن آخره فوق جدّي.. فقدت عقلها..

وماتت بعد سنوات منسية داخل غرفة حقيرة في مستشفى للأمراض العقلية..

ومات جدّي هو الآخر بعد أن بلغ من العمر عتيا..

مات خارج بلده وخارج بيته الذي أعاد بناءه بعد الغارة العفويّة، وبدا في حلة أجمل وأبهى..

ألف مرة سمعته يردد بعد كل صلاة، لو أنه مات ساعة الانفجار..

هل أستطيع أن أضمن بأن الموت سيأتيني من ها هنا.؟

هل أستطيع أن أستمرّ في الحلم بالنجاة..

مات والدي وهو يوصينا أن ننقل رفاته إلى مقبرة النبي صالح في عكا متى حانت عودتنا إلى هناك..

يومها قال:

 

- لأننا غادرنا في المرة الأولى علينا أن نتقن فن الانتظار..

يطلبون منا الآن أن نتقن فن النسيان..

الغرفة تميد تحت قوائم سريري الهشّة، ما زلت أرفض النظر إلى الشريط الذي يحمل المصباح، أخاف أن أراقبه وهو يهتزّ..

بدأ ذلك الارتجاج يدخل رأسي، صوت يقتحم سمعي، أصوات كثيرة آتية من كل الاتجاهات..

لماذا لا تصرخ.؟

لحظتها ربما صرخت، لم أفهم ماذا قلت في صرختي، كل ما أذكره أنني صرخت..

دخلت زوجتي فزعة، أحسست بيدها تمسك يدي، سمعت كلماتها بوضوح وهي تقول:

- مرة أخرى تترك السرير وتنام على الأرض في ذات الركن.؟ الأمر لم يعد يحتمل السكوت عنه، حالتك تزداد سوءاً يوماً بعد يوم.. غداً نذهب إلى طبيب مختص لمعالجة أمر أذنيك..

 

 

الطابق السابع.!

 

 

راحتي مستكينة بين كفيها مثل طائر يهدأ من رحلة سفر طويلة..

- لو أنني التقيتها قبل ربع قرن..

حدّثت نفسي، فجاءني همسها كحفيف أوراق الشجر..

- ومن أدراك أن ذلك يرضيني..

واندلقت الكلمات من بين شفتيها مثل انسفاح قارورة عطر..

قفز قلبي من صدري، وركض خلفها خطوتين ثم عاد يسخر مني.. تلحقه كلماتها العذبة:

- مكتبي أول غرفة إلى يسار الدهليز العريض.. أتطلّع لتزورني في أي وقت..

لم أقو على الصمود أكثر وأنا أحدّق بجنة عينيها الخضراوين المطلتين بذبول من بين خصلات شعرها المنسكبة بفوضى على جبينها وأطراف وجهها، لتستقر باطمئنان على كتفيها..

هل كانت تغمز إلى موعد وهي تطلق مع كلماتها المقتضبة ابتسامة اشتعلت مثل سهم ناريّ أذهلني وميضه الخاطف لحظة، ثم اختفى.؟

أفلتت يدي الساخنة، انفلتت.. ومضت..

تراءت لي ثنيات جسدها تتلوّى كحيّة استوائية داخل قماش بنطالها البحري، تنزلق موجة إثر موجة لتصل بسكون إلى شاطئ رملي، تقبّله، تلمسه برقّة، ثم تنفضّ عنه، تنسحب برفق كما تنسحب يدي المعروقة من راحتيها..

تجاهلت المصعد، وأخذني الدرج اللولبي..

ما الفارق بيني وبين الأستاذ "حاتم" مسؤول الصفحة الثقافية.؟

ها أنا ذا الآن أجترّ خيبتي، كما يجترّ بذاءته..

تقتحمني رغبات مراهقة، تقتلعني من وقاري، وتحرضني على سلوك درب خطيئة كنت أرفضها بأشكالها وصورها المختلفة، وكتبت عنها الكثير، وأعملت فيها فلسفتي ونقدي..

حاربتها قديماً وشرحّتها على مئات من الصفحات الورقية، اعتلت أكوامها المكدّسة في أدراج مكتبي صفرة باهتة، وانبعثت منها رائحة رطوبة فجّة..

أضحت مشروعة، في لحظة حمراء التهبت أمام جموحي وراء لحظة كنت أحسبها إن قفزت من صدر غيري.. سخيفة، بل ومزرية..

هل تراني أقترب من ثمني.؟

أليس لكل رجل ثمن.؟

قول لأحد الحكماء العظماء، أو أحد المخمورين، لم أعد أذكر.!

ألهث وراء جمال صاعق..

أتجاوز سنوات عمري الكثيرة.. أشعر أن لهفة انشداد مستعرة تعيدني  إلى الوراء سنوات وسنوات، وتحط بي على شفا رغبة متوقّدة..

- البنات يكبرن بسرعة لا تصدق..

جملة ردّدتها جدّتي في مناسبات كثيرة..

فهل أصدّق أن من تقف أمامي الآن هي تلك الفتاة النحيلة ابنة صديق لي من بعيد..

عرفتها عندما كانت صغيرة، وبدأت أراقبها في زياراتي القليلة تكبر أكثر وأكثر.. أذكر ضفائرها الشقراء، مجدولة في شريطة حمراء.. ترتدي مريلة المدرسة، وكلسات بيضاء طويلة، وتحمل بين يديها محفظة جلدية سوداء عليها صور كثيرة لمطربين وممثلين ورياضيين شباب..

دخلت علينا يوم عرفتها لأول مرة، فجأة، وأطلقت من بين ثنيات لهاثها طلباً لا تشفعه حجّة بحاجتها إلى عشرة ليرات.. تناولتها بسرعة، وانطلقت تقفز فتنحسر مريلتها الزرقاء عن ساقين كقوائم الماعز..

تذكّرتني ولم أتذكّرها، قالت أنها لا تنسى أشكال وجوه أصدقاء أبيها..

واعتلت وجنتاها حمرة شديدة..

*  *  *  *  *

جمعتني مقاعد الدراسة أنا وحاتم أربع سنوات، هي مرحلة دراستنا الإعدادية، في مدرسة فقيرة، تحتل بيتاً من بيوت دمشق القديمة في حي شعبي، مستقرّة في نهاية حارة ليس لها منفذ، ولا تدخلها غير طنابر موزعي المازوت، وحمير الباعة الجوّالين..

كنا نتنافس على الفوز بجائزة مدرّس اللغة العربية، كتاب أو قلم أو دفتر، يقدمّها من ماله الخاص لمن يتفوّق في كتابة موضوع الإنشاء العربي، وكنت أحصدها جميعاً..

يدخل إلى الصف ويكتب على اللوح جملة واحدة.. الموضوع: أكتب ما تشاء..

بعد ذلك أصبحت كاتباً وصحفيّاً أكتب ما يشاؤون..

وأخذني الأمر إلى صيرورة قدرية، فقد أصبحت الكتابة وحدها باب رزقي الضيّق.. وأضحى التسكع بين مكاتب الصحف والمجلاّت ديدني، واسترضاء الممسكين بقدر الثقافة والناشرين هاجسي..

صدفة جمعتني به في مقهى شعبي أرتاده حين تدعوني الرغبة للاقتراب من هموم الناس، أراقبهم كيف يطوون همومهم وفقرهم تحت حجارة الطاولات وبين أوراق اللعب الملونة، ويعلنون لا مبالاتهم..

تعانقنا بحرارة، وتبادلنا الكلام الذي لا ينتهي عن الذكريات وأيام الصبا..

قال وهو ينفض كتفيه زهوّاً:

إنه المسؤول عن الصفحة الثقافية في مجلّة أسبوعية قطاع عام.. وأردف من بين أسنانه:

- أعتقد أنك ما زلت تكتب.؟

- إنها مهنتي..

أجبت وأنا أدفع بين كلماتي لهفتي بأن يعرض علي أنا صديقه القديم النشر في مجلّته.. وقد حصل ما توقعته..

في صباح اليوم التالي كنت أقف على باب مكتبه.. أحمل تحت إبطي مقالاً معقولاً رصيناً حرصت على كتابته ومراجعته باهتمام..

مكتب وثير، وسجاّدة خضراء، طقم كراسي خمس نجوم، وثلاثة أجهزة هاتف وكمبيوتر وفاكس وتلكس، ومكيّف، وفنجان قهوة مرّة احتسيته قبل أن أجلس..

ذكرّني وجه مدير مكتبه النحيل وذقنه العريضة، وشاربه الكثّ بأبي كايد آذن مدرستنا القديمة، وكيف استطاع صديقي حاتم منذ ذلك الزمن البعيد شراءه بثمن بخس، عشرة قروش فقط،  يتناسى في سبيلها أمر باب المدرسة، ويتغاضى عن خروجه من حرمها إذا اشترى من بسطته شطيرة فلافل.. ليس في رغيفها الممسوخ غير الفلافل، والبقدونس والملح..

ولولا يقيني أن "أبا كايد" مات منذ زمن لقلت أنه هو..

تجاهلت الأمر، وعبرت إلى طموحي..

بعد أيام قليلة، وجدت مقالي على موقع ساطع في الصفحة الثقافية، متوّجاً باسمي الكامل، فغمرتني سعادة حقيقية.. وحرضتني فرصة النشر تلك على مضاعفة جهودي في الكتابة..

شهران، ثلاثة، ضلّت كتاباتي طريقها ولم ينشر منها حرف واحد، وكلما راجعت في الأمر تقابلني أعذار شتى..

فقدت المادّة، أو أن المجلة نشرت مقالاً مماثلاً، أو أن القارئ المقرر لصلاحية ما أكتب ويكتبون تأخر في بيان موافقته القدرية على النصّ..

أكاد أنفجر من الغيظ وأنا أبحث في كل عدد جديد يصدر عن اسمي ولا أجده، ويزداد غيظي كلما قرأت اسم "مختار. م" .. الذي لا يخلو عدد من مقالة يكتبها.! وأحسّ بفيض من الحسد والحسرة في آن، أتساءل في سرّي..

من ذلك الشخص الألمعي الذي يمتلك هذه الغزارة، ويخترق اسمه وحظّه ذلك الجدار الذي لم أستطع التسلق عليه قيد أنملة..

*  *  *  *  *

تحملني شجرة سنديان، أقبض بيدي الشابّة على فرع طري ولد الآن، فيرتفع بي عالياً، يزفّني إلى الطابق السابع ويحطّ بي على رواق شرفة، فأرى طيفها من وراء الزجاج..

بيدها مروحة كسولة تعبث نسيماتها برفق بين الفينة والفينة بجدائلها، فتنفضها بخيلاء..

تفرد شعرها الخروبي على كتفيها العاريين إلا من باقة ياسمين نزفت على جلدتها، فأزهرت..

تعبث أصابعها الممسكة بقلم أخضر بأوراق كثيرة مفرودة بفوضى على مكتب أنيق تجلس خلفه..

تنتبه إلى وجودي فتقف.!

يا إلهي..

باسقة مثل سنديانة تعيش في ذاكرتي، تهطل فوقي سحابات طلّ ، تقف شامخة في ركن ساحة جعلناها ملعباً "للرنّة"، أتظلّل تحت أغصانها الوارفة في ظهيرة يوم قائظ.. تناديني أمي وهي تجدّ الخطى، تحمل عروسة أشّم عن بعد رائحة زعتر وزيت تنضح منها.. فتهطل نسيمات باردة أفتح لها صدري، وأستكين..

كأنها تفعل كذلك الآن، تختصر ابتسامتها تلك السنوات الكثيرة التي تمتدّ بيننا.. أكاد أرسل يدي، وأضمّها إلى صدري.. أكاد أنسى خطوط شيبي، وآلام مفاصلي، وغزوات المرض المتعاقبة على صدري حيناً وعلى أحشائي حيناً آخر.. كأنني فتى العشرين، ينبض قلبي وجيباً متلاحقاً، وتلتمع عيناي كلما ومضت ثنية من تفاصيل جسدها الرائع..

هل أحببتها حقّاً.؟

أمسَكت يدي، قالت أنني ضالّتها.. الناضجون فقط يقدّرون قيمة الأشياء، ويجمعون في شخصهم الواحد مزايا نادرة.. ثم قادتني إلى نافذة غرفتها.. تدعوني لأكتشف المنظر..

صحون مجوّفة، تحتلّ أسطحة البيوت والبنايات، والدكاكين الخربة، والإسطبلات، كأنها أكف قبيلة من المتسولين، تمتّد صفوفاً متراصّة، على نسق واحد، وإلى جهة واحدة، تستجدي المعرفة من قمر فولاذي معلّق في مكان ما، يعلن بالصورة والصوت أنه قدر العالم الجديد.

نظرت إليها ببلاهة، فابتسمت، وكزّت على أسنانها فانطلقت من عينيها شهب ملوّنة..

*  *  *  *  *

كنت على وشك ركوب المصعد نازلاً من الطابق السابع بعد مقابلة فاشلة مع صديقي حاتم مسؤول الصفحة الثقافية عندما تقابلنا. نظرت في وجهي نظرة طويلة، ثم أمسكت يدي:

- الأستاذ صلاح.؟

وقبل أن أجد فرصة لتأكيد ظنونها تابعت:

- لا أنسى أسماء ولا وجوه أصدقاء والدي رحمه الله..

شدّت على يدي، وأطلقت ضحكة رقيقة..

- هل تعلم أنني أتابع كتاباتك الرائعة.!

نظرت إلى أصابعي بدلال، وهمست:

- يا لهذه الأصابع الرقيقة.؟

وأرسلت من خضرة عينيها بريقاً أصاب مقتلاً في مجموعة مثل وقيم سامية عششت على مسار عمر طويل  في نسيجي، عاشت في ممارساتي الصغيرة والكبيرة، رسمتها مثالية أسعى إليها..

أراها الآن على قدر من التفاهة..

كيف يمضي العمر رخيصاً فقيراً جافّاً ولا تأتيه فرصة مثل هذه، وعندما تأتي بهذا الدفق والعنفوان، ممتطية الأمواج، تكون السفينة قبالة الشاطئ الأخير..

هل أحببتها حقاً.؟

ويأخذني السؤال إلى وديان شاسعة واسعة تلجم بوحي، لا أجرؤ حتى إلى التحدث مع نفسي..

 هل يمكن أن نلتقي، في شقّة بعيدة عن عيون الفضوليين.؟

أم هل يجمعنا مكان عام.؟ أبحث عنه في أقصى مكان يرتاده الناس، وأختار مقعداً في ركن قصي، أضع وجهي قبالة الفراغ، أو قبالة جذع شجرة ثخين، وتنتفض فرائصي كلما رفّ فوقنا طائر، أو عبرت من جانبنا ذبابة..

أشعر أنني أستبيح ما لا يحق لي، ورغم ذلك يأخذني غروري إلى نهاية الشوط. أسخر من قصائد العشق، وتضحكني قصص الهالكين في سبيله..

هي في متناول يدي، أنا الراشد، المجرّب.. حنكتني الحياة، ووضعت أمامي وتحت أصابعي فرصة لتجربة فحولتي أمام جسد فائر، وإرضاء غروري وذلك الشيطان النهم الذي يستطيع إن تمرّد وانطلق، تدمير كل شيء..

هل يقولون حبيبتي.؟ أم ابنتي.؟ يتغامزون، ويتهامسون.! تفرقع ضحكاتهم وهم يدركون أن هذا الهيكل المطحون، أصغر من صخب أنوثتها الصارخ..

هل أضمّها إلى صدري.؟ ألمس كتفيها وعنقها الرخامي براحتي اليابستين.؟

- لو أنني التقيتك قبل ربع قرن..؟

تمسح على كفيّ برفق، وتدعوني خضرة عينيها لافتراش الحلم، تهمس:

- الآن أفضل.. نشكّل فريقاً استثنائياً، نؤسس حباً من طراز فريد، لا تكبّله قيود، أعطيك وتعطيني حتى نصبح في العطاء سواء..

يا إلهي..

أنظر إلى نفسي ولا أصدّق..

هل أحبتّني حقاً.؟

وكيف تفعل وتردم تلك المساحة الأزلية بين الربيع والخريف.. هل تكفي براعة الكلمات التي يحملها شيطان الشعر إلى شفاه الأدباء للإيقاع بمثلها.؟

وهل تقتصر الحياة على كلمات أكثرها ترّهات شعراء، يقولون ما لا يفعلون، ويعلنون غير ما يخفون.؟

- أتذكر تلك الصحون المتسوّلة الجوفاء، هي دوائر تراها مكتملة أليس كذلك.؟ وتدرك دون أن تحزن أن قدر وجودها ونفعها مرتهن بكتلة فولاذية صمّاء ليس لها قلب، تقتل ببرود إن هي أرادت، وليس لإرادتها منازع..

اقتربت من وجهي، فحملتني موجات أنفاسها إلى ساحة بعيدة، رأيت صبيّاً يركض في أرجائها، يأخذه الجهد والتعب فيستلقي تحت سنديانة تهطل عليه نسيمات رطبة، تحمل مع ريحها روائح الخبز والزعتر.. فيستكين..

هَمَسَت:

- تعلّمت كيف أعثر على مفاتيح الأقفال وأجعلها طيّعة بين أصابعي. وكيف أخترق عصابة الأستاذ حاتم ومدير مكتبه.. نشكل فريقاً.. فتنتقل كتاباتك الرائعة المركونة على مكتبي "للحفظ" إلى صدر الصفحة الأولى..

دخلت حارة ضيّقة..

كان "أبو كايد" يقف بابتسامته الصفراء يمسك مقبض باب عتيق، ويحمل أرغفة ممسوخة، يحثّني على الاقتراب منه، أسنانه المتباعدة تطل من فرجة قبيحة تحت شاربه الكّث، كأنها فك مفترس يكاد يلتهم أصابعي..

في صبيحة اليوم التالي، صدر العدد الأسبوعي من المجلة قطاع عام.. رأيت عنواناً عريضاً لإحدى كتاباتي على الصفحة الثقافية، يزيّنه بخط واضح اسم "مختار. م"

كنت على وشك طلب المصعد ليحملني إلى الطابق السابع، رأيت صورتي مطبوعة على زجاج الباب الصقيل، تأملتها فرأيت فيها شخصاً آخر يسخر مني.. فابتسمت..

حملتني خطواتي الخائبة إلى خارج البناء..

