خَـدْشٌ على
تَضَـاريسِ الحَرْفِ
السَّميكْ ..
*
*
رآنيَ جالِسَاً على وقُوفيَ
الهَـرِمْ ..
فاستأذَنْتُهُ مَـازحاً
بالرَّحيـلْ ..
لكنَّهُ بَخِلَ ثُمَّ اكْتَـفَى
صَمْتَـاً عَجُوزاً ..
وانْطَوَى حُزْنَاً
لِجُرْحٍ غائرٍ ..
فقلتُ لنَفْسِيَ :
تَوَارَيْ بَوْحَـاً
فـريداً ،
أوْ مَزِّقي الأستارَ
دَنَّـاً لبعضِ أصْدَاءِ
النَّشيدْ ..
ثُمَّ عُودي مَسَاءً
أوْ صباحاً منْ
هسْتِريا الضَّحِكِ
المُعَبَّـأِ بأثقـالِ
الرُّكَـامْ ..
ولْيَنْزَوي مُجُونُ
عُهْـرِكِ ليْلاً مِنْ فراغِ
العاطفة ،
وَليَسْجُدَ واقِفَاً
في رُكُوعِ
حَرْفِكِ سَهْوَاً ،
كَيْ يَزْأرَ مِنْ شَخيرِ
بَوْحِهِ ضِفْدَعُ الخَريفْ ..
فَيَبيتُ وَقْتَهَا جِلْدُ
حُبِّهِ صَالِحَاً
للدَّفْـنِ ،
ولِيُطْلِقَ لنفْسِهِ شَـاراتِ
نَوْمِهِ القديمْ ..
*
*
*
*
*
*
1:30 ظُهْرَاً .
28 / 05 / 2007 م.
يَـا أيـُّهـا
الرَّجُـلُ الضَّميرْ ...!!.
*
*
أُردِّدُهَــا كثيراً في سرِّي كلَّ حينٍ وعلى استحياءْ :
عَـكَّـا .. يافَـا ..
حِيفـا ..
مساكينَ نَحنُ العربُ .. أحْـفـَـادُ هاجـَـرَ .. والخلـيـلْ ...
أصْحُـو الصَّـباحَ .. أمشي على أطرافِ أصابعي تكـبّـُـراً
.. وفِـكْـريَ الخُواءْ ...
أُشـاهـِـدُ التلفازَ .. لا ..
لا .. بلْ يُـشـاهدُني التلفازُ ..
فنحنُ رجالُ القنواتِ .. لا فـلسطين ......
السابعةُ مساءً هناك مُسلسلٌ في قناة الـ " ...!!.. "
يا لـَجمالِ هذه المُـمَـثلةِ ..
ويَا فُتُونَ هذه الفنانةِ .. ما أجملَ خصْرَها وساقيـْها...!
ويا لــطولِ شعرِها الكستنائيِّ المُـفَـضَّـضِ والمُذَهَّـبِ..
القصير ... ! .
في العاشرةِ هناك فيلمٌ أمريكيٌّ على قناةِ .. !!.. قلبي ..!! ..
وأيُّ فيلمٍ أمريكيٍّ أكبرُ
من إنتهاكِ عـُـروضـِـنــا واستلابِ أرضـِنــا .. ؟..
.. ولكنْ ..!! ..
دَعـْـني من هذا .. فالأمرُ لا يعنيني كثيراً .. ففـلسطينُ ليستْ أرضي
وهي بعيدةٌ جـداً عنـِّي .. ولكنْ إنْ طالـَـني العدوُّ في بيـْـتيَ
أو استباحَ إحدى أخواتي .. فسيكونُ لي معـهُ شأنٌ آخـَـر ..
.. عـُذراً .. أنا أُدخـِّـنُ المارلبورو الأبيضَ .. ..!!
عفواً .. الأحمرَ .. !! .
لأنـَّـه أمريكيٌّ .. ممتازْ .. ! .
.. لا .. إني أُحـِـبُّ " البِـنـْـسون " فهو جميلٌ
وإنجليزيٌّ .. أو .. إسرائيليٌّ .. تقريبـاً ..
.. مَلَلْـتُ قراءة َ الجرائدِ .. فهيَ دائمــاً مكرَّرةٌ وتُعيدُ نفسَها
..!
فقد حَفِظْتُ مَعـالِمَها تماماً :
العمودُ الأوَّلُ بالصفحةِ الأولى : سعادةُ الرئيسِ لديـْـهِ اجتماعٌ
في العاشرةِ من صباحِ الغـدْ وسيُرافِـقُهُ - كما تعلمونَ - الوفْـدُ ..!!
.
العمودُ الثَّاني : نُدِينُ ونشْجُـبُ عملياتِ التفجيرِ والاغتصابِ
الحادثِ بالشَّقيقِ العراقِ ..
وإدانةٌ أُخــرى مُـمَـاثـِـلةٌ لعملياتِ تهويدِ
القدْسِ وتحطيمِ المسجدِ الأقصى ..!!! ..
والبيتُ الأبيضُ دائماً يقولُ : ( ... ؟؟؟ ) ...
العمودُ الثَّالثُ : جانبٌ من الرِّياضةِ .. فالهلالُ السُّودانيُّ يَهزِمُ
الزمَالكَ
و المرِّيخَ
و النَّصرَ السُّعوديَّ بنتيجة ٍ صفر / صفر .. مساكينَ ..!!
إنَّهم مَهْزُومُونَ برغْمِ تَعادُلِ الزَّمانِ
والمكانِ والمَشْهَدْ ...!!!.
ثمَّ كاريكاتيرٌ عن السَّاسةِ والسِّياسةِ الدَّوليَّة ...
لكنـَّـه كاريكاتيرٌ مَمْجُوجٌ جدّاً ..
العمودُ الرَّابعُ : بهِ بعضٌ من القصائدِ الجميلةِ والهزيلةِ
...والرَّزيلة ..
