الإبداع لا يحتاج إلى تفرغ
أجرى الحوار:
أ. سعد بن عايض العتيبي
الروائي الكبير الدكتور عبد السلام العجيلي في السادسة والثمانين من عمره
المديد بإذن الله. وقد صدر له أكثر من أربعين كتاباً في مختلف فنون الأدب،
في القصة، والرواية، والشعر، والمقاومة والمسرح، والرحلات... عدا مؤلفاته
الطبية في مجال تخصصه.
وقد حظي إنتاجه بالثناء والتقدير، وترجمت معظم أعماله إلى بعض اللغات
الأجنبية مثل: الإنجليزية، والفرنسية، والإيطالية، والأسبانية، والروسية.
وتقديراً لعطائه الثر وتاريخه الطويل، قُلّد موخراً في حفل كبير وسام
الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، وبهذه المناسبة السعيدة كان لنا معه
هذا اللقاء:
*كتبت بأكثر من عشرين اسماً مستعاراً، ترى ما السبب الذي دفعك إلى التخفي
وراء الاسم المستعار، أهو الخوف من التعرض للنقد أم عدم الثقة بالنفس؟
- همي الأول فيما أكتبه هو التعبير عن الأحاسيس والأفكار، ثم عرضها للآخرين
بنشرها في إحدى الدوريات لإشراكهم بما أحس وأفكر. لا يهمني أن أعرف كمعِّبر
عما أعرضه. بل إني أنفر من أن يشار إليَّ بالبنان.
يضاف إلى هذا، أو أن سبب هذا، حياء مفرط كنت أتسم به منذ الصغر وانطوائية
على نفسي ما زالت تلازمني حتى اليوم.
لم يكن في الأمر خوف من الانتقاد، ولا كنت قليل الثقة بنفسي، بل إن الثقة
بالنفس كانت تملؤني منذ الصغر وتجعلني دوماً أقيس قيمة الآخرين بنسبتهم إلى
تقييمي لنفسي.
*هل تختلف طبيعة الأحداث في قصصك القصيرة عن رواياتك؟
- القصة القصيرة عندي، وعند كثيرين غيري، الأحداث فيها محدودة، كما أن
الزمان والمكان فيهما ليسا واسعين. حدث واحد تدور عليه القصة لتصل إلى
نهايته فيها. أما الرواية فأحداثها كثيرة ومتشعبة وإن كان فيها الرئيسي
والمهم ومنها ما هو هامشي أو قليل البروز. هذا عدا التوسع في الزمان
والمكان. من ناحية أخرى أنا أستخدم القصة القصيرة لأعرض فيها أفكاراً وأنسج
أخيلة كثيراً ما تكون غير واقعية. كتبت قصصاً قصيرة من الخيال العلمي، وقصص
"فانتازيا" مبنية على الخيال المحض، وقصصاً تدور على أفكارٍ علمية غير
مألوفة.
أمّا رواياتي فهي تنتمي إلى الجنس الواقعي في أحداثها. قد تكون الأحداث
فيها متخيلة بعضاً أو كلاً، ولكنها أحداث إذا لم تكن قد وقعت فعلاً فإنها
قابلة لأن تقع في الحياة كما أصفها أو قريباً مما أصفها.
*صدرت لك مجموعة شعرية وحيدة بعنوان "الليالي والنجوم" ثم توقفت عن نظم
الشعر. هل سبق أن نظمت شيئاً من الموشحات؟
- لم أتوقف عن نظم الشعر بعد صدور ديواني "الليالي والنجوم" وإنما لم أصدر
ديواناً ثانياً يحتوي على قصائد نظمت بعد صدور ذلك الديوان.
ونشرتُ في الدوريات بعض تلك القصائد التالية، واحتفظت لنفسي بقصائد كثيرة
لم تنشر ولم أقرأها إلا على القلة من أصحابي. وتتهيأ دار رياض الريس للنشر
في بيروت لإصدار أعمالي الكاملة. وقد سلمتُ الدار الجزء الأول من تلك
الأعمال، وهو يضم الديوان الأول وديواناً آخر عنوانه "أهواء" وقصائد كثيرة
متنوعة تؤلف الجزء الأول من الأعمال الكاملة. أما عن الموشحات فلم أتعمد
نظم شيء منها، في الديوان وفي قصائدي غير المنشورة مقطوعات تتألف من فقرات
متماثلة، لا يمكنني اعتبارها موشحات، ولكنها تختلف بعض الشيء عن القصائد
الكلاسيكية المعهودة في طريقة نظمها وتماثل فقراتها.
*كتبت في شبابك الأول مسرحية قصيرة بعنوان "أبو العلاء المعري" هلا حدثتنا
عن هذا الجانب؟
- كان ذلك في عام 1937م في أيام دراستي الثانوية. أعلن سامي الكيالي أديب
حلب وصاحب مجلة الحديث، في مجلته عن مسابقة لكتابة مسرحية عن أبي العلاء
المعري. جائزة الفائز فيها خمس وعشرون ليرة سورية في ذلك الحين، وهي تعادل
اليوم نحواً من عشرين ألف ليرة سورية. كتبت أنا تلك المسرحية ووضعت تحتها
اسماً مستعاراً هو "المقنَّع" وتبين أن الفائز في تلك المسابقة هو
"المقنَّع" فتقدمت باسمي الصريح لنيل الجائزة. وحدث أن سامي الكيالي سأل
صديقه ابن عمي الأستاذ عبد الوهاب العجيلي عمّن يكون عبد السلام العجيلي
الفائز بالمسابقة، فأعلمه صديقه بأني مجرد طالب لم ينل الشهادة الثانوية
بعد! استكثر سامي أن ينال الطالب الصغير ذلك المبلغ الكبير، فكتب في مجلته
أنه سيهدي الطالب النجيب الفائز الأول في المسابقة اشتراك المجلة لمدة سنة
كاملة! لم أحصل على المبلغ ولم يصلني عدد واحد من المجلة التي وعد بأنه
سيهديني إياها.
وهذا ما جعل رأيي من الوجهة المسلكية سيئاً بسامي الكيالي، على صفاته
الجيدة الكثيرة، وانعكس على معاملتي له حين أصبحت في ذات يوم وزيراً
للثقافة وهو رئيس المركز الثقافي في حلب، تابع لوزارتي آنذاك!
بالطبع لم أفاتحه بهذا الأمر في يوم ما، وإنما أقول ذلك مازحاً. وقد اكتشف
الأستاذ وليد إخلاصي هذه المسرحية في أعداد مجلة "الحديث" القديمة فأعاد
نشرها في مجلة "الحياة المسرحية" التي تصدرها وزارة الثقافة السورية، وحين
أعود إليها أجد أنها صالحة كل الصلاح لتمثل اليوم على المسرح ولاسيما حين
يستعان في إخراجها بالأساليب الضوئية والصوتية الحديثة.
*كنت من مؤسسي "عصبة الساخرين" حٍبّذا لو حدثتنا عن نشأتها، وأهدافها، ومن
أبرز أعضائها.
- في أواخر الأربعينيات كنا في دمشق ثلة من الشباب الأدباء والصحفيين وأنا
منهم عضو في المجلس النيابي، أصغر الأعضاء في ذلك المجلس سناً. كانت
السخرية هي منطلق نشاطنا الأدبي المكتوب والشفهي. خطر لأحدنا وهو الصحفي
سعيد الجزائري، أن نؤلف جمعية أدبية محدودة عدد الأعضاء، تتولى نشر إنتاج
أعضائها في الدوريات مع ذكر انتسابنا إليها. اقترحت أن نبعد في التسمية عن
الأدب والثقافة لكثرة ما سميت بها الروابط والمنتديات والجمعيات، واقترحت
أن نسميها "عصبة الساخرين" نظراً لأهمية السخرية فيما نكتبه ونقوله، وهكذا
كان. كنا اثني عشر عضواً، لم نقبل زيادة على هذا العدد رغم كثرة الراغبين
في الانتساب إليها. وسموني أنا رئيساً لوزارة العصبة، وهي تسمية وهمية ليست
لها أي صلاحية أو سلطة. وكان من أبرز الساخرين فيها: سعيد الجزائري، وحسيب
كيالي وأخوه مواهب من إدلب، وعبد الرحمن أبو قوس من حلب، وسعيد القضماني
وممتاز الركابي... وكان من بين الأعضاء من كانت سخريتهم محدودة مثل أحمد
عسة، وأحمد علوش. لم يكن لهم برنامج عمل ولا مقر لاجتماعاتهم. أكثر
الاجتماعات كانت في مجلة "الدنيا" للصحفي عبد الغني العطري، وفي المقاهي
التي يتردد عليها الأدباء مثل مقهى البرازيل. استمررنا بالكتابة مضيفين إلى
أسمائنا في "عصبة الساخرين" سنوات قليلة ولكنها كانت حافلة بالنتاج الساخر
ومثيرة للجدل، ثم ما لبثنا أن تبددنا تحت تبدل الظروف والأحوال، فتوقفت
"عصبة الساخرين" عن النشاط.
*ما سر إعجابك بأبي الطيب المتنبي؟ وهل ما زال أثيراً عندك؟
- لست وحدي المعجب بالمتنبي فالمعجبون به على طول الأزمنة والعصور كثيرون.
وقد أُلِّفت في سر هذا الإعجاب كتب كثيرة، وكُتبت مقالات كثيرة لا يمكنني
أن أزيد عليها شيئاً أو أردد ذكرها. بدأت في صباي قراءة الشعراء الجاهليين
من المعلقات وما بعدها، ولم أهتد إلى المتنبي إلا متأخراً، بعد أن جاوزت
العشرين من العمر، فوجدته يتفوق على كل من كنت أعجب بهم قبله. قدرته على
الاهتداء إلى الفكرة أو إلى الإحساس كبيرة، وقدرته على تكثيف هذا أو ذاك في
كلمات قليلة كبيرة أيضاً. عدا عن حسن تعبيره وجمال نظمه. على أن هذا
الإعجاب بالمتنبي ليس مطلقاً عندي، فأنا أعرف عيوبه، سواء عيوبه المسلكيه
في تذلله لمن لا يستحق التذلل وتنازله عن كبريائه في سبيل مكاسبه المادية،
أو عيوبه الفنية في غموض بعض معانيه وتعقيد نظمه أحياناً وخشونة مفرداته.
إلاّ أنه سيبقى المقدم على غيره من الشعراء، يحسن الكلام حتى في مبالغته في
المديح أو في مبالغته في الهجاء أو في مبالغاته الكثيرة الأخرى.
*الأحداث الدامية التي يمر بها العراق حالياً، ألم توح إليك بكتابة رواية
جديدة مثلما فعلت في حرب تشرين عندما كتبت رواية "أزاهير تشرين المدماة"؟
- أنا أنفر من الكلام على كوارثنا بأقوال لا تتعدى البكاء والندب والنحيب.
ليس لدي إمكانيات لدفع الشر عن العراق وفلسطين دفعاً عملياً. فالكلام عن
هذا الشر كلام موجه إلينا وحدنا، لا يرضيني. أما "أزاهير تشرين المدماة"
فقد كنت كتبتها بتكليف وإلحاح لتكون رواية لفيلم عن حرب تشرين، لم أشارك في
تلك الحرب، ولكني زرت الجبهات التي دار فيها القتال وقابلت المحاربين
واستمعت إلى حكاياتهم عن أفعالهم فتأثرت وكتبت الرواية التي لم يقدر لها أن
تتحول إلى فيلم سينمائي لظروف معينة. لو كان بيدي أن أشارك مشاركة فعلية
المعذبين والمضطهدين والمناضلين في العراق، ولو بأبسط الطرق، لكان ذلك أجدى
فيما أعتقد من ألف صحيفة تكتب عن هؤلاء المعذبين والمضطهدين والمناضلين.
*ربطتك صداقة بالشاعر الكبير بدوي الجبل... ما تقييمك لشعره؟ وهل صحيح ما
يقال إنه نسخ بعض أبيات شوقي نسخاً يكاد يكون كاملاً؟
- بدوي الجبل شاعر كبير حقاً، ملهم ومتمكن، وواثق من نفسه ومعتدّ بها ولا
يقبل أن يقلد أحداً من الشعراء الآخرين مهما بلغ إعجابه بذلك الشاعر الآخر،
ولكن بعض النقاد ولا سيما المغرضون منهم، يجدون في ورود كلمات أو تعابير في
شعر البدوي مماثلة لتعابير أو كلمات واردة في شعر شوقي دليلاً على تقليد
ذاك لهذا، يكفي أن تكون قافية لشوقي كلمة "ترمق" وقافيه للبدوي بالكلمة
نفسها، ليعد أحد النقاد أن هذا تقليد أو نسخ من البدوي لشعر شوقي، كأن هذه
الكلمة ملك لشوقي لا يجوز لغيره أن يستعملها. هذا جور كبير على البدوي هو
منزه عنه ولا يضر عبقريته بشيء.
*هل تعتقد أن التفرغ أو الاحتراف للأديب أو للشاعر يحقق الإبداع أو
الابتكار؟
- الأمر متعلق بالموهبة، فالموهوب يبدع سواء كان منشغلاً باهتمامات غير
أدبه أو متفرغاً. ربما أعطى التفرغ مزيداً من الوقت لإنجاز الأديب ما يريد
إنجازه، لكنه ليس العامل الأول في الإبداع أو الابتكار.
*صدرت مؤخراً الطبعة الثانية من كتابك "المقامات" عن وزارة الثقافة
السورية، لماذا لم تعرض الطبعة الأولى للبيع مع أنها كانت طبعة فاخرة؟
- "المقامات" التي نشرت طبعتها الثانية بعد أكثر من أربعين سنة من صدور
طبعتها الأولى هي في عُرْفي أدب "إخوانيات" تدور مواضيعها على مداعبات بيني
وبين أصدقائي صغتها على شكل المقامات. نشرتها في طبعتها الأولى وأهديتها
لأصدقائي ومعارفي لأني لم أكن أجد أن من لا يعرفونني ويعرفون أصدقائي يجدون
فيها ما يهمهم أو يعجبهم. وكنت حريصاً على أن يكون أمرها محصوراً بيني وبين
هؤلاء الأصدقاء والمعارف، ولكن مسؤولين في وزارة الثقافة قدروا أن لها
أهميتها فأصدروها في طبعتها الثانية دون أن أسعى أنا إلى ذلك الإصدار، بل
أقول إني تمنعت عليهم في أول الأمر.
*بحكم صداقتك للفيلسوف الراحل الدكتور عبدالرحمن بدوي، هل صحيح أنه عاد إلى
الإسلام في آخر حياته وتبرأ من الوجودية؟ وهل اطلعت على كتابيه "في الدفاع
عن القرآن ضد منتقديه" و "دفاع عن محمد -صلى الله عليه وسلم- ضد المنتقصين
من قدره"؟
- صداقتي للدكتور البدوي -رحمه الله- صداقة شخصية لا تعتمد على القضايا
الأدبية أو الفكرية. قرأت له بعض كتبه قبل أن أتعرف على شخصه. وآخر ما قرأت
له مذكراته في جزأين ضخمين بعد وفاته. أما الكتابان اللذان ذكرتهما فلم
أقرأهما، وقرأت في الصحف عن دفاعه عن الإسلام والقرآن في آخر حياته، ولم
يكن في أحاديثنا الشخصية مبتعداً عن الإسلام أو معلناً انتقاداً له. فلا
أظن من الصواب القول إنه كان ملحداً ثم عاد إلى الإيمان، إلا أن قراءاته
الكثيرة للمستشرقين وبعضهم معادٍ للإسلام دفعته إلى الدفاع في آخر حياته عن
القيم الإسلامية
|