رفعت رأسي فلم أر غير أشرطة متشابكة تتدلى بفوضى من قيعان الصحون المجوّفة، وتدخل في رؤوس الناس..

تغلق أسلاكها المتقاطعة تلك الفرجة الضيّقة التي يمكنني من خلالها وحدها رؤية شرفة غرفة ما زالت تحتل ركناً في الطابق السابع..

تفرّست في قامات الرجال والنساء ووجوههم، رأيتهم يحملون شطائر "أبو كايد".. ويشيرون بأصابعهم الغليظة نحوي ويتهامسون..

فضحكت ملء شدقيّ..

ثم كتمت صرخة صاعقة كادت تفلت مني..

 

 

من سـرق الكيـس الأصفــر

 

 

تستقبلني كل صباح ابتسامات لئيمة مرسومة بنفاق بالغ على وجوه الرجال المحنّطين أمام دكاكينهم الضيّقة والمكتظّة ببضائع شتى.. برّاقة لامعة.. ومزيّفة..

حتى أنهم يسرقون مساحة من الشارع الضيق بالأصل، يفرشون معروضاتهم الأثرية، الفضيّة والمذهّبة والملوّنة بألوان زاهية ويتزاحمون ويتشاجرون..

في ذلك السوق الضيق، الذي رصفت أرضيته بحجارة سوداء مربّعة ومستطيلة بتناسق جميل. تتراكم الدكاكين الضيقة والمقاهي والمطاعم الشعبية، وباعة العصير والمرطبات والكعك والجرابات..

تختلط أصواتهم النابحة مع ضجيج أنغام رديئة تلفظها أشرطة الكاسيت في وجوه الناس سكّان البيوت القديمة المهلهلة، والعابرين من خلال أزقّته المتشابكة والمنخفضة إلى أكثر أحياء المدينة المحيطة..

وبين أفواج متتالية من السائحين الأجانب بجنسياتهم المختلفة والزائرين  القاصدين التبرّك بحجارة مقامات وقبور الأولياء والصالحين من السلف..

قصدت عندما وصلت إلى دكاني الضيق أيضاً أن أتجاهل النظر إلى صاحب مطعم (الشاورما) القائم قبالة محلي تماماً..

تراه يجلس على كرسي منخفض وراء طاولة صغيرة تحمل مع ما تحمل صندوق المال الآلي.

يطل برأسه الأصلع يراقب بفضول كل شيء يتحرك أمامه..

دخلت متجري النظيف فبادرني "نزار" الشاب النحيل الذي يعمل معي، بجملته المعهودة..

- لا شيء جديد.!

 أضاف هذه المرة بسخرية:

- جاء ياسر وسأل عن دليل هاتف.. قال أنه فقد كيساً فيه ألف ليرة..؟

لم أعر الأمر اهتماماً، كنت أعلم أن رقم الألف عند ياسر هو نهاية الأرقام التي يدركها، وسقف المعرفة المدوّن في تلافيف عقله..

غالباً ما يقول حصلت على ألف سيجارة، أو ألف علبة فارغة.

كأنه ينشد تهويلاً لأمر جلل ينسجه خياله المعتوه، وكنت أكتم سخريتي..

ألاطفه وأجلس معه، أدعوه وأشاركه شرب كأس من الشاي المحلى الذي يحبّه، أدخل عالم خياله الغريب والساخر، أحاول قدر جهدي استخلاص الرؤى التي لا يدركها سواه..

تساءلتُ.. كيف نقيس جدارة العقل.؟

من يملك الحق في الفصل بين عاقل ومخبول.؟

بل ما هي العقلانية أصلاً.؟

هل تكون الصورة المطلقة التي رسمناها لعقولنا وأوصلتنا بغرور مطلق إلى سحق الآخر بمسميات أطلقناها وبمعايير وضعناها.؟

كان ياسر محور تساؤلي الدائم، أقف مشدوهاً أمام حركاته وتصرفاته المضحكة والتي يعبّر من خلالها عن موقف يعيشه أو يحسّه، أو حالة لا يملك القدرة على التعبير عنها بشكل آخر، وأحياناً أمام آراء يطرحها بسلاسة وبساطة رأيت فيها كمال العقلانية والسداد والحكمة..

عرفته منذ زمن، وعرفت الكثير عن ظروف حياته، قد يكون أهم مفصل فيها يوم قفزت به الحياة إلى شكل مثالية نادرة، فكرّس نفسه وقدراته بتفان ليس له مثيل في رعاية زوجة وأبناء شقيقه الوحيد الذي مات فجأة..

كان مجذوباً، هذه حقيقة ولكن من نوع فريد..

استطاع أن يتعلّم بسرعة مذهلة كيف ينتزع قوته ورزقه، يجمع قدر ما يستطيع من علب "الكولا" الفارغة والعبوات البلاستيكية والنايلون والمعادن والأخشاب، وأي شيء يقع تحت يديه، فلكل شيء ثمن..

واستطاع أن يتعرّف إلى أصحاب الجحور التي تشتري وتبيع هذه النفايات..

تعلّم سريعاً كيف يسوق ما يلقّطه من رزق بوسائل شتى، إلى الأسرة الكبيرة، يطعم الأفواه القاصرة التي تنتظره دون سواه ليقيمها على الحياة، ولن يتذوّق لقمة واحدة قبل أن يزجي لهم الكفاية..

وتعلّم فوق ذلك كله كيف يهرب من دوريات مكافحة التسول، والتشرّد..

تعلّم كيف يقبل الحياة ويختصر مسافات السؤال عن قلة الحظ وقلة فهم الآخرين لنا إلى آخر القائمة التي نتعذّب في أتونها كل لحظة لأننا.. عقلاء..

 وهكذا مضى به العمر كائناً وسط دوّامة تدور يوماً بعد يوم حتى تشكّل في قلب الصورة مكمّلاً لهيكل المكان المزدحم، إلى جانب مجموعة ليست قليلة من المعوقين عقلياً وجسدياً تزيد عدداً لسبب ما في مثل هذه الأحياء المغيّبة..

كان دائم الابتسام، يمتلك بين جوانحه روحاً حلوة ووديعة، يطرب للكلمة الرائقة ويحس بالدعابة ويستسيغها..

يبدو أليفاً محبّباً ودوداً وهذه الصفات قرّبته إلى قلوب الناس الذين عاشروه وعرفوه، وأسهمت إلى حدّ كبير في ترسيخ صداقة حميمة بينه وبين عبد القادر صاحب الشاحنة الصغيرة ذات اللون الأخضر الداكن والعجلات الثلاث والذي يقيم أيضاً في بيت إلى جانب بيت ياسر في الزقاق ذاته..

ولعل الاستثناء الوحيد في علاقاته الطيبة مع الآخرين، تلك العلاقة الموتورة بينه وبين (أبو راشد) بائع الشاورما الذي ضربه عندما تجرأ والتقط علبة كولا فارغة من أمام دكانه..

يومها ابتلع ياسر غضبه، وأخرج من كيسه الكبير المعلّق على ظهره علبتين فارغتين وضعهما بهدوء أمام "أبو راشد" وحين ابتعد عنه، أنزل الكيس الذي يحمله، وصرخ بصوت صبّ فيه جام غضبه:

- أبو راشد يا ابن……..

 

ثم ضحك بسخرية، حمل كيسه وهرب، يقفز مثل أرنب..

ومنذ ذلك اليوم اتسعت بينهما فجوة الجفاء، وتحوّلت إلى كراهية متبادلة كنت أحسّها وألمسها من نظرات ياسر وحرصه على الابتعاد قدر ما يستطيع عن خطوط التماس بينهما.. 

وكان عبد القادر على النقيض، يصطحبه إلى معظم الأماكن التي يقصدها في جولة عمله اليومية المقتصرة على نقل حمولات من بضائع مختلفة من مكان إلى آخر..

يحبه وينقذه من مضايقات الأطفال والكبار أحياناً.. مؤكداً أكثر من مرة على تفوق  ياسر عليهم جميعاً (على الأقل) بما يجري في شرايينه من دم زمرته نادرة قلّما يحمل مثلها الكثيرون..

وكان ياسر يبادله الحب، يرتاح إلى رفقته ويعيش أحلى ساعات عمره وأقصى مشاعر سعادته عندما يركب واقفاً في صندوق الشاحنة السريعة التي تجعل الريح تضرب وجهه، وتعبث بشعر رأسه ولحيته المهملة الكثيفة، وتنفخ الثوب الفضفاض الذي يرتديه ويحزمه من وسطه بخيط فوق قمّة كرشه..

ذهلت عندما رأيته يجلس القرفصاء أمام باب بيته حزيناً كما لم أره من قبل..

يدفن رأسه بين راحتيه، ويعتصر دمعة تأبى مغادرة مآقيه..

ما أن رآني حتى هب واقفاً، نظر إلي بحنان جم وضمني بين ذراعيه القصيرين وابتسم بفرح طفل..

سألته أحاول إخراجه من موجة الحزن التي تجتاحه..

- سمعت أنك تفتّش على دليل الهاتف..

لوى رأسه بحسرة وتمتم..

- لم يعد الأمر مهماً.؟

ثم نظر في وجهي وأردف.

- دليل الهاتف فيه ألف رقم.. كلها أرقام الحكومة..

-  الحكومة مرة واحدة..

