تسَاؤلات إبراهيم العَبْد
(لو أنني أخرجت القارب من الماء.....)
تململ (إبراهيم العبد) في فراشه. شيء ما يدفعه
للنهوض، ويبعد النوم عن عينيه. تحرك بهدوء... حدق في الظلام بحثاً عن خيط
ضوء يهتدي به إلى الباب... كانت العاصفة في بدايتها... الطبيعة تولول كسرب
من الغربان يعتدي الأطفال على أفراخها. أمسى العويل بين أضلاعه..
(هذه الليلة الملعونة... سترك يا رب. لن تترك لنا
العاصفة من قواربنا، إلا بقايا أخشاب مرجبة على الشاطئ. وستكون كارثة تقود
الصيادين إلى الجوع... والفاقة والحرمان.)
(عادل كان دائماً يصر على إخراج القارب من الماء إلى
الشاطئ. أو ربطه بعيداً عن منطقة الصخور على الأقل)
أبرقت السماء... أرعدت... شخر الهواء في الخارج،
بينما كان يحدث صفيراً متقطعاً، مبحوحاً. لدى دخوله إلى غرفة "إبراهيم
العبد". من خلال الفراغات الموزعة بين الجدران، والباب، والنوافذ.
(عادل كان على حق.. ليتني أرسيت القارب في الجهة
الجنوبية الغربية. إذن لكان بعيداً عن الصخور أولاً... ومحمياً عن عربدة
الأمواج وسخطها ثانياً... ولكنه الكسل. هنا أحتاج إلى التخلص من القسم
الأسفل من ثيابي للوصول إلى القارب أو العودة منه. بينما قرب الصخور، انتقل
من القارب إلى الصخرة الكبيرة... ثم بالتدريج أصل إلى الشاطئ، وقد لا أحتاج
لخلع حذائي إذا أردت).
تنهد... أصغى السمع، فاجأه الصفير... أيقظه من شروده
اصطدام جسم ما بالأرض. كان الجسم هشاً... تبعه أصوات تحطيم أغصان شيئاً
فشيئاً. تجمدت أنفاسه لحظة، تذكر شجرة التين: (لقد انكسرت شجرة التين في
الباحة، واأسفاه، إنها من النوع البلدي الجيد).
انبعث في الغرفة تيار هواء قوي... تلاه تحطيم. جسم
زجاجي. (لقد تحطم زجاج النافذة).
استرسل القلق في احتلال تفكيره. تمادت الأفكار
السيئة تعمل في رأسه دون كلل أو ملل.. تحسس وجهه براحته، أحس بالتجاعيد
موزعة في الجهة والخدين وبين فمه وذقنه.
(لقد تجاوزت السابعة والستون... سبع وخمسون عاماً
قضيتها في صراع دائم مع البحر... البحر، ذلك العدو الحبيب الذي فاق
بمزاجيته كل حد... واستعصى على الإنسان مهادنته)
وضعت زوجة (إبراهيم العبد.. قطعة من القماش مكان
الزجاج المحطم... تظاهر إبراهيم بالرقاد. وعندما عادت إلى الفراش ثانية،
رفع رأسه قليلاً وقال:)
لا مفر من ذلك.
صمت قليلاً وأضاف متسائلاً:
أليس كذلك.؟
قالت الزوجة بصوت جاد، ولهجة مستغربة:
بسم الله... ما هذا الذي لا مفر منه؟
ـ تحطيم القارب. أجابها وكأنه يجيب نفسه.
قالت بعذوبة الشيخوخة، وحنو الأم... وإيمان المرأة
القدرية:
ـ (اللي بيريدو الله بيصير) وتابعت قولها: (قل ما
يصيبكم إلا ما كتب الله لكم)
اندست في الفراش.. التصقت به بحثاً عن الدفء. أما
إبراهيم العبد، فقد بدأت الأفكار تستنفر في رأسه. فبدا له منظر القارب
تتقاذفه الأمواج... ترتفع به تارة، وترتفع فوقه محاولة دفعه إلى الأسفل،
تارة أخرى. صوت الأمواج يتعالى... يشتد في أذنيه.
(المياه تحتل قعر القارب... هاهي ترتفع قليلاً في
بطنه)
استنفرت أعصابه تماماً...
(لو كنت في القارب الآن لغمرت المياه ساقي...)
صوت الأمواج أشبه بعواء ذئاب جائعة... راودته الرغبة
بالصراخ.. لكنه اكتفى بمعالجة تلك الأفكار باحتمالات لونها بصباغ الأمل،
كاد يستسلم للرقاد أو فعل، عندما مزق صوت العاصفة سكون الليل، بأصوات
وحشرجات ـ بغتة ـ أغمض عينيه.. و صرخ بذعر مخيف:
ـ يا إلهي... لقد انتهى كل شيء... تحطم القارب...
تحطم كل شيء.
صوت العاصفة يشتد... نهض فجأة وصرخ:
ـ يا عادل... يا ابني يا عادل، هلم يا ولدي.
وقفت الزوجة مذعورة. اقتربت منه بهدوء، تحسست جسمه
بيده، وقالت:
أبو عادل ماذا تقول... ماذا أصابك؟
يتذكر فجأة... عادل هجر المدينة بحثاً عن الرزق...
كان ذلك على ظهر إحدى ا لبواخر. وتساءل بطريقة إنسان أفاق فجأة من صدمة
أفقدته صوابه لفترة وجيزة:
ـ (لماذا هذه الهجرة... الفلاح يهجر القرية
والأرض... والمعلم المختص يسعى إلى الهجرة... الطالب المتفوق يذهب إلى بلاد
الأجانب ولا يعود... وأولادنا يتركوننا للعمل في البواخر بعيدين عن الوطن
وعنا.)
تذكر جواب عادل عندما طلب إليه عدم الذهاب، والبقاء
في البلد.
ـ ولكننا لا نعيش يا أبتي...
ـ وغيرك كذلك يا عادل..
ـ غير يحاول أن يغادر مثلي، إذا كان مثلي... فما
رأيت معلماً، أو موظفاً أو فنياً إلا يتواسط لترك عمله لسبب أو لآخر.. إنهم
يدفعون من أجل ذلك يا أبتي...
ـ (يا للخسارة) قال ذلك إبراهيم العبد. وأضاف.
(ما أعجب هذه الحياة... إننا نفقد معنى وجودنا شيئاً
فشيئاً. وإلا ما معنى هذا التوق الأرعن للهجرة... والإلحاح العجيب على
الهروب. إنها الفوضى... انتصرت الهزيمة في النفوس... وكم هو مؤلم أن
تنتصر)
أسند رأسه إلى زاوية السرير الحديدية... (ما أرهبها
من لحظات.؟ ذلك الهروب النزيف، عقوبة التاريخ لعدالة أو جور وجودنا).
نسي العاصفة والقارب... والصخور، وعادلاً... مجرد
شرود ذهني أعاده إلى حادثة شاهدها أول أمس.. كان يتمنى أن ينقذ الرجل. لا
لأنه يعرفه ويحبه... ولا لأفعاله الحميدة، وخصاله الحسنة. إنما لأنه إنسان
ومن أجل الإنسانية فقط... في الحقيقة ـ قال في نفسه ـ أن مجمل أفعاله
وخصاله لا تخولانه أن ينقذه أحد..)
تساءل بعناد كأنه التاريخ يريد أن يسجل حادثاً في
مذكراته الخاصة.
(كان الرجل يصرخ أشبه بالمجنون.... وكان له ما يميزه
من ثيابه الخاصة... استجار بالمارة، واستعان بالجالسين... بأصحاب الحوانيت،
والذين يطلون من النوافذ... استنجد بالباعة والمتجولين. إلا أن أحدهم لم
يلتفت. تجاهله المارة. والجالسون الباعة... وأغلقت النوافذ والأبواب في
وجهه... أغمض الجميع عيونهم... الرجل تميزه ثيابه... والدراجة تسرع
باتجاهه... خيم الصمت... (لحظة). ومات صاحب الثياب المميزة.. انطلقت
الدراجة بأقصى سرعتها... هدأت حركة الشارع. أما أنا... أنا الذي لا تسمح لي
سني بالمقاومة، أو تقديم المساعدة. فقد اتجهت إلى اقرب باب وتسلقت درجاته
إلى لا مكان محدد.
