مقدمة بقلم
المؤلف
|
الهجرة
السرية
(مجموعة قصصية)
أدب مَمْدَري
كلمة النشرة الإلكترونية الأولى: |
قي الطبعة الأولى للهجرة السرية (مجموعة قصصية) سنة 1998م وضعت لها
ديباجة وإهداء، ثم كلمة فخاتمة، وقد حوت المجموعة عشر قصص لم تكن كلها في
موضوع الهجرة السرية، وهذا طبيعي في فن القصة، لأنها لا تتقيد بموضوع أو
تركِّز على ناحية، فليست هي دراسة، فكان ما لم يظهر في الطبعة الثانية قصة:
حكومة الجرذان وهي قصة كاريكاتيرية موجهة للصغار والكبار، وأيضا قصة: الديك
المترشح.
وظهر فيها كذلك قصة بعنوان: أرملة بين التّعْس والمتْعسة، وقصة:
قتيل أخويه، وقصة: الطفل المستنسخ وقد تنبأت بوجود ظاهرة الاستنساخ قبل
الإعلان عنه.
وظهرت الطبعة الثانية خالية من القصص المذكورة، وحل محلها قصص أخرى
هي قصة: الغارق الناجي، وفوق المتوسط، والمركب الهائم، والمهاجر الصغير،
وقارب الموت، فصارت تسعة بدل العشرة التي حوتها الطبعة الأولى.
واللافت في الطبعة الثانية تضمينها لقصص كلها محصورة في موضوع واحد،
وهي غير مسبوقة على حد علمي؛ إذ عنيت بالهجرة السرية والهجرة السرية فقط.
والهجرة السرية ككتاب ’يعتبر الأول على الصعيد العالمي في مجال
النشر الذي يتناول ظاهرة الهجرة السرية إبداعيا عبر مضيق جبل طارق، صحيح قد
تطرقنا إلى الظاهرة ككتّاب بمقالاتنا، ولكن لا أحد أنجز بحقها كتابا قبل
كتاب الهجرة السرية ( مجموعة قصصية ).
والنشرة الثالثة ليست نشرة ورقية، بل هي نشرة إلكترونية تتميّز بشيء
جديد طرأ على الساحة الأدبية واشتغلت’ به وعليه في روايتي: نساء مستعملات،
ودراستي: المَمْدَرية ( في النظرية والتقنية )، وحين هيأت’ مجموعتي القصصية
للنشر؛ هيأتها خلافا لما تعودت’ عليه، وخلافا لما تعوَّدَ عليه الأديب
العربي، الأمر يتعلق بالأدب المَمْدَري بتقنية التثقيف الفني، والرياضة
الذهنية، واستهدافه غاية مزدوجة هي: المتعة العاطفية التي يشترك فيها مع
غيره من الآداب عربية وعالمية، والمتعة الذهنية ويتميز بها عن غيره؛
كمكونات للأدب المَمْدَري، فكان أن أدخلتها فيه بإخضاعها لتقنيته التي شرحت
بعضا منها هنا وهناك في بعض الدوريات ورقيا، وكثير من المنتديات إلكترونيا.
وستجد حضرة القارئ المحترم في بداية المجموعة القصصية التي بين يديك
قصة بعنوان: فوق المتوسط بها شيء من الأدب المَمْدَري أرجو أن يهزّ مشاعرك
فرحا وحزنا، ويمتع عقلك بسلوكي معك أسلوب التثقيف الفني والرياضة الذهنية
بالحديث عن العصبات وربطها بالعمر والذي أدفعك بها إلى التوقف قليلا أو عند
الانتهاء لتعرف بعد أن تكون قد روّضت ذهنك واستحضرت معلوماتك ونبشك في
رصيدك المعرفي ونفـشت في ثقافتك، ثم نـقلي إياك إلى نوع من الكنايات
العلميـة (نسبة إلى العلوم التجريبية) التي لم تعهدها في أيّ كتابة عربية
سابقة، وربما في جميع الثقافات الإنسانية.
أرجو أن تنال مجموعتي القصصية المَمْدَرية هذه إعجابك مع المودة.
محمد محمد البقاش طنجة في: 01/02/2007
فوق المتوسط
" عيّاد " ’وجْدي مـن أقصى شمـال شـرق المغـرب، استنفذ من جسمه سبع
مائة وثلاثين مليون عصبة، تبدو عليه آثار نقص في إفراز هرمونات الغدة
النخامية، مدينته ’وجْدة مدينة فقيرة معدمة، تصاب بالجفاف بشكـل مستــمر،
تحتضـن شبـيبة طموحة، تختـلط في عيشهـا وحياتها وتبادل علاقاتها بإخــوان
لـهـم بالجزائر شقيقتهم، تفصلهم حدود وهمية رسمها الاستعمار وكرســـها
خلفاؤه من بعده، تعيش على تهريب السلع التي أحلها الله وحرمــها عبده،
تعاني جراء ذلك من ظلم من حرم تهريبها ولكــنه يســمح بهــا رشوة أو زبونية،
تعيش قــبالة أرض وبلاد لا تــفهم مـــغزى فصلـــها وانفصالها، كل منهما
تتنكر لأختها ولا تريد أن تندمج معـــها اســـما، تتداخل العائلات بين
بعضها البعض وتتصاهر، نشأت بينهم أبـوة وبنوة، عمومة وخؤولة، أفرزت أخوة
تتنكر لها الدسـاتير، يتزاورون عبر الحدود إذا كانت مفتوحة، يتزاورون عبر
خط حدودي طويـــــل غير مرسوم ولا معلم، يدور بهم الزمان ويدور، يقدم إليهم
رمضـــان ثم يقدم فيختلفون في صيامه، يشاهدون هلاله ولا يطيعون فــيه إلا
دولة المغرب ودولة الجزائر، اختلافهما المقصود غير مبرر، يخـــدم مصلحة من
يرفض الوحدة والاندماج ..
نشأ عياد بالمدينة البئيسة، صعد عقده الثاني متسلقا آمالا تـراوح
الذهن والتصور، يمسك بخيوط موصلة ولكنها كخيوط العنكبوت، عاش بئيسا ويكاد
يموت بئيسا، لا يشعر بسرعة جريان الزمان وكأن لا زمان له، صار رتيب السلوك
عديم النـــشاط كأنما تدلىّ في أرذل العمر ..
طوى عقده الثاني وأشرف على طـــي الثالث، لم يبق على تجاوزه إلا
أشهرا بعدد زوج الأعصاب الجمجمية، عندهــا بدأ يحـــس بضغط الحياة أكثر مما
كان عليه وضعه من قبل، بات أبا لبنت جميلة تملأ عليه حياته، تحيي في نفسه
الآمال بعدما دفنها سياسيو الـبلدة الشاكية، تدفئ قلبه بحب مشرق، ومودة
صافية ..
تابع ما تنوي حكومة بلده فعله فلم يجد غير الوهم، حاول تجمـــيله
فلم يقدر، صحب الضياع كل بطال، يرافقه بيد تحمل ملفات مكتوبـــة بما يشبه
الطلاسـم، ملفات يستــحيل قراءتـــها، لا تقرئ إلا عناوينــــها البارزة،
بها عبارات تقول : سنحارب البطالــة ، وأخــرى تصــرح : سنحارب الفقر،
وغيرهما تصيح : سنحارب الجهل والتخلف ، كــــثر الصياح والدوى : سنحارب
الهجرة السرية ، سنحارب المخدرات ..
عرف عياد أنها وصفات لمرضى الفقر والضياع، وصفات مـــــن الأماني
والآمال المكذوبة تشبه وعود جحا ونوادر أشعب ..
نظر إلى نفسه فوجد أنه يوشك أن يجذب بخطاف العمــر، يتربص به العقد
الرابع، يفكر في بنــته وأبويه الفقــيرين المعدمــــين، يروم المؤســسات
وقد يئــس من شــكاواها من الضــرائب الباهظة وجفافها من فرص العمل ..
شرع يمارس تهريب السلع والبضــائع من الجزائــر، كاد يــتوقف عند
وقف استــحقاق الجبــهة الإسلاميــة للإنقاذ لولا كــثرة المنافذ من والى
الجزائر عبر الأراضي الشاسـعة الواســعة علــى طول الحدود، دأب على عمله
برغم موجات العنف والتقــتــيل داخــل الجزائر في حربهـا الأهلية، قدر له
أن يــشاهد مرات عديدة عملــيات إرهابية فظيعة لم يشــك في نســبتها إلى
دولة الجنرالات وليس إلى الإسـلاميين، عاين حـز الــرؤوس وقطع الرقاب وبقر
البطون بالسكاكين والمدى والفؤوس والسواطير ..
أصاب الناس في الجزائر هم شديد جراء الصراع على السلـطة، سادت
الفوضى وانتشر الخوف والرعب في كل مكان، ظلت مدينة الصــنوبر تنعم لوحـدها
بالأمـان، يقطــنها رموز الذبح والقــتل مــن القياديين في الجيش الجزائري
..
في هــذه الأجواء زاره زائـر غير مرغوب فيه، زائر يصـير الصحيح
معتلا، أصابته البطالة الآثمة حتى طوقه الفــقـر وأدقعه، عندها تقرر لديه
مغادرة وجدة الى أقصى الشمال الغربي حيث تجلس عروس في زينتها تنتظر عريسها،
لم تعلم بقضائه بعــد، تقــعد قبــالة طوب وحجر داسته أقدام طريف، قبالة
قصر تحول الى سجن فـي جبل شامخ انطلقت منه خيــول طارق، رغـــب في
استــبدال رو تينه بروتين آخر ..
نزل مدينـة طنــجة، قدم أهلا ونزل سهــلا علــى أرصفـــتها وحدائقها
العمومية، طفق يجوب الشوارع والطرقات، ظل لا يعــرف أيهما خصص للراحة هل
اليل أم النهار ؟ لا ينام الا مضطرا، يستلقي حيثما كان حين يغلبه النعاس
وتجهده الحاجة إليه، يحصل له هذا فــي كل الأوقات، لا تختار له ليلا أو
نهارا ..
مكث على حاله حتى قيض الله له عملا لا يأخذ عليه أجرا، عمــلا لا
تتحسس أنامله منه درهما أو دينارا، عرف حارسا لسوق بمنطقة " الدرادب "،
يرتاده المتـسوقون يوم الخمـيس ويـوم الأحـد من كل أسبوع، يعمل على تنظيفه
مهاجر من قرية ولاد علي بالقصر الكبير، يجمع مخلفات الخضر والفواكـه
والبواكر والحوامض، يباع فـيه السمك والقطنيان والألبسة والدواجن، تباع فيه
لحوم حمراء لم يختمها بيطري البلدية، وأحيانا لحوم الحمير ..
مر عياد وهو قادم من شاطئ مرقالة على السوق، وجابه قليلا، دار فيه
يلتقط برتقالة عفنة من هنا، أو خبزا يابسا مهجورا من هناك ، بينما هو على
هيئته ناداه العساس وقد تدثر بأخلاق بدوية دميثة، طلب إليه أن ينتظره حتى
يفرغ. أشار عليه بارتياد كوخ أومـأ إلــيه، ولما انتهى جالسه في كوخه، ثم
أخرج من مخلاته طعاما وطلب إلـــيه أن يأكل، ولما فرغ سأله عن أحواله فصدقه
القول، وعندها طلب إليـه أن يبيت عنده إن أراد ..
أحس بميل ملؤه المودة، مال إلى العساس كما يميل الابن نحـو أبيه،
أحبه بلا استئذان أو مقدمات فسكن عنده حتى حين ..
نشط عياد يساعد العساس في يومين من كل أسبوع، يقـضي الأيام الأخرى
طوّافا في أزقة طنجة وشوارعها، يدور ويدور بحثا عن عمل أو منفذ إلى شبه
الجزيرة الأيبيرية، أمضى أياما بعدد أزواج كروموسومات أنثى النحل، وأسابيع
بأفراد من صبغيات لذكره لم تكتحل فيها عيناه برؤية عملة بلده، جفاه الدرهم
وعاداه. في كل ليلة يجالس أصدقاء العساس ويستمع الى أحاديثهم، حفلوا به
جميعا فشرب ثقافتهم واستفاد من عشرتهم، عرف أن بعضا منهم يهجِّرون الناس
بين الحين والآخر، يفعلون ذلك كلما ضاق عـشهم أو تعرضوا للبطالة، كانوا
صيادي أسماك بقوارب بدائية لا تحتمل تيار الـبوغاز إلا في يوم صاف ببحر
هادئ، لا يتخذون منها حرفة، نجحوا مرات عديدة في تهجير العشرات، يعيدون
ذكريات عايشوها في السبعينات قبل انتشار القوات المساعدة ثم الجيش، كانت
شبيبة "جامع المقراع " و " الدرادب " و "عـين الحياني " و " سبيلة الجماعة
" و " مرشان " و" مسطارخوش "، ترتاد شاطئ مرقالة طيلة أيام الصيف، كان
بعض منهم لا يترددون في امتطاء القوارب للـنزهة، يجوبون بها البوغاز
وينزلون شواطئ قاديس، ثم يعودون من حـيث قدموا، لم تكن فكرة الهجرة السرية
قد نبتت بعد، ولا التأشيرة قد فرضت بعد، كان شباب طنجة وشـيوخها لا يحبذون
الذهــاب إلى إسـبانيا، ينعتون الإسبان بقولهم : " ولادْ بوروقْعا "..
’عرضت على عياد فكرة الهجرة الـسرية، قبـلها برد تداخل مع العرض، لم
يترك صاحبه يكمل عرضه وحديثه، قبلها ونزلت عليه بردا وسلاما، اطمئن إلى
العرض وتحركت بداخله أحاسيس السـعادة، لم يكن يستسيغ أن يفكر فيه بهذه
الطريقة إلا من طرف أمه أو أبيه، صاحبته أو أخيه ، أو فصيلته التي تؤويه..
لطالما ردد " الــكرْشْ الشّْبْعانة ما تْفكَّر في الجيْعانة "، حفظها من
أفواه صـدقته القـول والمحبة ..
’ضرب له موعد عند شاطئ مهجور، شاطئ صغير كان مرتادا إلـى عهد قريب،
ترتاده شبيبة سبيلة الجماعة و مرشان و المعدنوس .. هوجر عندما تآكل
الصخر والحجر الذي كان يشـد أزره، يشكل الطريق المؤدية إليه، شاطئ تصله
المياه الحارة، كانت يخترقه قادوس شيده الإسبان وأهمله المجلس البلدي حتى
باد..
استقل عياد قاربا صغــيرا بحــمولة لا تزيد عن ســتة أشــخاص،
أدخلته البحر سواعدهم ثم شرع يدفعه محرك متواضع، ولكنه يفي بالمطلوب،
يغنيهم عن جهد السواعد وحركة المجاديف، سار بهم متخـطيا " العدويين "،
يمخر العباب فوق بحر هادئ يحمل جوار كالأعلام، فوقهم سماء لم يأذن لها
ربـها أن تمور بعــد، تلفــح وجوههــم رياح غربية ناعمة، تتدلى فوق رؤوسهم
نجوم كعناقيد العنب، تحييهم ولا تفتر عن إلقاء التحية لحظة واحـدة، تحييهم
بإشعاع ينـبـعث منـذ ولادتها، بين نورها إشعاع مرتد عن ابن زياد وجيشه،
تتحسس آذانهم بين الحين والآخر أصواتا لا تفقهها، أصواتا لخرير المـياه
يحدثها القارب عند شقه البحر، يشقه بلطف كأنه مقصود ..
تعمقوا بفلكهم في المتوسط، يسيرون مطمئنين في صمت وبهدوء، مر إلى
جانبهم زورق صيد كاد ينفطر له فؤاد عياد، رأى" الطرانيـا " تشـــق البحر
بعنف وقد علت عن مركبه حتى بدت له كالطود، أحدثـــت هيجانا أفسد عليهم
هدوءهم ورتابة قاربهم، مشهدا مخيفا توقع له عياد أن يكون كارثة لو اصطدم
بقاربهم الصغير الذي يتعلق به كما يتعلق الرضيع بحلمة أمه، ساروا قليلا في
المياه الدولية ثم تسلط عليهم مــن يفسد هدوءهم مرة ثانية، مرت إلى جانبهم
باخرة ضخمة وحامـلة بترول عملاقة تقصد البحر الأسود، أحدثت هيجانا كبيرا لم
يحتـمله فلكهم الصغير فتسبب في قلبه، انقلب بمن فيه، شرع الشبان يسبحون،
انبرى قائد الزورق يجاهد نفسه وينادي على زملائه حتى أعــادوا زورقهم إلى
وضعه السابق، كاد يغرق لولا استماتة الأصدقاء فـي منعه عن الغوص إلى
الأسفل، لم يغرق منهم أحد، حتى عياد ظل ساكنا على سواعد بعضهم عندما طوقوه
مانعين جسمه من النـزول إلى الأعماق، استقل أحدهم القارب من جديد ولم يسمح
لأحــد أن يركب معه، بحث عن قصعة مربوطة إلى خشبة الزورق ثم شــرع يغرف بها
الماء ويرمي به خارجا حتى استوى القارب على هــيئة مطمئنة، ثم ركبوا جميعا
واستأنفوا سيرهم ..
أطبق عياد على ذهنه وحمله على الفكر العميق، صار بكانين لا يدري
أيهما له ؟ ذهب به الفكر بعيدا، جد انشغاله بتحسس عوالــم عطرة، عوالم يجد
ريحها الزكي وأريجها العطر، يلقيه في روعـه رب المشرقين ورب المغربين،
بينما هو كذلك إذ سمع " العربــــي " ينادي عليه، ناداه بعد أن أشرفوا على
سواحل موحشة، نظر عياد إلى رفقته ورمق الساحل قريبا منه، تحرك مستطلعا حركة
منهم فلـم يجدها، لم يلحظ حماسا لنزول البحر والتوجه إلى اليابسة، عندها
أومأ إليه العربي بالنزول : هذي سْبانيا، هذي طريفة، نْزْل ومْشي
تْخَـبّاعْ في الغابة ..
نزل برّ طريفــــة، وانقــلب القارب عائدا من حيث أتى، كانـت مغامرة
من شباب أرادوا مساعدة عياد، أضحت نزهة وسمرا ..
سار متوغلا في غابة، اخترق أشجارا وتسلق صخورا حتى وقــف على موضع
مطروق، به آثار مهاجرين سريين اختبئوا فيه، قبع للخوف، ثـم استلقى يرتاح
فأخذته سنة استدرجته إلى النعاس فغلبه النوم فنام ..
استيقظ متأخرا وخرج من مخبئه، استيقظ بعد نوم عميق ارتاحــت له
جوارحه وسكنت فيه نفسه وصفا له ذهنه، نبت في مؤخرة يومه كما ينبت العود
اليابس في تربة مبتلة، تحرك يخطو وئيدا، يتفـحـص كل ما مر به، يتجنب
الاقتراب من أماكن السكن، يبحث عن طريــــق سيار لعله يجد من يحمله إلى قلب
المدينة، ينوي استــعمـال أســـلـوب " أطو سطوب " ..
بينما عياد يسير الهوينا متيــقظا حذرا، بيــنما هو كـــذلك
رمقـــــه "وارديا سيبيل "، شاهده رجلان من خفر السواحل الإسبانية، كانـا
عندها بصدد القيام بعــمل روتيني، وما أن رآهم عياد حتى جــدّ فـــي الركض
هاربا، ركض مذعورا لا يدري أين يقصد ؟ يجري ويعـدو قافزا كالغزال، ولكن إلى
أين ؟ ظهرت أعداد أخرى من الحراس، جد اثنان منهم في طــلبه حتى اقتــربا
مــنه بعــض الشيء، ســمع عـــياد صيحات ونداءات، يسمع " ألطو ألطو "، لم
يفهم ماذا تعـني ، ظلا يطاردانه حتى أعيتهما المطاردة، يطاردان رجلا انضافت
إلــيه قــوة أخرى ومنحته طاقة رهيبة، يركض مذعورا جنّ الذعر عـقلـه، عطْل
نخاع عظمه بادٍ على وجهه، وما أن تيقنا من استحالة وقوفه حتى أوقـفاه،
أرســلاها إلــيه تركبــان الريح فاستقرتا فيه، استقرتا في جسمه، أصيب في
قـــفاه وظهره فسقط إثر الطلقتين صريعا، قدما إلـيه يهرعان كــما لو كان
طيرا مصادة، عايناه وهو ينزف دما ثم قضى ..
قضى عياد بأرض أقلّت أجداده، ثم دفن فيها. استقر رفاته تحت ثرى
الأندلس يتحسس آثارا لرفات قضى أصحابها بالأندلس مثله وخلافه، قضوا طبيعيا
أو عند فتحها، سكنت روحه وتبخرت آماله وضاعـت أحلامه..
ترك عياد أرملة تنتظر قدوما موفقا منه، تركها تدعوا له بظهر الغيب
..
ترك صبية لم ’تفطم بعد، تكبر إيمان حِجّو بقليل، تركها لا تنطق
الحروف والكلمات، بالكاد تعلمت نطق كلمة بابا ..
تركها وهي تردد على لسانها في كل وقت وحين: بابا.. بابا..
الغارق الناجي
غوزالي شاب كهربائي من مدينة تاوريرت, مدينة لا تفـتر عـن
إبداء ضـجرها, لا تبدـيه مـن موقعـها في أقصـى شـمال شرق المغرب، بل من
الإهمال الكبـير الذي تتعرض له، من اللامبالاة..
أنجبت حيث هي غوزالـيَنا، وطـئ فيها عـقده الثالث بخجل، مـن
عائلة تـضم ستة عشر عضـوا، أمه وضـرتها، أبوه وأبناؤه الــثلاثة عشر، أحب
أن يشتغل كهربائيا بعدما تخرج بشهادة مهنية من مدرسة التكوين المهني
بتاوريرت ..
وقع غوزالي في البطالة كآلاف غيره، ومئات الآلاف، صار بطــالا
في وقت سادت فيه بطالة غريبة، بطالة ساخرة من كل شيء اسمه شـهادة أو تعليـم
جامعي، يسود الناس الفـقر، ويسود غيرهم ممن يتقنون سرقة خيرات الشعب الغنى
والاكتناز ..
كان غوزالي يطمح أن يكون حيث أخوه الشقيق بألميريا, يتطلع لعيش
رغيد، ومستقبل واعد، ملّ في تاوريرت كمــا يــملّ كل بطّال في كل جهة من
بلاد المغرب, نما إلى سمعه نجاح بعـض ممن هرّبهم الكر سيفي في هجرة سرية
إلى إسبانيا الحلم ..
أغـرى غوزالي أباه حتى حمله على بيع سبع عـشرة نعجة ليسـت بينهن
دولي, أدخل في روعه صورا شيّـدها بكلـمات واعدة, بكلمات تلين وترقّ حتى
تعلق في القلب ..
غادر إلى طنجة يحمل نعاجا من أوراق نقدية, غادر مسـقط رأسـه وهو
مشدود إليه, يحـس كما لو كان مربـوطا بحـبل يمسـك به مرتع صباه ولا يفتر
عن شدّه, لم يطاوعه قلبه إلا مكرها, ولم تسـلمه إرادته للسفر إلا مرغمة,
يتداخل فيه القضاء والقدر رغما عنه ..
مرّ على مدينة الناضور وتجاوز الحسيمة, سار في رحـاب أرض واسعة,
يتنقل بنظره من لوحة إلى أخرى, طربت عينه لرؤية شجر الأرز وهو شامخ يقف على
يابسة وعـرة, يرى لوحات من جـبال وهضاب ووهاد، ظل مأخوذا بجمال الطبيعة
حتى توقفت الحافلة عند " كتامة "، نزل ثم دخل مقهى مكتظا بشبـيبة تلمع
عيونهـا من شدة الحذر وفرط الحرص ..
استأنف سيره حتى دخل منطقة مدينة تطوان, كانت الحافلة تســير ثم
تقف, في وقوفها تحمل ركّابا يتجهون إلى طنجة, جلس إلى جانـبه شاب وفي كراسي
مجاورة شبّان يبدوا أنهم أصـدقاء, ظلت أحاديثهم تدخل مسـامعه مقتحمة ذهنـه,
يتـحدثون عن هدايـا فخمة تقدم للمسئولين, يقدمها لهم مهربوا المخدرات
والسلع , يرشـونهم بأمـوال باهظة, وهدايا فخمة من سيارات وزرابي وأثاث فخـم
رفيع، يتحدثون عن نساء يتعاطين التهريب ’يعِـنَّ به أسرا بأكمـلها، يمتطون
بعضهن شهوة ويعجزون عن امتطاء العفيفات، بين الحين والآخر ينسى حديثهم
مستطلعا ما يشاهـد من حركة حـين يتم إيقاف الحافـلة من طرف رجـال الدرك
والجمارك، يندهـش للرشاوى المقدمة بخجل النصّاب وحياء الرقّاص، أسره
استعطاف امرأة لصفــيق لم يرض بعرضها، نزع منها تجارتها من ألبسة وأغطية،
لا يبالي بمن ينتظرها فاغرا فاه كالطير..
نزل غوزالي طـنجة، ثم ذهب إلى فندق " إشبيـليا " ، اقتـيد إليه
مع سـبعة شبان كلهم من تاوريرت، حـملوهم في سـيارة ميرسديس إلى منطقة "
سيدي المصمودي " منطقة كانت إلى عهد قريـب مزار روّاد الأضرحة ولم تزل، لم
تعد ’تقـصد إلا قليلا، عند الضريح ولا ضريح عين ماء آسن، توضع فيه الشموع
والحنّاء، منطقة مشهورة في طنجة بجمال طبيعتها وغاباتها الخلابة، من
الأعالي تشـاهد مدينة طريـفة، و’يشاهد جبل طارق، ويكاد ’يرى برّ البرتغال..
يحلو لبعض طنـجاوة أن يطلقوا عليه لقب " مِسْتر موضي " وهو اسم لشخص
إنجليزي مدفون هناك، كما هو ضريح شريف بقّالي ’يوثّق له ..
اقتادوهم إلى البحر كما يقتاد البعير، تحركوا بقليل من
الجليكوجين حفظته لهم أكبادهم وعضلاتهم، ساروا بهم عبر غابة شائكة ومنحدرات
وعرة، لم يخل سيرهم من تعثّر وسقوط، كان اليل مظلمـا والطـريق غير معبدة،
قصدوا " الكريان " وكان نقــطة الانطلاق. مكان فسيح كان إلى عهد يشهد عليه
آباؤنا جبلا قائما دكّه الاستعمار دكّا ونقل حجارته فبنى بها ميناء طنجـة،
كان مقـلاعا وبقي يحمـل نفـس الاسـم ولكـن بلغـة أجنبيـة يصعب العثور عليها
في القواميس لمجافاتها المعنى المقصود.. يشهد تكدّسـا للصيادين كلما كانت
الرياح شرقية، أمسى مرتعا لأسماك من أنواع شتى، تسكن قاع بحره أسماك ضــخمة
تثير الرعب والـخوف، يظهر " الميرو " متبخـترا وتظهر" الــتّرْنـيا "
مسـالمة، بين الشقوق يخرج الانكليس والمراي رأسـه مستطلعا متطلعا إلى طعم
قد تشـمّم رائحته، يرتـاده المصطافون الذكور لوعورة المــسالك إليـه،
جمــيل بحـره ، صاف ما ؤه، ونقي هواؤه ..
سكنوا قليلا يسـتعيدون أنفاســهم، وقفوا مستطـلعين للبر والبحر.
مشهد لم يخطر لهم ببال، هدوء وسكـينة، صفاء ونقاء، أمامهم بحر هادئ وديع،
عن أيمانهم وعن شمائلهم صخور متراصّة متحفِّزة، تتكاتف خشــية الزّعزعة،
كلما نظروا إلى الأعـلى كلما وخزهـم وجدانهم، رأوا نجوما تسبح في أفلاكها
وتسلط عليهم إشــعاعا يحمل كثيرا من الحذر لم يتبينوه، في الأفق البعيد
أنوار بعدد ذكر الشمس في القرآن، أنوار سفن صيد عليها صيادون مهرة، بينما
هم كذلك حدثت جـلبة، صدرت عنهم، طفق الحدّوتي يجمع منهم بطائقهم، يستلمها
محركا لسانه، ومن لا يسلمها له يعنِّفه ويسبّه، ثم ينتزعها منه بالقوة،
يطمئنهم : (( ســوف أرسلها إلى ذويكم )). ركبوا ’سميّة وانطلقوا في خوف
وهلع فزعيـن مرهوبين، بعضهم أرغم عـلى أخذ مكانـته في القارب بقوة بعدما
همّ بالتخلي عن ركوب البحر، لا رجعة في ذلك إلا بالقوة..
ابتدأ القارب يمخر عباب البحر، سـار وعلى متـنه ’سذّج بسطاء،
يحملون قلوبا طيـبة ، وسـريرة صادقة، تجمعوا كما لو كانوا ورما حميدا،
’سذّج ركـبوا الأهوال ولا يملكون حيلة، يحتاجون إلى رعاية وعناية تتساءل
عنها المروءة أين هي ؟ فتفتقدها. تَمَّ استغلال سذاجتهم، لم ترحم براءتهم
أو تحنّن قلب المهجِّرين على المهجَّرين، تتعشق النيات فتـصير واحدة، تلوم
المعدة وتخشى تجريم الرأس، طرف يريد المال والمال فقط، وطـرف لم يبخل به
ولكن يرجو مقابلا طيبا يروقه ولا يظلم منه شيئا ..
ما أن قـضى الزورق في جريانه أربعة آلاف وثلاثمائة وعشرين خفقة
قلب امرئ زمنية حتى بدأت الأمـواج تتعالى وتتعامد ثم تـتكوَّر على سطح
البحر، بدأت الأمواج تتلاطم حين ابتدأ البحر يهيج، كان هيجانه خفيفا،
تعلَّق بحالة الـمدِّ الطبيعية، من أجل النجاة يحتاج الأمر عندها لنفس
الزورق، ولكن ليس بنفس الحمولة، أو ربما ..
مال القارب في كل الجهات، مال بأمخاخ بشرية تزن ثمانية وعشرين
كيلوغراما، كل غرام منها يضم سبعين مليون خلية عصبية تتشاكى، وبميله بدأ
يفـقد توازنه، عندها بدأ المهاجرون يقفزون في البحر، قـفزاتهم لا تبغي
هلاكا، ولكـنهم إلى البحر يقـفزون، وفيه يسـقطون.. تلقّفهم اليمّ بمائه
البارد، وعـمقه الكبير، وعند سقطتهم حاولوا الوقوف ظانين أنهم على يابسة،
فهوت أقدامهم إلى الأسـفل تجرّ معها أبدانهم، ثم تصعد إلى الأعلى، وعند
إطلالة رؤوسهم على وجه البحر وملامســتها للهواء يأخـذون شهيــقا طويلا ما
يلبث أن يــسرب الماء معه إلي معدهم ورئاتهم، لم يكونوا جميعا يتقنون
السباحة باستثناء القائد، لم يكونوا مدربين على شروط العوم، لا يعرفون متى
يزفرون ولا متى يشهقون، كانوا جمـيعا قرب بعضهم البعض، كل منهم يخبط بيديه
يبحث عن ملمس يتمسّك به، وما أن يحسّ أحدهم بجسم رفيــقه حتى يتعـلَّق به
ممــسكا بأطرافه، وحين يهوي الاثنان إلى القاع يقلعان عن الإمساك، ثم
يصعدان، ظلوا جميعا على حال من الإجهاد الشديد، والاختـناق القاسي حتى خارت
قواهم .. سبح قائد " الباطيرا " وظل يسبح لإتقانه السباحة، سبح غوزالي
قليلا كذوات الأربع ولم يسـبح قط، سبح كالدواب، ظل يسبح إلى أن عثر على
خشبة، عثر عليها لمـسا في ظلمة حالكة، لم يكن يرى شيئا غير السماء
بعناقيدها المتدلية، اصطدمت بجسـمه فتمـسك بها، أغنته عن العوم الذي يجهله،
خشبة ساقها الله إليه، كانت تائهة لا تريد هجرة ولا إقامة، حولها إلى مركب
لم يفكر في تسميته بسـميّة أو رقيّة، عوّض به عن مركبه الغارق، تســير به
إلى الأعـماق وهـو مستسلم لها، لم يتركها أو يتخلى عنها، وإذا فعل فأين
الــبديل ؟ تعلق بها مجيرا وتمسك بها راجيا، بينما هـو يســبح بلا خـوف ولا
وجــل شاركه في مركبه سابح آخر، أمسك بالخشبة مجرد أن لامســت يده، كانت لا
تسع إلا لواحد فضاع توازنهما وغاصت الخشبة لتـطفو مـن جديد ثم يتمسك بها
غوزالي، غاب عن المستجير من الغرق بالخشبة، تلفت لعله يرمقه دون جدوى، شرع
يسمع أصواتا من وجدانه تملأ سمعه، تعود إليه بين الحين والآخر، أصواتا
لغرقى شهدت غرقهم الملائكة وغوزالي وقائد الزورق، طنينا لا يزال يجده،
أمامه وخـلفه وعن يمينه وعن شماله هذا يقول: الله الله، وآخر يقول :لا اله
إلا الله، وثالث يصيح : وْلادي وْلادي، ورابع ينادي : مْوي ، مْوي ..
خيم السكون على محيط غوزالي وهو يســبح بخـشبته الــطافية،
يلمسها من كل الجهات عند سـباحته، بينما هو مستـسلم لقضـاء الله وقدره،
يقاوم من طبيعته الموت، يتعلق بالحياة، بينما هو كـذلك إذ مرت باخرة تجارية
، بعثت بزورقها المـطاطي يبحث حتى عثر على قائد ســمية، انتشل من الماء وقد
كاد يلقى حتفه، لم يعد يــقوى على العوم رغم رباطــة جأشــه ومــثابرته،
قاوم وقاوم حتى خـارت قواه وتعرض للبرد الشديد الذي كاد يجمده.. ثم اسـتمر
الزورق يبحث حتى وجد غوزالي يطفو بطافيته على سطح البحر، انتــشله وذهب به
إلى الباخرة ..
سارت الباخرة بالناجين إلى ميناء طنجة، وطئت قدما غوزالي
اليابسة بـعد أن كاد يلقـى حتفـه غرقـا، خطى في رحاب طنجـة فرحـا مسرورا،
نجاه الله من الغرق بيد البحّارة..
’كتبت لغوزالي حياة جديدة، ’حــفرت في ذهنه وقائع لو ’قـدِّر
لجمجمته أن تظل عظما ملايين السنـين لأمكـن قراءة ما ’حفـر فـيها، ذهب
غوزالي الى بلدته وقد حـمل معـه قلبـه وهـو مطمئـن بحمد الله على
سلامته.
المركب الهائم
شب " الساعدي " في مدينة بولمان، ترعـــرع وسط حقول خضراء،
حقول تعود ملكيتها لرجالات الدولة، يعمل فـيها بنشاط وحيوية، جعلت منه شابا
قويا بعضلات بارزة، يسر الناظر، ويثير الإغراء والإغواء ..
ظل الساعدي مرغوبا فيه من جميع الملاك، إذا كلف بعمل نشط فيه
وأخلص ، يحظى بالإيثار، و’يقــصد في تودد بانبهــار، حـباه الله بجسم
ممتلئ، جمع بين القوة والجمال، لم يكن يســير أو يظهر إلا وجلب الانتباه ..
ابتدأ الزمان يجري بالساعدي، أسرع به نحو اليأس والقـنوط، بات
جريان الزمان أسرع قليلا من جريان الدم في الشرايين، يجر معه شبيبة طموحة،
شبيبة من مدن وقرى ومد اشر اكتسحتها البطالة كما تكتسح الريح الغبار
فتذروه، طالـت خريـجي الجامعات وحـملة الشهادات العليا، حملت معها الأطباء
والمهندسين والأدباء ..
قلـق الناس على مصيرهم ليجد الساعدي نفسه ضمن غزيّة لم تغز، ولكنها
تسخط على الشواهد وتود لو أنها تجهل، ظل فصل الصيف مـن الفصول التي تتحول
إلي باعث على القلق والقلق الشديد، يقدم فــيه المهاجرون المغاربة من بلاد
أوروبا خاصة، بلاد هي الأخـــرى بات يعاني فيها المهاجرون معاناة فاضلة عن
العنصرية، بلاد تشهد بطالة تدفعهم إلى القمار، وتدفع آخرين إلى أعـمال حرة
مــنها ما يخدش الحياء هنا وليس هناك، يمارسها الرجال والنساء على حد
ســـواء، لم يكن الساعدي يعي هذا أو يعرفه، لم يكن يرى سوى ما يظهر على
القادمين من آثار النعمة يريدها هو أيضا لنفسه .. وحين يذهبون يعقب ذهابهم
فصل الخريف ثم الشتاء، فصل ينعم فيه الساعدي ببطالة زائـدة، وهــموم
فاضـلة، لا يعــمل في الحقول، ولا يشتغل إلا نادرا..
في يوم شهد بداية التواضع الموسمي، شـهد قيما ومــثلا رفيعـة
’تسوَّق بالمجان، تنتشر في كل المــدن والقــرى والمداشر، تستــغل سذاجة
الناس وبساطتهم، تستغفلهم لتسرق أصواتهم، ثــم تقدمها للدجالين، يمتطونها
عبر بساط شفاف تبدو من خلاله عوراتهم، فـي هذه الأجواء راودت الساعدي فكرة
الهجرة السرية ..
غادر إلى مدينة طنجة، اصطحب معه صورا مخزنة في مخيــلته، يبعثها من
أعماقه بين الحين والآخر، يستمتع بها في خلوتــــه، تزوره في نومه فتحل محل
أحلامه، تتدافع مع أفكاره في يقظته ..
طرق ورشا لشركة صبرينا للمقاولات، وجد فيها عمالا من قلـــعة
السراغنة والمحمدية وسيدي قاسم والقنيطرة، ألفى حارسا واحدا مــن طنجة،
ومثقفا دراديبيا يكتب الشعر والقصة والرواية .. يعمل بين العمال كواحد
منهم، يقوم بعمله مثلما يقومون .. استـبقي الساعـدي بالورشة، عمل فيها
وسكن، كان يقتات في الأيام الأولى على مائـدة الحارس ..
عرف طنجة من كثرة التجوال في طرقاتها، صحب عاملا آنـس منه صدقا
وصفاء سريرة، يخرجان من الورشة ويذهبان إلى الشاطئ، يمران على عمال للإنعاش
الوطني يعملون ليلا ونهارا في فصـل الصيف، من ضمنهم حملة الليسانس يبطلون
بعملهــم مقولة : أن طنجاوة لا يعملون ..
طفق يجمع المال استعدادا للهجرة السرية، يتأهب لهجرة وضـحت في
ذهـنه حتى بذخت.. لطالـما وقـف في منتزه " الرمـيلا ت " ينظر إلى مدينة
طريفة، يشاهد سيارات تسير بسير ضوئها، تخـلف أضواء تتبعثر على جبال ووهاد
بالأندلس، أنوار المدينة تظهر وكأنها كائنات بحرية تتلألأ في ليل مظلم،
تفرز مواد كيماوية ترسم بهـا صورا غاية في الجمال والروعة، تشبه الشهب
المتساقطة، تظهر وكأنها تجلس القرفصاء عند قدم المتوسط، يشاهد بحرا يشبه
البســاط، يغري بوطئه والسير عليه نحو إسبانيا، تظهر على سطحه ســفـن عابرة
من الأطلسي تخترق البوغاز، يشاهد سفنا راسية عرف أنها سفن صيد قد ألقت
بشباكها ..
أعجب الساعدي بمدينة طنجة وقرر أن ينتسب إليها، أزمع على اقتناء
سكن فيها إن شراء أو كراء، وإذا قدر له أن يهاجر إلى إسبانيا أو أي دولة
أوروبية أخرى فسيعمل على جلب عائلته من بولمـان؛ حتى إذا أقبل الصيف وآن
أوان العطلة السنوية فسيقضيها بين أهـله وذويه في طنـجة حين تعــمّر..
تغيرت لكـنته وصارت لهجته طنجاوية، تتضمن خليطا من الكلمات الإســبانية
خلـفها وراءه الاستعمار الإسباني ..
أصبح في يوم مشرق على وقع أنباء تتحدث عن قتيل بيد شرطــي، قتيل
آخر في مخفر للشرطة، قتيل حوكم قاتله وأدين باثني عشر عاما سجنا من طرف
محكمة الاستئناف بطنجة.. وفي اليوم التالي أصبـــح على وقع أنباء عن مغاربة
شباب يريدون الهجرة السرية، قدموا مــن مدينة الدار البيضاء، استقلوا باخرة
من هناك تقصد إسبانيا، باخـــــرة محملة بالحوامض إلى جانب واحد وعشرين
شابا مختبئا فيها، رصت بميناء طنجة، وأنزل المهاجرون السريون منها، ثم
اقتــــــيدوا إلى المحكمة .. وفي اليوم الثالث قدم وفد آخر في باخـــرة "
أزرو "، يختبئ فيها خمسة وخمسون مهاجرا سريا، قدموا هم أيضا من مدينــة
الدار البيضاء، كان الفوج الأول والفوج الثاني مكون من شبيبة كلــها
بيضاوية، وهم دون العشرين أو يزيدون قليلا ..
حفل بأخبار الهجرة السرية، ظل صديق الورشة يأتيه بأنباء عنها
مؤلمة، أنباء تنفطر لها الأفئدة، وتنفعل لها القلوب..
دار الزمان وانقلب ولا يزال، تارة يعود على هيئات وأمارات مضت،
وأخرى يعود ليجعل منها حاضرا ..
جلس إلى جوار شبان في مقهى يتبادلون الأحاديث، لا يتحولون عن
القنوات الإسبانية، وبينما هــم كذلك لــفت نظرهــم خبر تذيـعه " كنال سور
" عن الهجرة السرية، لا يكلفون أنفسهم التحول إلى القنوات الوطنية، غالبا
ما ينسون وجودها، تحدثت القناة الإسبانية عن قاربين لمهاجرين سريين تبحث
عنهم السلطات الإسبانية، عبأت لذلك مروحيتين تحلق فوق المتوسط بحثا عن
المكلومين الضائعين، تريد رفع رقم الألف كعدد ممن تم إنقاذهم في سنة واحدة
عندما كانوا على وشك الغرق ..
دالت الوقائع وبدأت الأحداث تتوالى على مسامع الساعدي، ابـــتدأ
هو يبحث عن شبكة للتهجير الطوعي تنقله إلى الضفة الأخرى، بـــدأ يبحث عن
قارب يتخذه مطية لتحقيق أحلامه وآماله، شرع يجد فـــــي كل الجهات، يرتاد
المقاهي الشعبية ويسأل، يقصد مقاهي " مـرقالة " عند شاطئ جميل لا تزال
تدنسه جماعة طنجة المدينة بإهمالها لـــــه، يحاول إيجاد خيط يمسك به ،
يروم ميناء طنجة ويلجه باحثا، تصطدم عيناه بشبيبة احترق جلد وجهها من فرط
التعرض لأشعة الشـــــــمس ونقص السوائل، شبيبة في العقد الثاني من عمرها،
شبيبة لا تــــــزال طفلة تغص بها جنبات الميناء، تمارس التسول والبحث في
القمامـــة، تعمد إلى السرقة كلما تسنى لها ذلك، تنام حيثما اتفق، يلفها
الوســــخ، ويغشاها الضعف والهزال ..
دخل فإذا بشاحنة محملة بالحلزون البري رابضة على رصـــــيف
الميناء، حلزون رفع الرأس عاليا، يوجد منه أكثر من ستمائة نــــوع، منه
أنواع نادرة لا توجد إلا في المغرب، ينتج ويصدر دون مزاحــــم على الرتبة
الأولى عالميا، تعلق عليه آمال، يصنع مستقبل البطالـــين قريبا، إلى جوار
الشاحنة أربعة شبان تم إخراجهم من بين حمولتهـــا، سأل الشرطي أحدهم عن
وطنه فكان القصر الكبير، سأله عما إذا كان متزوجا فأجاب : أنا أب لأربعة
أطفال، رأى ذلك وسمعه، ذكرتـــــــه بقصة الشاحنة المحملة بالحلزون البري
التي كان بها مهاجر ســـري واحد ..
مشى في اتجاه " صــوباصــطا " ينوي شراء سمك مــن ســـــوق
الجملة، بينما هو يسير سمع صفارة سيارة الإسعاف، التفت ليراهـا تدخل
المنطقة الحرة، استمر يخطو حتى كان قاب قوسين أو أدنى من دخول سوق الجملة،
فسمع صفارة لسيارة إسعاف أخرى، عـــرف أن الأمر جلل، تبادر إلى ذهنه أن
هناك ما يتعلق بالهجرة السرية، تحرك نحو " زونافرانكا "، وما كاد يصل
البوابة حتى فزع من سرعــــــة السيارة الخارجة، عرف أن هــناك شــيئا ما
قــد حدث فــي معــمل " طروجاكو " استطلع مستنتجا إصابة مدير بالشركة، أصيب
بنزيـــف دموي جلب سيارتين للإسعاف نقل على متن واحدة منهما إلى مستـشفى
طنجـيس ثم قضى فيه .. حمـلوه إلى مســتودع الأمـوات بمــستـشـفى " دوق دو
طوفال "..
وفي الغد ذهب العمال والعاملات لإلقاء نظرة أخيرة على مديرهـم
الذي قضى، وعند خروجهم أفواجا وعلى دفعات خرجت " زكـــية " لتجد الساعدي
كعادته عند جهة من جهات الميناء، تعرفت إليه فبــنت معه أحلاما وآمالا تهدف
الاقتران بالزواج، كانت من مدينة سيدي قاسـم تعيل أبويها وإخوتها، لقيهـا
الـساعدي عند البوابـة فطلبت مـنه مصاحبتها، ثم استجاب نزولا عند رغبتها ..
دخل مستودع الأموات مع حبيبته الموعودة، وما كاد يطأ أرضــية
المشرحة حتى فاجأه دوار في رأسه وأصيب بـ " دوخة "، تنــبعث من المستودع
روائح كريهة تصـدر عـمن لهـم حرمــة لا يحترمـهـا الأحياء، فهل لا أسف ؟
ربما ! نسوا أنهم سيدادون إن عاجلا أو آجلا ويعلم الله مدى ما ستلقاه جثثهم
من إهمال ولا مبالاة، وربمـا لا ! رأى على أرضية المشرحة سبـع جثث، واحـدة
لرجل يلبـس بذلـة وربطــة عنق هو المدير في شركة طروجاكو، إلى جواره أنثى
وخمسة ذكور، انتشلوا جميعا من شاطئ الولي الصالح سيدي قاسم قرب رأس سبا
رطل، رمى بهــم البحر وألقى بجثـثهم علــى شواطئه، غرقوا قبل أن تتحقــق
أحلامــهم بعبور المتوسط، يلفهم الرمل وتغشى وجوههــم معالــم وآثــــار
لآلام وضيق وشدة وقهر، يعلم الله ما عانوه حين كانوا يغرقون، كان المـاء
يدخل أفواههم ويستقر في معدهم ويملأ رئاتهم حتى اختنقوا وماتوا غرقا ..
هام الساعدي لا يلوي على شيء، هام في أجواء الهجرة السريــــة
يتأمل، يكاد يتعظ لولا الضجيج، عاد إلى واقعه الموضوعي جراء أصوات اقتحمت
عليه سمعــه، أصوات تستنكر وضعية المديــر، لــم تتقبل رؤيته في موضعــه من
أرضيــة المستودع، ولكنهــا لم تــــبال بإخوان لهم لفظتهم مياه " أشـقـار
"، اضطرب المستشفــى وتحـــرك بسرعة حتى تم وضع المدير في تابوت خشبي، ثم
وضع فوق ســــدة إلى حين نقله ..
خرج من المستودع مخلفا وراءه جثثا لمهاجرين سريين، جثثا لم تلق
عناية ، أو تحظى برعايـة، حتى الشيـطان تمنى لأصحابها أن لو كانوا هودا أو
نصارى حتى يثيروا شفقة الغرب ..
جمع مالا كثيرا حق لـه أن يكون ثــروة، جد فــي طلب من يحمـله
إلـى إسبانيا حتى عثر عليه، ضرب له موعدا في ليــلة مظلمــة عـــند "
الحجرة المـمـسـوخـة "، يطل عليها مخفر لحــرس السواحــل مــن الجيش ..
أقبلت ليلة الإقلاع، فالمكان بجوار مقلاع مهجور، نشط عند
بـــناء الميناء عندما كانت طنجة مدينة دولية، نزلت شبيبة مفطومة إلا مـــن
العناية والاهتمام، نزلت الشاطئ الصخري مكتنزة إلا من الاكـــتناز، مرت
محاذية للمخفر، تحرك معهم حارسان يرافقانهم، وجدوا قاربـــا راسيا فوق
اليابسة وإلى جانبه قارب آخر يصغره ، هموا بإدخالهــما البحر ولكن قائد
القارب منعهم، أخــرج حبلا وسكينــا، شــرع يقطــع الحبل بمقدار مترين لكل
مهاجر، ثم شرع يربط أيديهــم إلى الخــلـف ويقول : " شْحالْ من مـرّة
هجّْرتْ ناسْ وحــين وصَّلتم لبــَرّْ الأمـــان اعتدوا علــي وخْداو مالي
لي خْديتو منّـوم "، وافقه الحارسان علـى فعلته بإيماءة لافتة، وطفقا
يتبادلان الحديث عن موطنهم بـ " قلعة مكونة " وقائد القارب يحدثهما عن عمه
الذي لا يزال يقطن القلعة، أخبرهم أنه قدم إلى طنجة منذ مدة قصـيرة ولم يجد
فيها عمـلا غــير تهريب المهاجرين ..
أدخل القارب إلى البحر يجر معه قاربا صغيرا، ساعده الــساعدي
وشاب مكتنز قليلا عنه، وحين رسا على الماء وتحرك مندفعا إلى الأعماق
قيّدهما قائد المركب رغم رفضهما أو يغادرا في الحـال وسباحة.. مخر العباب
قاصدا الشمال، يسير وسط بحر خلا مــن الأسماك بسبب القنابل اليدوية، قنابل
بدائية ولكنها تقتل كل شيء في قاع البحر، سار ووجهته كاديس .. قضوا ثلاث
ساعات ومسافة الفصل بين سرعة نجم الحياة والحياة لا يسمعون غير صوت المحرك
و’عبّار الفضاء ، لا يرون غير النجوم في السماء المتلألئة، تعمق بهم قاربهم
في المتوسط حتى دخل المياه الإقليمـية لأندلس مفقودة، عندهــا أوقــف "
الرونكي " محرك قاربــه، ســأله المهاجرون عن علّة ذلك، فكشف لهم عن نيته،
وطالبهم بالهدوء، لقد اقتربوا من شواطئ إسبانيا، ولا بد من استبدال القارب،
شرع يفـــــك المحرك، نقله إلى القارب الصغير، وثبته حيث يجب أن يثبــت
وهـــم ينظرون ،لا يكادون يستبينون من شدة الظلمة، أشعل الرونكي محــرك
قاربه، وابتدأ هديـره يقتحم الأسماع، ثم قصّ الحبل الذي يربطــه بالقارب
وتركه لبينونته ينكأ، وبحمولته ينوء، وأسرع نحو الجنوب، وتركهم للضياع ..
كان البحر ساعتها قد تحرك يبغي جزرا، يلقي بكــل شيء يطفـــو
على سطحه، يدفع به إلى السواحل والشواطئ، يرمي بحمولته الميـتة إلى البر،
سار بهم قاربهم، تعطلت وظيفة نخاع عظامهم حتى دنا وأصبح على مرمى البصر،
شوهد من طرف سلطات خفر السواحل الإسبانية، فقصد بزورق سريع، ربطوه، ثم ’جرّ
إلى ميناء الجزيرة الخضراء، وبعد التحقيق معهم ألقوا بهم في باخرة
للمسافرين وأعادوهم إلى طنجة، إلى ميناء شـهد ميلادهم من جديد ..
فــرح المهاجرون السريـون بحياتهم الجـديدة، رضوا لأنفسهم
السجن، فضلوه على الغرق ميلا إلى حب البقاء ،اخـتاروه مرغمـين على الضياع
في قاع البحر ..
بعد انقضاء مدة سجنه، خرج الساعـدي لا يمـلك شيئا، قــبع حيـث
الضياع على شكل آخر، لــو قضى فيه المرء عمــره كله لمــا ظـــفر بصنعة أو
مستوى ثقافي كيفــما كان، لاحقــه الوهــن، أصابــه الـــهمّ والحزن، بحث
عن عمل في الأوراش دون جدوى، استعصى علــــيه إيجاد من يستغل جهده ولو بعمل
شاق، حصل ركود في قطاع البـــناء جراء الحملة التطهيرية للمتاجريـن في
المخـدرات، طــالت أناسا يعــملون لحــساب رجالات نافــذة كتــبــت
أســماؤهــم بالـمـرصــــد الجيوسياسي، يقيمون في عافية بعدما أنابوا قسرا
من يدخل السجن بدلا عنهم.. أعياه الطواف والدوران في جميع جهات طنجة،
وأخــيرا استقر على ضرورة مغادرة المدينة إلى بولمان، إلى مسقــط رأســه
ومرتع طفولته ..
دال به الزمان حتى أحاله إلى شاب وسخ، شاب يعاني من ســــوء
التغذية، يذبل مثل النبتة الجافة، لم يعد مكتنزا كما كان، ولكن أمارات
اكتنازه لا تزال بادية عليه ولافتة، لا تزال عضلاته تستطعم النسيج العضلي
لقلبه رغم عدم معاشرته للحشرة الكريمة، يذهب إلى المحطة الطرقية لعله يجد
من يحمله، يقضي معظم وقته فيها ثم يذهب لينام في العراء ..
صار كالصفيف من كثر تعرضه للشمس، أضحى لا يقبل تصيّفا في طنجة
أو تشتّيا، صارت واقعته كابوسا يلاحقه في نومه ويقظــته، إذا رمق البحــر
اضــطرب وانفــعل وعرضت عليــه للتو المــــشاهد والحوادث، يراها وهو يسير،
يراها وهو يقف، يراها إذا قام أو قعــد، تلازمه في الحلم واليقظة حتى أضحت
عقدة نفسية ..
يئس وضاقت به الدنيا، جاع وتعرى ومرض، سكنته هواجـــــس، أنهكته
وكادت تقضي عليه، لم يعد يحتمل، ضاع عنه صبره وسئمت منه مصا برته، ثابر
في محاولة الرجوع إلى بلده ..
صبيحة يوم مشرق إلا عليه التقى بقاعة الانتظار عـند المحطة
الطرقية برجل من مدينة فاس، تودّد إليه حتى فاتحه في ملاطفة، قبـل الساعدي
تودّده وملاطفته، عرض عليه أن يذهب معه إلى بيــته، كان بيتا في عمارة،
يملك بها شقة يرتادها في فصل الصيف، أدخله شقّــته ورحّب به وفسح له المجال
في أخذ راحته، استحمّ، ثم قدّم له الطعام والشراب ، زوّده بلباس أنيق، وسمر
معه ..
حين جنّ اليل تغيرت ملامح الساعدي، وكاد يفقــد أعصابه، لم
تتغير لما لاقاه من عذاب ومعاناة، لم تتغير للمأساة التي عايشها مع أبرياء
كادوا يلقون حتفهم لولا عناية الله تعالى، لم يتغير لهـذا أو ذاك، بل تغير
منفعلا بسبب سلوك صاحب الشقّة، طلب منه أن يعامله كما لو كان امرأة، ألحّ
عليه في ذلك إلحاحا شديدا، بدا أمامه كما لو كان مدمنا على ,مخدِّر مَثل
بين يديه يريد تذوَّقه ..
قبل الساعدي عرضه على مضض، بات اليلة معه كما لو كان مــع زكية،
بات كما لو دخل بعـروس أنعم الله بها علـيه بسبب الهـجرة السرية، بات يليط
بسوءة مضيفه ..
في الصباح الباكر غادر بسريرة توبِّخه على فعلته، تعيب عليـه
استجابته، توخزه كما لو كانت إبرة رفيعة، أو سكينا حادة وتقول له : " ليـتك
مِتَّ في البوغاز، ليتك قضيت فيه " .
المهاجر الصغير
" موحا " وحيد أبويه. شاب صغير لا يزال طفلا، قضى بعـض طفولته
في بادية " الراشدية "، لطالما غدا وراح بين ربوع صحراء ساحرة، صحراء تنبت
الشــوك والتمـر، بها واحات خضراء تعـجز ريشة الرسام عن محاكاتها، آنــس
الكلاب والقطط، رعــى الجمال والمعز على صغره ..
يبدو موحا وسيما تحوطه براءة غير مصطنعة، يحمل بين جنـبيه قلبا
صادقا وعقلا ساذجا، ’أدخــل المدرسة بغيــة محاربة الأميــة، لــم يستمرّ
على تلمذته، لم يكن هــناك ما يشجِّع على مواصلـة الدراســة والمطالعة،
تعلّم القليل القليل، لم يسعفه إلا في كتابه اسمه، وبالكاد عنوانه ..
في صيف تمّ التأريخ له قبل سقوط الطفل الدرّة شهيـدا، بعد قمم
عربية أوحت بضــرورة إخراج علــم جديد هو علــم قراءة الوجوه الصفيقة، قدم
إلي منطقة الراشدية مهاجـرون مغاربة، مهاجرون موفورون، بمظهرهم أنيقون،
يجرّون معهم دنياهــم، يصطحـبون سيارات وأمتعة، بيد أطفالهم الحلوى، وأنواع
كثيرة من الشوكولاته، يتذوّقها موحا حين ’تـقدَّم لــه، يهيــم بلذتها
وينتشي بطعمها، حفل بأخبارهم حتى سكنت دماغه الصغيـر صورة بناها في
مخيـلته، صورة يراها في نومه ويقظته، ’تحرِّك لسانه ليعجل بها..
سكنته هواجس بدأت تقضّ مضجعه، أطل على المراهقة كما يطل المغامر
على جسر ينوي القـفــز منه، دفــعته حالتــه إلى ارتياد التجمّعات، ارتاد
المقاهي يسترق منها السمع كالجنيِّ في الغمام، لم يكن حديث الشباب إلا عن
إسبانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا.. تطلّعاتهم إلي حيث بحبوحة العيــش
والسعادة، طفق يســأل عــــن السبيل، يساءل نفسه عن الأمل، يأمر دخيلته
بعدم الإعلان، يـهمّ بالمحاولة ولكنه يخاف التجربة.. لم يكن يجرؤ على
مشاركة الكـبار في أحاديثهم، كانوا ينهرونه، ويرفضون مجالسته لهم لصغر سنه
..
أصر على اقتناص الأخبار، دأب على فضوله حتى كان له ما أراد،
اتضحت له صورة الهجرة السريــة، عــرف كيـف يخــوض التجربة بعدما رسمها
الراشديون الكبار في ذهنه، تخيَّلَ صورة مدينة طنجة، بنى في رأسه الغضّ
صورا عن محطتها الطرقية، عن مينائها وبوغازها ..
فاتح أباه بشأن مـا يريد، جسّ عاطفته مستطلعا درجة انفعاله،
فنهره رأسا ولطمه على خده، ثم أخذه من أذنه وشرع يعنفه.. موحا وحيده
الوحيد، وأمله في الاستخلاف على الزرع والضرع .. لم يستسغ مجرد الحديث عن
بعد ابنه، فكيف إذن لو صار حقيقة ؟ شكاه أمه بندم حـين كاد ’يغمى علـيها
من وقع النبأ، كانت ترى مثلـما يرى زوجها وأكثر..
صار موحا طموحا، يتقدم في الزمان مسرعا ويتمنى لو كان عند الثقب
الأسود، يصرّ على تذوّق ما يرى ويشاهد، لا يرى فيه المستحيل، بدأ يعدّ له،
شرع يجمع المال لسفره القادم، يجمع البيض، يخفي بعضه حتى يجمع منه
العـشرات، ثم يذهب به إلى الـسوق ليـبيعه في غفلة عن والـديه، يهيئ لسـفره
الموعود وكله أمل وتفاؤل، لا يلفت نظر أحد، أو يدع رغبته تعلن لفرد ..
قدم اليوم الموعود يقتطع من أطرافه كما لو كان أخطبوطا تصحّر
قاع بحره، ألحّ السفر على موحا بعدما جمع ما يكفيه لرحلته من الراشدية إلى
طنجة مع خمسين درهما فاضلة عن ثمن التذكرة دون اعتبار للإياب، وكيف يحـسب
حـسابه للعودة خالي الوفاض وقد أزمع على العودة غانما ؟.
تسلل صباحا من قريته، وذهب يستقل الحافلة تاركا أباه وأمه على
حال من الاطمئنان تعوداها نحوه..
ركب متحركا نحو مدينة طنجة، نحو مدينة باكية شاكية، تشك في
نوايا المسؤولين إن هم وعدوا، لا يملكون وعد الحر، ولا حتى وعد النساء،
يتطلع إليها الراشدي الصغير، يحس نحوها بحنين كما لو كان من مواليدها أو
قاطنيها الأوابين، ينظر من خلال زجاج النافذة إلى حركة المرور، لا تثير
انتباهه طبيعة البلد الجميلة، أو منظر حقولها المثخنة، لم يكترث عند رؤيته
أطفالا صغارا من بنين وبنات، يراهـم متوجهين نحو حقول الموز المغطاة،
يعملون فيها ويتقاضون عن أعمالهم عشرين درهما من الشروق حتى الغروب،
يستغلهم أرباب جشعون، وملاّكون لحقوقهم منكرون ..
أشرف موحا على طنجة، أسره منظر محيطها الأزرق، يلقي بنظره في
الأفق البعيد محاولا العـثور على الضفة الأخرى فلا يجدها، يعيد النظر مرة
تلو أخرى فينقلب إليه البصر خاسـئا وهــو حسير، لبد بمقعده جالسا لا يتحرك،
لوى عنـقه باتجاه الأطلـسي يستطلع ما فيه بلهف شديد، أطال وأطال وهو محاط،
غشيته أحاسيس لم يعرفها قطّ، غاص في أجواء المحيط بمائه وسمائه دون استشعار
للمحيط الآخر، محيط من الركاب الذين تبرّموا من سلوكه، بدا علهم التذمّر
حتى أنــهى صبرهم، ابتدءوا يشتكون من تسلط أشعة الشمس القوية، إزاحة موحا
لستار النافلة أحدث تظلما لم يكن يعه في سكونه، كانت الشمس الذهبية تسير
إلى مغيبها أفقيا، تجري لمستقر لها تحدد في أقصى الشمال الغربي من على ظهر
طَنْجتنا المستلقية ..
نزل بمحطة طنجة الطرقية، وطئت قدماه مدينة عريقـة، سماهـا الذكر
الحكيم مجمع البحرين، وسماها اليونانيون أعمدة هرقل، باركتها أقدام موسى
والرجل الصالح، كانـت موطـن الغلاميـن اليتيمأين الذين أقام جدارهمـا
الرجـل الصالح بقبيـلـة " أكْلا " حيث منتزه " الرميلات " ..
نزل الحافلة لا يعرف أيّ جهة يقصد، ولا أي سبيل يتبع، يريد
الميناء ولكنه يجهل الطريق إليه، بذهنه صور له محفورة، ولكنها ناقصة، خطا
خطوات نحو قاعة الانتظار، ثم ’شدّ إلى مشهد ناداه، ومظهر صادر عن أناس
دعاه، أسرع الخطى نحو حافلة تحمل رقما أوروبيا، تعمل فــي خط رابط بين
الدار البيضاء وبروكسيل عبر طنجة يسوقها " الروبـيو " الطيب، رأى الناس
تنحني وكأنها تبحث عن شيء فقدته، أو مصاب تحت الحافلة قد رمقته، اندفع
مستطلعا وانحنى متفحصا دون حصيلة، رأى موظفي المحطة الطرقية والمسئولين
عنها ينادون مسمعين "خْروجْ ، خْروج ، يالله خْروج "، سمع النداء ولا
منادى، دخل سمعه خبر وجود صبي مختبئ تحت الحافلة، يريد هو أيضا مغادرة
بلـده ، يبغي الهجرة السرية بواسطة الحافلة، لـم يفهــم موحا ما يجـري
لسذاجته، وبعد فترة وسط القيل والقال، والهرج والمرج قــدم رجل نحيف، بمعطف
أنيق، وربطة عنق تطوانية، تقدّم نحو الحافلة وسط تقدير الجميع ، ظلوا
يفسحون له المجال وهــو متقدم، يلقى السمــع والطاعة حين إشاراتـه آمرا،
حضر ومعه حل سحري للمشكـلة القائمة، تستوي عنده المشاكل ولو كانت بحجم
الشعرة إذ يحلّـها، والمشاكل بحجم الجبل إذ يذلّلها، بيده قنينة ظنَّ موحا
أنه إنما اشتراها ليحملها إلى بيته ولم يجدْ وقتا للتخلص منها، استبقاها
دون إرادة منه، لامس الحافلة وانحنى قرب العجلة الأمامية، يمسك بيمناه
القنيـنة، ويدخل مقدمة رأسه مادّا يده إلى الداخل، ثم شرع يرشّ، رش بها
الصـبي المختبئ مثلما ’يرشّ الذباب والبعوض، رمى الرذاذ نحو الطفل، لم ينزع
سبابته عــن موضع الضغط حتى بدأ يسمع الترجّي والاستشفاع والاستعطاف ..
’سمع صوت الصبي يرد على " بايكون " : " هانا خارْجْ ، هانا
خارْجْ " يرددها كثيرا كما يردد بايكون : " خْروجْ، خْروجْ "، أكـثر من رش
الصبي بالمبيد وكأنه حشرة، خنقته الرائحة الكريهة، ’سمع على إثرها صوت
الزفير والسعال، وأخيرا خرج، خرج الطفل من تحت الحافلة، بدا للناظر طفلا
صغيرا وسخا منهوكا خائرا، بدا خائفا مرهوبا محاطا، لم يكن صربيا لأم من
إحدى خمسة آلاف بوسنية مغتصبة رما به القدر في طنجة، أو أم لكثرة استمتاع
الرجال بها عجزت عن إلحاقه بأبيه، أخذه حارس المحطة من يده وسار به إلى
الشرطة، ثم سلمه، سيق وسط هالة توحي بأنه مجرم مدان عن جدارة، ولم لا ؟
ربما يكون ضحية من الضحايا، وربما لا ..
وقف موحا مشدوها، أخذته الدهشة والعجب، لبد مستغربا علـى هيئة
نسي معها هدفه وضالّته، ثم تحرك وخرج.. لا تفارق ذهنه أول صورة أبت إلا أن
تحفر في ذاكرته معالمها، ’أعطي درسا أوليا عن الهجرة السرية..
تسكع في طرقات طنجة وأحيائها، يتفحص كل ما مر به، ينظر إلــى
العمارات الشاهقــة، ويعجب بمعمــارها الــذي أبدعته عقلـية المهندسين
الشباب الذي نجا من البطالة، لم يكن يعرف أن بعضا منها وقف منتصبا وسط أرض
تقرر أن تكون مناطق خضراء، مناطق سرقها مستشاروا ومسؤولوا المدينة، لم يكن
يحس بحسرة، لم يك يشكو لأنه مزداد وسط فضاء نقي صاف، ذو بيئة نظيفة بعمران
قليل.. هام على وجهه حتى وقف عنــد مدخــل ميناء طنجــة، شاهـــد رجال
الشرطة وهم يمنعون بعض المارين من الدخـول، ويسمحـون للبعض الآخر، لم يعرف
علة ذلك، تقدم يريد الدخول فأوقفه الشرطي ومنعه من الولوج، رجع القهقرى،
وقف حيث العــشرات مــن ’سمّـار الوجوه المغاربة وقفوا، استطلع أخبارهم
فعرف أنهم مثله يريدون الهجرة إلى الضفة الأخرى، رأى حركة من جهة أخرى، عرف
أنها لمهربي السجائر الأمريكية والويسكي، لا يدخلون من باب المـيناء، ولا
يخرجون منه، قلّدهم، ثم دخل يخطو خطوات عدّدها سارد قصته فكانت بعدد حروف
اسمه، واسم حيوان أليف لا يجتر حتى لـفت نظره شاحنة محملة بالحلزون البري
ربضت فوق رصـيف المـيناء عند مدخله، رآها وقد تجمع حولها الناس وهي متخمة،
تقدم مستطلعا ليجد شابا في عنفوان شبابه قد أخرجه الشرطي من بين حمولتها،
اختبأ فيها قاصدا وجهتها، لبد وســط الحلزون لعله يحظى بعبور المتوسط إلى
الأندلـس، نظر إليه وهــو في حالة متسخة أخفت معالمه، لباســه وجســمه مغطى
بالسائل الـلزج الذي يـفرزه الحلزون، لو ’سلِّطت عليه الكاميرا لظن أنه في
معرض تصوير فيـلم عن الرعب أو الحيوانات الخيالية، أوقفــه الشرطي، ثم جيء
بالماء الصافي وابتدأ الرش، شرعــوا يرشونه بالماء الصافي حتى تتبـين
معالمه وتتضح صورة وجهه ..
تركهم موحا وذهب، ولكنه أخطأ الاتجــاه ليجد نفســه عند مدخــل
المنطقة الحرة، كانت بوابتها ساعتها مفتوحة على مصراعيها، تغص بالفتيات
الداخلات والخارجات، فالوقت وقت استراحة، تخرج آلاف العامـلات لالتقاط نفسٍ
يمّم شطر الأمـل في الزوج المفـقود، فتيات يبس جلدهنّ، ويكاد ييبس قلبهنّ،
يقضين ساعات طـوال على آلات الخياطة والحدادة .. مكافحات يتقطعن على
عنوستهن وقد تسبّب فيها الفقر والحرمان، ’يقمن أود أسر بأكملها، أسر أغـلب
أفرادها ذكور حالمون ينتظرون إكرامية من أخواتهن أو أمهاتهن؛ خمسة دراهـم
أو عشرة للجلوس في المقاهي واحتسـاء الشاي والقهوة، لشــراء مالبورو بـ "
الديطاي "، تسلل موحا مع الداخلات والداخلين، مشى في رحابها ودار، ثم دار
لا يجد مخرجا إلا من حيث دخل، ثم تقدم ليخرج، وما أن حاذى جانبه الأيمن
معمل طروجاكو حتى شاهـد ركضا من الفتيات والنساء وهن يصرخن، رآهن يقصدن
حاوية ’تـجرّ من طرف شاحنة قد ’تركت رابضة حتى حين، شاهدهن وهنّ واقـفات
عند " الرِّمولك " ’يشرن إليه، تقدم مستطلعا فلم يهتد لشيء، ولكن تناهى إلى
سمعه صراخ وصياح، ظلت أذناه تلتقطان ذبذبات صـادرة من داخل الحاوية لا
يستبينها، سمع ضربا على جدارها من الداخل، شاهد رجال الجمارك يهرعون نحو
مكان التجمع، اتصلوا بشرطة الميناء والسلطات العمومية، اضطرب الناس وحاروا
بشأن المستغيث، اتصلوا بالشركات لعل سائق الشاحنة العملاقة يكون بإحداها
فيحل المشكلة، تحركوا بغية فتح باب الحاوية الصلب فلم يفلحوا، راموا إنقاذ
حياة القابع في الحاوية، استمر الحال ثواني بعدد أطول أبجدية في العالم،
ودقائق بأقصرها حتى انبرى شاب معدنوسي يشير عليهم باستعمال القاطع الغازي
.. تمّ إحداث ثقـب بواسطة الشاليمو، وعبر تلك الفتحة تسرب الأكسيجين وحال
دون اختناق الضحية، وبعد فترة وجيزة فتحت الحاوية فأخرج منها الـشاب وتبين
أن بها غيره، كانوا أربعة، وضع القيد في أيديهم وتم اقـتيادهم إلى مخفر
الشرطة، إلى كوميساريا شهدت عذاب مهاجر غير سري من هولندا، ’عذِّب فيه ثم
فارق الحياة بسجن " ساتفـيلاج "، أودع السجن شرطي متهم بقتل البريء، ويروي
السجناء أن الضحية قضى في السجن جراء تعذيب السجانين له ..
تمنى القابعون في الحاوية أن يوفقوا في هجرة سرية، يريدون ترك
بلدهم ليغنموا في غيرها، تمنوا أن يرجعوا موفورين بـرؤوس عالية بطلة، كان
هذا أملهم كما هو أمل كل راغب في الهجرة السرية، قبعوا فيها ’وكوفاً على
خوفهم وضجرهم ..
نظر موحا لما جرى بين يديه للمرة الثانية والثالثة، أخذ دروسا
مجّانية، وعندها بدأت تقل حماسته، انتبه إلى معدته الخاوية منذ وقـت طويل،
ظل في نسيان تام لها، أخرج الخمسين درهما الفاضلة عن تذكرة سفره، واشترى
بها بعض ما يقيم أوده ..
قضى شهرين كاملين منذ مغادرته الراشدية، ينام في الحدائـق
العمومية مفترشا الكارطون، وملتحفا بالسماء، وحين ينهض يعمد إلى التسول
فيقتات قليلا عليه، يبحث أحيانا في حاويات الزبالة، يلتقط منها الفضلات،
صار حاله كمن كان مجنونا لا يعرف إلى النظافــة سبيلا، الناظر إليه يتقزز
من رؤيته، والقريب منه ينفر من رائحته، لم يسعفه عقله حتى في حثِّه على أخذ
حمّام من البحر، أو من حنفية في حيّ شعبي، دخله اليأس، وهزمه القنوط، حاول
وحاول من غـير نتيجة، رأى الناس تذهب في هجرات سرية ممتطية قوارب، ولكن
مقابل مال مدفوع سلفا، وأنىّ له هو بالمال، لم يفكر في التوجه إلى
المقاولات الصغرى أو الكبرى ليشتغل، ثم يجمع المال، لم يفعل ما يفعله
القادمون إلى طنجة رغم الاستغلال البشع الذي يلقونه، لا يبالون بشيء
ماداموا يحظون بنوم مجّاني في مكان عملهم، ينامون في ورشات توفر عليهم أجرة
الكراء، وتغنيهم عن صعوبة الحصول عليه ..
بدأ موحا يفكر في العودة إلى وطنه الراشدية، صارت تداعبه ذكريات
عن " تِزّي تَزْلْكينْ " و" ويجْدايْدْ "، لطالما صحبه أبوه إلى " ريشْ
براسْ "، لعب في رحاب " أرْفودْ "، لم تغب عن ذهنـه صورة " الــضايهْ " و "
عـِـرْقْ شِـيـبّي " و" عرق زْنايْبـي " و " جْنايْدي "، بدأ يشم رائحة
الصحراء من داخله، انبعث من كيانه شيء مخزَّن فيه ..
شرع موحا يرتاد المحطة الطرقية، يلزمها معظم الوقت بغية العثور
على ’مشفق يحمله إلى الراشدية، يقضي معظم وقته جالسا فـي قاعة الانتظار
يراقب صغائر الأمور وكبائرها، إذا أظلم اليل يشاهــد حركة غير عادية، تتحرك
المحطة بمن فيها، بين جنباتها يتلاقـى الناس، يرتادها الشباب والشابات ربما
طلبا للحماية، أو أملا فـي مغادرة طنجة بوسيلة أو أخرى، شباب يظهر عليهم
الضياع، ويرتسـم على قسمات وجوههم السخط والإحباط ..
في ليلة أبت إلا أن تزداد عقب يوم شهد إلقاء البحر لجثة مهاجر
سري بشاطئ " واد آليان "، ألقاه البحر جثة هامدة، جثة شاب في مقتبل العمر،
تعرّى من لباسه إلا من سروال جينز ضاق عنه بسبب الانتفاخ الذي تعرض له
جسمه، يرتدي حذاء من نوع " السبادرين " قد كتبت عليه عبارة : " الحْريكْ
".. بينما موحا إلى جوار شاب بـيده رواية انتفاضة الجياع يقرأها، جلس إلى
جانبه الأيسر رجل في الأربعينات من عمره، أخرج علبة السجائر الأمريكية
وقدّم له واحدة منها فتسلّمها، انتشى بمحتوياتها من المواد الكيماوية
القاتلـة للحشرات، فكر موحا في الرجل وأحس بميل إليه، انطلق نحو هذا الموقف
من سذاجته وصفاء سريرته، داخله إحساس أوصله إلـى الإقرار بإمكانية مساعدته
له، فتودد إليه، سأله عن اسمه وبلده، ثم عرّفه بمسقط رأسه وكان "
تارودانْتْ "، يقيم بطنجة منذ مـدة، يعمل حارسا بفيلا عند منطقة السوريين،
فاتحه موحا برغبته فوعـده، طلب منه مرافقته إلى محل سكناه، دعاه ليتخلص من
الأوسـاخ ويرتاح من الإعياء والإرهاق، ينظف جسمه ويأكل ويشرب ويـنام، ثم
في الغد يذهب إلى حال سبيله بعدما يزوده بثمن التذكرة ..
شك موحا في نوايا الرجل، ولكنه لم يجد حيلة يحتمي بها، رافقـه
إلى بيته ثم قضى معه ليلته ..
وجاء الغد مثقلا بظلم الناس للناس، لم يغادر فيه طنجة، وجد نفسه
في نفس المكان الذي تعرّف فيه على الرّوداني، ظلّ في مقــعده ’منكَّس الرأس
حزينا، يطيل التفكير ولا تفكير، يتوغل في التأمـل ولا تأمل، بينما هو كذلك
دخل المحطة مضيفه، ولكنه لم يقصده، قـصد راغبا آخر في الهجرة السرية؛ وما
أكثرهم، لاحظه يقوم بنفس الـدور، يستدرج ضحيته للمبيت عنده كما فعل معه، ثم
يغادر في اليوم التالي أو الذي يليه، يغادر الفيلا ويغادر طنجة وقد اكتنز
..
اضطر موحا في النهاية أن يستسلم لرغبة التاروداني، ذهب معـه إلى
الفيلا وبات ليلته يقوم بدور المرأة الجنسي، بات يلاط به، ثم غادر بعد
ثلاثة أيام من الشذوذ ثمنا، استقل الحافلة ومعه دراهم فاضلة بعدد زوج
الأعصاب السيسائية، ذهب إلى الراشدية وهو ساخط ناقم لا يريد أن يعرف بقصته
أحد .
قارب الموت
أحمد شاب وسيم في العقد الثاني من عمره، عمره نصف عمر الإسكندر
المقدوني، يفور شبابا، ويفيض فتوة، يملأ محيطه نشاطا وحيوية، يخجل من
اقتحام العقد الثالث، ’تعْثره وتبطئه أشهر كبيسة، عيناه متفتحتان على
الدنيا تراها حلوة نضرة، قلبه وجس خيفة عــلـى مصيره، دماغه يبني الآمال
والأحلام ولا يلبث أن يحطمها، يفقد الثقة في مجتمعه ودولته، يحسب نفسه
مهملا من طرفها، لا تعبأ به، أو تحفل بمستقبله ..
ينتمي أحمد إلى أسرة فقيرة، فقرها فقر بظاهرة الإلزام فرضت فرضا
ليس من الله تعالى، يمارسها المجتمع وتمارسها الدولة، تعيـش أسرته على
الكفاف، وتقف عند منعطف العفاف، أعضاؤها مـن الذكور ستة، ومن الإناث خمس،
أصغرهم أحمد ..
شب أحمد بحي مبروكة خمسة ببني مكادة بطنجة، نشأ في زنقة ثكلى
ثيبها الظلم، وأهلكها حيف جماعة الشرف، يسكن دارا مكترية مجهولة الرقم،
معلومة اللقب، تقف داره إلى جانب أخواتها من الدور، تقف إلى جانب دار جار
له بات جائعا، وآخر أمسى سقيما، والثالث أضحى ناقما، والرابع ظل واقفا كل
شبابه إلى الحيطـان ينتظر مخاض الزمــان لاستــقبال مولود مســمى في الأزل
بالحـيـاء، ينتظره على أحرّ من محرك سيارة قضى ليلته دافعا، يستسيــغ
الانتظار قرنا إن عاشه، ينتظره لعله يسعده بعمل يحرره من البطالة والفقر
وسخرية الحيطان ..
نشأ أحمد وسط أزقة ضيقة ضاقت أول ما ضاقت في مخيــلة مصمميها،
شكّلت هذه الأزقة بيئة أحمد، ظل يلعب فيـها ويتعلم الآداب والأخلاق
الميدانية، كان وسطه وسطا محبوكا بأعراف وتقاليد تنقسم على نفسها بشأن
الحسن والقبح في إصدار الأحـكام، إذا مررت في زنقة وكان ذلك صيفا وبعد
العشاء أخذك الحياء وأسرك سلطانه، هذا إذا كنت ممن يستحيون، تمر غاضا طرفك،
قاصدا في مشيتك، وأما إذا كنت ممن يعوزهم الحياء وهو في بيئة أحمد من
الإيمان فإنك تؤذي وتؤذَى، تمر بها وقد امتلأت أبـواب الدور بالجالسات إلى
الدّرج يتبادلن الحديث، تجلس النساء والفتيات على حد سواء كل مع قرينتها ..
يئس أحمد يأسا مبررا، أصابه القنوط من وعود كاذبة، وعهود فارغة،
ضجر من المواثيق الساقطة بسقوط أخلاق أهلها، لم يعد يرى سوى الانطلاق عبر
المتوسط إلى الضفة الأخرى، بدأ يفكر في امتطاء قوارب الموت لعله يصل إلى
إسبانيا بأمان، يحاول إقناع نفسه بضرورة التجريب لعله يكون بها محظوظا ..
عند نبض المليار لقلبه طفق أحمد يتعمّد الذهاب إلى منتزه
الرمـيلات للاستمتاع برؤية الضفة الأخرى، يقصد فضاء ظل ملكية لشعب طنجة حتى
ظهور الوزير المفوِّت، صار يفوِّت غابات طنجة لإشباع نهم بنائه لثروة ظلت
تنأى عنه وعن أمثاله حين كانوا في معارضة صورية للحسن الثاني، يقبض وزير
المالية على جريمته عمولات الذل والخسة كتلك التي أخذها عن تجزئة القادري
على تفويته غابات الجبل الكبير.. يقف أحمد إجلالا لتعظيم مبدع السماء
والبحر.. وكان أشـد ما يكون مسرورا وهو ينظر في جو صحو صاف، يذهب أيضا إلى
منتزه سيدي المناري، ولكن سرعان ما يرتدّ على آثاره قصصا، لم يكـن يقف إلى
منتزهه كما يقف إلى منتزه الرميلات، وغالبا ما كان يقف طويلا وبشكل يكاد
يكون يوميا عند " سور العكازين " بشـارع باستور، يحملق في جبال الأندلس
الشاهقة وهي واقفة قبالته، تحييه وتقدم له كتابا مفتوحا عن تاريخ أجداده
فيها، يقرأه في البحر والسماء، تناديه؛ تستحثه على مغادرة طنجة إلى حـيث
تقبع شامخة، تسألـه عن سر الاصطفـاف في طابور طويــل بشارع " بورقيبة " إلى
جانب حيطان القنصلية الإسبانية، تقف وجوه من مختلف الأعمار ولا أحد منهم
يحمل نقيض جنسه معه كالحـلزون والديدان، تسأله إن كانوا يرغبون في مغادرة
وطنهم جراء ظلمه لهم، أو لقضاء العطلة السنوية خارج حدود بلدتهم بإسبانيا
أو فرنسا أو بلجيكا ..
سألته سؤال الوداع : يا أحمد، هل صحيح أن الاصطفاف لساعات
طويلة في اليل والنهار من أجل الفيزا يدل على رغـبة أولئك المغاربة في
مغادرة وطنهم جراء ظلمه لهم، واعتدائه عليهم يحاولون الفرار واللجوء إلى
بلد لا ’يظلم فيها الناس ولا يجوعون، أم رغبة فـي قضاء العطل السنوية،
وزيارة الأقرباء ؟
أصر على مغادرة وطنه طنجة فعزم على الهجرة السرية، دبّـر أمره
وهيّأ نفسه لخوض البحر رغم المخاطرة التي قد تنتهي بموته غرقا، ذهب يبحث عن
شبكة التهجير الطوعي إلى أن وجدها، اتفـق مع قائد المركب فضرب له موعدا قدم
على جناح البراق، يصطحب معه شبابا اتفقوا جميعا على غاية واحدة، شباب من"
قلعة السراغنة " و" بني ملال ".. تركوا قراهم وبواديهم تطلعا إلى حياة
أفضل، وعيش أأمن، معهم امرأة قريبة " مولود " وزوج أخيه المتوفى..
وجاء الموعد، ثم نزلوا جميعا إلى واد سماه الرومان واد الحـلق،
لا تزال القنطرة التي بناها شاهدة عليه، تشهد على أندلسيات من قبيلة أنجرة
يقطعن الوادي للتبضع وابتياع ما تجود به عليهن أرضهن، محطتهن سوق مرتاد عند
فندق الشجرة بطنجة الدولية، كنّ عند جريان الوادي وارتفاع مد البحر يضطرهن
إلى رفع ثيابهن حتى لا تتبلل، لا تنكشف لذلك عوراتهن ضدا على رواية يهودي
سجل الواقعة في روايته بعيدا عن الصحة. في عمق الوادي العتيق إلى الغرب واد
جديد للماء الحار بشاطئ البلايا عند مانيبوليو باتجاه الغندوري، كان الوقت
فجرا، شرعوا يدفعون مركبهم لإدخاله البحر، ثم ركبوا واستقروا بداخله، كان
مركبا صغيرا يصلح لبضعة أفراد كبر في أعينهم حتى وسع العشرات، تراصوّا فيه
واعتدلوا جالسين، صحبوا معهم بعض الأطـعمة والألبسة، وبعـض الأوراق بها
عناويـن يقصدونها، وعناوين ينوون مراسلتها عندما يستقرون بإسبانيا، تحت
أجنحتهم بعض النقود وجوازات السفر وقلوب تكاد تنفطر من خشــية الفشل ..
انطلق قارب الموت أو ربما هو قارب النجاة بمحاذاة سيدي المناري،
اندفع وسط البحر يمخر عبابه حتى بعد وتعمـق فــي المتوسط، كان البحر وقتئذ
مشغولا عنهم بأطول جزر سيصيبه بعد حين، يحاول تحطيم الرقم القياسي لتعرية
صخرة تكاد ترى الشمـس حيث لم ترها منذ ملايين السنين، يأمل في انحسار مائه
على جـزر بأكملها ليعرّيها حتى تتعرى معها أنظمة عربية فاح نتنها حتى أزكـم
الأنوف ..
مخر الزورق عباب البحر لبضع ساعات، سار أميالا كثيرة باتجاه
سواحل كاديس حتى غابت عن أنظار المهجرين الطوعيين معالم مدينة طنجة
وجبالها، اختفت اليابسة والتحفت بضباب غيبها عن أنظارهم، لم تعد ترى جبال
قبيلة أنجرة والقصر الصغير وتطوان، كما لم تظهر لهم في الآفاق جبال
الأندلس، لا يرى إلا الماء والسماء، ولا تسمع إلا أصوات الشباب تبربر،
وطيور تحلق طمعا في الطعـام، تظن أن القارب قارب صيد به سمك، ولم تدرك أنه
قارب مصاد، بــه بشر بائس يائس مأخوذ بحركة الدلافين تنسيه نوعا ما نفسه
وواقعه .. ظلوا سائرين حتى جاعوا، شرعوا في إخراج أطعمتهم يقدمونها لبعضهم
البعض، يتبادلون الأحاديث في جو أخوي تحيط به المودة والمصير المشترك،
تفرحهم الحسنة وتسؤ هم السيئة ..
انحسر البحر عن اليابسة انحسار كبيرا هو الأقصى منذ سنة كاملة،
ظل ينحسر دون استشعار ذلك من طرف قارب المــوت، وقارب النجاة، انحسر حتى
كشف قيعان البحر من الشواطئ فتسلطت عليها أشعة الشمس مباشرة، لا يمنعها
الماء، أو يمتصها سطح البحر، يسبح القارب في البحر، ويسبح عقل أحمد في
أبعاد بعيدة، يتصــور ذهاب مياه المحيطات حين تفجر قيعانها، يتصور جفاف
مياهـها إذا ’سجِّرت البحار، و’عطِّلت العشار، و’كوِّرت الشمس، و’كشطت
السماء، يتصور انتثار الكواكب، وانفطار السماء توطئة ليوم الفصل ..
أخذ البحر في الامتداد، بدأ ينشر مياهه على قيعانه العارية،
يدفع بها نحو الشواطئ ليصل إلى أكبر مد له على مدار العام، يبدو مده بوقع
لم يظهر في جزره منذ البداية، لا يمتد بهيجان خفيف، يمـد مياهه وينشر
أمواجه على هيئة غير معهودة إلا في فصل الشـتاء، تبدو متعامدة تعلو شيئا
فشيئا ثم تنحني في تكوير يقف عند تشكـيل الأفق على السطح ..
يسير القارب شاقا طريقه وسط مياه زرقاء، وسط بحر أبيض كان صحراء
قبل نشوء المضيق منذ ملايين السنين، يسيرون على متنه وقد ضاق بهم، وناء
ببراءتهم، حمولته المعهودة في بحر هائج من أربعة أفراد إلى ستة، بينما هم
فيه بعدد يفوق العشرين، فهل هـذه مخاطرة ؟ ربما ..
زاد البحر من إيقاع مده يصعِّد من وتيرته حتى هاج تمامـا،
وبهيجانه صار يرفع قاربهم وينزل به مع موجه، وعند الاختباط يعلو القارب
ويسفل، وعندما يعلو يســترق النـظر إلى الضــفة الأخـرى فتظهر جبال
الأندلس، وتظهر دور مدينة طريفة، تظهر بيضـاء ناصعة قد قعدت أسفل جبل لا
يزال يتحسس ريح الأبطال الذيـن وطئوها قديما، لاح الأمل في الأفق، أصاب
المهاجرين فأل كبير، ولكن البحر بدا وكأنه يريد إغراقهم، ولولا أن أصابتهم
بالحسنة لا تسؤه، وإصابتهم بالسيئة لا تفرحه لأسأنا الظن وتقوّلنا، أمواج
البحر أفقدت القارب توازنه، وكلما مال إلى جهة تدافع الناس إلى الجهة
الأخرى خوفا من السقوط والغرق ..
يتسلط ماء البحر على القارب، تدفعه الأمواج إلى الداخل فيبـلل
ثيابهم، وزاد من ثقل حمولة المركب حتى بدا مشرفا على الغـرق، شرع الناس
يغرفون الماء ويرمونه خارجا مستعملين أكفهم التي لن تغني عنهم شيئا، لم تكن
لديهم وسائل وأدوات غير الأكف وأنى لها بالا يفاء ..
ظل القارب يسير مسرعا تحت سقف واحد من السبع الشداد، يشق البحر
شقا بأقصى سرعة وأتم عزيمة، ثم ساد الناس الرعب وتملكهم الخوف، وسيطر
عليهم الهلع، فطفقوا يبكون حتى ما عـادوا يفكرون إلا في النجاة والمخرج،
كثرت الصيحات واختلطــت الأصوات تخاطب نفسها دون كسب لحيلة، أو وقوف على
أمل في ركن شديد، تدافعهم داخل القارب أفقده توازنه كلية حتى ما عاد يقوى
على الطفوّ فوق سطح البحر، يميل في كل الجهات، وبميله يغشاه الموج في الجهة
المائلة، بدأ المهاجرون يعلقون ببعضهم البعـض ويتمسكون بأطراف بعضهم بعضا
خوفا من السقوط في المضـيق، ينظرون بأعين زائغة شفيعة تود الإشفاق ولا
شفيق، يئسوا من الخلاص وتأهبوا لاستقبال الموت المتربص بهم، بينما هم كذلك
سمعوا صوت قائد المركب ينادي عليهم بأعلى صوته، فسكتوا لاعتقادهم أن هنـاك
حيلة، ولم لا والأمر جلل ؟ ثم تبيـنوا معانـي كلامه فكانـت قاســية مميـتة
..
أشار عليهم بضرورة الإنقاص من حمولة القارب حتى يرتفع عـن مستوى
سطح البحر، ويتفادى الماء الداخل إليه، أشار عليهم بما يمنـع قاربهم من
الغرق تجنّبا للموت..
تنبهوا لأنفسهم، وجال بهم الفكر حتى وقفوا على كلام قائـد
المركب معتقدين بصحته، ولكن ما السبيل إلى تطبيقه ؟
شرعوا ينظرون إلى بعضهم البعض بنظرات ليست بريئة، يبحثون عن
الضحايا ولا فداء، كل منهم ضحية وجلاد، غريزة البقـاء تكمن في الفرد حيث
يكمن جنسه فلا فداء إذن ولا فداء..
طفق بعضهم يحاكي زعيمة الإرهاب الدولي، يعرضـون عضلاتهم بكلام
ناب مليء بالفحش، رام آخرون التوعّد مبرزيـن الغضب، رؤوس النساء منكّسة لا
يستطعن حيلة ولا يهتدين سبيـلا، ضعف عن التمثيل نفر من الشباب، كانت
الأنظار تحوم حول المجموعة ثم تستقر على ذواتهم، تشكّل حلف أشد ظلما من "
الناتو " واستعدوا للعراك بالأيدي لتنفيذ خطة الخلاص ..
نادى عليهم قائد القارب واقترح أن يساهموا حتى ’يعرف من يلقـي
بنفسه في البحر، أو ’يلقى فيه قسرا، وحين ساهموا كان الذي حاكى، والذي
توعّد من المدحَضين ..
أوقف القائد المركب عند سطح لا موج تحته، ما كان الأبيض بحرا
’لجّيّا يغشاه موج من فوقه موج، يضيق قاعه عن حوت العنبر إن هو غاص طالبا
مدى غوصه، وبتوقف محرك القارب بـرز الموت للجميع، وتأهب لقطف الأرواح،
وعندها هاج الناس وماجوا في بعضهم يخبطون فسقط على إثر ذلك مولود وزكية
وطامو، سقطوا في البحر جراء التدافع، وغاصوا فيه بمقدار قوة سقطتهم، ثم
طفوا على السطح، ثم غاصوا من جديد وتواروا عن الأنظار ..
لم يؤبه لهم، أو تبذل محاولة لإنقاذهم، وكيف تبذل وهم قلقـون
بشأن أمر إلقاء النفس في البحر طوعا للتخفيف والتنفيس عـن القارب ؟ سقط
الأبرياء وغرقوا ويعلم الله أين سيلقي البحر بجثثهم..
أدار " علي " محرك قاربه ثم انطلقوا من جديد لا يلوون علـى شيء،
تكتنفهم الفوضى ويتخبطهم الانفعال، ساروا على صوت علي يطالبهم بإسقاط بعض
منهم في البحر من أجل النجاة لعل القارب يرتفع عن سطح البحر قليلا فلا
يغشاه الموج ويجد طريقه إلى الداخل، ساروا على وقع قول كطعام يتجرّعه المرء
ولا يكاد ’يسيغه، أيديهم نشطة تجفّف الماء وتعصره خارجا بمناشف اتخذت مـن
السراويل والأقمصة ، تعاون القشيْريان فأحاطا بشاب مسالم رميا به في البحر،
رمياه وهو يستميت متمسكا بتلابيبهم، ساد الناس خوف فزّاع، استنكروا فعلة
القشيريان واحتجوا عليهما، لم يسكـنا فحاولا إسقاط ثان، تعاونوا عليهما
حتى رموا بهما، وجراء رميهم لهما سقط أربعة آخرون، ابتدأ الصياح والعويل،
وبينما هم كـذلك إذ بدورية إسبانية تتجه نحوهم، أقبلت عليهم ففرحوا بها
وعاد إليهم هدوؤهم وانبثق الأمل في الحياة من جديد، لم يبالوا بما سيفعل
بهم، لم يسألوا أنفسهم إن كانت ستنقذهم، أم ستغرقهم ، طفقوا يمدون أيديهم
للغرقى فينتشلونهم..
اقتربت الباخرة من قاربهم حتى لامسته، ثم شرع ربّانها يمدّون
أيديهم للناس يصعدونهم إليها، يقدمون لهم وسائل التدفئة من ألبسة وأغطية ،
ثم قدموا لهم الطعام والشراب، ربطوا قاربهم بحـبل وانطلقوا يجرونه إلى
ميناء كاديس بإسبانيا، ثم إلى السجن بعد ذلك.
مجاز في هجرة سرية
نحو إسبانيا
شقت أسرة " سعيد " ونكد عيشها لسنوات عديدة، كان ذلك من أجل
دراسته، جدت وكدت وتعاونت فيما بينها وأعينهم جميعا علــــى سعيد..
شمّر سعيد عن ساعديه، واظب على دراسته، أتعب عقله مـن أجل تحقيق
حلم أبويه وأسرته حتى قرب أوان قطف الثمار
اجتاز جميع امتحاناته بنجاح وتفوق، وحصل في النهاية على
الإجازة، صار مجازا ففرحت أسرته وتفاءل الجميع بمطلع الحياة السعيدة الوشيك
مع وشك ذهاب الشقاء وإعدام النكد ..
أخذ سعيد يبحث عن عمل، قضى سنة كاملة دون جدوى، لم يمل من طرق
الأبواب، لا يزال الأمل عنده سيد الموقف، فما من باب توسم افتتاحها في
وجهه إلا وطرقها حتى قضى سنة أخرى مـن البحث مثل سابقتها، وعندها بدأ يدخله
اليأس، ولكنه لم يفقد كل آماله، استمر في البحث ولا مجيب إلى أن عاد الشقاء
والنكد، عادا ليصيباه من جديد، ويصيبا أبويه وأسرته حتى ضجروا جميعا لضجر
سعيد ..
تحولت وجهته عن قيمة شهادته الجامعية، بدأ يحتقرها، ويسخر من
لجان منحها، ومن نفسه، ومن المجتمع حتى استقر نهائيا علـى سقوط قيمتها،
عندها توجه بفكره نحو الإعداد للهجرة السرية، بدأ يفكر في عبور المضيق إلى
الضفة الأخرى، يحلم بركوب البحر سرا والنزول عند الجزيرة الخضراء أو طريفة
أو كاديس ..
في كل مساء يتنقل من مقهى إلى أخرى، يستجمع المعلومات عن الهجرة
السرية، يريد معرفة التفاصيل والإجراءات الواجب اتخاذها إلى أن استقر في
النهاية على رجل يدعى " الرويبضة "، يملك قاربا صغيرا يستعمله لتهجير
الضائعـين، ينطلـق مــن " طالع القــراع " أو" سيدي قنقوش " ويقــبض أجــرة
عــلى ذلك ثمانية آلاف درهــم مغربية ..
شرع يعد العدة بدءا من التفكير في المال الذي يحتاجه لهجرته، ظل
أياما وليالي منزويا في غرفته ساكتا كأنه أخرس، كلما دخل عليه أحد من أفراد
أسرته يسأله لا يجد عنده جوابا حتى كان عيـد الأضحى، قدم مخرجا إياه من
عزلته وانطوائيته، يتزاور فيه الأحباب والأقرباء، فقدم عمه وأبناؤه وأخواله
وأبناؤهم، أخرجه الوضع الجديد إلى الانشراح قليلا والانبساط مع أقاربه،
وحين كان موعـد الغذاء جلسوا جميعا ودار بينهم حوار ونقاش كالعادة، ظل
سعـيد لا يتكلم إلا إذا دفع إلى الكلام دفعا، أثار ذلك حفيظة ابن عمه فسأله
عـن حاله فلم يجب، سألته ابنة عمته فلم يجبها هي الأخرى، ثم سألته أمــه
بإلحاح، تدخل أبوه حتى طوقوه بالأسئلة، سأله :
- إذا كنت تريد الإبحار إلى بلاد أجدادك في الضفة الأخـرى
فهذا شبه مستحيل، إذن تخل عن هذا النوع من التفكير.
فوجئ بكلام والده، لم يكن يريد أن يعرف أحد سره، لقد أحرجه أمام
أقاربه، ولكن الأب لم يجد حرجا مادام بين الأقرباء، رد على والده :
- ليس هذا مستحيلا يا أبت، ولا عسيرا، فلدي أصدقاء عبروا
المضيق وهم الآن بإسبانيا سعداء .
- وما الذي حال بينك وبين ما تريد ؟
- الأمر يحتاج إلى بعض المال .
عندها تداخلت الأصوات واختلطت كما لو كانت صوتا واحدا، جميع
الأقارب هونوا من أمر المال، وصغروا له مشكلته، تدافعـوا يقترحون مبالغ
وصلت ستة آلاف درهم .
طفقت أسرة سعيد تجمع الأموال، اقترض بعضهم شيئا منه، وأخرج
البعض الآخر ما كان مخبأ عنده، باع عمه حلي زوجتـه، وابتاع خاله من والده
أثاثا لم يأخذه وإنما أبقاه في دار أبي سعيد ، ولم يصلوا إلى المبلغ المراد
إلا بعد مرور ثمانية أشهر .
تأهب سعيد للهجرة السرية، اتصل بصاحب القارب ثم ضرب لــه موعدا
للإبحار ليلة سبت مظلمة، ليلة تحولت إلى قاعدة تنطلق منهـــا الأحلام وتبنى
عليها الآمال..
في أمسية تليها الليلة الموعودة وقف سعيد متحمسا، وقف وسط أسرته
وقد حمل على كتفه حقيبة صغيرة بها سروال وقمــيص وملابس داخلية.. قبل أبويه
وسلم على إخوته وبعض من أفـراد أسرته حضروا ليودعوه، ثم خرج من بيته وأدعية
الحفظ والتوفـيق تلاحقه، وراح إلى حال سبيله، ذهب باتجاه طالع القراع
مارّا عـلى " سيدي المناري " حتى وصله، ألفى هناك رجلا من سماسـرة الرويبضة،
عرفه من هيأته فتقدم إليه يستفسره :
- هل أنت ممن أعينهم على الضفة الأخرى للبحر الأبيـض المتوسط ؟
- أجل .
أخذه السمسار من يده وسار به نحو الشاطئ، تخللا أثناء سيرهمــا
سيارات " الجيب " و " المر سيدس " وعــمالا لأكبر أباطــرة المخدرات بطنجة
كما يروجون كذبا، ما هو إلا أجير امرأة متنـفذة تدعى " يزِّعة " كما يعتقد
سعيد، يحملون " الحشيش " باتجاه البحر لتصديره إلى إسبانيا، تخللا أغناما
ومعزا ورعاة وحقولا للبصــل والثوم حتى نزلا الشاطئ، وجدا هناك شبابا من
سكان طنجة وتطـوان والحسيمة والناضور أغلبهم نزحوا من البوادي المكلومة نحو
هــذه المدن التي لم تجد نفعا في توفير فرص الشغل لهم لينزحوا نزحا ثانـيا
نـحـو طتجـة الانطـلاق، إلــى بحبوبة العيــش، ورغــد الحــياة التـي
يعتقدونها بعد عبور المضيق، وجدا على الشاطئ قاربا يرسوا فوقه .. وما أن
وصلا حتى طفق الجميع يتحرك، شرعوا يدفعون المركــب لإدخاله البحر، وشرعوا
يركبونه باندفاع كما لو أنهم عند نـزول الكارثة ..
ركبوا قاربهم عند العتمة وتوجوا إلى الله بالدعاء في صمت مطبق،
سار بهم يمخر عباب البحر، يخلف وراءه رذاذا لا يكاد يبــين لبطئه وثقل
حمولته، انشغل سعيد يفكر ويحلم يقظا، يبني بآمالـه صورا جديدة للحياة، حياة
يرجوها أطيب وأنفع من سابقتها في بلده ..
بعد ثلاث ساعات من الانطلاق، من خوض البحر لاحت لهــم أنوار
كثيرة في اليل المظلم كاللؤلؤ المنثور تتعشقها ظلمات لا تنتهي إلا عند مد
البصر، وفجأة انطفأت الأنوار، وسادت ظلمة بددتها نجوم السماء عند حد معين،
عند حد لم يمنع الاهتداء في ظلمات الـبر والبحر، فرح الرويبضة بانطفاء
الأنوار، وتهللت وجوه الشباب فرحا وغبطة، وطفقوا يسألون قائد " الباطيرا "
:
- أين نحن يا سيدي ؟
- نحن على مشارف الجزيرة الخضراء.
- وما هي الجزيرة الخضراء ؟
- إنها الخوزيرات .
ازداد فرحهم بسماع قول الرويبضة، ركبهم الشوق إلى النـزول
فأخرجهم قائد الباطيرا يقول لهم : " إننا لا نقصدها، وانما نقصد " طريفة
"، أبدى لهم بعض المخاطر من نزول الخوزيرات بسبب كثرة الدوريات التي تجوب
شواطئها، كل هذا وسعيد صامت يدير في دماغه كلام الرويبضة، ويربطه بالواقع
فلا يجده مطابقا له، خرج من صمته وتكلم مسمعا موجها كلامه لصاحب المركب :
- لسنا على مشارف الجزيرة الخضراء أو الخوزيرات، بــل نحن على
مشا رف شواطئ طنجة وسواحلها الغربية .
- كف لسانك .
- لو كنا حقا على مشارف الخوزيرات لما لاحت إلينا الأنـوار من
جهة اليسار، بل للاحت إلينا من جهة اليمين، أو لكانـت أمامنا، نحن في طنجة،
في مياه بحرها .
وقف الرويبضة تاركا قاربه عرضة لتيارات الماء يسير على غير هدى
مستهدفا سيادة الخوف على المهاجرين، محاولا تأليبهم ضـد سعيد، مستجلبا
نقمتهم عليه يقول: " إن هذا كذاب " .
اختلط الأمر على الركاب وطفقوا يصرخون في وجه سعـيد، يهددونه
ويتوعدونه، نجح الرويبضة في تخطيطه، ضخت عناصر سامة في جسمه، وزيد في ضغط
دمه وسرعة دقات قلبه، ومع ذلك لم يتنبه المهاجرون، وهل كان لهم أن يتنبهوا
؟ ومع ذلك لم يسكت سعيد، وهل كان له أن يسكت ؟ بل استسلم للغدتين الكظريتين
وقاطعه يقول : " لقد خدعتم جميعا "، وتوجه بخطابه إلى قائد الزورق يقول له
: " لن تخدعني ولن أتركك بدون عقاب ".
اندفع قائد المركب نحو سعيد بعدما استفزته كلماته وهم بضربه، ثم
حيل بينه وبين ذلك، ولولا تدخل الركاب لحدثت كارثة لأن سعــيدا بدا مستهدفا
رميه في البحر ..
عاد قائد المركب إلى قيادة مركبه، وعاد سعيد إلى صمته بعدمـا
ألقى قوله الأخير مسمعا الجميع : " نحن نسير والى يسارنا شاطئ " بوقنادل "
وسوف نمر على مياه شاطئ " العدويين " و " مرقالـة " وسوف نعبر مياه "
الزهاني " و " الصنيدق " و " الدار الحـمـرا "، و " التيرشـا " و" أكـلا "
و " راس بوصابـون " ولا أعلم أنقف عـــنده، أم إلى غايـة رأس سبارطل ..
قضوا سويعات أخرى يمخر بهم قاربهم عباب البحر، وما أن أشرفـوا
على مقربة من " راس بوصابون " حتى أشار عليهم قائد المركـب بالاستعداد
للنزول، يفصح لهم : " تأهبوا فلقد وصلنا ساحل مدينة طريفة " فعقب عليه
سعيد : " وأين هي أنوار المدينة، من المـفروض أن تتراءى لنا من جهة اليمين
أو تنتصب أمامنا ؟ " .
لم يعلق قائد المركب على مقولة سعيد، بدا منشغلا عنه فــي
الاقتراب من الساحل، يفحص بنظره الثاقب موطنا يصلح للرســو، لا يعرقل نزول
المهاجرين، أو يتسبب في غرق من لا يتقن السباحة ..
اقترب القارب من البر حتى تراءى للجميع، تراءت خلفه أشجار كثيفة
تقف شامخة فوق الجبال، استقبلتهم صخور صمّاء تردّد علـيها صدى الأمواج، دنا
القارب حتى طفا على عمق متر واحد من قــاع البحر، كان البحر ساعتها هادئا
ذلا قد أحسن إليهم إذ بات ذلولا ..
أشار الرويبضة عليهم بالنزول، يطمئنهم ويدعو لهم، فطفقوا ينزلون
من مركبهم الواحد تلو الآخر، نزلوا جميعا ما عدا سعـيد، رفض النزول، فنهره
قائد المركب : " انزل "، فقال له سعيد : " لننزل معا "، فرد عليه : " انزل
أو أنزلك بالقوة "، شرع يسـب ويشتم شاهرا خنجره في وجهه، وعندها اندفع سعيد
مبادرا رفع قدمـه نحو كفه فأسقط منه خنجره وأخذه من قميصه ورماه في البحر
وهـو يقول : " ابق أنت أيضا بطريفة، وأما أنا فسأعود " ..
سبح الرويبضة بضعة أمتار، ثم تعلق بالقارب يتوسل إلى سعـــيد،
فأشار عليه بصعوده، صعد مركبه وانشغل بحال البلل، شرع يخلع ثيابه ليستبدلها
بالتي استقدمها معه ثم جلس، فقال له سعيد : " حسبتني غبيا أليس كذلك ؟ " .
- لا! لا!
- إذا كنت ابنا لطالع القراع ، ابنا للبحر، فأنا أيضا ولكنني أفضـلك
بعض الشيء، فجميع شواطئ طنجة وسواحلها تعرفني وتذكرني، وان شئت اسألها،
فلقد وطئت قدماي جميع صخورها أو كـادت، فاسمع جيدا، تعال إلى قيادة المركب،
وسر حيث آمرك، سر بنفس الاتجاه الذي قدمت منه، وستقف عندما آمرك، وأعطني
مالي الـذي أخذته مني وإلا قتلتك، فوا لله لأفعلنّ، ولأرمينك في البحر مرة
ثانية .
شرع قائد القارب ينادي على من قدموا معه، يناديهم بأعلى صوته
مبطنا غايته من ذلك، يريد مساعدتهم له، ووقوفهم إلى جانبه ضــد سعيد لعله
يستطيع إنزاله مركبه، ولكن بلا فائدة، فلقد اندفعوا فـي أدغال غابة " طريفة
"، تركوهما لبعضهما مع علمهم بمراد الرويبضة، صاروا يتسللون بين الأشجار
فــي غابة كثيــفة يستوطنها الخنزير البري ..
انطلق القارب عائدا من حيث أتى، سعيد يفكر قلقا بشأن هـذا اللص
المخادع، وقائد المركب صامت يفكر في المصير المجهول مع الجالس أمامه، قلبه
مضطرب من الخوف والهلع، انشغلت يداه قليـلا مع ملابسه، ثم أخرج مالا وعدده،
ثم ناوله لسعيد : " تفضل خــذ دراهمك " تناولها وهو يقول :" لا يكفي، فقال
له الرويبضة بنبرة عالية ولهجة صاخبة يمثل دور الشجاع للمرة الأخيرة، فـلم
يمهله سعيد، انقض عليه يسمعه : " أرأيت، من معنا للحظة غير الله تعالى،
ترى هل تكون سعيدا حين أقدمك وجبة شهية لأسماك البحـر، وحيتانـه ؟ ولــكن
رويـدك، تنــح جانبــا، فلــم أفــتـش في ملابــســك وحقيبتك " ..
لم يجد غير موسى صغيرة رمى بها في البحر ليكتشف الأمــــوال
التي غنمها الرويبضة من المهاجرين، عندها اندفع قائد المركـب وأشرك يده مع
يدي سعيد، فأخذه هذا الأخير ولوى عنقه ورمى به في البحر، أسقطه يقول : "
ألم أخبرك بعزمي على قتلك، أو رميـك في البحر، فها أنت عرضة للغرق والموت،
لن تنفعك سباحتــك ، ستتجمد من البرد "..
ظل الرويبضة يسبح قريبا، يكافح تيار البحر، يدفع بكل قــواه
جسمه نحو المركب حتى تعلق به، شرع يبكي مستعطفا قلب سعـيد، متوددا إليه
يعده باقتسام المال الذي معه، فأومأ إليه بصعود الـــقارب، استقر بداخله
ينتفض بردا ورعبا، واندفع إلى حقيبته فأخرج منها جميع الأموال وشرع يعدها
حتى بلغ نصفها، ثم ناولها لسعيد مترجـيا فتسلمها منه يقول : " لا يكفي "
فقال الرويبضة : " وماذا يكفـيك ؟ " فرد سعيد : " جزاء على فعلتك بي
وبالأبرياء، لا أقبل إلا جميـع الأموال، وصمتك إلى الأبد بعد حين، فلن تغدر
بي، ومن أمــن غدر غادر تغابى، ومن أمن مكر الثعالب خليق أن يكون عقله في
رأس الديك، ولئن عاملتك بالمثل فما ظلمت " ..
انطلق القارب من جديد والرويبضة لا يفتر عن البكاء والنحيب،
يستعطف متوعده وسعيد صامت، تارة ينظر إلى السماء يتأمل قبـتها، وتارة ينظر
إلى البحر يتأمل أمواجه ويستمع إلى أحاديثها، ساروا سويعات معدودة حتى لاحت
بعض ملامح شاطئ مرقالة، فطالبـه بالتوجه نحوها إلى أن اقترب من " الكرة
الكبيرة " وعندها أشار عليه بأخذ ناحية عينها له، وأمره أن يسير بمركبه حتى
يلامس رمـال الشاطئ، وما أن لامسها حتى أخذه مرة أخرى لا يدري ما يفعل
بــه، ثم وكزه بقوة وانحنى يجمع ملابسه، ثم أخذ الحقيبة المملوءة بالمال
ونزل القارب مخليا سبيل الرويبضة شاقا طريقه وسط الرمـال الذهبية وذهب ..
ذهب إلى بيته بالدرادب، يقرب كثيرا شاطئه الذي تربى فيـه،
وعندما طرق باب بيته وفتح له الباب اندفع إلى الداخل، اندفع قلقا، قلقه
أنساه التحية وهو معذور عنها، اندهشت أمه بمقدمه ولكنهـا فرحت بمطلعه،
وكذلك أبوه وإخوته، وما إن جلس يأخذ أنفاسا حتى جلسوا إليه يرغبون في معرفة
قصته، وجوههم مكفهرة عاد إليهـا انقباضها ليسودهم النكد والشقاء اللذين
وليا منذ حين، ولكنهم في كــل الأحوال يحمدون الله على سلامته ..
جلس إلى جوار أبويه وإخوته وشرع يقص عليهم قصته. رجـع إلى أسرته
وقد غنم غنيمة لم تكن لتخطر على باله، أو تكن من ضمن أحلام نومه، غنم ستة
عشر مليون سنتيم، رجع بمائة وستــين ألف درهم مع الثمانية آلاف، فمنح كل من
ساعده ضعف مساعدته من غير ربا ..
اكترى سعيد فيلا فسيحة ببستان مليء بالورود والشجيرات، ثــم
حولها إلى مدرسة للبراعم، وفر لنفسه فيها منصبا للتعليم كما وفره لبعض
زملائه من خريجي الجامعات، فوأد النكد والشقاء مؤقـتـا، ولعن الضفة الأخرى،
وتمنى وفرة فرص الشغل في بلاده للحفـاظ على أرواح الأبرياء ..
لم يان للمجاز أن يترك وطنه طنجة، لم يأن له أن يعبر المضـيق في
هجرة سرية يخاطر بها شباب طــموح عاطــل يريــد أن يحقــق أحلامه وآماله .
عبور المضيق
تجلس قرية " ولاد علي " فوق هضبة تطل على وادي المخازن، باتت
مسرحا لاحتضان مولود بدوي سماه أبواه " حمو "، نشأ فيـها وترعرع حتى صار
شابا يافعا يفضل شباب القرية بجده ونشاطه في الفلاحة والزراعة، كان ذكيا
طموحا ..
قضى صباه وطفولته وشبابه في قريتـه، يساعد والده ويخـدم أرضـه
بعنايـة، يرعاها بما فيـه الكفاية فتدرّ على أسرته خيرا عميما يزيد عـن
حاجتهم، فيصدرونه إلى سكان المدن الكسالى ..
وما بين سنوات معدودة من عقد بئيس في القرن العشرين تغـير حال
القرية ليتغير حال شبابها، أصيبت أرضهم بالجفاف فأصابتهـم البطالة وعمّهم
الضياع، ثم ركنوا إلى الواقع الجديد ينتظرون الفــرج ورحمة السماء، وتحرك
من تحرك منهم بنية هجرة القرية ..
هجرها معظم شبابها الطموح النشيط، توجهوا شمالا وجنوبـا، وبقي "
حمّو " مقيما بمدينة القصر الكبير، يحاول جاهــدا إيجاد عمل دون حصيلة، كان
يقضي معظم وقته متسكعا في شـوارع المدينة، أو جالسا إلى كراسي منصوبة على
الطرقات في المقــاهي يراقب منها المارة ويحصي خطاهم، ثم بدا يفكر في
مغادرة المدينـة ، ولكنه لا يعرف أين يسير ؟ ..
ذات ليلة جمعته بمتعاطي المخدرات ومسوّقيها من " كتامة " إلـى
جنوب المغرب يمرون على مدينة القصر الكبير ذهابا وإيابا، تعرّف إليهم فبات
يقـضى ليلته معهم في سمر، لا يخالفهم أفعالهم، وكانوا في أحاديثهم يثـيرونه
بحكاياتهم عن الهجرة السرية، وعبور المضيق انطلاقا مـن مدينة الانطلاق طنجة
الكل ..
حفل حمو بعبور المضيق، بنى في مخيلته مستقبلا يليق بمقامه
كإنسان يستحق كل خير، يتعلق بحق العيش الكريم، يراه عند الضفــة الأخرى
للبحر الأبيض المتوسط، ولكن ما السبيل إليه ؟ ..
استطاع أن يحصل على جواز السفر، كان جواز سفره يعـادل وزن بقرته
الوحيدة المتبقية التي أقنع أبويه ببيعها بعدما تجاوزها مرض لم يكن جنون
البقر، باع هكتارات من الأرض تكاد تصل إلى أزواج كروموسومات أنثى النحل،
لطالما درّت عليهم خيرا عميما صار في خبر كان عندما انحسر عنها ماء وادي
المخازن في أوقات السقي، اقــتنع الأبـوان بحكايات ولدهما حمو عــن مغاربة
يأتون بلادهـم موفورين غانمين، يستقدمون معهم أموالا وأمتعة وسيارات..
ولكنهم جميعا لا يدركون مدى المعاناة والشقاء في حياة الاغتراب، ثم سافــر
حمو إلى مدينة طنجة يبحث عمن جمعته بهم ليلة العبث والمجون ..
نزل طنجة زمن مذبحة قانا الشمعونية وبدأ يبحث عن عنوان بحي "
بني مكادة " حي تعـرف له مواقف من حرب الخليج الثانية بين العراق ودول
التحالف، تعرف له مواقف القاصرين والجنّاح من الاضطراب العام ، تذكره
الأحزاب الوطنية والصحافة الطنجاوية، عنوان شاب شقيق طفل حوكم بجنحة إحراق
البنك الشعبي والاتحاد المغربي للأبناك وتخريب الخزينـة العامة.. شاب يعـرف
أصحاب الصـفقـات للهجرة السرية، ظـل يـبحث عنه حـتى عثر عـليه، لقـيه في
مقهـى " ميريكان "، مقهى مكتظا يغلف جوه دخان السجائر والكيف والهاش؛ حوّله
إلى ضباب كثيـف يحجب الرؤية فلا تكاد تتعرف إلى الجالسين إلا بصعوبة، قد
تصطـدم بهم وأنت تجوب أرضية المقهى ولا تكاد تتعرف إلى وجوههم، جلس إلى
صديقه بعدما حياه وقبّله، قضيا معا ساعات طوال يحتسيان الشاي المنعنع والى
جانبهما شبّان تحت أجنحتهم بضائع متنوعة يبيعونها، يبتاعها منهم أناس من
جميع الأعمار، يتنافسون في شرائها، ويحظى بالنصيب الأكبر منها المدمنون،
منهم من يشتري السجائر الأمريكية العفنة، ومنهم من يشتري " الكيف " جاهـزا
للتدخين يسمونه " قسيمات "، ومنهم من يشتريه نباتا مع طابا ثـم يهيئه حسب
ذوقه للتدخين، يباع عندهم الكوكايين والمهَلْوسات والعقاقير الطبيـة
الموصوفة لمرضى الأعصاب ..
حين دجى اليل نهض حمو يصطحبه صديقه الملقب بـ " كــرام " ذهب
إلى بيته يسأل عـنه، كان بيـته عبارة عن محل بغرفة واحـدة، ومرحاض لا يستر
صاحب الحاجة إلا إذا علق على مدخله ما يـنوب عن الباب، أو يقوم مقامها ..
رأى كرام المال الذي استقدمه معه حمو ثمنا للهجرة السرية، كـان
أمينا لم يسرق قط ولم يفكر في سرقة حمو أو الاحتيال عليه، غالـبه الطمع
فغلبه، نبهه إلى سفالة بعض أصدقائه المترددين على محل سكناه، ونصحه بكتم
رغبته حتى لا يعلموا بأمر المال ..
في الصباح الباكر طلب كرام من حمو اصطحابه إلى مقهى عينه له
بساحة إسبانيا، وعندما وصلا لم يجدا عنده المدعو الطيب، فطلب من حمو أن
ينتظره بداخلها حتى حين ..
رجع إلى حمو دون العثور على الطيـب وقال له : " لا تقلق، أعرف
أين يكون عند منتصف اليل "فقال حمو :
- ألا يوجد غيره ؟
- انظر إلى جهة اليمين، وانظر إلى جهــة اليــسار ألا تلاحـظ
شيئا ؟
- أرى شبابا واقفا عليه آثار السفر .
- إنهم أمثالك يريدون عبور المضيق.
- وهل تعرف الذين يتحدثون إليهم ؟
- أجل ، ولكنني لا آمنهم عليك .
اضطرب حمو قليلا ودخلت مخه وساوس بشأن صديقه كـرام حتى سيطـر
عليه سـوء الظن به، فـطن له ثم بادره يقول: " إن شئت عقدت لك معهم صفقة "،
فقال حمو :
- وهل يتحقق بواسطتهم عبور البحر إلى إسبانيا ؟
- لا أضمن لك ذلك، ولكن حاول ما دمت غير مطمئن إلي.
فطن حمو لفطنة كرام ودخله الحيـاء وسيطر عليه الخجل، فأخرجه
صديقه من دوامة الأوهام، وبادره : " أريد لك سفرا قاصـدا بضمانات أكبر،
أريد أن أركبك باخرة " النورس " أو " القـرش " أو " السيف ".. أريدك أن
تذهب مختفيا في إحدى هذه البواخر لتصل بأمن وأمان ثم ينزلك أحد أقربائي
ويدخلك " الخوزيرات " بـهدوء كما لو كنت أحد عمال الباخرة، ثم يتركك بعد
نصائحه الصادقة ..
عاد إلى حمو هدوؤه، واطمأن قلبه، وغلبه الميل إلى محبته أكثر
رغم انحرافه ، فقبل عرضه ونصيحته ..
أقبل اليل يغالبه البوح ولا يبوح فاقتيد حمو إلى بيت قريب كرام،
طرق الباب ثم خـرج الطيب فرحب بالقادميْن بوجه طلق بشوش وأدخلهما ..
أفصح ’كرّام عما بصدره مما يشغل بال حمو، وعندهــا اندفع الطيب
يشرح أوضاع الهجرة السرية، ومعانــاة المهاجرين مـن المخاطـرة، شرع يقص
عليه قصصا، ويرسم له بكلمات بليغة صورا لحوادث رآها، يركز في رواياتـه على
بشاعتها وكأنه يريد تثبيط همة حمو، وثنيه عن فكرة عبور البوغاز، وعند
الحكاية الثالثة لم يمهله حمو حتى يكمل، بل قاطعـه يقول : " عْلاشْ لِّي
تْمّا مْزْيَنين ؟ " فقال له : " مَشي صْحيحْ " .
- كيف ؟
- السبانيول كيْعاملو لّي جْبْروه بْلا وْراقْ مشي مْزْيان،
كيْـدّيواهْ للحبْس، أو كيْردوه لبلادو، وْهْنا في طنجة عندنا ساتفيلاج،
هاذْ الحبس هوَ لّي كيْسْتَقبلوم .
تدخل في الحديث كرام وقطع كلامهما : " يا ابن عمتي هـذا صديقي
حمو يدفع أجرة على عبوره المضيق، وأنا أعلم بمقدرتـك على تسهيل عبوره، فإذا
أراد، وأنا لا أريد له، فتوكل على الله، وخذه معك إلى الباخرة، ثم أنزله
مأمنه بالخوزيرات مطمئنا راضيا، وادع الله له، ولكن أرجوك، لا تأخذ منه
درهما واحدا " .
كان الطيب لا يرفض طلبا لابن خاله، فقبل عرضه وضـرب لحمو موعدا
يأتي موقوتا مع عمله، وجاء الموعد يسرع السرعة الفاصلة ما بين الشمس والأرض
والقمر، يتأبط غيرها لطويل القوائم والخلية الجنسية والتشيتا.. طفق حمو
يتحـرك مع ’كرّام نحو ميناء شمس المغرب إلى أن وصلا إلى الجسر، وجدا على
مدخل الباخرة الطيب ينتظرهما، فأدخل حمو إليها بعدما ودّعا ’كـرّام وحمو
فرح مغتبط، ثم سارت الباخرة إلى وجهتها
ظل الطيب محترما بين أصدقائه العاملين بالباخرة، موثوقـا في
شخصه، وكلما سهّل عملية عبور مهاجر ضائع كلما استأنـست جيوبهم بدراهم زائدة
مقابل غضّ الطّرْف..
أدخل حمو إلى غرفة الملابس، تم إلباسه لباسا يبدو به وكأنه
أحدهم، وطلب منه المرافقة لخدمة المسافرين، كان إذا رأى مـا لا يروقه طلب
منه البقاء في مكان لا يقربه إلا عمال الباخرة، وكـان العمال أثناء عملهم
يلتقون ويفترقون، وتتخلل لقاءاتهم أسئلة واستفسارات تعودوا عليها، منهم من
يقول: " واش ألف درهـم للواحد؟ " ومنهم من يقول : " واش ألفين ؟ "، كان هذا
ديدنهم كلما اشتركوا في التكتم على مهاجر، وحين لم يبق عن رسوّ الباخــرة
إلا نصف ساعة وما تستغرقه خلايا الأنف للتأقلم مع الروائح الكريهـة
والزكية، أفصح الطيب لهم عن الصفقة قائلا : " ليست هذه صفقة كالصفقـات
السابقة، إنها صفقة صداقة ورحم، وهي دون مقابل " ..
عندها نزل الطيب عن مستوى الاحترام الذي كان يكنه لـه أصدقاؤه،
وابتدأ الكثير منهم يشك في صدق الطيب إلا خمسة منهم، وبقوا في شكهم وعلى
غيظهم لم ينالوا خيرا، ولم ينبسوا ببنت شفة، وحين رست الباخرة واستبدلوا
ثيابهـم كــــان " مكارّو " مشغولا عنهم لـم يتصرف كعادته، كان يبيِّت ما
لا يعلمه إلا الله، بينما هم لا يزالـون يستبدلون ثيابهم دخل عليهم مكارّو
والى جانبه رجل أمن، اندفع وسطهم وألقى القبض على حمو، ثم صعد به لينزله
إلى البر مع نزول المسافرين، يريد التشهير به ..
علم ذلك كل من كان يعبر الجسر، ورأى المشهد المؤلم كل ناظر إلى
الشرطي وهو يقتاد حمو بقيد على يده اليمنى..
ظل حمو منذ وقع المفاجأة هادئا، كان ساعتها أسير الصدمـة، عطلت
تفكيره، وجمدت عواطفه وكأنه تحت تأثير مخدر، يبس مكانه كما لـو كان في قلب
سيبيريا؛ حتى دمه ثقل وكـأنه بحر ينحسر عن ساقيه، وبعد حين بينما رجلاه لا
تسعفانه على المشي فـوق الجسر اضطرب وهاج حتى فقد صوابه، لم يستسغ المشهد،
ولم يتقـبل الوضع، فاندفع كالجـمل الهائج لا يدري ما يفعـل ؟، ولا يدري مـا
يفعـل به ؟، فبدأ يتزحزح ويميل، يريد الانفلات من قبضة الشرطي، وكلما أحس
بالضغط أكثر كلما ضاعف من محاولـة الانفلات، ظل يحاول التخلص من قبضة
الشرطي مستميتا دون حِلّ، فالقيد محكم في يده لا يستطيع الفكاك منه، ظل على
حاله إلى أن مال بقوة يجر معه الشرطي، مال بنفسه من شدة الاندفاع علـى
البحر يجر معه الشرطي حتى سقطا فيه، سقط في البحر وأسقط معه رجل الأمن بسبب
اندفاعه القوي كما لو كان في البر لا يجد بأسا مـن تلقف الأرض له، ولكنه لم
يقع على اليابسة، بل وقع في البحر، قــذف بنفسه فيه وهو لا يدري ..
اضطرب المسافرون وشرعوا يتمايلون ويصيحون فـي فوضى عارمة،
حاولوا إنقاذا لحمو والشرطي دون ظفَر..
حاول الشرطي السباحة لإنقاذ نفسه، تعلم السباحة وهو صغير ولكنها
لم تسعفه لأن حمو لم يكن يتقنها، فتسبب في غرقه معه، هويا في البحر، ثم
اختفيا..
غرق حمو في ميناء الجزيرة الخضراء وتـرك أبـواه ينتظـران رسالة
منه، أو قدوما موفقا، تركهـما في قرية ولاد علي ينتظران، ويعلم الله كم
يطول الانتظار .
مأساة أديبة
تسكن زينب حيا شعبيا قذرا، بيتها الذي من خشب وزنك خال من الدوافع
الإنسانية، بل ومجتمعها أيضا، لها تسعة إخوان، أبوها حمال لا يكاد يرجع
بخمسة دراهم إلى بيته، أمها تعنى بالبيت والطبخ، وأيّ شيء تطبخه ؟ وأيّ شيء
تنظمه في بيتها ؟ لم يكن لهم حتى ما يناموا عليه، يفترشون الأرض، وقــد
تمضي عليهـم أيام وهـم لا يأكلوا إلا الخبز التي كـان يأتي به أخواها من
الفــران، إذ كانـا " طَرّاحيْن " ..
زينب بكْر أبويها، تكبر إخوتها بعشر سنوات، قلبها يتقطع إربا إربا،
عقلها يحتضن مكـنونات العبقرية، ولا مجال لإســاءة الظـن بنبوغها وأمارات
ذكائها، لا مجال لاعتبارات سوء التغذية فكأن لا دم لها يشبه دم الناس،
فالفقر ليس فقر الدم، والجهل ليس جهل النـفس، والخمول ليس خمول الجسم،
والأمراض ليست أمراض البشر، وإنما هي كما تعرف ..
صادفت زينب فيلسوفا يسكن حيها، تعرفت إليه بما كان يقدمه لهـا من
نقود إثر تسخيره لها، ترجع إلى أمها بدرهمين يوميا ، بادرت والدتها إلى
تشجيعها وحثها على ملازمة الفيلسوف غاضة طرفها عــن دسائس القوم، ورمي
الفيلسوف الأعزب بالتفاهات، سنّ لها الفيلسوف طريقا وأمرهــا أن تســير على
هداه، بدأ يلقنــها دروسا فــي اللغـــة والأخلاق والتاريخ والأدب
والجغرافية، وما أن أشرفت على الثامنــة عشرة حتى بدأ يعلمها الاقتصــاد
والاجتماع والفلسفة، وكثــيرا مـن المعارف العقلية، كل ذلك بتوجيه من
الرزانة والتعقل، وأخيرا بعـض لغات الإفرنج ..
زودها بكتب ثمينة، ومعارف من شخصه جليلة، وما أن أصابـت الفيلسوف
مصيبة المــوت وهو في الخمسين من عمره حـتى خلف الدنيا وراءه، اهتزت زينب
لفجيعتها فيه، رثته بأشعارها ودموعهـا وعابت على الموت فعلته تلك..
لم يخلف الفيلسوف من حطام الدنيا إلا قطعة من رغيف يابـس يشفق على
خبز شكري الحافي، خلف أربعة أقلام وتراثه، وبقي مدينا لصاحب الكوخ بأجرة
الشهر الذي توفي عنه وهو لم ينقض بعد..
قبل أن تباغته الموت كتب وصية تبيَّن أنها لزينب يقول فيها : "
أيتها البنت المظلومة : أوصيك أن تأخذي كل ما كتبته، ولتحتفظي به، ولتذيعيه
في الناس، فإني ما خشيت نشره، وإنما خشيت علـى مصرعي إزاء تفكيري المستهدف،
لأن الحاجة ماسة لبقاء المفكريــن بعيدين عن غياهب السجون، وعن الموت إلا
الموت الطبيعي، لأنهــم يراعوا أحوال الحاضر ويعالجوه، ويقودوا سفينة
الفكر، فتراثي منـك واليك، وسوف ترزقين مالا وعندها عجِّلي في أداء ديوني
إن كـنت قد خلفتها، وأوصيك أن لا تغفلي لحظة واحدة عن الجد والصرامة في
ميادين الفكر، والى اللقاء " ..
حفظت زينب ما ورثته عن معلمها، اختارت طريقا لإذاعته، بدأت تنشر في
الصحف والمجلات مقالات في الأدب والتاريخ والأخلاق والاجتماع.. تنشر بعضا
من الدواوين الشعرية، ظلت أمينــة على تراث الفيلسوف، توقع ما تنشره له
باسمه، وما أن قرأ الـناس ذلك حتى بادروا إلى طلب المزيد من خلال الرسائل
التي كانوا يوجهونهـا إلى الصحف والمجلات التي كانت تنشر ذلك الـتراث،
فاضطـر المحررون وماستهم زينب، فلبت رغبة القراء وربحت ربحا عظيما فأدت
واجبها نحو معلمها ..
بعد مضي وقت استقلت زينب بإنتاجها وإنتاج الفيلسـوف، فأخرجت مجلة
جديدة تحت عنوان : " التفتح "، بدأت تنشر فيها ما شاءت، ولكن في هذه المرة
بدأت تعترضها صعاب من طرف النظـام والمحافظين، أخرجت فلسفة وسياسة، شرعت
تكتب عن أختها المرأة في العالم، تركز على طيشها وانسياقها وراء خبث الرجل
الذي أبـــى إلا أن يجعل منها دمية يتلهى بها، آنذاك طـرأت حوائل مــن أهـل
السطوة والدمار، فأغلقت مجلتها، وأخذ منها تراث الفيلسوف وبعـض ما صنفت،
واقتيدت إلى السجن.
لما اطلع المعتدون على تراث الفيلـسوف وعلى نتاجـها الفكـري والأدبي
ألفوه يسمن ويغني لدرجة الاكتناز، ولكن كل ما فيه هو لهم ولغيرهم؛ إلا أن
أكثره كان عليهم وليس لهم، بحيث كان تراثا إنسانيا لا أنانيا أو فرديا..
كان أستاذها يكتب للخاص والعام، اقتفت أثره في الكتابة فأشبهته، بنت
شخصيات مثقفة كل واحد منهم أمة، أحاط بها ثلة من المفكرين الشباب، صار
عددهم بعدد حروف أطول أبجدية في العالم، فخاف المناهضون للفكر من تأثيره
على الناس وخاصة الشباب، لم تمح من ذاكرتهم هيئة سقراط وهو يعلم تلاميذه،
ثم انتهوا إلى نتيجـة حصلت مع تراث ابن رشــد، أحرقوا ذلك التراث العظيم،
وحذروا عبر وسائلهم الإعلامية، وعبر أجهزتهم الاستخباراتية من زينـب،
يعلمون مدى استيعابها للفكر والثقافة، فأمـروهم أن يراعـوا أحـوال السجينة،
وأن لا يدعوا معها أحدا في زنزانتها، تركوها وحدها في ضيق وكرب لكي لا تعلم
أبناء جنسها من السجينات مما علمت هي، وأن لا يدعوا لها قلما وورقا تكتب
عليه ما يدور في خلدها، كل هذا وزينب ساكنة سكون الطير في اليل، تعيش عيشة
شبه علائية؛ إلا أنها محرومة من القراءة والكتابة ..
شغف الناس بالأديبة زينب شغفا عظيما، وما أن علموا بما أصابها من
استبداد المستبدين وطيش المعتوهين، حتى هرعوا إلـى السجن يزورونها،
ويقدمون لها ما شاءت مما تريد إلا القلم والـورق والكتاب، فاغتاظوا جميعا
وانقلبوا سخطا على وضعهم ودولتهم ..
انهالت على بيت الأديبة زينب رسائــل عديدة من أنحاء العالـم، ولكن
لا أحد يردّ عليها، ولا خبر حتى في صحيفة أو مجـلة.. كل ما كان من أمرها أن
أبناء حيها هم الذين قد عرفـوا ما أحاط بالأديبة من أذى بليغ، وألم نفسي
فظيع مما وسع دائرة انتشار أخبارها..
أضحت زينب معلمة الشباب حتى أن شابا ذا نبوغ لم يصبر على هذا الحال
فاضطر إلى ملئ بطن خبزة بأوراق وقلمين عزم على تقديمهم لأستاذته في السجن،
أنجز عمله ونجح بعدما أخفق في المـرة الأولى، لم ينجح إلا بتقديم رشوة
لسجان، توصلت زينب بما قدم لهـا، كادت تطير فرحا، بدأت تكتب في تلك الأوراق
وتضع في مؤخرتهــا اسم وعنوان سعــيد، وكلمة قصـيرة تطــلب فيــها نقــل
الأوراق إلـى العــنوان المذكور إذا أفرج عن واحــدة منهــن، وكلـما ذهبـت
إلى المرحاض أودعت الأوراق المكتوبة في زاوية من زواياه بأسـلوب لا يمتنع
عن واحدة ممن يترددن عليه حتى غدت مواد للتثقيف عند السجينات، يتبادلنها في
الزنزانات الجماعية، تمضي الأيام والأسابيع والشهور ولا واحدة منهن انقضت
مدة سجنها حتى تتحول إلى رسول حسب رغبة زينــب ومع ذلك فقد حصل ما تعرف..
طالت مدة سجن زينب، حوكمت بعشر سنوات بحجة المس بأمــن الدولة،
ولكنها كانت فــي غايـة الاطمـئنان إزاء الكتابة الســرية لمـا أخبرها سعيد
في زياراته المعهودة، احتفظ الشاب بكل ما توصل به من زينب، مزجه برذاذ روحه
وقلبه، وهكذا في ظرف سنوات بعدد أرجل الخنفساء إلى أن أفرج عن زينب قبل مضي
السنوات العشر المحكومة بها، كـان الإفراج باتفاق على مشروعات ليست من
الإنسانية في شيء، مغزاها قــتل الحركة الفكرية والأدبية الناهضة، يعاد
بفـعالهم عصـر مظلم كالذي عاشه وحييه " جيوردانوا برونو " و" جاليليو "،
بينما زينب تمضي إلى بيتها محفوفة بتلاميذها ألح عليها سعيد في أن تمضي معه
إلى بيته وسائـر مـن قدموا إلـى السـجن لزيارتهــا، فأدارت وجهـها نحو بيـت
الشـاب وساروا، دخـلوا البـيت فرحِّب بهـم مـن طـرف والدي سعيد الطيبين،
جلسوا على موعد عند مأدبة شاي أقيمت تكريما لها، ولما انتهوا مـن شربه
تأهبت زينب لإلقاء محاضرة ثم بدأت : " بسم الإكبار الذي ما بعده إكبار
لمبدع الكون والإنسان والحياة : اعلموا أيها الشباب المعتمدون لدى الحق أن
وضعنا تسـوده العرقلة والإطاحة بالحركة الفكرية التي ظهرت، وإن شابكم هذا
لديـه من المعارف النافعة الشيء الكثير، كنت قد كتبتها له في السجن، وأنا
حريصة على إمدادكم بمعارف في محاضرات دورية، عزمت على إلقائها في حضرتكم
لمدة وددت اغتنامها لأنها قصيرة جدا، كمـا لا أكتمكم رغـبتي في ركوب البحر
قصـد اللجوء السياسي، وأنصحكم بأن لا تبخلوا على أبناء بلدكم، وأن لا
تدعوهم تحت وطأة القمع ريثما تنضج العقليات، وتتفتح الأذهان على التغيير،
فما ساد قوم بجبــن، و " اعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا " ومن رأيي
أن تؤمروا سعيدا و " إن السعيد لَمَنْ ’جـنِّب الفتن " ولا فتنة أشد مـن
الإكراه، ولست راحلة بسبب الخوف من المعتدين، وإنما قصد العمل هناك من أجل
التوعية في بيئة مفتوحة على التناقضات وإنجاب أنصار الحـق هناك، فديننا
عالمي، ووطننا هو العالم الذي يسوده مبدؤنا " ..
بعد بضعة أشهر على العمل الدءوب، وإنجاز العديد من الـلقاءات
الفكرية والثقافية، تأهبت زينب للرحيل، استعدت للهجرة، فـزوّرت جواز سفرها،
وغيّرت معالم وجهها مستعينة بالماكياج والبـيلوكا، وبعدما ودعت طلابها
وتلامذتها راجية منهم ألا يصطحبوها حتى لا يفتضح أمرها ويفشى سرها، قصدت
ميناء أم المدن المغربية والعربية يصطحبها سعـيد وحده، ثم ودّعته، وامتطت
الباخرة التي مخرت بها عباب البحر نحو النجاة..
رجع سعـيد إلى أصدقائـه فرحا نشطـا تعلوه البشاشة والتـفاؤل فأخبرهم
بما اكتمل لزينب من توفيق، فارتاحوا جميعا، ورام كل منهم عمله..
كل ما كان من أمر زينب أن مخبرا ’كلِّف بمراقبتها منذ أن غادرت
السجن حتى كاد يحصي عليها بعمله نفَسـها دون أن يشـعر به أحـد، وما أن رآها
تركب الباخرة حتى هرع إلى رئيسه يعلمه بأمرها..
اتصل رئيس المخبرين المحليين بمن يهمهم الأمر في عاصمة الدولة، ثم
أخبره الخبر، فتـلقى الضوء الأخضر، وأطلق يده في أمر المهاجرة السرية ..
بينما الباخرة تمخر العباب، ولم يبـق على رسوهـا إلا دقائـق بعـدد
توابع الشمس، تلـفن لقائد الباخـرة فإذا به يؤمـر بالتوجه نحو ميـناء مدينة
باكية مخدوشة في كرامتها، توجهت الباخرة إلى العاصمة عبر بحـر ’لجِّيًّ،
ولما عـلم المســافرون بتحول مركبهـم عــن وجـهته ’رجّـت أنفاسهم، وأبدوا
سخطا وحنقا على هذه الفعلة، ولكنهم ’طمئنوا اطمئنانا زائفا جلب بفظيع خبثه
القناعة لهم، أعلموهم أن المخدرات مـن محتويـات حمولة الباخـرة، ولا بــد
مــن كشفــها، والضرب على يــد أصحابها، وهـذا ما يقتضيه العمل لخدمة
الصالح العام والحفاظ على أمن الدولة ..
ما أن علمت زينب بهذا حتى تساءلت تقول : " أيكون هذا حقـا ؟ أصحيح
هو ؟ لا ، لا شــك أنهــا أكذوبــة ، ولكــن حســبي الله ونعــم الوكـيل "
..
لما استقرت الباخرة في الميناء جيء بالمخبر فدلهم على زينـب بكل
سهولة رغم أن اسمها في لائحة المسافرين هو آمنة، تم إنزالها الباخرة، وسير
بها، ولكن إلى أين ؟ ..
سارت الباخرة إلى حيث كانت قاصدة، وسيقت زينب، ولكن إلى أين ؟
ساقوها واقتادوها إلى المشنقة ..
’نفِّذ فيها حكم الإعـدام دون حكم محكمة بعـد أن خلّـفت طلابا هـم
أعلام المستقبل ورائدوه. خلّفت وراءها فكرا لا يموت ولا يلحقه البلى
بإعدام برصاصة أو مشنقة ..
ماتت زينب ولم يمت فكرها ، قضت زينب بعدما بلَّغت الرسالة، رحلت وقد
أدَّت الأمانة .
الجثتان المتعفنتان
جراء التهجير القـسري من الأندلس، وجـراء التقتيل والتنكيل بمسلـمي
غرناطة وقرطـبة وإشـبيليا وسرقسـطة.. جراء مجازر وفظائع نسلتها محاكم
التفتيش فرّ العديد بأرواحهم مسلمين ويهـودا، قطعوا المتوسط ليستوطنوا عند
ضفته الأخرى..
نزل جد " بني بوفراح " بـ " تلامبوط " أقــام جد العمرانيـين بأرض
رحبة واسعة، أنجب هناك ذرية كثيرة فتكاثر نسله عبر قرون عديدة حتى اشتاق
بعض منهم إلى عبـور المضـيق، إلــى أرض أجدادهم بالأندلس بحثا عن عمل ..
شب حسن وسليم في القرية، يحرثـان الأرض ويرعــيان الأغنـام
والمعز..اقتنيا قاربا صغيرا حملاه ونزلا به إلى البحر، ثــم أرسياه بميناء
صغير بـ " الطر يس " استعدادا لخوض البحر قصــد صـيد السمك ..
تولت عنهما سنوات انشغلا فيها باصطياد السمك وبيعه بثمن بخس لا
يغني، ثم افترقا..
ذهب سليم باتجاه مدينة طنجة إلى عائلة له بحومة " البراميل "
بالجبل الكبير، بقي حسن في قريته تارة يخوض البحر، وتارة يحرث ويرعى
الماشية، وقليلا ما يتردد على مدينة تاركيست و الحسيمة بحثا عن عمل ..
سمع حسن بمغامرات الهجرة السرية وعبور البوغاز، ظل يتحدث عنها مع
شباب القرية، والقرى المجاورة، حين يقدم الصيف ويحث المهاجرين على التوجه
نحو بلدهم لزيارة أهلهم وذويهم يزداد حسن شوقا، ويمتلأ طمعا في العيش
بأوروبا، يشاهد أفرادا من قريته عند زيارتهم المعهودة وقد لبسوا ثوب
النعمة، وذاقوا بحبوحة العيـش دون دراية بسبل ذلك، لا يفكر في النتائج
والعواقب، لا يحيل المظاهـر إلى المعاناة، وشقوة الاغتراب، ظل على حاله من
التفكير يشاهد ببني بوفراح ودار قبع دار لقمان المغربي وقد تغيرت،
تستفسره أطلالهـا عن سبب بيئته حتى قرر خوض تجربة مع شباب القرية ..
مكث سليم بطنـجة يعمل بكـده وعـرق جبـينه، تعوّد العـمل في
المقاولات الصغرى والكبرى للبناء حتى أضحى من أمهر الحرفيـين، تغيرت حاله ،
تعلم أشياء كثيرة، ولكـن أجرته لم تتغــير، لم تحسـن المقاولات أداءها، بل
ظلت أجرته في حدود أربعين درهما ..
يتردد سليم على مقاهي " مرشان " و " سبيلة الجماعة "، يخالط الناس
ويغشى تجمعات الشباب الضائع الذي لا يزال يقف عند باب داره أو دار جاره منذ
ثلاثين سنة أو يزيد، يقضي معظم وقته بحيه قرب أبويه وإخوته وجيرانه
وأصدقائه، يدخن الكيف والهاش محاولـة منه نسيان نفسه فضلا عن نسيان مجتمعه
ودولته التي برع في خـلق النكث عن وعودها وعهودها، لم يعد يجد ما يعبث به
إلا وقته وحياته والعبث ذاته، يتصف بالفطنة والنباهة، يحمل رصيدا معرفيا،
بيده شواهد مدرسية وجامعية، بملك قلبا شجاعا وإرادة ’محطَّمة.. عرف سليم
منهم أشياء كثيرة، وتعرف إلى الكثير من رواد الهجرة السريـة، ينطـلقون
بقارب صـغير مـن شاطئ " مرقالـة "، تبدأ رحلـتهم من البـر أولا، ثـم مـن
البحر ثانيأا، يتجمعـون بــــ " القسيعات " ويدخلون فم الوادي الحار من
القادوس الضخم الذي بناه آباؤهم بإشراف الاستعمـار أيام كانت طنجة مدينة
دولية، يسيرون قلبه، يعبرونه جنبا إلـى جنب مع عبور الماء الحار، يدوسون
بأقدامهـم قاذورات يخــلفها مــن يتستر فيه لقضاء حاجته، يقطعون مآت
الأمتار حـتى يصــلوا إلـى مصبها عند البحر بـ " حْجار الثلاثـة " ليجدوا
هناك القــارب الـــذي يقلّهم إلى إسبانيا ..
رتب حسن مع بعض شباب قريته ما يحـتاج إلـى ترتيــب، فكـر وقدر، ووضع
مخططا ثم نظر، نظر كـيف يتحقق عبــور البحر إلى الضفة الأخرى، إلى إيطاليا
رغم طول المسافة، لم يعد يخشى البحـر، وهل يخشى الخل ؟ صار له خليلا .. وفي
ليلة حالكة السواد تـقرر لديهم الانطلاق فتأهبوا، ثم انطلقوا ..
انطلقوا من جزيرة باديس عند العتمة، ثم توغلوا في البحر، يمخر
قاربهم عبابه، صـاروا أميالا حتى أسفـر عليـهم الصـبح ، ثـم أشرقت شمس يوم
سيــمر، ويأتي بعده يوم آخــر إلى أجـل لا يعلمــه حسن، ولا من يقرأ قصة
حسن، كانوا يتبادلون الحديث في اطمئنان، أمـارات الفرح تغشى وجوهــهم،
أذهانهم لا تـكاد تخفي بناءها لتصورات وأحلام جميلة .. بيـنما هم على
حالتهم تلك إذ تغـير وجـه حسن، تغير حاله ففطنوا له، سأله أحدهم قائلا:
-ما بك يا حسن ؟
-لا شيء.
-لا، بل هناك ما يعكِّر صفْو ذهنك .
-ألا تحسون بالقادم إليكم يلفح وجوهكم بنعومة ؟.
تلفّتوا لعلهم يبصروا الناعم يلفح وجوههم فلم يتبينوه، فقالوا :
-ليس هناك شيء .
فألقى حسن القول :
- القادم إليكم لا يطمئنني، فلنرجع بسرعة .
أدار مقود قاربه فاستدارت مقدمته على نغمات سيمفونية عاشقة للتضاد
تكاد تأتي على سائر قطعها الموسيقية، وبدأ يحاول اختصار الطريق إلى أقرب
يابسة كما لو كان عازفا يتعجل عزف القدر يقرع الباب، أصدقاؤه في هـرج ومـرج
منقسمون على أنفسهم بشأن الذهاب أو الإياب، بينما هم كذلك إذ سادهم صمت
مطبق بسبب ميل قاربهم في كل الجهات، طفــق يختبط عالـيا سافـلا، أحـسوا بأن
البحر بدأ يهيج، بدت الأمواج تتلاطم مقتربة منهم، وما أن ساروا أميالا دون
إبصار أي أثر ليابسة حتى هبت عليهم ريح عاتية، قدم العاصف من الشرق لا
يستأذن، كان شديدا قويا، قلب قاربهم بسرعة، سقطوا في البحر فغرق بسرعة كل
من لم يكن يتقن السباحة، وظـل يسبح حتى حين حسن وبعض من معه، ظلوا يسبحون
حتى خارت قواهم، ونفـذت طاقتـهم، وتجمدوا من شـدة الـبرد، ثم غرقـوا
جميعـا، غـرق القـارب وغرق حسن، وجميع من كان معــه، ولم ينج منهم أحـد ..
انطلق سليم من هجرته بعد غرق صديقه الحميم حسن بأيام تقف في إحصائها
عند أجنحة يعسوب، انطلق قاربهم يمخر عبابا متأوها إلـى الضفـة الأخـرى، إذا
سـاروا مستقيمين فـلن يقطعـوا أكـثر من ثمانيـة عشـر كيلومترا، تحركوا مــن
شاطئ مرقالة ليلا مخلفين وراءهم أهلا وأقارب وأصدقاء يدعون لهم بالتوفيق،
لم تكن رحلتهم طويلة، تكفيهم ليلة واحدة ببضع سويعات وثواني بعدد عيون
البعوضة حتى يطئوا أرض جدهم " طريف "، قضوا أربع ساعات فـي عرض البـحر
حذرين يقظين من الدوريـات التي تجـوب البحر ليلا ونهارا، وقبل الفجر بمدة
ظهرت على بعد محسوس هدتهم إليها النجوم دورية، وعندهــا أوقف عــبد العزيز
محـرك قاربه ولاذوا جميعا بالصمت، صمتوا لعل صمتهم وسكونهم يجنبهم الأسر
والاعتقال ..
كشفت الدورية بتقنياتها المتطورة أمرهم، فصارت تدنــو منهــم
وتقــترب حتى حاصرتـهم، سلـطت عليهم أنوارها القويـة فحوّلـت البروجيكتورات
ليلهم إلى نهار، ثم صارت تحوم حول قاربهم بعنف، شرعت تسرع في دورانها
حولهم، صارت حركتها تحدث هيجانا يصنع أمواجا عاتـية، وتيارات مائية جارفة
إلى أن فقد القارب توازنه، وابتدأ في الاختـباط حتى غرق بفعل ما يحدثـه
محركهـا الضخـم من هيجان لا يحتمـله القارب الصغير، لم تتوقف إلا بعد أن
غاص القارب في ماء البحر، هوى إلى الأسفل بمن فيه، ثم انطلقت بسرعة عالية
مخلفة رذاذا كأنه الشلال ..
مضى أسبوع كامـل على غــرق حـسـن، وأربعة أيام عارية مـن لياليها
على غرق سليم..
وصبيحة يوم الجمعة ألقى البحر بجثة مهترئة في " المريصات " بـ "
الغندوري "، وألقى بجثة أخرى بشاطئ مرقالة ..
’حملت الجثتان وقد تغيرت معالمهما وتعرتا من الثياب، نقلتا إلى
مسـتودع الأموات بمستشفى " دوق دو طوفـال " ثم إلى مقــبـرة المجاهدين ..
وضعتا وهما متهرئتان متعفنتان فـي انتظـار مـن يدفنهـما، كانـت
الجنازة تأتي ومعها أحياء يوارونها التراب، وتأتي الأخرى ومعها من يحسن
إليها، إلا جثة حسن وسليم..
بقيتا تنتظران ولا أحد يحفل بهمـا، تـفوح منهـما روائـح يتجاهلهـا
الأحياء، ولا تندب، أو تحث الأحياء على مواراتها التــراب، المتسولون في
المقبرة يمدون أيديهم لأخذ الصدقـات مـن خـبز وتــين وتـمر ونقـود زهـيدة،
يأخذون الصدقـات مـن الأحيـاء الذيـن قدموا بموتاهم، لهم منطق يمنعهم من
دفن الضائعين الذين لم يصطحبهـم أهل أو أقارب حتى تنقضي طلائع الجنازات
المصحوبة ..
وعـند مغـيب شمـس غاضبة، حـملت الجثـتان علـى مضـض، ثــم وضعتا في
حفرتيهما، كان القبران متلامسـين، ولـم تكـن الجثـتان إلا لسليم وحسن، دفنا
قرب بعضهما البعض قريبين جارين متحابين كـما كانا بين الأحياء بقرية بني
بوفراح.
الحقوق المعنوية: محفوظة للمؤلف.
الحقوق المادية مباحة للجميع بالشروط التالية:
ــ عند الاقتباس يتوجَّب ذكر المصدر.
ــ عند الطباعة الورقية والنشر الإلكتروني يتوجب الحفاظ على كل شيء في
الكتاب حروفه وكلماته وجمله وفقراته ونصوصه.. وإذا تقرر لأحد أو جهة ما طبع
الكتاب ونشره ورقيا لتعميم الفائدة، أو الكسب المادي، أو نشره إلكترونيا
بحلة أخرى غير المنشور بها وظهر له تغيير صورة الغلاف وشكل الطباعة
والكتابة وترتيب القصص فلا بأس ما دام ذلك لا ’يخلّ بأي حق من حقوقي
المعنوية التي لا أتنازل عنها، ولكن رجاء أن يتمّ إشعاري، فربما قررت
الزيادة في محتواه من القصص أو تعديله إن ظهر لي ذلك. .
التوقيع: محمد محمد البقاش
|