غسّان.. المُعلّم
( خاطرة )
في الذكرى الـ 33 على استشهاد الأديب غسان كنفاني
|
هو تموز يا أخي يقودني إليك.!
مثلما يفعل كلما زحفت أيامه فوق سبل الحياة، على درب طوله أحد عشر
فرسخاً، يُغلق دائرة عام من عمر الزمن.. معلّباً في جملة قصيرة
أعلَنْتَها ذات يوم، محّشوة بألف سؤال.!
"إنه ثمن باهظ بلا شك أن يشتري الإنسان حياته اليومية، بموت يومي" |
أية فلسفة سهلة تنساب بين هذه الكلمات المقتضبة التي أسالها غسّان
مختصراً مسافات شاسعة من التنظيرات، ومعلناً سباقاً "بنصفه الذي بقي حيّاً"
بدأ لتوه مع ذلك المجهول الذي غزا جوفه، وأعلنه طبيب في عيادة متواضعة، قال
كلمة واحدة، رفعت جداراً عملاقاً انتصب في لحظة بينه وبين الحلم والأمل..
السكري..!
الموت من هنا يعلن زحفه.. يبدأ غازياً خفّياً للشرايين، ثم ينقّض في
لحظة غائبة، يقضم ساقاً أو ينتزع عيناً أو لساناً..
هكذا تصبح الصورة.. يتبدل العالم من حوله إلى زجاجات وقوارير، وحقن
يغرزها في لحمه تحمل إلى عروقه كل صباح ومساء شحنات [أنسولين].. أو قضمات
من السّكر، تحقق التوازن إلى حين. وهو يعلم أنها تفعل ذلك إلى حين.!
لم يستسلم.. بل أعلن السباق.!
* * *
ألقيت بجسدي المثخن فوق الأريكة الصفراء، ودارت رأسي كما المروحة
الكسولة المعلّقة بالسقف التي تدور هي الأخرى بإعياء، ولا تقف عند قرار..
أغمضت عينيّ..
تمنيت عصىً سحريّة تلمسني، تحّولني إلى رجل خفي، أو رجل خارق، لعّلي
أستطيع مرّة واحدة إعادة كل شيء إلى مكانه الصحيح، وأنهي هذا الكابوس
الموغل في العمق، الذي يسّطح الأشياء إلى غابة من الضياع، ثم أقبض على تلك
الأصوات الملعونة التي تصرخ من كل مكان..
تطلّ من شاشة، وتنبح من وراء منبر خطابة، وتتقيأ على صفحات مجلّة،
أو من مذياع..
كأنهم غابة من المحنّطين ثبّتت أجسادهم بأثقال من الإسمنت الأسود..
أذرعهم طويلة، رؤوسهم ممطوطة، يطبقون على كل ما يتحرك، يصرخون دون توقّف:
ـ أنت مهزوم… أنت مهزوم..
أغمضت عيني ثانية.. تلمّست أعضائي.. وجدتها ممتلئة بالقهر
والإحباط.!
لو يبعث نبيّ من جديد.؟ يحمل عذابات المقهورين وآلامهم، يصقلها
برغبة انتماء حقيقية، أو يحمّلهم سيوفاً يقتحمون بها أحد القضاءين.!
تحملني الرياح الثقيلة.. وتأخذني إلى سهوب مفرودة، ثم تتركني في
ساحة ذكرى صغيرة، أمام باب خشبي متواضع لبيت قديم في حارة "الشابكلية" أحد
فروع حّي القنوات القريب من شارع النصر وسط العاصمة دمشــق يضّم فسحة
مكشوفة (الديار).. حولها غرفتين، ومطبخ، وثلاثة أحواض ترابية، يحمل أحدها
شجرة برتقال معمّرة، وفي الوسط بركة ماء، ودرج خشبي في الركن الأقصى يوصل
بأكثر من عشر درجات سميكة إلى فسحة مكشوفة أيضاً (المشرقة).. محاطة بإفريز
من القضبان الحديدية، عليه مقبض طويل من الخشب، يهتّز ويتراقص مع حركات
الارتقاء والنزول.. تنتهي الفسحة العلوية المكشوفة إلى غرفة صغيرة كثيرة
النوافذ يسمونها (الفرنكة)..
في هذا البيت المتواضع والقديم أقمنا ردحاً من الزمن، منذ أواسط
1949 بعد أن أوصلتنا رحلة نزوح طويلة من يافا إلى عكا إلى الغازّية في
لبنان، إلى حمص فالزبداني، ثم إلى دمشق العاصمة العريقة التي أصّر والدي أن
تكون آخر محطة، نقيم فيها، ونعود منها..
في ذلك البيت تعلّمنا أنا وأخوتي الثلاثة طّي أوراق الملازم للصحف
والمجلاّت لحساب المطابع القريبة وتعلّمنا كيف ننسى طفولتنا أمام
استحقاقات أهم، وكيف نصّير أجسادنا آلات تتحرك وتعمل بلا كلل وبدافع غريزي
بحت لتحقيق استمرار القدرة على العيش، فقط..
تعلّمنا أن لا نمرض ولا نشكو، وأن نكتفي أحياناً بالخبز وحده غذاءً
رئيساً، وأن نتجاهل الأعياد والأفراح..
تعلمّنا كيف نقاوم البرد بأجسادنا النحيلة، وأن لا نشكو من القيظ.
تعلمّنا كيف ننام أربعة على فراش واحد، وعلى كتف واحدة مثل أسنان المشط..
وحين دبّرت أمّي أشياء مختلطة كثيرة جمعتها من كل مكان، لتصير بفعل
القدرة، فراشاً مستقلاًّ لأخي "غسّان" الذي كسرت ساقه كسرين مضاعفين إثر
سقوطه في حفرة على جبل قاسيون في أثناء رحلة مع رفاقه (محمود رمضان وسهيل
عيّاش وابن البرغوثي)، فحملوه على حمار إلى مستشفى الغرباء في حّي الحلبوني
ليخرج منه بساق محمّلة بالجبس من أعلى الفخذ وحتى أطراف الأصابع، ألزمته
القعود في (الفرنكة) أكثر من شهرين ينام على فراش وحده..
الأمر الذي بدا لنا غاية في الترف..
يومها لم يكن تجاوز الثالثة عشرة من عمره.
لقد مثّل لي غسّان باستمرار كما كنت أرى في ذلك الوقت صورة حقيقية
للمحور الذي تدور حوله كل أطياف طفولتنا (المقعدة) كما كان يحلو له أن
يسميها.
واستطاع أن يجعل من فترة كساحه المؤقتة امتداداً وتأكيداً لذلك
المحور..
يشدّنا بقصصه وحكاياته المثيرة التي عجبنا منذ ذلك الوقت كيف يستطيع
ترتيب أحداثها الخيالية بدّقة مدهشة، ويصيّرها أمامنا أشكالاً حقيقية
لأبطال حقيقيين يتحركون وينفعلون ويفعلون سواءً على الأرض أو على شاشة
بيضاء، ترسم أحداثاً متسلسلة متسّقة تجعلنا أشّد ما نكون حرصاً لنلتّف حوله
كل مساء بشغف وتحفّز..
نستمع إليه، ونستمتع بالرسوم الرائعة التي كان يدعم بها أبطال قصصه
وساحات تحركهم برسمهم على الجبس الذي يثقل ساقه المكسورة..
أسند العصا الطويلة التي أحضرتها له من أشجار البساتين القريبة
لتساعده على الوقوف، وفرد ذراعيه على أكتافنا، نظر في وجوهنا طويلاً ثم قال
وكأنه ينزع مسمار الأمان لقنبلة:
ـ إنه يحتّل البيت من عشرة أيام..!
لم يجرؤ أحدنا على النطق، خيّل إلينا أنه سيبدأ سرد حكاية جديدة..
تابع يقول بجدية:
ـ رأيته.. يبدو أنه يسكن في مكان ما تحت الدرج، يعرف متى يكون البيت
خالياً فيخرج، يدخل إلى المطبخ، ويتجّول بأمان هنا وهناك، ومتى شعر بحركة
غريبة يعود سريعاً إلى تحت الدرج..
شّد قبضته على كتفي، وتقدّم برأسه إلى الأمام، وقال بهدوء أكثر:
ـ اليوم أعتقد أنه أحّس بوجودي.. تصوروا.! لم يهرب، نظر إلي طويلاً،
ثم وقف على قائمتيه الخلفيتين، وأخذ يضرب بيديه على شاربيه الطويلين.. رفعت
العصا فلم يتراجع.. أحسست كأنه يسخر مني..
عشت الأيام اللاحقة مع غسّان أحداثاً لمغامرة فريدة، شدّتني كما لم
يشّدني حدث متحّفز طيلة السنوات التسع من عمري التي انقضت وأنا لا أستطيع
إدراك المجريات من حولي.. ولا التعرّف على ماهية الأسباب التي وضعتني أنا
وأسرتي في المخاض الجديد المختلف "كما كان يقول غسّان".
كان غسّان رغم سنيه الثلاث عشرة يمثّل أمامي ذلك النبع الغزير من
المعرفة المطلقة بكل الأشياء، يعرف الأسباب ويصل إلى النتائج. يتلمّس
الطريق بوضوح "كما اعتقدت في كل الأوقات" للدخول والخروج بسلاسة ويسر
وهدوء..!
عشت معه تفاصيل المغامرة المثيرة..
ربطت حبلاً بمزلاج الباب الخارجي وأوصلته حتى طرف الإفريز بجانب (الفرنكة)
ليتمّكن عندما يكون وحده في البيت من فتح الباب لأي طارق ومن مكانه فوق..
تعلّمنا كيف ننصب فخّاً.. أحضرت غربالاً أوقفته مائلاً، وأسندته إلى
عود دقيق، ثم ربطت العود بخيط أوصلته أيضاً إلى فوق، ووضعت تحت الغربال
قطعة من الجبن الأبيض..
لكن الأمر لم ينجح مع المحتّل الجديد الذي كان "كما قال غسّان"
ـ جرذاً يقطر ذكاءً وخبثاً.
أحضرت حبوباً من القمح المسموم من "دكّان برو العطّار" ونثرتها بين
المطبخ وتحت الدرج، ولم تنجح هي الأخرى في القضاء عليه..
كان الجرذ وكأنه يعرف، يقفز من فوقها..
حاول غسّان أن ينزل الدرج ويطارده، لكن الجبيرة الثقيلة التي تحمل
ساقه حالت دون ذلك.. حملناه من وسط الدرج، وعدنا به إلى (الفرنكة)..
كثيرة الخطط التي درسناها وخطّطنا لها ونفذّناها، لكنّها خابت
جميعها..
وكان الجرذ اللعين يتمكّن من النجاة في كل المرات..
لم أكن حتى ذلك الوقت قد رأيت الجرذ، رغم أني فتشّت المكان تحت
الدرج، ولم أعثر على أي أثر، وكدت أصّدق بأن الأمر كله "كما قال أخي
الأوسط" مجرّد بداية لحكاية مثيرة جديدة من خيال غسّان يحاول أن يشّد بها
انتباهنا قدر ما يستطيع.!
قلت له في لحظة يأس:
ـ لو نفتح له الباب، ونتركه يخرج.!
أجابني بثقة وتحد:
ـ هل تعتقد أنه سيخرج.؟ أعتقد أن الأمر بيننا وصل إلى مرحلة
متقّدمة.. الهارب هو الخاسر، ولن يقبل أحدنا بهذه النتيجة..
سكت قليلاً، ثم قال وكأنه تذكّر شيئاً:
ـ لو أنك تراه كيف ينظر إلي.. يدور بسخرية حول البركة، ثم يقف في
مكان يختاره ليكون أمامي بغاية الوضوح، يضرب الأرض بقدميه حيناً وبيديه
غالباً.. يفتح فمه القبيح، ويصرخ.. أسمعه يقول:
ـ أنت مهزوم… أنت مهزوم.. يكررّها ألف مرة، ولا أستطيع أن أفعل
شيئاً..!
تصلّبت عروق رقبته، وبدت لي جبهته أشّد لمعاناً.. شّد على كتفي،
وتمتم:
ـ قبل أن تذهب إلى المدرسة في الغد، أحضر لي السكين الكبيرة من
المطبخ..!
وقبل أن أمضي، خيّل إلي أنني سمعته يقول:
ـ لا بد أن ينتهي الأمر..
عصر ذلك اليوم.. عدت من مدرستي القريبة.. وجدت باب البيت مفتوحاً،
دخلت بسرعة وترّقب..
رأيت غّسان يقف منتصباً في فضاء الفسحة العلوية، ساقه المثقلة
بالجبس مغروزة كأنها رمح فارس عائد لتوّه من معركة، يقبض بكلتا يديه على
حافّة الإفريز..
ابتسم بانتصار.. قال بمسرحية وهو يفرد يديه قدر اتساعهما:
ـ ألم أقل، أن علينا أن نحسم الأمر مرة واحدة..!
رأيت في اللحظة نفسها خيطاً متّصلاً من الدماء ممتدّاً من جانب حوض
شجرة البرتقال حتى طرف مصرف البركة.. ورأيت العصا الطويلة الثقيلة الحاّدة
الرأس مغروزة في عنق الجرذ الملقى قتيلاً بضربة صائبة سددّها غسّان من فوق
إلى رأسه مباشرة. أصابته وقضت عليه..
لأول مرة.. رأيت فيها الجرذ المقتول..
أحسست بنشوة لذيذة..
فتحت عيني من جديد..
لم أشعر بآلام القهر.. كأن دماً جديداً غزا عروقي..
سمعت بوضوح صوت غسّان يأتيني من عمق بعيد، يهمس في أذني..
ـ إيّاك أن تستسلم..!
أضيفت في02/07/2005 / * خاص القصة السورية/
المصدر الكاتب
رواية لم تكتمل
برقوق نيسان
بقلم: الشهيد
غسان كنفاني
عندما جاء نيسان أخذت الأرض تتضرّج بزهر البرقوق الأحمر وكأنها بدن رجل
شاسع، وثقّب بالرصاص. كان الحزن، وكان الفرح المختبئ فيه مثلما تكون
الولادة ويكون الألم، هكذا مات قاسم [1] قبل سنة، وقد دفن حيث لا يعرف أحد،
دون اسم [2] ويبدو الآن بعيداً كأنه لم يكن طوال العمر إلا واحداً من هذه
الأحلام العظيمة التي تظلّ مع المرء وكأنها جزء منه، وترافقه إلى الفناء
دون أن توجد حقاً، ومع ذلك فإنها قادرة على أن تكون مثل حقيقة ما، يفتقدها
المرء من حين إلى آخر، ويشعر في لحظة أو أخرى ملمسها وكأنها فرت للتو من
بين راحتيه.
وكانت نابلس، ذلك الصباح، منكفئة على نفسها وكأنها ما تزال نائمة، وقال أبو
القاسم [3] لنفسه إن المدن مثل الرجال، تشعر بالحزن. تفرح وتنام، وتعبر عن
نفسها بصورة فريدة تكاد لا تصدّق، وتتعاطف بغموض مع الغرباء أو تركلهم.. بل
إن الأحياء في المدينة مثل الأولاد في العائلة، لكل منهم شخصيته ومنزلته
ومزاجه، فثمة شوارع محببة، وأخرى تتقاذف العابرين فيها بفظاظة، وشوارع
خبيثة، وأخرى صريحة، ولكن أبا القاسم كان الآن منشغلاً بتلك الصورة الغريبة
التي اقتحمته كأنها قذفت على رأسه بحجر: بدن الأرض مثل بدن رجل مثقّب
بالرصاص، يتضرّج بزهر البرقوق، ويكاد المرء يسمع نزيز الدم يتدفق من تحته،
ولا ريب إن قاسم بدا كذلك بعد هنيهات من سقوطه، ثم ذبلت بقع الدم على سترته
الخاكية مثلما تجفف شمس الصيف المتوقّدة أوراق البرقوق الهشّة. استدار أبو
القاسم، وأخذ يتأمل من جديد تلك البقع الحمراء الممتدة أمام عينيه فوق تلّة
صغيرة، ودون أن يعرف بالضبط ما الذي يريده. خطا نحو التلّة، وأخذ يجمع باقة
من الزهر المخضّب بالاحمرار القاني، وقال لنفسه وهو ينحني: "منذ سنة وأنا
آتي لسعاد [4] بكفّين فارغتين كل شهر، ولا ريب أن منظر هذه الزهور سيبدو
على الطاولة البيضاء جميلاً، ثم إن....." وقد شعر بالتعب وهو يستلّ الزهور
الغضّة، وبدت له أشد تمسّكاً بالأرض مما خيّل إليه حين كان ينظر إليها من
بعيد، وما لبثت الأفكار التي كانت تحوم على غير هدى في رأسه أن أخذت تترابط
بصورة تبعث على الدهشة، فقد تذكّر أنه حين رأى سعاد لأول مرة في أريحا لفت
نظره قرص أحمر من زهر البرقوق يتوقد وسط شعرها الفاحم السواد، وإن ذلك بعث
فيه السعادة لأن طلال قال بأن سيدة تحمل وردة حمراء ستزوره في أريحا [5]،
وتحدثه عن قاسم، وقد دقت هذه السيدة الباب في اليوم التالي، وطلبت منه أن
يحدثها بالتفصيل عما حدث له حين استدعي إلى المخفر الإسرائيلي قبل أسبوع
لتعرض عليه جثة أحد الفدائيين القتلى [6] وحين كان يروي لها قصته أخذت
عيناها السوداوان تنضحان دمعاً من تلقائهما، وقالت له: ـ يا أبا القاسم ليس
بوسع أحد أن يملأ مكان أحد، وقد كان قاسم بطلاً، وعليك أن تكون فخوراً به،
وقد فعلت شيئاً حسناً حين أنكرته لأنك أنقذت الكثيرين من رفاقه. لا تقل
الحقيقة لأحد، وخذني أنا مكان قاسم.
ومنذ ذلك اليوم وهو يزورها في نابلس، ويقيم في بيتها يوماً أو يومين، ويأخذ
الدنانير الخمسة ويعود إلى أريحا [7] وقد قال لها ذات يوم: "الختيار.. هل
ما زال حيّاً؟" وحين قالت له "لا" أجابها "هل تقبلينني اباً.؟" وقالت سعاد
"يا أبا القاسم، أنت والدنا كلنا، لأن الشهيد كان أخانا كلنا.." وعندها
سألها عما إذا كان يستطيع أن يفعل شيئاً مفيداً، وأجابته سعاد بنبرتها
الحاسمة: "ذات يوم، ربما"
وقف أبو القاسم مستشعراً الألم في خاصرته من طول الانحناء وكانت باقة الزهر
الأحمر قد أصبحت كبيرة وبدت في يده الخشنة شعلة من اللهب، ووراء التلة كان
بيت سعاد بشبابيكه الصغيرة في الطابق الثاني، وقال لنفسه "ربما كانت تنظر
إليّ الآن"، وقرر أن يبادرها بالجملة ذاتها التي بادرته بها حين زارته لأول
مرة [8] في أريحا، ومن ثم انطلق نازلاً التلة إلى الطريق، ومضى نحو منزل
سعاد.
آخر شيء يذكره أبو القاسم من عالمه القديم كان ذلك السلم الطويل الخشن الذي
يوصل إلى بيت سعاد، إلا أن الباقة الحمراء التي كانت تتوقّد في كفّه ظلت
أكثر رسوخاً في ذاكرته، منذ هذه اللحظة، أكثر من أي شيء آخر: لقد صعد درجات
السلم ذلك الصباح دون أن يراوده أي شك بأنه سيعود فينزلها كما صعدها، ويعود
إلى عالمه القديم الذي يبدو له الآن أنه غادره تماماً. إن للرجال أقدارهم
المكتوبة منذ الأزل، والتي هي مثل أسمائهم، تلتصق بهم في لحظة لا يدركون
كيف جاءت. لقد قرع الباب متوقعاً وجه سعاد بملامحه القاسية، ولكن الجميلة،
إلا أنه فوجئ بقبضة قوية تعضّ كتفه، وتجذبه بعنف إلى الداخل، ثم سمع اصطفاق
الباب وراءه مثل انفجار.
وحين استرد توازنه على المقعد الذي قذف إليه، أطلّت عليه ثلاثة رشيشات،
ووراءها وقف جنديان وضابط. وفتح أبو القاسم فمه دون أن ينوي قول شيء معين،
إلا أن الضابط نهره: "هش"
وأخذ أحد الجنديين يفتّشه، باحثاً في جيوب قنبازه عن شيء ما، وعندما تنبّه
أبو القاسم إلى وجود ثلاثة أشخاص آخرين في الغرفة، واقفين ووجوههم إلى
الجدار، وفي الزاوية كان ثمة طفل في العاشرة يبكي بما يشبه الهمس، ولم تكن
سعاد هناك، وبدت صورة والدها المعلّقة على الجدار، بشاربيه العظيمين [9]
أكثر غرابة مما كانت في أي وقت مضى، وكان ما يزال مشوشاً، غير قادر على
إعادة ترتيب ما حدث، حين قبضت يد الجندي بشدّة على زنده ورفع يده بعنف إلى
فوق. عندها فقط شهد باقة الزهر الأحمر مرة أخرى، وتعجب لهنيهة كيف لم تسقط
من يده، ولم تتمزق وسط ذلك العراك الأحمق الذي يجري دون هدف معيّن. ودفعه
الجندي إلى الحائط، وساعده الجندي الآخر في صلبه أمام الجدار بذراعيه
المفتوحين إلى أقصى ما يستطيع، وبهدوء أرغمه الضابط على فتح كفّه ببطء،
وتناول الباقة بحذر مبالغ به، وسحبها بما يشبه الاحتفال المنظّم على
الطاولة الرخامية [10] ووقف يتأمّلها لحظة، ثم استدار فجأة بعنف:
ـ ما هذا.؟ ـ هذا.؟ ـ أجل ما هذا.؟ ـ كما ترى، زهر يا سيدي.. برقوق نيسان.
ـ هه! وابتسم ابتسامة خبيثة ونظر من طرف عينيه إلى الجنديين، وعاد يسأل
وكأن فترة المزاح التي أتاحها قد انتهت: ـ ما هذا.؟ ـ ورد، زهر، برقوق، يا
سيدي..
ـ إنني أسألك للمرة الأخيرة.. ما هذا..؟ ولم يستطع أبو القاسم أن يعرف إن
كان الضابط يحاول أن يجعل منه أضحوكة أم أنه جاد حقاً، واكتسحته موجة من
حيرة حزينة، وأخذ ينظر حواليه محاولاً الاستنجاد بشيء ما، كان الطفل قد كفّ
عن البكاء، وأخذ ينظر بفضول إلى باقة الزهر الأحمر فيما كان وجهه يكتسي
بملامح تشبه الدهشة، وتذكر سعاد فيما كانت الأفكار تعود إلى التراكب في
رأسه، وتساءل إن كان يتعين عليه الآن مرة أخرى أن يدخل الغرفة الثانية
وينظر إليها ممددة على السرير وراحة يدها مفرودة الأصابع بالقوة وملطّخة
بالدم. ـ ماذا يمكن أن يكون هذا يا سيدي غير زهر البرقوق الذي تفتح هذا
الصباح على قارعة الطريق.؟ ـ أنا الذي أسألك.
وهزّ أبو القاسم كتفيه وسكت. لقد أدرك أن الكلام لم يعد يفيد أحدا، وأن ثمة
شيئاً لا يفهمه يحدث بغموض، وأمام هذه الحيرة لا يسعه في الواقع إلا أن
يصمت، إلا أن الضابط نهره: ـ تهزّ كتفيك وكأنك بريء.! أتريد أن أساعدك
قليلاً.؟ من الذي أعطاك هذه الباقة.. ولماذا.؟ ـ قطفتها عن الطريق ،
وكنت.... ـ أأنت عشيقها.؟ وضحك الجندي، فيما تساءل أبو القاسم: ـ استغفر
الله .. عشيق من.؟ ـ عشيق العفريتة التي تسكن هنا.. ـ أنا رجل عجوز يا
سيدي، أيمكن أن يحدث هذا.؟ ـ إذن لماذا أحضرت الزهر.؟ من الذي أرسلك.؟ ـ
جئت... إلا أن صورة قاسم جاءت عاصفة مثل الارتطام، ووراءها جاءت صورة سعاد.
ولم يعد يعرف ماذا يتعين عليه أن يقول، فيما أخذ ينظر حواليه وهو شديد
الارتباك، محتاراً تحت النظرات التي كان يسلّطها عليه، ثم سأل بصوت أدهشه
كيف انفلت من صدره مليئاً بالاستجداء: ـ ماذا حدث لسعاد يا سيدي.؟ هل هي
بخير.؟
ـ كفى تمثيلاً أيها الشائب، وقل لي ما معنى هذا.؟ ونظر أبو القاسم إلى حيث
أشار الضابط. كانت باقة الزهر الأحمر ملقاة فوق الطاولة، وبدت أقل جمالاً
مما كانت، وأجاب: ـ مذا يمكن للزهر أن يعني يا سيدي غير الودّ.؟ ـ هه! ـ
إسأل هؤلاء كلهم.. أيعني الزهر غير الودّ والاحترام.؟ ـ من الذي بعثك
بالباقة.؟ ـ أنا الذي قطفتها. ـ من الذي طلب منك أن تقطفها.؟ ت لا أحد.. ـ
ما هي علاقتك بسعاد إذن.؟ هل أنت عشيقها.؟
وأخذ الجندي [11] الواقف قرب الطاولة يضحك بصوت مكتوم، وقال شيئاً لم يسمعه
أحد بوضوح، وعاد فضحك من جديد لفترة قصيرة وصمت حين رمقه الضابط [12]
بشدّة، أما أبو القاسم فقد شعر بأنه قد اصطيد، وبأن أكفّاً جبّارة تطبق على
صدره، وأنه بحاجة إلى سعاد الآن أكثر من أي وقت مضى.. أترى انتهى الصمت.؟
أصار بوسعه أن يقول لهم بأن ذلك الفتى المضرّج الممدد على الطاولة في مخفر
أريحا هو ابنه قاسم.؟ أم أن ذلك كله قد أضحى الآن سرّاً أكثر حاجة للكتمان
مما كان في أي وقت مضى.؟ لقد أحس فجأة بأنه مؤتمن على شيء خطير لا يعرف ما
هو بالضبط، وربما كانت حياة سعاد نفسها، بل حياة هؤلاء الشبان الثلاثة
الواقفين ووجوههم إلى الحائط، بل ربما حياة ذلك الطفل الصغير أيضاً. معلّقة
في كلمة واحدة قد يلفظها في أية لحظة دون أن يدري، أيمكن لذلك كلّه أن يكون
حقيقياً..؟
ـ إنها باقة زهر يا سيدي، وهي لا تعني شيئاً خطيراً على الإطلاق. قلت لنفسي
وأنا أمرّ من هنا: هذا بيت صديقي القديم، وابنته وحيدة فيه، ولا بأس لو
حملت لها باقة زهر!
ـ لا فائدة من الكذب أيها الشيخ الخبيث. سوف ترى بعد برهة أن الصدق هو أقصر
الطرق إلى السلامة.. أتقول الحقيقة الآن أم ماذا.؟ ـ زهر يا سيدي.. زهر.
ـ هش.. وفي الخارج جاء الصوت خافتاً في البدء، ثم أخذ يعلو شيئاً فشيئاً،
كانت ثمة خطوات تصعد الدرج، وشعر أبو القاسم بأن الأمر آخذ في التعقّد، وأن
الفخ المنصوب في الغرفة إنما يتعلّق بقضية أكثر خطراً مما يعتقد، وبعد برهة
دقّت يد ما خشب الباب. وفي اللحظة التالية انقضّ الجنديان، وقد فتح الضابط
الباب فجأة، على الرجل الواقف هناك وقذفاه إلى الداخل، وامتلأت الغرفة فجأة
بجلبة غريبة، وأخذ الطفل الذي كان قد أركن إلى الصمت قبل برهة يبكي من
جديد، بنشيج أكثر مرارة، فيما مضى الجنديان يفتشان الرجل بعنف وشراسة ثم
ساقاه إلى الحائط، وأرغماه على رفع ذراعيه إلى الأعلى ووجهه نحو الجدار،
وعاد الجنديان فوضعا الأوراق التي انتزعاها من جيوبه على الطاولة، ووقفا
وراء الضابط الذي قال بصوت يملؤه رنين الانتصار:
ـ صيد ثمين اليوم، هذه الملعونة سعاد كانت تعيش تحت بصرنا ونحن لا نعرف،
وها هم أفراد العصابة يتقاطرون إلى بيتها واحداً إثر الآخر.. أنت.! ما
اسمك..؟ وأجاب الرجل الجديد ووجهه ما يزال إلى الحائط: ـ إنني زياد حسين
والد الطفل الجالس هنا يا سيدي.. جئت أفتش عنه بعد أن تأخر. قال الضابط: ـ
إذن أنت الذي أرسلته.. ـ نعم يا سيدي، خبزنا صباح اليوم صدراً من الكنافة،
كعادتنا في الحيّ بعثنا مع وليد صحناً لسعاد.. وعندما تأخر وليد جئت أبحث
عنه.. ولأول مرة منذ أن دخل الغرفة شهد أبو القاسم صحن الكنافة على
الطاولة، وكانت القشرة الشقراء تلمع من فرط ما أشبعت قطراً، وتساءل بينه
وبين نفسه: "أتراها قصة حقيقية.؟ أيمكن أن يكون زياد هذا والد أو شقيق فتى
ما استشهد ذات يوم وهو يأتي كل شهر لسعاد كي يأخذ خمسة دنانير.؟"
وقال الضابط فجأة:
ـ استدر وانظر هنا واستدار زياد، فبدا وجهه شديد الصفرة، كانت عيناه
كبيرتين، وربما بسبب حجمهما بدا خائفاً أكثر مما كان صوته يوحي، وكان أول
ما فعله أن نظر حيث كان الطفل جالساً ينشج بهدوء، وهزّ رأسه هزّة خفيفة
جعلت الطفل يصمت، ثم أخذ ينظر حواليه متفحّصاً الموجودين، وسأله الضابط: ـ
هل تعرف أياً من هؤلاء.؟
ـ لست أعرف أحداً، بل إنني أكاد لا أعرف سعاد نفسها، ولكن العادات يا سيدي
تقتضي منا أن نرسل مثل هذه الهدايا الصغيرة إلى جيراننا.
وأشار نحو الصحن، وافتعل ابتسامة سمجة: ـ إنني غالباً ما أفشل في صنع
الكنافة، وأخشى أن يكون طعم هذا الصحن هو الجريمة الوحيدة التي ارتكبتها..
وضحك وحده ضحكة صغيرة، ثم صمت دون أن يخفي حرجه، وعاد يتودد بعد لحظة: ـ هل
أستطيع أن آخذ وليد يا سيدي وأذهب إلى البيت.؟ إن أمّه ستشعر بالقلق.. ـ
هش.. ـ هل حدث شيء لسعاد يا سيدي.؟ هل أمسكتموها.؟ ـ لماذا تسأل.؟ ـ لأنها
جارتنا.. ـ ماذا تعرف عنها.؟ ـ إنها طالبة، تقيم هنا في الصيف، ونادراً ما
يزورها أحد، وقد أعطت هذه السنة بعض الدروس في "الأونروا" ـ وأين هي الآن.؟
ـ لست أدري يا سيدي، كنت أعتقد أنها هنا، ولذلك أرسلت لها صحن الكنافة..
ماذا فعلت يا ترى.؟ ونهره الضابط بحركة من يده، وأخذ يتجوّل في الغرفة وهو
يفكّر، ثم سأل فجأة: ـ أتعتقد أنها ستعود إلى هنا.؟
ـ من.؟ ـ سعاد طبعاً أيها الغبي..
ـ لست أدري.. هذا بيتها على أي حال، وكل إنسان يعود إلى بيته.. وقاطعه
الضابط بحدّة: ـ إلا إذا استطاع الهرب قبل ذلك.
وخيم الصمت من جديد، فيما ظل زياد [13] واقفاً ينظر إلى طفله بحيرة، وفجأة
حدث شيء غريب لم يلحظه إلا أبو القاسم، فقد التقت عيناه بعني زياد، ولمح
فيهما بومضة تشبه البرق رسالة قصيرة، تشبه أن يقول المرء للآخر: "أيها
الرجل، إننا نعرف بعضنا، فاطمئن.." [14] وأحس أبو القاسم بكنز غامض يملأ
صدره، وأن عليه الآن أن يكون أكثر حذراً، فثمة أمور كبيرة تجري، وهو بلا
ريب يلعب فيها دوراً كبيراً دون أن يعرف على وجه التحديد ما هو دوره هذا،
على أنه تيقّن الآن من أن هذا الرجل، الباحث بقلق عن ابنه، هو الذي ينبغي
أن يقود خطواته منذ هذه اللحظة، واستجمع أبو القاسم أطراف شجاعته وقال:
ـ ألا تستطيع أن تقول لهم يا سيدي إنني رجل بريء، وأن عليهم إطلاق سراحي..؟
وحدث شيء غريب في الغرفة، إذ أخذ الجميع يضحك، بما في ذلك الأستاذ زياد
والضابط.. قال زياد: ـ ماذا تحسبني أيها العجوز.؟ إنني في وضع أكثر سوءاً
من وضعك.. وقال أبو القاسم مصرّاً: ـ إنها باقة زهر يا سيدي.. باقة زهر
فقط. ـ ولماذا تكون باقة الزهر أكثر براءة من صحن الكنافة.؟ وصاح الضابط: ـ
هش.. وقال زياد بلهجة ضارعة، متجهاً نحو الضابط: ـ ألا أستطيع يا سيدي أن
آخذ ابني وليد وأمضي.؟ إن صديقه طلال ينتظره..
ـ هش.. ولمح أبو القاسم مرة أخرى تلك الرسالة الغامضة تومض كالبرق في عينيّ
زياد وهما تطلان عليه وكأنهما تعبران به، ولكنهما كانتا تحملان رسالة، وأبو
القاسم يعرف أكيداً أنهما كانتا كذلك، إلا أنه لم يكن قادراً على فهمهما.
ثمة علاقة ما بين باقة الزهر وصحن الكنافة، وربما كان الطفل الذي اسمه طلال
هو جزء من تلك الرسالة الغامضة، ولكن أبا القاسم لم يكن ليستطيع أن يفهم
أولئك الأساتذة أو يتجاوب مع إشاراتهم، حتى في مواقف أكثر طلاقة من هذا
الموقف، وأورثه هذا الشعور غضباً مهيض الجناح، فضرب راحتيه على ركبتيه
وقال: ـ لست أفهم شيئاً.. لست أفهم شيئاً.. ونظر إلى زياد، آملاً أن تستطيع
عيناه الشائختان أن ترسلا شيئاً إلى الرجل الواقف هناك، فيما أخذ الضابط
والجنديان ينظران بفضول إلى الرجل العجوز وهو يواصل ضرب راحتيه على ركبتيه،
وأخيراً قال الضابط: ـ "إن قصتك لم تنته أيها الشيخ الخبيث، بل إنها لم تكد
تبدأ، فأحسن لك أن تلتزم الصمت، أما أنت فسوف تظل معهم.. إن كل من يأتي إلى
هذا البيت، طوال اليوم والأيام القادمة، هو متهم بالضرورة، التحقيق سينظر
في أمر إطلاق سراحكم أو اعتقالكم، والآن لا أريد أن أسمع صوتاً.." وصاح
زياد: ـ ألا نستطيع أن نرسل كلمة إلى أهالينا.؟ ـ قلت لكم أن تصمتوا.. ـ
ألا تستطيع أن تقول لنا لماذا نحن هنا.؟ ماذا فعلت سعاد.؟ ـ هذا ليس من
شأني، ستعرفون كل شيء في التحقيق.. ـ ما ذنب هذا الشيخ.؟ إنه يبدو أكثر
براءة منا جميعاً، ألا تسمحون له بالذهاب إلى بيتي ليطمئن زوجتي، ويطمئن
طلال.؟ ـ قلت لك أغلق فمك، وإلا أغلقته بالقوة.. وأخذ أبو القاسم ينظر
مجددا إلى زياد، غير قادر على فهم ما يجري على وجه التحديد، وقد استطاع أن
يلتقط للمرة الثانية اسم "طلال"، ولكنه لم يكن ليستطيع أن يفهم ماذا يعني
هذا كله، وماذا يتعين عليه أن يفعل، ومضى يتململ في مقعده، مستعيداً في
ذاكرته صورة طلال القديمة، الذي صار يراه لماماً منذ أن تسلمته سعاد. إنه
يدرك أن زياداً يريد أن يقول شيئاً عن طلال، ولكن أي طلال.؟ وما علاقته هو
بالأمر.؟ لقد تذكر الآن أنه مرة سأل سعاد إن كان طلال يعمل معهم. فضحكت
وقالت: "لولا طلال لكانت حالتنا حالة.. طلال يا أبا القاسم رجل، رجل قادم
من تحت.." أيمكن أن يكون الأمر على هذه الخطورة.؟ إن المفتاح بيد الأستاذ
زياد، وهو وحده الذي يجيب على هذه الأسئلة، ولكن لماذا لا يفعل.؟ إذا كان
الأمر خطيراً على هذه الصورة، فلماذا لا يقدم الأستاذ زياد على التصرّف.؟
وفجأة سأل أبو القاسم نفسه: لو كان قاسم هنا مكان الأستاذ زياد، كيف كان
سيتصرّف.؟ ثم عاد فسأل نفسه مرة أخرى: لو كان مكاني، ماذا كان يفعل.؟
وقاطعه صوت مكتوم يشبه خطوة خائفة، وكان يمكن لهذا الصوت أن يعبر دون
انتباه لو لم يتحرك الضابط بهدوء، ويرفع سلاحه عن ركبتيه وهو ينظر نحو
الجنديين اللذين اتجها نحو الباب دون أن يصدرا أي صوت، ومضت فترة من الوقت
خيم فيها صمت عميق، ثم صدر ذلك الصوت المكتوم لخطوة خائفة مرة أخرى، وبدت
وكأنها في أول السلم، وعاد الصوت يخطو، وكأنه يصعد بحذر. ودون أن يتخذ
قراره بصورة مسبقة، انتصب أبو القاسم وصاح: ـ لماذا تقبضون علينا.؟ ماذا
فعلنا.؟ إننا أبرياء. وانقض عليه الضابط وصفعه بقفا كفّه فألقاه على الأرض،
واندفع الجنديان نحوه وجرّاه بعيداً إلى الداخل، فيما ركض الضابط باتجاه
الباب، وألصق أذنه هنيهة على الخشب، ثم فتحه بعنف واتجه إلى الخارج.
وضع أحد الجنديين ركبته على صدر أبي القاسم، وصوّب فوهة الرشاش إلى رأسه،
فيما أخذ ابراهام يراقب بقية المحتجزين بحذر، وما لبث الضابط أن عاد، وأغلق
الباب وراءه بإحكام وهدوء، ثم أشار للجنديين فأجلسا أبا القاسم على المقعد.
كان فمه ينزف خيطاً رفيعاً من الدم يتسرب في شعر لحيته الشائب، ولكنه بدا
في حالة غير خطرة، وقال له الضابط بهدوء مبالغ فيه: ـ لقد تعمدت ذلك أيها
الثعلب العجوز.
وقال أبو القاسم بوهن: ـ تعمدت ماذا يا سيدي.؟ ـ لقد صرخت كي يهرب.. ـ من.؟
ـ أنت الذي ستقول لنا من.. يا إلهي.! كنت على وشك أن أعتقد أنك عجوز بريء..
أما الآن فقد تيقنت من كل شيء، لم أكن على خطأ حين شككت بهذه الباقة
اللعينة.. ـ إنها باقة زهر يا سيدي.. برقوق نيسان..
ـ ها! وتنازل الضابط عصا قصيرة عن الطاولة، دقيقة كأنها من الخيزران، وأشار
بها نحو زياد، ثم أخذ ينقلها كمؤشر بين زياد وأبي القاسم. وأخيراً اتجه نحو
زياد: ـ ورأيت أيها الثرثار.؟ أرأيت.؟ كنت أنت الذي اقترحت أن نطلق سراح
هذا الشيخ الخبيث لأنه يبدو بريئاً.! ها! هذا الشغل شغلنا,, إنه يعتقد الآن
أنه أتاح فرصة الفرار لأحدكم. كم هو مخطئ هذا العجوز المسكين.! سننتزع اسمه
مثلما ينتزع الضرس النتن. وتنحنح زياد، وهو ما يزال واقفاً مكانه، وقال
للضابط: ـ هذا الشغل شغلكم يا سيدي، ولكن إذا سمحت لي أرجو ألا تقلق
كثيراً، فقد يكون الشخص الذي مرّ أمام السلم هو الطفل طلال، صديق وليد، جاء
يسأل عنه وخاف عندما سمع الجلبة فهرب.. ألم أقل لك يا سيدي قبل ذلك إن طلال
ينتظر وليد ليلعب معه.؟ وهزّ الضابط رأسه مرتاباً وهو يبتسم ابتسامة العارف
الذي لا يسهل خداعه، وقال بصوت لا يكاد يسمع:
ـ لم تكن الخطوة خطوة طفل.. ومرة أخرى، بمثل لمح البرق، شهد أبو القاسم في
عينيّ زياد، وهما تعبران به ومضة تشبه الرسالة..........
((انتهت))
هوامش:
[1] 1 : 1 كان قاسم خليل قد ولد في طيرة دندن قرب يافا في الخامس من أيلول
من عام 1940، وأصبح بعد سنة واحدة الابن الأوحد في العائلة بعد أن مات
شقيقه الذي يكبره سنتين إثر إصابته بالحصبة، ولم يتمكن قاسم من أن يدرس في
مدرسة القرية إلا حوالي سنتين، وقد أصبح لاجئاً في نيسان من عام 1948، قبل
أن يكمل العام الثامن من عمره، وبعد ذلك سكن في أحد بيوت الصفيح في مخيم
عقبة جبر قرب أريحا مع أبويه، وفي غضون ذلك كان يعمل إجيراً في كاراج
للسيارات في أريحا، وتمكّن –حين صار في العشرين- من أن يطلق على نفسه لقب
ميكانيكي، وكانت آماله تنحصر في أن يتمكّن ذات يوم من أن يصبح ميكانيكي
طائرات، أو على الأقل مالكاً لكراجه الخاص، إلا أنه في الخامسة والعشرين
تخلى عن هذه المطامح. كانت الأحزاب الوطنية في تلك الفترة قد تخلخلت تحت
الضربات المتلاحقة التي وجهتها السلطات الأردنية، وهكذا ضاع أمله في
الالتحاق بالحزب الشيوعي الذي كان أحد رفقائه في الكاراج يمتدحه أمامه، فقد
ضاعت أخبار ذلك الرفيق فجأة، وهكذا فكّر في أن ينشئ حزباً فدائياً بنفسه،
والتحق بدورة تدريب للحرس الوطني لذلك الغرض، وحين شرع يرسم خططاً صغيرة
ليبدأ اتصالاته تفجّرت حرب 1967، وسمع وسط الفوضى أن الفدائيين يحشدون
صفوفهم وراء النهر، فترك والده، ومخيم عقبة جبر واتجه إلى السلط في الثاني
عشر من حزيران 1967.
[2] 2 :2 في نيسان من عام 1970 نشرت الصحف إن دورية إسرائيلية اصطدمت
بمجموعة من الفدائيين جنوبي البحر الميت، وقد استمرت المعركة عدة ساعات
استشهد فيها من أصل سبعة فدائيين كانوا هناك ستة، وتمكن السابع من الفرار،
وقد ظلّت أسماء جميع الشهداء مجهولة حيث دُفنت بمعرفة السلطات فحسب. إلا أن
حادثاً صغيراً وقع عند ذاك يجدر تذكّره: فقد عُرضت الجثث على بعض الفدائيين
الأسرى في محاولة للتعرف عليها، وكانت أربع جثث مشوّهة بحيث استحال التعرّف
على أي منها، وأبدى أحد الأسرى شكّه في أن تكون إحدى الجثتين الباقيتين
لشاب يدعى قاسم، كان يعمل ميكانيكياً في أريحا، وفي اليوم التالي أحضرت
الشرطة والد قاسم الذي اعترف بأن ولده يعيش شرقي النهر ولكنه بعدما تفحص
الجثة أنكر أن تكون لولده، وكان التشويه يمنع من الوصول إلى قرار، وحين
ووجه الفدائي الأسير الذي تعرّف على الجثّة بوالد قاسم نفى أن تكون شكوكه
مبنيّة على معرفة حميمة بالشاب المجهول، وما لبث أن تراجع عن شهادته، وهكذا
أخلي سبيل الرجل العجوز بعدما سجّل توقيعه وتعهداته على أوراق عديدة تنصّ
على أنه سيتحمّل بنفسه مسؤولية أي عمل يمكن لابنه قاسم الذي يعيش شرقي
النهر أن يرتكبه ضد سلطات الاحتلال.
[3] 3 : 3 في الواقع أنه يشعر الآن بأنه أكبر سناً مما هو حقاً، ويردد
لنفسه أن الكوارث الثلاث التي نزلت به ينوء تحتها جبل: فقدان قريته ونزوحه
عام 1948، وموت أم قاسم بالسل عام 1953، واستشهاد قاسم قبل سنة.
[4] 4 : 4 ولدت سعاد وقّاد في نابلس عام 1945، وكان والدها موظفاً صغيراً
في دائرة النفوس التي كانت آنذاك تابعة لحكومة الانتداب، وقد ظل موظفاً في
نفس المرتبة والدائرة خلال هيمنة النظام الأردني على الضفة الغربية، وهكذا
تمكّن من إرسال ابنته سعاد إلى جامعة دمشق عام 1962، وقد درست لمدة سنة في
كلية الآداب، إلا أنها عادت والتحقت بقسم العلوم السياسية، وهناك تعرّفت
على أحد الشبان المتحمسين لحزب البعث، وما لبث أن ألحقها بالحزب ولكنها لم
تستطع أن تكون عضواً منظم الولاء والنشاط، وكانت هذه المشكلة بالذات هي
التي فتحت عينيها على رغبة عميقة في دراسة المسائل التنظيمية في العمل
السياسي، وساقتها هذه الدراسة إلى إلقاء نظرة دراسية على الحزب الشيوعي،
وعلى بنية حركة القوميين العرب التي شعرت آنذاك أنها آخذة بالتمزق تحت وطأة
صراع سياسي حاد في صفوفها لم يكن من الممكن الحفاظ مع حدته على الوحدة
التنظيمية للحركة لو لم تكن مشدودة إلى قانون صارم للعلاقات الداخلية، ولم
يكن من الممكن معرفة ماذا كان سيحدث لسعاد ولحماسها السياسي لو لم يصعد حزب
البعث في تلك الآونة إلى مرتبة السلطة، وقد كان لسعاد آراء غامضة، ولكنها
بالغة التأثير بالتغير الذي يطرأ على الأحزاب السياسية عموماً، وذات
البرامج الفضفاضة والغامضة خصوصاً، حين تهيمن على دفّة السلطة، وهكذا فقد
شهدت تلك الفترة من حياة سعاد وقاد خمولاً سياسياً وحيرة بالغة الحدّة،
ولكنها مع ذلك أبدت اهتماماً خاصاً بمجموعة من الشبان أبدوا تصميمهم على
إحداث تغيير نحو اليسار في حركة القوميين العرب، وكان سبب هذا الاهتمام
بالدرجة الأولى دراسة تعدها سعاد عن مكانة الناصرية في المسيرة الوطنية
العربية في تلك الفترة، إلا أن الارتباط مضى أبعد من ذلك، فقد التحقت سعاد
بالذراع الفلسطيني للحركة الذي كان قد بنى تنظيماً فدائياً صغيراً أطلق
عليه اسم "شباب الثأر" وكانت تشعر بشيء من الاعتزاز حين كلفت بالقيام
باتصال صغير في نابلس إبان عطلتها الصيفية، والعمل على بناء خليّة هناك،
إلا أن الحرب فجأتها فقررت البقاء، وكانت القدرات التي أظهرتها في الاتصال
وفي العمل هي التي أوصلتها في فترة وجيزة إلى مرتبة قيادية في نابلس.
[5] 5 : 5 كان طلال شاباً قصير القامة لم يبلغ العشرين بعد، ويبدو انه كان
يتقن عبور النهر ونقل الرسائل، وفي الماضي كان يزور أبا القاسم مرة في الهر
ويعطيه ثلاثة دنانير ويقول له: "قاسم يسلم عليك" ولا يزيد كلمة واحدة. وفي
آخر مرة رآه قال له ان سيدة تحمل وردة حمراء ستزوره، وانه لن يراه بعد.
وكانت تلك السيدة هي سعاد ذاتها. ومنذ ذلك الوقت تولت سعاد إعالته، وكانت
تعطيه خمسة دنانير في كل مطلع شهر.
[6] 6: 6 توجس خيفة منذ الصباح، وكان يشعر بثقل غامض يجثم على صدره، وعند
الظهر جاء شرطيان وأخذاه إلى المخفر، وأخذ رجل أبرص، يلمع كأنه مدهون يسأله
عن قاسم، وبعد وهلة عرف في قرارة نفسه إن ولده قد قتل، ولكن الأبرص لم يكن
قد أشار إلى ذلك بعد. "أتعرفين كيف يتصارع الرجل مع دموعه؟ مثلما يحاول
فلاح أن يسدّ ثقوب الساقية بكفّيه. وظل الأبرص يسأل ولم أكن أعرف بماذا كنت
أجيب" وأخيراً أدخلوه إلى غرفة مترعة برائحة الموت "وكان قاسم هناك، ممدداً
على طاولة، وقد نظرت إليه لحظة واحدة فحسب، ثم أخذت أنظر إلى راحة يده
ورأيت فيها إرادة رجل بطل ظل ممسكاً بسلاحه حتى اللحظة الأخيرة، ولم تفرد
أصابعه إلا بالقوّة، وبعد أن مات، وسألوه إن كان يعرفه، فنفى ذلك بشدّة "ان
قاسم شاب أطول قامة، وأشد سمرة، ثم إنه سافر إلى الكويت وهو يعمل في كاراج
للسيارات هناك" وشعر بالعار لأنه يكذب، ولم يكن يعرف لماذا كان خائفاً إلى
هذا الحدّ. "لقد أنكرته، ولكنه سيغفر لي، فأنا رجل عجوز لا أتحمّل السجن
ولا الضرب، وأريد أن أموت هنا، وليس شرقي النهر، أنت تفهمين ذلك أيتها
السيدة.. أليس كذلك؟"
[7] 7 : 7 كانت وكالة الغوث قد قطعت إعاشته، وسحبت منه الدفتر الأحمر الذي
كان يخوّله تناول المؤن، وذلك لأن تقارير شعبة التحري في الوكالة قد أثبتت
بأن ابنه يحصل مدخولاً شهرياً يزيد عن عشرة دنانير.
[8] 8: 8 دخلت البيت، وانتزعت الزهرة الحمراء من شعرها وهي تقول له:
"البرقوق ورد الفقراء يا أبا القاسم" وبعد هنيهة قالت له: "أهل القسطل
كانوا يقولون: هذه دماء الشهداء تطلّ علينا".
[9] 9: حين قال لسعاد مرة إن شاربي والدها في الصورة يبدوان مخيفين، ضحكت
برهة، ثم انصرفت إلى التفكير، وأخيراً سألته: "ماذا يحدث للشوارب يا أبا
القاسم حين يأكل الدود جسد الرجل الميت.؟" ومنذ ذلك الحين وهو غير قادر على
صرف هذا السؤال من ذهنه كلما رأى صورة الأب، بشاربيه الكبيرين.
[10] 10 : 10 مرة قالت له سعاد وهي تشير إلى الطاولة، وكانت مغطاة بشرشف
سكريّ اللون مشغولة حواشيه بالصنارة: "انظر ماذا كانت تفعل أمي طوال عمرها،
تشتغل بالصنارة وتفني عينيها كي تبدو طاولة أبي محترمة أمام ضيوفه".
[11] 11:كان يهودياً مغربياً اسمه إبراهيم، ولد في الدار البيضاء عام 1945،
وكان أبوه يمتلك دكاناً صغيراً في حيّ شعبي لبيع الأقمشة وبعض الألبسة
الجاهزة، أما شقيقه الأكبر فقد كان عاملاً في مصنع للنسيج يقع على بعد يسير
من المدينة. كان الوالدان تقيين، إلا أن الأخ الأكبر يعقوب التحق بتنظيمات
الشغيلة وأخذ يظهر ميولاً شيوعية، ولا شك أن ذلك سبب ارتباكاً كبيراً في
المنزل، فقد كان الأب يربط بشدة بين الشيوعية وبين العلاقات السوفيتية
المصرية، وبالنتيجة بين الشيوعية وبين الحرب الإسرائيلية العربية، وفي
أحيان كثيرة كان الجدل العنيف بين الأب وبين يعقوب يوشك أن ينتهي إلى
انفصام في العائلة التي لم تعتد على هذا النوع من التناقض، وقد وصلت الأمور
في توترها إلى الذروة حين ألقى البوليس المغربي القبض على يعقوب في
الاضطرابات العمالية التي وقعت في عام 1963، وذاقت العائلة كلها من نتائج
هذا الحادث، وتعرضت مثل عوائل العمال جميعاً في تلك الفترة إلى تشديد مبالغ
فيه من قبل السلطات التي واجهت النشاط النضالي المتزايد لاتحاد الشغيلة
المغربي وللتحالف الذي اشتد آنذاك بين الاتحاد هذا وبين الاتحاد الوطني
لطلبة المغرب وبين عدة أحزاب سياسية تقدمية بالمزيد من العمل القمعي، وفي
تلك الفترة وجد الأب في اتصال أجراه معه رجل فرنسي فرصة للخلاص من كل تلك
الشدّة، وقد انتظر على مضض خروج يعقوب من السجين، فرحل مع العائلة على متن
زورق صغير مع عدد آخر من الأشخاص إلى الساحل الإسباني، ومن هناك بدأت
الرحلة الأكبر إلى إسرائيل. إلا أن يعقوب قرر معانداً أن يبقى في فرنسا،
فلم تكن خطط الوكالة اليهودية ودوائر الهجرة لتروقه، وهكذا مضى إلى الأحياء
الباريسية التي يتواجد فيها العمال المغاربة حيث وجد الكثيرين من رفاقه
القدامى. أما إبراهيم الذي صار منذ تلك اللحظة ابراهام، فقد وصل في أواخر
1965 مع عائلته إلى ميناء حيفا، وكان الأب محظوظاً إذ أسكن في ضاحية قريبة
من تل أبيب، وقد تمكّن في أقل من عام أن يشارك رجلاً آخر في ملكية دكان
صغيرة لبيع الأقمشة والملابس الجاهزة. أما ابراهام فقد أصبح عاملاً في معمل
للنسيج يقع غير بعيد من حيث يسكن، إلا أنه منذ حرب 1967 فضّل أن يظلّ
جندياً في الجيش
[12] 12: كان يهودياً مغربياً اسمه إبراهيم، ولد في الدار البيضاء عام
1945، وكان أبوه يمتلك دكاناً صغيراً في حيّ شعبي لبيع الأقمشة وبعض
الألبسة الجاهزة، أما شقيقه الأكبر فقد كان عاملاً في مصنع للنسيج يقع على
بعد يسير من المدينة. كان الوالدان تقيين، إلا أن الأخ الأكبر يعقوب التحق
بتنظيمات الشغيلة وأخذ يظهر ميولاً شيوعية، ولا شك أن ذلك سبب ارتباكاً
كبيراً في المنزل، فقد كان الأب يربط بشدة بين الشيوعية وبين العلاقات
السوفيتية المصرية، وبالنتيجة بين الشيوعية وبين الحرب الإسرائيلية
العربية، وفي أحيان كثيرة كان الجدل العنيف بين الأب وبين يعقوب يوشك أن
ينتهي إلى انفصام في العائلة التي لم تعتد على هذا النوع من التناقض، وقد
وصلت الأمور في توترها إلى الذروة حين ألقى البوليس المغربي القبض على
يعقوب في الاضطرابات العمالية التي وقعت في عام 1963، وذاقت العائلة كلها
من نتائج هذا الحادث، وتعرضت مثل عوائل العمال جميعاً في تلك الفترة إلى
تشديد مبالغ فيه من قبل السلطات التي واجهت النشاط النضالي المتزايد لاتحاد
الشغيلة المغربي وللتحالف الذي اشتد آنذاك بين الاتحاد هذا وبين الاتحاد
الوطني لطلبة المغرب وبين عدة أحزاب سياسية تقدمية بالمزيد من العمل
القمعي، وفي تلك الفترة وجد الأب في اتصال أجراه معه رجل فرنسي فرصة للخلاص
من كل تلك الشدّة، وقد انتظر على مضض خروج يعقوب من السجين، فرحل مع
العائلة على متن زورق صغير مع عدد آخر من الأشخاص إلى الساحل الإسباني، ومن
هناك بدأت الرحلة الأكبر إلى إسرائيل. إلا أن يعقوب قرر معانداً أن يبقى في
فرنسا، فلم تكن خطط الوكالة اليهودية ودوائر الهجرة لتروقه، وهكذا مضى إلى
الأحياء الباريسية التي يتواجد فيها العمال المغاربة حيث وجد الكثيرين من
رفاقه القدامى. أما إبراهيم الذي صار منذ تلك اللحظة ابراهام، فقد وصل في
أواخر 1965 مع عائلته إلى ميناء حيفا، وكان الأب محظوظاً إذ أسكن في ضاحية
قريبة من تل أبيب، وقد تمكّن في أقل من عام أن يشارك رجلاً آخر في ملكية
دكان صغيرة لبيع الأقمشة والملابس الجاهزة. أما ابراهام فقد أصبح عاملاً في
معمل للنسيج يقع غير بعيد من حيث يسكن، إلا أنه منذ حرب 1967 فضّل أن يظلّ
جندياً في الجيش
[13] 13: 13 لم يكن زياد حسين يعرف سعاد معرفة حقيقية، كان يعرف أهلها
بصورة غامضة، وكان معجباً بها من بعيد لكونها أظهرت عدة مرات خلافاً مع
والدها الذي كان يحتقره بصورة ما، كان زياد عضواً قديماً في الحزب الشيوعي،
ثم ترك الحزب منذ بدأت المصاعب تشتد في أوائل الستينات، ولكنه لم يترك
حماسه له. كان أستاذاً في المدرسة الثانوية، وكان يعتبر من المثقفين الأكثر
اطلاعاً في نابلس، وربما كان هذا بالذات ما جعل كراهيته لوالد سعاد تقليداً
قديماً لا يعرف كيف نشأ، وقد ظلت هذه الكراهية حتى بعد موته. وقبل ذلك كان
قد سمّاه "أكاكي اكايفتش" وكان بالفعل يرى فيه تجسيداً حقيقياً لبطل "غوغول"
في قصة "المعطف" ويشاهد في تصرفاته نموذجاً لذلك البيروقراطي ضحية
البيروقراطية المضحك الذي لا يكف عن النسخ، ولهذا بالذات أعجب بسعاد بالرغم
من أن سعاد في تلك الفترة لم تكن لتخفي، شأنها شأن أعضاء حزب البعث وأعضاء
حركة القوميين العرب كراهيتها للشيوعيين وحملاتها الدائمة عليهم.
[14] 14: الصحيح أن تلك النظرة لم تكن رسالة بالمعنى الحقيقي، والصحيح أكثر
أنها كانت تشبه أن يقول المرء للآخر: "ها! هذا هو أنت إذن!" وسببها لا
ينفصل عما حدث ليلة أمس، فعند منتصف الليل قرع باب بيته بشدة، وإذا بسعاد
التي لا يذكر أنها زارتهم من قبل، تقف هناك مضطربة، وقد أدخلها وأيقظ زوجته
ولم يشعل الضوء، وقالت له سعاد بسرعة: "أريد مساعدتك أيها الرفيق زياد."
ولاحظ هو كلمة "رفيق" التي هزّت فيه مشاعر قديمة وحارّة، ومع ذلك قال
لنفسه: "الله الله يا زمان.. الحركيون يقولون رفيق.." وأخذ سعاد دون أن
يتكلم وأجلسها في الصالون ومضت تقول: "لقد قبض الإسرائيليون على إحدى
الرفيقات، وأخشى أن تعترف بعلاقتها بي. لا أستطيع الذهاب إلى المنزل" وأحس
بشيء من الخوف.. إلا أنها استطردت: "القصة هي أنني لا أريد أن أثير شكّهم
في حال عدم اعتراف الرفيقة، ولذلك فإنني لن أركن إلى الفرار إلا إذا تأكدت
من أنهم اكتشفوا كل شيء.. هل تستطيع غداً أن تستكشف لي البيت.؟ هل جاؤوا أم
أنهم...." أخذت نفساً عميقاً وأكملت: "أريد مساعدتك.. إن المسألة معقّدة..
أسلوبهم هو أن يتسللوا إلى البيت كي يقبضوا على أكبر عدد ممكن من المتصلين
بي، لا أريدهم أن يقبضوا على طلال.." وبعد ذلك أمضى زياد وسعاد طيلة الليل
وهم يرسمون الخطّة، وقد اهتدوا إلى النقطة التي يكتشفون فيها تفاصيل ما
سيحدث في بيت سعاد عن طريق إرسال وليد بصحن الكنافة منذ الصباح، وفي حال
تأخره تنطلق سعاد شرقاً، ويصبح على زياد أن يتدبر باقي المهمات.. "سيأتي
رجل عجوز اسمه أبو القاسم، إذا أدركته قبل الوصول إلى البيت دعه يأخذك إلى
طلال، إنه وحده الذي يعرف أين يجده..." وقد مضت سعاد متنكّرة باتجاه النهر
بعد ربع ساعة من غياب وليد الذي لم يكن يعرف شيئاً عن دوره.
توقفت حياة غسان باغتياله أما روايته فلم تنته بعد.
شكر خاص للصديق عدنان كنفاني على سهره وإعادة كتابته الموضوع في وقت قياسي
وليلة كنفانية دافئة.
|