مات الرجل؟!..
تساءل إبراهيم العبد، لماذا هرب الجميع... وقال:
(يا للجريمة البشعة...؟)
اللعنة على أمر ما أفقد الإنسان حس الإنسانية لا بد
أن ذلك الأمر هو الذي أفقد الأرض فلاحها... و... وجعل الناس يغضون الطرف عن
الجريمة. ما هو ذلك الشيء.. لست أدري؟ صوت العاصفة لا يلبث يعلو من جديد.
تخيل المكان.. تساءل إبراهيم العبد:
ـ هل كان أمام عادل وأمثاله إلا ذلك الطريق؟
وتتسلق أفكاره حادثة القتل من جديد. الناس... أين
عيونهم وسواعدهم، وقلوبهم، وتذكر كلمات أحد المارة (حسناً... وكما تراني يا
جميل أراك)
ارتفع عويل العاصفة...
انتفض في فراشه واقفاً... استيقظت زوجة:
ـ إلى أين؟
ـ إلى ميناء الزجاج.
ـ ما هذا الجنون... في هذه العاصفة، وبمثل هذا الوقت
من الليل؟
ـ أريد أن أنقل القارب إلى المكان الذي كان يربطه
فيه عادل.
ـ الآن؟!
ـ نعم
ـ ولكنك لا تستطيع وحدك.!
ـ لا تخافي
ـ دع الأمر إلى الغد
ـ غداً يوم آخر... ويجب أن لا نؤجل عمل اليوم إلى
الغد.
حضرته كلمات ولده عادل: (حين فكر بالرحيل بكيت
مرتين... مرة لأنني سأغادر الوطن وقد لا أعود... ومرة لأنني مضطر أن أترك
ذكرياتي... وطفولتي. وهكذا يا أبي.... ما من أحد يغادر إلا مكرهاً... ما من
أحد يغادر إلا بعد أن يفقد الأمل بالحياة الشريفة... والأذرع القوية
المنقذة... صمت قليلاً وابتسم بحزن: (لقد فقدت الأمل يا أبتي).
تساءل إبراهيم العبد في نفسه (وعندما يتم فقدان
الأمل؟)
أجاب:
(تمتد المخالب فتخرج وتمزق كل شيء... بما في ذلك
الأشياء الجميلة في وجودنا).
قال له عادل:
(لو أن الوقت الذي نضيعه في سبيل الأمور التافهة.
كان لإبعاد شبح التفاهة، والميوعة والخوف من المستقبل، ووجودنا. إذن، لكانت
حياتنا الآن شيئاً آخر.)
قالت الزوجة:
ولكن؟ الآن؟.
قال بلهجة واثقة قوية،
سأذهب.
هلا انتظرت لتهدأ العاصفة قليلاً.
ـ كلا... قد لا تنتظر العاصفة.. فتحطم كل شيء.
ـ قد يصيبك مكروه.
ـ المهم أن لا أدع العاصفة تدمر وجودي، وما عشت عمري
لجمعه... إنه لعادل.. ولنا. أما الزوجة، فقد استسلمت مكرهة جزعة عندما رأت
تصميم زوجها.
سألها:
ـ أين القنديل يا أم عادل؟
ـ إنه هناك.
تحركت من مكانها باتجاه إحدى زوايا الغرفة وأضافت.
ـ هل أشعله من هنا؟
ـ أعتقد أنه من الأفضل أن تفعلي ذلك.
ـ وأنا أعتقد ذلك أيضاً.
لاحظ إبراهيم العبد وجوم زوجه وارتباكها وهي تهيئ
القنديل فقال له بحنان:
لا يشغلك شيء يا مديحة.. إنه لا بد من ذلك. لا بد من
الحفاظ على القارب. إنه يعطينا كل شيء.. كل الأشياء التي نملكها. بما في
ذلك حياتنا التي نعيشها إنما هي بعض عطاءاته.
ـ .....
فتح الباب
ـ هل أنت ذاهب فعلاً؟ سألته أم عادل
لا أظنني أمزح، أو أتأخر في وقت لا يحتمل المزاح أو
التردد.
كانت الأمواج في صباح اليوم التالي، هادئة تشبه
نسيماً يأتي من البعيد.. تحمله الرياح عبر غابة بعيدة النهاية، عالية
الأشجار. كل شيء مشبع بالهدوء، لدرجة أن من أحس بعاصفة الليلة الماضية.
وجمال الصباح وهدوئه. لا يصدق بشكل من الأشكال.. أن هذا الفجر هو ابن تلك
الليلة الهوجاء العاصفة.
قال أحد الصيادين لزميله وهو يشير إلى ميناء الزجاج
من الرصيف المرتفع:
ـ انظر.. قارب إبراهيم العبد هو الذي نجا من غضب
العاصفة وبقي سليماً تماماً.
قال الثاني: لقد أحسن صنعاً إذ ربطه في تلك
المنطقة.. بعيداً عن الصخور.
أما الثالث فقد ردد بصوت حزين:
ـ قوارب معظم الصيادين قد تضررت... ومنها ما تحطم
تماماً... وأضاف.
(انظر هاهي ذي ثلاثة قوارب، قد أصبحت أشلاء حطاماً
لا تصلح إلا حطباً للوقود)
قال الصياد الأول: لو أننا أتينا ليلة أمس، وغيرنا
أماكن القوارب.. لكانت خسارتنا أقل بكثير مما عليه الآن.
وأجاب زميله مؤكداً قائلاً:
حقاً ما تقول.
وانتبه الجميع إلى الوراء... صوت امرأة جعلهم
يلتفتون دفعة واحدة إلى مصدر الصوت.
قالت المرأة:
هل رأيتم إبراهيم العبد.
ـ من؟ قال أحدهم
وقال الآخر
أم عادل؟
وسأل الثالث:
ـ ولكن.. أين أبو عادل؟
أجابت: (لقد خرج ليلاً ليغير مكان القارب.. ليشده
بعيداً عن الصخور خوفاً من العاصفة.
قال الرجل الثالث: يبدو أنه نجح في ذلك..
قالت: ولكنه لم يعد حتى الآن.
اتجهت أنظار الجميع إلى الشاطئ... في تلك اللحظة...
ثمة ساعدان... أحاطا جسم المرأة من الخلف... وتقابلت نظرات عادل بعيني أمه
الحزينة.. وانتقلت العيون الأربع معاً إلى الشاطئ... حيث القارب تداعبه
الأمواج.
قالت المرأة وهي تحتضن وجه ولدها:
ـ إنه الوفاء.
ـ نعم إنه الوفاء العظيم يا أماه.
سألته بلهفة:
ـ طبعاً... فأنت باق؟
كان لا مفر من العودة... وبالتالي لا بد من البقاء.
ـ هو ذا القارب
ـ أعلم ذلك...
همست المرأة بصوت تخنقه الدموع.
ـ ولكن أبوك؟... أجهشت وقالت: (انظر كم هو رائع عمل
أبيك؟)
احتضنها عادل من جديد:
ـ هل أخبرك بشيء...؟
لا أظنه أراد أكثر من عودتك... والحفاظ على القارب.
قصّة حبّ
شمس خريفية دافئة تحاول أن تحتضن المكان والزمان،
فسربت أشعتها على الطرقات والدروب بين الشوارع والزواريب الصغيرة، فبدت
كخيوط شفافة لامعة وهي تنساب خلال أوراق أشجار الخرنوب الهرمة التي تحيط
بالمخفر الذي عايشها لسنوات طويلة. إلى اليمين، يمتد شارع مستقيم إلى البحر
مباشرة ليبرز في نهاية السور الذي يحيط بالشاطئ كما تحيط السوار بالمعصم...
يفصل هذا السور، الرصيف عن المنحدر الصخري الذي يسمى (حمام الحجر)، وهو
عبارة عن لسان صغير، تعلوه صخرة مجوفه يصل إليها الأطفال بواسطة ممر ضيق
تغطيه مياه ضحلة... في المسافة الفاصلة بين حمام الحجر، وميناء الزجاج
تنبسط كتلة صخرية كبيرة، مسطحة، يؤمها فقراء المدينة في الأمسيات الصيفية،
والربيعية كمتنزه خاص بهم في الليالي الحارة. عند نهاية هذه الصخرة من جهة
الشمال تنتشر قوارب الصيادين فيما يسمى (ميناء الزجاج) الذي هو عبارة عن
خليج رملي صغير ورائع في آن واحد.
... أيام طفولتنا، والمراهقة، كنا نعبر هذا الطريق
كل يوم مرات لا تحصى، يشدنا إلى ذلك الرغبة في معانقة البحر، ذلك اللغز
الذي كنا نتعامل معه بارتياب... نحبه، ونخشاه، نباغته، ويباغتنا، بجروح
صغيرة ونحن نلهو فوق شاطئ ميناء الزجاج الرملي، والصخرة المسطحة.
وها أنذا.. بعد سنوات من ذلك الماضي أبدأ الرحلة
ذاتها... تتسلق مخيلتي صور الذكريات، بكل ما فيها من حنين رائع، عن
الطفولة، وقوارب الصيادين، وشباكهم، وعن إبحارهم وعودتهم، وعن البحر
بمزاجيته اللا محدودة بين الشفافية المرهفة، والعواصف المرعبة.
***
تمزق شيء في داخلي، ألفيت نفسي أتخبط في قاع الحزن
بين رعشة الحلم، والوهم، وأنا أحتضن ذكرياتي التي حاول الزمن ابتلاعها.
خطوة إثر خطوة، خطوت في مشقة كبيرة... ولكنني لا أعرف فيما إذا كنت أخطو
إلى الأمام أم إلى الوراء... أنا العائد من الغربة كنت أشعر أنني غريب
وحيد، ومنفرد... كل شيء مات حولي... فالبحر، سرقوه في الليالي التي اعتقلت
فيها الغيوم السوداء قمرها، ربما هو الذي استسلم بعد أن أتعبه العيش،
وشاطئه قد تعفن، حين احتجزوا مياهه، وشاطئه، وشمسه، وسوروه بالاسمنت
والأسلاك الشائكة... ومنعوا عنه أقدام الأطفال الذين أحبهم...
كانت حبيبات الرذاذ البيضاء تغسل وجوهنا، وتلامس
شفاهنا، فنمتصها كما كنا نفعل مع بعض أنواع الحلوى... وكنا سعداء، سعادة
المراهق الذي يعيش لحظة لقاء الحب الأول...
شعرت أن العالم مات من حولي، وأنني الآن أموت معه
وأنا أحتضن تلك الذكريات منتصباً أعانق الأفق الأزرق، الماء يغسل أقدامنا
الصغيرة وهواء البحر المنعش، يستقبلنا برطوبته، ربما مع قليل من الملوحة،
في أبهة الفجر المدهوش، وانطلاقته.
***
حزينة مثلي كانت... مفقودة، ضائعة في مهرجان
القشريات، والطحالب، وبريد الزبد الهش، خفافيش الليل بدت فجأة، تقتنص روعة
الحياة في ربوعها، بلا حب، بلا روح.
مقهورة مثلي حبيبتي... طرقاتها حزينة، الأمواج
والصخور، قناديل الصيادين والقوارب، ومصبات الأنهار، تتطلع حزينة بعيون
يتامى، تحمل الهواء رسائل حب وشوق، لأولئك القابعين في الزوايا، يتلوى
وجودهم في الأفق البارد، الفارغ، الضبابي بحثاً عن حبهم القديم، عن عشاق،
عن عاشق أحب هذه المدينة...
ومع أن البحر كان شيئاً رهيباً مجهولاً في طفولتنا،
وكنا نخشاه ونحبه، وأحياناً كان يفرض على المدينة فدية، يدفعها أبناؤها
منزلاً، أو قارباً، أو صياداً... أو ربما عذراء ألقت بجسدها في حضنه
واستثارته ليداعبها، وعندما أرادت هجره، كان قد أحبه... قد يكون البحر
–أحياناً- قليل التعقل، مزاجياً، له طقوسه الغريبة، يحطم القوارب، يمزق
القلوع والأشرعة، ولكنه إلى جانب ذلك، فهو كتلة عواطف وإخلاص، لأنه ما فتئ
منذ الأزل يغسل كل يوم، بل كل لحظة أقدام حبيبتي، ويشد على خصرها زناراً من
الندى يمنحها الحياة، والجمال، والديمومة.
أصوات غريبة، صراخ وبكاء، ارتفعت دفعة واحدة..
حبيبتي مغلوبة على أمرها... والبحر الحارس العاشق يتطلع إليها وقد قيد
الواقع حلمه، وهو يراها مصلوبة تحت أقدام الزمن العفن.
أوشكت على البكاء حين فكرت بما أرى. في اللحظات التي
رفضت فيها خواء الواقع وظلمه، تمنيت من أجل عيون حبيبتي أن أكون غجرياً،
يحمل صورتها الرائعة في مخيلته، واسمها في فؤاده، ويتجول وهو يغني حبها،
وجمالها، أينما حل وكيفما رحل... وها أنذا الآن أتمنى أن أكون قاطع طريق
لأخوض من أجلها صراعاً مصيرياً مع المسوخ، والأقزام... لأطرد الخفافيش،
وأنظف جسدها من اللبلاب، والأشواك. إن روحي تزأر من آلام حبيبتي التي
تستباح كل يوم حتى الموت... الكثيرون يعرفون جيداً، أن وجودها هو المقصود.
وإلا كيف يبرئ القانون الخارجين على القانون.
اندفع البحر نوارس تساقط بعضها في غور أحزاني
المريرة، احتلني نورس نجا بحياته، وسألني إذا كنت قد متُّ. فقلت: لا. قال:
إذن... فلتصلنا الرياح المخبوءة أكثر جنوناً، بل أعاصير كالذكرى منك...
قلت: كيف يمكنني ذلك؟..
-حين يلقي الليل بروائه على جسد حبيبتك، نتماسك
بأيدينا متحدين، ونهب في فجر صباح ما، كأجساد بعث الله فيها الأرواح بعد أن
فارقتها الحياة، ونظل نهتف للبحر وندعوه:
"أقتل الأشرار الذين يزرعون الفقر في عيون الناس،
والجوع في بطون الأطفال... انتصب ضد القوانين التي تحمي الأغنياء، والسفلة
والأوغاد... إمحقهم، "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
حين كان الناس يلعقون الملح عن شفاههم قال أحدهم وهو
مضطرب:
-حيث تنتصب القوانين التي تحمي السفلة والأوغاد،
يتحالف الظلم والإجرام، مع القمع والفساد والغباء.
وقال آخر: يجب أن نبحث في أعماق دورة الانتماء، لنصل
إلى حقيقة ما يجري ونفهم أبعاد الواقع.
رد ثالث: من أجل أن نرى النوارس تنعم بالحياة علينا
أن نعرف طبيعة القوانين التي تحكم هذه الحياة، ومن ثم نغير ما هو ضروري
تغييره.
قلت أخاطب النورس الذي نجا، وهو يفتح جناحيه للبحر:
من أجل أن نرى البحر قد استجاب لنا، علينا أولاً أن نكون الريح التي تزيل
كل ما يغطي جسد الحبيبة من أعشاب، وأشواك.
