ظلال الطفولة
مجموعة قصصية من الأدب
المَمْدَري للصغار والكبار
إضاءة
(مجموعة قصصية من الأدب المَمْدَري) موجة للأطفال
بالدرجة الأولى. صحيح أنها للصغار والكبار، ولكن مراعاة قدرات الطفل على
استيعابها جعلت منه أولوية، وقد عرضتُها على ابنتي هالة فتذوّقَتها، وهي
التي عيّنت لي سن الثانية عشرة من وحي سنها...
ظلال الطفولة مجموعة قصصية مَمْدَرية.
والمَمْدَرية نظرية تحاكي الكون والذرة والخلية..
المَمْدَرية كلمة مركبة من كلمتين هما:
الامتداد، والدائرة.
ومعناها امتداد الأجرام الأدبية والفكرية والفلسفية
في دائرة يصنعها الأديب بأدبه والمفكر بفكره والفيلسوف بفلسفته... وهي
بمثابة كونه الصغير الذي يملكه ويوجِّه فيه أجرامه..
الأدب المَمْدَري يقوم على مُكَوِّنين اثْنيْن،
ويستهدف غاية مزدوجة.
المكونان الاثنان هما:
أولا: التثقيف الفني.
ثانيا: الرياضة الذهنية.
والغاية المزدوجة هي:
أولا: المتعة العاطفية ويشترك فيها مع كل الآداب
عربية وعجمية.
ثانيا: المتعة الذهنية ويتميز بها متفردا عن غيره.
والأدب الممدري جديد على الساحة الأدبية عربية
وعجمية، وتكفي جدته في التثقيف الفني والرياضة الذهنية؛ إقامة كيان الطفل،
وبناء شخصيته، وإضافة لأدبه.
وظلال الطفولة (قصص من الأدب المَمْدَري) تحقق للطفل
ما يلي:
أولا: تتوجه المجموعة إلى شخصية الطفل باعتباره قدرة
عقلية وطاقة فكرية في سلّم الطفولة، غير أنها تبني في سلّمها درجات ليصعد
عليها نحو النُّضج، وتودّ منه أن ينضج قبل الأوان ولا عجب ما دامت طفولة
أبنائنا مستهدفة بالجهل والتخلُّف والانصراف إلى غير العلم والمعرفة
والفنون.. تسير المجموعة به نحو تكوين الذوق.. والذوق في الأدب المَمْدَري
هو عينه الفهم..
ثانيا: مادامت المجموعة القصصية من الأدب الممدري،
فهي إذن صناعة وخلق وإبداع... وما دامت كذلك، فطفلنا في الأدب الممدري لن
ينفلت من الوعي على ما يراد له، والمراد لطفلنا؛ الوعي العالي الذي يؤهِّله
في الشباب والرجولة أن يكون قائدا مُبْدعا، وفي أعلى الدرجات أن يكون قائدا
مُلْهَما.
ثالثا: تثقيفه تثقيفا فنيا باختيارات موفَّقة ومن
محطّات مرغوبة، فالتسلية والتلهّي لا يرِدان في الأدب الممدري دون رقيب، لا
نريد من الأدب الممدري أن يكون للطفل لهوا ولعبا وتسلية لغير غاية، ومن هنا
يتحتّم عند تقييده ـ والقيد ضمن دائرة من المفاهيم والقيم تسع لهوه ولعبه
وطموحه وتأخذ بعين الاعتبار صغر سنه؛ هو عينه التحرير ـ وهو واجب؛ أن
يرتفع في ثقافته، وينمو في عقليّته بما نقدمه له من قِيَم نختارها، ومفاهيم
نصطفيها، وأفكار ننتخبها؛ ولكن بطريقة غير مباشرة..
رابعا: الطفل الممدري طفل ينتمي إلى الإنسانية،
وكونه منها وينتمي إليها لا يعني أن نعطيه كل شيء مستذْرعين بالإنسانية،
كلا، فالإنسانية من حيث هي إنسانية إما أن تكون نتاجا إنسانيا؛ وفي ذلك
ظهور للقيم، وإما أن تكون نتاجا للإنسانية؛ وفي ذلك ظهور للقيم أيضا،
ولكنها قيم لا تشبه القيم الأولى، فما ينتجه الناس في الحضارات لا نأخذه،
وإنما ننتفع به لأن لنا حضارتنا، وما تنتجه حضارتنا؛ نأخذه ونتبنّاه.. وفرق
كبير بين الأخذ والانتفاع والتبنّي..
خامسا: في محطة الإنتاج الفكري والمعرفي والأدبي
والعلمي تقيِّدنا الممدرية بأخذ العلم التجريبي حتى من الذين يعادوننا؛ مع
الحذر، لأن العلم عالميّ لا يختصّ بشعب دون آخر، ولا بأمّة دون أخرى، وهو
الذي ينوِّع الأشكال المادية التي تنتمي إلى المَدَنِيّة وتعنيها؛ خلاف
الأفكار والمفاهيم والقيم والمُثل التي تنتمي إلى الحضارات.. وأما في
المجال الفكري والمعرفي فلا نأخذ إلا ما يوافق فطرتنا ويقنع عقولنا ويملأ
قلوبنا بالطمأنينة، وأما في الأدب فالأدب في الممدرية يقوم على التثقيف
الفني والرياضة الذهنية مع اختيار المحطات، ويستهدف الغاية المزدوجة، وكل
هذا يلاءم قيمنا، ولا يقضي على مثُلنا، وتتحقق فيه أصالتنا..
سادسا: عند التنوُّع في الكتابة الأدبية الممدرية
شعرا كانت أو نثرا لا يملك الطفل فيها استقرارا على وضع معين، فالحقيقة
الزمنية تقضي ركوب الزمن، وركوب الزمن من طرف الطفل استقلال لطفولة تتقدّم
في التطوير نحو الشباب والرجولة، وفي ركوبه الزمن رفقة المَمادِرة يتعيّن
عليه رغما عنه أن يتعلم ويرتقي ويتطور، يتعين عليه أن ينمّي خبرته الحياتية
ويسير بها نحو التذكُّر عند الكهولة والشيخوخة قد تجعله حافظا لكثير من
النصوص؛ خلاف ما يُقدَّم له اليوم في معظم البلدان العربية والإسلامية في
مناهج التعليم..
سابعا: تطعيم النص الأدبي بقيَم يُقصد بها الطفل هو
ما ذهبنا إليه في الأدب الممدري، فكم قيمٍ رفيعة هُجرت في نصوصنا وضاع
لغيابها الطفل فبُني بقيمٍ غيرها أضرّت به وبمجتمعه، وخسرنا بها أجيالا
كاملة لم تحقق لنا الشخصية المعنوية؛ بخلاف غيرنا من الشعوب والأمم.
ثامنا: من شأن الأدب الممدري فيما جاء به، في
الكناية العلمية مثلا أن يرفع مخيلة الطفل ويجعله يحلِّق باحثا عن إمكانية
تصوُّر الكناية العلمية، وهي نتاج المَمْدَرية وغير مسبوقة، وفي تصوُّره
لها تخيُّل منه لا أستطيع الحديث عنه، لأنه غيب عني، ولكني على يقين بوجوده
لطبيعة ما يفعل الأدب الممدري من تحريك للذهن، وتحليق بالمخيِّلة.
تاسعا: طفلنا الممدري طفل عادي وطبيعي، ولا يعني ذلك
أن غيره من أطفالنا غير طبيعيين وغير عاديين كثلاثي الصبغي مثلا، كلا، فلكل
وضعٍ حقيقة زمنية تقوم فيه ما دامت قائمة، ويقوم فيها ما دام قائما،
والتعامل مع الطفل يكون بحسب ما يحمل من قدرات عقلية. والطفل العادي بقدرات
عقلية لا يملكها المنغوليان، ولكل مقام مقال، ولكل منهما بيداغوجية تخصُّه،
وتثقيف يعنيه، ولكن المهم في كل ذلك هو التحفيز على العمل سواء كان ذهنيا
أو جوارحيا خصوصا عند هزّ الطفل لتنمية إحساسه الأدبي والفكري والعلمي..
فهو في قصة: ((عقيقة النبتة)) دُفع دفعا إلى سقاية النبات بعدما أحس
بمعاناته، فنهض لعمل لم يكن يظن أنه من اختصاصه، أحضر الماء وسقى النبات
بلترات من الماء هي مقدار ما يحمل الإنسان البالغ من لترات من الدم، وفي
ذلك تحفيز وفضول للمعرفة، فتحمل المسؤولية على صغره، وأنجز ما لم يكن ينجزه
لينتقل منه إلى إنجاز وإنجاز حتى يحقِّق نهضة له ولمجتمعه..
عاشرا: الأدب الممدري يخلق المنافسة بين أجرامه
الأدبية، فعلتْ ذلك المجموعة في قصة: اللُّعبة الثقافية، فحين غلبت زهْراء
سلْمى في الرياضة الذهنية حفَّزتها للإتيان بمثل ما جاءت به أو أفضل،
فبالإضافة للمنافسة في المدرسة على الرُّتب الأولى؛ نافستها في رياضة ذهنية
في بيتها وأضافت شيئا جديدا ولو أن يكون بسيطا لبساطة عقل الطفل..
حادي عشر: من شأن الأدب الممدري بمكوناته وغاياته أن
يميز شخصية طفلنا عن سائر أطفال الدنيا، صحيح أن الأدب الممدري أدب إنساني
لا يُمنع عن أحد، ولكننا بالممدرية والأدب الممدري نحقق سبقاً سنغري غيرنا
بالانكباب عليه وأخذه، فالحس الأدبي والحس الفكري والحس العلمي ينمون في
بوتقتهما، والنهاية طفل كبير بعقله، صغير بسنه، وبحسٍّ أدبيٍّ رفيع، وحسّ
علميٍّ معتبر، وشعور فكري ناضج..
ثاني عشر: لا يقال أن في المجموعة ألفاظا مهجورة
مثل: شَطْأَها، ويَؤُزُّ.. لا يقال ذلك لأني منتم، والمنتمي يعمل على جلب
الطفل إلى ما ينتمي إليه؛ ولا عيب، فتراثنا الحضاري يرتكز على كتاب منير،
وهذا الكتاب مقروء في كل لحظة وحين، وليس في كل ساعة أو يوم، مقروء ليلا
ونهارا من لدن الملايين وعبر قرون عديدة، ويكفيه ذلك حضورا، وأنا بممدريتي
هذه، وأدبي الممدريّ هذا لا أحْيي ألفاظه الجميلة فقط، بل أحيي قيمه ومثله
أيضا، وذلك من أصالتي التي أدعو إليها من لا يتبنىّ حضارتي، أُغْريه
بالإطلالة عليها، فليس فيها ما ليس في حضارته فحسب، بل فيها ما لا يمكن أن
تنجبه حضارته..
ثالث عشر: ظلال الطفولة إضافة جديدة للمكتبة العربية
والعالمية..
رابع عشر: من شأن الأدب الممدري أن يخلق في الطفل
حاجة الكتابة لأنه يضطره لتناول القلم لحلّ عُقد ترد في قصصه، صحيح أن
كتابته هنا لا تكون إبداعية، وقد تكون، ولكنها في كل الأحوال كتابة تهزّ
الذهن وتفتح الشهية للعلم والمعرفة لتجعل منه طفلا أديبا وطفلا كاتبا
وطفلا عالما وطفلا شاعرا...
المؤلف طنجة في: 19
نوفمبر 2007
اللُّعبة الثقافية
جلستْ زَهْراء إلى صديقتها سَلْمى عِنْدَ حوضٍٍ به
سمكة جميلة، ألوانها بديعة، وخطوطها رفيعة. تسبح في زجاجة بِلّوْرِيَّة
شفّافة، شرعتْ تنظر إليها مُغْتبطةً، ثم قالت:
((سلْمى.. سلْمى.. ما كان لهذه السمكة أن تسبح إلّا
فوْق مِجِْمَرٍ دافئ)).
فردَّت عليها:
ـ إنَّكِ تمْزحين، أليس كذلك؟
ـ كلاّ. إن بيئتها البحر، والبحر تحته نار، وتحت
النار ماء.
ـ هل هذا لغْز؟
ـ لا.
دخل في روْع سلمى جِدِّية صديقتها المجتهدة التي
تتبادل معها الدّرجات في نتائج الامتحانات، تتفوَّق عليها مرّة، وتتفوّق
عليها هي أخرى، لم تَفهم ما جاء على لسان زهْراء فبادرتها بالقول:
(( انتظريني حتى أعود من غرفة أبي )).
وانْدفعتْ إلى قلْبها.
ارتمتْ في حُضْن والدها وطبعتْ على خدّه قُبْلةً
وديعةً وعانقتْهُ وانْحنت على أُذُنه تهمس إليه وقد توقَّف عن متابعة فصل
من رواية: نساء مستعملات؛ لِيُصغي إليها، سألتْه عمّا تفوَّهت به زهْراء
مُنْذ حين، فقال لها:
(( لا أتصوّر المِجْمر يا بُنيَّة إلا قلْب الأرض
المنْصهِر بالنار؛ وهْو يقع تحت البحر، وباختراق الأرض حتىّ نهايتها
ستَجِدين بَحْراً؛ لأن كوكبنا كُرويّ، وستجدين بعد البحر ما تجدينه الآن،
فماذا تجدين بالنَّظر عبْر النافذة إلى الأعلى؟)).
فردّت عليه :
ـ أجد
فضاءً.