-  أنت لا تعرف الحكومة.؟ هربتُ منهم، جاؤوا أكثر من ألف شرطي في سيارة.!

فتح عينيه بدهشة وتابع على وتيرة الحماس ذاتها:

- حبسوا كل الناس.. وأنا هربت.. ركضت وركضت حتى وصلت الزقاق.. وضحكت عليهم.؟

ضرب على صدره بحسرة كأنه تذكّر أمراً مهماً وتمتم بحزن:

- سرقوا كيساً فيه أغراض بألف ليرة..

- من.؟ الحكومة.؟

 

نظر إلي باستخفاف وضرب بيده على عرق نافر في ساعد يده الأخرى وأجاب باقتضاب:

- لم يعد الأمر مهماً..

في ذلك الصباح الباكر انطلق ياسر مع عبد القادر في الشاحنة ذاتها لنقل صناديق تحتوي على أطعمة مختلفة إلى أحد المتنزّهات القريبة من المدينة..

وهناك اكتشفت عينه الخبيرة بحكم العادة عدداً لا يستهان به من علب الكولا الفارغة ملقاة بين الطاولات، فاندفع يلتقطها ويدسّها واحدة بعد الأخرى في كيسه الكبير..

وفي طريق العودة توقفت الشاحنة أمام بيت يشبه القصر حوله حدائق غناء وأشجار باسقة..

ثم تتالت الأحداث بسرعة غير متوقعة فقد أخذته سيدة (يبدو أنها كانت في انتظاره) متأنقة وعلى قدر من الجمال، ومضت به إلى داخل البيت، غاب فيه أكثر من ساعة، وعندما خرج كان يحمل بين يديه كيساً أصفر اللون، فيه كثير من الخبز واللحم، وقطعة قطن طّبي ملتصقة على عرق نافر في ساعده الأيسر..

قالت السيدة وهي ترافقه إلى الباب الخارجي:

- كلما طلبناك ستحصل على كيس مثل هذا،

وكلما احتجت شيئاً.. أي شيء، لا تتردد بالاتصال بنا.. نحن الحكومة..

حمل ثروته المعبأة في الكيس الأصفر وكأنه امتلك دنيا جديدة، وركنه بحرص بالغ في زاوية أمينة من صندوق الشاحنة..

قال له عبد القادر:

- لك أن تفرح.. ربحت كيساً فيه ألف ليرة.!

لكن فرحه الكبير لم يدم طويلاً فقد لاحقته لحظة ولوجه ذلك السوق الضيق مجموعة من الرجال المكلّفين قمع المخالفات ومكافحة التسول..

شدّ جلبابه الطويل وانطلق بكل ما أوتي من قوة بين الأزقّة والزواريب، ألقى كيس النفايات الكبير  المعلّق على ظهره، وقبض بإصرار على الكيس الأصفر وهو يركض هارباً..

يتعثر تارة بخطواته المتخبطة، وتارة بأكتاف وأقدام الناس المتزاحمين في السوق..

وقد فوجئ بأبي راشد يغلق أمامه الطريق، ويفتح ذراعيه للإطباق عليه، ولم يجد إلا أن يقذفه بالكيس الأصفر الذي يحمله مغتنماً فرصة المفاجأة ليتجاوزه وينطلق من جديد بقوة وعزم..

في لحظة الانعطاف الأخيرة حانت منه التفاته إلى الوراء، ليشاهد بحزن كيسه الأصفر يغتصب بين أيدي المطاردين..

دخل الزقاق الضيق الأخير ونجا..

 تراكمت أمام عينيه صور كثيرة ومختلطة وهو يطوي وجهه بين يديه، يجلس القرفصاء ويحبس دمعة كادت تفيض من مقلتيه..

تذكّر في اللحظة نفسها تفاصيل الوجوه التي طاردته واغتصبت كيسه الأصفر..

واكتشف أنها ذات الوجوه التي سرقت بعضاً من دمه النادر..

ابتسم ببلاهة، وأرسل ذراعيه القصيرين في الهواء،  وراح يقفز مثل عصفور..

ولم يلبث أن توقف فجأة عن ممارسة حركات مضحكة ليس لها معنى..

ربط كيساً جديداً كبيراً إلى ظهره، وانطلق يبحث في حاويات القمامة عن رزق أسرة تنتظره دون سواه..

كان قد وصل إلى نهاية الزقاق الضيق..

نظر إلي من بعيد ورفع يديه في الهواء كأنه يقول:

- لم يعد الأمر مهماً..؟

عندما غادرت متجري في المساء، وسلكت زقاقاً يطل آخره على ساحة كبيرة تقود إلى عالم لا يمت بصلة إلى عالم المنطقة التي يعيش فيها ياسر مع من يعيش.

شبّه لي أنني رأيت عبد القادر وأبو راشد،  يجلسان في صندوق شاحنة من ثلاث عجلات أخضر داكن يأكلان بنهم وتلذذ ما تبّقى من فتات لحم انتزع من قاع كيس أصفر.

أضيفت في 30/03/2005/ خاص القصة السورية من مجموعته أخاف أن يدركني الصباح الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب

 

 

وتطير العصافير.!

 

القصة الفائزة بجائزة الإمام الخميني للإبداع.. مؤتمر القدس الثالث / دمشق / 2002

 

 

يحملُ بين صخب خطواته بلاهته، وخيبته.. كأنه قضى عمراً ينتظر ورقة صغيرة ينتزعها انتزاعاً من قلب مظروف يأتيه من بلاد بعيدة، يلوّح بها، وينطلق عبر غابة الصنوبر.. يعرف كل شجرة فيها.. يعرف جيداً أقصر الطرقات التي لا بد تقوده إلى قريته..

ينعصر قلبه حزناً وهو يستاف الخيبة يوماً بعد يوم.. يسحب آخر خطواته من ظلّ الغابة الكثيف فتتباطأ.. فجأة ينكشف أمامه الفضاء..

بيوت حجرية تستلقي على السفح الأخضر، وبيوت أخرى تتعربش فوق بعضها وتمتد حتى تقترب من القمّة.. يصل بينها طريق ترابي واحد..

يطالعه وجه "بهاء.." أيّ وجه جميل لفتى لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.. تلتقي نظراتهما من بعيد فيسمع حشرجة خشنة تصارع ترانيمها لتخرج من بين شفتيه المتصلبتين إلى مسامع الناس، يعرف أنها ضحكة سعيدة يستقبله بإطلاقها..

هي مفردات في لغة عجيبة ابتدعها.. إذا أخرج لسانه وعض عليه، فهو يقول لا.. وإذا أطبق شفتيه يقول نعم.. لم يكن قادراً على الحركة، كل ما فيه ذابل، ميت، مشلول.. مخلوق آدمي رائع الجمال، صافي التقاطيع..

حطام مربوط إلى كرسي.. رأس حيّ فقط وما عداه فهي أشكال أعضاء ميتة، تتأرجح بسخرية كيفما شاءت لها الأقدار، تحرّكها مجموعة إرادات كثيرة ومختلطة لكنّها لا تعنيه.. حتى أحشاؤه فهي تتلاطم وتتشنّج فجأة دون سابق إنذار كلما أصابه شيء من التوتر أو التحفّز..

لكنّه يعرف اسمه وبيته وقريته وأسرته وما يدور حوله.. ويعرف صديقه الأبله الوحيد.. عوض..!

يركض مع إطلالة كل صباح مبتعداً عن بيوت القرية القليلة التي أخذت لها موقعاً بعيداً عن ضجيج المدينة، يشدّ سراويله الفضفاض، ويردد صفير لحنٍ لأغنية لم يسمع بها أحد.. يخترق غابة الصنوبر ويصل لاهثاً إلى مركز البريد في رام الله.. يعرفه الموظف، ينظر إليه بسخرية، ويرفع حاجبيه..

في عصر يوم ربيعي أمسك عصفوراً مكسور الجناح، رآه يقفز مذعوراً بين أشجار الغابة.. احتضنه برفق، وحمله هديّة إلى بهاء..

يجلس عند قدميه المتدليتين بارتخاء، يمسك جناح العصفور المكسور، يثبّته بقطعة خشبية صلبة ومستقيمة، يربط عليها خرقة، ثم يضعه في قفص صغير، يعلّقه على فرع شجرة قبالة بهاء، ويقدّم له الماء والطعام.. لأول مرة يلمس وجه بهاء ذلك الريش النابت على جسد العصفور الضئيل.. كان يحسبه وهو يحلّق أنه سيد الفضاء.. يراقبه بعينيه الثاقبتين ويرافقه في رحلات ذهابه وإيابه التي لا تتوقف، يحطّ على غصن شجرة، يمسّد ريشاته باطمئنان ثم يعاود الانطلاق..

ذلك الحلم بات الآن بين يديه..! لو أنه يستطيع أن يداعبه، يحدّثه عن أحلامه، ينطلق معه عبر الفضاء الرحيب الممتد إلى ما لا نهاية، يعيش معه لحظات الصفاء ولحظات الحرية..

هذا الطائر الصغير يمتلك ذاته، يأمر حواسّه فتطيعه، تأخذه متى أراد إلى أي مكان يريد..

أي خيط واه يربط بينهما..؟ هل يستطيع معتوه يملك حواسّه وقدرته السيطرة على أطرافه إيصال مشاعره إلى مشلول لا يملك من حطام جسده غير جزء حيّ صغير ينبض على قشرة دماغه..؟

لو يستطيعان أن يتبادلا رأساً برأس..!