***
أغمضت عيني محاولاً الخروج من النفق الذي تنز جوانبه
غربة، ثم فتحتهما، ونظرت حولي بلا خوف أو قلق... على مبعدة من اللحظة التي
غادرتها، انبعث شيء في داخلي من مخاض ذلك الشعور الذي تجلى لي، وأنا أنظر
إلى عيني حبيبتي. اجتازت أحاسيس الزمان والمكان فجأة، كأنما هاتف ناداني
فأسرعت إليه... تخطيت الكآبة، والآلام، والواقع الذي انزرعت في كل جوانبه
أشباح هشة أشبه برماد غطته المياه... مزقت كل الاحتمالات لأصل حيث نادتني
الحبيبة، وأنا في قرارة نفسي أشعر بالدفء، ولحزني، أتمنى أن يستجيب البحر
مبكراً.
الطحالب، والأشواك تشوه جمال حبيبتي... اللبلاب يمتص
الحياة من وجهها، والشحوب يجعلها مثل امرأة عجوز مكدودة مرهقة، تنتظر
ورموشها المتعبة تداعب أحلاماً تنطلق باحثة عن الدفء، والحب، والحنان...
تلاحق بنظراتها الأقدام العارية، والوجوه التي شققها الجوع بصمت.
بعد خروجي من النفق الذي تنز جوانبه غربة، أشعر أنني
أحبها أكثر، وأنها ما زالت تحبني.
ما أشد سحرك يا حبيبتي، وما أوفاك، وأنت تحملين
حقيبة الذكريات كل تلك الأيام بين ضلوعك، والحنين في قلبك، لتستقبلي هذا
العائد الذي أضاعته الغربة بعيداً عنك...
"ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب
إلا لكثرة الذنوب".
حدثت نفسي وأنا أحمل أسفار حبك، عن حبك. وحين رأيت
الدمع يغرغر في عينيك، لا يخرج منها، ولا ينقطع عنها، عثرت على حقيقة
المأساة... الحقيقة المرمية في الشوارع، والمكتوبة على الجدران... مبعثرة
عند أقدامك... وحارسك البحر، يرفض أن يحتويها في جوفه، فتقذفها أمواجه
لتقدمها علفاً نتناً للطحالب... وعندما رأيت "الجواكر" الأخطبوطية تحتل
شواطئه. أدركت أن العلاقة بينكما -أيضاً- ليس إلا وجهاً آخر للغربة.
***
أشعة الشمس الخريفية أرسلت ضوءاً أكثر قليلاً، فجعلت
الطحالب واللبلاب، والأعشاب الهمجية المنتشرة هنا وهناك أشد وضوحاً،
وقساوة، ووحشية... "الجواكر" تقوم الآن بحركات تحولية لتأخذ أجسامها أشكال
الأخطبوط، ووجوهها شكل حبة العدس... بين الفينة والأخرى يحدقون في أجسامهم،
ويتلمسون رؤوسهم ووجوههم ليتأكدوا من النتيجة...
يتمطى الواقع الذي يحاصر حبيبتي... الضباب يغطي كل
شيء حولها، ويتسرب الخوف إلى زوايا الصمت حاملاً المرارة والأمل... كل شيء
يبدو هادئاً، وأنا مصاغ من الكلمات، وأتنفس عشقاً أفكار حبيبتي. الأعشاب
المجنونة تنمو، ونتن القاذورات ينتشر، والخفافيش التافهة تزرع الرعب، وإلى
جانب ذلك تماماً، تتحرك أقدام الحقيقة بخوف، يقودها ظل واحد، ومصير واحد،
وشقاء واحد، ولكنها لا تسير باتجاه واحد.
تلك مفارقة عجيبة. لا أحد يريد أن يسمع أو يرى ليكون
شاهداً، وإذا سمع أو رأى، فإنه يتقوقع متفادياً الطريق الوعرة، فيلتجئ إلى
شواطئ ذاته المهجورة بخطوات ثقيلة، ليتكور في إحدى زواياها تحت عبء خوفه،
وصمته.
هكذا... وأنا أتبارك بجسد حبيبتي، أثناء طوافي حوله،
صدمني ما رأيت من تفاوت شاسع بين حياة الصامتين ووجودهم... وعهر الآخرين
ببعديه الزماني والمكاني...
على الجدران، وعبر الهواء، وعلى تقاطع الوجوه... من
مشاهد السيارات العجيبة، المنمرة أو غير المنمرة... ومن وقع الأحاديث،
والتساؤلات المتكررة بأصوات خافتة، وفي النظرات المذعورة التي تزيد التباس
الواقع التباساً وغموضاً.... بدا كل شيء يتضح لي، وينشر أمامي ضوءاً ينير
ما حولي، ويزيل غشاوة الضباب الذي لا هو موجود، ولا يجدي عدم الاعتراف
بوجوده.
حبيبتي في غاية الحزن والإرهاق، ولكنها مع ذلك
صاحية، واثقة، واعية، وتبتسم، كأنها الفجر الذي لا يصله الظلام أبداً.
أصوات ترتفع.. تتداخل، ترتفع، ثم تختنق لدرجة
النواح.
قالوا: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.
تساءلت حبيبتي في حزن: أين هي المعركة؟
وأعود لأرزح تحت عبء أفكاري.. يسرد وجوع، كذب
وتضليل، جهل وسذاجة، وتلك النظرات المسكونة بالخوف، والرؤوس المسورة
بالصمت... وحبيبتي شاهدة. فماذا أقول؟
وببطء وإصرار رددت ما قالته حبيبتي... تساءلت
مثلها.. وها أنذا أعيد ذلك الآن بصوت مرتفع.. أين هي المعركة؟.. هكذا أنا
مع حبيبتي، لأن حبيبتي مع الحقيقة.
-أيها القذرون لو أنكم تعرفون معنى الحب؟
-اللبلاب قاتل..
-الوطاويط وحوش.
-لا للمتسلقين، والمتحولين، وذوي الوجوه العدسية.
-الأزمة، أزمة إنسان، وأزمة الإنسان الديمقراطية.
-الديمقراطية أولاً..
-أخب في السير، أقتلع الأشواك، أزيح الأحجار
الصوانية، أنتزع الأشنيات والطحالب، واللبلاب الذي يعيق حركة حبيبتي،
فتستقبلني بصيحات الحب والفرح. نعيش معاً، اللحظات والأمل الذي من أجله عدت
إليها، ومن أجله عاد البريق إلى عينيها.
***
في الطرقات المنسية الضيقة، أقدام الأطفال آلمها
الطين، وهي تتخطى عارية حفر الماء. في الشوارع الرئيسة، أبناء أولئك
القذرين، وقد التهمت التخمة عقولهم، ورقدت الضحالة، والكراهية في نفوسهم،
فتكبروا، وتجبروا، وهم يمارسون الأنانية طمعاً بلا حدود.
حبيبتي، مثلك أنا، ما عدت أثق بعلماء البيئة، ولا
بحكمة التاريخ ورجاله، ولا بأبطال الزمن الحاضر.
من يستطيع في هذا الزمن أن يثق إلا بك؟.
قالت: الليل يتقدم، والفجر يتقدم.. وصراخ الإنسانية
يحيط بنا.. أريد أن أكون المنارة والأمل.. أعدائي هم أصحاب الأقنعة
الكاذبة... وأولئك الذين ماتت نفوسهم صمتاً وخوفاً.
***
أحس قربك بابتسامات الوجوه الشاحبة الباردة تندفع مع
الفجر في الشفق، المنتظر.
ضميني الآن إلى صدرك بعد أن تعبت روحي من الأحلام،
والركض وراء السراب الخادع، معك فقط، أحس أنني إنسان، وقربك فقط، قد وجدت
نفسي.
***
جئتك أريد أن أصلي معك، ولك.. لأنسج من همومك خلايا
وجودي، لألبس من عذاباتك درعاً يعلمني ما لا أعلمه عنك، لأشرب تاريخك خمرة
المطلق، وأرد إلى عينيك بريق الحياة.
رحلتي إليك مغامرة الوجود والحياة المتدرجة بين
التاريخ والتقاليد والأمل... وكوني إلى جانبك، كان بالنسبة لي دائماً أمنية
الأماني، التي طالما ظهرت لي في الأحلام، وطالما انتظرت أن يصير الحلم
حقيقة.
بكل رفق، نظرت إلى عينيك، وكما توقعت بدأت تتلاشى
همومي، ويزول تعبي.. نظراتك كانت أغنية حزينة وجريئة، مخيفة وعطوفة..
كانت بالنسبة إلي الشاطئ الأمين الذي يطربني أن أصغي
إلى ترديد أمواجه. أما أنا فلم أكن بالنسبة إليك سوى فارس تقدم إليك
ليستوعب كلماتك عن القهر، والغدر. وأنين الذين نبذتهم الأيام وفصلتهم عن
أبعاد الحياة.
قالت: تعال فأنا أدعوك لتسمع الحقيقة أيها العاشق.
تلك اللحظة لم أعد أشعر بالغربة... هذه الروح التي
تدعوني، كانت حبي.. وتذكرت حينئذ يأتي في حركة المد والجزر عرفت نفسي.
والآن في دعوتك، عدت طفلاً بلا آثام، وأنت تحدثينني عن أولئك الذين أغفل
الظلم وجودهم، ونسي الزمان أن يحدد مكانهم، على الرغم من أنينهم، هو وجيب
قلب الحقيقة.
***
عطر اللحظة التالية يحتلني، يذكرني بأنني أعيش من
أجل أن ينتشر عطرك. ديدان المستنقعات تقرض لحم بعضها، وعندما حملت فأسي
لأردم بيوضها، وأقطع رؤوس الثعابين التي تمرح حولها، داهمتني صورتك في
منتصف الطريق غاضبة. تأملتك جيداً، وكانت لهجتك واضحة، ودخلت في ملكوت
حكمتك وأنت تقولين:
-لعلك حقاً تريد الحقيقة.. لندع الديدان تأكل بعضها،
والنتن يقضي على العفن، عندئذ، لا نعود نسمع للبوم نعيقاً، ولا للضفادع
نقيقاً، ولن تجد الخفافيش لها مأوى، ولا اللبلاب ما يمتصه.
فقلت لك مؤمناً، إذا كان لا بد من الحياة، فبدونك
الموت أروع.
***
لماذا لم أعد أرى ابتسامتك؟!
أي شيء يمكن أن يخلد البريق في عينيك؟..
أجيبيني، وأنا أسكب نفسي، ربيعاً، خريفاً، صيفاً،
شتاء أيتها الرائعة الخلود في ذاتي، الحسناء المبللة بالكبرياء التي تتأجج
نار أنينها في قلبي... لتكن قصة حبنا دم يغلي في عروق كل المحبين..
قلبي تحول إلى كناري، وعيني صارتا نبع حنان يصبان في
ساقية الرغبة المجنونة المعرفة، والقيام بما يسعدك.. وأنت تلومين بصمت،
تنظرين إلى الطين عاتبة، وتتلفتين متسائلة، إلى متى تظل البهائم المحشوة
بالقش، بعيونها الزجاجية الميتة، تصبغ الوجود حزناً دائماً؟.
أنا مثلك أعرف أن هناك طواويس من قش، ورؤوسها من
الأشواك المصبوغة بألوان العهر، والفجور والتخمة، وأعرف أن هذه الطواويس
معدومة الذكاء، وأنها تبتاعه من حين إلى حين من سوق النخاسة، كأي تاجر رقيق
محتكر نذل... أما أولئك الأدعياء الذين استطاعوا أن يزيلوا أميتهم، ويرددون
الآن بعض الجمل والأفكار كالببغاوات، في الأماكن العامة والخاصة، يجلدون
الناس بجهلهم، ولكنهم يجهلون بالطبع، أن الشعارات التي يطلقونها، والخطب
التي يلقونها، هي مجرد لا شيء بالنسبة إلى المعرفة والفكر... ويجهلون أكثر
أن الصور التي تتصدر جدران الغرفة هي صور (ابن سينا) وابن حيان...
وغوركي... و...
***
في قاع الليل البارد، أحتفظ بوجهك المضيء أبداً،
وابتسامتك التي تشبه ابتسامة ما لرسام عظيم. ومع لسعات البرد، أفكر فيك،
أغازل أفكاري، أصيغها جملاً، ثم أعيد صياغتها شعراً، أتجول بين أحراش من
الكلمات المغتصبة، والشعارات المصبوغة. أبحث عن الحقيقة المحترقة بين أكداس
الكذب الفظيع.
هادئة تراقبين، تشاهدين، وتشهدين. الأنين يختنق
بصدرك، أهو الخوف؟ أم الحب الكبير؟.. لا، لا شيء لديك سوى الحب. في صمتك
الكبير، قوة أكثر غضباً من كل أعاصير الطبيعة، وأشد احتراماً من بركان
ثائر.. وأروع شفافية من عيني طفل صغير.
تداهمني خلجات شعورك، تتلاقى خواطرنا، أفكارنا، يتحد
فينا الزمان والمكان، الفصول، الوقت... المطر والشمس... وعندما أشعر
بالوحدة، التجئ إليك.. تأخذين بيدي، فأدخل شرايين وجودك، لأصبح جذراً من
جذوره، وتصبحين كل وجودي، ونبض آلامي التي استقرت ذرات حمراء على جسدك، أو
تطاير زغباً ناعماً في فضائك.
يوم عدت إليك، كنت أعرف أنني سأبحر في محيط عاصف.
قالوا: يا له من بحار تعس ذلك الذي يبحر بلا مجاذيف ولا أشرعة. ولكنهم لم
يدركوا أبداً، معنى الإبحار إليك، بالأمل والحب الذي لا يحد.
أعتقد أنك رأيت الشوق إليك عبادة في عيني... فتسللت
بعض الدموع لتصير قطرات ندى تساقط على جبهتي، وأنت تقولين:
-روحي تنز صديداً على أولئك الذين لا يعرفون من
الوجود سوى العذاب، ولا يجرؤون إلا على الصمت... وترعبهم غالباً، تلك
اللحظات التي تتهاوى فيها كآبتهم، وهم يبحثون عن لحظة دفء.
وحين قلت: أن ما أعرفه، وأريده، هو الرغبة في أن
أضيء ثغرك بابتسامة حقيقية، تتناوب لحظات حياتي كما تتناول الأوردة
والشرايين ماء الحياة في الجسد.. لعلك تشعرين ما أحس به من حقد إنساني..
وليس هذا كل شيء، ولن يكون لا شيء، لأن النصر الوحيد الذي قد أحققه، هو أن
أكون جديراً بحبك، وأن تكوني الحبيبة.
وقبل أن أودعك مع الغسق الوردي، همست في أذني بصوت
مثل شفافية العطر:
-الحقيقة صافية كالحب، قوية كالقدر، ولذلك برغم
الضباب والغربة.. عرفتك.
***
حبيبتي عرفتني..
أذكر أنني أتيت إليها في سواد ليل حالك، اعتقلت
الغيوم السوداء قمره، واحتجزت نجومه، بعد أن وضعت أمام كل نجمة غمامة
سميكة.. يا إله العطاء، ويا إله الحب. أستطيع الآن أن أتابع طريقي بلا خوف
أو قلق. حبيبتي تعرفني، وتحبني، كما أعرفها وأحبها... ينهض فيّ فارس الأمل
المصلوب، فتتحطم كل القيود، والمسافات والأبعاد.. وينقلب الغضب إلى عاصفة
فجأة، هذا الحب القديم أنعشني، وبعث في نفسي إحساساً حافلاً بالثقة،
والإصرار على متابعة الطريق..
معرفة حبيبتي لي، نشيد الأزمنة المنسية الخالدة،
الضائعة في زوايا الأجساد والعقول المتبلدة، الهشة، والملازمة للخوف،
ملازمة الدود للخل... ولكني أعرف ذلك النشيد جيداً رددناه معاً أيام
الطفولة، وهو الذي حفظ علينا نعمة الحنين أيام الزمن الضائع.
قالت: هل أنت سعيد الآن؟
قلت: أنا السعادة المطلقة.
قالت: وأنا أيضاً، لأنني أحب الإنسان الذي يحمل علم
الإنسانية ليرفرف عالياً، حباً وعطاءً، وأملاً.
***
أتساءل الآن بلغة العارف.. هذا الإعصار الزاحف
شؤماً، هل نحن الذين أردناه لأنفسنا؟.
وتقولين: لكي يصل الإنسان إلى الحقيقة، يجب أن يكون
صادقاً مع نفسه أولاً، وإذا أراد أن يشعر بالدفء، عليه أن يكسر صقيع الثلوج
بينه وبين الآخرين.
كنت أتأمل وجهك الذي أعشق، فلا أرى في عينيك إلا
الحب، ولا في كلماتك إلا العطاء، وفي تاريخك كل الأمل. وأنا أستمع إليك،
كان صوتك يحتلني كشوق حدوده بلا أبعاد، وأعماقه النفس ذاتها، ولهجته حنين
النبوات المنتظر. أتأملك، أتأملك، وأنت تصارعين لؤم الأوغاد بإرادة لا
تتعب، في زمن لم نعد نملك فيه القدرة على الكلام. كانت كلماتك مقدسة، بل هي
القداسة ذاتها، مع كثرة مدعي الطهارة، والمتشبهين زورا بالقديسين.
في صمتك، أعرف أنك تمتطين الأمل، وتبحثين عن الوجوه
الضائعة، وأنت تستشرفين الزمن الآتي، في الوقت الذي شحت فيه أذهان
الأدعياء، محاولين أن يجعلوا من الحق باطلاً، ومن الباطل حقاً، وأن يحولوا
كلمة الحق إلى لعنة.
-من نلوم يا حبيبتي؟
ابتسامة هادئة بقيت وحدها تضيء شفتيها، وتقاوم أشباح
الظلام، وكل الوحوش المفترسة.
وفي لهجة واثقة جداً، قلت وأنا أستمع إليك: لقد
تكاثرت حولنا الأعشاب المتسلقة، والأكثر تعاسة هو أن المجترات، وجدت مكاناً
مرموقاً لها!
قالت وهي تبتسم: هذا لا شيء، لأن الحب لا يعرف
الخوف.. هيا يا حبيبي.. كل الأعشاب والأشواك والمتسلقات ليست إلا وجوداً
خائباً، ولا يعكس أبداً صورة الحقيقة، وينأى الخوف، حين تقترب أكثر فأكثر
مني.
***
الغسق زهرة برية تتفتح، وأنا ما أزال أسترجع كلمات
حبيبتي بعين العاطفة والحقيقة، قالت:
-سوداء الأسماء، وأكثر سواداً ممارساتها وتصرفاتها،
وحالكة وقائع أيامها.. ومع ذلك، بالنسبة إلينا، يبقى الحب علامة.
الأسماء الكبيرة تظلل بسوادها الأسماء الصغيرة، وهذه
بدورها تحمل الكبيرة، وكل منهم يحمي ويدافع عن وجود الآخر، ليدافع عن وجوده
في الوقت ذاته.
دعوة حبيبتي للعمل ضد الأسماء، كانت من النمط
المطلق، ومنها كانت كلماتها عن الأعشاب والمتسلقات، بأنها وجود خائب، ورماد
تغمره المياه.
***
فهمت، وأنا أشعر بالخجل، ما كان قد استعصى علي فهمه.
المسؤولية في الخطأ حينما ينأى الحب، هي ذلك الخوف الذي يجرف كل شيء إلى
وهاد الصمت، يتحملها العاشق الذي ينزوي في زاوية أحد تلك الوهاد، ويترك
حبيبته وحيدة، حيث الأيادي السوداء تمنع عنها الماء، والهواء، وكل مقومات
الحياة، وتزرع في جنباتها ظلال الموت، بينما، هي، تتلفت في حسرة بحثاً عن
العاشق الإنسان؟.
أحبك يا حبيبتي.. وجهك الشاحب نبضات قلبي المتعبة.
وأنا معك، أشعر أن ظلي يتسامى منتصباً بين الظلال المنحنية، وأن وقع خطواتي
قوي وثابت، بين آلاف الأقدام التي أرهقتها المتاعب اليومية.
أشعر أنك محور وجودي. وأنني كل ذلك الوجود. من
معاناتك بدأ الأمل يزهر في عيوني.. ما بيننا أبعد من مدى النظر، وأعمق مما
هو كذلك.
الخوف، أكثر استسلاماً من الموت... الآن عرفت ذلك،
ومنك فقط.. والآن أيضاً، أقول بصوت مرتفع: سأتحداهم باسمك.. وسيبقى لك وحدك
خلود الوجود، ممهوراً بالحب وأوراق الغار.
***
يستقبلني حضورك الخالد في ذاكرتي، تراتيل عشق توشح
أيامي بالفرح الآتي. تتناثر الغيوم السوداء المتلاشية، فأرى وجهك بعين
العاشق المبهور بفجر ميلاد جديد رائع، أنا العائد إلى عرسك، أحمل بين ضلوعي
فصول الأزمنة يغريني الحنين إلى ابتسامتك المعطرة بالحب المتفرد في ملكوت
الوجود، حيث أرى ذاتي.
أيتها الحبيبة، عودتي إليك، كانت بمثابة اتحاد الجسد
بالمطلق، ودخول الإنسان في أوج الرؤيا المقدسة... استقبالك لي، كان أشهى ما
حلمت به روحي في سورة عشقك، فلا أ ملك إلا الاهتداء بمنارتك التي لا تنطفئ.
وأنت تبوحين بسر مكنون لديك. همست لي:
-عدالة الشعب قدر محتم، لا يفلت منها مذنب.
هكذا صمد جسدك الخالد أمام العيون الذئبية، وأقدام
الذين أرادوا استلابك طهارتك، وحاولوا شنقك بضفائرك الرائعة.. لتبقي الأصلب
في وجودنا، ولنبعث أحياء متجددين فيك.
وتقولين: "المثابرة تصنع من قضيب الحديد إبرة".
وأنا أحاول أن أمتلك وجودي من خلال وجودك، وأسعى
لتجدي في هذا الوجود بعض وجودك.. قلت لك: ماذا عن الواقع المنفي بين القمع
والخوف، والرياء؟
قلت لي: ما رأيك بعدالة الشعب؟
-وهؤلاء الذين تبحر في بطونهم بواخر أعالي المحيطات،
وتقام فيها مزارع، وتبنى قصور، وطرقات لكل أنواع السيارات؟
يومها ابتسمت لي بهدوء قائلة: الثمرة التي تتعفن لا
بد أن تسقط.
-من تلقاء نفسها؟
-تعصف بها رياح العدالة... عدالة الشعب التي لا يفلت
منها مذنب.
***
يحتلني وجهك مبتسماً، تذوب الوحدة حنيناً فيك..
تتلاشى الغربة عند قدميك، تتلقفها الثلوج، تحولها إلى ذرات ماء، تقدمها
للغيوم هدية عطاء للربيع القادم.
أرسمك عشقاً لا متناه، وأعلن أن غربتي باطلة،
وابتعادي عنك ضلال، والخوف الذي سكنني كان زمناً أسود، وكان احتضار لذاتي.
حبك المقيم في قلبي، الموغل في وجودي.. بعد خريف الغربة والضياع والخوف،
استيقظ وجوداً رائعاً، وظلاله وحدها أعادتني إليك. فأنا اليوم في صدري يوغل
قلبك، وشراييني تتغذى من كلماتك.. وشفاهي تخرج كل الحروف منها أغنيات عنك،
عن ظمئك، وحبك، والعدالة التي لا يفلت منها مذنب أساء إليك في وطن الضوء،
والخيرات، والماء، والشمس... وطن ينقصه فقط، الإصغاء، ومن ثم التصميم على
الخطوة التي بدأبها غير مسيرة مليون ميل.
***
أتذكر.. أيام الغربة كانت لي درساً، ورسالة.
حبيبتي، الحب ميراث مقدس.. وحبك حمل إلي شعلة
الحقيقة الأبدية.. وأنا الآن بين يديك مستعد للتضحية، لأصنع من قضيب الحديد
إبره، لنخيط بها معاً ثياباً لأطفال الحب الذين سيولدون.. فأنت ميلادي،
وأنا من ضلوعك واحد، خلافاً لما يقال.
***
سبحانك يا حبيبتي.. حبك أعاد إلي وجودي، وأعاد إلي
شهادة ميلادي المنسية: إنسان...
اللاذقية 1-1992
اعتذار
لو افترضنا أنني قلت الحقيقة فإن الأمر يحتاج إلى
أعصاب لسماعها، أكثر مما يحتاج ذلك إلى قولها. ولكن، على أية حال. أنتم لن
تصدقوا، هل تصدقون أنكم لن تصدقوا؟
ما زال لدي متسع من الوقت للتفكير، ولن أفاجئ أحداً،
فقد أعدل عن ذلك آخر لحظة. إنه مجرد تساؤل. فأنا أعتقد ما دام الأمر ما
يزال بين أخذ ورد بيني وبين ذاتي. ما دام كذلك فبإمكاني أن أتركه، أو أغض
النظر عنه جزئياً، أو كلياً. ولا أحتاج إلى إيجاد مسوغات من الواقع- وهي
كثيرة- أقنع بها نفسي. نفسي، أنا فقط، أن لا مجال لما أفكر به الآن. حتى لو
كان ذلك مناقضاً للمنطق. وهكذا أجد أعذاراً كافية لتجنب الحقيقة بشكل كامل.
وادعاء أن ما قلته، أو أقوله لكم، إنما هو الحقيقة بعينها.
نظرت إلى الأوراق والكتب المكدسة فوق المنضدة. كوب
القهوة إلى جانبي، في متناول يدي. عشرات العناوين الضخمة- الطنانة- تفوح
منها تعابير الحب والبغض... الحرب والاقتصاد، النقد والشعر... والأساطير
والرسوم... بعضها مسل، وبعضها الآخر متعب. وربما يؤدي وجود بعضها إلى "سين
وجيم" وتصرفات،... و... وأكثر من ذلك بكثير.
أعرف الآن كم كنت متردداً. لأنني في الحقيقة يجب أن
أكون كذلك. وها أنذا أحس بالألم. "لأن الحقيقة باعتقادي هي ابنة شرعية
للألم." ولكن، من يستطيع أن يتبناها ما دامت شرعية. يعترف بها أمثالنا. وفي
أن يتخلى المرء عما يعد شرعياً بالنسبة. هذه الحال، حتى لو أردنا ذلك فمن
الصعب والجانب المعاكس للمعادلة مستحيل.
أحس أنني مسجون، وهذا أسوأ أنواع الألم." تتعب
الأمواج، ولا تتعب ذاكرة في بوتقة حسابات لها أول، وليس لها من آخر.
لا أريد أن أؤطر ما أقوله في علبة محددة الطول
والعرض والارتفاع. ولا أرغب بتسمية اللون رغم إمكانية ذلك. بل... لنتحدث
هكذا، بلا مقدمات، أو تحديد. ومن غير التعرض إلى نوعية الإحساسات التي شعرت
بها. هكذا أنا دائماً... في مثل هذه الحالات تجدني أحاول أن اترك بعض
كلماتي بلا حروف... وجملي بلا نهايات.
قال: سأتحدث إليك.
ضحكت...
صمت منقبضاً..
ابتسمت...
قال:
-لماذا أنت هكذا؟!
-....
-هل تستمع إلى نهاية حديثي... استمع، دعني أتكلم..
-إني مصغ تماماً.
-وفي النتيجة لك الحق في أن تصدق، أو لا تصدق.
أراد أن يؤكد قوله مرة ثانية. إلا أن صمتي، والجدية
التي أخذت مكانها في تقاطيع وجهي. جعلته يمتنع عن ذلك، فهو يعرف جيداً أنني
لا أفعل هذا...
أنا الآن أستطيع أن أتصوره، كيف كان يتكلم- كله-
دفعة واحدة، عيناه ولسانه، نظراته وحركات يديه. إذ قال:
-"كان ضوء الشمس رمادياً... وصارت الأمواج تستقر على
الشاطئ الواحدة إلى جانب الأخرى: كجدائل شفافة. أقرب إلى خطوط حراثة أرض
رملية في ليلة مقمرة.
"أمواج البحر." تمتم: "كانت أمواج البحر، مشدوداً
بعضها إلى بعض، حين خطر لي أن أستحم ذلك اليوم الأغبش المغبر. إنني متأكد
مما رأيت. بل مما حصل لي. لقد اشرأبت الأمواج- فجأة- واقفة كعمد بازلتية
بعضها عمودي، والآخر أفقي.. لقد صارت سداً يستحيل بوجوده وصولي إلى
الشاطئ... ثم كانت شائكة، ومدببة.. وحادة أيضاً.
وقفت في مواجهة الشاطئ. عيناي تلوبان... سمعت
أصواتاً غريبة. على الرغم من عدم وجود أية حركة حتى تلك اللحظة.
فجأة.. اصطدمت عيناي بشيء يتحرك. كانت ثمة حيتان
تزحف بهدوء غريب. اقتربت.. اتضحت أشكالها، وطبيعة حركتها. لقد كانت
تتلاقح.. إنني متأكد من أنها تفعل. وبعضها يلد بعد اللقاح مباشرة. مباشرة.
حيوانات صغيرة هي من فصيلتها شكلاً. إلا أن لها آذاناً طويلة. ولكل منها
ذيل لوبي يشبه المثقب. انتشرت رائحة العفن، وملأت الجو في تلك اللحظة. كانت
كشيء يشبه المخدر. مخدشة مثلما تكون رائحة الأحماض.
في تلك اللحظة تساءلت: "فيما إذا كانت التماسيح تلد
صغاراً، أم تبيض بيضاً..؟" وانتهيت إلى أن تساؤلي لا مسوغ له. ما دامت
النتيجة النهائية، تعني وجود تماسيح جديدة.
كان يدخن.. وكنت أتلهى بتحريك سبابة يدي اليسرى ما
بين حاجبي، وأرنبة أنفي. دعك عقب اللفافة في صحن السجائر، وتابع قائلاً:
-"كنت أنظر- وأنا متشبث بمكاني كالغريق- عيوناً بحجم
رأس الرجل، ولون الزنجار المائل إلى الزرقة المخضرة.. انتشرت في كل مكان.
وتحركت التماسيح تلتهم كل شيء. الرمل، والحصى والحجارة... الأزهار
والحشائش، بما في ذلك قطع الحديد. كانت أجسام تلك الحيتان تنمو بسرعة
ملحوظة... كما أن رؤوسها كانت تضمر بشكل ملحوظ أيضاً. أخرجت لفافة من
جيبي... اللفافة كانت مشتعلة. أو على الأقل لا أذكر أنني استعملت الثقاب من
أجل ذلك. استوقفني الأمر لحظة. ولما كنت بحاجة ماسة إلى التدخين. تناسيت
الحادث، واستسلمت لمتعة التدخين بهدوء... شرقت بالدخان.. سعلت... سعلت، حتى
جحظت عيناي. حين وصلت إلى (الفلتر)، انزلق إلى فمي طعم لزج، له رائحة
كريهة. حاولت أن أبصق... بدأت أتقيأ. لم يكن في أمعائي ما أخرجه- وأنت تفهم
السبب- فتدلت أمعائي من فمي إلى جانب لساني. وكانت عيناي تسبحان دخاناً
رمادياً قاتماً. له رائحة دخان العظام المحترقة.
صمت قليلاً... وتابع: "راقبتني التماسيح وهي تضحك.
أحسست بالتوتر الذي ينتاب المرء لدى رؤيته المشاهد المقرفة والمخيفة. وفي
حالتي الكره، والحقد الشديدين. بصقت في عيونهم، رغم أنني أعرف مدى خطورة
ذلك.
بلا مقدمات.. تلبدت السماء بالغيوم. والذي استرعى
انتباهي أكثر، أنها كانت منخفضة جداً لدرجة أن التماسيح بدأت تتلقفها
بفمها. تلوكها.. وتحرك رأسها باتجاهات مختلفة، ثم تفرغها ماء من فمها، وهي
تضحك... وتضحك، بانفعالات هستيرية. كمية الماء حول التماسيح تزداد،
ومساحتها تتسع.. وتتسع. وأنا أحدق بعيني، وأعصابي. لقد شاهدت، وعرفت كيف
يتشكل المستنقع. ورأيت لأول مرة كيف يتم اصطياد الغيوم.. وكيف تتكاثر
التماسيح وتنمو. كنت أراقب ذلك. فتساءلت: "ترى.. هل المستنقع يجلب
التماسيح، أم أن التماسيح هي من يصنع المستنقعات؟!- ضحكت من تفاهة هذه
الفكرة. في الوقت الذي بدأ فيه نقيق الضفادع يسمع رتيباً مملاً. وتبعه نعيق
الغربان مزعجاً. وأخذت الطفيليات تتسلق كل مكان، وتمتد في كل اتجاه. كنت
أرقب ذلك، ورأسي يضج بمئات الأجوبة عن تساؤلي.
كانت اللحظات التالية لزجة، رجراجة، وراكدة، بدت
وكأن الزمن رقد في غفوة طويلة. أو أن أيد حاقدة اغتالت الشمس. فحمل الصمت
إلى نفسي شيئاً من السكون العاري، والجاف.
سألته بلهجة هادئة:
-هل أنت خائف؟
أجاب وهو شارد الذهن:
-كثيراً...
***
أما وجهه، فقد ارتسم عليه مزيج من الرعب والخوف. من
الحق، والأمل والثقة، حاول أن تتصور وجهاً جمع كل هذه المتناقضات في صمت.
"صمت تعبيري، لأفكار سريالية."
قال:
-ألا تصدق ذلك؟
قلت:
-لا شك أنك في أزمة.
قال بغضب:
-أنا؟!...
-.......
نهض... نظر إلى الشارع. بصق. وأشعلت أنا لفافة.
تابع حين رأى نظرتي تحمل انعكاس منظره. وقال:
-"فكر قليلاً... حجم المستنقع اليوم.. وبأبعاده
الآن؟"
صمت... ثم تابع: "أنا لا أتكلم، فقط عن المستنقع
والتماسيح.. فالطحالب والبعوض. وما إلى ذلك من الطفيليات. بل عن البقعة
التي بدأت تتسع، ويتوزع ما فيها إلى كل مكان. يتكاثر.. وينمو، ثم ينتشر...
وينتشر. وسيأتي اليوم الذي يحتل فيه كل شيء... وغيره لا شيء يذكر. وأضاف..
"في مخيلتي كانت مجموعة من الصور.. كنت أخشى ذلك. وها إني أراها الآن. هذا
ليس غريباً.. ولكن؟!.."
قاطعته بهدوء قائلاً:
-إني ألاحظ ذلك... وأعيه تماماً.
قال:
-والغريب أن تلك التماسيح إنما هي صور مألوفة لدي.
ومعروفة شكلاً. أذكرها جيداً.. وباستطاعتي أن أحدد أماكن تواجدها،
وانطلاقها.
ثم أخذ وجهه- فجأة- تعبيراً أقرب إلى الترقب.
وأضاف:
-والأغرب أن انتشارها في كل مكان، يرافقه اختفاء
شيء.. وعلامات استفهام حول أشياء؟.. بالإضافة إلى ما يدور في رؤوسها. وما
يعتمل في رؤوس بقية الناس. معظم الناس، وفي كل مكان. هنا. أنا وأنت
مثلاً... وهناك، كل أولئك الذين يتربص الاستغلال بهم.
قلت:
-"لا تناقض في آرائنا.. الكل أكثر من الجزء.. والكل
منقسم ومهدد.. التناقض في الكل كتفكير، وكموقف. وليس من تناقض في الشكل
والمضمون، إلا من خلال ذلك...
ساد الصمت...
كان هو قد خرج قبلي بساعة.
أدور بأفكاري كفراشة الضوء، ثم أتجه دفعة واحدة نحو
كلماته. حيث تتوالد التماسيح جماعات، جماعات بين الرطوبة والعفن. وفي كل
مساء تخرج.. تهتدي بالخفافيش التي تقودها إلى أقصر طريق نحو مراميها. وهناك
تمارس طقوسها الفاجرة كالريح الأصفر، من تصب تمته، أو يحملها عدوى إلى
سواه.
"لا يعرف العبودية، من لا يعرف القناعة والرضا
بالفقر."
كانت ثمة ثقة موشاة بالحزن في جملته الأخيرة. أما
وجهه، فقد كان مهموماً، محتقناً بشيء خفي. حين خرج، فعل ذلك بلا مقدمات،
حتى أنه أشعل لفافة قبل ذلك مباشرة. من ناحية أخرى، كان متعباً حتى
الإعياء. وكان تصرفي جامداً وبليداً. وينم على برودة، فوجئت حتى أنا بها؟
حين سألني:
-"لنفرض أن النار تمتد لتلتهم كل شيء، بما في
ذلك...
كانت أجفاني قد اختلست رقدة من التعب. وعندما سكت.
فتحت عيني.. نظر إلي بعتاب. وتابع قائلاً: "هل تبادر بحمل دلوك، وتعمل إلى
جانب الآخرين؟..
أجبت باللاشعور:
-لا...؟
قال باستغراب:
-لماذا؟!
قلت بلهجة بين الجد والهزل:
-لكي لا أفقد يدي، والدلو معاً.
لاحظ أنني غير جدي.. وكنت أبتسم. وفي الحالات
العادية. لست بحاجة في مثل هذه الأمور للتفكير أو الاختيار. إنما في تلك
اللحظة بالذات. لماذا فعلت ذلك؟... وأي اختيار اخترت؟!.. لست أدري.
فارق الرجل هدوءه. قطب... عقد حاجبيه. نهض ويداه
تحتضنان رأسه. ثم قال بصوت عاتب كالحب.. عميق كالصدى:
-أرجوك... لا تمزح في مثل هذه الأمور. اذكر، لحظة
بصقت هناك. أحسست بنظرات غريبة، ومرعبة تحمل التهديد. وبعد ثمة شيء ما
يتتبع حركاتي. ويتوعدني حتى الآن. قد لا تصدق. حدث مبهم، يتراءى لي. أتوقعه
بين لحظة وأخرى... بين ساعة وساعة. وبين يوم، ويوم. ومع ذلك، فإني خائف.
كانت عيناه حزينتين حتى البكاء. نظرت إليه بدهشة.
أطرقت هارباً من نظراته. وقلت بلهجة المعتذر:
-إنك على حق... فلو لم أصدقك، لقلت ذلك دون حرج.
وعندما رفعت رأسي انتبهت إلى أن أحداً سواي: لا يوجد
في الغرفة.
"لا بد من الاعتذار..."
فكرت قليلاً: "لا بأس. سأفعل ذلك مساء اليوم، أو
صباح غد بالأكثر."
يوم... يومان، ثلاثة. داخل نفسي كنت عارياً.
أسبوع أسبوعان. لم أجده، ولم أستطع إلى ذلك
سبيلاً."
في بداية الأسبوع الثالث كنت ألهث بحثاً عنه!
في مطلع الشهر الذي يلي "كانت ثمة مسيرة صامتة. تأكد
لي خلال ذلك، أن لقاءه صار مستحيلاً. انخرطت بالمسيرة، وكنت أردد: "إني
أعتذر... إني.... أعتذر... أعتذر."
|