ـ فكذلك الأمر لو تمّ خرق الأرض، إنّ خرقها يمكن
تشبيهه ببَطّيخة لها غِلافُُ أخضر تحته طبقة بَيْضاء، وتحت الطبقة البيضاء
قلبُُ أحْمَر، فإذا اخترقتها من الوسط بأن غَرزْتِ فيها عوداً يابساً، أو
إِبْرةً رفيعةً أو رُمْحًا حادّاً فستحصلين على ما شرحت لكِ، هل فهمتِ؟
ـ أجل، سيبدو قلْب البطّيخة بلوْن النار يحيط به
غلاف أبيض هو بمثابة البحر الذي يغشاه السحاب، وغلاف أخضر هو بمثابة
اليابسة.. فهل وُفِّقتُ في الشرح؟
ـ نعم وزيادة، والآن اخرجي إلى صديقتك وقولي لها
إنَّكِ قد فهمتِ لعبتها الثقافية، قولي لها إنكِ تُشيرينَ بكلامكِ عن البحر
الذي تحته نار إلى حديث قيل قبل أربعة عشر قرنا؛ قد قاله النبي محمد عليه
الصلاة والسلام (1)، قومي إليها وأفحميها برياضة ذهنية من الأدب المَمْدَري
(2) وثَقِّفيها به فنِّيا وستنْجَحين وستَجْعلين منها مَمْدَرِيَّةً (3)
مثلكِ، هيّا قومي، ثمّ أخبريني.
عادت إلى زهراء وكأن جسمها محمول على قدمين تمشيان
في القمر رغم اكْتنازها، عادت منشرحة تتأبَّط حبورها، وتقول لها:
((غَلبْتِني هذه المرة، فانتظري دوري )).
مدّت يدها إلى قاطع التيّار الكهربائي وضغطت عليه
فسادت ظلمة لفتت انتباه من في الدار فأَنْطقتْ ألسنتهم مُسْتفسرة، ولكنّ
سلْمى توجّهت إلى زهراء فقالت لها:
(( ما ذا تشاهدين في حوضي الصغير؟ )).
فردت عليها:
ـ لا شيء.
ـ إذن انْطلَتْ عليكِ لعبتي الثقافية.
ـ لا، لم تنطلِ عليَّ لعبتكِ الثّقافية.
ـ وماذا فهمتِ؟
ـ إنكِ تَطْلبين إضاءةً من سمكتِكِ، فلو صبرْتِ
قليلا لربما صَنَعَتْه لنا سمكتكِ الجميلة.
اسْتدْعتْ فوتونات المصباح وهي تبتسم وتقول لصديقتها
(( لقد غلبتكِ ))، فردت عليها:
ـ كلاّ.
ـ بل هزمتكِ.
ـ كيف؟
ـ ألم تطلبي الضَّوْء من سمكتي؟
ـ نعم، ولكنكِ تسرَّعتِ، فالأمر يحتاج لوقت أكثر.
ـ ولكنك جانبتِ الصواب.
ـ كيف؟
ـ سمكتي يا شاطرة لا تصنع الضوء البارد (4)، فليست
هي من القَشْرِيات، وليست هي حَبّاراً، أو سمكاً هُلامياً..
انخرطتا في ضحكٍ وقد أشْبَكتا أصابعهما معا بعدما
نزعت سلْمى من بنْصرها خاتَماً من أكثر المعادن توصيلاً للكهرباء (5)
وشرعتا تدوران؛ كِلْتاهما تقوم بدور خاصٍّ بها وتنشدان في تناوب:
ـ يجب أن ننْتهي ... يجب أن ننْتهي
وتردّ عليها صديقتها:
ـ مِنْ ضَياع وقْتنا ... من ضَياع وقْتنا.
ـ يجب أن يُجْدي ... يجب أن يُجْدي.
ـ كلّ عملنا ... كلّ عملنا.
ـ يجب أن نقْتني ... يجب أن نقْتني
ـ عِلْماً ينْفعنا ... علماً ينْفعنا.
ـ يجب أن نَنْضوي ... يجب أن نَنْضوي.
ـ لجِوار ربِّنا ... لجِوار ربِّنا.
ـ يجب أن نعْتني ... يجب أن نعْتني.
ـ بتثْقيف عقْلنا ... بتثقيف عقلنا.
اندفع أبوها من غرفته وقد أخَذَتْه أنشودَتهما
الجميلة ليَجِدَ أمّ سلْمى مندفعةً هي الأخرى من المطبخ، وشقيقتها الكبرى
تهرع من غرفتها، وثلاثيّ الصِّبْغيّ (6) شقيقها يركض في سعادة فأنْشبوا
أيديهم وشابكوا أصابعهم واندفعت سلْمى للوسط فأحاطوا بها إحاطة السِّوار
بالمِعْصم، وشرعوا يدورون حولها كتوابع الشمس، هم يردّدون جماعة:
(( يجب أن ننْتَهي ... يجب أن ننْتهي )).
وسلْمى بمفردها:
((من ضياع وقْتنا ... من ضياع وقْتنا))
ـ يجب أن يُجْدي ... يجب أن يُجْدي
ـ كلُّ عملنا ... كل عملنا...
بينما هم غاطسون في نشوتهم غطسة الحوت العنبر،
وبينما هم يرقصون رقصات لا عنوان لها رنّ جرس الدار، فتقدّم هيثم لفتح
الباب. قدمت أسرة عليّ لزيارة رحِمها، وما إن ملأت فِناء الدار حتى اندفع
أطفالها يطلبون مكانتهم للرقص والنشيد، ولُطْفاً لُطفاً انسلّ الكبار وتُرك
الصغار في نشوتهم.. رقصوا حتى جهدوا فتوقفوا يرتاحون؛ كلّ إلى جوار أمه أو
أبيه.. بَدُنَتِِ الدّار وتبدّل نشاطها في حميمِيَّة لا يطْعَمُها إلا
المُحِبّ.. نادى عليّ على أبناء أخته واحدا واحدا يلاطفهم ويتودّد إليهم
كعادته، ولكنّ كوْثَر عزفتْ عن تلْبية دعوته على غير عادتها، نظر إليها
فعرف في وجهها الكآبة..
نهض إليها، ثم حملها بين ذراعيْه وقد أشرفت على
الثانية عشرة من عمرها حتى أتى بها مقعده وهو يمرِّر يده على شعرها،
ويُربِّت على كتفها أملا في زوال همِّها، وذهاب حزنها، ولكنها لم تنقلب إلى
الحبور، ولم تغطس في السرور وقد كانت غاطسة فيه حين كانت تنشد مع أبناء
وبنات خالها. حفل عليّ بحالها وأقسم لها إلا أن تخبره بما تعاني، فقالت:
((ليس بي من بأْس يا خالو )).
ـ ولكنَّكِ بئيسة.
ـ لا، لست كذلك.
ـ بل هو كذلك، فما الخَطْب؟
ـ لا، لا شيء، فقط لم أستطع محو صورة من ذاكرتي.
ـ أيّ صورة؟
ـ صورة بِنْتٍ متشرِّدة.
ـ بنت متشرِّدة؟ أيّ زمن هذا الذي تضيع فيه البنت
وهي أجلّ وأكْرم!
ـ أجل، متشرِّدة.
ـ كيف؟ احكِ لنا ما شاهدْتِ.
ـ بدت ملاكا ولسان حالها يقول:
((سيّان عندي ما بين الحياة والموت. سيّان عندي ما
بين الحزن والفرح، وما بين الجوع والشبع، تحيى حياتها في سقَطٍ يتلوه سقَط،
يظنّون بها الظنون. آهٍ من قسوةٍ تُحْرقني، تُردِّد. وآهٍ على ظلْم بيئتي
ومجتمعي، تقول. صبيّة شقراء تشرّدت وهْي ما تزال بَلَحا، مليحة سُلِبت منها
حياتها في شوارع طنجة الجزيرة، لا تنحدر من أمّ بوسِْنيَّة مُغْتصَبة،
تَقْلب وتُقلِّب جرادل الزِّبالة كمِعَز التشابوري
Chapuri (7) باحثةً عن الشِّياطة الملفوظة،
تستعْطي لتشمّ معجون الهلْوسة، وتنضج في مزبلة رُفْقة رفيق يحمل في عموده
الفِقري خمسين فَقْرة (8)، لم تعد مزبلتها بدينة كما كانت على عهد طنجة
النصرانية، تغدو وتروح فوّاحة كحشرة طويل القوائم (9)؛ حالها عارٍ وأهل
طنْجة أعْرى، تُدينهم ببراءتها، وتتّهمهم بصغرها، كما تنبِّههم بعطْل نُخاع
عظْمها (10) إلى حاجتها ولا مجيب.. غابت عني قليلا، ثم ظهرت زمن التمثيلية
البليدة للرئيس الأبْلد تحمل وليدها وعمرها اثنتا عشْرة سنة، يتمنّى وقوعها
في قبضته أمير الظلام (11) لتُذْبح أمامه وُيشْرب من دمها تقرُّبا إليه في
معْبد عَبَدَة الشيطان. طفقتْ ترقب طلعةً تحمل على وحشتها بالأنس؛ لتروي
ظمأها من العزلة، فعزَّت عليها. يستوي ليلها على عرشه، ثم يستدعي حرّاس
السلطنة؛ ليأمرهم بذبح اليأس مُنكَّسا حتى لا يبزغ فجْرُُ معطوب. ترجّلت في
عليائها تمشي بقدم ثابتة، ثم علتْ واعْتلت في موسم حصاد الوهم، فعاشت عمرا
مباركا ولم تزل وهْي تسخر من مجتمعها وتحْقِره. هذا ما قلَب سعادتي يا
خالو..
ـ جميل منك هذا الإحساس يا ابنتي، جميل بالمرء أن
يحسّ بالآخر، بوركْتِ، وبورك من ربّاك بالقيم الرفيعة، ونشّأك على الخصال
الحميدة..
ــــــــــــــ
(1) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال
رسول الله صلى الله عليه و سلم: " لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غازٍ
في سبيل الله، فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً ". أخرجه أبو داود في
سننه. هذا الحديث به إعجاز علمي. فالنبي (ص) يخبر بوجود نار تحت البحر.
ومعلوم أن البحر هو كل الأرض تقريبا إذ يغطي الماء 7 / 10 من سطح الأرض،
و قوله: وتحت النار بحرا لا يعني سوى نفس البحر، ولكن من الجهة الأخرى وهو
إشارة إلى كروية الأرض، وإذا أخذت الأرض من أي جهة فلن تحصل إلا على ما
ستحصل عليه من الجهة الأخرى، خذها من القطب الشمالي أو من القطب الجنوبي،
خذها من الغرب أو من الشرق، خذها من جميع أطرافها وغص فيها ودائما نحو
مركز الدائرة فستخرج إلى الجهة الأخرى، ومعنى ذلك أنك ستخوض في البحر مرة
ثانية إن أنت خرقتها؛ والبحر يقع فوق النار دائما.
(2) الأدب المَمْدَِري نسبة إلى جنس أدبي جديد ظهر
في روايتي : نساء مستعملات، وهي لا تزال مخطوطا، قعّدت له في كتابي:
النظرية المَمْدَرية (في الفكر والأدب والفلسفة ) وهو لا يزال مخطوطا أيضا.
الأدب المَمْدَري يقوم على مكونين اثنين، ويستهدف
غاية مزدوجة، المكونان الاثنان هما :
أولا: التثقيف الفني.
ثانيا: الرياضة الذهنية.
والغاية المزدوجة هي:
أولا: المتعة العاطفية ويشترك فيها مع كل الآداب
عربية وعجمية.
ثانيا: المتعة الذهنية ويتميز بها متفردا عن غيره.
(3) المَمْدَرية محاكاة للكون والذرة والخلية، وهي
كلمة مركبة من كلمتين هما: الامتداد والدائرة ومعناها امتداد الأجرام
الفكرية والفلسفية والأدبية في كون صغير يصنعه المفكر بفكره والفيلسوف
بفلسفته والمبدع بإبداعه يحاكي به حركة الكون والذرة والخلية.
(4) الضوء البارد ضوء كيميائي تصنعه الأسماك في
البحر والفطريات والإسفنج.. كما تصنعه حشرات وديدان وطحالب وقشريات برية
مثل الدودة ألفية الأرجل، وأم أربعة وأربعين، والحلزون..
(5) أكثر المعادن توصيلا للكهرباء هو معدن الفضة.
(6) ثلاثي الصبغي أو متلازمة دارون يحتوي في كل
خلية من خلاياه على 47 صبغيا، (23 يتوارثها من أحد الأبوين، و24 صبغيا من
الأب الآخر ) وقد أظهرت الاكتشافات الحديثة أن الصبغي 21 الزائد يأتي عادة
من الأم؛ خاصة إذا حدث حملها بالجنين بعد سن الأربعين، وهكذا نفهم أن بويضة
الأم التي استخدمت في اللقاح حوت 24 صبغيا عوض 23، والصبغي الزائد هو
الصبغي رقم: 21، وللعلم فإن الصبغي الزائد ليس زائدا، بل هو ناتج عن عطب
حصل للصبغي رقم 21 فانقسم إلى قسمين فحسب على أساس أنه صبغي زائد.
(7) اسم لرجل إسباني على عهد طنجة الدولية ظل ساكنا
بها إلى الستينات من القرن الماضي، سكن منطقة الدرادب، كانت له معز يسوقها
ليحلبها للساكنة في الأحياء والأزقة في الصباح الباكر.
(8) الرفيق الذي يتكون عموده الفقري من خمسين فقرة
هو الحيوان القط.
(9) حشرة طويل القوائم ليست من العناكب رغم شبهها
بها، لها قوائم طويلة تفرز رائحة كريهة. تستخدم قوائمها أيضا في اللسع
والذوق والشم. لها جهاز لكشف الأعداء، وإذا هوجمت وأحست بالخطر تقطع قدمها
وتتركه للعدو ليتلهى به وهي مندفعة للتخفي والنجاة..
(10) نخاع العظم يكوِّن خلايا الدم الحمراء فإذا
اعْتطب النخاع العظمي تعطلت وظيفته، وبالتالي قلّت لها الخلايا الحمراء في
الدم، وعندها يصاب الإنسان بفقر الدم فيظهر على وجهه الاصفرار. والجملة
يكنى بها عن الخوف والرعب الذي يعطي نفس النتيجة.
(11) أمير الظلام هو إيغور أمير الشر، وهو زعيم
طائفة عبدة الشيطان من أصل صربي يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية،
يعتمدون على الإنجيل الأسود الذي ظهر في سنة 1966م وفيه في الإصحاح الثامن
طقوس شيطانية. ففي القدّاس الأحمر الذي يقيمونه في تستّر عن أعين السلطة
والناس يذبحون هرا، ويبحثون عن فتاة في الثالثة عشرة من عمرها يخطفونها أو
يحتالون عليها، ثم يستقدمونها إلى معبدهم فتُذبح أمامهم ويُشرب من دمها
تقربا إلى أمير الظلام.
مذاق البُنُوّة
في يوم صافٍ انحدرتُ مع والدي في خميلة
"الرّْميلاتْ" نحو "أَكْلا". ركبتُ اسْماً لم يعد يركب مُسمّاه. كانت أكْلا
قرية مأهولةً في غابر الزمان، لم يعد فيها اليوم إلا مساكن تشبه النجوم
المكتظّة في السماء ليلة البدر؛ تعود لفلاحين بسطاء، زارها في رفْقةٍ؛ فالق
البحر بعصاه، تلك القرية هي التي استطْعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما..
ونحن منحدران رفْقة غُددٍ نشيطة لسيرنا (1)؛ يمتلأ
بصري ببحرٍ يغري بعبوره نحو الأندلس التي تتراءى لنا جبالها وهضابها، يدخل
سمعي زقزقة العصافير، ويدخل رئتاي نسيم عطر، يراقص خلايا أنفي شذى طيّب
لشجرة الصّفصاف ومَيْموزا.. ينبت في غاباتها أنواع نادرة من الأشجار
والنباتات.. لفت نظري وجود قُفّة بباب صفيحية مليئة بالتفّاح والإجّاص
والتّين.. لم يتركني والدي أتجاوزها دون أن يأخذ منها شيئا ويناولني منه
بعيدا عن الحرج إلا من جهتي. لم أعترض لأنانيتي، ولم أرفض لعدم قدرتي على
مقاومة فاكهة لذيذة تتوهج بالضياء، وتبرق بالإغراء، وكيف يقاوم لذّتها
وحلاوتها طفل مثلي؟ سكتُّ وفي نفسي شيء من سلوك أبي، فلقد علّمني أن أستأذن
في أخذ ما ليس لي، علّمني التعفُّف والترفُّع عمّا في أيدي الناس، ولكنه
يسلك عكس ما علّمني..
تعمّقنا في الطريق الحجري الشاهد على رحلة صاحب
العصا؛ اٌلحيّة، ثم لفت نظري تارة أخرى قفّة أكبر من أختها يعلوها الاصفرار
والاخضرار.. ولما اقتربنا منها ابتدأت الفاكهة ترقص غبطة بأوان ازْدِرادها،
نشطت وكأن لها أعين تبصر بها أجرامنا، وآذان تسمع بها حسيسنا، ترْفُل
بتفّاح ناضج، وتختال بتين تشَقَّق عن حلاوته، بها إجّاص يطفح ماؤه؛
ويرتشفه ذوات السبعة عشر زوجا من الكروموسومات (2)، لم يقصدها والدي، ولكنه
سألني إن كنت أرغب في شيء منها؛ فلم أتردّد وقد نسيت ما جال بخاطري، تقدّم
إليها منتشيا بطعم الأبوة، وطالبني بأخذ ما أقدر عليه، وحمل هو لحسابي
الكثير منها، ثم اندفعنا في الغابة ننْحدر إلى المُصْطاد. مكثنا في
مُصْطادنا نصطاد السمك. لأول مرة علقت بصنارتي سمكة المُراي والحنْكليس وكم
سررت لبراعتي.
كان صيْدنا وفيرا زانته السمكة الذئب؛ اٌلمشاكِسة،
ثم قفلنا نتحرك.. مررنا من حيث قدمنا فإذا بالقفّتين بدينتين مرة ثالثة،
فاستغربت لذلك، ولم أتمالك نفسي، أو أقاوم رغبتي في سؤال والدي ولو أن يغضب
عليَّ لظني أنه قد خالف ما علّمني من عِفَّة، وزوّدني من زُهد، طفقت أتردد
بين الِإحْجام والِإقْدام، أخشى ردة فعله على عتابي له، وبينما أنا أجندل
خوفي انفلت السؤال مني وانطلق: ((لقد أخذنا من القفّتين أكثر من نصف
الفاكهة، فانظر كيف امتلأتا، فما تفسير ذلك يا أبي؟)). فرد علي:
ـ يا بني، إن الفلاح يسلك وِفْق عادة متأصِّلة في
هذه المنطقة من شمس المغرب.
ـ لم أفهم يا أبي.
ـ ألم أخبرك بأن ((أَكْلا)) كانت قرية بخيلة؟
ـ بلى.
ـ ألم يستطعم صاحب المنّ والسّلوى (3) أهلها فلم
يضيفوه؟
ـ بلى.
ـ صفة البخل التي كانت فيها محاها الفلاّح بكرمه.
ـ شوَّقتني، أوضِحْ أكثر يا أبي.
ـ عند كل موسم جنْيٍ يملأ الفلّاح قفّته بقُطوف
جنّته الناضجة، ويضعها على باب بستانه، وبين الحين والآخر يتفقّدها
لمعاينتها، فإذا نقصت عوّض نقصها، وإذا فرغت ملأها كُوْمة كومة.
ـ ولحساب من يفعل ذلك؟
ـ تقرُّبا إلى الله تعالى، وإكراما لكلّ من مرّ على
جنته ولم يسأله شيئا من ثمارها.
أخرسني سلوك الفلاح فلم أقو على عتاب والدي، وكيف
أعاتبه والفلاح قد أحسن إلي؛ إذ أكرمني؟ عدتُ إلى عقْد قلبي على أفكار
والدي النَيِّرة، وانشرحتُ مغْتبطا بصدقه، مبْتهجا بتطبيقه ما علِّمني، ثّم
سددْتُ صَدَفتي عن عتابه. كِدْت أضيّع أسوتي بيدي لسوء ظني، لم أكن أعرف أن
لأبي أسوة حتى نضجتُ، يتأسّى هو بما تأسى والده، نتأسى جميعا بحِبّ الرحمن
زارع القيم الراقية، وباسط المثل الرفيعة.. صعدتُ إلى بيتي تغمرني سعادة
عارمة لسعادة جاري السعيد.
سعِدَ عمّو سعيد بولد نبيه؛ كيِّس وسيم. ترعرع بين
يديه يملأ حياته سرورا وسعادة. وهو يسير إلى جانبه لصلة الرحم في يوم عيد
مطير اختطفه الموت عند منْعطف مزْدحم خالٍ من أيّة مراقبة، استوفى رزقَه
وأجلَه وما قُدِّر له، ثم رحل، رحل غير منْقوصٍ من عمره شيئا. لم يحرِّك
والده ساكنا. تدخّل الناس وسيق الأمر إلى نصابه وعمّو سعيد في حالة وعي ولا
وعي، لم يصدِّق ما جرى، ضغط عليه القدر فأسلمه، وتملْمل له الِإكراه
فشلَّه، يروّضانه لقبول ما جرى..
انتكس عمّو سعيد لفقْدان ابنه ذي الربيع الواحد رفقة
أيام ولياليَ بعدد أقصوصات الليالي العارية (4)، ثم انخرط في السُّكْر
لعلّه ينسيه مصيبته، فكرة تستوطن قلوب اليائسين، وموقف يغيِّب التفكير من
رؤوس القانطين.. عمّر سلوكه ما عمّر فذبل له جسمه، وشاخ فيه زمنه، ابتدأ
ينزل من سلّم التعقل ُسلّما سلّما، يطارده الجنون وبالكاد ينْفلت منه،
يتحدّث إلى نفسه وإلى الناس من غير دافع ولا داع، يخاطب الجماد، ويناجي
الكلاب والقطط الضالة.. تسكنه أشباحُُ تمنع عنه بصر البصيرة، يدخل منزله
يائساً بئيساً قد جَنْدل صبره وطعن أمله ليزيد من بؤس أمّ سعيد وشقائها،
جاهدتْ لتحول بينه وبين الإدمان؛ فلم تفلح، حرّضت أسرته وأصدقاءه؛ دون
نتيجة، دمّره غياب سعيد، ويئّسه من الحياة فُقْدانه. كلّما قدم إلى منزله
يجد في مدخل الحي أو في وسط الزنقة أو بمحاذاة سكنه؛ ابن جيرانه، يدعوه
إليه ليقدِّم له قطعة من الحلوى، أو حبّات فاكهة جافة، يهيم بالشكولاتة،
ويجنّ للفُسْتُق والبُنْدُق، وكم مرة يصل الحي، ثم يعود لجلبها إذا لم
يصطحبها، ينتشي لقبلة سعْد على خدّه الأيمن، يطيل الاستسلام وكأنه يريد
طبْع أخرى، يهيم في نشوتها وكأنها مطبوعة من سعيد. طرق باب بيته في ليلة
عيد الأضحى فلم تستجب له ثكْلاه، يخلو منزلهم في الأعياد، ولما يئس أخرج
مفتاحه وشرع يحاول فتح الباب، يدفع بالمفتاح في كل الجهات؛ يبحث عن عين
القُفْل فلا يجده، غضب لفشله فشرع يسبّ ويركل الباب.. لفت انتباه الجيران
فخرجت جارته سُكيْنة تستطلع الأمر، أطلت عليه وإلى جوارها سعْد يرقب ما
يجري، لا ينام باكرا في ليالي الأعياد. خاطبت أمّ سعد جارها:
((هل ألقي إليك بالمفتاح؟)).
أمّ سعيد تترك نسخة من المفتاح لجارتها خشية أن يضيع
من زوجها مفتاحه فيبيت في العراء. أعادت قولها وبالكاد انتبه إليها، فردّ
بصوت عال:
((ألقي إلي بالقُفْل، فالمفتاح في يدي، لم أجد
القفل، ولا أدري أين هو؟)).
انطلق سعْد يركض في الأدراج وهو يصيح:
((عّمو سعيد.. عّمو سعيد..)).
ارْتبكت لركْضه أمّه فصاحت به:
((ارجِعْ.. عُدْ.. لا تقرب عمّو سعيد، سيؤذيك)).
اهتزّ كيان أبي سعيد لقول أمّ سعْد (سيؤذيك)، تحرّكت
لكلمتها غدّته فشقَّت على خدّه أخدودا ساخنا، حُمل من بَرِّه فوق جبّار
يحمل السلطعون فوق النباتات المهاجرة (5).. ارتمى سعْد في حضن جاره
المدْمِن وهو يترنَّح حتى كاد يُسْقِطه لثمالته، فطبع على خدّه الأيمن قبلة
ناعمة، ثم رفع رأسه، ولكن عمّو سعيد ظل منحنيا متحمِّلا ضغط جسمه
الخيْزُراني وطالبه بطبْع أخرى، فنالها، ثم استخرج له الشوكولاتة فتناولها.
وقف بين يدي أمّه سالما غانما بدينا بحبّ جاره الطيّب، فتنهّدت أمّ سعْد،
ثم اغتبطت، فألقت إلى عمّو سعيد:
((ألم يان لك أن تُقْلع عن السُّكْر؟)).
لم يجبها، دفع بالباب الذي فتحه الصبيّ ووضع قدمه
اليمنى على الدُّرج، ثم رجع يترنّح، ويرفع هامته لسماع سعد ويقول:
((ماذا قلت يا سعد؟)).
ـ هل تقبلني ابنا لك على أن أظل حاملا نسبي وأصل
أبي؟
جفّ الكحول في دم "عمّو" سعيد، وتيقّظ الوعي في
رأسه، وطنّت الأبُوَّة في أذنه، فرد:
ـ نعم، نعم.
ـ ولكن لديَّ شرط يا عمّو.
ـ اشترطْ ما شئت يا بنيّ، اشْترطْ، اشْترطْ.
ـ أن تُقْلع عن السُّكْر.
ـ سأقْلع، أفعل والله.
استجاب عمّو سعيد لجاره الصبيّ طمعا في أبُوّة مَنْ
ليس من صُلبه؛ تدفع عنه شقاءه، وينسى بها حرمانه. سعد ببُنُوّة تملأ جنبات
بيته. اتخذه ابنا فغمره بعطفه وحنانه.. منحه أبُوّةً منعته من السُّكْر،
فنال بنُوّةً اغتالت فيه الإدمان.
ـــــــــ
(1) الغدد أجهزة للإفراز. واللام في كلمة (لسيرنا)
لام العلة، وعليه فنشاط الغدد هو لعلة السير حتى لا نذهب بعيدا لنشاط غدد
غير معنية هنا ما دام ورودها نكرة، وإذن فنشاط غددنا لعلة السير يحدد نوعية
الغدد التي تنشط بالسير وهي غدد العرق؛ إذ تفزر سائلا ملحيا ينتقل في
أنابيب ضيقة إلى الفتحات أو المسام في ظاهر الجلد. العرق ينتشر على الجلد
الدافئ فيتبخر آخذا معه في تبخره الحرارة، إنها ترموستات في جسمنا. وهي في
جملتنا كناية عن التعرُّق. والغدد كثيرة في جسمنا ومختلفة الأحجام منها ما
هي بحجم الفاصوليا ومنها ما هي دونها، بل إن الطحال والبنكرياس غدة، والكبد
أيضا يعتبر غدة كبيرة لأنه يعمل عمل الغدد بإفرازاته..
(2) ذات السبعة عشر زوجا من الكر وموسومات هي
النحلة.
(3) صاحب المن والسلوى هو رسول الله موسى عليه
السلام. والمن مادة حلوة، والسلوى طائر السمّان، فقد عانى نبي الله مع قومه
اليهود؛ منها أنهم طالبوه بدعاء ربه أن يخرج لهم مما تنبت الأرض من ثوم
وبصل وبقل مستبدلين الذي هو أدنى بالذي هو خير، فكان لهم ذلك بمطالبتهم
الهبوط إلى مصر.
(4) مجموع الأقصوصات الصحافية في (( الليالي
العارية)) 27.
(5) النباتات المهاجرة لا تحمل السلطعون لوحده، بل
تحمل كثيرا من الكائنات الحية مثل البزاقة البحرية. فالأعشاب البحرية تهاجر
على سطح المحيط، وفي هجرتها تحظى برفقة كائنات بحرية تحملها التيارات
المائية من مسافات بعيدة..
عقيقة النّبْتة
أمُّ أحمد تُعْنى بنباتات تزيِّن بها بيتها. فيه
سَرْخسِيات كأن أوراقها آذان الفيلة. به زهْريات مشاغبة تنْشط لجلب
اللّواقح فتنتشي لركْض هنْد وهروبها من الحشرة الكريمة.
أخرجت النباتات شَطْأها البديع النّضِر، وتألَّقت
تختال بجمالها البهيّ.. تضعها ربة البيت في حاويات خَزَفية وبلاستيكية،
وأخرى خشبية جميلة..
ترعرع أحمد بينها يزحف ويحبو في فناء الدار، تارة
يعبث بها ويخرِّبها، وتارة يقلب حاوياتها ويكسر أصيصاتها، تعيد أمّه
لنُبوتها ترابها وتسقيها فتنجو من الموت، ثم تعود لها حياتها فتنشر رونقها
وتبسط بهاءها في البيت..
توجَّعت أمّ أحمد من حملها فاضطُرّت إلى ملازمة
الفراش بُرْهة؛ بعيدة عن طفلها، بقي وحيدا مع أخته هند، ترعاهما جدّتهما
فاطمة..
تنبَّه في غياب أمه للنبات وكأنه يئِنّ، كأنه يصرخ
باكيا، أو يذرف الدموع شاكيا، هكذا ظنه به، يتأمّله وينظر إلى أوراقه وقد
اصْفرَّت، يتأمّل أغصانه وسيقانه وقد بدأت تجفّ، لا تحيا بنفس ما يحيا شعْر
رأسه وأظافره (1)، يحوم بنظره باحثا عن رونقٍ مفقود لا يتذكره إلا من خلال
ذاكرته، ثم ينام..
يصحو الطفل مرة تلو أخرى ويذهب إلى مدرسته والنبات
في بيت أمّه يشكو الجفاف. الأمّ في المستشفى نزيلة تنتظر مولودها الثالث،
ترقب طلعة بهية لمولودها، والصبي في ديدنه يئِطّ..
يتضوّر النبات جوعا ويتألّم عطشا ولا أحد يحتفي به،
لا يدعو ربّه لاستنبات حاسة النطق لديه حتى يرفع مظْلمته، له حواسّ بدائية
تُسْعفه في مملكته، لا يفعل وقد منحها الله للإنسان ليحسّ به.. يجلس في بهو
الدار سابحا في عالمه الصغير، يتذكّر أمه فيشتاق إليها، ثم يبكي، يتذّكر
رعايتها وعنايتها به وبالنبات، ثم انتفض كالعصفور تحت القَطْر قائلا:
((لِأحاكي فِعال أمّي، لم لا أنوب عنها فيما تفعله
بالنبات؟ أفعل والله، أعتني بنبوت أمي لعلها تستحيل في يدي نبوت عزٍّ
وسُؤْدد)).
نهض وأحضر الماء بمقدار ما يحمل الإنسان البالغ من
لترات من الدم (2) وشرع يصبه على النبات وهو يقول:
((النزلاء في المستشفيات يقدَّم لهم الطعام والشراب،
والطليق من الحيوانات يبحث عن طعامه وشرابه، والنباتات في الأرض تضرب
بجذورها إلى الأعماق بحثا عن الرطوبة والغذاء، ونباتي سجين في أصيص يمنعه
من البحث عن رزقه، فهل أكون مجرما إن أنا أهملته؟)).
مكث أحمد ما مكث يحفل بنبات أمه، أطرب سلوكه قلْب
أبيه وأنبت الحبور فيه نبْتا، ولكن هنْد صارت تجدُ عليه وَجْدا، يوبِّخها
إن هي حاذت النبات دون إشعاره باهتمامها به، تشكوه إلى أبيها وترفع
تظلُّمها بقولها: ماما.. ماما.. وهي تشكوه أباها. اكتنزت بشوق فاض عنها حتى
أُهْرق ساخنا على خدّيها، وحضرت أم أحمد، وطارت هند فرحا، دخلت عليهم وهي
تحمل في يديها وليدها وقد وضعتها أنثى، سكنت هند عند رؤيتها أختها، جمدت
مكانها وهي قاب قوسين أو أدنى من مكان أمها، نام شوقها فلم تحفل بأمها على
حبّها لها، أمها تخاطبها:
((انظري إلى أختك يا هند، إنها جميلة وسيمة، تعالي
قبِّليها)).
بدت هند وكأها قبْر مأهول، حملها أبوها وهو يقول
لأمها:
(( البنت غيورة، انتبهي لأختها، احذري أذاها لها،
فهي ترى فيها منافسة على مكانتها، تلك لغة غير منطوقة، إنها لغة الصبيان)).
امتلأ البيت بالسعادة وغمرته البهجة، امتلأ بالأهل
والأحباب، نشطت هند مع قريناتها، تقودهن إلى غرفة أمها لرؤية مولودها. وبعد
هُنيْهة صاحت هند:
(( بابا.. بابا.. )).
فرد عليها أبوها:
ـ ما بكِ يا هند؟
ـ ضربَتْني ماما.
ـ الله؛ لعلّّكِ ضربت عاتكة.
ـ كلاّ.
ـ أو لامستِ البوطاكاز.
ـ لا أفعل ذلك.
ـ أو سكّين المطبخ.
ـ ولا ذاك.
ـ هلمَّ إذن لمعاقبتها. بينما هند تعدو بحصانها
مُعْتدلةً فوق خَصْر أبيها؛ داعبتها صور من الماضي القريب ذكّرتْها بفعال
نابتةٍ في بيئتها، فشرعت تعرضها تظلّمات على أبيها.
نهض أبو هند من فراشه يسألها عن مكان أمها، وحين دخل
عليها المطبخ فزعت هند وولّتْ هاربة من حشرة لم يُعرف بَعْدُ سرّ مقاومتها
للإشعاعات القاتلة (3)، تخلّص منها، ثم شرع ينزع من سرواله حزامه الجلدي في
زمن قدره عمْر هندٍ من الثواني وهي تنظر منْدهشة، وترْقب قلِقَة، أخذ
أمَّها من ذراعها الأيمن والحزام الجلدي في يده، فرفعه وظهر لهند بياض إبط
والدها، فاندفعت شفوقة إلى حضن أمّها تحميها من حزام والدها وهي تصيح:
((لا، لا تضرب ماما.. لا تضرب ماما..)).
حضر أوان العقيقة فاشترى أبو أحمد كبشا أقرن لعاتكة،
أوْلَمَ به لأقربائه وأصدقائه وجيرانه، كم كان يوم سرور، وكم كان يوم حبور،
تحولّت هند فيه إلى فراشة لا تفتأ تقف على زهرة أو وردة حتى تطير، قضت
سويعات يرشقها الهواء ولا يقعدها العياء، ظلت كذلك حتى ساعة متأخرة من
الليل. وعندما انفضّ الناس بقي أبناء عمها وخالها للمبيت عندهم، وبينما هم
في نشوة الفرح وقد اضطجعوا قرب بعضهم البعض توسّطهم أبو هند وجلس القرفصاء
لمسامرتهم قليلا، كم يحبونه وكم يتنافسون لتلبية حاجته، وبين كلام وكلام،
ورغبة ورغبة قرّر النزول عند رغبتهم، فلقد طالبوه برواية حكاية، أو سرد
قصة، لا يملك إلا أن يستجيب لهم فقال:
ـ تحت سماء مهيبة، وفوق أرض قشيبة انطلق قردان
يجِدّان لقتل جوْعتيْهما، تسلّقا أشجارا لا حَبَّ فيها ولا فاكهة، ثم نزلا
الأرض يبحثان عن حشرات، لا جراد فيها ولا خنافس، ولا حباحِب أو جِعْلان،
عيِيا من بحثهما، ثم قصدا جنّةً مُسيَّجةً لا نفاذ إليها، طافا بها حتى
دخلا من حيث يدخل القنفذ ويتسلّل الأرنب، اتجها نحو شجرة الموْز، سال
لعابهما قبل تسلقها، قُطوفها دانية، وثمارها ناضجة.. أتيا على ما كان
دانيا، ثم تسلقاها، وبينما ينتشيان بطعم الفاكهة فوق عنقود بدين؛ مال بهما
فسقط وهما متمسِّكان. حضر صاحب الموْز ورمق القردين فتعجّب، لم يعهد في
جنّته قردا فكيف دخلا؟ علم أنْ قَدْ خَرِبَ سياجُ جنّته في جهة ما سيبحث
عنه لإصلاحه، ولكن ماذا يفعل بالقردين؟
هزَّ شجرة الموز هزًّا عنيفا والقردان فوقها يتمسكان
بها خشية السقوط، الموّاز يهزّ الشجرة هزّا والموْز يسّاقط وهو لا يفتر عن
الهزّ. القردان يتمسكان تمسُّك الغريق بالموج حتى سقط أحدهما عند قدميه،
أخذه من ذيله والقرد يصيح محاولا الانفلات، فوضع الحبل في عنقه، ثم أرسله،
فانطلق القرد يظن أنه طليق ليرده الحبل على عقبيه، شرع يدور على الموّاز
كما لو كا فرسا يُروِّضه فارسه. تسلّم العصا، وطوى الحبل شيئا فشيئا حتى
كان بطول عشرين موزة، فشرع يضرب القرد ضرب المطرقة للسندان، يهوي عليه
والقرد يقفز ويصرخ حتى شبع منه واكتنز بعقوبته التي يستحقها في نظره، ثم
أرسله..
ركض القرد غير ناس مكان تسلُّله يصيح متوجِّعا إلى
أن وقف عند قدم صديقه الذي ولّى هاربا قبله، تحلّق حوله القردة مشفقين
يلامسونه ويواسونه وهو يغمض عينيه ويفتحهما حتى أمن واطمئنّ. وفي الغد
تحرّك الناجي يتبعه المُُفْْجَع كظلِّه حتى إذا أتيا جنّة الموز استرجع من
غريزته إحساس الضرب، فانقلب عائدا.. ثم انقلب محمولا على ضعفه في مقاومة
الموز وحلاوته..
تسللا إلى موزة مثقلة يغلب على ثمارها لون بقرة موسى
(4)، ثم شرعا يأكلان، وما إن نزلت مِعْدتيْهما نصف موزة حتى اهتزّت بهما
الشجرة، لقد حضر صاحب البستان غضبان يكاد يجتثُّ الشجرة، سقط نفس القرد
لقلة حيلته وكان قد أعدَّ له البستاني نقّالة لا تحمله إلى بيْطري يعالجه،
بل إلى حفرة يُلقى فيها ميْتا، فراغ عليه ضربا باليمين يَدْمى لضرباته جسمه
وهو يصيح مسمعا الفارّ الناجي وبني جنسه من بعيد، أمعن الموّاز في ضربه
مبيِّتا نيَّة قتله لولا انفلات القرد من عِقاله وهروبه..
وفي اليوم الذي سقطت فيه بغداد تحرّك القرد الذي
ينجو دائما، ولكن صديقه لم يتحرّك، فدنا منه وخاطبه قائلا:
((هيا إلى الموْز، فكم هو لذيذ)).
فرد عليه:
((لا، دائما أقع أنا، اذهب وحدك، فأنت المحظوظ))
ـ انهضْ وتقدّمْ معي ولا تخفْ.
ـ وكيف لا أخاف وقد كاد البستاني يقتلني لولا حبله
المتهرِّئ الذي انقطع وحرّرني؟
ـ اليوم أقع أنا، سألقي بنفسي بدلاً عنك.
ـ أحقا؟
ـ نعم.
انطلق سيئ الحظ مع صديقه لا يقاوم رغبته، ولما كانا
في بستان تفجَّرتْ منه عيونُه، وانتصبت فيه أشجار صنعتْ ظلالَها جفونُه وقد
ازْدَردا من الفاكهة ما ازدردا؛ حضر صاحب البستان في رفقةٍ بعدد إلكترونات
ذرة الهليوم (5)، ثم شرع يهزّ الشجرة فسقط القرد الوفيّ..
ألقى بنفسه يوهم الموّاز أن هزّه للشجرة هو الذي
أسقطه، وحين وقع بين قدميه لم يرفع هراوته عليه، بل ركله برجله وهو يقول:
((لقد شبعت من ضربك وأستسمحك، تنحَّ جانبا ودعْني مع
الذي ينجو دائما ويحسن التمسُّك بالشجرة، فوالله إن لم أسقطه بهزّي هذا؛
لأصْعدنّ إليه، أو لأقْطعنّ الشجرة))..
شرع يهز الشجرة حتى أسْـ.َ.َ.ْ
ما إن أشرف أبو أحمد على تمام قصته؛ والأطفال
يتثاءبون حتى ناموا، ناموا قُبَيْل انصداع الفجر بقليل، استسلموا لنومهم
على وقع حكاية سيذكرونها منقوصة، حكاية القرد بين الحظ والعصا.. ولكن صبيّا
ما يزال يتابع وهو مُغْمض العينين، لم ينتبه إليه عمه، وبينما هو يحاول
الوقوف تعلّق به "بسّام" ففاجأه، التفت إليه يقول:
((لم تنم بعد أيّها القطّ)).
فرد عليه:
((حتى تكمل لي الحكاية)).
فقال له:
ـ إنك متعب وما بقي من الحكاية إلا القليل.
ـ كم بقي.
ـ حفنة من الثواني.
ـ أصبر يا عمّ، فاكْمل لي الحكاية من فضلك.
ـ لدي شرط.
ـ وما هو؟
ـ أن تكتم نهايتها عن الأطفال، فهل تعدني؟
ـ ولكن لماذا؟
ـ ليطلبوا نهايتها مني.
ـ أفعل.
ـ .َ.ْ.َ ـقَطَه والقرد يتحسّر على حظه السيئ، ولما
هوى عليه بهراوته ما ثنّى الضربة، إذْ همدت جثّته بين يديه، فقضى في الحظّ
والعصا.
ــــــــــــ
(1) يحيا النبات وينتعش بخلايا حية، بينما يحيا
الشعر وتحيا الأظافر بخلايا ميتة مليئة ببروتين الكراتين.
(2) يوجد بجسم الإنسان البالغ ما بين 5 إلى 6 لترات
من الدم.
(3) الحشرة التي قاومت الإشعاعات القاتلة منذ ملايين
السنين وثبت جنسها إلى يومنا هذا هي حشرة الصرصور المنزلي، وسيعمد الإنسان
إلى البحث عن سر ذلك للاستفادة منه في رحلات الفضاء.
(4) بقرة موسى هي البقرة التي ذكرها الله في القرآن
العظيم وسمى سورة باسمها، تلك البقرة هي التي أنهى بها الجدال السخيف الذي
افتعله اليهود مع نبيهم موسى فقضى الله أن تكون صفراء فاقع لونها تسر
الناظرين حتى لا يتذرعوا بغيرها فذبحوها وما كادوا يفعلون. والجملة يكنى
بها عن نضج ثمرة الموز.
(5) إلكترونات ذرة الهليوم 2.
لآلئ الجنة
من قرية وادي حنين الـمُهَجَّرة في النكبة انطلقت
القافلة، حُملت جينة نقيّة في صُلْب والدٍ بارّ، نبت الشِّبْل في بلاد
مبارَكة تشكو الاغتصاب ولم تزل، ترعرع في بقعة طاهرة ينطق فيها الجماد
متظلِّما، ما تزال رائحة الغدر البريطاني لاصقة بدُرّها، سكن مخيَّم
البريجْ مع عائلته.
تربّى الطفل وسط أسرة من أعضاء تسعة، نشأ شغوفا
باللعب، يهتمّ بكرة القدم، ينشط باسما لمجرد إشارة من أبيه، يعشق الذهاب
إلى البحر، ويهيم بتربية العصافير.
في يوم التهم من مؤخرة صيفه طرَفا، وعند أحد عشر
ربيعا للؤلؤة الجنة مع سُويْعاتٍ جريحة لا تتعدّى ذِكْر الشمس في الكتاب
المجيد (1)، طفِق الأسد يتحرّك صُحْبة شِبْله عائدا من سوق السيارات
المستعمَلة، يتحركان من غزّة إلى مخيّم البريجْ.
وهما يخطوان امتلأت الأجواء بصدى الطّلقات النارية.
الوابل غزير كأنّه مطر مطير.
احتميا بكتلة خَراسانية اتِّقاءً للإصابات، لم
تتوقّف سبّابات الجنود عن الضغط على الزِّناد حتى عمَّرت ساعة كاملة، كان
الوالد فيها قلقا على ولده، يُلوِّح بيده طلبا للنّجدة، أصيبت يُمناه
المستنجِدة واليهود يمعِنون في إطلاق النار، ثم أصيب الطفل في رجله، فصاح
متألِّما تسبقه دموعُُ استَنْبتت عينا غزيرة ستصنع بحرا يغرِقِ الظَّلَمة،
يرتعب من شدّة الخوف قلبه، سقط إلى جانبه عصفوره الجميل، ذاد عن الطفل الذي
حرّره فقُتل، خرجت عبر فمه كلمات تزلزل الأفئدة، يقول لأبيه:
((احمني يا أبي.. احمني يا أبي..)).
يحتمي المسكين المحاصَر بجسم أبيه عند كتلة خراسانية
وقد فزع إليه صغره، انطلقت هذه العبارة كالسهم وسرت في كيان الوالد فاحتضن
صغيره يحميه ويجنِّبه رصاص الجنود الإسرائيليين، يسيَّجه بحُبّه، ويظلَّله
بعطفه لعلَّ فلذة كبده ينجو من حقد اليهود وغلظة قلوبهم، لم يتوقّفوا عن
رميهما، تعلّق قلبهم بالصبيّ، يكرهون صِبْيان فلسطين، ويتمنّون العقْم
لأمّهاتهم، صوّبوا بنادقهم بشكل متعمَّدٍ إلى مَقْتل الصبيّ وأطلقوا النار
بكثافة فأصابت أجزاء كثيرة من جسم الوالد الشجاع وهو يقول:
((لقد مات الولد.. لقد مات الولد..)).
صُمّت آذان الجنود عن سماع الصّرخات، وشُنْكِلت
قلوبهم عن ولوج أيّة ذرّة من ذرّات الرّحمات، فانخرطوا في قهْقهات بليدة،
ونكايات سخيفة مُنْتشين بفعالهم.
حمل الدُّرة ولده وهو مخضّب بالدماء، وكان للصبي أخت
كيِّسة لا تكاد تََخَطّى ربيعها السادس، تأمّلت محيطها، وحدَّقت إلى وجه
أمها وأبيها.. تقرأ الانكسار العربي، والخذلان الإسلامي في فضاء فلسطين
الحبيبة.. وحين سمعتهم يردِّدون: ((مات محمّد.. مات محمّد..))، انتفضت
كعصفور الدّوري الذي كان قبل حين بيد الشِّبل الشهيد وشرعت تقول:
((اليهود قتلوا أخي، لكنه لم يمت، إنّه في الجنّة
يلعب مع الطيور )).
وتتقدم القافلة نحو التحرير تحمل معها أطهاراً
وأطهاراً إلى أجل سيقف لينقلب الحزن فرحا، والشقاء سعادة، تتقدّم فوْق
أشْلاء، وتمشي على جثامين، وتدوس في دماء وهي مُبْتهجة لعظمة الأنفس التي
تهيم حبّاً في الله وتبْتاع منه رضوانه.. يُتوَّج الشهيد بتاج الطُّهر،
وتُتوَّج الشهيدة بتاج الصفاء.
تحمل "بُثَيْنة" اسمين اثنين، اسم ذُبح له كبش
أقْرن، واسم أُلصق بها صفة لها فكان براءة..
صاد البرعمَ ضبعُُ نتِن، قضى عليها برصاصة لم تحبس
عنها ربيعها الخامس أو تؤخِّر منه شيئا، أسقطتها يدُُ صهيونية في الانتفاضة
الأولى لأطفال الحجارة..
رحلت ابنة عمّ أميرة الشهيدات، ودخلت رضوان ربّها
مبتهجة كعروس في هوْدج تُزفّ إلى عريسها في حضرة الملائكة، سارت إلى حياة
طيبة كريمة في جنّات النّعيم..
بقيت بقايا جيناتٍ من عمومة تنتشر في الأبناء. أبو
الأميرة والد حنون، وهو معاق برصاص الاحتلال، على إعاقته يبرّ ابنته ويحفظ
لها أبُوّتها.. ملأت عليه الصبية حياته. نوَّرت الأميرة بيت أمّها وأضاءت
قلبها وأدفأت فؤادها، ركبت معها شهرها الأول يغبطها القمر المنير، وحين كان
الشهر الثاني صعد في تتويجه بما يحمل من جديد طارئ على الصبيّة، شرعت فيه
تسْتَنْطق محيطها ولا تنطق له؛ لصغرها، تُخرِج الأصوات ولا تبين الحروف،
تتراقص على لسانها حروف صغيرة في سنِّها لا تسْلسْ لناطقٍ حتى تنضج، قليلة
هي في عددها قلّة الرموز الموسيقية في أبجديتها (2)، ولكنها ذات حمولة
كبيرة لا تطاولها سيمفونية الطيور والعواصف وهدير المياه وغضب الطبيعة
وهدوئها، ولا القدر يقرع الباب (3) تدير لسانها في فمها ويعبث شهيقها
بحِبالها الصوتية، لا يحصل ذلك إلا بعد جهد جهيد يصعد له الهواء الساخن من
رئتيْها ليحرِّك أوتار صوتها.. حملتها مطيّة الشهر الثالث على ذراعي أمها،
فحُمِل الحبور حملاً إلى أبويْها، سعدا بها وانفتحت لهما نوافذ ترسم
المستقبل لابنتهما بإرادة قد تسود وربما لا تسود، ويتقدم الزمن يطوي حتفه
طيّا، ويلوي عنق أجله ليّا، يهرول إلى ركنه حاملا كل شيء معه فلم يترك عند
الشهر الرابع "إيمان"، خُطفت برصاص اليهود أميرة الشهيدات وهي بين ذراعي
أمها، سقطت إيمان حِجّو شهيدة متوَّجة بعمرها القصير في الدنيا؛ الطويل في
البرزخ..
وحيث تفاخِر حُبيْبات الرمل وهَباءات الصحراء، وحيث
تتباهى مياه البحر بملامستها أجْبِنة الفاتحين وأطرافهم؛ وُلدت هدى.
كانت قبيل انتهاء الموسم الدراسي تُعدّ لنزهة على
شاطئ رَفَحْ الجميل في غزّةَ المكلومة، تدفع بعجلة الزمن نحو حتفه. وجاء
الموعد، وكان في صيف التاسع من يونيو سنة قانا الْأُلْمَرْتِية (4)، وخرجت
هدى صحبة أختها صابْرين وهِنادي، أمّها تحمل رضيعها في يديها، وأبوها ينشط
لرحلتهم، يعلو وجه هدى الحبور، ويستوطن جبهتها السرور، تنتشي بالسباحة
والركض والقفز والتراشق بمياه البحر.. تنعم بالحمامات الشمسية، وتتناول
طعامها؛ حبّات بطاطا مشْوِيّة في غياب روتين المنزل، يقدّمها علي أبو غالية
لأسرته؛ عدا الرضيع هيثم. بينما هدى في غفلة لما يُدبَّر لها، بينما هي في
عالم الأطفال ترتشف منه طفولتها قبل رحيله عند حلول الظلام؛ رجعت إلى
أبويها لتتبدّل حياتها، وتنقلب أساريرها.
أسقط اليهود أبويْها، سلبوا الحياة من حياتها،
كلموها في قُرّة عينيها، في غزَّةَ على شاطئ رفَحْ صرختْ، فوقه تمرغتْ، فيه
بكتْ، رقصت لذلك خنفسة الدفن، وانتشى بالقتل سيد الجِعْلان.
الْتقطتْها عدسات الكاميرات، والتقطت سفنا حربيّة
إسرائيلية في عمْق البحر.
قذف اليهود بالموت حِبَّ هدى، وحياة هدى.
أدمع المشهد مُقَل الناس. سلب هيثمُ رجولة الناس.
أخرست هنادي ألسن الناس، وفضحت صابرين نفاق الناس. شوهدت هدى مروّعة في
الفضائيات، وأعيدت المشاهدة، لم ينصفوها، وهل ينصفها الجبان؟ هم الجبناء،
والحكام العرب أجبن، حتى التمثيليات عدموها، ماتت قلوبهم، وسقطت حجتهم..
خفت صراخ هدى كبطارية نفذ مخزونها من الطاقة، ثم
ارتمت في أحضان ربها تستنْصره، يبست أصابعها، وتورّمت أفكارها فلم تعد
قادرة على فهم ما يجري. طفلة هي وأيّ طفلة! تحوم بعينيها باحثة عن مأوى أو
ملجأ، باحثة عن مُنْصف أو مُخلِّص، تنظر إلى جثامين صابرين وهنادي وهيثم
ولا تطيل النظر، تقرع حبال صوتها بالصراخ والبكاء والأنين لمصرع أمها
وأبيها، بينما هي كذلك سمعت صوتا من وجدانها يقول:
((هدى يا هدى: عندما تكبرين لا تتزوّجي ذريتنا، لا
تمنحينا شرف النسب، نحن السَّقَط، نحن التبن، ونحن الهشيم)).
تدخل هدى غرفتها لتجد الوهم قد تدثّر فوق فراشها،
حرّكته فلم يتحرّك، فهل هو ميِّت؟ تتمنّى موته ولا تقدر على إماتته. صاحت
بأمها: ماما.. ماما..
ولكن أين ماما؟
ما يزال الوهم يحتلّ فراشي، وما يزال الخوف من طرده
يسكن رجال الدار، فهل تنوبين عنهم في استرداد فِراشي، وانتزاع غَواشي؟
صاحت مرة أخرى ولكن بأبيها: بابا.. بابا..
ولكن أين بابا؟
ما يزال الدخيل يحتلُّ أرضي، وما يزال المُغْتصِب
يخرِّب بلادي، يُرمِّل نسائي، ويُيتِّم أطفالي، فهل مات الرجال؟ أم ندروا؟
يحفِّز الذلّ العزيزَ فيقاوم، ويحفِّز الذليلَ
فيخنع..
ـــــــــــ
(1) ذكر الشمس في القرآن ورد 30 مرة.
(2) الرموز الموسيقية هي: الدائرة والبيضاء والسوداء
وذات السن الواحدة وذات السنين وذات الثلاثة وذات الأربعة. وهناك رموز
للصمت أو السوبر كما تسمى ولها زمن مختلف، ففيها زمن الدائرة وفيها زمن
البيضاء والسوداء..
La Ronde, La blanche, La noir, La croche, La double
croche, la triple croche, La quadrible croche.
زمن للصمت يأخذ زمن السوداء. ونصف السوبر يأخذ زمن
ذات السن الواحدة.
Le
soupire
زمن للصمت أيضا يأخذ زمن الدائرة، ونصفه يأخذ زمن
البيضاء.
La puse
(3) السيمفونية التي تحتوي على أصوات الطيور وهدير
المياه وهدوء الطبيعة وغضبها والعواصف هي السيمفونية السادسة؛ السيمفونية
الريفية كما تسمى. وسيمفونية: القدر يقرع الباب هي السيمفونية الخامسة
وكلتاهما لبيتهوفن.
(4) قانا الألمرتية أطلقت للتمييز بين مجزرة شمعون
بيريز في قرية قانا بلبنان سنة 1996 وقانا الألمرتية المجزرة التي اقترفها
ألمرت رئيس الدولة العبرية سنة 2007.
نشوة العلم
انطلقت رغْداء تركض في مُنْتزهٍ جميل تجاري صديقتها
حسْناء.. تستلْقي على البَرْوَق والهليون والعُشْب.. تقطع النباتات
المزْهِرة، وتتسلّق الشُّجيْرات التي شرعت تلْقي نَوْرها.. تتلهّى بالحشرات
ويَرَقات الفراشات.. تتناول النباتات الشائكة وتبحث فيها عن سرّ اهتمام
طائر الحسون بها..
انحنت على نملة تجرّ حِمْلا ثقيلا فحملتها بما تنوء
ووضعتها عند باب قريتها، حملت أخرى وما كادت تطمئن إلى استقرارها على
رِكابها من كفّها حتى لسعتها حشرة، ركضت رغْداء تصيح وتبكي وتتألّم، تتوجّع
توجُّعا لا تحدثه لسعات العقارب، أحاط بها أبواها وشرعا في تدليك موطن
اللّسْع، يصبّان عليه ماءا باردا لتخفيف حدة الألم، آلامه مبرِّحة لا
يطيقها الكبير فكيف بالصغير؟.
تنبّهت حسْناء للحشرة وهي لا تزال تحوم في الموقع
مدافعة عن شيء لم يستبنْ، تفعل كالطير التي يقترب من عشها متطفِّل، أو لصّ
للبيض، ابتعدت عنها وظلت ترقبها حتى حطَّت على الأرض قرب نفق صغير، ثم
دخلته، علمت حسناء أنه بيتها، فالتمست لها عذر لسعها رغْداء، وانْطلقت تركض
حيث تجلس مع أبويها وتقول:
((رغداء.. رغداء.. لم تلسعك الحشرة إلا لأنك أطبقْت
بقدمك باب نفقها)).
فردت عليها وقد خفّ ألمها:
((وكيف عرفتِ ؟)).
ـ رأيتها تدخل نفقاً في نفس المكان الذي لُسعتِ فيه.
ـ وماذا تفعل في النفق؟
ـ ربما يكون بيتها.
ـ سأذهب لأدمِّره فوق رأسها.
نشطت رغداء تجرّ معها بقيّة آلام خفيفة، وعندما وصلت
النَّفَق، ارتمت على جنْبها مذعورة خشية لسْعة ثانية للحشرة الخارجة منه،
تناولت حجرا بقطر كتابة تاريخ سقوط القدس (1)، وعودا يابسا بطول الخنجر
الذي بقر بطون أهل صابرا وشاتيلا (2)؛ تنوي استعمالهما لتخريب النفق، وما
إن همّت بذلك حتى عادت الحشرة هائجة، تنشط كحامل يؤزُّها المخاض أزًّا،
دخلت نفقها وكان فرصة للقضاء عليها، ولكن رغداء استقامت هادئة قد نبت فيها
الفضول نبْتاً، فأجاءها حبّ المعرفة، وأغراها لذّ العلم، فتخلّت عن عزمها.
خرجت الحشرة من نفقها وكأن قلقها وبدانتها قد أوشكا
على الزوال، اعْتلتِ الفضاء والصديقتان تنظران إليها، انطلقت وانطلقتا
معها، تعدوان لطيرانها وأعينهما في السماء حتى داستا بعض الماعون في
طريقهما، نفر لعدْوهما وضّاح فسقطت من يده مشواة سمك السردين، صاح برغْداء
لما فعلته بالغذاء والكؤوس والصينية والبرّاد.. لم تبال البنتان، ولم
تتوقفا إلا عندما حطّتِ الحشرة على الأرض، اقتربتا منها فإذا بها متربِّصة
بدودة تدِبّ مطمئنة، انقضَّت عليها ولسعتها، لم تستحسن البنتان سلوكها
فأزاحتاها عن الدودة المسكينة وخلّصتاها منها وقد همدت، ظنّتاها قد ماتت،
ولكنها ما تزال حيّة، فعلمتا أنها لسعة مخدِّرة، وضعتاها على الأرض، ثم
همّتا بالرجوع، ولكن الحشرة دنت فهاجمتهما، تريد صيْدها، فابتعدتا
ترقبانها، حطّتِ الحشرة على الدودة وكأنها ستفْترسها، ثم طارت بها، تعجّبت
البنتان وركضتا معها كالرّكْضة الأولى، ثم حطّتْ على الأرض ودخلتْ نفقها
تحمل فريستها، ولكن النَّفق خالٍ من الحشرات الصغيرات، وتزداد البنتان
تعجُّبا من سلوك الحشرة، وفجأة صاحت رغْداء:
((انظري يا حسْناء.. تأمَّلي.. إنها تضع بيضاً..
انظري إليها)).
فردت عليها:
ـ لذلك كانت قلقة، ولذلك هاجمتنا.
ـ ولكنها تضع بيوضها فوق جسم فريستها؟
ـ وبعد؟
ـ لنتابعها.
وضعت الحشرة بيضها في أمان، ثم نشطت في سدّ النّفق،
تُغلقه بإحْكامٍ على بيْضها، وعلى الدودة الحيّة..
تحرّكت البنتان ممتلئتان بمعرفة سلوك الحشرة، تتساءل
رغداء عن سرّ ترْك الدودة حيّة، وتتساءل عن الوقت الذي تقضيه حيّة في نَفَق
الحشرة حتى يفقس البيض فتطعمه الأفراخ لحما طريّا. استدارت حسناء تلقي نظرة
أخيرة على الحشرة المنشغِلة بسدّ نفقها، فرمقتها جامدة، تعجّبت لذلك
وانطلقت مع صديقتها لتقف عليها فتجدها هامدة، لقد ماتت أنثى الزّنْبور، لقد
رحلت بعد أداء دورها في الحفاظ على نوعها.
وفي الغد تحلّق التلاميذ حول رغداء وهي تحكي لهم ما
جرى معها البارحة، شوّقتهم لنزهة يستمتعون بها فاقترحت نقل رغبة ثلاثة منهم
بعد إذن ذويهم إلى أبيها، رغداء تسكن الجبل الكبير، وهو قريب من خميلة
الرميلات، ثم كان لها ما أرادت..
وفي عطلة الربيع نشط التلاميذ لرحلة جماعية قد
استمتعوا بها كثيرا، حُفرت صورتها في ذهن رغداء حتى باتت تحفظ تفاصيلها،
وكلما أثار تلميذ أو تلميذة شيئا مما جرى في الرحلة؛ نشطت رغداء تعيد
تفاصيلها وكأنها شريط فيديو، لا تبخل عن روايتها بطلب ودون طلب، ترويها
للتلاميذ، ترويها لكل من لقيها، ولكل من لم يلقاها، كتبتها قُصَيْصَة من
الأدب المَمْدَري ووضعتها بين يدي القارئ، تحكي عنها بقولها:
ـ في نزهةٍ جماعيةٍ حملتني رفْقة أصدقائي إلى منتزه
الرّميلاتْ، تسلّق طفل حيّنا وتلميذ مدرستنا شجرة من فصيلة ما استُخْرج من
لحائها الأسبرين لأول مرة (3)، يريد عُشّا في أعلاها، حفر دُرْجاً وطئه
بقدمٍ ثابتةٍ وأخرى متحرِّرة، وحفر غيره مستعملا حجرا صلْدا يفتِّت به لحاء
الشجرة ويصنع موطئا لقدمه حتى تمكَّن بذراعه من التمسُّك بأقرب غصن الشجرة،
وقف على غصن ناضج، ثم شرع يسلك أغصانا ويتجاوزها صعودا نحو ضالته، صعد وصعد
حتى اقترب من العشّ، ولما وصله وجده فارغا، لقد غادرته الفِراخ، لقد كبرت
وطفل حيِّنا ما يزال طفلا.. خاب ظنّه فقفل متوقِّعا عِتاباً من أصدقائه،
وتقريعاً من أساتذته، وحيثما انتهت إليه الأغصان وقف يفكّر في تجاوز
الجِذْع، لن تسعفه الأدْراج التي حفرها في لحاء الشجرة إذ لا سند يسنده بعد
الدُّرج الأول هبوطا، وإذا قفز فإن قفزته ستكون مؤذية لبعده عن الأرض بأكثر
من طول ثلاثين كمانا للرسام الألماني مارْتنْ زالْ (4)، وإن لم يقفز فسيطلب
عوْنا يرفضه عناداً، فماذا يفعل؟ بينما هو محاصَر بين نداء التلاميذ وصياح
المعلّمين، وعند رفضه التظاهر بالضّعف وقلّة الحيلة؛ قفز لتتلقّفه الأرض..
لم يحسن القفز، ولم يحسن استعمال قدميه؛ فانكسرت ساقه اليمنى وعظْمة من
كاحله، دمِيَ في جهة غُدّته النخامية (5)، وانغمس في بكاء شديد يئن له،
ويتوجع لمصابه.. هُرع إلى طلب الإسعاف، ثم حُمل نجيب إلى المستشفى.
أتى الربيع على عطلته كما يأتي الاصفرار على زرعه،
وهاجر وركب دورته مودِّعا، ولكن الفصل الدراسي لم ينته بعد، وامتحانات
الدورة الأخيرة على الأبواب، رجع التلاميذ إلى مدرستهم سالمين إلا التلميذ
نجيب، رجع بُعكّازيتين تذكِّرانه فراخ الطير، وأنانية طلب النجدة.
ـــــــــــ
(1) تاريخ سقوط القدس مفتوح على تأويلات عديدة،
فعبارة: ((تناولت حجرا بقُطْر كتابة تاريخ سقوط القدس)) عبارة ذات رحم ولود
تختبئ فيه أجنة كثيرة؛ على القارئ اكتشافها. فيمكن اعتبار قطر كتابة
التاريخ الذي سقط فيه القدس بقياس المسافة التي تقف فيها الأرقام مركزا
للقياس، ويمكن اعتبارها الخط المستقيم الذي يقسم الدائرة ومحيطها إلى قسمين
وفيه تقف الأرقام الدالة على زمن سقوط القدس، ويمكن أن يكون القياس لأقطار
الأرقام، ويمكن اعتباره جانبا وناحية بقياسه من زاوية واحدة، ثم إن التاريخ
لا يقف على رقم محدد إذ ليس هناك سقوط واحد للقدس، فقد سقطت في يد
الصليبيين سنة 492 هـ الموافق 1099 ميلادية، ثم حررها صلاح الدين الأيوبي
سنة 583 هـ الموافق 1187 ميلادية، وسقطت في سنة 1967 م في حرب رسمت على
الطاولة وتآمر فيها بعض من أبناء الشعب الفلسطيني والعرب، ثم حرّرها الذي
سيحرِّرها...
(2) مجزرة مخيمي صابرا وشاتيلا وقعت سنة 1982
بلبنان، قامت بها القوات الإسرائيلية والكتائب المسيحية المارونية راح
ضحيتها 3500 لاجئ فلسطيني، وكان المسؤول المباشر عن هذه المذبحة رئيس وزراء
إسرائيل السابق أرييل شارون تسانده حكومته سرا وقد احتالت على الرأي العام
الإسرائيلي والعربي والدولي فأدانته حينها وعزلته عن منصبه في الجيش
لاحتواء الانتقادات التي وجهت للحكومة الإسرائيلية. بقروا بطون النساء
وقتلوا الناس والأطفال بسادية فظيعة.
(3) استخرج الأسبرين أول ما استخرج من شجرة الصفصاف
(الكليبتوس) وبالتحديد من لحائها. والإنجليزي ( إدوارد ستون) هو أول من
اكتشف مزايا هذا اللحاء العلاجي، وكان ذلك في سنة: 1758م.
(4) كمان الرسام الألماني مارتن زال هو أصغر كمان
في العالم، إذ يبلغ طوله 14 ملم، أي أقل من سنتم ونصف، وقد استغرق صنعه 8
شهور، ويضم 15 قطعة مختلفة.
(5) الغدّة النخامية توجد في قاعدة الدماغ في تجويف
خاص وتتكون من فلقة أمامية وفلقة خلفية ولكل من الفلقتين وظيفة خاصة، وتتصل
بالدماغ بواسطة سويقة مجوفة، وهي في حجم الفولة، وتسمى أيضا الغدة الرئيسية
لأنها تنتج الهرمونات التي تسير سائر الغدد الصماء، إنها القائد، (سميت
الغدد الصماء بهذا الاسم لأنها تضخ ما تفرزه مباشرة في الدم). تسيطر على
النمو، وتتحكم بآلية الحيض وحماية الطفل الجنين في فترة ما قبل التمخض
للولادة، وتنظم نماء أنسجة الجسم، وتتحكم في الغدّة الدرقية الجنسية إلخ.
والجهة المعينة بمكان الغدة النخامية ليست جهة واحدة، بل هي جميع الجهات
وللقارئ أن يتأوّلها كيف يشاء لتكثير الصور الذهنية وتنويعها لأنها مفتوحة،
فلك أن تشير إلى إصابة نجيب في الجهة الأمامية لرأسه أو الخلفية أو ...
موريسكية في غزّة
قدم وسيم مسرعا من مدرسته، ثم ضغط على "البارْلُفون"
ففُتح له. صعد الدّرج محبوسا نفَسه في غمّه، معتقلا شهيقه وزفيره، اقتحم
الدار ففزع لسلوكه أبواه وإخوته وهو يصيح: بابا..بابا..
خرج أبوه من غرفة نومه يحمل قلبه في كفّه ليحتضنه
وسط الفناء والقلق يشدّه، ونخاع عظْمه يصبغ وجهه وهو يقول: ما المصيبة؟
ماذا جرى؟ ما بك؟ أخذ وسيم شيئا من هدوئه وتوسَّده، ثم قال لأبيه:
"لماذا غزت أمريكا العراق؟ ولماذا اقترفت إسرائيل
محرقة غزة؟ لماذا قُتل الأطفال والشيوخ والنساء؟ هل لهما في العراق وفلسطين
حقّ مسلوب، أو ثأر مرغوب؟
فرد عليه أبوه قائلا:
"أهذا ما أزعجك وأغضبك؟
فأردف: ((نعم)).
ارتاح الوالد بعدما علم أن ابنه لم يصب بأذى في
جسمه، ولكنه لا يعي على الأذى الذي لحقه في نفسه ووجْدانه، في طفولته
وبراءته، فبادره وهو يدفع به نحو أريكة ويُربِّت على كتفه:
(( كلاّ )).
ـ ولماذا يغزونهما إذن؟
ـ الحقيقة يا بُنيّ أنهم غزوا العراق لاحتياطه
الضّخم من الطّاقة، واستهدفوا غزّة للقضاء على المقاومة، ولكن قل لي: "من
الذي أوقد فيك هذه النار من الحماسة؟ ومن سيّسك حتى جئتنا منزعجا من سلوك
أمريكا وإسرائيل؟".
ـ المعلم في القسم، وزملائي الأطفال.
ـ معلمك مسيَّس يا بني، يجب التبليغ عنه حتى لا يعود
لإثارة الأطفال على سلوك أمريكا وإسرائيل.
ـ وهل في ذلك ما يشين يا أبي؟
ـ أجل، فالطّفولة المكْلومة في العراق وأفغانستان
وفلسطين والصومال وغيرها من البلدان التي بها توتر سياسي تبقى معاناتها حيث
هي.. ولا يجب أن تتعدى جغرافيتها.
ـ ولكننا منهم.
غضب الوالد على ابنه وصاح به يوبخه على فكرة
الانتماء الحضاري الذي يحسه الطفل ويجده عند الأطفال في الشارع والمدرسة
والذي يجد عكسه في منزله، وأبوه يحمل نفس البصمة الوراثية لشعبه وأمته.
ـ إنهم يعملون على نشر الديمقراطية والقضاء على
الديكتاتورية.
ـ لقد سمعت من ابن المَمْدَري أن الديمقراطية فكرة
خيالية وهي فوبيا مقيتة لكل من لم يعدِّل من مواقفه لتساير مواقف أمريكا
وثقافة أمريكا وأسلوب أمريكا، لقد سألني عن أخبث فكرة العصر فلم أعرف:
فقال: إن فكرة العصر الخبيثة هي: الديمقراطية الأمريكية..
قفز الوالد من مقعده لا يعرف كيف يوجه وسيما نحو
الإحساس الجليدي واللامبالاة، فصاح بأمه واقتحم عليها المطبخ قائلا:
ـ أيتها المرأة إن وسيما بدأ يتأثر بثقافة الشعب،
فلقد رأيت ما دوّنه في دفتره، لقد حفظ أسماء: محمد البُرْعي الصّبيّ
الرّضيع الذي قتله اليهود في محرقة الأربعاء بالأسلحة الأمريكية في السابع
والعشرين من شهر فبراير سنة ألفين وثمانية، و: أميرة خالد أبو عصر؛
اٌلصّبيّة التي تبلغ من العمر عشرين يوما والتي قتلتها المروحيات
الإسرائيلية في ديْر البلَحْ في الخامس من شهر مارس من نفس السنة، يدوّن
بخرْبشات اسم المريض شهيد الحصار: نائل الكُرْدي.. إن ولاة نعمتنا هم
المعنيون بعدم الرضا، هم المقصودون بالسخط والرفض والمقاومة، وابنك هذا
سيفسدونه علينا، وربما أصبنا به ما نكره، فهل نسافر إلى مكان لا يسمع فيه
وسيم ما يجري للأطفال على يد الذين ينعتونهم بالقَتَلَة والإرهابيين؟
ـ ولكننا لن نمنعه من الفضائيات والإنترنت.
ـ سأمنعه حتى أغسل دماغه من كل فكر يتضامن مع
المقهورين والمظلومين.
ـ ألا نراجع أنفسنا قليلا، فربما نجد وسيلة للتحرر
من أولياء نعمتنا ونعيش لوسيم وهدى كما يعيش الأحرار لأبنائهم وشعوبهم بدل
العيش لأمريكا وإسرائيل والعملاء؟
ـ سأطلِّقك إن أنت أصررت على ما تقولين.
احتضنت زوجها في خوف ورهَب تستسمحه على ما بدر منها
وتشير عليه بفعل ما يريد..
عندها أبدى رِقَّة صفْوانية، سيَّجها بشفقة شارونية،
وألبسها رِفْقاً ألمرتيا، ثم انْتخب ودّاً دفينا يحرِّكه كلما أصابته عدوى
الحنان فقال لها:
لا بأس، دعيني أتصرف مع وسيم على نحو يجنبنا الإحساس
أننا من هؤلاء..
صنع الوالد لابنه شرنقة وأحكم إغلاقها عليه ووضعها
في غير بيئتها حتى يعيش وسيم غير مستجيب لفطرته، ولا حاسّ بمحيطه، يعيش
لغير وجدانه مسلوب الكرامة فاقد الهوية كأنه موريسكيّ يخفي تديُّنه.
رحلة إلى الشمس
ألهم طفل شغوفاً برحلات الفضاء بتصوُّره عن زيارة
الشمس، أدخل في روْعه إمكانية الوصول إليها والعودة منها في سلام وأمان..
عكفت وكالة الفضاء " مَمْدَرْ "
MAMDAR على صنع مركبة بسيطة من
مواد مركّبة وغير مركّبة.
رسم الطفل المهندس جسما للمركَبة على شكل كرة
البِلْيار تميل قليلا إلى شكل البيضة، هكذا شكلها الخارجي، جسمها حفيظ
محفوظ، مواده خيوط تتشابك وتحبك لتصنع نسيجا غير قابل للاختراق؛ تحيط
بالكرة من جميع الجهات وكأنها شرْنقة دودة القزّ، إذا أريد خرقها تنْتفخ
مانعة ضغْط ما يخرقها حتى تُبعثر قواه في قلبها كالماء بامتصاصه الأثقال
الساقطة فيه، وإذا لم تستطع تحمُّله لانت مطواعة لطبيعتها تلْدُن وتلدُن
حتى تضيع قوّته خارجا عنها منفلتة من جسمها..
رسم لمن يكون داخلها من الروّاد أن يتحرّكوا كالجنين
داخل رحم المرأة، يحيط بهم بحر صغير يمتصّ الضّغْط وينحرف به ولا يمكِّنه
من النفوذ فيه.
صُمِّم جسم المركبة من مادة تحتوي ذرّة واحدة من
ذرّاتها على ثمانين إلكترونا (1) تصميمه يمنع البقاء على وضع واحد عند أيّ
حركة، يحول دون التأثير عليها لتأخذ مسارا غير الذي تسير به موجهة من
الطاقم..
تمّ تصميم المركبة وبقي أن تقوى على تحمُّل حرارة
الشمس ورياحها..
انشغل عقل الأطفال وتحرّك خيالهم يستدعي صوراً
وصوراً ولا صورة واحدة طفت على بحر الانتقاء تُغْري بأخذها، فاستنجدوا بطفل
أندلسيّ يحمل جينات خلّفها ابن فرْناسْ، أغروْه بإطلاق العنان لخياله لعلّه
يُسْعفهم بحلٍّ لرحلتهم.
طالب الطفل المفكر أن يُمهلوه حتى ينضج بين يديه شبل
من أُسْد تعاني الهرم والشيخوخة في انحطاط ودونية لا يرضاها، فمنحوه ذلك..
ولما نضج الشِّبل اصطحبه إلى مختبر وكالة "مَمْدَرْ"
MAMDAR فطفقوا يروِّضون
الذّرّات ويؤلِّفون بينها، ما تباين يحاولون جمعه مع ما تنافر فلم يفلحوا،
أعادوا الكَرَّة دون حصيلة، فمال بهم الطفل إلى بناء الذرات في مختبره ضمن
حيِّزٍ صغير يجعل منه كَوْناً صغيرا يحاكي مبدع الكون على إبداع منقوص، جعل
فيه طبقة وأرادها محاطة بالمركبة، ثم بنى أخرى وأخرى حتى جعلها سبعا طباقا
كالسماوات، انتقى من الذرّات ما تآلف وجعل منها غلافا يحيط بالمركبة،
وانتقى من أخرى غلافا جعله للغلاف الأول؛ وللمركبة، يبني ويبني حتى أقام
مركبة يحيط بها سبع سماوات صغيرات من الذرات المتآلفة، وجعل من الطبقة
العليا من تلك التي ستواجه الحرارة والبرودة والظلمة والضياء والرياح
الشمسية والإشعاع والجاذبية؛ تتناسب في التصدّي والمرونة لجميع التأثيرات..
سيقت المركبة إلى مكان الانطلاق وهي مغلّفة كلّيا،
ومغْلقة تماما، لن تنفتح قبل خروجها من الغلاف الجوي للأرض الذي يحيط بها
وبسماواتها وإن اصطدمت بأيّ شيء، لها غلاف يحفظ لها سماواتها، ويجنِّبها
مشاكل الانطلاق..
ودقّت ساعة الإقلاع في يوم شهد نهضة شرقية فحملها
صاروخ عملاق خارج الغلاف الجوي للأرض، ثم أطلقها لتفتح إطارها
إلكتروماتيكيا (2) وهي مأهولة تنطلق إلى الشمس المستعِرة..
عرجت في السماء تناور منفلتة من تأثير الأجرام
السماوية التي تصطدم بها، لا تتضرّر لصدماتها بخلاف غيرها من المركبات
الفضائية إن اصطدمت بالأجرام السابحة التي لا تملك جاذبية، وحين تمرّ في
جاذبية كوكب ما يجذبها فتنجذب إليه لتتلقّى طاقة دفع بعيدة عنه نحو الشمس،
تسقط في الجاذبية كما يسقط لاعب السيرك فوق شباكه، يسقط في شباك تمطّط
لسقطته وهو يبغي منه رفعه ليأتي بحركات بهلوانية جميلة، تنزل في الجاذبية
كزانة قفز لبطل الجمباز تقوست إلى أقصى حد لتدفع بالرياضي إلى الأعلى
متجاوزا سقفا من الأمتار موضوعا للقفز عليه، يجذبها الكوكب فلا تنجذب إليه
من وسطها، صُمِّمت كذلك، تنجذب من إحدى أطرافها، وفي ذلك الانجذاب تحدث
حركة شديدة تؤدّي إلى تسريعها؛ الشيء الذي يجعلها تنفلت من الكوكب، ولا
تنجذب إليه فتقع في يابسة، تهوي في جاذبية الكواكب بسرعة كبيرة، لا تنزل في
الهاوية دون قرار، ولا تنزل في قرار غير فيزيائي، تهوي في شريط ذرّي
مُقوَّس كقوس الفارس، ومنْجنيق المحارب، تكون المركبة الذرية فيه هي السهم
للقوس، وهي المنجنيق للمحارب.. لكل آلة رميٍ قاعدة، وللمركبة الذرية قواعد،
فكل أطرافها قواعد، ومن أي جهة حطت فوق القرار الذري من جاذبية الكوكب؛
فتلك قاعدتها.
يطلق السهم من قوس قاعدته وتر يسحب بقوة إلى الخلف،
ثم يتحرر فينطلق السهم إلى هدفه، وكذلك القذيفة من المنجنيق..
ظلّت السفينة الذرية منطلقة تطوي المسافات في كون
مُغْلق مَحْبوك، وتتمسّك بذراع الشمس تستقلّها في سباحتها حتى وصلت هالتها،
لا تؤثر فيها الحرارة، ولا الجاذبية، ولا الإشعاعات، مغلَّفة هي بالذرّات،
ذرّات صنعت لها نوى غير نواها الأصلية فحملتها على الدوران حولها متآلفة
متجانسة تحمي المركبة والطاقم من الحرارة الحارقة والإشعاعات القاتلة..
فتح الروّاد عدسات كاميراتهم على وجلٍ وأطلقوا لها
العنان للتصوير، يخرج الإشعاع من بين الطبقات السبع حتى يشرف على الشمس، ثم
يرتدّ إلى الطبقة التي تليه، ثم التي تليه حتى يصل إلى الروّاد..
لكَم كانت فرحتهم عظيمة حين التقطوا صورا للشمس في
الشمس.
التقطوا صورا لأمّ مجموعتنا بعدد إلكترونات ذرة
البوتاسيوم والكالسيوم واليورانيوم (3) التقطوها وهم يقفون على هالتها
بمركبة يسرع غلافها الطبقي من الذرات والسماوات السبع الصغيرة في دورانه
حول نفسه في كل الجهات، ويحفظ للمركبة الذرية حركة في كل الجهات قلب
الغلاف، ولكن في رفق وأمان..
أخذ طاقم المركبة ما أخذ من صور، ثم قفل عائدا من
حيث أتى؛ ونجح، فكان فتحا علميا عظيما.
( 1 ) الذرة التي
تحتوي على 80 إلكترونا هي ذرة الزئبق.
( 2 ) إلكتروماتيكيا
: إلكترونيا وأوتوماتيكيا.
( 3 ) تحمل ذرة
البوتاسيوم 19 إلكترونا والكالسيوم 20 واليورانيوم 92.
أطفال أدباء
ضمّ سقْف خولة ابنة خالتها وابن عمّها. يجتمعون في
آخر الأسبوع ويبيتون عندها. جلسوا في غرفتها ليلة اغتصاب هولاكو بغداد،
احتلها نذل واشنطن وقد خلت إلا من المجاهدين والمقاومين الأفذاذ، جلسوا
تحت سماء تفيض بماء منهمر. الرعد يقصف للانتصار، والبرق يضيء لخطف
الأبصار..
يتداولون دروسهم وينشطون لتمارين يكلِّفهم بها
أساتذتهم..
عندما يفرغون يتحولون إلى مواضيع أخرى وغالبا ما
تكون جلْبا للمتعة والطُّرفة، يَحْفِلون بالأدب، وينتخبون القصص
والحكايات..
اقترحت خولة أن يتصدّر أحدهم ليشنِّف أسماعهم بقصة
أو حكاية، طالبت خديجة بالمبادرة فلم تستجب، أعادت إلحاحها دون حصيلة،
عندها تدخّل ابن عمها وحمل باللُّطْف على خديجة فلم تقاوم رقّة كلامه، ولا
صفاء لهجته، فقالت:
(( لا أحسن سرد الحكايات ورواية القصص )) فقال لها:
ـ بل تحسنين.
فقالت:
ـ أتقبلون مني؟
ـ نعم.
ـ إذن، تعوّد عباس في غُدُوِّه ورواحه أن يداعب
كلبه. يشتغل دهّانا. تعرفه ساكنة طنجة كما تعرف أبناءها. رجل رقيق ودود
يأْلف، وأمين حفيظ يُؤْلف. لا يغدر في بيت به عِرْض، ولا يركن إلى بيت به
داعٍ إلى الفساد ولو أن يضيع منه عمله. يحبّ الأطفال ويأنس بحضورهم في
محيطه. ينفعل لغياب صوت الصّبا والطفولة لعقمه ويبتئس لذلك..
صعد مرة سُلّمه يدهن سقْفا في بيتٍ كريمٍ فماد به
السلّم ليلقي بسطْل الدِّهان أرضا فأُهرِق على الأرضية، ثم تبعه عباس بسقطة
على قدميه سرعان ما مال بها على جنبه الأيمن، ثم زحلق به الدهان إلى الأسفل
فتقلّب في تزحلقه وابتلّت ثيابه ولم يسلم بدنه..
بالكاد نهض. شرع يتوجّع في نفس اليوم الذي توجع فيه
الطفل محمد الدرة (1)؛ وقد حضر للتوّ ربّ البيت وزوجه آمنة، انسلَّت كالسيف
من غِمْده ودخلت غرفتها بخطوات تحسب بعيون العنكبوت القافز (2)، ثم رجعت
بأخرى تحسب بعيون النحلة (3) ومكوِّنات الماء (4)، جلبت ثياب زوجها
ليستبدلها عباس بالتي ابتُلّت، تناولها ودخل غرفة أخرى وارتداها بعد أن عجز
عن إزالة آثار الدهان من بدنه، ثم قرر الذهاب إلى بيته ليأخذ حماسا ساخنا
يستعين به مع زوجه على تنْقية بدنه.
تعجّل الوصول، ثم اقتحم الممرّ المفضي إلى باب البيت
دون أن يداعب كلبه كما عوَّده، وما كاد يخطو الخطوة الثالثة والمفتاح في
يده للقفل الثاني حتى انقضّ عليه كلبه وشرع يعضّه من سِرواله ويجرّه يريد
إسقاطه؛ ربما لقلته. عباس يصيح بأعلى صوته: طوني.. طوني.. وطوني لا يستجيب؛
إذ ما أسمعه. تماسك عباس واستمات واقفا على ترنحه خشية السقوط حتى لا يكون
حتفه علي يد كلبه، لا يفتر عن تحريك لسانه، ينادي على كلبه الذي لا يشكّ في
وفائه، ولا يهتدي إلى تفسير غريب سلوكه، انخرط الكلب كالمجنون يريد
الانتصار على خصمه الواقف عنده، المقتحم بيته؛ والمنتصب أمامه، أُذُناه
تتلقىّ أصوات عباس ونداءاته، ولكنهما لا تستطيعان التثبُّت؛ إذ غيض سمعه في
صوت عراكه، ورُوَيْدا رويدا شرع ينصت إلى الصوت، فطفق يستبينه، وعندها
ابتدأ يقلّ حماسه في القتال، وينزل إيقاعه في المنازلة حتى توقف خجولا
مُنكَّس الرأس صامتا لا يحرِّك ساكنا..
دخل عباس على زوجه فاقتادته إلى الحمام، ثم عالجته
من جراحات كلبه ووضعت عليها ضمادات، وحين اطمئن إلى سلامته خرج إلى كلبه
يداعبه وكأن شيئا لم يحدث، اهتدى إلى خطئه الذي لم يقصده، واهتدى إلى خطأ
الكلب الذي لم يقصده هو الآخر، ولكن الكلب لم ينقلب إلى السرور، ولم يبد
أيّ حركة مما تعودها منه عباس، لا ينشط ذيله بالحركة، ولا يرفع وجهه للنظر
في وجه عباس، فانحنى عليه وشرع يمرِّر يده على ظهره، ويُربِّت على رأسه،
ولكن الكلب لم يستحب، احتار في أمره، ثم ظهر له أن يفتح له الباب كما يفعل
معه عند كل رَوْحة ليخرج للركض وقضاء الحاجة ففعل..
راح الكلب رائحة الدِّهان فتبعها ليجد لباس ربّ
البيت المخضَّب بالدهان قد رمت به أمّ وِِجْدان، فحمله بعيدا، ثم شرع
يُقطِّعه ويبْتلعه دون قضْمٍ حتى أتى عليه..
تأخّر الكلب عن اللِّحاق ببيت صاحبه فخرج يبحث عنه
ليحده متوعِّكا مما فعل، حملـه إلى بيته وشرع يُسْعفه، وفي الصباح الباكر
ذهب به إلى الطبيب البيطري ليعالجه، وحين وضعه على سُدّته للفحص قضى..
قضى الكلب منتقما من اللِّباس والدِّهان الذي حجب
عنه رائحة عباس. قضى معاقِبا نفسه على ما فعل، ولكنه لم ينتحر.
................
ـ استمري.
ـ انتهت القصة، والآن دوْرك يا مراد.
وانطلق لسانه:
ـ اصطحبني والدي معه؛ ترافقنا "لايْكة". توجَّهنا في
مَجْمع البحرين إلى "لَلاّ جميلة". نصطاد الكمْبري ونتّخذه طعْما لسمك
الشَّرْغو الذي يهيم بصيده والدي، وينتشي بمشاغبته حين يقع في صنّارته..
حين نتحرّك من مسقط رأسي؛ يعلم الشباب جهتنا. وحين
نطل على شاطئ مرقالة يدرك من يستظل بسمائه ممن يعرفوننا؛ وِجْهتنا، فإذا
نوى الشباب الصيد اصطحبونا ليعينوا أبي على صيد الكمبري حتى يكتفي.. وعندها
يتناول الفأس ويشرع في تفحُّص الصّخْر وهو يتنقّل من صخْرة إلى أخرى بحدْس
عجيب، وفِراسة لا خبرة فيها، أو ربما نجهلها، فيشرع في تكْسير الصّخور
وتهْشيمها متتبِّعا آثارا تنتهي إلى مساكن الديدان السمينة، يجمع الشباب
"أمّ أحناش" بلهف وأبي مبتهج لبهجتهم وهم خلفه يجمعون حتى يتخموا، ثم ننقلب
إلى بيتنا لجلب قصبة الصيد وما يلزم لذلك..
وبعد سبعة عشر عقدا من دعوة نابليون بونابرت اليهود
إلى العودة إلى فلسطين باعتبارها وطنا قوميا لهم (5)؛ تفقّد أبي كلبته، فلم
يجدها، وتذكّر أنه قد تركها خلفه مطمئنّا عليها لشهرتها بين روّاد مرقالة،
ومحبتهم لها، لا يشكّ في عودتها سالمة، فهي أشهر من علَم بين روّاد البحر
والشاطئ، ولكنها تأخرت كثيرا، وحان موعد الذهاب على ساعة المدّ البحري في
يوم حار..
انحدرنا من بيتنا في "غَرْسة الأعراب" نتعجّل الخطى
نحو البحر، لا نريد للبحر أن يمدّ مياهه إلا ونحن في مُصْطادنا، نريده أن
ينشر مياهه، ويدفع أمواجه بين أيدينا ومن خلفنا وعن أيماننا وعن شمائلنا
ونحن واقفين على صخرة وسط البحر. شغلت أبي كلبتنا لتأخُّرها، ومُصْطادنا
بعيد عن مكان جمع طُعْم الكمْبري، فقرّر تفقّدها حيث كنا في الصباح عندما
كان البحر منشغلا بجزْره، ولما أطللنا من مشْرفة "العَدْويّين" شرع نباحها
يصل مسامعنا.. فقد راحتْنا.. هرول والدي نحوها يسبقني لشفقته عليها ليجدها
رابضة على حقيبته وموج البحر يدفعها للتخلي عنها. "لايكة" تستميت في
التمسُّك بحقيبتها وموج البحر يرفعها يريد سلبها منها أو تتخلى عنها وهي في
غاية الانزعاج، لا تريد أن تضيع منها وديعة سيدها.
تهللت أسارير أبي وهو يشاهدها تكافح موج البحر،
فتقدم فيه وحرّر حقيبته من تحتها، فانطلقت تجري فرحة مسرورة تحرِّك ذيْلها
على صوت: عُرْعُرْعُرْ.. عُرْعُرْرْرْعُرْ، تلك لغتها التي يجهلها، وذلك
منطقها الذي يعرفه. فرح بها وأثنى عليها وهي تعرف في صوته ووجهه وحركته
ثناءه، ثم شكر لها صنيعها وأكبر فيها وفاءها، وانقلبنا إلى مُصطادنا
رفقتها.
ما كاد مراد ينهي قصته حتى حضرت أمّ خولة تدعوهم
لمائدة الطعام، ولكن ابنتها لم تحك حكايتها. تحرّكت خولة متملِّصة للذهاب
إلى المائدة فمنعها مراد وخديجة وهما يترجّيان أمّها أن تنتظر قليلا،
((ولكن الطعام سيبرد))، تقول الأم، ((ولكن خولة لم توف معنا والوفاء لا
يمكن إدفاؤه خلاف طعامنا))، يقولان، وعندها جثت أمّ خولة قرب ابنتها
وضمّتها إلى صدرها وطالبتها بسرد حكايتها بسرعة، شجّعتها على استحضار ما
كتبه الأديب البقاش في الأدب المَمْدَري، دفعتْها:
((هيا يا ابنتي فأنا أيضا في السماع))،
وتشجّعت خولة، واعتدلت في مكانها كراوية للشعر، ثم
استرْسلت:
ـ حدَّق طفل إلى قِنّينة الشامبو الصفراء، أطال
التحديق حتى سها عن تلبية حاجة الزبناء الذين تزاحموا في حانوته، كان من
بينهم رجل من قوم هم أول من اتّخذ المقاهي (6)، لفت ذلك انتباه جاره الذي
يقابله.. وحين كان الغد شكاه إلى أبيه..
عندما همّ إبراهيم بالذهاب إلى فراشه وقد فرغ من
تناول عشائه دعاه أبوه إلى المطبخ وقد هيّأ ما يلزم لما بَيَّت خُفْية، ثم
كسح شعر رأسه وتركه دون غطاء، جرّده ومسحه ولم تنفلت من موساه شعرة واحدة،
تركه أقرع يشفق على نفسه ويخشى قسوة الأطفال في لَمْزه وهَمْزه..
حضرت أمّ إبراهيم متأخّرة، ثم شرعت تهدِّئ من روع
ابنها وكأنها تواسيه في مفقود عزيز، تطمْئنه وتشجِّعه على مواجهة الواقع
وتشرح له أن الأمر عادي وليس فيه ما يعيب. لم يهدأ الصبي، ولم تضرب غُدّتا
دمعه عن تدفئة وجنتيْه، وحين وجد إلى زوال القهر سبيلا؛ سألته أمه قائلة:
((لماذا صنع لك أبوك ما صنع؟ ماذا فعلت حتى
يعاقبك؟)). فأجاب:
ـ لا شيء.
ـ لا يمكن.. فأنا أعرَفُ بأبيك منك.. ماذا كنت تفعل؟
ـ لقد شكاني إليه البقال حمّو.
ـ لماذا؟
ـ رمق باب حانوتي مزدحما بالزبائن؛ وأنا ساهٍ عنهم.
ـ وفيم كان سهْوك؟
ـ كنت أحدِّق إلى قِنّينة الشامبو الصفراء وهِمْت
بها، وقد تصوّرتُني أغسل بها شعري في حمام البيت.
ـ هو ذاك يا بنيّ، لقد فهم أبوك قصْدك، وأحمد لك
الله أن لم يضْبِطْك تُحدِّق إلى معجون الأسنان، فلو فعلت لكان فمك الآن
منزوع الأسنان)).
امتلأ البيت بالضحك وماج بالقهقهات حتى ثرّت له
الغدد وتوجّعت له البطون، نهضوا جميعا لنهاية الحكاية الطريفة وانتقلوا إلى
مائدة الطعام لا يفترون عن الضحك.
(1) توجع الطفل
الشهيد محمد الدرة وهو يبلغ من العمر 11 سنة عندما أصيب في رجله بالطلقات
النارية من طرف الجنود الإسرائيليين قبل موته بتاريخ: 30 شتنبر سنة 2000م.
كان الطفل عائدا مع والده من سوق السيارات المستعملة في غزة، كانا متوجهين
إلى مخيم البريج، احتميا بكتلة خراسانية تجنبا للإصابة بالطلقات النارية،
ولكن الوابل كان غزيرا واستمر مدة ساعة كاملة أصيب به الأب في اليد اليمنى
التي كان يلوح بها طلبا للنجدة، ثم أصيب صغيره في رجله وتوجع لذلك وبكى وهو
يقول لأبيه ببراءة الصبيان: (( احمني يا أبي )).
(2) للعنكبوت القافز
8 عيون.
(3) تملك النحلة 5
عيون.
(4 ) مكونات الماء 3
ذرات هي: ذرة من الأوكسيحين، وذرتين من الهيدروجين.
(5) في سنة 1798 م
دعا نابليون بونابرت اليهود إلى العودة إلى فلسطين باعتبارها وطنا قوميا
لهم، أطلق دعوته لتصدير المشكلة اليهودية.
(6) أول من اتخذ
المقاهي هم العثمانيون في تركيا.
المؤلف: محمد محمد
البقاش أديب باحث وصحافي.
الكتاب: ظلال
الطفولة (مجموعة قصصية من الأدب المَمْدَري للأطفال فوق الثانية عشرة)
الإيداع القانوني:
462 ـ 98
ردمد 1114 – 8640
ISSN
الحقوق: محفوظة
للمؤلف.
النشرة الإلكترونية
الأولى: بموقع شبكة طنجة وموقع المربد في: دجنبر
2008
ظلال الطفولة
(مجموعة قصصية من الأدب المَمْدَري للأطفال فوق الثانية عشرة)
|