هل يستطيع هذا العصفور الحبيس نقل وجيب الرسائل..؟

يجلس عوض بينهما.. يراقب بدهشة تلك العلاقة الوليدة التي ربطت بين دماغيهما، جعلتهما يتقاسمان معرفة تلك اللغة الغريبة.. يطلق من حنجرته حشرجة حادّة، فيقفز العصفور، وينظر إليه.. يهزّ رأسه يمنة ويسرة، فيبدأ العصفور بالغناء.. ربما يكون غناء ذلك الصوت الجميل المتقطّع الذي ينبعث صافياً من بين أسلاك القفص..؟ تضحك عينا بهاء، ويطبق شفتيه.. هذه المرّة لا يسكت العصفور، بل تزداد قفزاته على العود الرفيع داخل القفص..

*   *   *

ولدتُ في هذا الفضاء، تعلمتُ الطيران على أغصان تلك الشجرة، لي فيها أعشاش كثيرة..

أذكرُ.. يوم كان الفضاء مفتوحاً حتى ساحل البحر، كنت أمخر عبابه، أسخر من طفل يتذاكى وهو يحاول الإمساك بي، أسقط مستقيماً أقترب منه وقبل أن يفتح صدره لاستقبالي أعاود الصعود..

أذكرُ سنابل القمح الصفراء في موسم حصادها، تغريني وقومي لغزوات مسائية نملأ بحباتها حواصلنا، نغدو إليها خماصاً، ونعود بطاناً إلى سقوف البيوت، نلقّم صغارنا، يأخذنا النعاس فننام..

اليوم.. لم يعد هديل البحر يطرق مسامعي.!

ذبُلت حقول القمح، وجفّت خضرة السهول..

مضيتُ إلى آخر المدى أبحث عن حبيبات الندى الصباحية فلم أجدها.. وحين عدتُ، أبحث مرة أخرى عن سقفي الحبيب، سقط جناحي بين أعمدة كثيرة..! زحفتُ.. زحفتُ حتى تراءت لي غابة الصنوبر، قلت: فيها أموت..  قالوا: فيها تموت..

وقبل أن تغادرني آخر خفقات حياتي.. حملني هذا الأبله الجميل إليك..

يتململ بهاء، يرنو بغيظ إلى الرباط المتين الذي يشدّه إلى كرسيّه.. يدرك أنه يحميه من السقوط في لحظة عبث تفتعلها أعضاؤه.. يميل رأسه يمنة ويسره، فيجاريه العصفور.. يخرج لسانه ويعضّ عليه. يحسّ أن ذلك الشيء المؤلم الذي يجتاحه دون مقدّمات بدأ يغزو أحشاءه فيزداد تدفق الدم إلى أطرافه.. يتسرب لعاب ثخين من فمه، وتنقلب عيناه إلى جمرتين متوقّدتين، تختلج شفتاه، ويتشنّج.. يصرخ عوض.. تركض أم بهاء، ترشّ وجهه بالماء، تفرك صدره، ثم تجبر حلقه على ابتلاع سائل لزج.!

لا بد أنها حكايات ذلك العصفور.!؟

أي حكايات  يمكن لعصفور صغير أن يبدّل في سردها تكوين إنسان.؟ هل كان الأمر كذلك.؟

حَمَلت القفص تريد أن تلقيه بعيداً.. حانت منها التفاتة إلى وجه بهاء، كان يعض على لسانه بقوّة.. أعادت القفص إلى مكانه.. فاستكان..

*   *   *

هذه الأسوار العملاقة تقف بيننا، كنت أستطيع أن أصل بناظري حتى شاطئ البحر، تتخبط أطرافي وأعضائي.. أشعر بدوار وغثيان.. أحس رغبة في التقيؤ.. بعد لحظة يتيبّس كل ما فيّ.. تحملني أمي إلى المدينة.. تلك الأجهزة البرّاقة تبعث في هذه الغرائب الملتصقة بي خدراً ليس لذيذاً لكنّه يحمل كثيراً من مواجعي.. يثبّتونني على السرير، أسمعُ بكاء أمّي.. يرتجف لساني، كأنني أقول لها أنا الآن أفضل، لكنّها لا تكف عن البكاء.. كم كان يعذبني بكاؤها..

أذكرُ يوم رفعنا أربعة جدران من طين، وألقينا فوقها قصباً وقشّاً وحصيراً قديماً سقفاً لحظيرة فقيرة لا أكثر، تظلّل بقرة اقتنتها أمّي.. قالوا إن حليبها يخلق في جسدي الهشّ عظاماً جديدة سليمة.. بعد أيام جاءتنا من كل حدب وصوب خوذات مجنّزرة، وشعور شقراء.. جرفوا الحظيرة، وشجرة التوت، وأحواض البقدونس والنعناع، واقتلعوا عتبة البيت..

اليوم لا تستطيع هذه الحمائم البيضاء الهزيلة أن تحملني إلى أي مكان، ضاقت بين صفير أجنحتها عشرات الدروب التي عاشت معها ومعي دقائق عمرها وعمري..

رصفوا تحت قوائم الكرسي الذي يحمل حطامي طرقات جديدة.. عريضة جداً، تدور وتلتفّ إلى أن قتلت بإسفلتها المحرق الحمام والعصافير وفضاء المسافات، وأغلقت في درب صعودها إلى قمّة التل ركناً من السماء.. ثم أقاموا على تخوم بيتنا هذه الجدران المزيّنة بجدائل سوداء، تحمل على رؤوسها مربّعات خمريّة، ترتفع وترتفع حتى التصقت بحدود الكون، لا أرى من خلالها غير قرميد أحمر جاف لا أستطيع أن ألمسه..

يومها قالوا إنه عالم آخر.. عالم ساحر قادر على بعث الحياة في أطرافي الميتة.. لكنني عند أول نوبة تشنّج يبستّني، لم أجد غير حواجز ودروب مسدودة، وشوارع تقود في منتهاها إلى بيوت حمراء أيضاً.. منذ ذلك اليوم وأمّي تجرّعني هذا السائل اللزج، أتظاهر أنه يشفيني..

تراها تصدّق أن هذا الخليط يستطيع.؟

ينفض العصفور جناحه الكسير.. ويصمت.!

*   *   *

يجلس عوض بينهما، ينظر إليهما بعينيه الصغيرتين، يستجمع في رأسه الأبله ترانيم الحكاية..

ينتظر هو الآخر ذلك الحلم الممتطي ورقة تحمل له نهاية انتظار بدأ مذ سافر أخوته إلى بلاد الله الواسعة.. يومها ودّعوه على مشارف القرية، كانوا يحملون حقائب صغيرة ورهبة.. قالوا وهم يبتعدون شيئاً فشيئاً: سنكتب لكم دائماً.. إحساس غريب كان يصرخ في أذنيه أنهم لن يفعوا ذلك أبداً.. يعرف أن أحلامهم تخشّبت أمام وميضٍ برّاقٍ واحد.. السفر..!

لكنّه ما يزال يحمل إصرار الانتظار.. وينتظر بشارة، لا تأتيه..

تعلّب بين البيوت القليلة التي اختارت سكون الريف القريب، وغابة الصنوبر، ومركز البريد في المدينة القريبة.. تقول له الطرقات الجديدة، والبيوت الجديدة أن العالم يمدّ لك لسانه.. وأنت على عتبات هذه البيوت الكئيبة، لا تملك غير البلاهة، وجناح عصفور مكسور، وطيف جسد أنهكه الشلل..

هي أصوات مكبوتة تتحدّث خارج ألسنتها.. يجلسون ثلاثة في فضاء ضيّق.. ضيّق جداً.. ينظرون إلى بعضهم عبر عيون كستنائية غائبة عن متاهات السرد..

كانت القذائف تحمل أزيزها وألوانها الزرقاء تتساقط على مقربة من البيوت، "بهاء" يسمع عسيسها، ويعلك وجعه.. يعض على لسانه.. يجاهد بذلك الجزء الحي من دماغه للوصول إلى قفص العصفور الحبيس..

هل يقدر أن يطلقَهُ، وينقذه من الهلاك المتساقط عليهما من فرجات السقوف الخمريّة.؟

عوض في طريق عودته.. يسمع هدير انفجارات قويّة، ولا يكترث.. بين أصابعه رسالة من أخوته.. أخيراً يرسلون الرسالة، يفضّها على عجل.. لم يستطع أن يقرأها.. كانت تحمل رسوماً لخرائط جديدة، وأعلاماً جديدة، وفضاءات جديدة.. زاغت حدقات عينيه في زحمة ذلك الجديد..

أنزل سراويله، وبال عليها..

فجأة تتشنّج خطواته.. راح ينقلها وئيدة.. يخرج بها من تحت آخر ظلّ ترسله شجرة صنوبر عملاقة تلفظ أنفاسها تحت أسنان فولاذية تلتهمها، تبعث في مفاصله وهي تموت قوّة لم يعهدها من قبل، فينطلق بأقصى سرعة.. يناضل بأطرافه وأسنانه للوصول إلى قلب الفجيعة..

أطلّ على مواقع البيوت الحجرية، لم ير غير أنقاض متراكمة فوق بعضها..

تباطأت خطواته، اقترب من أول البيوت..

لأول مرة يرى بهاء خارج كرسيّه.. لسانه يطل بإصرار من فرجة بين أسنانه..!

وعلى طرف شفتيه طيف ابتسامة..

بينما كانت يده الضئيلة النحيلة ملقاة على أسلاك القفص الخالي..

 

 

 

وجعـــي هــو المكــان

 

أتسألني.؟

حسبتك تفعل عندما سبحت في لحظة سحرية كائناً من لحم ودم بين جفنّي والحدق..

رأيتك.؟ أقسم أنني رأيتك.! تحملني في بياض عينيك المتعبتين وتحمل (كما كنت في كل الأوقات) إرثاً يخصّنا..

تقتلعني من وحدتي وغربتي وشيبي ونزيفي، وتردني في اللحظة نفسها إلى زمن سحيق أنهكنا.

تحملني يا وجعي فوق صدرَك، ثم تبكي بين يدي، تركعُ في محرابنا، تستغفرني، فأغفر..

أتذكر.؟ ما زال هو المحرابْ الذي عرِفت، ينّز رطوبة تقتل حتى الصراصير، ويصفر كلما عبثت بصفائحه الريح.

ما زال معلقاً صامداً بين ضفتين ليس لهما ملامح..

أتذكر.؟ يوم ساقني قدري إليك، وكنت طفلاً لم تزل، تجاوزت بك لحظات خلقك الأولى، ويا لها من لحظات زحفت بطيئة مستحيلة..

من يصدق.؟ طفلةُ ما تخطت ثماني سنوات من عمرها ترعى طفلاً وضعته أمه للتوّ، وغابت وراء غلالة بيضاء قبل أن تتخّلص من حبل سري يربطك إليها.؟

قالوا ماتت.!

 فجأة ولد الفزع.!

هل تمضي الحياة بنا أم تتوقف.؟

هنا في صمت المحرابِ المعلّقِ بين فضائين صحوتُ عليك وعليها، وجدت في شراييني دفعةً واحدةً مدادَ الأب والأم، وكان يجب أن نخترق الحاجز المستحيل.!

ثم حملتك بعد حين والخوف يصرعني كما صرَعك نزيزه المتواصل، المشحون بحبيبات غبار رطبة أتلفت رئتيك فيما أتلفت..

حملتك يا عمري ومضيت بك إلى مكان ما، إلى ركن ما، تحت سماء ما..

صعقتني أحذية في الطريق لم أر غيرها في الزحام، وأنهكتني رحلة طويلة طويلة.

غرزتك خلالها على كتفي، وغرزت سنوات عمري العشر فوق كتفي الثاني..

أتذكر.؟

كم كنت أخاف أن يغلبَني النعاسُ فأنام، وتغفل عيناي ويداي عن أكوام أدوية يجب أن تتجرعّها، قالوا:

- في معجزة خليطها يكمنُ سرُ حياتك..

فأربط ضفيرتي الصغيرة بخيط إلى مسمار في أعلى الجدار، وعندما يغلبني نعاس طفولتي، ويكادُ يميلُ رأسي، يشّدني الخيط، فأصحو..

أنظر إليك، أراقب خلجات جسدك الصغير بوجل، أتابع تردد أنفاسك، أعدّها، أقيس ما بين الواحدة والأخرى، أحسبها تارة تنقص فيعتصرني قلبي، وتارة تزيد فأعتصره.. أقوم فوق صدرك يعلو ويهبط، أخيطه في نسيجي، فيغدو قطعة مني، أُحصي ما يعتمل داخله خفقة خفقة..

كم طال بنا المقام وتكرر قبل أن نعودَ دائماً إلى محرابنا..

يومها رأيتك كبرت أكثر، تشبّثت بكفيّك وركبتيك بي، قالت لي عيناك لأول مرة أنك الآن تعرفني، فحملتني رفوف نوارس إلى دنيا تزيّنت في أحلامي، فرأيتها حقيقة تنبض بالروح.

قلت لي، وضفيرتي تداعب صفاء جبينك، أنك الآن تعرف والحزن يبدأ مع رجفاتك الأولى أن ليس لك سواي، ولم يبق لي سواك..

اليوم فقط بعد غيابك الذي أضنى جسدي، وأعمل فيما تبقى من عظامي تفتيتاً وتمزيقاً، فقوّس بعضها، وأرجف بعضها الآخر، فجأة تقتحم أشعة الشمس محرابنا عن قصد، ربما أشرقت من مكان آخر، من مكان أنت فيه الآن تذكرني أو لا تذكرني، أشعّة شمس رائقة حملتها رّفوف النوارس ذاتها، وحّطت بها تماماً فوق موقع النزيف..

كان الضوء أقوى من جلدي، فأطبقت جفني..

في اللحظة نفسها، رأيتك.؟ أقسم أنني رأيتك.!

كنت تسبح  وتتخبط، رأيتك تكاد تغرق، تمّد لي يدك النحيلة، وسعالك المتواصل، ورشقات من دمك القاني، مددت لك يدي وعمري، وانتشلتك.

أتدري يا عمري.؟ انتشلتك من الوادي السحيق ذاتِه الذي قذفتك إليه بيدّي هاتين ذات يوم.. فأضاءت وجهك ابتسامة.. كما كنت تفعل كلما أتيت ذنباً وأردت لك العقاب..

أتذكر.؟

أقودك إلى المدرسة قسراً، تسألني، لماذا.؟

ولأنني لا أعرف، أقودك بإصرار أكثر، وأنتظر أمام البوّابة ساعات طوال حتى موعد الانصراف لأعود بك إلى المحراب، أطعمك بيدي وأسقيك بكفي، وأراقب لحظة بلحظة بريق عينيك يكاد يغفو فوق الحروف السوداء فأوسدك صدري وأغطيك بعمري..

يا وجعي وأنت تكبر، وتكبر، وبين الحين والحين تصرعك نوبات سعال خلفّها مرض ذلك اليوم، فأحملك إلى فوق، إلى سطح المحراب، هناك حيث السماء أقرب، أجمع بين أصابعي كومات هواء أحشوها في رئتيك، أعطيك أنفاسي، أحسب أنني أنتشلك في لحظة سحريّة من براثن الموت..

حتى عندما كبرت صرت تعرف الطريق، تزحف إلى فوق وحدك، تعّب قدر ما تستطيع من الهواء، بعدها تضيء وجهك ابتسامة رائعة الصفاء..

ولا أملك إلا الصبر والأمل والعمل المنهك، مرّات في مستودعات تغليف الصناديق المحشوة بأصناف من الحلوى في أقبية المرتزقين، ومرّات عاملة على آلة كي الألبسة الجاهزة في مشغل حقير.

وبين هؤلاء يجتّرني عمري، وينساب شبابي، أقاوم ضعفي بضراوة ولا استسلم..

بنيت بيني وبيني صفائح لا تخترقها رغبة ولا هوى، وكنت وحدك الحاضر في كل حين، والعمر يمضي، وأنت تكبر..

أتذكر.؟

يوم سألتني أين أبي وأمي..؟ سألتني، من أنا ومن أنت..؟

أتذكر..؟ لم أكن أجد لأسئلتك أجوبة.. 

يا وجعي.. لم أكن أملك الجواب..

من أنا أو أنت..؟

كل ما أعرفه أننا رفيقا رحم واحدة.. وقد عرفتها، عشت معها، أحببتها، كانت مثلنا لقيطة هذا العمر، معصورة هي الأخرى بين الرحى والطباق، مصهورة كل ليلة كل ليلة في أتون محرق حدثتني عنه طويلاً، كنت صغيرة ولم أدرك..

عندما كبرت قليلاً أدركت أننا أنا وأنت نبتنا في لحظة قاتمة من حجر صلد أصم، جئنا من مكان على خارطة التاريخ، لم أعد أذكر منذ متى ولا من أين.

قالت ألف مرة أننا فتات أب تبخر مثل قطرات الندى، ولم يفارق لا هو ولا المكان حلمها إلا ليلة لفظتك.. وماتت..

مسكينة كانت، وحزينة عاشت، ضيعتّها ذكرى ضبابية مجهولة، وجرفتها طواحين الحياة، ولم تبق لها أكثر من المحراب والمكان والحلم بنا..

من أجلنا، من أجلنا فقط..

سألتني يومها، فسلكت السبيل الهين.

قلت ماتا.. كانا عظيمين وماتا.! وأغلقت باب السؤال..

 تشبثت بك، ورفضت كل الرجال، سمعت نصيحة لأمي ما زالت تضج في رأسي..

- أخوك أخوك ولا كل الرجال.. كلهم في المصيبة سواء، يصهَرون ويمضون، يزفّون شعارات فارغة جوفاء، ويخلّفون وراءهم الفتات وبذور الفجيعة..

علمتني أن أخاف ظلمة الطريق، قالت أن لا شيء يستحق..

كنت صغيرة أول الأمر فلم أدرك، عندما كبرت رفضت كل الرجال إلاّك..

حسبتك أنت دون العالمين تبقى عمري ورفيقي وشبابي..

لم أدرك أن يوماً سيأتي تفزعني فيه أسئلتك ولا أجد لها جواباً، كبرت يا عمري، وكبر السؤال..

من أنا.؟ ومن أنت.؟ من نحن في هذا العالم الزاخر بألوان الطيف فوق سطح المحراب ووراء بابه، هذا الإرث الذي لم تملكّنا الدنيا سواه هذا المعلق في فضاء ما، على رقعة من الزمن، وسط عالم غريب ربما (ليس لنا) وكنت أتعذب.!

كيف لا أقدر أن أكون نبع المعرفة الغزير أمام رؤيا تفتح طفولتك، صدّقني، حتى عندما أصنع جواباً ما أسخر به من نفسي وأقوله، أدرك أن العمر لم يترك لي مساحة للمعرفة، وأن العالم هذا الكبير الذي شّد اهتمامك يريدني ويجعلني أكثر جهلاً من ماعز الجبال.!

فجأة توّقف على لسانك السؤال، أدركتَ أنه يعذبني فكتمته في صدرك.

تساءلت ألف مرة هل يتسع صدرك لأشياء أخرى.؟

أتذكر.؟

هذا الذي أسميته أنت محراباً، كنت أسميه جحراً، كما أسمته أمنا..

عندما كبرت يا عمري أسميته محراباً.. قلت أن الجحر لا يتسّع لأكتاف الموتى.. وأدركت فيما بعد أن المحراب وحده رغم قدسيته قد يتسع لمن يموت راكعاً أو جالساً، لكنه أبداً لن يتسع لمن يملك إرادة الموت واقفاً..

لفظتَ حاضرك الذي بنيته لك إصبعاً بعد إصبع، وحَملتَ همّك دون همّي، ورضيتُ لك الرحيل..

قلتَ:

- بضع سنوات ثم أعود.. أنت أمي وأختي ورفيقتي، أحملكِ عرفاناً على حصان أبيض يخّب بين القارات، نخوض عليه مجاهل العالم، نترك فوق كل معلم فيه أثراً، وأجد معكِ المكان المغّيب، نزيّنه بالنقاء، ونجعله محراباً حقيقياً يتّسع لكلينا واقفين أو ساجدين، ويقدر أن يشحن في صدورنا قدر ما نحتاج من هواء نقي، يطهّرنا، يطهّرنا..

زيّنت لي، وأغريتني، ومضيت..

كتبتَ لي ألف رسالة في ألف يوم، أحفظها تحت جلدي، أفردها ما زلت كل ساعة، أخطّها كحلاً حول جهد عيوني، وأصبغ من مدادها الأسود حلّة شيبي..

فجأة توقف كل شيء، لم أعد أذكر منذ متى، ومنذ متى ضاقت الدنيا وأطبقت الصفائح من حولي.. صمت كل شيء، ونزفت الحياة في جوفي صريراً صدئاً..

توقفت نبضات سعال عشت على صداها، وجفّت مناديل البقع الدامية.. لم أعد أذكر منذ متى.؟

أتذكر.؟

عندما اقتلعوك من المشفى لأننا لا نملك ثمن العلاج.! وعندما اقتلعوك من المدرسة لأنك سألت عن شيء محرم عليك فيه السؤال.! وعندما اقتلعوك من صلب المكان حتى ذلك الجديد، وزرعوك قسراً وأنت تحمل الإرث "يقولون صباح مساء أنك تحمل الإرث" تحت يافطة كبيرة مكتوب عليها بخط رديء "شعبة الأجانب"..

أتذكر يا عمري تلك الزوايا التي حملت بكاءنا ونحن نصارع باللحم خفافيش الخطيئة، ندافع عن حق لنا في الحياة ليس أكثر.. أتذكر.؟

الآن يحاولون اقتلاعي من المحراب.

المحراب يا عمري، حتى هذا الضئيل الضئيل..

أتذكر.؟

فيه فتات أب لنا تبّخر في ليلة ظالمة.. فيه ريح أمنا، مازالت تئن وراء حبل سري يربطها إلي وإليك..

على أرضيته الخشنة سفحت شبابي وعمري.. وعلى جدرانه المذبوحة بشظايا سعالك ما زالت تنزف أسئلتك وحيرتك وآهاتك..

يا وجعي المخبأ في مكان ما.. في زمن ما.. تحت سماء ما.. صمدتُ حتى اللحظة رغم شيخوختي تشدني إلى القاع بعنف..

تشبّثت بأظافري وأسناني..

ترى، لو أنهم يقتلعون المحراب من بين أصابعنا.. أين نمضي..؟

هو المكان.. محراب أو جحر أو سمه ما شئت.. وحده الآن ما تبّقى لك.. وما تبّقى لي..

هو الإرث الوحيد الذي أملك عليه السلطان، وهو الوحيد الذي أستطيع أن أطمئن فيه عليك..

هكذا علمّتني أمي.. وهكذا أعلمّك..

 

 

بــارود.!

- تدفعون الديّة..

قال الرجل السمين، الجالس في صدارة المكان..

- ولكن يا سيدي، لقد تسبب هذا الكلب في قتل ثلاثة من رجالنا، وفي إجهاض امرأتين، كما أن خمسة أشخاص باتوا يحملون بسببه عاهات مختلفة.

أجابه المختار، وهو يستنصر بنظراته المستكينة عاطفة الناس المجتمعين في مضافته. لكن أحداً منهم لم يبد رأياً ولا حراكاً.

فرك الرجل السمين كفيه بعصبية وأردف:

- لو لم تعملوا على استفزازه لما قام بالدفاع عن نفسه، إنه كلب مدرب وله صاحب، وليس من الكلاب الضالّة ولا العادية.

أغمض المختار عينيه قليلاً، وتمتم باستسلام:

- ندفع الديّة..

يهبّ مزعل واقفاً ويقسم برأس أبيه أن يكون ثأره، رأس صفوان..

يقرفص إلى جانب جيفة الكلب الملقاة فوق العشب اليابس، يضرب صدره بقبضة يده، يرفع العقال عن رأسه ويصفقه على الأرض، يحاول أن يلمس الجيفة بأصابعه المرتجفة، لا يصدّق أنه فقد بارود إلى الأبد.. يقوم.. يركض.. يتلفت يمنة ويسرة، يستحضر من أرجاء المكان الخالي أناساً شهوداً على الجريمة، ولمّا يردّه الصمت خائباً وتعجزه الحيلة، يمسك طرف ثوبه الطويل بأسنانه، ويركض، يحاول مرّة أخرى اللحاق بسيارة الجيب ولا يلحقها، يقترب من الجيفة، يتأكد أنها هامدة، ليس فيها نبض حياة، فينتحب من جديد..

طلقة مزدوجة سمعها تدوي في أفق المكان الصامت، خرج من خيمته المكتظّة بالنفائس، كان بارود كلبه المخلص يترنح، ينزف الدم غزيراً من وجهه المهشّم، ولم يلبث أن سقط بلا حراك..

كابوس مرعب ينقض على صفوان كلما أطبق جفنيه، يقف على قمّة التل، يراقب أشباحاً تقترب منه، يتقدمها كلب ضخم، قوائمه طويلة، ووجهه طويل، وأنيابه طويلة، يفتح فكيّة على مقدار حجم رأسه، وقبل أن يباشر افتراسه، تنقذه صرخة رعب تنطلق من حلقه تجعله يهب واقفاً، تنتفض فرائصه هلعاً، ويغوص قلبه إلى أخمص قدميه..

لقد فعلها أخيراً، حمل بندقية الصيد ذات الفوهتين، حشاها بطلقتين ثقيلتين مصنوعتين خصيّصاً لقتل الخنازير، مدّ فوهتها من شق النافذة الجانبي لسيارة الجيب، وحين اقترب من المكان، قفز هذا المسخ أمامه كالقضاء، كبيراً ضخماً، جثتّه تقارب جثة حمار مكتمل النمو. كان يسمع لهاثه، ونبضات لسانه، ويتابع نظرات شرر تقدح من عينيه، حتى أنه يشاهد أظافره يخربش صفيح السيارة المنطلقة كالسهم، يقتنص فرجة من النافذة لينقض منها عليه، يفتح شدقيه ويطرش لعابه الساخن على الإطارات. لا يتعب ولا يستسلم..

كيف يستطيع آدمي أن يربّي مثل هذه الوحش الضاري، يومها اختاره مزعل من بين خمسة جراء بلغوا من العمر شهراً واحداً، تحسس مفاصل أطرافه الأربعة بأصابعه الخبيرة فأدرك أنها ستكون على قدر من الشدّة والقوّة، فتح شدقيه واطمأن إلى صلابة أنيابه، كان لون جلدته أقرب إلى اللون البني منها إلى الأسود، فجأة ينتقل اللون عند بطنه ليصبح أبيضَ ناصعاً، وجهه طويل، وأذناه مستقيمتان، تتوسط جبهته بقعة سوداء..

حمله بين يديه، وانطلق به إلى مضارب عشيرته..

اختار بقعة أرض بعيدة عن مسالك القوم، وحفر فيها حفرة مربّعة عميقة، وجعل لها غطاءً من أخشاب متينة، وأهال فوقها بعض الأغصان والأوراق والحشائش، ثم جعلها بيتاً للكلب، كان يكشفها عندما يحل الظلام، ويلقي له عظاماً نيئة، يجلس ساعة إلى جانبه، يحدثه وكأنه بشر سويّ، ولا بد أن يلقي على مسامعه بين الفينة والأخرى الاسم الذي اختاره له.. بارود..

ستة أشهر كاملة لم ير بارود خلالها بصيص ضوء، ولم يتناول طعاماً غير العظام النيئة، ولا يعرف من المخلوقات غير مزعل..

قبل أن يطلقه من سجنه، كان عليه أن يكمل مهمة تدريبه وتعليمه على الشكل الأمثل، لم يتردد، قطع بسكينه الحادّة نصف ذيله، وطرفاً صغيرة من كل أذن، وحتى تلتئم الجراح سريعاً كان عليه أن يطليها بمحلول القطران المغلي..

كانت أمامه أمور على غاية من الأهمية عليه أن يتعلمّها بأسرع وقت حتى يكون مؤهلاً للعناية بقطيع الأغنام، وردّ أي أذى يمكن أن يتعرض له في تلك البادية الشاسعة، وفي رحلات البحث عن الكلأ التي تقوده إلى أصقاع بعيدة وغريبة ومجهولة..

تعلّم بارود كيف يكون ضارياً، وتعلّم كيف يقوم بعمل أربعة من الرجال الأشداء دون شكوى أو اعتراض، يقود القطيع في رحلة يومية إلى المراعي، ويحافظ على تجمّعه، ثم يعود به في المساء، يطمئن على وصوله سالماً، ويقوم على حراسته ساعات الليل دون كلل، في إحدى ليالي الشتاء الباردة هاجمت القطيع مجموعة من الذئاب الجائعة، عثروا في الصباح على جثث ثلاثة من الذئاب منتّفة وممزقة شر ممزق، وعثروا أيضاً على آثار دماء ممتدّة إلى مسافات بعيدة. تعلّم أن المنطقة المحيطة بالقطيع أينما وجد وعلى دائرة واسعة تحيط به هي حدود سلطته، لا يستطيع أحد الاقتراب منها، وإن حصل ذلك تحت أية ظروف فالويل كل الويل له، لم يكن ينبح، ولم يكن يثير ضجيجاً أو جلبة بل كان ينقض مثل الصاعقة، ويغرز أنيابه دون رحمة، وحين يحقق انتصاره يهزّ ذيله الأزعر، ويستلقي قريراً تحت أقدام مزعل..

في تلك السنة الجدباء، رسم القطيع خط سيره إلى عوالم أخرى أكثر بعداً، سلك طريقاً صعباً يمتدّ على عتبة جبال شاهقة، فجأة أشرف على سهل خصيب ممتد بين جبلين كأنه بلا نهاية، تتخلله أنهار عذاب، فاستقر به المقام، واختار موقعاً في بطن السهل تصادف أن يكون المعبر الوحيد لسكان القرية القائمة على السفح، وطريق ذهاب أهلها وإيابهم من وإلى أراضيهم الخصبة المفرودة على بقعة من السهل..

نصب مزعل بيتاً فقيراً قوامه أكياس خيش مرفوعة على أوتاد خشبية، وأراح القطيع، في اللحظة نفسها كان بارود يستكشف أملاكه الجديدة، واستطاع أن يقرر وهو يضع بوله في أمكنة محددة محيط مملكته..

كان الصباح الأول مفاجأة أذهلت الغادين باطمئنان إلى أراضيهم، فجأة ظهر عليهم بارود كالقضاء الهابط على حين غرّة، وراح يضرب فيهم ذات اليمين وذات الشمال، غرز أنيابه في أطراف بعضهم، وكسّر أوعيتهم ومزق متاعهم، ولم يتوقف حتى اطمأن إلى ابتعادهم خارج حلقته، ومن يومها خلقت في المنطقة حالة جديدة، صار المرور مرهوناً بموافقة سيد الكلب ورضاه، وقد طرب مزعل للأمر فصار يأمر وينهى، ويطلب ويختار، ووصل به الأمر إلى اختيار أفراد من أهالي القرية يخصّهم برعايته، وتسهيل عبورهم إلى أراضيهم، ويخصّونه بأطايب الطعام.

وحين أراد صفوان أن يستجلي حقيقة الأمر، ويجد مخرجاً لهذه الحالة، كان بارود ومن خلفه سيده يقفان له بالمرصاد.. انتظر ظرفاً مناسباً، في لحظة مناسبة، سدد بين عينيه وأطلق الرصاصتين تباعاً، الكلب يعدو ويقفز يسابق السيارة، ويحاول مستميتاً حتى اللحظة الأخيرة النيل منه. كانت معالم وجهه قد تلاشت تماماً، بعد لحظات سقط بلا حراك..

المطلوب رأس القاتل.!

عثروا على صفوان بعد عدة أيام جثة هامدة، مقطوعاً بفعل ضربة فأس حاد..

عندما فرغوا من مراسم دفنه صرخت زوجته بحرقة:

- حسرتي على زمن تتساوى فيه رؤوس الكلاب مع رؤوس الرجال..

مزعل يصنع \"باروداً\" جديداً في حفرته المربّعة، بينما الرجل السمين، يجلس في مكان آخر، يتحسس كرشه المتهدّل، ويهمس لمن حوله بسعادة وانتصار:

- لقد دفعوا الديّة.!

 

 

وطن وامرأة..!

 

وهل يقودني قلقي الكامن خوفاً متراكماً إلى صورة وطن يغيب.؟

أم إلى طيف امرأة في وجهها تفاصيل الوطن.؟ ويشدّني إلى تصوّرات تبدو ذات أمل ملتصقة بحقيقة.. ثم يصعقني اكتشافي بأنها سراب.؟

تُرى عن أيّهما أبحث.؟

وطن في امرأة.. أم امرأة في وطن..؟

وهل نبضت ينابيع شوقي بخفق جديد إلى امرأة غائبة.؟ ومضت تبحث عنها عبر تلافيف وطن سكن في ذاكرة.؟

أم هي رحلة لم تتوقف مذ بدأتُ أبحث عن وطن.. أخاله سيطفو ذات فجأة بين عيني امرأة.؟

تكتسحني رعشات السؤال فترجف أطرافي.؟

ألف امرأة من رياح الوطن حولي.. خصيبات.. ثراؤهن جمال ودلال.. ودعوات توشك على الصراخ.. كيف لم تشدّني واحدة منهنّ..؟

وآثرت بل ارتميت كعاشق غبيّ بين أحضان حب مستحيل جاءتني رياحه أخيراً على جناح نورس حملها وصرّها أمام لهفتي من أرض الوطن.. الذاكرة..!

وكم حاولوا وأرادوا أن يصوّروه لي ولأبنائه بأنه عين المستحيل.؟

ما أعذب الغوص في بحور المستحيل.!

ها أنا ذا أغوص فيها حتى قيعانها.. ترفرف الأجساد الشهيّة فوق لهاث شوقي.. تقترب أكثر.. تكاد تلمس أصابعي.. فأعزف عنها..!

ولا أكفّ عن عشقي لـ مستحيل..!

أرتمي مثل طفل غرير في أحضان عذابات أعرف أنها لن تتوقّف.. تروح وتجيء تحمل لي على جناح النورس ذاته ريح الوطن.. تقرّبه من حلمي.. وتبعد عن شوقي لهفة اللقاء.!

وأعرف أنه مستحيل.. فأستمرئ عذابي.؟

أيهما.. امرأة في وطن.؟

أم وطن في وجه امرأة.؟

أمام أيهما أنا قعيد..؟

امرأة تذرف جسدها وروحها تحت طيّات لهاثي.؟

أم أمام عذابات اللقاء المستحيل بامرأة من فضاء بلادي..؟

أم تراني فتى لا أملّ حلم نشوة مستحيلة.. مع امرأة مستحيلة.؟

يااااه..

وأيّ قدر هذا..؟

جاءني على موجةٍ من بحريّ الأبيض الغائب.. ثم ألقى أحماله فوق طيف حلمي.!

أكاد ألمس أصغر تفاصيله.. وكنت أحسبه يقيناً ذروة حب بين روحين تسكنان في حطام آدميين..؟

سحابة هو السؤال..!

 سحابة عاقر أقامت حدوداً شائكة بين روحين.. شَطَرتْهُما إلى نصفين لو جمعتهما ثانية ما تطابقا.!

فمن أين جاء الوهم..؟

جلدني السؤال فتحسّست جسدي.!

عجباً..! هل هو جسدي يهرب من أصابعي..؟

أم أنني الوهم..؟

دعني من السؤال.! واعبر معي إلى مصير الشطرين..!

سألقي بشطرٍ في متاهات مجرّات أعرف أن ليس لها قرار..!

وأتشبث بالأخر وأعرفه هو.. هو المستحيل..

أعشّقه روحي.. وأربّيه.. أحسّه يكبر.. يكبر..!

فهل تراه يكبر حقّاً..؟

امرأة أم وطن.؟

يااااااه..

وامرأة حلمي مستحيلة.. لكنّها ظلّ أمل..!

التقيتها ذات حقيقة.. أو ربما ذات حلم.؟ لم أعد أذكر..!

والوطن.. وطني.. حريص على حلمي.. يأتيني في وجه امرأة نبتت من أرضه..!

أكاد أسمع هديل موجات بحري الأبيض ينبض في وجهها..

كأنني لا أصحو من الحلم..!

فهل أجد فيهما ذات الأمل في اللقاء.؟

أم أواصل رحلة المستحيل معهما.؟

 

أضيفت في 10/10/2004/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية