أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: حسن حميد-فلسطين

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

كاتب قصة ورواية من فلسطين، يعيش في سورية.

عضو اتحاد الكتاب العرب ـ سورية.

رئيس تحرير جريدة الأسبوع الأدبي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في سورية.

إجازة في الآداب ـ قسم الفلسفة وعلم الاجتماع 1980.

دبلوم تربية عامة 1981

دبلوم دراسات عليا في التربية 1982

ترجمت بعض قصصه ورواياته إلى اللغات الإنكليزية، والفرنسية، والألمانية، والفارسية، والصينية، والأرمنية.

 

الأعمال الأدبية المطبوعة

اثنا عشر برجاً لبرج البراجنة ـ قصص

زعفران والمداسات المعتمة ـ قصص

ممارسات زيد الغاثي المحروم ـ قصص

طار الحمام ـ قصص

دويّ الموتى ـ قصص

السَّواد ـ رواية

هناك.. قرب شجر الصفصاف ـ قصص

مطر وأحزان وفراش ملوّن ـ قصص

أحزان شاغال السَّاخنة ـ قصص

قرنفل أحمر.. لأجلها ـ قصص

حمّى الكلام ـ قصص

جسر بنات يعقوب ـ رواية

تعالي نطيّر أوراق الخريف ـ رواية

ألف ليلة وليلة ـ دراسة

البقع الأرجوانية ـ دراسة

المصطلحات ـ المرجعيات ـ دراسة الأدب العبري

كائنات الوحشة ـ قصص

الوناس عطية ـ رواية

أنين القصب ـ رواية

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

بائعة الصبار

حمى الكلام

هدهدة 

 

هدهدة


رآها للمرة الأولى، في ذلك المساء الفضي، حائمةً مثل حمامة أمام محلات الألبسة المضاءة. تنتقل من محل إلى آخر بتمهل، وحضور، ودهشةٍ. بدتْ كما لو أن زينة المحلات مربوطة بها أو معلقة عليها.
أحسَّ، وقد راقبها طويلاً، كما لو أنها تترك نثاراً جميلاً من الرقة واللطف فوق الأرصفة التي راحت تلين وتتلوى بهدوء تحت قدميه، وهو يتعقبها كالمشدوه.
أيقن، وبعد أن رآها تبادله النظر، أنها تعنيه تماماً، وأنها ـ بجسدها البديع ـ جديرة بأن تكون موضوع لوحته القادمة. تأكد، في لحظة واحدة، وقد رآها تركز نظرها عليه، أنها عرفت فيه ذلك الفنان الموهوب الغامض، فامتلأت نفسه بمشاعر هفهافة حلقت به حتى لكأنه راح يشعر بأنه ينزلق فوق الأرصفة، بين الناس ككرة صغيرة من الزجاج!!
مشتْ طويلاً، ووقفتْ طويلاً، وهي تتباهى بخطوتها القصيرة الواثقة، وبالتفاتاتها الرهيفة الحانية. كانت تلمس برؤوس أصابعها الطويلة أطرافَ أوراق النباتات والشجيرات المصطفة بمحاذاة الرصيف، فيلمس هو عليها كالممسوس.
شعر، وقد دنا منها أكثر مما يجب، أنه يشمُّ شذا شعرها القصير المتراقص فوق رقبتها البيضاء الطويلة، وأن أرنبة أنفه المحمرة من برودة المساء الخريفي الهادئ، قد لامست طرف قرطها الماسي اللامع القريب منه، فانتشى، وصفق قلبه بفرح قلما عرفه من قبل، وتأكد بالملامسة، أن في صدره قلباً لهوفاً يدِّقٌّ لها!
اقتنع أو كاد بأنه راق لها، فواصل التحويم حولها. كان وإياها يتنفسان هواءً مشتركاً، ويمشيان على رغبة واحدة مقسومة إلى نصفين، وهما يدوران في الشوارع العريضة والضيقة. كانا كمن يرتّب كلُّ منهما روحه للقيا، والمساهرة، واللحظات الحميمية.
ولم يدر أيٌّ منهما لماذا، وكيف، ومتى.. بدأ رذاذ المطر الخفيف يلفُّ كل شيء من حولهما. أحسّا، وكأنهما يعيشان مشاهد سينمائية مشتهاة بعدما راح الناس يستعجلون الخُطا متفرقين ذاهبين إلى بيوتهم، وبعدما صارت أصوات إغلاق أبواب المحلات ضجيجاً يعلن عن انتهاء يوم من أيام المشاهدة، والبيع والشراء.
بدا الاثنان، وفي لحظة مفارقة عجيبة، وحيدين فوق رصيف لامع ضيق، لا هو يمضي فتمضي، ولا هي تستدير فيعود. في تلك اللحظة، تبادلا النظرات الحيية الرقيقة مواجهة. وهمتْ هي متقدمة نحوه بخطوة واحدة، وتقدم هو نحوها بخطوات كثيرة. كانت تشدُّ واحدهما للآخر ابتسامة خجول ونظرات يقظى خائفة، ودونما استمهال، أخذ كفها طيَّ كفه وهزّها، فاهتزت الروحان، وشاع الدفء بينهما، وراحتْ هي تحكي له عن المدينة ووحدتها، والبرودة التي تلفّها دائماً. وراح هو يراقبها بإمعان وحذر وخوف كي لا ينكسر اللقاء. كانت أقدامهما راقصة، والرصيف دافئاً مستسلماً لوقع خطاهما الطرية، وقد تماشيا كفّاً بكفٍّ كمن إئتلفا منذ أمد بعيد.
ودَّ هو، وقد رأى النباتاتِ والأشجارَ فرحةً، لو يأخذها إلى قلبه في ضمة واحدة. وودت هي، وقد أحسّتْ بدفء أصابعه لو تذوب فيه. وشردا معاً، وكلُّ واحد منهما يحلم بالدهشة القادمة.
كانا وحيدين مع المطر، وقد انشغلت الدنيا كلُّها عنهما، ينسُلان الخُطا، والأحاديث الهامسة، والرغباتِ العتيقة التي لم تقف بعد على مساء ندي أو هدأة شاسعة، لتلوح للنهارات الحرون الدامعة تلويحة الاشتهاء.
رجاها، وهما في الطريق، أن تبني معه هذا المساء، وأن تطرد خيباته الكثيرة، وأن تكون ـ ولو لمرة واحدة ـ كالمطر بعدما جفت روحه ويبست!! أو أن تكون كالسماء.. الوصول إليها صعب، ونسيانها صعب. ورجته، وهي ترامش بعينيها، أن يمنحها لحظة دفء واحدة بعدما عذّبتها المدينة بوحشتها القاتلة، وأن يبدّد أساها، ويمحو أحزانها الولود، وأن يقطع خيط لهفتها للآخر كائناً من كان، وأن يكون هو، لمساءاتها القابلة، السيدَ الأخير.
كان الحديث بينهما نشيجاً أو يكاد، نوافذَ لا حد لها، وصراخاً داوياً لروحين غلبهما البكاء.
كانا بحديثهما يتقاربان، فيتنفسان بعمق شديد، وبهجة بادية.
رقَّ لها، ورقّت له!؛ وانقطع الكلام..وخارت قوة الجسدين، فهبطا معاً فوق طرف الرصيف البعيد المعتم، فوق الغبار المبتل، وفوق آثار الخطا التي عبرت به قبل قليل!!
شعرا، وهما في توحدهما النادر، بلحظة النشوة البعيدة المنال، وأن الهواء الشفيف الرائق يخصهما وحسب، وأن زهوة المساء فراشهما الدافئ الوسيع. ولم يطل بهما الوقتُ كثيراً حتى أحسّا بأن غيبوبة ما أو لطافة آسرة أخذتهما بعيداً في الطمأنينة أخذتهما بعيداً في الطمأنينة الوارفة، فانقادا إليها تحت خدر أليف ناعم. ولم ينكشفا على الخلق صباحاً إلا جسداً واحداً طرياً منطفئاً فوق رصيف محبر بالبهجة الدامعة؛ جسداً واحداً طرياً منطفئاً لرجل أشيب قصير عاثر، لا بيت له، ولا دفء، ولا أصحاب!! يفترش، في كلِّ ليلة، هواجسه الشرود، وخيالاته الحنون.. لينام في مدينة ممعنة في صدودها الحزين، وبرودتها الراعبة!!

 



حمّى الكلام!!


ــ1ــ


الآن،
بات أقدم سجين في هذا القاووش الحجري الرطب المعتم، الذي حفظ هيئته، وثقوبه، وعروق حيطانه، وظلمته، وحشراته، وطعامه، ومواعيد مرور الشمس عليه، كما حفظ وجوه ساكنيه، وقصصهم أيضاً!!
لقد آمن ساكنو القاووش بأنه سيعدم هذه الليلة أو الليلة القادمة، لذلك باتوا لا ينامون إلا بعد أن يساهروه إلى آخر الليل مودعين، مشجعين، أما الأسباب فلا يعرفها أحد منهم، كلُّ ما عرفوه أنه سيعدم بسبب الكلام المُرّ الذي أغضب الآخرين، ولم يسألوه ماذا قال، وهو لم يضف شيئاً على قوله:
ــ »لساني قادني إلى هنا«!!
كان، ومنذ عشرين سنة، ينتظر اللحظة التي سينسلّ من بينهم بغتةً إلى موعده المضروب، وقد ابيضَّ شعره، وانبرى جسده ورقّ، وذوى عوده، وتضاءلت رؤيته، وازادت رعشة يديه وشفتيه. الآن، بات يعطف على الجميع، ينصح هذا، ويواسي ذاك، مصبراً مشفقاً. يقوم بكل أعمال القاووش، ينظف البطانيات والحصر، ويكنس الأرضية، ويجمع الأوساخ، ويفرغ الدلاء من قاذوراتها النتنة، ويغسل الثياب، والقصعات، والأواني؛ كان لا يهدأ على حال، ولا يعرف طعم النوم أو الراحة طوال وقت النهار؛ وفي الليل، وحينما تكثر المنغصات، وتبدأ حفلات التعذيب، يذهب طيّ العتمة يُعذب طواعية، بدلاً من أي منهم، فهو ميت! إن اكتشفوه ضربوه وأعادوه، وإن لم يكتشفوه سألوه وضربوه ثم أعادوه أيضاً!! كان يعطي ثلاثة أرباع طعامه لرفاقه، يقول لهم:
ــ »خذوا، فأكلي خسارة،
لن أبقي لهم سوى عظامي.. وأنفاسي فقط«.
كان منظره، وهو عائد من حفلات التعذيب، مرعباً، وموحشاً وقد لفَّ جسده الدم، وعلاه الورم، فلا يتألم أو يئن لاعتقاده بأن ما ينتظره أصعب وأشرس، لذلك فهو يوفر كل هذا لذلك الوقت، وفي لحظة ضعف بادية يستجيب لعطف أصحابه ومواساتهم لكي تشفى جروحه سريعاً ليقوم بأعمال القاووش صباحاً. كان يبدو كمن يودّ أن يموت قبل أن يعدموه فعلاً، ومع ذلك، كان أكثر ما يزعجه، وينغص عليه هدأته، ساعات الفجر، حيث يتعالى، في الخارج، وقع الأقدام الراكضة، والأصوات الزاعقة، وصليل المفاتيح، وإغلاق الأبواب بحدّة، وفتحها بضجيج عالٍ، كان يحسُّ بأنهم أتوا ليأخذوه في الموعد المنتظر، لكن وما أن تنهض الشمس حتى يخفت ضجيج قلبه الهلوع ليباشر حياة يوم قادم، وبدل أن يغفو أو يستكين ينشط في إيقاظ أصحابه بحماسة بادية، لكأنه يخبرهم بأنه نجا مرة أخرى، وأن حياته حقنت بأمل جديد.
وعند الظهيرة يكون التعب قد هدّه تماماً، وأخذ أصحابه في غفوة لابدّ منها، فينكمش في زاويته يراقبهم واحداً واحداً، وقد غفوا، فيحسّ بدموعه تسحُّ على خديه حارة موجعة، لأنه سيفارقهم عما قريب، وقد ألفهم حتى باتوا أهله، بعدما رحل والداه حزناً وقهراً عليه، وقد أدركا بأنهما افتقداه للأبد!!


ــ2ــ


الآن، في هدأته،
يلتهمه طيف وجه هنومة الأسمر الناحل، وهمسها الطروب، ينهض وجهها دافئاً طرياً كالصباح، فتبدو ابتسامتها البيضاء نافذة لرضا الروح، وتترامش عيناها النديتان صبيباً من العسل المذاب، ويغصُّ. يشعر بأن الحياة جديرة أن تعاش مرة أخرى من أجلها، بل من أجل أن يمشي على الدرب الموصل إليها فقط!!. ويتساءل: من يدري، هل ظلت على وعدها أم أنها طارت كالعصافير الجميلة الجفول؟! يتذكر أيام كان يواقفها قرب مدخل الدرج الوسيع تحت بيتهم تماماً، في العتمة الكاشفة، يسمع دقَّ قلبها، وتلاهثَ أنفاسها الحرّى وهي تتخافت وتعلو باضطراب شديد، ويرى جمال ضحكتها المكتومة، ويستعيد الهمهمات التي كانت تحكي أكثر من الكلام (آه، كم كره الكلام)، ويحسُّ ببرودة أصابعها البليلة بالرجفان وذوب كفّها الصغيرة طي كفّه في لحظة أغنى من الوقت وأحلى من فضة السكر.
تبدو خلالها ألوفةً مثل قُبرة، ونافرةً كنحل شرود، ينظر إليها كالمشدوه، يودّ لو يلمّس على شعرها الطويل الأسود، ولو يأخذها إلى صدره فيطفئ حبيبات العرق الصغيرة اللامعة فوق شفتها الوردية العليا، يدنو منها أكثر، لكنها تطيّر إلفتها في لحظة واحدة، فتفرغ مثل طيور الحمام، وتغمغم بالوداع واجفةً، تُفلت كفها من كفه، تناوله حفنةً من ورق دالية الدار، وتمضي، وقد بدا طولها زينة يموج كهودج من ريش النعام، ينتبه على عجل كمن يستفيق من حلم فيجمجم منادياً، يرجوها أن تتريث قليلاً، أن تبقى.. لكنها لا تلتفت أو تستدير، تترك له رنين خطوها، ولذع كفها الدافئة، ومشهد الإياب النحيل!! لحظتئذٍ تصيرُ أحلى وهي تبتعد وتنأى كلما تخافت خفقُ نعليها وانطفأ فوق درج الرخام!!
يتذكر كيف واعدها بأن يملأ الدار بصخب الأولاد وضجيجهم، وكيف واعدته هي بالدفء والرضا والأمان، لكن الأيام كرّت بقسوة فأخذت منه هنومة وعالم الأحلام؛ هنومة التي يسكره شميمها كالوليد، وتبعثره طلّتها كرفٍّ من طيور القطا القبول.
هي وحدها، الآن، التي تشده إلى خارج هذا المكان الذي ألفه، ولأجلها وحدها.. يتمنى لو أن القدر يساعده.. لكي يراها ولو مرةً واحدة، وبعدها لا شيء!! ويزمّ شفتيه، ويدعك وجهه بيباس أصابعه، يتلمس الجروح التي شقّها في وجهه بعدما علم برحيل والديه، ويهزُّ رأسه، وتتلامع عيناه بطيف من الدمع الحنون، يعود ليفرش بصره على وجوه رفاقه، وقد استسلموا لخدر النوم اللذيذ، يرى نباتات النعناع والحبق الهاجعة قرب الباب التي اشتراها من سجّانه بالكثير من المال؛ تلك النباتات التي رافقته منذ عشرين سنة، والتي كان يستبدلها بغيرها كلما خرّبها سجّانه، من أجل أن يحصلوا منه على المال مرات ومرات؛ لقد عرفوا سرَّ جنونه بالحبق والنعناع، فابتزوه! تلك النباتات التي كان سيفرش بها مدخل الدار وعتبات الشبابيك، يتذكر الآن كم كان يغيظ هنومة عندما يحدثها عن الحبق والنعناع، عن الطراوة والرائحة، والنعومة والجمال، فتحسُّ هي بالغيرة.. وتتمتم:
ــ »سترى.. لا حبق ولا نعناع،
لن يأخذك أحد مني«!!
ويخنقه الدمع، فيهزُّ رأسه كمن يساقط الذكريات التي يودّ لو تلتهمه في هذه الوحدة الرائقة؛ لكن ضجةً معتادة تقتحم باب القاووش، تطوي الذكريات وتبعدها!!


ــ3ــ


الآن، ولأول مرة، ومنذ عشرين سنة، يرى حراس القاووش وهم يدخلون المكان مبتسمين على غير عادتهم، يبدون، في لحظة واحدة، كأنهم خلق جدد تماماً، خلق لا يعرفون النهر والقسوة، أو الضرب والسباب. وجوههم ملأى بالود والحبور، ناعمة ضاحكة، وأيديهم رخية طرية، وعيونهم راعشة بالفرح، كأنهم استردوا ريق الحياة في هذه اللحظة بالضبط!!
ــ »فماذا حدث«؟!
إنهم يهمهمون بكلام متداخل، وبصخب عالٍ:
ـفيضجّ القاووش بكل من فيه، يختلط السجّان بالسجناء، لا تمييز بينهم، ولا فرق؛ وحال من العناق الحميم تجمعهم. نفر من السجَّان يعانقون رفاقه، منهم من يعانقونه هو أيضاً، لعلهم أخطأوا!! ورفاقه يعانقونه بمودة خاصة، لعلهم أخطأوا أيضاً، أجل لقد طيّر الفرح صوابهم، سيعذرهم حتى ولو قبّلوا حيطان القاووش الوسخة، أو حواف الدلاء القذرة، فهم سيخرجون!! سيخرجون إلى أمهاتهم، وزوجاتهم، وأولادهم، وحبيباتهم.. سيرون الدنيا مرة أخرى!! ويعيشونها في تجربة أخرى!! تأخذه الحال أيضاً، فيعانقهم واحداً واحداً، فهو سيفتقدهم كثيراً، فبعد خروجهم لمن سيكنس الأرضية، ولمن سيغسل الأواني، ولمن سيعدّ الطعام؟! لاشك، أن عقله سيطقُّ إن لم يعدموه وقد غدا وحيداً. يواري دمعه الحزين، ويودعهم بأسى شديد؛ يودّ لو أن خروجهم يتأخر ليلة واحدة فقط لأن سجّانه سيأخذونه فجراً للإعدام، سيكون مشهد الاقتياد صعباً، وبشعاً، وحزيناً، وهو في وحدته الشاسعة، سيقول لهم إن خروجهم خدعةٌ، غايتها أن يأخذوه مبلولاً بوحدته وعزلته الفاقعة؛ سيرجوهم أن يبقوا ليلة واحدة؛ بل ساعات فقط.. كي لا يبقى بلا سندٍ، أحسّ أن لحظات سجنه بدأت الآن فعلاً! فهمَّ أن يقول لهم شيئاً، أن يتقرب منهم، لكنهم ينهالون عليه تقبيلاً وضمّاً، وهم يتمتمون:
ـ »وأنت، يا عم عباس، ستخرج أيضاً«!!
ويسمعهم يحمدون الله، ويباركون لأنفسهم، ينتبه للحديث، يأخذه سحر الكلام؛ لأول مرة، ومنذ عشرين سنة، يحسُّ بأن الكلام يعنيه، ترتعش شفتاه، ويتراجف وجهه كلّه، تلفّه الكلمات:
ـ »ستخرج، ستخرج«!!
يعي الكلمات المتكررة؛ يحس بحرارتها، إنهم يقصدونه هو تماماً، تدور به الأرض، تهتز تحت قدميه، تضجّ حيطان القاووش وتتداخل، تدور هي أيضاً، لا.. النوافذ العليا الصغيرة الضيقة هي التي تدور؛ كلّ شيء يدور حوله، حتى أطرافه تدور أيضاً؛ ويبهت الرجل، تتوقف عيناه عن الحركة، يغيب عن الوعي، يخرّ جسده على الأرض هامداً لا حركة فيه، يسنده الرفاق ويتحلقون حوله، يرشون وجهه، وصدره، ويديه بالماء لكي ينهض أو يستفيق، تتداخل أصواتهم وتعرّش فوقه، ويعلو ضجيجهم، وتشحب وجوههم وهم يلهجون بالرجاء ألا يفسد العم عباس فرحتهم، ألا ينهي المشهد بهذا الموت الفجائي، أن يتحرك، أن يقول كلمة تريح أعصابهم، لحظات قاسية مرة تلفّهم بالخوف والذبول، يرعبهم المشهد، وتأخذهم الظنون؛ يتمنون ألا ينهوا تجربتهم في السجن بموت الرجل الذي أحبوه؛ الرجل الذي لن ينسوه أبداً.. يداورونه، ويحاورونه، ويلمّسون عليه بإشفاق شديد، تمتدّ بهم الحيرة وتستطيل، ولكن فجأة، يزايلهم القلق، فيتنفسون بعمق حين يفتح العم عباس عينيه، يراهم متحلقين حوله في جمعة واحدة، والهلع حشو وجوههم ونظراتهم، يبتسم وهو يسألهم باقتضاب:
ـ »سنخرج.. جميعاً«!
فيهزون رؤوسهم بالإيجاب، ويتصارخون مكررين:
ـ »سنخرج جميعاً«!
ساعة أو أقل، وينشغل الجميع بالخروج، يبدون في حالات غريبة متعددة، منهم من يرقص ويغني، ومنهم من يتأمل ساهماً، ومنهم من يثرثر بأي كلام، أو يتلهى بأي شيء..
وعند هبوط الليل، يطلقهم القاووش واحداً واحداً مثل طيور طال عليها وقت الشتاء، يخرجون كالفارين من النار أو الحرب، يركضون لاهثين، كأنهم يطردون بعضهم بعضاً، لا يلوون على شيء، فلا تُلفت انتباههم الحدائق والسيارات، ولا نوافير الماء، وحركة الناس، ولا مخاصرات العشاق في الظلمة الخافتة.. ينفرون إلى بيوتهم مرة واحدة.
كان العم عباس آخر الخارجين، بعدما حاول إقناع مأمور السجن، أن يبقى حارساً، أو مستخدماً، أو أي شيء، فلا أحد له في الخارج، لا أب ولا أم، لا أخ ولا خال.!! فلماذا يخرج، ومن أجل من؟! ويرفض مأمور السجن بقسوة ناهرة، ويحار بأمره، لكن إلحاح العم عباس عليه؛ يدفعه إلى أن يبقيه قليلاً، فيأمره بالجلوس، وينشغل عنه بآخرين. لحظات، وعلى حين غرة، يهبّ العم عباس واقفاً، يقول للمأمور:
ـ »لا، سأخرج«!!
وعندما يسأله المأمور:
ـ »لماذا..«؟!
يقول له بصراحة:
ـ »لكي أرى هنومة«!!
ويمضي في هدأة الليل شبحاً أو يكاد، يجرُّ خطا واهنة عاثرة، لم تألف المشي الطويل منذ زمن بعيد، يمشي فيتعب، يستريح قليلاً ويمشي قليلاً، وطيف هنومة يتقافز أمامه مثل الحلم، يمشي فلا يدري إلى أين تقوده الطرقات، فالمدينة تغيّرت كثيراً، وما عاد يعرف اتجاهاتها. يتمنى لو أنه يستطيع قراءة اللافتات وأسماء الشوارع، لكن نظره يخونه هذه المرة، يطلقه إلى البعيد حيناً وإلى القريب حيناً آخر فلا يعود بشيء سوى الضباب والغبش، وأخيراً، يطوي شهوة المشي، وينام في حديقة أسره عشبها الندي حتى الصباح.
وفي الصباح، رأى الشمس، والضوء، والنباتات، والأشجار، والأبنية، والنساء، والسيارات، فأحسَّ بنشوة الحياة، ومضى في بحثه عن هنومة، أيقن، وقد رأى نفسه على واجهة أحد المحلات، بأنه مخلوق من عالم آخر، لا يشبه الناس في شيء، وأن هنومة لن تعرفه أبداً، لهذا ذهب إلى حمام السوق واستحم فاستعاد بعض نشاطه وحيويته، وهناك أيضاً قصَّ أظفار يديه وقدميه، وشعر رأسه الذي قلَّ كثيراً، وحين اطمأن إلى أنه صار في صورة مقبولة عاود البحث من جديد. تاه وضاع مرات عديدة، وسأل كثيراً إلى أن وصل إلى الحارة، وهناك عرف العبدولي، الرجل العجوز صاحب دكان السعادة الذي عرفه أيضاً، فرمى تحته كرسيه الخشبي، وسقاه شاياً بالنعناع!!
وقبل أن يسأله عن بيتهم، وعن هنومة، وقبل أن يرجوه أن يملأ له كأسه مرة ثانية.. أحاط به ستة رجال، عرفهم فوراً من رائحتهم، فانقاد لأسئلتهم، ونهرهم، وقسوتهم، وأخذوه، على مرأى من أبناء الحارة، والعبدولي؛ العبدولي الذي صرخ بهم:
ـ »لم نره بعد.. لعنة الله عليكم«!!
وهمهم من حوله بعض الناس:
ـ »لعله هارب«!!
وهناك في القاووش عرف أنهم، اكتشفوا الأوراق التي خبأها تحت فراشه، تحت البلاطات الصغيرة، أوراقه التي كتب فيها مشاعره، وأفكاره كلها بوضوح شديد، وبالأسماء الصريحة!! فقد باح بكل شيء، ووصّف كل شيء، ولام أناساً كثيرين، ونعى مصير آخرين.. بعدما ظنّ أنه ميت لا محالة، وقد نسي أن يأخذها معه حين أفرجوا عنه بعدما أعمى قلبه فرح الخروج.. المفاجئ!!

 


بائعة الصبار


ـ 1 ـ


حين تواعدنا للقاء مساءً،
بعيداً عن عيون الناس وسط عتمة مطبقة في الطرف البعيد من المدينة، قرب زاوية بيتهم الطيني اللائذ بشجيرات الكينا العالية، كنتُ قد أعددتُ نفسي، قبل ساعات، لهذا اللقاء.. فوقفت حائراً، قلقاً، ساهماً، أسمع حفيفَ أوراق الأشجار العاصفة، ونباحَ الكلاب اللجوجة، وزعيقَ السيارات المتدافعةِ وسط المدينة، والنداءاتِ العاليةَ والخافتةَ لحارس مكبّ الرمل القريب.
كنتُ أسمع وشوشات ثيابي كلما تحركتُ، وقد استحالت حواسي كلُّها إلى عين واحدة ترقب ذلك البابَ الخشبيَ الكالحَ اللون.. لينشقَ عنها.
رجفةٌ ملعونة تهزني، فأقبضُ عليها، لأبقى على صحوي.


ـ 2 ـ


بدأتُ أهجسُ، وقد تأخرتُ كثيراً، بأنها نسيتني، نسيت الموعد، أو أنها لأمر أنثوي صرف تشاغلت عني لتعذبني، أو أنها استغرقتْ فعلاً بأمها العجوز التي مرمرتها بمرضها الطويل المزمن.
[كانت تقول لي دائماً، ورعشةُ البكاء تخنقها، إنها ـ وفي لحظات عجزها ـ ترجو دودَ جسدِ أمِها أن يساعدها عليها، ليكفَّ عن فتح الثقوب الجديدة في جسدها المتماوتِ الهش. ترجوه أن يأكل من طعامها، ويدعَ أمَّها كي لا تغدو وحيدةَ في مدينةٍ واسعةٍ ملأى بالغصّاتِ والغرباء].
أحسستُ أنني أطلتُ في وقوفي، وأن الريح الباردة تغلغلت في عروقي، فأدعكُ وجهي براحة يدي، وأضبطُ أنفاسي، وأطردُ ارتباكي وقلقي.. فأنا في موعد لا كمين.
[أتلهى بأغنيةٍ ألوفٍ تتحدث عن الصبايا اللواتي يقطفن التوتَ البريَ بالسلال، واللواتي يغتسلن على الغدران خِلسةً، وحارسُ البساتين الذي يستمع إلى قصص عشاقهن، والذي يرى أطرافاً من أجسادهن الطرية البيضاء خِلسةً أيضاً].
وهي لا تأتي!!
طيفٌ من الحنين يأخذني إليها.
أرسمُ وجهها في العتمة المديدة. أدقق في غمازتي خديها، في لون وجهها المشرَّبِ بالخمرة الدافئة. أعيدُ تفاصيلَ مشهدِ رؤيتي لركبتها المستديرةِ الراجفة، وحرجها الشديد مني حين طار طرفُ ثوبها مع الهواء اللعوب في ذلك المساء الصيفي البعيد.
أمسحُ وجهي بأطراف أصابعي كما مسحتْهُ هي بأطراف أصابعها بكل ذلك الحنو البديع. فأتمتمُ لنفسي بصوتٍ خفيض، ربي من أين لها كلُّ هذا البهاء، وهي معذبة محطمة لا تصل إلى لقمتها إلاَّ بسلم!! فجأة، أكفُّ عن التمتمة. يتناثر طيفها كالهواء، ألغي أنفاسي، وأمحو انتظاري.. حين أرى الضوءَ يشقُّ عتمةَ الباب الواطئ ذي الصوت الحزين، الضوءَ الناحل الذي يقودها إليَّ رويداً رويداً!!
يا إلهي،
إنها تدنو نحوي كهودج الريحان، طويلة، تميلُ يميناً وشمالاً كصفصافةٍ ملآنةٍ بالحنين لنهر جفَّ أو كاد. تدنو ببطء شديد كأنها تمشي على حرير أهدابها، وأنا أرجو الله أن يساعدها على أن ترمي أحزانها خلف خطاها. تدنو كمن يبتعد وينأى، فيخفقُ قلبي ويصفقُ للمرأى الجميل، والقدوم الهامس النشوان. تصل إليَّ، فآخذها إلى صدري وأهمهمُ بالسلام. تهبط فوق (قرامي) الحطب وادعة وجافلة كريش النعام. وأهبطُ قبلها متمنياً لو تفترش قلبي أو باطن كفي فتغفو أو تنام. أراها أنثى من كفوف الورد طرواة وندى. صامتة مثل فزاعةِ الحواكير التي أتعبها السهرُ الطويل. أسألها عن أمِها، وعن شحوب وجهها.. فتساقطُ الكلماتِ حزناً على حزن.. وتبكي، فألملم دموعها بخفيفِ أنفاسي، وأرجوها أن تكفَّ عن هذا الارتعاش الطويل المرّ، وأن تصبر، فالدنيا الجميلة آتية.
ترامقني بعينيها الرامشتين النديتين، فأشدّ على يدها، وتشدُّ على يدي.. وتشهق!!


ـ 3 ـ


[كانت وحيدة أمها العجوز. وكنت كبيرَ إخوتي. عرفتُها وعرفتني.. أنا في عملي، وهي قرب الرصيف في عملها وراء سحاحير الخشب الملأى بأكواز الصبارة. تنادي برهيف الصوت على صبارتها مرغِبةً المارة أن يشتروا كلَّ ما لديها لكي تعود إلى أمِها المتعبة قبل حلول الظلام.
مرة واحدة، تأخرتْ حتى انعتم الليل، ولم تبع كلَّ صبارتها، فعادت إلى البيت خائبة لتجد أمها في وضع مرعب موحش، خارج الباب، وقد سحب نصفها الحيُّ نصفها الآخر المشلول. في ذلك المساء أوقدت أحزانها التي لم تنطفئ للآن، بعدما رأت سيلاً من الدود المخيف قد خرج قسراً من جسدها، وما عاد يعرف طريق عودته.
فأعولت وناحت، واستنجدت بالله، والناس والمشافي، لكن دون جدوى. ظلَّ جسدُ أمها نصفين!! واحد يأكل من الآخر، وواحد يحمل الثاني، واحد معافى، وآخر كالرماد!!
واستسلمت للخاتمة التي ستعلن عن انغلاق باب البيت بعنف شديد حين ترحل أمُّها إلى عالمها الآخر، عالم الخوف، والنسيان، واللاأوبة.


ـ 4 ـ


لا أدري، الآن، لماذا كنتُ أحسُّ أن صوتها كان يرقُّ وينحل كثيراً حتى يبحُّ كلما مررتُ بها، أو كلما تحايلتُ على نقودي لتبقى، فأشتري منها. لا أدري لماذا كنتُ أحسُّ بأن صوتها المتهدج يخصني، وأن بحتها المعذبة هي لي وحدي. كنتُ أشاغلها كثيراً، وأنا أعطيها النقود لتبيعني واحداً من أكوازها الناضجة، وأساومها كثيراً لأسمع صوتها،وأحيرها في الاختيار لأرى أصابعَ يديها الطويلة وهي تنتقي الأكواز أو ترتبها، ولكي أصرفَ نظرها العميق النفاذ عن وجهي، لألمحَ طرفَ أذنها القريب مني من تحت منديلها النيلي، أو لأرى ذلك الخيط الفضي الكابي اللون من نقاط عرقها الدقيقةِ اللامعةِ المنحدرةِ من أعلى جيدها الأبيض إلى داخل ثوبها الشفيف الوردي.
ولا أدري الآن كم من المرات مررتُ بها، وكم هي الأحاديث التي تبادلناها على عجل، وكم هي المحاولات التي تقصدتُ فيها ملامستها لأدركَ حقاً أن في صدري قلباً يدقُ لها؟ ما أدريه هو أنني لهفتُ لها فألفتها، وأنها أشعرتني بأنني أعني لها شيئاً آخر غير البيع والشراء، ولولا ذلك لما سمحتْ لي بأن أساعدها مرات عدة، وفي آخر النهارات، على ضبط سحاحيرها الخشبية الصغيرة وترتيبها.


ـ 5 ـ


حين جاءتني على موعدها، شهقتْ قبل أن تقول كلمة واحدة، فضجَّ قلبي بالخفقان، ولفني الأسى، خفت أن تكون أمها قد ودعت الدنيا بصمت وصارت وحيدة. أسألها، فتجيب بالنفي بإيماءة من حاجبيها الرفيعين. ترمي شلال شعرها، ومنديلها النيلي الناعمَ الملتفَ حول رقبتها فوق كتفي.. فأغمرها بلهاثي، وأهمس لها بأنني لن أتركها وحيدةً أبداً وقد صارت دنياي. سأقتسمُ وإياها كلَّ شيء.. الأحزان، والمواجع، والدروبَ، وأفراحنا القابلة. أعدها بأن أكون لها الثوبَ أمام الآخرين، والمحزمَ على الأيام، أن أكون دالية العمر المحلومة. وأرجوها أن تطير أحزانها، فترجوني أن أذهب، فالدنيا برد، وليلُ المدينة غدار، وأنه من الواجب عليَّ أن أجهزّ نفسي للسفر إلى أهلي لأطمئن عليهم، وليطمئنوا عليَّ، وأن لا أشغلَ بالي بها، فهي ماتزال قوية. وتغصّ!!
أنظر إليها بحرقة، وتنظر إليَّ بانكسار وأسى. تأخذ عارضيَّ بين كفيها الطريتين، تنفخُ في وجهي، فتذيبني لطافتها، وتلاحم خدها بخدي للحظات هاربة، ثم تنهضُ حذرةً عائدةً نحو ذلك الباب الذي يشقه خيطُ الضوء الواهي الضعيف، كأنها تخاف من عشرة إخوة غلاظ يقفون لها بالمرصاد. تمضي وهي توصيني أن أسلم على أمي، وأن أحكي لها أخباري وأخبارها في المدينة الواسعة، العطشى للحنان. أبدو، وقد ذهبتْ، كالذاهل تماماً، كالمخدر العاجز عن الحركة، أراقبها وهي تقطعُ تلك المسافة القصيرة ما بين وقوفي وباب بيتها المضاء. أدعوها، في اللحظة الأخيرة تماماً، أن تقف لأقول لها كيف لي أن أذهب بعدما بعثرني ريقها الحلو. أرجوها أن تقف لأقول لها إنها سيجتني بحنوها البري البكر. لكنها لا تلتفتُ أو تستدير. تشقُّ بابَ الضوء وتدخل، فينغلق الباب عليها وعليَّ. ويختفي الضوء، فتنعتم عيناي. أرتعش وقد لفتني البرودة، ووحشةُ الافتقاد، أمتلئ بها، بغيابها المرّ. أنتبه إلى أنني سأفارقها، فتتراقص قدماي، ويضجُّ صدري بما فيه. أشتاق إليها وأحنُّ، فتأخذني جرأةٌ لم أعهدها في نفسي، أمدُّ الخُطا اللحوحة نحو ذلك الباب الخشبي العتيق..
أصل إليه. أُواقفه مواجهة. وأنثر بصري عليه. وألمس بأصابعي مساميره، وإطارَ الحديد. أتقاوى أكثر، فأنقره نقراتٍ خفيفةٍ.. لكن ما من مجيب. أنقره ثانية وبعزم جديد، ومن دون جدوى. أحسُّ بغصّة وجفاف في حلقي. أحسُّ بانهمار برودة المساء في قلبي. أتجرأ أكثر. أدفعُ الباب بلطف شديد، فينفتح. يغمرني الضوءُ المتساقط من عمود الكهرباء. أدهشُ فالمكان ليس بيتاً، إنه حائط طيني في وسطه بابٌ لبستان واسع الأرجاء، كثير الشجر. أبحث عن بيتها هنا وهناك، يتطاير بصري إلى كلِّ الأنحاء.. فلا أجده. لا بيوت هنا ولا ناس. أقعُ في حيرتي. ألوّب طويلاً، وأبحث كالمجنون عن دفئي الذي كان بقربي الآن. أهمهم، وأنادي عليها راجياً أن تبدو لتريح جسدي الذي أنهك تماماً، ونفسي التي التاعت. أرجوها أن لا ترحل وقد أحببتها حباً يكفي شجرة لوز يبسانة لتزهر، لكنها لا تبدو، فأخرُّ على الأرض في جثوة واحدة.
أعودُ، وأتوازع الدروب، أهبط ذلك المنحي، أهبط أهبط أهبط أهبط.. فلا أجدها، أدور هنا وهناك، شجرة تأخذني إلى أخرى، وسياج يقودني إلى سياج.. وما من أمل.
فجأة، أسمع صدى صوتها يقترب مني، يتردد في جنبات البستان، فتبتهج روحي. تنداحُ فيَّ قوة جديدة لا أدري من أين أتت،أنشط في البحث، والمناداة، والدوران. أحسُّ بأن صوتي راح يتداخل وصدى صوتها. إنها تنادي عليَّ مناداة العاجزِ الحزين. أواصل ركضي المجنون في المكان الفسيح. أناديها بكلِّ صوتي، لكنها لا تدنو، ولا تبين. يظلُّ الصوتان يتلاقيان ويتداخلان بترجيع شجي بعيد. أظلُّ على عطشي، أطارد بجسدي ونداءاتي صوتها، وتظلّ هي بعيدة، ويظلُّ البستان واسعاً، ومظلماً، وبارداً على مخلوق وحيد.. صار بلا روح أو يكاد!!

 

أضيفت في 26/03/2005 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب بواسطة: الأديبة لبنى محمود ياسين

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية