نصوارية الأضداد
(نص + حوار + أضداد)
نصوارية الأضداد نص ممدري ، وهو نص يقيد صاحبه بالحوار ولا شيء غير
الحوار . يقيده بعدم الخروج عن الحوارية سواء كان ذلك في قصة أو رسالة أو
شعر .. إنه ممقامة ممدرية يشتغل فيها على اللغة ، على المعارف ، وعلى كل
أجناس الإبداع الأخرى إذا استطاعت المحافظة على حوارية النصوص ، وعمدت إلى
عدم الخروج عنهـا مع عنصر التضاد ، ولا يهم من يكون المحاور - بفتح الواو -
إذ قد تكون النصوارية مناجاة تصطنع أجراما متعددة في المناجاة كالنفس
والروح والخيال وجرم اللاجرم ، وقد تكون غير ذلك ، ويتم تحديدها غالبا في
الرموز الموسيقية . وبين يديك حضرة القارئ الكريم نص بعنوان : الحب اللاسع
، وهو نص حواري كما ذكرت ، ونص : طنجة الجزيرة . طنجة سييرا نيفادا . طنجة
العنصرية ، وفاطمة والإجهاض .
لقد اخترت له كلمة مركبة من كلمتين هي : النص ، والحوار ، وتعني
النصحوار ي ، والنصحوارية ، وفي جمعهما معا في الأدب الممدري يكون الإبداع
نصحواريا ، أو هو نصواري ، ونصوارية ، فربما وفقت إلى هذه التسمية التي لا
تزال على سلامتها ثقيلة على أذني بعض الشيء ، وربما لم أوفق ، وما حذا بي
إلى ذلك سوى الخوف من كثرة النصوص الإبداعية التي لا تجنس ، إذ في عدم
تجنيسها ضياع الأدب ، وتشتيت ذهن المتلقي دون أمل في استجماع تركيزه ، كما
يمكن أن يكون ذلك ربما فقرا حاصلا في قدرات المبدع ، ولم لا ونحن نعلم أن
الأدباء في جمهرتهم حاليا ليسوا مفكرين ، وهذا كاف لإدراك فقرهم في تجنسيهم
لأعمالهم إن كانت فعلا أعمالا جديدة . الجنس الأدبي طريقة للتعبير بمكونات
مخصوصة ، وسمات معلومة تتم المحافظة عليها دائما وأبدا ، هذا إذا أريد
للعمل الأدبي أن يسمى باسمه ، وإلا فهو غير ذلك تماما ، ولا يعني هذا أن
الجنس لا يتطور ، بل يتطور ، ويتشكل على تفريعات كثيرة تظل محافظة على
السمات المخصوصة ، والمكونات المعلومة ، فإذا تم تجاوزها وجب الحذر من
الانزلاق ، لأنك هنا تكون على شفا الخروج من طبيعة الجنس ، وقد تخرج منه
إلى الدخول في جنس آخر ، وهذا رائع جدا ، ومطلوب بإلحاح ، لأنه إبداع حقيقي
وعبقرية . .
وجنس حوار الأضداد بمكوناته الثلاثة : نص + حوار + أضداد يمكن
للإنسان أن يتحدث به إلى نفسه ، يتحدث من نفس كريمة إلى نفس لئيمة ، من نفس
أمارة إلى نفس لوامة ، من نفسه إلى غيره ، يمكن أن يجمع الأضداد ويفاعل
بينها ، يقارعها يصارعها ، يكشف خفاياها ومزاياها ، يظهر محاسنها ومساويها
، يحاور به جميع الأجرام الأدبية . وهو من جهة أخرى بديل للسيرة الذاتية
الصفيقة ، ففيها يمكن للإنسان أن ينشر صفاقته ولا حرج ، لأنه لا يعرف من
يكون بالمتناقضات ، على المستحيي أن ينشر حياءه ، وعلى الصفيق أن ينشر
صفاقته لأجل غاية تنشدها الممدرية .
ونصوارية الأضداد من جهة أخرى تستطيع الانتقال إلى الفكر ، تستطيع
توظيف الفكر على شكل حوار الأضداد لتبيان رأي ونشر موقف واستظهار ميل خصوصا
وأننا في زمن الملل لقراءة النصوص الطويلة .
ولا يقال بأنك ضيقت على الإبداع حين حصرته في نصوارية الأضداد ؛ إذ
يمكن أن يكون الحوار دون أضداد ، لا يقال ذلك ، لأن نصوارية الأضداد مكون
بسمات محددة ، فإذا خرج عنها تاه في غير نصوارية الأضداد ، انزلق إلى
المسرحية مثلا ..
فلو نظرت إلى نصوص إبداعية جميلة ورائعة تجد صاحبها قد كتب عليها :
نص ، فهل نجهل أنما جاء به نص ؟ كلا . إنه نص فعلا ، وتجنيسـه ممكن أيضا ،
ولكن في إطار من العموم ، فنقول مثلا : نص أدبي تمييزا له عن النص الفكري ،
ونقول : نص سياسي تمييزا له عن النص التشريعي وهكذا ، ولكن إذا أردنا دخول
الأدب ، وطرق أبواب الإبداع المختلفة ، ألا نجد أجناسا وأجناسا قد تحددت من
طرف أصحابها إلا تلك التي لم يرد لها تحديد ؟ ولو تجاوزنا هذا واعتبرنا
النص مجنسا باللاتجنيس ، وكان الأمر محصورا في الأدب ، فقد نتجاوز عنهم ،
ولكن أليس عيبـا أن أنكب على قراءة جملة أو فقرة لأتعرف أولا على نوعية
النص وجنسيته ، هل هو سرد أم لا ؟ وإن كان كذلك فهل هو قصة ؟ وإن كان كذلك
فهل هي قصة قصيرة ، وإن كانت كذلك ، فهل هي من الأدب الممدري ؟ لو كان
الأمر امتحانا لطلاب الأدب من أجل اختبار مداركهم في تجنيس النصوص لما
علقنا عليه .
ثم إن نصوارية الأضداد ليست محصورة في الأدب كما أسلفت ؛ بل تتجاوز
الأدب إلى الفكر والسياسة والتشريع .. انظر إلى نص : فاطمة والإجهاض ، فهو
نص فكري يتناول الفقه الإسلامي في تعاطيه مع ظاهرة الإجهاض ؛ يبين حكمه ..
يمكن أن نأتي بنصوص من غير الأدب ؛ نحصرها في نصوارية الأضداد .إن ما بعد
الحداثة دودة تحيا في الوحل ، وكلما شطرتها شطرين كلما ضاعفت من أعداد
الديدان ، لأنها تستطيع الحياة بشطريها المقسومين ، ولكنها في النهاية تظل
عمياء يسهل تجاوزها ، وتركها لإوز الأدب ، وبط الأدب . هي التي قامت بخلط
الأجناس الأدبية دون موجب حق لتعطي في النهاية ذوقا شاذا ، إنها لا تنتهي
إلا إلى متعة اللامتعة . والمطل على النص الحواري مجرد إطلالة يدرك ببساطة
أنه نص أدبي وفكري يتم فيه الاشتغال على اللغة وعلى المعارف ، وعلى كل
أنواع الإبداع الأخرى إذا أمكن ، فصاحبه يبدع ويسجل إبداعه على رموز
موسيقية ، أو يضعها له ناقد ، أو عالم بالصولفيج ، فإذا أردت قراءة إبداع
فيه حوار ، ونظرت إلى الرموز الموسيقية ، أدركت بسرعة كم هي عناصر الإبداع
التي جاء بها المبدع ، وهذا ربما يكون كافيا لحمل القارئ على الاطلاع على
هذا النص الإبداعي . لم لا نعرض على القارئ والمتلقي سلعتنا فنغريه
بتناولها خصوصا إذا أتقنا التأنق والتفنن وكنا بالفعل مبدعين لا مبدعين ،
بتشديد حرف الدال ( المبدع الدعي ، أو الإبدعي ، أي الإبداع الدعي ) ، إننا
في عصر هجرة القراءة ، وحتى لو كنا في عصر القراءة بامتياز ، فإن الظروف
الراهنة ، والظروف المستقبلية لن تسمـح بقراءة ما هب ودب ، بل ستوجب ( وقد
أوجبت ) علينا الاختيار ، وفي النهاية لا مناص من اختيار الأدب الممدري ،
والفكر الممدري ، وترك الحداثة وما بعد الحداثة تستدفئان بجمر ليس من نبات
الغضا ، إذ سرعان ما يصير جمرهما رمادا . وفي معرض قراءة في كتاب : ( عناكب
من دم المكان ) لعبد السلام الموساوي يذهب صاحب الدراسة : إبراهيم
القهوايجي إلى اعتبار العمل الإبداعي لعبد السلام الموساوي لعبة من لعب
الخداع معللا ذلك بغياب العنصر الأجناسي فيها إذ يقول : " تمارس ( عناكب من
دم المكان ) كعمل أدبي ، لعبة الخداع ، فهي لا تعلن عن جنسها ، فتستعيض عن
ذلك بإيراد لفظة ( نصوص ) ، باعتبارها علامة لغوية دالة على جمع نكرة ، وهي
بهذا المنظور النحـوي ، لا تشي بانتمائها إلى أي جنـس أدبي محدد ، وغياب
الإشـارة الأجناسية ( شعر ، مجموعة قصصية ، رواية ، مسرحية . ) يجعل القارئ
يقف حائرا حول الخانة التي يمكن إدراج هذا العمل ضمنها ، لهذا يجد نفسه ،
في غياب هذه الإشارة المساعدة على اقتحام عالم هذه النصوص والاصطدام بها ،
مجردا من كل الأدوات ، فيفاجأ من الوهلة الأولى بوجوده وجها لوجه مع وحدة
سردية معنونة ب : ( المزمنون ) ، وبقدر ما يحس باكتمال هذا النص وتقاطعه مع
الشكل السردي / القصصي ، بقدر ما يشعر بإمكان قول الكاتب أكثر مما قال ،
وأنه لم يستنفذ كل ما لديه .. " العلم الثقافي . 10 أبريل 2004 صفحة : 3
ونحن لا نوافق القهوايجي على ما ذهب إليه ، إذ مجرد تناول النص ولو
كان نكرة ، وقراءته يوضح للوهلة الأولى جنسه ، فهو إما أن يكون نصا أدبيا
أو فكريا أو تشريعيا أو سياسيا أو علميا .. وقراءة النص الأول تؤكد ذلك
بقيامه على فقرتين اثنتين دون تجاوزهما ، ويبقى الإشكال ليس في تجنيس العمل
، إذ هو مجنس مبدأ ، سواء وضعت عليه إشارة أجناسية ، أو لم توضع ، بل في
مدى دقة التجنيس ، واختيار العلامات الدالة عليه ، والإشارات اللافتة إليه
. فالنصوص الأدبية من حيث أجناسها كثيرة جدا ، وإذا لم توضع على إحداها
إشارة أجناسية فإن ذلك لا يخرجها عن كونها نصا أدبيا ، ولكنه يضيف إلى
القارئ والمتلقي عملا آخر ، لا أقول هو في غنى عنه ، وهو تقمص دور الكاتب
في تجنيس عمله نيابة عنه ، ولا بأس ، ولكن لا يقال عنه أنه غير مجنس .
واللعبة الواردة لعبة لطيفة قد تتعدى كونها حمل المتلقي وإغرائه بالحيلة ،
إلى كونها إثارة لفضوله من أجل الاطلاع على النص ، ولا عيب ما دامت القراءة
لم تعد مغرية للأعمال ذات الصفات الأجناسية .
" إن الوعي بالفروق النوعية بين الأجناس الأدبية هو - في جوهره -
وعي بالوسائل التعبيرية المتباينة للإنسان " بلاغة النادرة . د : محمد
مشبال ، دار جسور للطباعة والنشر والتوزيع ، طنجة ، الطبعة الثانية 2001
ومن جهة أخرى فإن الرموز الموسيقية الموضوعة في النص الحواري ليست
رموزا ملزمة ؛ بحيث لا يستعاض عنها بغيرها ، ليست هي كذلك ، فللكاتب أن يضع
بدلا عنها أرقاما . يضع حركات . يضع رموزا أخرى ، رسوما ، كاريكاتير ، صورا
فوتوغرافية ، خربشات ، أو لا يضع شيئا ، له أن يضع ما يشاء ، ولكن مراعاة
لإمكانية تضمنها لعناصر الإبداع من حيث العد والإحصاء إذا تقرر ذلك .
الحب اللاسع
( نصوارية الأضداد )
_ أفرغ فيك حمولتي غير الملونة ولن أمل ، سأظل أفرغها ولو قضيت زمن
استواء الحمراء على هضبتها ، وتاج محل على أرضيته ، فهل تساعديني ؟ أو ما
سمعت ؟ أوما تملكين أذنا واعية ؟ أنا لا أخاطب شبحا . لا أتحدث إلى نفسي .
لا أعمل على ترجيع الصدى . سأضرب عن الكلام . سأعصب لساني حتى لا يراك .
سأفقأ عيني حتى لا تكلمك ، ولكن هل تستحقين مني كل هذا ؟ هل تقدرين ما أنوي
فعله ؟ وإن كان كذلك ، فمن يشهد لك ؟ من يحكم علي بحقد مرير ؟ فأنا لا أحقد
إلا على الحقد ، فكفى تحريض هرمون الأدرينالين علي .
- رويدك يا مفتون . ما تنوي فعله لا يكفيني . أنا لا أرتوي بالماء ،
ولا أشبع بالطعام . أنا لست آدميا . ليس لدي قلب يهتز ، أو عقل يرتج . لا
أملك عقلا ، ولا عاطفة . أنا الجفاء . أنا الخشونة . أنا الغلظة . أنا
القسوة . أنا الحجر الأصم . أنا نفس الأنا المثخن بالحب اللاسع .
- وهذا الألق المتطاير في القيعان ، وذاك الجمال المسكوب في الوديان
، ألست صنيعتهما ؟ أليسا جزءا منك ؟ ثم ذلك المتربص كالنحلة للرحيق ، ألا
تشفقين على ظمئه ؟ ألا تتكرمين بشيء من حلو العطاء تنعشينه به ؟
جاهد في القسوة ما شئت ، فلن تجدني هشة ، أو تلمسني لدنة . أنطوي
علي خير ممدري عميق . أدفع به إلى أن يغيض ممعانا فيك ، ويغيض ، لتتعلق به
، وتفنى في طلبه .
هل يفرحك قفزي كالكر كند ، ويطربك جريي كالسعدان ، أو تسخرين مني ؟
لا ! لا ! أنا أدفعك ثمن حبك ، فهل تساوم على حب لاسع ؟ فوالله إن
ذقته ثانية واحدة ، حرقتك به ثوان عديدة ، ولكنه نبيل ، راق ، يتفاوح
بالبشر والحبور ، ويبز الزهر المتوج ، والورد الشادي
- لا تقولي إلا ما أحب ، وعلى قدر ما أحب .
وهل كنت تتصورني الآخر ؟ أنا أنت . إيه والله ، أنا أنت ، ولو أنك
لست أنا .
طنجة الجزيرة
( نصوارية الأضداد )
- أنا طنجة ، نعم أنا هي . جميلة ساحرة ، وفاتنة باهـرة . سابقت
المدن فسبقتها . توجت جميلة الجميلات . شمس المغـرب أنا ،
رغم ما بي قد عنى . أفتح ذراعي لكل قادم ، وأسعد بكل مقيم . قـدم
عهدي في حمل القلوب النبيلة ، ثم استحلت إلى حامل للشياطة .
وطئتني قدم موسى والشيخ الخضر . في قبيلة أكـلا حضرت إقامة جدار
الغلامين اليتيمين . في مدشر مديونة حضرت طلعة ذي القرنين . هناك يأخذك
خمري من عينيك فتثمل للغروب . تراها في الأفق البعيد تذرف دمع الحزن ،
تنحني تواضعا لبارئها ، وتدعوه أن ينتقم لطنجة ، تنزل من عليائها في تؤدة
وهي تمتطي سرعة رهيبة ، ترسل شعاعا مليئا بالحياة ، تبعثه رقصا يرتدي لون
الشفق .
أنا طنجة . أنا التي أخاطب فيك المروءة ، وأعزف لك على وتر الغيرة ،
فهل تغار علي ؟
إن لم أغر عليك كنت مضيعك .
- ألست مضيعي ؟
كلا .
- فلماذا إذن لحقني الذل والهوان ؟
لا تحمليني وزر ما آل وضعك إليه .
- أضاعوني .. أضاعوني .. وأي مدينة أضاعوا !
أنا طنجة الصبا والشباب ، أنا المغرب كل المغرب . اسم طنجة اسم بديل
لاسم المغرب ، واسم طنجاورة اسم بديل لاسم المغاربة . كنت المغرب الأقصى
تمييزا لي عن الأوسط والأدنى . كنت مراكش ، واليوم أنا طنجة وغدا .
أريد نفسي جزيرة سابحة ، فشقوا لي قناة من أصيلا أو العرائش ،
أمعنوا في شقها حتى تصلوا بها إلى البحر الأبيض المتوسط ، اصنعوا لي حزاما
مائيا ، فأنا كالسمكة ، وذلك يسعدني . مروا ببواخركم . سافروا عبر قناتي .
راقصوا مراكبكم فوق مياهها الملهمة ، متعوا العين والقلب ..
أغار على قناة تربط البحر الأحمر بالمتوسط ، وأخرى تعقد على المحيط
الهادي والأطلسي . طول قناة السويس لا يتعدى مائة واثنين وسبعين كيلومترا ،
بينما المسافة بيني وبين العرائش لا تتجاوز ثمانين كيلومترا .
أنا طنجة . أحلم بقناة تزيدني حبا وودا ، أحلم بها حلما يكاد يصبحني
على واقعه ، فلستم طنجاوة إن لم تخلقوها .
طنجة سييرا نيفادا
( نصوارية الأضداد )
- أنا الجزيرة المبتهجة . أنا المدينة الحالمة . كنت خضراء نقية ،
والآن صرت جرذاء قذرة . قذارتي هي قذارتكم . أنتم أنـتن من النتن ، وأخبث
من الظربان . عبثتم بمناطقي الخضراء ، لوثتموني ، فوا رفاة رقد هيا إلى جلد
الأرواح الخبيثة .
حللتم أهلا ، ونزلتم سهلا فوق صعيدي . رحبت بكم . منحتكم كرمي ،
وتوخيت أن تكونوا كالفلاح المحسن ؛ الذي يعيد إلى أرضه ما أخذ منها من غلال
على شكل سماد ، فخاب ظني فيكم ، وما جزاء الإحسان بمنطقكم إلا الإساءة .
قدمتم من البوادي الصافية ، والأفضية النقية ، هرعتم من الحواضر الموبوءة
تشكون زلزال بطونكم ، فهل أنا كنيفكم ؟
أنت طنجة المتوجة ، وهذا يغيظني ، سأحمل كل ساكن بيت فيك على مد يده
، سأجعل منكم شحاحـذة ، سأحملكـم على
الاستعطاء .
- سمعت برواية عن جمع ترأسه الوزير الكبش ، حلف بالله أن يدفع
أبنائي إلى الشحاذة ، وها قد مد الطفل يده ، مدها الشاب والكهل .. مدتها
الصبايا ، مدتها الفتيات والنساء .. نبتت في ظاهرة التسول المقنن ، فهل
أسعدتك الشماتة ؟
صنعتم لي حزاما من الإسمنت ، وأنا أريده من الماء والخضرة . أختنق
من التلوث وأتألم . فوتم مناطقي الخضراء ، فعريتموني عراكم الله وفضح
نساءكم من تحت سرتهن . فهل آمل خيرا فيكم بعد فضائحكم ؟
رباه .. رباه .. هل من رجز تنزله من السماء على الظلمة كما أنزلته
على أهل سدوم ؟
رباه .. رباه .. هل من عقوبة تمحوهم بها كما محوت قارون ؟
تألمي وتقطعي ، اهتزي وارتجي .. سأدمر ما بقي . لن تنجو من هوسي
منطقة خضراء واحدة . اذهبي إلى الجبل الكبير ، أليست
غاباته رئة لك ؟ سأدمرها ، وإن ذبل وزير المالية ، وقد من دبر ، ولم
أجد من يفوت لي غابات الجبل الكبير والرميلات ومديونة فسأزرع نطفتي في رحم
الأحجار الثلاثة بشاطئ مرقالة لاستولاد وزير بديل أسميه : المفوت ، وعندها
أشغر عليك .
- عادات الكلاب الشغر ، وقريبا ستشغرون برجلين . لئام بطبعكم .
جرذان باستساغتكم السباحة في المياه الحارة ، عزيز عليكم رش رذاذ النفايات
على عقولكم وقلوبكم ، ولكن رويدكم ، سأصنع جبلا إسمنتيا ، سأرفعه حتى
يستوطنه السحاب ، وعندها أضاهي به سييرا نفادا . سيتساقط عليه الثلج .
سأجعل منه موطنا للتزلج . سأفجر قيعانه . ستنساب منه العيون والوديان .
سينبت الخضرة ، وستعود به طنجة إلى ألقها ورونقها .
طنجة العنصرية
( نصوارية الأضداد )
- أنا طنجة أم المدن العربية . جاب أفضيتي الزموري عبد الرحمن
المجذوب . أشاع أن أعين أبنائي على البحر ، وجلوسهم على الصخر ، وآذانهم
على الخبر ، عمرت مقولته في طنجة حتى باتت سبة في جبين طنجاوة .
نعم إنها سبة في جبين أبنائك ؛ ويستحقونها .
- لنرى: إن جلوس أبنائي على الصخر كناية عن تواضعهم ، واستعارة لقوة
رابطتهم . وكون آذانهم على الخبر فهو كناية عن وعيهم السياسي ، فهم مثقفون
قراءة وسماعا ، ذووا معارف ثرة ، يتقنون لغات عديدة ، فالفقيه دميجو في
فضاء الرواية الممدرية رمز فخر لهم . وكون أعينهم على البحر ، فهو كناية عن
فطنتهم ، فالدخيل معلوم لديهم فراسة . والخائن مدرك منهم عرفا . ولص المال
العام معروف لدى أطفالهم بداهة . إنهم من طينة زكية يألفون ويؤلفون .
كلا ، ما أبناؤك إلا نفايات .
- مهلا ، لا ننتهي من إشاعة حتى تحبكوا أخرى . قلتم أن أبنائي
كسولون ، لا يعملون ، بطالون ، عشاقون للخمول ، ثم شمتم بمجازين يعملون في
الإنعاش الوطني ، وقد رفضتم استغلال جهدهم وكفاءتهم في مينائكم المتوسطي ،
اشترطتم على الأمي لكي يسوق " البرويطة " أن يتقدم إلى الامتحان فينجح
ليسوقها . تعلمون أن قبيلة أنجرة مكلومة من الإسبان منذ هجروهم قسرا من
الأندلس . تعلمون أن أغلبهم بدو أمي ، طالما كذبتم في قنواتكم ودورياتكم
حين زعمتم الاهتمام بالبادية ، صرحتم وصرحتم بجعل البادية مثل المدينة في
حق التعليم والتطبيب والإنارة ؛ وكذبتم ، وصدقتكم كذبا . سرقتم أراضيهم
باسم قانون نزع الملكية ، قلتم أن أبنائي عنصريون ونسيـتم أنكم حاضنة
العنصرية بظلمكم ووقاحتكم ، ثم ازددتم فرحا ببليتهم . أضافوكم مع ضيفنكم ،
أكرموكم رغم قلة القرى ، عاملوكم بود ورقة ، يحسبونكم إخوانا ، ثم أخيرا
وليس آخرا يصبحون نفايات ، ولكن قل لي : هلا حملتم ميناءكم ورحلتم عنا ؟ هل
أنتم سليلوا عناقيد الغضب ؟
لم أفهم .
- إنك لحري أن تجهل لا أن تعلم ، غبي ، تافه وجبان .
لا تستعملي معي مثل هذه الألفاظ .
- لماذا ؟
لأنك إلى الآن جزء من المغرب غير النافع .
- أمع استعماري هذا لم أزل من المغرب غير النافع ؟ هل تعيش زمن
الحسن الثاني ؟ هل سمعت بتصريح الأديب عبد السلام البقالي حين طالبه الحسن
الثاني بالبقاء في قصره بعد تخرجه ؟
وماذا قال له ؟
- قال له : أن المغرب من عرباوة باتجاه الجنوب . فهل لا زلت في هذا
العهد ؟ لو كنت فتى سورة الكهف لكنت ببدنك وروحك كنزا ، ولكنك أهون ممن لا
مكرم له .
اسمعي: أي مؤسسة تعنى بالشأن العام من أمن ودرك وقوات مساعدة ومالية
وتخطيط ومجالس جهة ومجالس حضرية وقروية وتعليم ومكاتب فروع أحزاب ونقابات
واتحادات وغير ذلك لن يسيرها أحد من طنجاوة ؛ لن يحصلوا إلا على أعمال
وضيعة . وأي شركة كبرى مؤثرة في ساكنة طنجة ستتحول عن أربابها ، والتهمة
جاهزة .
- هل ستتهمون البطرونة بتبييض الأموال من أجل سرقتها ، عفوا من أجل
مصادرة أموالها ؟
نعم .
- إذن فالجبلية وثمان سنوات سجنا لها مع مصادرة أموالها من البنوك
جزء من مخططكم . هذه سابقة لم يشهدها السجن المدني بطنجة حين قبع فيه من
يفوق الجبلية إجراما في ترويج المخدرات .
لماذا لم نضع أيدينا على أموال مروجي المخدرات من أبناء الشمال وهي
بالبلايين ؟
- لأنها أموالكم ، أليس كذلك ؟ فأنتم متسترون خلفهم ، يشهد على ذلك
المرصد الجيوسياسي الذي ضم أسماء تسكن مواقع فوق السحاب . صحيح أن الجلاد
لا يجلد نفسه ، ولكن الأخطبوط يأكل أطرافه عند الجوع ، إنهم أكباشكم ، ولكن
رويدكم ، فأنتم مفضوحون في الرأي العام ، ولكنكم تجهلون وتتجاهلون ؛ لأنكم
قوم عمون .
استدرجتك طول هذه المدة لأتأكد أن أبناءك عنصريون .
- وكيف عرفت ؟
ألم تقولي : أمع استعماري هذا لم أزل من المغرب غير النافع ؟
- ذكرتني بقصيدة شعرية لا شعرية وضع فيها لفظ الجارية ، فانتفخ لها
ودج أحدهم لمجرد ذكر الجارية ، ولكن ذكر الجارية لم يكن لنادلات القصور
والفيلات ، ولا لراقصات الديسكوطيكات والكباريهات ، بل كان للعين ، للباصرة
.
لقد نسيت قوله تعالى : " هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها " سورة
: هود . الآية : 61 . يبدو أنكم لن تتخلوا عن الإساءة إلى طنجاوة ؛ سامحكم
الله .
أبنائي يعتقدون أن الجزائر وتونس وطرابلس والقاهرة والخرطوم ودمشق
وبغداد والقدس والرياض والقدس وكابول وطشقند بلادهم ، بلادنا جميعا ، فنعم
الاعتقاد ، وبئس الضد .
فاطمة والإجهاض
( نصوارية الأضداد )
ـ مبروك عليك يا فاطمة ، كم شهرا مر على حملك ؟
ثلاثة أشهر
- جميل ، إلى أين تمضين ؟
إلى المستشفى .
- جميل ، من أجل سلامة جنينك ومراقبة حملك ، نابهة ؛ كذلك يجب أن
تكون الأمهات .
لا ، لا ، أذهب للإجهاض .
- تذهبين لقتل ولدك ! أما تخشين الله ؟
لا أعلم له أبا ، فكيف أحتفظ بولد لا والد له ، ثم إنني لا أرى في
الإجهاض شيئا مشينا قبل تمام مدة الحمل .
- يبدو أنك تجهلين حكم الإجهاض . إن للإجهاض حالتين اثنتين :
أ - حالة يكون فيها الجنين دون روح .
ب - وحالة أخرى يكون فيها بروح .
فما يكون بعد النفخ ، فهو قتل وجريمة لا خلاف عليها بين العقلاء من
علماء الإسلام وفقهاء الشريعة ، ولا يعترض على ذلك إلا أمريكا ومن يتعلق
بدبرها ، لأنها تسعى كالحية لتسويق إباحة الإجهاض بغية إشاعة الفساد في
العلاقات الجنسية ، وهدم الأسرة ؛ والقضاء على ما بقي من أخلاق وقيم
إنسانية . والإجهاض في المجتمعات العربية ؛ ومجتمعات البلاد الإسلامية قليل
لقلة الزنا . فالغرب نصفه أو يزيد بحسب ما تنشره الصحف الغربية مكون من
أولاد زنى ، حتى أن خمس آباء بريطانيا ليسوا آباء ، لأنهم يربون أولادا من
غير صلبهم ، عرف هذا مؤخرا من الفحوصات الطبية للمورثات .
اذكري إن شئت تاريخ 20 دجنبر سنة 2005 ، إنه تاريخ تغيير قانون
الأحوال الشخصية في إنجلترا وأيرلندا ، فلقد تم على الفور زواج 800 زوج من
الرجال في يوم واحد ، وتوقع الخبراء زواج 22000 حالة من المثليين في
السنوات الخمس القادمة ، فقد تمت مساواتهم بالناس العاديين في القانون
والأحوال الشخصية والمال والإرث .
وأرى بعد حين قريب إنجابهم للذرية في رحم نساء أو حاضنات زجاجية عن
طريق الاستنساخ ..
والحالة الثانية يكون الجنين فيها بروح ، وهو مقرر علميا في أقل من
ثنتين وأربعين ليلة على التلقيح ، والإجهاض هنا مباح ولا شيء فيه ، لأنه
إسقاط لما ليس فيه روح ، إملاص للنطفة ، وليس إملاصا للجنين ، سواء كان ذلك
بعملية جراحية ، أو حمل ثقل ، أو حركة عنيفة ، أو شرب دواء .. إن الذي
يوافق على إسقاط الجنين من أب أو أم أو طبيب أو مجتمع يقترف جناية القتل .
لا ، لا تقل ذلك ، فهناك إجماع على إسقاط الجنين .
- هل تتحدثين عن خضوع الصينيين لقانون تحديد النسل في اثنين ،
وترتيب عقوبات خطرة على المخالفين ؟
لا . أليس المرض يبيح للمرأة إسقاط جنينها عندنا ؟
- إن كان ذلك في التداوي فله شروطه . فلا يسقط جنين بعد تخليقه إلا
إذا قرر الأطباء المهرة ، والعلماء النزهاء أن في إبقائه موت للأم ؛ وموت
الجنين معها ، عندها يضحى بالجنين من أجل حياة الأم بدل أن يموت الاثنان
معا .
فهل أبقي على ولدي ؟ وإن أبقيته فما هو وضعي ؟ وما هو وضعه ؟
- نعم احتفظي به ، وألحقيه بأبيه إن كان معلوما لديك ، وإن لم يكن
فامنحيه أصلا خاصا به ، ولا تخلطي . لا تكـوني ما بعد حداثية . فما بعد
الحداثي معتوه لا يؤمن جانبه ، لأنه خلاط من غير الخلوط المغاربة . لا
تلحقي ولدك بنسب ليس له . وأما وضعك فهو وضع أية أم أنجبت ولدا ، فلا تضيفي
إلى جريمة الزنى جريمة القتل . وأما وضعه فهو وضع البريء الخالي من أية ضنة
.
***
- لا تبك يا فاطمة ، أو ابكي ، ولكن عند اعتزالك ربك ؛ فلست سوى
ضحية . فسعار الجنس ليس من اختصاص الحيوانات ، لأنها ملتزمة بفطرتها .
فالطير لا تبيض في فصل الشتاء . والكلبة لا تلد في الخريف . والهرة لا تنجب
في الصيف . والأفعى لا تبيت في الربيع ، والبغلة لا تتناسل من البغال ..
ففكرة الحريات ، ومنها الحرية الشخصية تبيح للإنسان أن يتمتع ويستمتع ، لا
تقيده في متعة دون أخرى ، تبسط أمامه متع الحياة كلها ، وبها أصبح الزنا
والمعاشرة خارج نطاق الزواج عاديا ، بل مشروعا محميا بالقانون . فالغرب
قطعان حيوانات نتيجة هذه الحرية ، فلو تقرر لمستمتع الاستمتاع بأم متزوجة ،
وتقرر لنفس الأم الاستمتاع جنسيا بالراغب فيها ، كان ذلك حقا لهما ؛ يدخل
في ممارسة الحرية الشخصية في المواقعة ، وعندها لا تحتج إن كانت المنكوحة
جدتك أو أمك أو أختك أو زوجك أو ابنتك أو جارتك ..
ملاحظة:
في الحب اللاسع کان یجب أن تکون هناک سطور ملیئة بالرموز الموسیقیة إذ هی
کذلک فی مخطوطی، ولکننی لم أصورها بالسکانیر حتی توضع فی محلها فمعذرة
وربما تدارکت الأمر لاحقا
أضيفت في23/06/2006/ * خاص
القصة السورية/ المصدر الكاتب محمد البقاش
القصّة الظليلة
تقنية الكتابة
ظهرت القصة الظليلة في المدينة الولود طنجة ، ولا غرابة . فشمس
المغرب جارة طريفة مدينة مبدعة . ومن أراد أن يكون مبدعـا فعلا ، فعليه أن
ينتسب إليها ، أن يستوطنها ، أو يحبها ، ويحب أهلها . لقد شهدت طنجة ميلاد
هذا الجنس الأدبي بتاريخ 15 أبريل سنة 2004 م .
القصة الظليلة ظهرت لإنعاش الإشفاق على ( الكتاب ) و ( الشعراء ) و
( المبدعين ) الذين يتهمون الشعر القديم في نفسه ولا يتهمون ذاتهم فيه ،
فبدل أن يهتدوا إلى قصورهم في فهم الشعر القديم وتذوقه ، يتهمون الشعراء
الذين ينحون نحو الأقدمين في اعتماد علم العروض ، واعتماد اللغة العربية (
القديمة ) باستعمالهم لغة لم تعد مطروقة الآن ، وشكلا شعريا تقليديا لم يعد
يغري ، الشيء الذي يعقد فهم الناس للشعر القديم والجديد الذي يسير على
منواله ، ويحول بينهم وبين الاستمتاع بشعرنا القديم ، و ( الجديد ) ، ثم
إنهم حين يتناولون المقامات لبديع الزمان الهمداني والحريري مثلا يمتعضون
منها ، وإذا سألتهم عن مضامين المقامات وأسلوب كتابتها والتفنن في اللغة
المكتوبة بها ، يجيبونك إجابة تنم عن ضعف شديد في فهم اللغة ، ومن لا يفهم
اللغة كأداة للذوق ووسيلة للفهم حقيق أن لا يفهم ما تنطوي عليه من إبداع ،
ثم إن هناك الكثير منهم يقع ضحية مخطط يرمي إلى ضرب العربية ، والغريب في
الأمر أن جميع مستعملي القلم في العالم العربي ، وجميع من يكتب بالغة
العربية حتى أولئك الحقدة يستعملون نفس لغة المقامات ونفس لغة القرآن
والسنة مع هجران طفيف لبعض عشرات المفردات .. وهي لغة مطروقة في الكتابات
منذ ظهور القرآن والسنة إلى يومنا هذا ، ومن هنا كانت القصة الظليلة من جهة
أخرى محاولة لحمل القراء الذين لا يتذوقون الشعر القديم أن يقر أوه ناطقا
في السرد الممدري ، يقرأونه في قالب نثري قصصي ممدري هو القصة الظليلة لعل
قراءتهم له فيها تجدد الحياة في ذوقهم الميت ، فتحملهم على تذوقه .
القصة الظليلة إبداع ظليل . وهي قصة مستوحاة من قصيدة شعرية منسوبة
للحطيئة . هذه القصيدة تتضمن سردا ووصفا ، وعقدة وحلا ، وبداية ونهاية ..
بها عناصر صالحة لبناء القصة القصيرة ، والقصة الطويلة ، والرواية ..
القصة الظليلة تأخذ اسمها من الظل ، فهي قصة تحمل ظل قصيدة شعرية
لصاحبها جرول بن أوس الملقب بالحطيئة ، ولولا هذه القصيدة السردية لما كانت
هذه القصة ، إنها مقتبسة منها . وبما أنها كذلك ، فإن ذلك يعني وجود سابق
ومسبوق .
إن عناصرها موجودة في قصيدة الحطيئة ، وهذا هو الذي أوجد صلة بينهما
، وهو الذي أعتبره ظلا للقصة القصيرة ، فكانت القصة ظليلتها ، أي ظليلة
القصيدة .
وإذن فكل قصة تقتبس من قطعة شعرية ، أو قصيدة ، تقتبس من بيت شعري ،
أو بيتين ، أو أكثر ، يطلق عليها القصة الظليلة . وهذه القصة لا تصلح مثلا
فيما يسمى بالشعر الحر ، وقصيدة النثر ، أو الشعر المنثور ، والنثر المشعور
، والنثيرة ، أو ما إلى ذلك . لا تبنى القصة الظليلة إلا بالشعر الملتزم
بعلم العروض ، بالشعر الذي يسمى شعرا ، ولا خلاف عليه .
وإذا تم تجاوز ذلك ، وأريد خلق القصة الظليلة في الشعر الحر ،
وقصيدة النثر ، أو غيرهما ، فإن ذلك لا يستقيم ، لأنه يكون كتابة نثر بنثر
مثله ، وهو قبيح ، إلا إذا أريد به كتابة نثر فني مقتبس من نثر فني آخر ،
فهذا لا بأس به ، ولكنه لا يعطينا قصة ظليلة ، قد يعطينا جنسا أدبيا جديدا
يستوعبه الأدب الممدري ، جنسا أدبيا يحتاج إلى اسم أنا لست معنيا به الآن ،
لأنه ليس من بنات أفكاري .
ظهر لي أثناء قراءتي لقصيدة الحطيئة : ( وطاوي ثلاث ) أن أكتبها قصة
، وأن ألتزم بشيء مما جاء فيها قل ، أو كثر ، مع إضافات جديدة من صنع
الخيال ، وكان ذلك أيضا مدعاة لخلق تقنية جديدة . فالقصة الظليلة قصة تحمل
ملامح ومواصفات وشروط لا يصح تجاوزها .
إنها من جنس الأدب الممدري ، وإلا فليست هي بالقصة الظليلة .
وشروط كتابتها هي :
أولا : أن تكون القطعة والقصيدة ، أو البيت الشعري والبيتين ،
يتضمنان سردا .
ثانيا : أن يلتزم القاص ، والروائي بشيء مما جاء في الشعر ، قل أو
كثر .
ثالثا : أن يتم توقيعها من طرف مؤلفين اثنين هما : الشاعر ، والقاص
. أو الشاعر ، والروائي .
هذه هي التقنية التي ظهرت في القصة الظليلة ، وهي جنس أدبي جديد
سيمتعنا به القاص ، والروائي . سيعمد القاص والروائي إلى اعتماد هذه
التقنية لكتابة قصة ظليلة ، ورواية ظليلة ، سيعمد إلى قصائد سردية رائعة ،
وما أكثرها ، للاقتباس منها .
وفي النهاية نستمتع بقصص وروايات ظليلة يشترك فيها مؤلفان اثنان ،
شاعر ، وقاص . أو شاعر وروائي . سنستمتع بنصوص سردية رائعة قد كتب تحتها
اسمان ، واحد للشاعر صاحب القصيدة الشعرية ، والقطعة ، أو البيت من الشعر
والبيتين الذين تم الاقتباس منهـما ، والثاني للقاص ، والروائي الذي بنى
قصته وروايته بشيء اختاره من الشعر السردي . ستكتحل أعيننا برواية ، أو قصة
قد كتب تحتها :
محمـد محمـد البقــاش محمـد محمـد البقـاشmohammed_bakkach@hotmail.com
/
جرول بن أوس{ الحطيئة } عبد الله بن عمر العرجي أبو الطيب المتنـبي أحمد
شوقي أبو فراس الحمداني
الأفق البدين
(قصة ظليلة)
لا يمل السراب الرقص فوقها . يداعب الأسباب والأوتاد ويستمع لعزف
الرياح عليها . تخترقه العين ، ثم ترتد على آثارها قصصا . لا ترضى لونا
بديلا عن بقرة موسى .
قلب خيمة تجلس أسرة يجلدها الجوع جلدا . تشارف أرواحهم التراقي .
يتخمون من جلادهم ، ثم يعتصون على الطوى .
أسرة هاج اشتياقها للطعام المهاجر . الفقر جرم مقايم يؤزهم أزا ،
يحاور الأب والابن والزوج . لا يناظرهم ، ( شوبهم ) يغالبهم رغم نذالته
ووضاعته ، رغم جبنه وغباوته ، بين الحين والآخر يقدم كلبهم فيشاغر عليه ،
وعلى الجرم ، ويسقيهما عطرا .
السماء فوقهم ظليلة بلهيبها . والأرض تحتهم ساكنة بنارها . شظف
عيشهم ردف قناعتهم . يتقاسمون الفاقة ، ولا يملون المداولة ..
بدن الأفق فأطلق وليده . قدم مدفوعا بأنزيمات هائجة كأن بينها وبين
أنزيمات الخيمة قرابة . وانتصب الشبح كما ينتصب لص الشعوب في واشنطن ،
عندها وقف ابن أبيه ، وركض حافيا نحوه يريد خطف ما جنه ، ثم توجه إلى أبيه
يقول :
- لا تغتم يا أبت .
فرد عليه أبوه :
- كيف ، وهذا ضيف ولا قرى ؟
- يا أبت اذبحني ، ويسر له طعما .
- لا ، سأعتذر بالعدم .
- إذن يظن لنا مالا فيوسعنا ذما .
أصبحت حيرتهم كخلايا الدم تطرق الجسم كله بما تحمله من أسى وأسف .
بات العربي بخيلا بفقره وعوزه ، صار الكريم لئيما ، واللئيم كريما ..
نادى جرول على ابنه قبل حضور الضيف ، وكان قد حفر حفرة وسيعة انطرح
فيها وهو يقول له :
- عجل يا بني وئدني ، فسيتجاوز عنك ضيفك لصغرك ، ولا يتهمك بالبخل .
التراب يلقى على المنطرح في الحفيرة . الضيف يقترب . الابن يسرع في
غيار والده خشية العار . الأم تتخاذل ، وتثبط همة ولدها . الطفل لا يبالي .
ولما لم يغض أباه في الأرض ، وكان الضيف قد وقف على القبر ، وشمر عن ساعديه
لمساعدة الطفل على دفن قريبه ، خاطبته زوج جرول قائلة : " إن زوجي سليم من
أفعى ، ويعتقد في شفائه بالطمر " ، عندها أبدى الضيف معرفته بالشفاء ،
ورغبهم في خبرته ، فترجته الأم ، ثم أخرج الضيف جرول من قبره ، وطرحه على
بطنـه ، واهتم بثقبين أحدثتهما زوجة جرول توكيدا لصدقها ، وتمويها لنابي
الأفعى ، فشرع الرجل يجرح موضع اللدغ في رجل جرول ويعصرها ، ويمتص الدم
الملوث بفمه ..
أضحى جرول ساعتها تحت سلطان الألم من زوجه ، وضيفه ، وسلطان العار
من فقره وحاجته . كان تحتهما يلقي بنظره في الأفق البعيد ، ويتأمل أشباحا
أخرى ظهرت له لتزيده ألما وغما ، لم يكن يتصور غير ضيوف أخر يقصدون خيمته ،
ولكنه حين تبين أدرك أنها حمر وحشية تقصد مستنقعا قريبا من خيمته .
تحرر من يد الطبيب الضيف ، ونهض مندفعا نحو قوسه وكنانته ، وجرى
خلفها .
أدرك جرول الفرائس وهي تنهل من ماء المستنقع . رأى حمرا لا تبالي ،
لو كانت إلى جانب أسد تشاركها منهلها لما نفرت ، حمر عطاشى قد أدركت رواءها
بعد عناء .
انتظر جرول فرائسه حتى ترتوي ، وتأخذ نفسها ، وحين اطمأن إلى
ارتوائها سدد سهما من كنانته إلى السمينة منها فأصابها .
أقبل على فريسته وهي تفحص برجلها حتى وقف عليها باشا قد ذهبت حيرته
، وزالت حسرته ..
جر صيده وقد أرهقه اكتنازها ، وأعياه اعتثارها ..
باتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم ، فلم يغرموا غرما ، وقد غنموا غنما
..
بات أبوهم من بشاشته أبا لضيفهم ، والأم من بشرها أما .
محمـد محمـد البقـاش /
mohammed_bakkach@hotmail.com
جرول بن أوس ( الحطيئة )
القصيدة التي تم الاقتباس منها:
وطاوي ثلاث
وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ببيداء لم يعرف بها ساكن رسمـا
أخي جفوة فيه الأنس وحشة يرى البؤس فيها من شراسة نعمى
تفرد في شعب عجوزا إزاءهــا ثلاثة أشباح تخالهم بهمــــا
حفاة عراة ما اغتدوا خبز ملــة ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طعمــا
رأى شبحا وسط الظلام فراعـه فلما رأى ضيفا تشمر واهتمـــا
وقال هيا رباه ضيف ولا قـرى بحقك لا تحرمه الليلة اللحمـــا
وقال ابنه لما رآه بحيــــرة أيا أبت اذبحني ويسر له طعمـــا
ولا تعتذر بالعدم عل الذي طرا يظن لنا مالا فيوسعنا ذمـــــا
فبينا هم عنت على البعد عانـة قد انتظمت من خلف مسحلها نظما
عطاشا تريد الماء فانساب نحوها على أنه منه إلى دمها أظمــــا
فأمهلها حتى تروت عطاشهـا وسدد فيها من كنانته سهمـــا
فخرت نحوص ذات جحش سمينة قد اكتنزت لحما وطبقت شحمــا
فيا بشره إذ جرها نحو قومــه ويا بشرهم لما رأوا كلمها يدمــى
وباتوا كراما قد قضوا حق ضيفهم قلم يغرموا غرما وقد غنموا غنمـا
وبات أبوهم من بشاشته أبــا لضيفهم والأم من بشرها أمـــا .
الشاعر : جرول بن أوس ( الحطيئة ) .
نفايات ...
(قصة ظليلة)
تقسو الأكف وتخشن وهي بيضاء ناصعة . تطحن العضلات بسادية فظيعة ،
ويستمر الطحن
مدة استواء الحمراء على عرشها حتى استوى له هرم الملك خوفو . وينساب
الزمن كما ينساب صعلوك الصحراء في جنته ، ويمضي معمرا كما عمر ولي عهد
البرتغال في خلافة والده . من اليمين إلى اليسار رقم ثمانية ، واحد ، وواحد
، ولكنها لا تقرأ ، تأبى ذلك . تلح في القراءة من اليسار إلى اليمين . هي
الزمن المنحدر من سقوط غر ناطة . هي الموت خنقا عند نهايتها . هي الدراما
الكاملة يتغنى لها الوخز ، ويضرب لها الألم . أفواه الرحمة لم تعد ترتدي
جلدها، طلاها الغبن فسدت عنها المسام ، واقتعد عليها الشلل حتى هجرها الدم
. يقبع في سجنه متأملا ممدريته ، تصله النظرية وتصلنا كما يصل جسر لشبونة
البرتغال . ساقوه بو شاية حساد. أفتى ربع فقيه بقتله ، ولكنهم لم يقتلوه .
لم ترض السماء أن تكون شاهدة . أشاحت عن صبيانتهم وأرسلت رياح الغضب فساقت
سحابا تحجبت خلفه ، ولكنهم قتلوه . قتلوه في بعد جاورته البيوت . وعلى حال
ليس غيره فيها صموت . كان عظيما فاستبق الزمن ليرى نفسه عظما . ظل يقتات في
زمن الوشاية حتى بات فيه قوتا أمسى شمس سماء العلا ، وعند إحساسه بالرحيل
أنشد : فقل للعدى ذهب ابن الخطيب ومات ومن ذا الذي لا يموت انتفضت باب
المحروق بساكنتها ، وألقت ما فيها . انتفض رفات ابن الخطيب دون روح. اشتعل
كقنديل يغري بهداية العمي . حمله كف أبي وطاف فاس يفحص وجوها تعيش في غير
زمنها . جاب أنفاقا تصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب . صاح مناديا على
الزمن الممد ري ، وحين حضر ترجاه أن يتوقف لحظة ريثما يتدبر أمر الأعناق
باحثا عن أثر للخنق فيها فلم يخطئه .
- هم نفايات بشرية ، كذلك صور تقرير الجيش الإسرائيلي ضحايا مجزرة
قانا ، فكذلك يصوركم مثقفوا ما بعد الحداثة . يخاطب ذرات طوافة تعود لأهل
العز . يسخر منهم ، وتسخر معه تلك الذرات . تغلي دنيا العرب بصياح الموتى
وصياح الأجنة . معضد يون يسوقون فكرة الوحدة ويتشبثون بالوطنيات والقوميات
.
- لماذا ابتلعت ألمانيا الغربية ألمانيا الشرقية دون قضم ؟ ألمانيا
نفس واحدة لشعب واحد . توحدتا . اندمجتا . تزاوجتا . تعانقتا وانصهرتا .
وهؤلاء العرب ، ما بهم ؟ لا يزال يهذي كما ينعتونه . ينشرون عنه صورا قاتمة
منفرة . يقعدون الدنيا على أفخاذهم كما لو كانت أنثى مسروقة من أبويها . لم
يدرك ما يدركه حكام كثيرون ومثقفون . لم يذق طعم الانبطاح ولذته . آه على
نشوة تحسس النعال على الأعناق . خطوط جبين الطاغية مواقع للاقتعاد . جسمه
كوكب للاستيطان . العرب عنده نفايات بشرية ، وموقعهم في زبالة الزبالات .
ظهر لابن الخطيب معي بطول متر ونصف يسير مجرورا في الطريق يتبع صاحبه.
اعتقد أنه ينزف جراء طعنة حداثية فاستوقفه لاستبيانه ، وقال له : " تجر
معيك خلفك وقد تلطخ بالقاذورات ، اجمعه إلى بطنك ، واحفظه داخلها " . نظر
إليه بسبعة عشر عضلة راقصة على محياه ، فجابهه مستنكرا بثلاثة وأربعين
وأشاح عنه وغار . لقد أضرب عن الكلام وازن القمر منذ صار كاتبا كبيرا . لم
ييأس ابن الخطيب من رد النفوس إلى فطرتها ، والعقول إلى رؤوسها . تبع
المبدع الكبير لرائعة القزمية حتى انزوى في ركن مظلم امتلأ عن آخره
بالمثقفين . يرصدون منه حركة الناس والمجتمع لحساب المخابرات الأجنبية . لم
يشذ عنهم فنان أو صحفي ، وشاعر أو قاص .. ينصبون الشرك لكل عقل يتطلع إلى
التحرر والانفلات من قبضة التبعية والإمعية . اقتحم عليهم عالمهم فاصطادوه
. دهنوا تراكيبهم بخمس ليترات من المداد اللاصق غير المسال . ظنوه عقلا لم
يدجن لأطروحتهم . لم يظفروا بشيء علق بشركهم فزلزلوا لذلك زلزالا شديدا .
يحيون ببطون ممتلئة عجينا ، ويضعون الطعم المعضدي في الشرك . صاح فيهم ابن
الخطيب قائلا : " خلفنا لكم العز فبعتموه . تركناكم أعزة على أعدائكم
فانقلبتم عليهم أذلة . تخاصمون من تخاطبون . لستم منهم . إنكم جزء من الآخر
، أنتم في أيديهم أطوع من معدن الذهب " . قلق المثقفون لكلام ابن الخطيب
وما فتئوا يقلقون . صنفوه مجنونا . شبهوا طاقة كلامه ببطارية تخبو شيئا
فشيئا ولن تشحن أبدا . أسرع إلى ضريحه حيث الأحياء الطيبون ، وغار في قبره
، وغاض في زمانه . خلف خلفه نبتة العز في مكان مهجور ، ولكنه آمن ، تركها
تنمو في حراسة الممادرة وتنضج بين عرب ليسوا عربا ، ولكنهم عرب .
محمـد محمـد البقـاش
لسان الدين بن الخطيب
الأبيات التي تم الاقتباس منها :
بعدنا وإن جاورتنا البيوت وجئنا بوعظ ونحن صموت
وكنا عظاما فصرنا عظامــا وكنا نقوت فها نحن قوت
وكنا شموس سماء العـــلا غربن فناحت علينا السموت
وكم سيق للقبر في خرقــة فتى ملئت من كساه التخوت
فقل للعدى ذهب ابن الخطيب ومات ومن ذا الذي لا يموت
الشاعر : لسان الدين بن الخطيب
القصة الوجيهة
قاضي البيت الأبيض جحا
( قصة وجيهة )
أسرع جحا مستعجلا ، قادته عجلته إلى مقهى أسفل حي القصبة ، مقهى
يلبد فيه الوعدودي ــ 1 ــ منتظرا زبناءه ، ابتاع منه معجون الحشيش ، ثم
قفل راجعا وقد طعمه .
ابتدأ يمشي مخالفا سيرته الأولى ، فرمله الحشيش عند الثواني الأولى
لتناوله ، ولما كان عند عقبة الكومير ضاع له رقيبه ، نام فص مخه حيث ناصيته
.
تسكع يركبه حتى وقف عند باب أمه بالجبل الكبير، وقف متسمرا يهم
بطرقه ولا يفعل. وهو سابح في عالم دوار يركب صورا كتلك التي تحدثها أجسام
تستقل الخذار يف ؛ همس لنفسه قائلا :
" أمي امرأة عجوز تتحرك بصعوبة ، غلبتها الشيخوخة وأقعدتها العلل ،
فإن أنا طرقت بابها لا تفتحه إلا بعدما تنهض من سريرها في نصف ساعة ,
وبعدما تضيء اللمبات في ربع ساعة ، وعندما تصل إلى مصراع الباب تكون قد مضت
على حركتها ساعة كاملة ، هذا فضلا عن إزعاجها وربما إغضابها ، لا ، لا أطرق
الباب وأزعج أمي المسكينة، سأتركها تنام وأذهب إلى أختي بدار البارود
وليتحمل زوجها ، وليغضب علي إن شاء ، المهم إلى دار البارود " .
تمر عليه سويعات يقضيها واقفا مع حارس يسامره ، أو قرب كلب يناجيه ،
أو عند قط يشهد عراكه مع دخيل على منطقته أسود أشهب ، هكذا حتى يقف على
عتبة دار أخته فيتسمر كسارية الإنارة ويدخل عالما مخذرفا ويشرع في الحديث
إلى نفسه قائلا :
" الوقت متأخر جدا ، وأختي نائمة ، وطرق بابها يزعج زوجها وربما غضب
عليها وخاصمها ، أفأ كون أنا السبب ؟ هل أتسبب في خلق مشاكل لأختي ؟ كلا ،
لست إذن صاحب مروءة ، وإذن أمي أمي ، فإذا أغضبتها سامحتني ، أذهب إليها "
.
ظل جحا طول ليله في ذهاب وإياب حتى جلدته الشمس فاستدفأ لها وعيه
وعادت القيادة إلى ناصيته فأـبصر نفسه عند بساط يطوي تحته أطلانطس ، انحنى
على سطحه ، ثم أدخل فمه في الماء ونادى على دلفين معمر شهد رحلات ورحلات
للمنتقمين .
ركبه وقصد أمريكا الشمالية . اقتحم مكتب الرئيس ، وجده فرحا مرحا
يريد أن يتسلى جدا ، ويجد هزلا ، فقال له : " ما رأيك في أن تمثل دور
الحيوان ، فقد مسخ نصفك ، ويقوم ممثلا معك بلير وألمرت ، بلير يمثل دور
الذئب ، وألمرت يمثل دور الثعلب ، وأنت تمثل دورالأسد ؛ وإن كان نصفك
المتبقي سيستحيل إلى كلب هو الآخر " فرد عليه :
ـ كيف ؟
ـ تتحولون من آدميتكم إلى حيوانات استجابة لطبيعة خستكم، ثم تذهبون
جميعا إلى غابة كينيا للصيد ، جدوا في رصد جحش سمين ، ثم استقدموه إلي .
انحرفوا إلى غابات أفغانستان والعراق وفلسطين والصومال فصادوا حمارا
معمرا، ثم قدموا به إلى جحا وكان قد نصب نفسه حاكما بعدما نوم البرلمانيين
ونوم الشعب فقرر حكم البلاد بأهل نيام ،عندما وقفوا بين يديه يجرون صيدهم
قال لهم : " والآن اقتسموا حماركم بينكم وليبدأ بالقسمة الذئب " .
اقتسم الذئب الفريسة إلى ثلاثة حصص، قدم حصة للثعلب ، ودفع بحصته
جانبا، ثم تقدم إلى الأسد بحصته، ولما اقترب منه صفعه صفعة أحدثت في وجهه
أخاديد بعدد أظافره أنسته نفسه فما وجد لها غير الفرار سبيلا ، فقال الأسد
: " ليقتسم الآن الثعلب " .
تقدم الثعلب إلى حصة الذئب ودفع بها إلى الأسد قائلا : " حصة الذئب
حصتك أيا الأسد " ثم تناول حصته وتقدم بها قائلا : " وحصة الثعلب حصتك أيها
الأسد " ثم جمع الفريسة ولم يبق تالفا منها ذيل أو حافر، ضم ما تفرق منها
إلى بعضه ودفع به قائلا : حصتك أيها الأسد هي حصتك وهي كل الفريسة " ، فقال
له الأسد وهو يضحك من الغبطة : " أين تعلمت القسمة والحساب ؟ " فقال : "
تعلمت الحساب وأتقنت القسمة في وجه الذئب " .
استأثر الأسد بكل الحصص ونسي جحا ، فقال له بعدما شرع يجر فريسته :
" إلى أين ؟
ـ إلى حيث أريد بحصتي.
لم يبال ، تقدم إلى جحا يظنه حيوانا مثله ، ولما هم بوضع يده عليه
ضغط جحا على عنقه فخنقه حتى انطلق رذاذ من عينيه كما لو كان حبـة عنب
مضغوطة بإبهـام وسبابة ، ثم أرسله قائلا : " لا تزال مغرورا ، تظن نفسك
أسدا ، وما أنت إلا كلب ، هذا أوان محاسبتك على لصوصيتك ، على ظلمك وطغيانك
، أما الأسد فهو أنا ، أنا قاضيك .
1ـ الوعدودي اسم حقيقي في الحكاية الأولى ، والقصتان مقتبستان من
حكايتين شعبيتين تتداو لهما ذاكرة طنجة الشعبية . الأولى واقعية حصلت في
سبعينيات القرن الماضي وقد باتت حكاية شعبية، أما الثانية فقد وردت
كالتالي:
زعموا أن ثعلبا وذئبا وأسدا اتفقوا على صيد مشترك يقتسمونه بينهم ،
فخرجوا إلى الصيد ، طاردوا حميرا وحشيا حتى تمكنوا من جحش سمين وقع بين
أظافرهم ، جروه إلى عرين الأسد وأخذوا راحتهم ، ثم أمر الأسد الذئب والثعلب
بتقسيم الفريسة بينهم .
قسم الذئب الفريسة إلى ثلاثة حصص ، فتقدم بحصة الثعلب ودفع بها إليه
، ثم نحى حصته جانبا ، وتقدم بحصة الأسد ، ولما اقترب منه صفعه صفعة أصمته
حتى استنفرت لها دوافع طاقته فهرب يصيح مسمعا الذئاب ، ثم أشار الأسد إلى
الثعلب وطالبه بتقسيم الصيد ، فتقدم الثعلب وأخذ حصة الذئب ودفع بها إلى
الأسد قائلا : " حصة الذئب حصتك سيدي الأسد ، وتناول حصته ودفع بها إليه
قائلا : وحصتي حصتك سيدي ، وجمع أجزاء الفريسة وضمها جميعا إلى نصيب واحد
وقال : وحصتك سيدي هي هذه " ضحك الأسد من الغبــطة وسأله : " أين تعلمـت
القسمة والحسـاب ؟ " . فرد عليه : " تعلمت ذلك في وجـه الذئب " .
ملاحظة:
الحكايتان مرويتان باللهجة العامية بأساليب مختلفة وصيغ متباينة ولكنها
جميعا تدور حور معنى واحد، وتروى بلهجة من العربية محرفة نطقا ، وأنا هنا
لم أكتبهما باللهجة المروية بها محاولة مني تجاوز ذلك مادام الأمر غير
متعلق بالتوثيق كما هو الشأن في قصة وجيهة أخرى نشرت بمنتدى القصة العربية
بعنوان : عند الرحمن المجذوب في غوانتانامو .
محمد محمد البقاش طنجة في 13/09/2006
رؤية وإبداع
القصة الوجيهة قصة ذات وجهين : وجـه عامي . ووجه فصيح . الوجه
العامي عبارة عن فكر شعبي ، وأدب شعبي ، وثقافة شعبية ، معبر عنها بالعامية
، ويكون أمثلة ، وحكما ، وحكايات ، وقصصا يوردها المبدع في تعبيره العامي
بلهجة تجمع بين الموسيقى اللفظية ، ( ليست الموسيقى اللفظية شرطا ) كالزجل
المسجوع ، وتجمع بين الحكمة ، وبلاغة المعنى ، وتكون أساسا لهجة نبتت من
الفصحى .
كما قد يكون الوجه العامي ، ليس عاميا بالمعنى الصحيح للعامية ، قد
يكون الوجه فصيحا ، ولكنه محرف ، يحتاج إلى تقويم . وإذن فالوجه الآخر غير
الفصيح ، هو الوجه العامي ، والوجه الفصيح المحرف في النطق ، والكتابة ، أو
المحرف في النطق دون الكتابة ، غير الوجه العامي ، ولكنه يأخذ حكمه في
اصطناعنا .
ولا يفهم من القصة الوجيهة أنها قصة تصب في إحياء العامية ، وتسعى
إلى إنعاشها ، وتستهدف استعمالها وتوظيفها في الفكر والأدب بغية ضرب الفصحى
، أو التشويش عليها ، بغية إفساد أذواق الناس ، والنزول بمستوى تعبيرهم في
الفكر والأدب بدل الارتقاء بهم وتخليصهم من الذوق الفاسد والتأثير
الاضطرابي في استقامة لسانهم .. لا يفهم ذلك ، لأن ما ورد بشأن الوجه
العامي مجرد محاولة لرفع المعنى ، والحكمة ، والمثال ، من التعبير عنه
بالعاميـة ، أو من التعبير عنه بالفصحى المحرفة ، إلى التعبير عنه بالفصحى
السليمـة ، وهو شبيه إلى حد ما بالترجمة . كما أن ما ورد بشأن الفصحى
المحرفة مجرد محاولـة للتقويم حتى يقتعد المعنى موقعه السليم في اللسان
العربي الفصيح ..
ونقل المعاني والحكم والأمثال الواردة في التعابير العامية ، يتطلب
دراية بالأدب الشعبي المعبر عنه بالعامية ، ثم تهذيبه وتشذيبه وإزالة ما
علق به من أدران ، ثم اختيار الأجود منه لرفعه إلى درجة القبول لغويا ،
وذلك بالتعبير عنه بالفصحى ، مع التوثيق من حيث نسبته إلى أهله ومبدعيه إذا
كانوا معروفين .
والقصة الوجيهة بعنوان : عبد الرحمن المجذوب في كوانتانامو ، و :
بوعراقية في البيت الأبيض ، مثالان على ذلك . فلو تأمل القارئ تقنية الرفع
من مستوى التعبير عن حكمة المجذوب ، وكلامه البليغ إلى الذوق السليم ،
والتعبـير الفصيح في قولـه : (( أنا كالكـتـاب المؤلف ، في منافع كثيرة ))
، يجد أن الأمر لا يعدو كونه تصحيحا للنطق ، وليس تصحيحا للكتابة ،
فالكتابة سليمة وهي : (( أنا كالكتاب المؤلف في منافع كثيرة )) .
إن اللهجة المستعملة من طرف سيدي عبد الرحمن المجذوب لهجة تعتمد
ألفاظا عربية فصيحة ، جرى تحريف النطق بها ، وفي أحيان كثيرة تحريف كتابتها
أيضا . فالتعبير بها على الشكل المذكور قد لا يعدو كونه ركاكة بسيطة ، مجرد
ركاكة ، تحتاج إلى تقويم بإخضاعها لقواعد النحو والصرف ، حتى تستقيم .
القصتان الواردتان قصتان وجيهتان تتضمنان بعض الأدب الشعبي ،
تتضمنان تفكيرا في الحياة ، والتعبير عنها باللهجة العامية ، والملاحظ أن
اللهجة العامية المغربية ، وكذلك اللهجات الأخرى في البلاد العربية ما هي
إلا تحريف للفصحى ، بحيث تتضمن كلمات كلها تقريبا من أصول عربية ، وأتمنى
أن تكون الممدرية محطة تتكسر عليها اللهجات ، كما تكسرت اللهجات العربية
القديمة على لغة قريش فتسود هذه الأخيرة في النهاية في القرن الحادي
والعشريـن ، وكأن الأمر مجرد جولة من جولات الفصحى ستجتازها بنجاح . وما
باللهجات من لفظ دخيل ، قليل جدا . والممدرية تريد أن تصحح هذا الانحراف في
النطق ، تريد أن ترفع الأدب الشعبي كما قلنا إلى اقتعاد موقعه من الأدب
العربي المكتوب ، والمحكي بالفصحى . ولا يقال بأنني جئت بكثير من الكلام
العامـي ، أو الكلام العربي المحرف ، لا يقال ذلك لأني عبرت في بعض المواطن
بالتعبير العربي الفصيح ، وهو لقائله بالعامية ، مثال ذلك في قصة عبد
الرحمان المجذوب في كوانتانامو : (( أنا الكتاب المؤلف ..)) . و : (( ..
مطرحه فيه الثلج ، وفراشه فيه الهواء ، مصباحه فيه القمر ، وأنسه فيه
النجوم )) . وكذلك في قصة : بوعراقية في البيت الأبيض ، مثال ذلك : (( شنو
كتعمل بالفردي والزرواطة ؟ هادو خاصين بالسلاكيط .. )) علما بأن هذا الكلام
ليس للرجل من باب النقل ، لم أنقله عنه لأنه غير مكتوب ، بخلاف شخصية عبد
الرحمان المجذوب ، وحتى الذاكرة الشعبية في طنجة لم تعد تحتفظ لبوعراقية
بشيء له إلا مقبرة المدينة التي جعلها وقفا لدفن موتى المسلمين ، ولا تزال
تعرف باسمه إلى الآن ، ولا شيء في المكتوب مما ينسب إليه على حد علمي . ولا
يقال أين الأمانة الفكرية والعلمية والثقافية هنا ؟ لا يقال ذلك لأن الأدب
الشعبي أدبنا جميعا ، نستطيع التصرف فيه بالزيادة والنقصان ما لم يكن موثقا
.
كما لا يقال أنني بهذا ساهمت في العامية ، بدل المساهمة في التقليص
منها ، لا يقال ذلك أيضا ، لأني كنت عند التعبير إنسانا آخر ؛ تشده أفضية
القصة وأجرامها الأدبية ، وكنت مراعيا لما تقتضيه للأسف ظروفنا السياسية
المأساوية ، وهذا جبن مني أعترف به ، وأتمنى خلعه ، لأنه لن يجعل مني أديبا
ومفكرا .. ولا يؤهل أدبي وفكري للتبني ، فالشعوب والأمم لا تسلم قيادتها
لجاهل أو لجبان .
عبد الرحمان المجذوب في كوانتانامو
(قصة وجيهة)
طوافا في بلاد الله يزرع عمره فيها . ينثر سنواته كما ينشر المزارع
حبه في أرض سقيمة . في مكناسة وطنجة يلتقي بوجوه تبش له كلما تصافحت .
استيقظ في يوم جريح مستعجلا الجري وراء حلمـه اليقظ ، تبعه حين انسل
منه هاربا حتى دخل سوق النساء مرددا :
" سوق النسا سوق مطيار ، يالداخل ليه رد بالك ، يورولك من الربح
قنطار ، ويدولك راس مالك " .
أغرى الأسماع فوعت ، وحين رأوه أسود مغلفا كدودة قز في شرنقتها ،
مدثرا كرخوية في قوقعتها ، حسبوا أنه تافه لا ذخيرة فيه ، فصاح بهم :
" أنا الكتاب المؤلف ، هلموا اقرءوا ما فيه ، فقد تضمن فوائد كثيرة
". وعندما انتبه إلى غفلته عن طلب حلمه الذي أصر على مطاردته ، افتقده .
ركن إلى بيت مطرحه فيه الثلج ، وفراشه فيه الهواء . مصباحه فيه
القمر ، وأنسه فيه النجوم . يحرك عضلات الإبتضب ولا يتجايش لهما . يشير
بيديه . يقف و يجلس على صعيد مسنن . تبرق عينه وتلقي بالشرر المبارد . يحمل
قضيبا من نجم خيزران مضرب عن السموق ، يلوح به كقائد أوركسترا ، ويقول :
" ياللي راقد على القطيفة دافي ، العريان كيف يجيه النوم ؟ لقرد مشى
للغرب ، والديب جاب راسو ، لو كان الخير في البصل ، ما يتغرس على راسو " .
أطرق هنيهة بعدما رمى بصنارته يصطاد المستقبل في بحر الحكمة ، وطال
انتظاره ، فلم يستطل عليه مصطاده ..
انطرح على أرضية صبغتها الرخويات ، يتخبط في صرعته وقد حبكتها إبر
فكرية ، وخيوط سببية ، ويقول :
" غدي يكون في أمريكا حمار زعار ، راهوا عدو للبشر ، لا تصبروا على
ظلمو ، لا تخاليواه يتمادى في لؤمو ، وإلا غدي يشغر عليكم ، وإذا فعلها
انتظروا لكباريـن . يا حكام العرب ، واش مافيكم راجل واحد يورينـا حنت يدو
؟ " .
أظلم ليله على توهج لا ينقطع ، يصدر عن أعين نملية مرباصة ، ساد فيه
حتى الصباح . تزوره فيه أرايح من بغداد وقندهار ، تصطف عند زيارته منتظرة
دورها في ترجيع التحية ، وتقبيل فكره ، ثم تعود من حيث أتت .
قدم إلى طنجة يريد إنصافها . رفعت إليه تظلماتها . تختبئ فيها
الأحلام . تهترئ عليها الأفهام . تجف لها الأقلام ، ولا يجف ريق سيدي عبد
الرحمن المجذوب ، يتصايح في قاطنيها الغشاشين :
" ياقايل العار ، كيف يحلا كلامك ؟ وانت صرة من الشياطة ؟ النتونة
خارجة من فكرك ، وعقلك من الزبالة تخرج ، كتلئم فيها واللؤم طبعك ، طنجاوة
لفمك بالشداق ، وانت لعيونهم بالصباع " .
ضيق بالمجذوب ذرعا فبيتوا قتله . لم تكن للأشقر الهرقلي حيلة يفجرها
إلا أن يتهمه بالإرهاب ، فأصدر أوامره باعتقال المجذوب .
ساقوه مقيدا معصبا ، وأودعوه سجن كوانتانامو . قرر حفيد هرقل
استجوابه ، وقبل أن يمثل بين يديه المجذوب ، تواضع فأعلن عن نيته زيارته
للمجذوب في سجنه . طالب المرهاب بتعبيد ممشاه بجثث ، فانبطحوا ووطئهم ،
وكلما داس عليها تعلمت بكلام بليغ .
فمن ناصح بالتعقل في الانبطاح ، إلى متحد بـ ( الطز ) . فتحوا له
الزنزانة ، فوقف على بابها . مثل بين يديه السجين ، وحين تبين لم يجد غير
رفاته ، فأصدر أمرا إنسانيا بضرورة حماية الرفات الإنساني .
بوعراقية في البيت الأبيض
(قصة وجيهة)
تنادت ذراته مصبحة وممسية . تصايحت مستعجلة بناء جرم لا عزيري . قام
رفاتا منتصبا . دبت فيه الحياة كما لو كان بلدة ميتا ، يتراقص عليها الماء
الغدق . بعثر قبره وتسلل منه لواذا .
اغتدى على شارع سيدي بوعبيد منقبا على رفات رقد هناك ، فافتقدهم .
لعن كل عابث برفات الموتى . لعن كل من ران على قلبه ظلم الأموات الذين طرح
رفاتهم مثلما تطرح النفايات . عبدوا طريق بوعبيد فوقها . يمشي على أصابع
قدميه خشية إذاية الرقد .
مضى نحو سيدي المخفي ، لم يحد هناك غير مخفر للشرطة قائما مكان "
الجوطية " القديمة ، دنا من الشرطي وسأله :
- " شونو كتعمل بالفردي والزرواطة ؟ "
- " هادو خاصين بالسلاكط "
- " الله يعطيك الصحة "
استعجلت قدماه الخطى ، معن كالفرس ، وقبل أن يغور في الزمن المدماع
، تنامى إلى سمعه صياح مشفاق ؛ ليجد نفس الشرطي يهوي بـ " زرواطته " على
رأس مشتعل شيبا .
توجه نحو مقبرة المجاهدين ، دخلها وهي طاوية لذكرى عزيزة عليها ، لا
تزال تفخر بنصر ساكنتها على البورتقيز . أذن في الأجداث فانتفضت غير مصعوقة
من النفخة ، لم تكن مستثنية من المشيئة ، ولم يك صاحب البوق قد نفخ بعد .
تشامخ لندائه الرفات ، والسخط والحنق طافحين يسيلان من وجوه عارية من اللحم
، فخاطبها بوعراقية قائلا :
- ألم تورثوا أبناءكم جيناتكم ؟ .
- بل ورثنا .
- وأين هي سلالتكم ؟
- هنا في طنجة ، وفي العراق ، وفلسطين ، وأفغانستان ، في كل الدنيا
، وفي كوكب البكوك .
مركاضا يقرع حبال صوته ولا مجيب . يفحص وجوه الرجال وهي ذكور ؛ مجرد
ذكور . يتحسس الأجنة فيأسى على عقمها . ممعانا في البيان . مسماعا للآذان
يقول : " جرعوا الناس المهانة حتى استمرءوها . أشربوهم الحقارة في صنابير
المياه . أشبعوهم الكلام الأدبي التافه . رشقوهم بالآمال التي أطلقها جحا ،
ثم نكرها " . ظل ثائرا كالتورنادو يقتلع الطفيليات حتى عثر على أجرام تسكن
في غير زمنها . أرخى حمولته المرذولة بقيعة تلامس الماكما ، ثم التقط ما
أراد ، ورام بلاد المرهاب .
اعتلى صهوة الهواء فقاده إلى مهوى لا يزال مسكونا بصوت البطوطي .
بصوت ظليم تقطعت حباله ، فبح لها مرددا : " لقد استهدفـوا طائرتنا المدنية
بصاروخ ، ويعلم ذلك رئيسنا ، لقد هانت عليه أرواحنـا ، هانت ، هانت .. " .
دخل حديقة البيت الأبيض . مشى في رحابها ملفوفا بالزغاريد والتهاليل
، تحدثها نجوم يافعة ، وشجيرات ظليلة . اقتحم مكتب الرئيس . ألفاه جالسا
على نفس الكرسي الذي كان يجلس عليه بيل كلينتون . حياه المقعد ، وأحجم
القعيد . جرت الزربية نفسها حتى لا يطأها بوعراقية ، استحيت أن تلوث قدميه
بآثار مونيكا المصاصة ، مونيكا التي كانت جاثية على ركبتيها تلحس قضيبا لا
يتطهر من البول . ألفى عجوزا نشطة تحاكي فعال لوينسكي مع من منحته
كروموسوماتها .
تقدم إليه بوعراقية . رشقته خنفسة الدفن مذهولة مشدوهة . أظلم
لرئيسها عقلها ، وزم عن إبداء الرأي . بجوارهما مستنسخ من ظربان لندني ،
يتفاوح كظاهرة قريته الكينية ، مد يده إليه ، وأخذه من تكتـه كما يفعل
دافيد بأخيه سالفادور في فضاء الرواية الممدرية ، ألزمه إخراج قلبه ووضعه
على كفه . قلبه بين يديه يبحث فيه عن رحمة ، أو رأفة ، عن مشاعر إنسانية ،
خلت منه الصفات الممدرية ، يلفه فؤاد معضدي محشو بالحقد الصليبي ، والثقافة
العنصرية . رمى به ، وخاطبه قائلا :
- لماذا لا تتركون العرب والمسلمين يحيون بحسب اختياراتهم ؟ أليس
هذا من أدبيات ديموقراطيتكم ؟
- إذا كان وينستون تشرشل يعتبر أن أسوأ أنظمة الحكم في العالم بعد
الديكتاتورية ، هو نظام الحكم الديموقراطي ، فأنا أعتبر أن أسوا أنظمة
الحكم الديموقراطية في العالم ، هو ذاك النظام الذي لا يعمل على إذلال
العرب والمسلمين ، وإبادتهم .
ضغط بوعراقية على جيد الرئيس حتى خنقه ، جره كالكلب من ربطة عنقه ،
ثم أعاد سؤاله :
-لماذا لا تتركون الناس لاختياراتهم ؟
فأجابه :
-لا خيار لأحد . الخيار الأمريكي هو الخيار .
-عودوا إلى مبدأ مونرو .
-لا ، لن نعود .
-ماذا تحسب نفسك ؟
-أحق من يفكر لكم ، وأجدر من يضع تشريعاتكم . أحق من تعبدونه من دون
الله ، وأولى من تتبعونه من دون محمد .
-لا ، لا ، لست كما تقول ، فما أنت إلا مجرد كلب مجياف على قارعة
الطريق ، ستسحق ، وسترى .
-ألم تعلم بعد أن من جاء بعدك لا يشبهون أجدادك ؟ هاهم جنودي في
سجون العراق يسومون نساءكم سوء العذاب ، يعبثون بأعضائهن التناسلية ، يحملن
منهم كما فعلنا بالنساء الفيتناميات ، ثم حين يضعن حملهن نستقدم الولدة
الصغار إلى بلادنا ، ثم نستعملهم ضد أخوالهم العرب .
استشاط بوعراقية غضبا على الرئيس ، فانقض عليه . أخرج من جيبه كماشة
قطع بها ما يتمرأ بمثلها جنوده في سجن أبو غريب ، ووضعها له في فمه ، ثم
تنحى جانبا .
( تزيزن ) فابتلعه خرسه ، ثم أومأ إلى خنفسة الدفن ، وإلى وزير
دفاعه . قدما مأزوزين ، يريد استشارتهما بشأن التفنن في تعذيب الأسرى ،
يمنعه عن ذلك ما في فمـه . أشارا عليه بالزيادة في إذلال العرب ، أوجب على
حكامهم كنس الإسلاميين ، فهم الخطر ، والخطر هم .
غفلوا عن بوعراقية بعض الشيء ، وكان ساعتها يبني لنفسه حصنا ، خلق
فيه وسائل تركب ، وكيفيات تجرب ، ظل يوزعها على الناضجين ممن صفت جيناتهم
فاستنبتت الرجال .
أشرف على نضجها ، واطمأن إلى قوتها . حيا فيها أملها . وحين ذبح
اليأس أمامه ، ارتاح إلى إجرائها ، وخطا خلال مرهاب الشعوب يلعنه ، يبصق
على وجهه ، ثم عاد إلى ضريحه بأم المدن المغربية .
ترك الناس تعيش موسم حصاد الوهم ، ولكنه زرع في موسمهم موسما آخر ،
تركه لهم نبتة طرية ، جيناتها نقية ، وخلاياها جذعية منشئية .
|