الصفحةُ الأخيرةُ : صورٌ لنِسـَـاءَ جميلاتٍ جـدّاً يَجْعَـلْـنَكَ
تـُحـَـدِّقُ فيهـِنَّ بلا اختشاءْ ..!! ..
عارياتُ الشَّعْـرِ والنـَّحْـرِ والخــصْـرِ .. لا يـَلـْبـَسـْنَ
من القـُـمَاشِ سوى مِـتْـرْ ...!!
تـَـزَوَجـْنَ الجـرائدَ والقنواتِ بأجسادِهِنْ ..
فـبِـهنَّ ولأجْـلِـهِـنَّ تُبَاعُ الجريدةُ ....!!.
قال لي أحـَـدُهم يَوْماً : " لا أحَدَ يشتري
جريدتَـنا من أجلِ الرِّياضةِ أوِ الـثَّـقـافةِ.. بَلْ مِنْ ...!! .. " ."
ففهـِـمْـتُ ما يرنُو إليْهِ
ويَصْبـُو ...
ومُرْفَقٌ بالصفحةِ الأخيرةِ أنَّ الفنانةَ " فـُـلانةً " تزوجتْ ثمَّ
طلـَّـقتْ ،
ثُـمَّ كذلكَ عُـرْفـَـاً عُـقِـدَ قـِـرانُها ...!! .
وحَـفْـلُـها الأخيرُ لم يُـدِرْ عَليْـها أرباحاً كثيرةً نسبةً لأنَّها
لم تتعرَّى فيهِ جيِّداً !! فقد كان جزءٌ من صدرِها مغطـَّـىً بمقدارِ
واحدِ
سنتمترْ عن المرَّةِ العاريةِ الماضية .. !! .
وفستانـُها المُزرْكشُ كانَ متـَّـسـِـعـاً قليلاً فالمفروضُ
أنْ يكونَ أكثرَ تـَـحـَـذُّقـاً ...
وها قد انتهتِ الجريدةُ ... !! .
فيا لَـكِ من جريدة ٍعـرْبيدة ..!!..
حيثُ لا يُوجدُ بها حديثٌ أو معلومةٌ عنْ فَنِّ طَبْخِ
المَديدةِ والعصيدة ..! .
فأنـَا رجلٌ أحمِـلُ جميعَ صفاتِ البلوغِ والذُّكورةِ التي درستُها في
كتابِ العلومِ لمرحلةِ الأساسِ أو الابتدائي - كما في عهْـدِنا كانَ
يُسمَّى -
مثلَ حاجِبٍ غزيرٍ و شنبٍ كبيرٍ وصوتٍ
غليظ ٍ .. و ... .. لعلَّكم تَعْـرفُونَ البقيَّة ..!! ؟ .
وعلى ذاتِ السَّجيَّة ..
لكنْ يُراوِدُني إحساسٌ بأنَّهُ .. ليسَ كلُّ مـَـنْ يحمِـلُها يُسمَّـى
رَجُلاً ؟؟
لعلَّهُمْ نَسُـوا أنْ يكتبُوا ويَدْرِجُوا هذا بِدَرْسِ العـُلـُومْ ...
ولقد تطابقَ مُثلثايْ نتيجةً لوجودِ ضِلْعَيْنِ وزاويةٍ بِداخلي ..
لكنـِّي في حقيقةِ الأمْـرِ
رجلٌ لمْ يـُطابِقـْـني حتَّى ظلـِّيَ ..!!
أو يـُـمكنـُـكَ القوْل : بأنـِّيَ رجلٌ بلا ظـِـلٍّ ..
فَـظِـلِّـيَ لا يَتْبعُـني كثيراً ، وأخَـالُـهُ يـُـعَانِدُني أحياناً
.. وينتَـهِـرُني ..!! .
فهُمْ يَضْرِبُونَني .. وأنا فقط أدِينُ ..
لا .. نَسِـيتُ .. أيضاً .. أنا أشْجُـبُ ..!!.
يَقْتُلونَ أبي .. أُمي .. أخي .. ..
وأنا .. أشجـُـبُ ..
استعاروا أُختيَ ليوميْنِ كامِلَيْنِ ..
فقُـلتُ : لو كانَ أُسْـبُوعاً .. لـَـرَأوْا مِنِّيَ شرَّاً
مُستطيراً .. وأنا .. بلا خـَـجـَـلٍ .. أشجـُـبُ .. ..
ولا .. أغضبُ ..!
ولا
.. أتْـعَـبُ .. ! .
فأنا سابعُ الكُـتــَّـاب ِ الصَّعاليكِ ، أتلو دائماً على الوَرقِ
ما أحفظـُـهُ من طُقُـوسِ الشَّجْبِ والتَّحْزيبِ .. والتَّخريبِ ..
والإدانة ..
رجَعْتُ بذاكرتي للوراءِ قليلاً قبلِ ثمانيةِ أو تِسْعَةِ قـُرُون ٍ
فتذكَّرتُ أنَّ
عَمْرو بنَ كُلْثـُـومَ قالها يَوْماً .. ولـِـمُجرَّدِ أنْ طلبَتْ أمُّ
ملكِ الحيرةِ
) عَمْرو بن هندٍ ) طلبتْ من أمِّه أنْ تناولـَـها طَبَقاً .. فقالتْ لها
ليْلى
أم ِّ " عمرو " بن كلثوم : لـِـتـَـقـُـمْ صاحبةُ الحاجةِ إلى حاجتِها ثمَّ
أردَفـَـتْ وصاحتْ : وا ذُلَّاه .. يا لـَـتـغْـلِب .. فأخذَ عَمْرو بن
كلثوم سيْفاً كانَ مُعلَّقاً بالرَّواقِ بجانبِه فضربَ بهِ رأسَ عمرو بن
هندٍ فشَجَّهُ وقَتَلَه
وأنشدَ
مُعَلَّقةً من الشِّعرِ بها مائةٌ وثلاثةُ من الأبياتِ (من بحرِ
الوافر ( .. تضمَّـنتْ :
ونشربُ إنْ وَرَدْنــَـا الماءَ صفواً *** ويشربُ غيرُنا كَدِراً وطينــاً
.
إلى أنْ وصلَ إلى آخـِـرِ بيْتٍ فيها قائلاً :
إذا بلغَ الفِطَامَ لنا صبيٌّ *** تخـِـرُ لهُ الجبابِـرُ ساجدينـا .
!! ؟؟ ..
.. واليوم َ يُغْتَصَبُ حقـيَ ويُنْتَهَكُ عِرْضِيَ وأرضِيَ معـاً ..
وأنا .. لا زلتُ .. بِشِدَّةٍ أدِينُ .. وأشجـُبُ ..
بلْ في أغلبِ الأحيانِ أنِّـي .. عَـبَـثَــاً ..
كَطِفْـلٍ ألْعَبْ ... !!! ؟؟؟؟؟؟.
*
*
*
أُمْنِيَةٌ سَاذِجةٌ قليلاً :
ليتَ قلميَ عَصَا موسى .. لأمْتَلِكَ أدواتِ التعبيرِ والتغييرْ
كِلَتَيْهِمَـا ..!!.
*
*
*
الرِّياضُ – الشِّـفَـاء ..
07/03/2007م.
10:11 مساءً .
أسْرِجْ خيالَكَ أوْ جَمَالَكَ ثُمَّ انتعِلْ حَبْوَكَ
وانتَحِبْ ..!!.
أسْرِجْ خَيَالكَ أوْ جَمَالَكَ وانتعِلْ
حَبْوَكَ وانتحِبْ !.
واطلُبْ عَفْوَ نفسِكَ ،
وتَسََكَّعْ بأقْحَافِ رأسِكَ
ثُمَّ قلْ :
" عَفْواً حِصَانُكَ قدْ كَبَا
وحِصَانُ حُبِّكَ
بلا رَديفْ ..!! " .
،،
ثُمَّ قُلْ :
" أوَ هكذا تَكُونُ فيكَ حقيقةُ
البَوْحِ الهُـلامْ ؟ " .
، لكنَّكَ عَبَثَاً تُمَجِّدُ
ذاكِرةَ الوَجَعِ وتَرْقُدُ
حليماً لِيُوقِظَ حَرْفَكَ
شَمِسَاً صَباحُ المَعرِفة ..!.
مَنْ أهْدَاكَ احْتراماً وجُرْثُومَاً
مِنْ جَمَالٍ ثُمَّ قالَ :
" لا تَرْحلْ عنْ دُنيا وهْمِكَ
واستَقِمْ واقفاً فيهِمْ ،
وازْجُرْ عُسْرَ غَدْرِهِمْ بحَصَاةٍ
منْ سِجِّيلِ قَوْلِكَ ،
ثُمَّ اصْبِرْ على أبْرَهَةِ
حَرْفِهِمْ واصْطَـبِرْ " ؟ .
مَنْ أهْدَاكَ ؟ ..
مَنْ ؟ ..
ويَا ضُوءَ الحقيقةِ أيْنَ كُنْتَ عِنْدَمَا
فارقَ جِسْمَكَ ظِلُّ الحُرُوفِ ،
وخَالَطَ أُنُوفَهُمُ زُكَامُ
المُفْرَدة !! ؟ .
أمْ غَضَضْتَ طَرْفَكَ عن عَوْرَةِ
الطَّريقِ التي – عَجَبَاً –
لا تُفْضِي إلا إليْكْ !! ؟ ،
لذا ارْحَمْ جَوَادَكَ من صَهيلِ الدَّوْحِ
، وأسْـرجْ خيَالَكَ أوْ جَمَالَك وابشِرْ
بِعَرُوسٍ مِنَ الفَـرحِ
اللَّذيذْ ،
واسْتأذِنْ لنَهْرِ حُبِّكَ رَبَّ المُفرَدةِ
وأوْدِعْهُ سِرَّ حَرْفِكَ
الخافي عليهِ ،
فالسَّريرةُ يا ابنَ الذينَ
أُحِبُّهُمْ لا تُسَرُّ إلا لِمَنْ
صَادَقَ رُوحَـكَ جَهْرَاً
واحْتَفَرَ لِرِجْلِهِ مَوْضِعَاً
في إحَـنِ الوَطنِ
العَـفيفْ ..!!.
مَالِي أَرَاكَ صَدِئَاً وَجَدْتَّ
كلامَهُ و مَلامَهْ ،
وإنْ دَاسَ قَلْبَكَ حُبُّهُ
اطْعَنْ فُؤادَكَ
واحْضُنْ أسَاكَ وسُـرَّ
حَرْفَكَ عَنْ مُجُونِ المَـأْدُبَة ،
وفي جَنَّةِ نَخِيلِكَ
اسْتَرِحْ قليلاً
ثُمَّ ارْتَحِـلْ ..
***
*
*
أغسطس / 1998 م.
أشتيـةُ
البُـرُوقِ وأحْذِيَـةُ المَطَـرْ .. !!.
*
*
*
شِقَّةُ الحُرُوفِ يَضِيقُ
بَـابُها الخَـلفيُّ بالمقاعِدِ
الوِثـَـارْ ..
وحقائبُ الحُبِّ المليئةُ
بالفراغْ ،
تَيَمَّمَهَا الزَّمَانُ
نافِلَة ،
فَغادرتْهَا الأمتعةُ
وفاكِهَةُ المِزَاجْ ..
وبِنْطَالُ الحديثِ يَطُولُ فِكْرَاً
كَأُحْجِيَّـةِ المَسَاءْ ،
ليَتَوَسَّعَـهَا الحُضُورُ
خاطِرَة ..
وقَمِيصُ العَطاءِ المُزرْكَشُ
باحْتِسَاءِ المَطَرْ ،
يُبَدِّدُهُ قَهْرَاً شُوَاءُ الخطيئَةِ
غَافِلاً ،
فَينامُ سَاذِجَاً على عَارِ
الكلامْ ...
وهَا أنتَ تَخْرُجُ الآنَ مِنْ أزِقَّـةِ
الرُّوحِ إليْكَ
هَامِسَاً ..
وراكِضَاً ..
تُعَاكِسُ البُرُوقْ ،
وتُلامِسُ مِنْ حِبْرِهِمْ
ضَفَائِرَ الوَمِيضْ ..
وَتَسْرِقُ ثَمِلاً مِنْ جُيُوبِنَا شِتاءَ
الجِهَاتْ ...
فَيا لَيْتَكَ تُخَصِّرُ فينا عَـبَاءَةَ الأجْدَاثِ
أُغَنِيَة ،
وتُمَرِّقُ صَمْتَكَ في ذاكِرَةِ الوجَعِ
وطِينِ المَغْفِرَة ،
فَلَكَمْ تَبَقَّتْ مِنْ خَاطِرِ السُّـؤالِ
لَهْفَةٌ لِشَكِّ حَرْفِكَ
اليَقينْ ..
أيَا نَاراً
مِنَّا
على مِزْلاجِ طِينْ ..
*
*
مارس 2004 م.
خُرُوجٌ عَـنْ دَائِـرَةِ الجُنُـونِ العَـاقِـلَــة ... !!؟!! .
*
*
*
( 1 )
السِّياسةُ كَلِمَـةٌ عَـامَّةٌ كشارِعِ بيْتِنا العامِّ
الذي يَخْلُوَ مِنَ الأشْجَارْ ،
إذْ كانَ يَظُنُّ أنَّها تتَّسِمُ جَمَالاً
وبراءةً ورَوْعَة ، ولَمْ يَفهمْها بَعْـدُ ،
فيَبْدُو أنَّهم كانُوا يَقصِدونَ بِهَا أحوالَ النَّاسِ
وحُكَّـامَهم ،
لذا قالَ مُسْتَنْكِراً : "هيَ كلمةٌ
غَرْبِيَّةُ الطَّـلعةِ والمِزَاجْ ، وأنا رجلٌ شرقيُّ الملامِحِ
وقلبيَ لا يَمِيلُ إلا لِمُسَامَرةِ فَتَيَـاتِ الخُدُورْ " ..
*
*
*
(2 )
، وكانَ لا يَعتقدُ أنَّهُ سيتفقَّهُ ويتَّفِقُ معها
يوماً ما لأنَّهُ لمْ يَتَداولْها في حياتِهِ الباكرةِ ،
ظنَّها مَزْجَاً أبْيَضاً وجميلاً مِنْ طُعُومِ الدُّنيَا وعليها قليلٌ
من زيتِ الزَّيتونِ وريحِ المِسْكِ الأخَّاذة ،
لكنَّهم قالوا لهُ غيْرَ ذلك ،
- أتراهُم مُحقِّينَ فيمَا ذهَبُوا إليْه ؟ !.
أمْ أنَّهُ لمْ يَعِ درسَ اللُؤْمِ والأيامْ ؟! ..
سؤالٌ باذِخٌ ومَاتِعٌ ووسيمٌ في شكْلِهِ
الخاصِّ ومَدْلُولِهِ العامْ ،
*
*
*
( 3 )
- لا ... لا ...
يا رجُلُ .. لا تَكُنْ مثاليَّاً في التَّـعاملِ مَعَهُمْ ،
والأفضلُ لكَ أنْ تكونَ خبيثاً كيْ تَكُونَ سياسيَّاً
مَاهِرَاً ،
يقولونَ هذهِ هيَ بدايةُ
النُّورِ فيها ،
...
- ومِنْ أيْنَ أتيْتِ إليَّ أيَّتُها النبيلةُ ،
وشُكْراً لكِ لأنَّكِ أوَّلُ مَنْ
أدْخَلَ الدَّهشةَ على سُرُوريَ
وحُضُوريَ البائسْ ...
- يا الله .. نَسيتُ أنْ يُخبرَني صديقيَ
عَنْ عَالَمِ الأمواتْ ...
" فقدْ كانُوا أحياءً .. وتوارَوْا جُثَثَاً ..
فارِقٌ زمنِّيٌّ يفصِلُنا عَنْهُم " ..
ردَّدَ هذه العباراتِ كثيراً ثُمَّ انصرفَ
يَلْوِي على شيءٍ
في أمْعائهِ الدَّقيقةِ
الثُّقُوبْ ..
*
*
*
*
( 4 )
- كعادتِكَ تُلقي الكلامَ على عَواهِنِه وتتركُني
وحيداً ،
وهَا أنتَ الآنَ تأكلُ القَوْلَ على مَهْلِكَ
الغريبِ وأنا أنظرُ إليْكَ في كَسَلٍ
لذيذْ ..
يُقالُ في فقهِ السِّياسةِ إنَّهُ يَجُوزُ أنْ تُناقِشَ كلَّ القضايا
التي يأتي بها بالُكَ وفكرُكَ - هذا إذا افترضْنَا جدلاً
أنَّ لديْكَ فِكْرَاً تعتمرُ وتَحُجُّ بهِ – ويُشترطُ أنْ يكونَ كلامُكَ
مهذَّباً من شوائبِ الحقِّ وأنْ تستَصْغِـرَ أمرَ الرَّعيَّةِ
وتحَْتَقِرَ شأنَها حتَّى تَرُوضَ لكَ الأنفُسُ ،
ولِبساطتِهم ستجدُهم دائماً يَقُولونَ لغيْرِهِمْ :
" لِمَنْ نشتكي ما نَالَنا مِنْه ؟ ،
ونَحْنُ لا يُمكِنُنا مُجاهدتُهُ بغيرِ
ألسِنَتِنا المُلْتويَةِ خَوْفَاً مِنْهْ !! "
وأعتقدُ أنَّ هذهِ المرْحلةَ درجةٌ بينَ الشَّبعِ
واللا شبعِ في لغةِ البُطُونْ .. تجدُها في قاموسِ مختارِ
الغيرِ صحَّاحْ أوِ القامُوسِ السِّياسيِّ المحيطْ ،
- اعذُرني يا رَجُلُ ، فأنا أُحِبُّ الزَّبادي جدَّاً والغيرَ
مخلوطٍ بلغةِ السَّـاسة ،
*
*
*
*
( 5 )
قالَ وكانَ يَرْمُقني بلَحْظٍ نَعِسٍ : " لوْ خلطَّتَ الزَّبادي بقليلٍ
من سياسةِ المِلْحِ ووضعْتَ الخليطَ على نارٍ أظُنُّها هادئة ،
وصببْتَ الخليطَ على كوبٍ سياسيٍّ صغيرٍ ، وجلستَ
باستِكانةٍ تُحَدِّقُ نحوَ أُفُقِ الكلامِ ، وأمِلْتَ فمَكَ جانِبَاً
وأخْرَجْتَ منهُ ابتسامةً تَمِيلُ قليلاً إلى الاصفرارْ ،
فأنتَ إذن على أولى عتباتِ الخُبثِ والسِّياسة ،
وتزدادُ سياستُكَ الفكريَّة كُلَّمَا ازدادتْ حِدَّةُ اللونِ الأصفرِ
لمَلبَسِكَ .. قصدي .. لابتسامتِكْ ..
والمُهِمُّ في الموْضُوعِ ألا يَكونَ هُناكَ شيءٌ هامٌ
تتحدَّثُ فيه ، فقط يجبُ عليكَ أنْ تُناقِشَ وتُحَاوِرَ
كثيراً حتَّى تَكُونَ شيئاً ، حينَها سيتصَدَّرُ اسمُكَ صفحاتِ
الجرائدِ ، وصُورتُكَ سَتقبَعُ خلفَ عَمُودِكَ الطَّويلْ ،
ولكنَّكَ إنْ جَرَّبْتَ يَوْمَاً ما شُربَ كَوْبٍ مِنْ الحليبِ
الدَّافيءِ صباحاً ، فحتماً سينسيَكَ
السياسةَ وماضيَها التَّليدَ والبليدَ وحاضرَها
الخبيثْ ..
سيَّما وإنْ كانَ الخليطُ من عصيرِ الطماطم وقَبَلَ
أنْ يَصِلَ إلى مَرْحلةِ المْعْجُونِ منْهَا ،
*
*
*
( 6 )
*
- " مُمْكِن لوْ سَمَحْتَ ".. !! ؟؟ ..
- اسمحوا لي بأنْ أَرُدَّ على هذا التلفونِ العارِضِ ..
، تفضَّلْ بالسُّـؤالِ أخي الكريمْ ! ..
- هلْ يُمكِنُنِي أنْ أُمَارسَ سياسةَ الأكلِ وأنا
نائمٌ وأنْ أكُونَ منتَعِلاً حِذائيَ الجديدْ .
.. فالإجابةُ بالطَّبعِ هي " لا " مَخلوطةٌ بـ " نعم " وقليلٍ من
عصيرِ الليمونِ عَقِبَ كُلِّ سُؤالْ ،
- أجل وبكلِّ تأكيدِ طالَمَا أجندةُ حِوَارِكَ واحِدةٌ
لا تُغَيِّرُها السُّنونْ ..
كُنْ بخيرٍ أيُّها الرَّفيقُ ...
قال مِنْ بعْدِها وكانَ يَفْرُكُ ويُدَاعبُ
عينَهُ اليُمْنى ويُمَارسُ تِلْكَ الابتسامة :
" الكُحْلُ الأسْودُ لليَوْمِ الأبيضْ "
*
*
*
( 7 )
*
.. ولقدْ عَجِبْتُ لأمْرِه كثيراً ،
وهوَ يَرْبِتُ على كَتفِيَ قائلاً:
هذهِ هيَ أُولَى عَتَبَاتِ السِّياسة !!.
وحيْثُ إنِّيَ لا أملِكُ مِنْ مُسَـارَرَةِ نفسيَ شيئاً
فقلتُ في نفْسِ غيْريَ هَـازِئاً :
" دَعْهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ رَحِـمِ الأيَّامِ ! ،
فقدْ تَعَثَّرَ مِنْ كِبْريائِهِمُ الدَّرْبُ ،
ورَاوَدَهُمُ الظُّلْمُ عَنْ نفسِهِ كثيراً بمُمارسَتِهِم
في الكَوْنِ تجْويعَ المفرداتِ ،
وصَلْبَ الحُرُوفِ ، حتَّى اهْتَرَأَتْ
مِنْ كَيْدِهِم رئاتُ الأرْضِ
مِنْ السُّعَـالْ ..!!.
فباتوا يُعَانُونَ الآنَ مَضْغَ الحُرُوفِ
وَوِزْرَ الخُرُوجْ ..
فَمِنْ أيِّ رَمْلٍ هؤلاءْ .. ؟؟ .
وَمِنْ أيِّ شَوْكٍ يأكُلُونْ ..؟؟؟ ."
*
*
**
( 8 )
*
وكانَ بِنْطالُهُ يَضِيقُ قليلاً عَنْ خُرُوجِ
المفرداتْ فقالَ مُتَهَكِّمَاً :
تَوسَّدْ هَمَّكَ والْتَحِفْ ظَنَّكَ جيِّدَاً وَنَمْ على ضُلُوعِ
الحرْفِ ، ولا تُفَاجَأ إنْ لَمْ تَجِدْ رأسَكَ
بِصُحْبَةِ جسدِكَ يَوْمَاً ، فقدْ تستأذِنُكَ كُرْهَاً وقَسْرَاً في
أخْذِهِ
أيادي العاصفة ،
حينََها وبِلا مِرْيَةٍ يُمْكِنُكَ أنْ تَفْقَأَ عَيْنَ السِّياسة ،
أوْ كُنْ قُبَّرَةً وحاوِلْ أنْ تتَّخِذَ أُدْحِيَّةً تبيضُ فيها *
على مَوْرِدِ الفيلْ !! ،
وأشكو إلى العَقَـاعِقِ وَطْأَ عُشِّكَ
وتهْشِيمِ بيْضِكَ ، *
واحشدِ الضَّفادِعَ بأنْ تُنَقِّقْنَ على هُوَّةِ وَجَعِكَ ..
فسَتَجِد ولأجْلِ جُرْعةِ ماءٍ قَدْ لَقِيَ الفيلُ
لا مَحَالةَ حَتْفَهُ ،
*
*
*
*
*
( 9 )
عِنْدَها سَوْفَ لَنْ تجِدَ امرأةً ثَكْلَى
وطِفلاً يَمُوتُ على قارعَةِ الطَّريقِ
بِلا كَفَنٍ ولا حِمَاية ،
وبِذلكَ تكونُ قدْ فَقَأْتَ عَيْنَ
السِّياسةِ ،
وتركْتَ بعضَ حُزْنِكَ فيهِمْ ، وجَرَّعْتَهُم
مِنْ ماءِ كأسِكَ عُقَاقَ المُفْرَدة ، *
وعاوَدَ فَمَكَ على وُجُوهِهِم
بَصْقُ الحُرُوفْ !! ..
*
*
*
*
*
*
*
أغسطس 2007م.
ــــــــــــــ
* القُبَّرَةُ : جنسٌ من الطيورِ مخروطيَّةِ المناقيرْ، شديدةِ الحذَرِ
وذاتِ تغريدٍ دائمْ ، قرأتُ قِصَّتَها قديماً في كتابِ
يُسَمَّى " كَلِيلة ودِمْنَة " .
* العقاعِق : جمع عَقْعَق ، وهوَ طائرٌ من فصيلةِ الغِربان ،
كانتِ العربُ تتشاءمُ بهْ .
* أُدْحِيَّة : مَوْضِعُ بيضِ النَّعامِ وتفريخُهْ .
* العُقَاقُ : شديدُ المَرَارَة .
كانَ شَحَّـاذَاً ... ولكنَّه ... عالِمـاً ...!!!.
يَكْتَنِزُ رأسُهُ بالشَّعرِ المُجعَّدِ والهُمُومِْ ..
تتشَابَهُ الأيامُ والمنازِلُ في داخِلِهِْ ..
دائماً يُحِسُّ اعتقالَ قميصِهِ لَهْ ..
أدخلَ يدَه في جيبِهِ يتحسَّسُ صَدَى
شَيْءٍ مِنَ النُّقُودْ !!.
لكنَّ الجَيْبَ أفْضَى بهِ إلى سُرْوالِهِ
الطَّويلِ المتَّسِخِْ ،
فرجعتْ يَدُه مَكْسُوفةَ الخاطِرِ لمْ تجِدْ سِوى
سُهْد اللَّيالي وجَفافَ الأيامِْ ..
باحِثاً في الطُّرُقاتِ عَنْ فـتاتِ الخُبْزِ اللئيمْ ..
فالطريقُ مكتَظَّـةٌ بالمَارَّةِ والمُتسكِّعِينَ
وذوي الهِندَامِ الجَميلْ ..
أدارَ وجْهَهُ يَمْنَةً ويُسْرَة لكنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ أحَداً
.. غَارِقاً في هَمِّهِ .. يتلو في سِرِّهِ
شيئاً من أهازيجِ اليأسِ وفقرِه المُدْقـعْ ..
أمسَـكَ ورقةً وقلماً ليَكتُبَ شيئاً مَـا يُزِيحُ
به مَا يَعْتَلي صَدْرَه مِنْ غَـمٍّ ..
تذكَّرَ فجأةً أنَّهُ لمْ يَجْلِسْ على كنَباتِ
الفصْلِ والدَّرسِ يوْماً .. فبللتْ دُمُوعُه الوَرقَ ..
جَرَّ ذيلَ جِبَّتِهِ المُلَطَّخةِ بالطِّينْ .. ثمَّ انْزَوى
إلى رُكْنِ حائطٍ قديمْ ..
لَمَحَ رجُلاً لامِعَ التَّقَـاسيمِ والملابسْ ..
قامَ عَجِلاً صَوْبَه ؛ ثُمَّ مدَّ يدَه إليهِ آمِلاً
ومُتوجِّساً وقائِلاً : " للهِ يا مُحْسنينَ ديناراً
أوْ جُنيْهاً أو خُبْزَه " .
.. أزاحَهُ الرَّجُلُ عن طريقِهِ وانْتَهَرَه بشدَّةٍ
هَكَذَا : لا تَعُوقَ طريقيَ نحنُ نسْبِقُكُمْ فقطْ
بالصَّبرْ !!! ..
ضَاقَتِ الدُّنيا مِنْ حَوْلِهِ فقدْ أفقدَهُ ذلكَ
المُهَنْدَمُ الأمَلَ .. مع أنَّ أمَلَهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ
الآمالِ العِرَاضِ كآمالِ الآخرينْ ، بل مجرَّدُ
أمَلِ طعامٍ أو ماءٍ يَسْتُرُ بهِ عورةَ بطنِهِ
الجوْفاءْ ..
فهذه المهنةُ لَمْ يَمْتَهِنْهَـا طائعاً مُختاراً
لكنَّها هي التي قَصَدَتْهُ بغيْرِ إرادةٍ منه
فأشْرَبَتْه رحيقَهـا المُرَّ ...
نَذَرَ يَوْمَاً نفسَهُ بألا يَعُودَ إليها ثانيةً ..
لكنَّهُ كانَ قاصِراً عنِ العملِ
فاقداً ليدِهِ ورجلِهِ اليُسرَى ...
ذاكَ مَّا حَدَا به لأنْ يَنْثنيَ أمامَ هذهِ
المهنةْ !!.
له من البناتِ خمسٌ ومن
البنينَ ثلاثةٌ ، الثاني عشرةَ
لمْ يتجاوزْهَا أكبرُهم ، لذا
فَهُوَ أكبرُهم هَمَّاً وعُمْرا .
حاولتُ الاقترابَ منْهُ قدْرَ استطاعتي ،
فقدْ أتاني إحساسٌ بأنَّهُ ليسَ شحَّاذاً عَاديَّاً
، لذا بدأتُ بمصادقتِهِ ، حاوَلَ النُّفُورَ منِّيَ
لكنَّهُ أخيراً وبطيبِ قلبٍ قَبِلَني صديقاً ،
فكنتُ أجلِسُ معهُ لأستشِفَ ما بداخلِهِ
من أسرارٍ . فقدْ كانَ شحَّاذاً جميلاً
وعالِماً ..
يَميلُ كثيراً للتَّحدُّثِِ معيَ باللغـةِ العربيَّةِ
الفصيحةْ ..
ولمِسْتُ من كلامِهِْ أنَّه لا يُخطِئُ مُطْلَقَاً
عندَ امْـتطائِهِ صَهْوةَ اللُّغةْ ، فأدْهَشَنِي
ذلك منهْ جدّاً ..!!.
.. وكُنْتُ أعتقدُ بأنَّ لي باعَاً لا يُسْتَهَانُ
به في العربيَّةِ وعُلُومِهَـا ونحوِها وصرفِها
فتجدُني أتَشَدَّقُ معهُ بذلك كثيراً
ولكِنْ !! ويا لَعَجَبِي !!! فقدْ تضاءَلَتْ قُدْرَاتي
تجاهَ مَا يَقولُ ..
قال لي : أتدري مَا الكافُ ومَا المَكفُوفْ ؟
وما المجرورُ بالمجاورةِ ؟؟ قلتُ : اللهُ أعلمْ !!.
قال : أتدري ما إعرابُ " إنّما المؤمنونَ إخوةٌ " ؟ ..
قلتُ : المؤمنونَ : مبتدأٌ مرفوعٌ بثُبُوتِ الواوِ
لأنَّهُ جمعُ مذكَّرٍ سالمْ ،
وإخوةٌ : خبرُ مبتدأٍ مرفوعْ ..
وتَجاوزتُ " إنَّمَـا " عَمْداً لعدمِ دِرايَتي
الكافيةِ بإعرابِها ..
فقالَ : لِمَ لمْ تُعْرِبْ " إنّما " ؟؟ ..
فتَمْتَمْتُ في نفسيَ ولمْ أُكْمِلْ ..
فقطعَ تمتمتي قائلاً : لا عليكَ يا بُنَيَّ ..
طالَما ارتضيْتَ أنْ تجالسَني فذاكَ تواضُعٌ
جَمٌّ مِنْكْ ، فالنَّاسُ تنفِرُ منِّي ولا تُطِيقُني ..
فسأخبرُكَ عنها الآنَ : فهذا يُسمَّى الكافُ
والمكفوفْ ، أيْ بمعنى
إنَّ : أداةُ توكيدٍ ونصبٍ كما تعلم وهنا
تُسمَّى ( مَكفوفةٌ ) ،
واسمُ الموصولِ ما : (كافٌّ) لأنَّها كفَّتْ
وأبطلتْ عملَ إنَّ .
فقلتُ: لمْ أفهمْ شيئاً ..!.
لكنَّني وبَعْدَ أنْ أرْهقتُهُ شرحاً
قدْ فهِمتُ قوْلَه .
فأدركتُ أنَّهُ قدْ هَزَمَنِي من هذهِ
النافذةِ ، حاولتُ أنْ أقْفِزَ
وأتسلَّلَ إلى نفسِهِ عبرَ نافِذةٍ أُخرى فقلتُ
له : أتعرفُ شكسبيرْ ؟
قالَ : قُلِ الكاتبَ الإنجليزيَّ " وليام شكسبير "
الموْلودَ في أبريل عامِ أربعةٍ وستينَ
وخمْسُمائةَ وألفْ ..
ومنْ أعمالِهِ تاجرُ البندقيَّةِ والملكُ لير وماكبث
وهاملت وعُطَيْل و ....
بدأ الإندهاشُ يَدُبُّ في داخلي لأنَّه استمرَّ يقولُها
باللَّكنةِ الإنجليزيَّةِ ويَذْكُرُ تأريخَ هذه الأعمالِ
على التَّتالي دونَ توقفٍ أو تردُّدْ ..
ثمَّ أردفَ قائلاً : فشكسبيرُ كانَ فقيراً مثلي ..
ثمَّ نظرَ نظرةً عميقةً تجاهَ الأرضْ ..
فحاولتُ أنْ أُطيِّبَ خاطرَهُ فقلتُ : إنَّ الفَقْـرَ
لمْ يَكنْ يوْماً نقطةً سَوْداءَ في تأريخِ الفردِ .. و ..
لكنَّه واصلَ حديثَهُ غَيْرَ آبِهٍ بقوْليَ ، قائلاً :
لكِنِّي أرى أنَّهُ كانَ
يقتبسُ بعضَ كتاباتِهِ من أعمالٍ سابقةٍ .. و ..
واستمرَّ بالقَوْلِ وأنا أزدادُ
اندهاشاً ..
حاولتُ أن أنْحُوَ بالحديثِ لمَجَالٍ آخَرَ ..
الكيمياءْ .. ثمَّ الفيزياءْ ..
ولكنِّي لم أجدُ غيرَ الدَّهشةْ ..
كانَ رجُلاً يُحبُّ الشِّعْـرَ والشُّعَـراءَ ، خاصَّةً
الشعرَ العربيَّ الجاهليَّ وكانَ يحفظُ المعلقاتِ
السبعْ .. كلُّ هذا وهو لا يقرأُ ولا يكتُبْ ..!!!.
سألتُه بأنْ يُخبرَني من أينَ وكيفَ تعلَّمَ هذا كلَّه
وكيفَ حَفِظَه ؟؟؟؟ ..
قال لي : لا تتعجَّلِ الأمورَ فسأُخبِرُكَ عن ذلكَ يوْماً
مَا ، ولكن يا بُنيَّ اصْدُقِ اللهَ يَصْدُقُك ..!
ثمَّ سكَتْ ..!
ويبدو أنَّ ريقَهُ قدْ جفَّ تماماً فناولتُه قارورةَ
مَاءٍ كانتْ قَـابِعَةً بجانبِه وبها من الإحترارِ ما يَكْفي
لأنْ أذكرَه ..
ولمَّا أحسَسْتُ أنَّنِي قدْ أرهقتُهُ أسئِلَةً
واستماعاً .. رجَوْتُـه أنْ يَذهبَ مَعِيَ ، لكنَّ رَفْضَهُ
كانَ قاطعاً .. !!.
وقال : أيْ بُنَيْ هنا نلتقي وهنا نفترِقْ .. !!
فاستأذنْتُه بالرَّحيلِ على أنْ أعودَ إليهِ باكِراً ..
وفي الصَّباحِ أتيتُه كما الوعدُ ، وكعادتِه يُمْتِعُني بالحديثِ ..
فقد كنتُ أتردَّدُ عليه كثيراً ولا أغيبُ عنه أُسبوعاً ..
وذاتَ مرَّةٍ خطَرَتْ لي فكرةٌ بأنْ أستفيدَ منهُ في علومِ
الحديثِ
والمذاهِبِ الأربعةِ فقدْ كُنْتُ قاصِرَ الطَّرْفِ فيهِمَا ،
فرتَّبتُ أُمُورِيَ ؛
وذهبتُ إلى ذلكَ المكانِ المعهودِ الذي يُمارِسُ فيه
مِهْنتَهُ غيْرَ المُحبَّبةِ إليْهْ !!
لكنِّي لم أجِدْهُ هُنَاكْ ..!! ؟؟.
تفَرَّسْتُ المكانَ جيِّداً فلمْ أرَ لهُ أثراً ..
ولكنَّ ثمَّةَ جَمْعاً ضَخْماً وغفيراً من النَّاسِ
في مكانٍ غيرِ بعيدٍ من
مكانِنَا المَعْهُودْ ..
تحرَّكتُ تجاهَهُمْ .. وأنا أُردِّدُ ماذا هناك ؟؟
ماذا هناك ؟؟...
قالَ لي أحدُهم دونَ أنْ يَلْتَفِـتَ إليَّ : " أنَّ هناك
حادثاً قد وقعَ قبلَ قليلٍ لرجُلٍ باليَ الملابسِ
والشَّكلِْ ، ْفقد دَهَسَتْه سيَّارةٌ وذهبتْ دونَ أنْ يُعرَفََ
قائدُهَا .. " !!.
قالها ذلكَ الرجُلُ بلا اكتِراثٍ منْهْ ..!
زاحَمْتُ الخَلْقَ واخترقتُ الصُّفوفَ حتَّى
وصلتُ ... حتَّى .... وقفتُ أمامَ ...
فوجدتُ صديقيَ مُمَدَّداً على الأرضِ جُثَّةً
هامِدةً ودَمُه الطاهرُ تِبْرٌ خالطَهُ التُّرابُ ..
ولا يبدو منهُ سِوَى رأسه بشعرِه الأسودِ
المُجعَّـدْ ..
فانكفأْتُ عليهِ أتلمَّسُه والدمعُ يتقاطرُ منِّيَ
بلا توقُّفٍْ ..
وكانَ بعضُهم يقولُ : ( " لعلَّه ابْنُهُ .." والآخر يقولُ :
" لا أعتقدُ أنَّ لهذا الرجلِ الشحَّاذِ أهْلاً فقد يكونُ
من بابِ الشفقةِ والعاطفة و .. ") ..
.. وَهُمْ لا يَدْرُونَ عنْ أيِّ شحَّاذٍ يتحدَّثُون وعنْ
أيِّ رجلٍ يتفوَّهُونْ .. ولا يعلمونَ أنَّهم أمامَ جُثَّةِ
عالمٍ أخطأتْهُ الملابسُ وأقْصَتْهُ المِهْنةُ ..
فَثَمَّةَ حديثٌ مَعكَ يا .. صديقيَ .. مَاتَ مَوْءُودَاً في
حُنْجُرَتي .. فهلْ ليَ مِنْ شحَّاذٍ
آخرَ غيرِكَ فقد اعتراني بعدَكَ ..
يا .. أُستاذيَ الذُّهُولُ ...!! .
فشكراً لغيابِكَ الحُضُورُ عندي ..
وشكراً لأنَّكَ غَـيَّرْتَ مَجْرَى التَّأريخِ
فِـيَّ ..
وسوفَ أظلُّ أبداً لا أذكُرُكَ ..
لأنِّيَ .. أبَداً .. أبداً ..
أبداً ..
لَنْ أنساكْ ... !!.
وباقٍ أنتَ في الذِّكْرَى ..
وحَتْمَاً في القَـلْبِ
وفي الرَّحِيـلْ ..
*
*
*
الرِّياض
2004.م.
|