مقدمة عن الأدب العربي المهجري المعاصر
والمختارات الأدبية "أنثولوجيا"
بقلم الكاتب:
لطفي حداد
الأنثولوجيا هي عمل موسوعي يهدف إلى توثيق الأعمال الأدبية (الشعر
والنثر) للأدباء الذين يكتبون بالعربية ويعيشون خارج الوطن العربي أي أوروبا ،
استراليا ، نيوزلنده ، روسيا ، اليابان ، والأميركيتين...
الغاية من العمل هي إيصال الأصوات المهجرية إلى القراء العرب داخل
الوطن العربي وخارجه، وجعل الأدب المهجري المعاصر جزءًا حيًّا وفعالاً في الأدب
العربي الشامل. أيضًا لتكون الأنثولوجيا مرجعًا للدارسين والمهتمين في الوقت
الحاضر والمستقبل.
إن الكتاب المشترك الذي صدر عن الرابطة القلمية في أميركا عام1921
قد أوحى لي بالفكرة، وهو أنثولوجيا صغيرة ضمت تسعة كتّاب (جبران خليل جبران،
ميخائيل نعيمة، إيليا أبي ماضي، نسيب عريضة، رشيد أيوب، وليم كاتسفليس، عبد
المسيح حداد، ندره حداد، وديع باحوط) ، وما يزال يصدر في لبنان عن دار صادر.
فالرجاء الكبير من وراء هذا العمل أن تحتفظ ذاكرة الأدب العربي بالأنثولوجيا
المعاصرة التي هي أوسع وأشمل وتضم أدبًا جميلاً يستحق الخلود!
إن الأدباء العرب في الشتات أو المهجر أو المنفى موزعون ومنتشرون في
كل قارة وبلد، ورغم محاولتي التوصل للجميع، إلا أن بعض الأدباء سيبقون بعيدًا
عن إمكانية وصولي إليهم (إما لصعوبة الحصول على عنوان بريدي أو الكتروني أو رقم
هاتف، أو لتغير هذه المعلومات)، لذلك أضع هذه الدعوة هنا لمن لم يتسنَّ لي
الاتصال بهم، مع اعتذاري مسبقًا، وشكري لهم إن تفضلوا وراسلوني.
هذه الأنثولوجيا لا تشمل:
* الذين يكتبون بالفرنسية أو الإنكليزية أو أية لغة أجنبية بشكل
أساسي.
* الذين يعيشون بين الشرق والغرب متنقلين، ولم يتخذوا البلد الأجنبي
في المهجر كمركز أساسي لحياتهم اليومية.
* الذين عاشوا لفترة في الغرب ثم عادوا إلى الوطن العربي.
* الذين يعيشون في بلد عربي غير بلدهم الأصلي كحال العشرات من
الفلسطينيين والعراقيين مثلاً.
* الذين عاشوا لسنين طويلة في الخارج ثم توفوا، أي أنها للأدباء
المعاصرين الأحياء.
كما أن هذه الأنثولوجيا ليست كتابًا في النقد الأدبي وتوثيقًا
تسلسليًا لأهم الكتاب العرب في الخارج... بل إن هذا العمل الموسوعي يدعو النقاد
العرب ، سواء في الداخل أو الخارج ، لدراسة الأدب المهجري وتقديمه للقارئ
العربي أينما وجد، كما يدعو القراء العرب لإعطاء آرائهم العميقة والصادقة
وممارسة دورهم النقدي.
ليس هناك أي هدف سياسي أو ثقافي أو شخصي وراء اشتمال هذا الكتاب
للأدباء المشاركين فيه بل الموضوعية والشمولية كانتا دافعيّ الرئيسين وهناك
لائحة أسماء أدباء كثيرين قد أعددتها للجزء الثالث وقد أعددت المختارات الأدبية
لبعض منهم وفضلت أن لا أضعها في الجزئين الأولين للمحافظة على فكرة الفسيفساء
الأدبية وتجنب طغيان أيديولوجية معينة على أخرى وكذلك بسبب العدد الكبير
للأدباء الشباب في الخارج (هناك مئات الشعراء والأدباء الشباب في أوربا وأميركا
خصوصًا من العراقيين المهاجرين حديثًا!).
تضم هذه اللائحة على سبيل المثال لا الحصر (لم أستطع الوصول إلى
بعضهم):
كريم عبد، كريم الأسدي، برهان الخطيب، مصطفى فهمي، إيمان مرسال،
سعيد فرحان، فؤاد ميرزا، محمد النصار، محمد المزديوي، عباس خضر، مفيد البلداوي،
عباس الحسيني، كامل جابر، حنان عناد، أحمد حسين، جمال مصطفى، أحمد عبد الحسين،
شهد فاتح، زاهر الجيزاني، حميد المحنة، فرج الحطاب، أسعد الجبوري، جاكلين سلام،
أكرم قطريب، سليمان جوني، إبراهيم عبد الملك، محيي الدين اللاذقاني، محمد
عضيمة، يوسف شرورو، صلاح فائق، شاكر نوري، حبيب جاويش، نجمة حبيب.
* * *
في البداية وجهت دعوة إلى بعض الأدباء الذين حصلت على عناوينهم
الالكترونية، وانفتحت شيئًا فشيئًا آفاق كثيرة أمامي حتى وصلت إلى كل هؤلاء
الأدباء والأديبات. وقد عُقدت صداقات جميلة بيننا نتيجة العمل المشترك
والمراسلات الالكترونية والاتصالات الهاتفية، وإنني فخور بها وهي تملأ حياتي
الأدبية بدفع يومي وزخم دائم.
* * *
المهجر الجديد:
إذا كان المهجر والأدب المهجري في بدايات القرن العشرين أميركيًّا ،
ولبناني الطابع بشكل أساسي، فإن المهجر الجديد هو أوروبي وعراقيّ الصبغة.
هناك اختلافات جذرية بين المهجر القديم والجديد.. فالهجرة في السابق
كانت غربة وعزلة شديدتين حيث طرق المواصلات بطيئة وغالية ، وأغلب المهاجرين لا
يعرفون لغات المجتمعات الجديدة ولا شيء عن تلك الحضارات.. أما اليوم فالمهاجرون
الذين يعيشون في أوروبا أو أميركا يستطيعون قراءة الجرائد العربية اليومية عبر
الانترنت أو الصحف الورقية التي تصل إلى أماكن متعددة من العالم. كذلك يستطيعون
التنقل بحرية وبساطة بين الوطن الأم والمهجر (إذا لم يكن هناك مانع سياسي) وهم
بسبب الانفتاح العالمي و «العولمة» يعرفون مسبقًا الكثير من أنماط العيش في تلك
المهاجر قبل أن يصلوها... فالمهجر الجديد أسهل بكثير من المهجر القديم من هذه
النواحي ، رغم أنَ العزلة قد تكون شديدة بسبب الحنين اليومي والجرح النازف كل
لحظة نتيجة معايشة أخبار الوطن عن بعد.
* * *
يبدأ الحنين منذ اللحظة الأولى ، ويتحول مع الزمن إلى صراع نفسي بين
الذاكرة والواقع، ثم يحصل نوع من الراحة والتأقلم عندما يفهم الكاتب أن البيئة
الجديدة تقدم له ساحة لقاء تستقبل فكره الثوري الذي رفضته بلاده، فتعوّض حضارةُ
الرقي الإنساني والانفتاح الثقافي قليلاً عن فكرة الوطن ليصير الوطن الحقيقي ـ
عند بعض الذين نجحوا في الخارج ـ أبعد من الحدود الجغرافية للوطن العربي، بل
ممتدًا على الأرض كلها.
لكن الكثيرين يفكرون بالمنفى ويشعرون أنهم أدباء منفى. فلماذا هذا
الاسم ؟
أولاً: لأنه إما أن تمتزج بالمجتمع الجديد وتصير واحدًا معه، أو أن
تعيش وجع المنفى واغتراب الروح والأرق المكرَّس للأبد، وهذا الوجع والاغتراب
والأرق هو ما يعيشه أغلب الأدباء المنفيين.
ثانيًا: لأن الوطن ليس مكان الذكريات الماضية، ولا حلم المستقبل
الذي يأتي ولا يأتي. لكنه لحظة عشق نختارها حتى الموت، ونرحل نحوها كغرباء
ومنفيين.. يكوينا الشوق، وتنهبنا لهفة اللقاء. وهذه اللحظة العشقيّة قد اختارها
أغلب الأدباء المنفيين.
ثالثًا: لأنهم يعيشون في الشتات أحلام الحرف والوطن والهوية، ويسعون
للحرية وقلوبهم مأسورة هناك بين المحيطين!!
رابعاً وليس أخيرًا: لأنهم يعشقون، وعشقهم أوسع من عيونهم التي
تربّي رويدًا رويدًا طيور العودة إلى الوطن.
وهكذا فهناك أدب مهجريّ وأدب منفيّ وأدب مغترب (وهو أدب مسافر في
مجاهل الإنسانية والكون وفي داخل النفس البشرية نحو حقيقة ما، يبحث عنها الأديب
خارج حدود أرضه ومحيطه وكيانه).
* * *
المراهنة على أدب المنفى:
كيف يمكن للأدب والفنون ـ أي الشعر والرواية والمسرح والموسيقى
والرسم _ أن تنمو وتنضج في ظل الأنظمة العربية الحالية، التي لا تؤمن بالحوار
والاختلاف!!
الثقافة تتطلب الحوار، والحوار ينمو في تربة الاختلاف، لذلك أرى أن
المهاجر الأوربية والأمريكية هي خير بيئة لنمو الثقافة العربية المعاصرة وحصول
حوار حقيقي، بسبب تعدد الثقافات وتنوعها واختلاف الآداب المجاورة للأدب العربي،
بشكل يسمح بلقاء الآخر دون تسلّط واستبداد.
فالأدب العربي المنفي هو رسالة نبوية من أجل أدب عربي ناضج ومتدفق.
* * *
الشرق الأوسط تفهمه في المهجر:
كذلك يحمل أدب المنفى رسالة نبوية لأنه يسعى إلى فهم الواقع العربي
والتعبير عنه بلا خوف أو تردد، فالأدب في الداخل ما يزال مهددًا بالرقابة
والسلطات الدينية والسياسية، كما أن فهم الوضع العربي يكون أكثر وضوحًا من
الخارج.
إنّ الأدب المهجري الحالي ـ إذا وعى دوره ومسؤوليته ـ هو الذي يملك
الإمكانيات والرؤيا لعمل ثورة في الأدب العربي كله.. لأنه يرى أفضل، ويفهم
ويستوعب ويهضم، ويفسر عن بعد، دون أن يضيع في التفاصيل المضللة.
* * *
الأديب المنفي:
الكاتب لا يعيش في وطن، إنه يرتحل نحو وطن،
إنه يؤمن بأن السماء هي الآخرون، ويعيش الكلمة كوطن.. إنه يفهم
الانتماء كحاجة طفولية ويتخطاه، لكنه يبقى يحب أن يعود إلى حارته يومًا ويسهر
على عتبات بيته.
إنه يظن أن نبوة اللحظة الحاضرة هي الانفتاح على الثقافات المتعددة
وقلوب الآخرين،
إنه يحلم بالحرية ليل نهار، ويسافر إلى أرض ميعاده في العيون
الصادقة..
إنه الإنسان بضياعه وفرحه وصدقه ومغامرته وجبروته وهزيمته ولوعته
وحضارته!!
هذه بعض هواجس الأديب المنفي!!
* * *
اللغة هي الوطن:
حين يكون كل شيء وكل شخص حولك غريباً، أو بالأحرى تكون أنت الغريب
وسط كل شيء وكل حياة، تصير الكلمات رحمًا أخرى تدخلها لتطمئن قليلاً وتستدفئ
لبعض الوقت!
بالنسبة للمنفي الشعر حياة ، والقصة تجسّدٌ للجوع الروحي، والرواية
سفر في الماضي والوطن..
الأدب المنفي ظاهرة عالمية يضم أدب المنفى العربي داخل جناحيه كأحد
جراح، لأن الأدب الحقيقي هو الخارج عن الحدود، الناظر من بعيد لجمال القرية
والشاطئ والمقهى، الباحث عن الحقيقة في كل اللغات والعيون والأمكنة، المتحرر من
الجغرافيا.
إنه أدب المنفى بلا وطن لأن اللغة وطنه.. اللغة رحم!! اللغة ولادة!
* * *
التكفير وحرية التعبير:
ظاهرة التكفير واحدة من الأشياء المضحكة المبكية في وطننا.. ويبدو
أنها تنتصر في معظم الأحوال على حرية التعبير.. فالكثير من الكتب الأدبية تمنع
من الدخول إلى بلد عربي أو أكثر. وبالنسبة لأدب المهجر فإنني أتوقع أن معظم
الكتب التي ألّفها أدباء عراقيون مثلاً لم تدخل كثيراً من البلاد العربية.. لكن
الأدباء دائمًا يجدون الحيل لإيصال كلماتهم إلى الناس. فمن تلك الحيل إرسال
كتاب واحد تُنسخ منه مئات أو آلاف النسخ، وتوزع أو تباع بأسعار زهيدة جدًا..
طبعًا كانت هذه الظاهرة واضحة جدًا في العراق قبل الحرب لأن كل أدب من الخارج
محرّم..
يعاني أدباء الداخل من تحديد حرية التعبير أكثر بكثير من أدباء
الخارج الذين يستطيعون طباعة كتبهم في لبنان (حيث الرقابة أقل من بقية الدول
العربية) أو في إنكلترا وألمانيا (هناك العديد من الدور العربية للنشر). لكن
الثالوث المحرّم (الجنس والدين والسياسة) ما يزال يضغط على الأقلام ويحدّد ما
يجب أن يكتب وما يقع داخل دائرة التكفير. وتبقى مشاكل العرب الأساسية (جنون
النفط، الأصولية السياسية، أو الديكتاتورية السلطوية) بعيدة عن التناول، وإن
كُتبت عنها مادة أدبية، لا تصل إلى الجمهور المتعطش لحرية التعبير.
الأدب العربي القديم
إن المنفى الأدبي ليس جديدًا تمامًا في الأدب العربي فقد شعر الكثير
من الأدباء العرب عبر التاريخ بمعنى الاغتراب والبعد عن الوطن. واشتاقوا إلى
الأمكنة التي تركوا ، والمنازل التي هجروا.. وهكذا صارت المقدمة الطللية (من
الوقوف على الأطلال) نهجًا تقليديًا استهلت بها المعلقات، وكثير من القصائد
العصماء المشهورة. فها هو امرؤ القيس يبتدئ معلقته قائلاً:
قفا نبكِ من ذكرى حبيب ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
وقوفًا بها صحبي عليّ مطيّهــم
يقولـون لا تهلك أسى وتجمّلِ
وإن شفائي عبرة مهــراقة
فهل عند رسم دارس من معوّلِ
ومن قصائد الحنين والغربة غير المعلقات نجد بعض الأبيات المشهورة
للمتنبي، خاصة في بلاد فارس حيث يقول:
مغاني الشعب طيبًا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمانِ
ولكنّ الفتى العربيّ فيها
غريبُ الوجهِ واليد واللسانِ
كذلك عبّر أبو تمام عن حنينه إلى أرضه وبيته وحبه الأول إذ يقول:
نقل فؤادك حين شئت من الهوى ما الحب
إلا للحبيب الأوّلِ
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدًا لأوّلِ منزلِ
وحين يبتعد الشاعر عن أهله وأحبائه ووطنه لأنه في سجن أو أسر، فإن
القصائد تخرج ملتهبة دامعة شديدة اللوعة. فها هو أبو فراس الحمداني يسمع هديل
حمامة على شجرة عالية قرب سجنه في بلاد الروم فيتذكر الأهل والوطن ويقول:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا، لو تشعرين بحالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا تعالي أقاسمك الهموم
تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقة ويسكُت محزون ويندب سالِ
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة ولكن دمعي في الحوادث غالِ
وفي الأندلس، المهجر العربي القديم، نسمع الأمير عبد الرحمن الداخل
من القرن الثامن يقول بعد أن نظر إلى نخلة فهاج شجنه وتذكر وطنه:
تبدّت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بيتي وعن أهلي
ولما عاد ابن عبد السلام الخشني إلى الأندلس ـ بعد غياب خمس وعشرين
سنة (كما يحدث لكثير من الأدباء المهجرين المعاصرين) ـ شعر كأنه لم يرحل ولم
يغب قط عنها لأنها بقيت في قلبه وضميره ليل نهار. يقول:
كأن لم يكن بينٌ ولم تكن فرقة إذا كان من بعد
الفراق تلاقِ
كأن لم تؤرق بالعراقين مقلتي ولم تمر كفُّ الشوق
ماء مآقي
وأختتم هذا المقطع بنونية ابن زيدون الذي اكتوى بنار الهجر والسجن
والبعاد عن الوطن:
أضحى التنائي بديلاً عن تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنّا فما ابتلّت جوانحنا
شوقًا إليكم ولا جفّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
الأدب المهجري
في أوائل القرن العشرين
لم تكن الهجرة الأدبية والفكرية إلى أميركا مقتصرة على اللبنانيين،
فهناك جماعات سورية وفلسطينية أيضًا ومهاجر أخرى مثل كندا ودول أميركا
اللاتينية كالبرازيل والأرجنتين وفنزويلا.
هناك تشابه واضح وجميل بين الأدب المهجري في العصر الحديث والأدب
الأندلسي في القرن السابع الميلادي. لكن اختلافًا واضحًا أيضًا بين الأدبين
يكمن في أسباب الهجرة. ففي الأول كان السبب العامل السياسي المتمثل في اضطهاد
الحريات أيام الحكم العثماني بالإضافة إلى الصعوبات الاقتصادية وضيق المعيشة.
أما الأدب الأندلسي فقد نشأ من هجرة القبائل والجيوش العربية إلى بلاد إسبانيا
بعد الفتح الإسلامي حيث لم يكن هناك اضطهاد سياسي ولا ضيق اقتصادي.
لقد بلغ عدد المهاجرين بين عامي1889ـ 1919 نحو ستين ألفًا، وكان أول
مهاجر عربي هو أنطون البشعلاني اللبناني الذي هاجر عام 1854 إلى أميركا
الشمالية ومات بعد سنتين من هجرته. أما أول أديب هاجر إلى الأرض الجديدة فكان
ميخائيل رستم والد الشاعر أسعد رستم. وبلغت موجات الهجرة قمتها عام 1913.
* * *
الجماعات الأدبية العربية في المهجر بداية القرن العشرين:
* الرابطة القلمية: أنشئت هذه الرابطة في نيويورك في 3 نيسان عام
1920 بدعوة من الأديب عبد المسيح حداد (1890ـ1963) صاحب جريدة «السائح» ومؤلف
كتاب «حكايات المهجر». وقد أصبحت جريدة السائح لسانها الناطق، فصدرت أعداد
ممتازة منها تصور الحياة الأدبية في المهجر. كذلك يعتبر كتاب الغربال لمخائيل
نعيمة الصادر عام 1923 ممثلاً لأفكار الرابطة وروحها التجديدية.
* العصبة الأندلسية: قامت في المهجر الأمريكي الجنوبي عام 1922، في
البرازيل بمدينة سان باولو، وكان مؤسسها الشاعر القروي. وقد اتسمت هذه الحركة
الأدبية بالهدوء والاتزان والتقليدية فلم تُنتقد كشقيقتها الرابطة القلمية
المجدّدة والثورية.
أنشأت العصبة الأندلسية مجلة أدبية حملت اسمها وضمت الكثير من
الشعراء والكتاب.
* رابطة منيرفا: أسسها الشاعر المصري المهجري د. أحمد زكي أبو شادي
عام 1948 في نيويورك، وكان رئيسها، وانتهت بوفاته، وليس لها أثر كبير في الشعر
المهجري.
* الرابطة الأدبية: أنشئت في الأرجنتين عام 1949على يد الشاعر
جورج صيدح، واختفت بعد عامين إثر عودة صيدح إلى الوطن.
* * *
هواجس المهجريين:
في قصيدة المواكب لجبران نرى سعي الإنسان إلى السعادة والخلود في
عوالم أخرى غير التي يقترحها الشاعر، وهي الغابة، حيث الانعتاق من المحدود
ومعانقة المطلق في فرح الراعي على أنغام الناي التي تجسد وتجمع في ذاتها الكون
كله.
وهكذا نجد أيضًا عند إيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة هذا النوع من
السعي إلى الخلود عن طريق الفلسفة الروحانية المعتمدة على البساطة والعيش في
الطبيعة والاتحاد بنغمات الكون الأزلية..
لكن الجواب ليس واضحًا دائمًا فأبو ماضي يعيش اللا أدريّة في لحظات
طويلة من حياته، كما أن نعيمة وعريضة يبحثان عن الإنسان ومعنى وحدته وضياع
طريقه.
وتبقى الروح الصوفية والنزعة الإنسانية والطبيعة الشفافة لكل أعمال
هؤلاء المهجرين واضحة ومشعة وموحية عبر الزمن. إنهم في بحثهم عن معنى الوجود
خارج رحم الوطن، وتلمسهم قرارة العدم
واللا معنى، يصلون رويدًا رويدًا إلى حقيقة الصداقة والحب، حيث لا
يعود الحنين هربًا إلى الماضي بل غذاءً روحيًا مخصبًا ودافعًا لطيفًا نحو الوطن
الأكبر، قلب الإنسانية.
إن الأدب المهجري شكل مدرسة متكاملة رومانطيقية، أساتذتها هؤلاء
الشعراء المتمردون المفتشون عن الحرية والمعنى، المغتربون في عالم آخر خارجي
وعوالم كثيرة داخلية ، حيث السفر إلى العمق يتطلب جهدًا أكبر من العودة إلى
الوطن الجغرافي، وحيث اكتشاف الذّات قد انطبع لديهم بنزعة صوفية وفلسفية متأثرة
بالتيارات الفكرية المعاصرة لهم.
* * *
يقول توفيق الحكيم، الروائي المصري المعروف:
«أدبنا الحديث» أدب مراحل بل أدب موجات متداخلة، فالموجة الأولى
سورية. قد اندفعت من سوريا ولبنان وهي موجة يمكن أن ندعوها بالكلاسيكية
الجديدة، بعثت الحياة في الأدب عن طريق تلقيحها الأسلوب القديم ببعض الفكر
الغربي، وهي موجة أنتجت الشدياق واليازجي وفرح أنطون. وأخرجت في مصر بعض شعراء
الجيل الأسبق وكتابه. ولعل الرمز الأكمل هو تعريب البستاني للإلياذة.
والموجة الثانية أميركية وهي التي انطلقت من المهجر. ففي المهجر،
للمرة الأولى في أدبنا الحديث، ولدت المدرسة الرومانتكية العربية وانبجس الشعر
الغنائي والنثر الصوفي، حاملاً نسيم لبنان إلى الحضارة الأميركية ممثلاً في
الريحاني وجبران ونعيمة وأبي ماضي.
وأضيف هنا إلى مقولة الحكيم:
«والموجة الثالثة عراقية خصوصًا في مجال الشعر وابتدأت في الستينات
وحملت راية التجديد عبر العقود الماضية متمركزة بشكل خاص خارج العراق وأغلبها
في المنافي الأوربية.»
خصائص الأدب المهجري
يغلب الطابع الإنساني (كالحنين ومحبة الوطن)، والقيم الفاضلة
(كالحرية والانفتاح على الآخر)، على الأدب المهجري منذ نشأته في بداية القرن
العشرين وحتى اليوم، رغم تغير التوزع الجغرافي للأدب وبروز الوجه العراقي بشكل
واضح .
فإذا كان الأدب المهجري في السابق في القارة الأميركية بشكل غالب
وبألسنة لبنانية وسورية ، فإنه حاليًا يتمركز في أوربا وبأغلبية عراقية.
هذا الأدب المهجري الحالي هو أدب منفتح على الثقافات الأخرى وناضج
ومتحرر ومتفاعل مع الحضارات المجاورة.
ورغم غلبة السريالية في الشعر إلا أن هناك الكثير من التأثر
بالرومانسية الفرنسية، والكلاسيكية العربية. أغلب الشعراء المهجريين الحاليين
يكتبون نوعًا من القصيدة النثرية، وبعضهم يكتب قصائد موزونة " قصيدة التفعيلة"
، ونادرون من حافظوا على القصيدة العمودية.
أما الروائيون فما يزالون يكتبون عن الوطن والحنين، وعن المنفى
والعزلة، وعن الحرب والموت والفشل، وقد تطور هذا الشكل الأدبي كثيرًا عن بدايات
القرن العشرين وصار يزاحم بقوة الأشكال الأخرى خاصة الشعر. فالرواية العربية
المهجرية شكل أدبي جديد ظهرت في النصف الثاني من القرن العشرين بشكل أساسي. أما
قبل ذلك فكان هناك محاولات بسيطة ومتواضعة مثل رواية «من المهد إلى اللحد»
لأنطون شكور الذي كان يقيم في البرازيل. ورواية نظير زيتون «ذنوب الآباء».
ورواية «في سبيل الحرية» لإلياس قنصل. وبعض المسرحيات مثل مسرحية «الآباء
والبنون» لميخائيل نعيمة ومسرحية «ابن حامد» لفوزي المعلوف.
* * *
من خصائص الأدب المهجري الحالي موضوع الحرية والتحرر، بصياغات
مختلفة متنوعة، وروح تقدمية منفتحة مصغية وإنسانية.
إن هذه القيم العميقة كالبحث عن الوطن والمعنى والحقيقة ، والشوق
إلى الديمقراطية والعدالة والأخوة والمساواة ، بروح وطنية صادقة واحترام لحقوق
الإنسان الأساسية، أقول إن هذه القيم سيكون لها طابعها الخاص وتأثيرها الإيجابي
على الأدب العربي عبر العقود القادمة. وإن الألم الذي يعانيه الأدب المنفيّ
سيكرّس هذه القيم للأبد في قلب تاريخ الأدب العربيّ.
الأدب المهجري أدب مهموس (كما يسميه الناقد الدكتور محمد مندور)
لأنه عميق وواقعي ومرتبط بالحياة وليس فيه الخطابية والسطحية الثقافية.
ويقول جورج صيدح (أحد الأدباء المهجريين): لقد طبعت شمس الغرب
ألوانها على أوراق الأدب المهجري.. أما لبّه فيحيا على إشعاع الشرق، وقلبه
يختلج بنسمات الصحراء... ويجعل الموهبة الفطرية لا الثقافة هي مفتاح السرّ في
تفوّق أدب المهجر، مع الجد والاجتهاد والتأمل العميق.
تنطبق هاتان المقولتان على الأدب المهجري الحالي بشكل واضح وصادق
وتنطبقان على أدب المنفى العالمي بشكل عام ، لأن هذه الظاهرة الجديدة، أعني
ظاهرة المنفى، لم تقتصر على العرب في العقود القليلة الماضية بل شملت شعوبًا
كثيرة وبالتالي أدباء كثيرين.
* * *
الحياة المهجرية:
يعيش الكثير من الأدباء العرب في المهجر أو المنفى حياة صعبة
ويضطرون للعمل في المطاعم والمحلات التجارية ومحطات البنزين لكسب المعيشة
وتوفير ضروريات الحياة، وهذا مشابه إلى حد بعيد بوضع الأدباء المهجرين في أوائل
القرن العشرين (كما نقرأ في كتاب «المغتربون» لعبد اللطيف اليونس، وكتاب «ذكرى
الهجرة» لتوفيق ضعون).
بالمقابل هناك نجاحات المغتربين في كافة المجالات حيث عملوا في كل
حرفة وأبدعوا في كل علم تمامًا كحال المهجريين الحاليين الذين حازوا على جوائز
كثيرة في مجالات الأدب والاقتصاد والعلم.
لقد عاش المهاجرون في الماضي جماعات يكونون جاليات عربية ، ومن
الناحية الأدبية كانت نيويورك في بداية القرن العشرين أهم الجاليات الأدبية.
بالمقابل تشكل باريس ولندن حاليًا أهم المراكز الأدبية والثقافية العربية ،
وليس هناك جالية عربية أدبية قوية في أميركا (باستثناء قليل من الأدباء
الموزعين على الولايات الأميركية ولديهم علاقات عرضية فيما بينهم).
تغير أيضًا التوزع الجغرافي بالنسبة لأميركا الجنوبية حيث لا نجد
حاليًا أي أديب يكتب بالعربية في كل القارة الأميركية الجنوبية (باستثناء
الشاعر اللبناني قيصر عفيف الذي يعيش في المكسيك) بينما كانت أميركا الجنوبية
حافلة بالأدباء المهجريين مثل جورج صيدح، رشيد سليم الخوري، نظير زيتون، شفيق
معلوف، فوزي معلوف، إلياس فرحات، إلياس قنصل، زكي قنصل، شكرالله الجر، نعمة
قازان، حبيب مسعود، توفيق ضعون، وغيرهم.
كذلك أسس المهجريون النوادي الأدبية والجماعات الأدبية المختلفة،
والمطابع العربية، والصحف والمجلات العربية (أول صحيفة عربية ظهرت في المهجر
الأمريكي كانت «كوكب أمريكا عام 1892، أصدرها إبراهيم ونجيب عربيلي).
* * *
فسيفساء الأدب المهجري:
رغم الحضور القوي والغامر للشعر العراقي الذكوري في المشهد الأدبي
المهجري المعاصر، إلا أن هناك تلوينات وتنويعات مختلفة ومهمة ومتعددة تعطي
المشهد العام شكل فسيفساء عربية راقية رائعة..
فالأصوات النسائية من الأقطار العربية المختلفة والمهاجرة لأسباب
مختلفة تعطي توازنًا ضروريًا للاستمرار، كذلك حضور اللون القصصي واللون
الروائيّ الناضجين يعطي اللوحة جمالاً خاصًا يقرّبها من الكمال.
وإن الأقلية الأدبية من شمال أفريقيا تخلق مع كل ما سبق أدبًا
مهجريًا متناغمًا متجانسًا بألوان متنوعة متناسقة تشكل معًا لوحة الأدب المهجري
المعاصر.
* * *
الاغتراب الأدبي:
بعد سبعة عشر عامًا من حمل «الاغتراب الأدبي» على كتفيه وفي مقلتيه،
قرر الأستاذ الدكتور «صلاح نيازي»، مع زوجته الأديبة «سميرة المانع» أن يتوقفا
عن إصدار مجلتهما التي كانت صوت المغتربين خاصة من العراقيين.
أمامي اثنان وخمسون عددًا من مجلة «الاغتراب الأدبي»، علمتني الكثير
عن الأدب المهجري أو أدب المنفى والاغتراب.
وكما يشرح الدكتور صلاح نيازي في أكثر من مكان فإن العنوان يتحمل
معنيين: اغتراب الأدب في هذا العالم المادي غير المبالي، وأدب المغتربين
والاغتراب بكل خصوصياته وجمالياته.
بدأ د. صلاح وزوجته المجلة بهذه الجملة عام 1985 :
(لو كان مجرد احتضان المغتربين العازفين عن النشر بهذا البلد أو
ذاك، أو بهذا المطبوع أو ذاك، مخافة أن يُروا وكأنهم يتشيعون إلى فئة بعينها أو
إلى عشيرة بعينها.. مبررًا لهذه المجلة.. فكفى).
تشكل المجلة بالنصوص والأشعار والترجمات والملفات التي نشرتها شهادة
حية عن الأدب المهجري في العقدين الماضيين وتكتب تاريخًا شبه كامل عن فترة
التسعينات وأواخر القرن العشرين من ناحية الأدب العربي في الخارج. إنها عمل
يستحق التقدير، ويتطلب دراسة أعمق من النقاد لفهم الأدب المهجري.
* * *
المجلات الأدبية:
أذكر هنا بعض أسماء المجلات الأدبية التي تصدر حاليًا في الخارج
باللغة العربية خصوصًا. أما الجرائد فمنها محلية داخل بلد أوربي أو أميركي ،
ومنها عالمية خاصة الصادرة من لندن، فهي توزع في العديد من البلدان العربية
والأجنبية.
- مجلة ألواح: يصدرها الكاتبان عبد الهادي سعدون، ومحسن الرملي في
إسبانيا.
- مجلة حجلنامة: تهتم بالثقافة الكردية ويرأس تحريرها الشاعر محمد
عفيف الحسيني في السويد.
- مجلة صوت الوطن: يشرف عليها الشاعر والكاتب مصطفى محمد غريب في
النرويج.
- مجلة ضفاف: يشرف عليها الشاعر والكاتب وديع العبيدي في النمسا.
- مجلة كلمات: يحررها الكاتب رغيد النحاس في أستراليا.
- مجلة أحداق: يرأس تحريرها الكاتب عدنان حسين أحمد في هولندا.
- مجلة الحركة الشعرية: يرأس تحريرها الشاعر قيصر عفيف في المكسيك.
- مجلة صفحات : ترأس تحريرها الشاعرة إباء إسماعيل في أميركا.
- مجلة بانيبال: تصدر باللغة الإنكليزية وتعنى بالأدب العربي ويشرف
عليها الكاتب صموئيل شمعون كما إنه يشرف على موقع كيكا الالكتروني الأدبي.
- مجلة ديوان: تصدر بالدانماركية وتعنى بالثقافة العربية ويشرف
عليها الشاعر منعم الفقير. كما يصدر مجلة «السنونو» التي تهتم بالثقافة في
الدانمارك.
- يشرف الشاعر عبد القادر الجنابي المقيم في فرنسا على القسم
الثقافي لموقف إيلاف الالكتروني. وقد أصدر الشاعر في السابق مجلة «الرغبة
الإباحية» التي تنتمي إلى الإرث السوريالي. ثم أصدر مجلة «فراديس» (مع الشاعر
خالد المعالي).
- مجلة المسلة: فيترأس تحريرها الكاتب علي عبد الأمير، وقد صدرت
الأعداد الأولى منها في لندن ثم انتقلت إلى الأردن.
هناك أيضًا مجلات الكترونية تصدر في الخارج وتستقبل الأدب العربي من
داخل الوطن وخارجه أذكر منها مثالين:
- مجلة أفق: يرأس تحريرها الشاعر محمد النبهان المقيم في كندا ويعمل
مع مجموعة من الكتاب المقيمين في الكويت.
- مجلة نسابَا: يشرف عليها الشاعر علي مزهر المقيم في أميركا.
الاحتياطي
الثقافي التاريخي للعراق
هكذا يقول الشاعر والأديب فاضل العزاوي في حديثه عن أدباء المنافي
العراقيين الذين يعيشون في مجتمعات مختلفة ثقافيًا وأدبيًا ويتمكنون من الأدب
والثقافة الأجنبيتين ويبدعون حيثما حلوا.
إن هؤلاء الأدباء يشكلون «قبائل لغوية»، و«يبغددون» الأمكنة.. إنهم
يلونون الآداب المجاورة بأرجوان الشمس العراقية، ويعملون من أقلامهم جسورًا
ممتدة بين الغرب الغني بالأدب والثقافة، والشرق المتعطش إلى حرية التعبير. إنهم
على موعد اليوم مع حضارة «سومرية» جديدة تنطلق من الدمار الكامل، لتبني رويدًا
رويدًا «عصرًا عباسيًا جديدًا».
* * *
الجرح العراقي:
من يستطيع أن يفهم هذا الجرح الممتد على أربعين سنة، العبقري، الفذ،
النازف والحيّ، المحتضر والناضج، الذي أنجب عشرات المفكرين والأدباء.
فإذا كان الجرح الفلسطيني هو الأقدم والأعمق والأكثر امتدادًا والذي
أعطى الأدب العربي سيلاً من الكلم وأنهارًا من خير المداد، إلا أن الوجع
العراقي خلق الأدب المهجري المعاصر بكل ما تحمله كلمة المهجر من ضعف أمام حقيقة
المنفى القاسية.
هناك أدباء عراقيون خرجوا منذ أكثر من ثلاثين عامًا ولم يستطيعوا
العودة إلى بيوتهم وحاراتهم. وإذا كان بعض الأدباء العرب غير العراقيين قد
عاشوا شيئًا مشابهًا لأسباب مختلفة إلا أن الجرح العراقي هو طعنة الرمح النازفة
التي خلقت من تدفق مائها أدب المنفى، يخرج من جنب الأدب الإنساني.
* * *
مسألة الأجيال الشعرية العراقية:
هناك الكثير من المقالات والكتب في موضوع الأجيال الشعرية العراقية
إذ يبدو أن هناك تشبثًا شديدًا بمفهوم جيل الستينات، وجيل السبعينات، وجيل
الثمانينات. ارتبط جيل الستينات الأدبي بقوة النشاط السياسي في العراق مع كل ما
حمل ذاك النشاط من أيديولوجيات ثقافية وفكرية ترفع أبناء الحزب الواحد، وتهمش
أفراد الأحزاب الأخرى ، فصار الارتباط الأيديولوجي بالجماعة السياسية جزءًا من
النشاط الأدبي الثقافي للفرد.
وعند بروز جيل السبعينات حدثت ثورة فكرية ضد الأبوية الشعرية أو
الأدبية لإعلان «البديل الأنضج» وإزالة «القدماء» والجيل الماضي.
وفي الوقت نفسه فإن التيارين السياسيين الرئيسين، أعني القوميين
والماركسيين، قد ضعفا أمام الحزب العراقي الحاكم الواحد، وتبعثر الأدباء داخل
الوطن وخارجه. وظهرت الموجة الثانية لهجرة الأدباء إلى الخارج (حيث الأولى كانت
بعد الثورة العراقية 1958 وانقلاب1963).
أما جيل الثمانينات فلم تكن مشكلة صراعه مع الجيلين السابقين أو
فيما بين أبنائه مشكلة سياسية ، بل رؤيوية للكون ومعنى الوجود ، خصوصًا الذين
خرجوا إلى المنافي بموجات متلاحقة بعد حربي الخليج الأولى والثانية.
إن الصعوبات التي عاشها الأدباء العراقيون أثناء الحرب مع إيران دون
وعي سياسي وموقف فكري بسبب غياب التعددية الحزبية وتسلط النمط السياسي الواحد..
إن هذه الصعوبات بالإضافة إلى السجون وحملات الاعتقال وحملات الإبادة الجماعية
، والهرب إلى الخارج والحياة في المعسكرات في السعودية وإيران ، كل هذا أعطى
هذا الجيل طابعًا خاصًا من الحزن والشعور بالعزلة والنفي ومواجهة الموت.
والنماذج الأدبية المعبرة عن ذلك منتشرة في صفحات هذه الأنثولوجيا.
* * *
جماعة كركوك:
أدرس هذه الجماعة الأدبية كنموذج عن هجرة الأدب العراقي إلى الخارجي
وتأثيره العميق في الأدب المهجري المعاصر.
إن إنتاج هذه الجماعة الآتية من تلك المدينة العراقية الصغيرة
نسبيًا ، أهم وأوفر وأعمق أثرًا من جميع كتابات الشمال الأفريقي العربي المهاجر
إلى الغرب مع احترامي وتقديري لكل هؤلاء الكتاب.
قد تبدو هذه الجملة قاسية بحق الأدباء المهجريين من شمال أفريقيا..
لكنهم يعرفون ويفهمون ويقدرون ما أعني.. كما أن كثيرًا من الكتاب الجيدين من
الشمال الأفريقي، المقيمين في أوربا يكتبون بلغات غير عربية، لذلك فإن هذه
الفكرة ليست مقارنة عادلة وإنما لتأكيد الدور المهم للدب العراقي في أدب المهجر
العربي المعاصر.
تشمل هذه الجماعة بشكل أساسي:
جليل القيسي (وهو الوحيد الذي لم يغادر مدينته إلى المهجر)، جان دمو
(المتوفي في عام2003)، مؤيد الراوي، فاضل العزاوي، سركون بولص، أنور الغساني،
قحطان الهرمزي (انفصل عن الجماعة عام1958).
وهناك أعضاء آخرون في الحلقة الأوسع وهم:
يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد، عبد اللطيف بندر أوغلو، زهدي
الداوودي، محيي الدين زه نكنه، علي شكر السباتي، علي حسين السعيدي، نور الدين
الصالحي، صلاح فائق، نجيب المانع، عصمت الهرمزي، حسين علي الهورماني .
عندما شعر هؤلاء الشبان في الستينات بأهمية الأدب في الحياة
الثقافية، التقوا مصادفة وأصبحوا أصدقاء.
لم يقدموا أنفسهم كجماعة أدبية بل إن الصحافة البغدادية أطلقت هذا
الاسم عليهم.
أتى معظم الأعضاء من الطبقة الوسطى أو الفقيرة أو العائلات العاملة.
ولهم أصول إثنية ودينية مختلفة ومتنوعة فكانوا من العرب والتركمان والكرد
والسريان أو الأشوريين والأرمن. يمثل هؤلاء الكتاب غنى التعددية الثقافية
العراقية ، وبعد هجرتهم إلى أوربا خاصة واختلاطهم بالثقافات الأخرى ، أنتجوا
أدبًا راقيًا ورائعًا ومعبرًا عن الروح العراقية الحضارية العريقة.
في البدايات، عندما كان معظم أبناء هذه الجماعة في المرحلة الثانوية
من المدرسة أي شبانًا يافعين، كانوا يجتمعون في البيوت والمقاهي والحدائق
ويتناقشون حول أمور الأدب، وكتاباتهم، ووجهات النظر المختلفة. وشيئًا فشيئًا
بدأت النزعة التجددية والثورية على الواقع الأدبي وربما السياسي تتكون. ورغم أن
معظم أبناء الجماعة كانوا من اليساريين وشاركوا في الأحزاب اليسارية إلا أن
معظمهم يشعر أن الواقعية الاشتراكية تحدّد حريتهم الإبداعية.. وبشكل خفي لكنه
واضح تسللت السريالية الأدبية والحياة السريالية إلى هؤلاء الأدباء، ورغم
خفوتها مع الزمن إلا أنها ما تزال أساسية عند بعض الأدباء (كالحياة السريالية
العبثية لصلاح فائق). إن تسلل العبثية والسريالية قد يكون نتيجة الصعوبات
السياسية التي شهدوها بأنفسهم أو عاينوها في أصدقائهم. وكذلك حياة المنافي
القاسية ، والعزلة الثقافية أمام الديكتاتورية المنفردة بالساحة الاجتماعية
والسياسية.
لكن تبقى هذه الجماعة رغم التشتت والنفي مثالاً للصداقة الأدبية
والإبداع الحر والثقافة المنفتحة.
لقد شكلت تيّارًا ثقافيًا وشعريًا يندفع بالإنسان إلى الأمام منذ
بدايتها عام 1955 وحتى الآن.
وإن معايشة أعضائها للثورة العراقية في تموز 1958 ثم انقلاب 1963
واعتقالات الشيوعية وخيبة حزيران ، والتقلبات السياسية العالمية (كثورات الكفاح
المسلح على يد غيفارا وتجديد الحركة الشيوعية الأدبية ، وربيع براغ ومحاولة منح
الأفكار الاشتراكية بعدًا عالميًا ديمقراطيًا جديدًا) ، بالإضافة إلى معايشة
الثقافات الأخرى والحضارات المتنوعة في المنافي ..كل ذلك أنضج الوعي الثقافي
والحضاري لهؤلاء الأدباء فصاروا أمثلة كاملة النضج للأديب العربي المنفي.
إن التعددية الثقافية والتنوع الديني داخل الجماعة قد أعطياها بعدًا
قوميًا يستبدل التكتل الطائفي بجمالية الانفتاح الثقافي والإبداع الأدبي الحر
والمتجدد.
فالأب يوسف سعيد جعل من كنيسته مكانًا لاجتماع الجماعة والنقاش حول
الأدب العربي والعالمي وهو يقول عن أصدقائه:
أغرب ظاهرة في هؤلاء أنهم كرّسوا حياتهم تمامًا للثقافة والشعر،
يعيشون بزهد، بلا طموحات مادية أو وظيفية، وبقوا هكذا حتى الآن. ما يدهش هو أن
هؤلاء جميعًا، حين التقيت بهم، كانوا في قلب الثقافة العالمية، يبحثون عن
الجديد. واحدهم يحمل اكتشافه إلى الآخرين دون أن يفصلهم أي انتماء ديني أو قومي
أو سياسي.
بالتأكيد إن تحول كركوك إلى إحدى «مدن الملح» نتيجة اكتشاف النفط
فيها، وهجرة أدبائها إلى المنافي لم ينقص من حنينهم إليها بل إننا نسمع الأب
يوسف سعيد يقول:
«ليتنا نلتقي ونحجّ كل عام إلى تلك المدينة الجميلة ونعقد جلساتنا
في باحة تلك الكنيسة أو في بيت أحدنا». ربما آن الأوان لمن بقي حيًا من أبناء
هذه الجماعة لأن يحجّ إليها!!
أنثولوجيا
الأدباء العرب باللغات الأجنبية
أعدّ الشاعر عبد القادر الجنابي أنثولوجيا الأدباء العرب بالفرنسية
لكنها لم تكن متخصصة بالأدب المهجري. كذلك قدّم الشاعر خالد المعالي عملاً
موسوعيًا أنثولوجيًا عن الأدباء العرب باللغة الألمانية وكان يشمل كعمل الجنابي
أدباء من الداخل والخارج.
أما باللغة الإنكليزية فأذكر هنا هذه الأنثولوجيات:
Modern Arabic
Poetry: تشمل الشعراء العرب الذين يعيشون داخل الوطن
العربي وخارجه، أعدتها الشاعرة سلمى الخضراء الجيوسي.
Post Gibran
Anthology (أنثولوجيا ما بعد جبران): وتشمل الأدباء العرب
الأميركيين ومعظمهم يتكلم ويكتب بالإنكليزية. أعدها منير العكش وخالد مطاوع.
The Poetry of Arab
Women (أنثولوجيا شعرية عن العربيات) : أعدتها الشاعرة
نتالي حنظل (مقيمة في أميركا ولا تتكلم العربية)، وقد صدرت في نيويورك، وتشمل
الشاعرات المقيمات في الوطن العربي وخارجه.
Grape Leaves
(أوراق العنب) : وهي أنثولوجيا أدبية تضم الأدباء العرب الأميركيين الذين
يكتبون ويتكلمون الإنكليزية، أعدها شريف الموسى وغريغوري أورفيليا.
Voices in the
Desert (أصوات في الصحراء) : وهي أنثولوجيا عن الأديبات
العربيات الكنديات صغيرة الحجم أعدتها اليزابيت دهب.
وفي عام 2003 قامت مجلة هانيبل
Hanipal (التي تقدم الأدب العربي باللغة الإنكليزية) بعمل
ملف كبير عن الأدب العراقي ضم عشرات الأدباء العراقيين في المهاجر والبلاد
العربية.
* * *
الكتاب العرب باللغات الأخرى:
من الظواهر الجديدة اللافتة للنظر ظاهرة الأدب العربي- الأجنبي
فهناك كتاب عرب وصلوا في أدبهم شهرة عالية يكتبون بلغة غير عربية. أذكر منهم
مثلاً أمين المعلوف اللبناني الذي يكتب بالفرنسية رواياته والتي تُرجمت إلى
العربية جميعها. كذلك الطاهر بن جلون الذي يكتب بالفرنسية أيضًا، ويتعرف العرب
على رواياته عن طريق الترجمة.
هناك عدد جيد من الكتاب العرب خصوصًا من شمال إفريقيا يعيشون في
أوربا (بالأخص فرنسا) ويكتبون باللغات الأوربية.
أما بالنسبة لأميركا فهناك الجيل الجديد القادم من الوطن العربي
والمتمسك باللغة العربية وعدد كتابه قليل وليس لديهم منتديات وتجمعات كما في
السابق. وهناك الجيل القديم الذي يكتب باللغة الإنكليزية بشكل عام ،
وأخيرًا يجب أن نذكر الجيل الثاني والثالث للعرب الأميركيين الذين يكتبون بشكل
أساسي باللغة الإنكليزية عن مواضيع عربية أو شرقية أحيانًا ومعظم أبنائه لا
يعرفون حتى قراءة العربية.
* * *
ملاحظات
*هناك قسمان أساسيان للكتاب. الأول هو قسم الشعر ويضمّ نبذات عن
الشعراء ونماذج شعرية، والثاني هو قسم النثر ويضم الروائيين والقاصين مع نماذج
أدبية من قصة قصيرة ومقاطع روائية. لم أعمل على توثيق الأعمال المسرحية والكتاب
المسرحيين لعدم نضج هذه اللون الأدبي في المهجر خصوصًا باللغة العربية. في
النهاية هناك قسم صغير يضم بعض المقالات الأدبية والنقدية عن أدب المهجر ومعنى
المنفى لدى الكتّاب المهجريين.
*بعض الأدباء يكتبون أكثر من لون أدبي، فاضطررت إلى اختيار لون واحد
من أعمالهم، رغم أن تصنيف الأديب كشاعر أو روائي أو قاص هو تصنيف متعسف أحيانًا
لكنني فعلت ذلك، بالتعاون مع الأدباء أنفسهم، كي لا يتضاعف حجم الكتاب الكبير
أصلاً، وكي يكون هناك مساحة كافية لكل أديب، ولكل نموذج أدبي.
*اعتمدت التسلسل الأبجدي للأحرف الأولى للأسماء وليس هناك أي اعتبار
آخر.
*إن حجم المواد الأدبية لا تعبر بالضرورة عن أهمية الأديب من
الناحية النقدية، وإنما اعتمدت أكثر على حجم المواد المتوفرة ومدى ملاءمة تلك
المواد لحجم الكتاب.
*أرجو من خلال هذا العمل الموسوعي الذي لم ينتهِ بعد (لأن جزءًا أو
ربما جزأين في طور التحضير) أن يجمعنا الأدب حيث فرقنا كل شيء آخر، وأن يكون
العمل الثقافي المشترك ساحة لقاء بين الثقافات والطوائف والأديان، فالدين لله
والأدب للجميع.
وأرجو أيضًا أن نتعلم كل يوم أكثر احترام آلام الآخرين الذين يعيشون
في المهجر أو المنفى أو غربتهم الذاتية، مصلوبين بين الشرق والغرب، مسافرين
ومنفيين وضائعين، فقد لمست ذلك عميقًا في كتابات الأدباء المشاركين في هذا
العمل.
*إن الكتابة مشروع نبوة ، وروح شرقية صافية صادقة ، والأديب المهجري
يسعى أن يكون كما قال روزفلت عن جبران خليل جبران: «أنت أول عاصفة انطلقت من
الشرق واكتسحت الغرب لكنها لم تحمل إلى شواطئنا إلا الزهور».
*لم أصحح الأخطاء اللغوية والقواعدية إلا في الحالات التي تبدو فيها
طباعية أو سهواً ، وذلك أمانة واحتراماً للكتابات المقدمة من قبل الأدباء ، على
أني أعد بالتصحيح المناسب ، في الطبعة التالية، إذا اكتشف الأديب خطأً في
كتاباته . لذا أرجو تنبيهي إلى ذلك.
*أتوجّه بالشكر العميق لكل الأدباء المشاركين لتجاوبهم وصداقتهم
الجميلة، خصوصًا الأدباء عبد القادر الجنابي، قيصر عفيف، طه عدنان، عدنان حسين
أحمد، خالد المعالي، صلاح نيازي وسميرة المانع لمساعداتهم السخية في التواصل مع
بقية الأدباء. وتقديم الأفكار والأسماء والعناوين.
هذا العمل قد خلق صداقات كثيرة وجميلة أرجو لها أن تستمر.
|