أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتب: محمد سلام اليماني

       
       
       
       
       
 

مسرحيتان للأطفال

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

عربي سوري. من مواليد حمص 1945.

إجازة في اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق 1972

30 سنة من التعليم الابتدائي والثانوي ومعاهد إعداد المدرسين.

 

المراجعة والتدقيق اللغوي:

1. كتاب (علم الهارمونية) تأليف الدكتور محمد عزيز شاكر ـ دار الحصاد ـ دمشق 1993.

2. كتاب (علم الكونتربوانت) تأليف د. محمد عزيز شاكر ـ إصدار دار الحصاد/ دمشق 1997

3. كتاب (ستانسلافسكي وبريخت) ترجمة ضيف الله مراد ـ المعهد العالي للفنون المسرحية دمشق 1994.

4. كتاب (البروفة حبّي) ترجمة ضيف الله مراد ـ المعهد العالي للفنون المسرحية ـ دمشق 1998.

 

الكتب المطبوعة وقيد الطبع:

1.الباهية: قصة للأطفال ـ جائزة الشيخة فاطمة بنت هزاع 1998.

2.الوسام: مسرحية للأطفال ـ جائزة الشيخ زايد بن هزّاع 2002.

3.اللؤلؤة: قصص للأطفال، اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2003.

4.التمساح الطائر: مسرحيتان للفتيان.. وزارة الثقافة 2004.

5.قضية شهرزاد: مسرحية للكبار. وزارة الثقافة 2004.

6.السمكة الذهبية: 5 مسرحيات للأطفال، وزارة الثقافة 2004.

 

المسلسلات التلفزيونية المنتجة وقيد الانتاج:

1.الخيزران. للكبار. إخراج محمد بدرخان. التلفزيون السوري 2000.

2.حكاية طويلة عن ذيل طويل. كرتون للأطفال. موافقة التلفزيون السوري 2004.

3. المغامر. للأطفال والفتيان. التلفزيون السوري 2005.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

الأعداء

المصباح السحري

وطن الفقراء

الفراشات 

اللؤلؤة

جابر وجبير

الليمونات الثلاث

سمراء اليمن

 

الفَراشات

 

 

جاءت القابلةُ( ) العجوزُ تحملُ إلى الْمَلِكِ أوّلَ أولادِه، وهما توءمانِ متشابهانِ وُلِدا تلكَ الساعةَ بفارِقِ لحَظاتٍ معدودة. كان التوءمانِ في ثيابٍ متماثلة، والعجوزُ مرتبِكةً وخائفة، وأرادَت أن تغطّي مشكلتَها بالْمُزاح:

-احزِرْ يا مولايَ أيَّهما وُلِد قبلَ الآخرَ..

كانت العجوز قد شَهِدَتْ ولادتَهُ هو من بطنِ أمِّه، ويحترمُها كأنها جدّتهُ، فابتسمَ لِمُزاحِها

ثم قال:

-أراكِ مرتبِكةً وتَمزحينَ فما المشكلة؟

-أعطِني الأمانَ فأشرحُ المشكلة.

-هل أنا جبّارٌ بطّاشٌ فتطلبي الأمان؟! أخبريني بالمشكلةِ كي أحلَّها.

-لا أحدَ يحلُّها يا مولاي. لا أحدَ يعرِفُ أيُّ التوءمينِ ولِدَ قبلَ الآخَر، لا أنا عرفتُ ولا أمّهُ ولا الخادمات.

-عجباً، كيف يكونُ ذلك؟!

-المَخاضُ( ) كانَ شاقّاً ومُربِكاً وفوجئنا بالطفلِ الثاني دونَ أن نتوقّعَه، ولو توقّعْناهُ لأعدَدْنا ثياباً من لونٍ مختلفٍ تُميّزُه، وهكذا ألبسْناهُ ثوبَ أخيهِ كما ترى..

فكّرَ الملكُ الحكيمُ لحظةً ثم قالَ يُطَمْئنُ القابلة:

-لا ترتبكي ولا تقلقي، رُبَّ ضارَّةٍ نافعة.

-كيف لا أقلقُ يا مولاي؟! أكبرُ الإخوةِ هو الذي يرثُ العرشَ- بعدَ عُمرٍ طويلٍ- ونحنُ لا نعرفُه.

-لا داعي لأن نعرِفَه. لا نحنُ  ولا الحكماءُ الثلاثةُ الذين يساعدونني في إدارةِ المملكة.

-ما هدفُكَ من هذا كلِّه؟

-لقد حاولتُ أن أكونَ عادلاً طولَ عمْري وأريدُ لخليفتي أن يكونَ أعدَل. وعندَما يكبرُ التوءمان، سأختارُ الأفضلَ منهما لِيَخلُفَني في الْمُلك..

×××××××

بعدَ ستِّ سنواتٍ توفّيَ الملكُ وفاةً مفاجِئة، فاجتمعَ الحكماءُ الثلاثةُ لاختيارِ وريثِ العرشِ من الطفلين التوءمَين، على أن يبقى تحتَ وصايةِ الحكماءِ الثلاثةِ وإشرافِهم حتى يكبرَ ويصبح قادراً على الحُكم.

قالَ أحدُ الحكماء: أرى أن أحدَ التوءمينِ أطولُ قليلاً من الآخَر، وأقترحُ أن نُجريَ القُرعةَ عليهما بهذا الدينارِ الذهبيّ؛ الصورةُ للأطولِ والنقشُ للأقصر.

قالَ الحكيمُ الثاني: بل نسألُ أمَّهما أيُّهما تفضّل.

فقالَ الحكيمُ الثالثُ: كلاّ. نحن وحدَنا نقرّرُ شؤونَ المملكة؛ وعندي فكرةٌ أفضلُ لاختيارِ وليِّ العهد.

قالَ الحكيمانِ الآخَران: إن أعجبَتنا فكرتُكَ وافقْناكَ عليها ونفّذناها في الحال.

تهامسَ الحكماءُ الثلاثة، ثم أمروا فانطلقَ الطفلانِ يلعبانِ في حديقةِ القصرِ الملكيّ، وأخذوا يراقبونَهما من النافذة.

كان الطقسُ ربيعاً، والفَراشاتُ تتنقّلُ بينَ الشجَيراتِ والأزهار، وبدأ الطفلانِ يطاردانِ الفراشات.

قالَ الحكيمُ الثالث: الآنَ عرَفْتُ مَن أختارُ لولايةِ العهد، استدعوا الطفلين إلى هنا..

جاءت المربِّياتُ بالطفلين، وسألَ الحكيمُ الثالثُ الطفلَ الأقصرَ: ماذا كنتَ تفعلُ حينَ تتعبُ فراشةٌ وتحطُّ على شجرةٍ أو زهرة؟ قالَ الأمير: أتوقّفُ وأتفرّجُ عليها؛ أفكّرُ في شكلِها وألوانِها.

ثم سألَ الطفلَ الأطوَل السؤالَ نفسَهُ فأجاب: أُمسِكُها وأضغطُ عليها، كي أعرفَ هل هي هشّةٌ أم قاسية.

همسَ الحكيم ُ الثالث لزميلَيه: إن كانَ يفعلُ هذا بالفراشاتِ الآن، فماذا سيفعلُ بالناسِ في المستقبل؟

وعلى الفَورِ أعلنَ الحكماءُ الأميرَ الرحيمَ وريثاً للعرش.

 

 

وطنُ الفقراء

 

 

كانَ في قديمِ الزمانِ طفلٌ في السابعةِ من العُمْرِ يتيمُ الأبوينِ اسمُهُ (أسعد)، يعيشُ معَ جدِّهِ في قريةٍ كبيرةٍ خصبة، أقطعَها( ) الملكُ لخازِنِ أموالِه.

جاءَ مرّةً إلى جدِّهِ يقول: اليومَ تشاجرتُ مع ابنِ الخازنِ في ساحةِ القرية.

قالَ جدُّه: لا يا أسعدُ، لا تتشاجرْ مع أحد.

قالَ أسعد: ابنُ الخازنِ قالَ لي ولكلّ أولادِ الفلاحين: هذه القريةُ وطنهُ هو لأنّ أباهُ يملِكُها، وليست وطنَنا.

قال الجدُّ بألمٍ عميق: هذا صحيح. أمّا نحنُ الفقراءَ فلنا وطنٌ آخَر.

سألَ أسعد: أينَ يا جَدّي، أينَ وطنُنا؟

قال جدّه: ستعرفُهُ في الوقتِ المناسب.

بعدَ مدّةٍ حصدَ الفلاحونَ القمحَ وجمعوا المحصولَ على البيادر، فقالَ أسعدُ لجدِّه:

-هذا البيدرُ كلّه لنا، ما أكبرَه وما أجملَه!!

أجابَهُ الجدّ:

-هذا وطنُنا، صنعناهُ بكدِّنا وعرقِنا بالليلِ والنهار.

قالَ أسعدُ مستغرباً:

-هذا محصولٌ وليس وطناً.

فأجابَ جدُّه:

-هذا وطنُنا لأنّ فيهِ كلَّ أسبابِ حياتِنا: إن أكلْنا بعضَهُ وبِعْنا بعضَه، نحصلْ على الغذاءِ والكساءِ والدواءِ والسعادة.

وصمتَ لحظةً ليتأكّدَ مِن أن حفيدَهُ يفهمُ ما يقولُ، ثم تابَع:

-وإن خبّأْنا من هذا البيدرِ ما يزيدُ عن حاجاتِنا، نضمَنْ،ْ حياتَنا في سنواتِ الجفافِ وأمراضِ النباتِ وفسادِ المواسم.

قال أسعدُ بحماسة: هيّا ننقله ونخزِنُه.

فأجابَ الجدُّ بابتسامةٍ لم يفهمْ أسعدُ مغزاها: اصبِرْ يومينِ أو ثلاثةً وبعدَها ننقلُ ما تشاء.

بعدَ أيامٍ ثلاثة، جاءَ الخازنُ يرافقُهُ جنودٌ مسلَّحون. وقفوا عندَ بيدرِ الجدِّ وأسعد. أخذوا ثلُثَ المحصولِ حِصّةً للملك، ثم أخذوا الثُلثَ الثاني حِصّةً للخازن، ثم أخذوا ثُلُثَ الثُلُثِ الباقي ضريبةً عن بيتِ أسعد، الذي صنعَ الآباءُ والأجدادُ لبِنَهُ من طين القريةِ وبنوهُ بالسواعدِ الكادحة.

أشارَ الجدُّ إلى بيدرِهِ الذهبيِّ المسلوبِ وقالَ لحفيدهِ: هل عرفتَ الآنَ أين وطنُك؟

 

 

 

المِصباح السحري

 

 

هجمَ لصوصٌ متوحّشونَ على بلادِ النخيلِ الأسمرِ جيوشاً جيوشاً، فدمّروا البيوتَ وأحرقوها وقطّعوا الأشجارَ واستعبدوا الناس.

ذهبَ الناسُ إلى زعماءِ البلادِ يطالبونَهم بتوحيدِ الجهودِ للخلاصِ من هذا البلاء.

قالَ الزعماء: نحنُ جميعا أضعفُ من الأعداء، وبدلَ أن تفكّروا في محاربتِهم والتعرّضِ لمزيدٍ من الخسائرِ والمصائب، أطيعوهم فتسلموا وتعيشوا.

عادَ الناسُ من عندِ الزعماء خائبين، وبدؤوا يفكّرونَ في مصيبتِهم من جديد. فجأة برزَ منهم رجلٌ يقول: أنا وجدْتُ الحلّ. تطلّعَ الناسُ إليهِ ملهوفينَ وغيرَ مصدِّقين. وتابعَ الرجل: إنهُ علاءُ الدين، هو عالِمٌ عظيم منّا وفينا. وأضافَ كمن يذيعُ سرّاً: وعندَهُ مصباحٌ سحريٌّ يخدمُهُ ماردٌ جبّار.. فانطلقَ الناسُ فوراً يتهاتفون( ): إلى علاءِ الدين. إلى علاءِ الدين.

كانَ علاءُ الدين أشهرَ الناسِ في بلادِ النخيلِ الأسمر؛ مفكّرٌ قديرٌ وطبيبٌ بارعٌ وكيميائيٌّ مجرِّب. وحينَ رأى الناسَ قادِمينَ خرجَ إليهم واستقبلَهم  بترحيبٍ واحترام. لكنّهُ عندما عرفَ قصدَهم خيّبَ آمالَهم المتحمّسة. قالَ إنه لا يملكُ أيَّ شيءٍ سحريّ، لا المصباحَ الأسطوريَّ ولا بساطَ الريحِ ولا خاتمَ سليمان، وأنّ مصباحَهُ الغريبَ الشكلِ هو مصباحٌ كحولِيٌّ يستخدمُهُ في تجاربِ الكيمياءِ وصُنعِ الدواء. وفجأةً أدهشَهم بالعبارةِ التالية:

-لكنّكم تقدِرونَ على محاربةِ الأعداءِ دونَ مساعدةٍ من أحدٍ ودونَ قوّةٍ سحرية.

قال زعيمُ جماعةٍ من أولئكَ الرجال:

-نحن عُلَماءُ يا علاءَ الدينِ، لا نقدِرُ أن نحارب.

سألَ علاءُ جماعةً ثانية:

-وأنتم أيّها السادة؟

أجابَ أحدُهم:

-نحنُ صُنّاعُ هذه البلاد، نصنعُ كلّ لوازمِ المعيشةِ والعمل: الملابسَ والمعاولَ والمحاريثَ والأسلحة، وبعضُنا خدمَ في الجيشِ وحاربَ أيضاً. لكنْ إذا انشغلْنا بالحربِ فمَن يصنعُ الأسلحة؟

نظرَ علاءُ الدينِ إلى جماعةٍ من الشبابِ ذوي وجوهٍ مُسمَرّةٍ وعضلاتٍ مفتولة، فبادرَهُ أحدُهم على الفَور:

-نحنُ شبابٌ أقوياء، كنّا جنوداً حين هجمَ الأعداء، لكنّ قادتَنا تخلَّوا عنا وجرَّدَنا الأعداءُ من الأسلحة، فكيفَ نحاربُ بلا قادةً ولا أسلحة؟

التفتَ علاءُ الدينِ نحو آخِرِ جماعةٍ من زوّارِهِ سائلاً:

وانتم أيّها السادة؟ ألا تقدرونَ على الإسهامِ في محاربةِ أعدائكم وأعداءِ البلاد؟

أجابَ زعيمُ الجماعة: نحنُ فلاحونَ كما ترى، نقدرُ أن نزوّدَ الناسَ والجنودَ بكلِّ ما يحتاجونَ من الغذاء. لكننا لم نجرّبِ الحربَ ولم نتعلّمْ فنونَ القتال.

ابتسمَ علاءُ الدينِ للجميع وهو يقول:

-تملِكونَ هذهِ القُدُراتِ كلَّها وتريدونَ مصباحاً سحريّاً لقهرِ اللصوص؟

 

 

 

الأعداء

 

 

على الضفّةِ الشرقيّةِ لنهرِ الأردُنِّ في قديمِ الزمان، كانت تقومُ إمارةٌ عربيّةٌ يحكمُها قائدٌ عسكريٌّ اسمُهُ (سيفُ الدين). وكانَ لـه ولدٌ وحيدٌ في السابعةِ من عمرِهِ هو الأميرُ (همّام).

كانَ همّامٌ منذُ صِغَرِهِ شَغوفاً( ) بالحكايات. وكانت مُربيّتُهُ تُرضي شغَفَهُ بقِصَصٍ من عالَمِ الخيال: عن جزيرةِ الغيلانِ وحوريّة البحرِ والبساطِ الطائرِ وما إلى ذلك. فلمّا بلغَ همّامٌ السابعةَ من عمرِهِ بدأت المربيّةُ تضيفُ إلى قِصصِ الخيالِ أحاديثَ عن الواقعِ الذي يعيشُهُ ويحيطُ به، وتحدثُهُ عن أعداءِ بلادِهِ الذينَ جاؤوا من وراءِ البحار، واحتلّوا الأراضيَ الواقعةَ غربَ النهرِ من إمارةِ أبيه. لكنّها كانت تبالغُ في الحديثِ عن عدوانيّةِ الأعداء، وفي وصْفِهم بأقبحِ صِفاتِ الخطورةِ والفظاعة.

××××

كانَ (همّامٌ) ذكيّاً سريعَ التعلّمِ قويَّ الخيال. وعندَما كانت المربيّةُ تحدّثُهُ عن الأعداءِ كانَ يُحلِّقُ بخيالهِ، ويتخيّلُهم في صُوَرٍ مشابِهةٍ للغيلانِ التي تصوِّرُها الحكايات. لكنهُ لم يكنْ يصدِّقُ خيالَهُ ولا يقبلُ أن يسمعَ عن أعدائهِ سَمعاً دون أن يراهم بنفسِه. كان يريدُ أن يعرِفَ ما همُ الأعداءُ في الحقيقة؟ وما أشكالُهم وكيف يتصرّفون؟

××××

تسلّل ذاتَ يومٍ إلى ضفّةِ النهرِ واختبأَ بينَ الشجَيرات. كانَ أطفالٌ وفتيانٌ صغارٌ من الأعداءِ يلعبونَ على الضفّةِ ويسبحون.

اقتربَ من الضفّةِ أكثرَ متخفّياً بينَ الأعشابِ الطويلةِ وأدهشتْهُ المفاجأةُ فقالَ في نفسِه: أولادُ الأعداءِ يشبهونَ جميعَ الأولاد. أصابعُهم ليست مخالِب. أنوفُهم ليست مناقيرَ ضخمةً وليس لهم أذنابٌ كالقرود. إنهم يضحكونَ ويمرحون، ويتبادلون الرشَّ بالماءِ أيضاً!! هل خدعَتْني مربيّتي؟ ما الخطيرُ وما الفظيعُ في هؤلاءِ الأولاد؟

خرجَ من بينِ الأعشابِ واقتربَ مكشوفاً ووقفَ على حافّة الضفّةِ، ليسمعَ جيّداً كلامَ الأعداءِ لعلّهُ يفهمُ منه شيئاً، وأزعجَهُ أن يسمعَ منهم لغةً قبيحةً غريبةً غيرَ مفهومة. لكنّ أحدَهم ساعَدَهُ وحقّقَ لـه رغبتَه: اتّجهَ إليهِ وهو يسبح، ثم توقّفَ في وسطِ الماءِ وخاطبَهُ بلغةٍ عربيّةٍ مكسَّرة: اسمعْ أيُّها العربيّ، أهلُنا قتلوا أهلَكُم وطردوهم من غَربِ الأردنّ، ونحنُ سنطردُكم من شَرقِهِ حينَ نكبَر، وسوف نُقيمُ دولتَنا من الفراتِ إلى النيلِ ونعيشُ بسلام.

نظرَ هَمّامٌ إلى بُرجٍ صغيرٍ على الضفّةِ التي يحتلّها الأعداء، وقد ارتفعَ فوقَهُ علمٌ يتألّفُ من مساحةٍ بيضاءَ يحدُّها خطّانِ أزرقان، وعرَفَ أنّ هذينِ الخطَّينِ يرمُزانِ إلى نهرَينِ كبيرين. فرجَعَ إلى قلعةِ والدِه، وقد عرَفَ بنفسِهِ حقيقةَ الأعداء.

 

 

 

اللؤلؤة

 

 

((حادثةٌ تخيّلَها الأديب الأميركيّ جون شْتاينبِك، وافترضَ أنها تجري في أحد الشواطئِ الأميركية. وها أنا أتخيّلُ مثلَها تحدثُ في الخليج العربيّ قبل اكتشافِ النفط وتطوّر الحياة))

××××

يعيشُ سعدٌ مع زوجتِهِ في قريةٍ صغيرةٍ على شاطئِ الخليجِ العربيّ، يحترفُ سكّانُها الغوصُ لاستخراجِ اللؤلؤ. إنهم قومٌ من فقراءِ العرب، أمّا قُراهم فهي أعشاشٌ من سعَفِ( ) النخيل، مكسوَّةً بطبقةٍ رقيقةٍ من الطين لسدِّ الفَجوات.

والغوّاصون رجالٌ أقوياءُ الأجسام، يستأجرُهم تجّارُ اللؤلؤِ عندَ اشتدادِ حرِّ الصيفِ وهو موسمُ اللؤلؤ، ويأخذونَهم في مراكبَ خاصّةٍ، ويبتعدونَ عن الشاطئِ مسافاتٍ طويلةً حيثُ المَغاصاتُ( ) الغنيّةُ بالْمَحارِ (أي الصَدَف).

يهبِطُ الغوّاصونَ إلى أعماقِ الخليجِ فيجمعونَ المحارَ ويُخرجونَهُ إلى سطحِ المركَب، حيث يقومُ عمّالٌ آخَرونَ بفتحِهِ تحتَ رِقابةِ التاجِرِ ربِّ العمل، ويستخرجونَ ما في بعضِهِ من اللؤلؤ. وفي نهايةِ الموسمِ يوزِّعُ ربُّ العملِ على العامِلينَ أجوراً متفاوِتةَ المقاديرِ من التمرِ والأرزِّ وطحينِ القمح، مؤونةَ غذاءٍ قد تكفيهم طيلةَ العام.

مِن هؤلاءِ الغوّاصينَ سعدُ بنُ حمدان. غوّاصٌ فقيرٌ يشتهرُ بقوّة الجسمِ وطولِ البقاءِ تحتَ الماء، وبالمهارةِ في معرفةِ مَحارِ اللؤلؤ. لكنّ قدراتِهِ هذه لا تجعلُ أجورَهُ أكثرَ من زملائهِ إلا قليلاً، الأمرُ الذي يزعجُهُ بالليلِ والنهار، إذ يرى نفسَهُ يتسبّبُ للتجّارِ بالغنى ويبقى من الفقراء.

مرّةً بعد انتهاء الموسمِ وانصرافِ المراكِب، قرّرَ سعدٌ أن يقومَ بمغامرةٍ في الخليجِ ويجرّبَ حظّه. سبحَ مسافاتٍ طويلةً رغمَ وجودِ أسماكِ القرشِ المفترسة، ووصلَ إلى إحدى المغاصات. وبينَ الأملِ في العثورِ على بعضِ اللؤلؤِ والخوفِ من القرشِ المفترس، حصلَ أخيراً على مَحارةٍ شديدةِ الضخامة.

استلَّ سِكّينَهُ وفتحَ المحارةَ تحتَ الماء، فوجدَ فيها أكبرَ لؤلؤةٍ رآها أو سمعَ عنها في حياتِه، فأخرجَها من لَحمِ المحارةِ ووضعَها في جعبتِهِ وصعِدَ إلى سطحِ الماء، واتجهَ سابحاً إلى الشاطئ.

بدأ جسمُهُ يتشنّجُ وسطَ الماء، ولعلّ ذلك لاشتدادِ خوفِهِ على حياتِهِ من أسماكِ القرشِ بعدَ أن صارت الثروةُ في جعبتِهِ. وفجأةً ساعدَهُ الحظُّ باقترابِ سِربٍ من الدلافينِ أعداءِ سمكِ القرش، فانخرطَ بين الدلافينِ يسبحُ معها مقترباً من الرمل، ثمّ غادرَها سابحاً بكلِّ عزمِهِ إلى الشاطئ.

جلسَ على الشاطئِ يستردُّ أنفاسَه، ثم فتحَ الجعبةَ واطمأنَّ على اللؤلؤة، وأطبَقَ عليها بجُمعِ يدِهِ وسارَ إلى كوخِهِ متظاهراً بعدمِ الاهتمام، كي لا ينتبِهَ إليهِ أحدٌ فينكشفُ سرُّه.

في الكوخ قالَ لزوجته: هذه اللؤلؤةُ ستجعلُنا أغنياءَ وتخلّصُني من العملِ بالأجرة، فلا تخبري أحداً عنها على الإطلاق. أخاف أن يعلَمَ اللصوصُ فيسلبوني إيّاها، أو يعلمَ التجّارُ أربابُ العمل، فيتهموني بسرقتِها خلالَ الموسم.

قالت زوجتُه: بالعكسِ يا سعد. أخبِرْ جميعَ أهلِ القرية، إنهم قومُنا، وبهم تحمي نفسَكَ من اللصوصِ ومن اتّهام التجّار.

قال سعدٌ مصرّاً على رأيِه: كلاّ، كلاّ. السكوتُ أفضل. ومعَ الفجرِ أنطلقُ بها إلى مدينةِ دُبَيّ، فأبيعُها وتنتهي الحكاية.

كان في الكوخِ المجاورِ ثلاثةٌ من حُرّاسِ مركَبِ الغوص، وهم رجالٌ شَرِسونَ مسلّحونَ بالسيوفِ والخناجر، يستأجرُهم التجّارُ طيلةَ الموسم، فيحرسونَ اللؤلؤ على السفينةِ وفي الطريقِ إلى مدينة دبيّ، ثم ينتظرون حتى الموسمِ القادم.

من خلالِ السَعَفِ والطينِ سمعَ الحرّاسُ حِوارَ سعدٍ وزوجتهِ، وقرّروا أن يسلُبوه اللؤلؤة.

عندَ الفجرِ انطلقَ سعدٌ إلى مدينةِ دُبَيّ مشياً مع الشاطئ، وانطلقَ الحراسُ الثلاثةُ خلفَه بعدَ مدّة، ليمارسوا فعلَ اللصوصِ وقطّاعِ الطرق.

وعلى الشاطئِ الرمليِّ الخالي من الناس، التفتَ سعدٌ إلى ورائهِ ليطمئنّ، فرأى الحرّاس الثلاثةَ مسرعينَ إليهِ فأحسَّ بالشرِّ وبدأ يركض.

ركضَ اللصوصُ خلفَ سعدٍ وكانت مطاردةً عنيفة.

توقّفَ سعدٌ لحظةً يفكّرُ: أينَ الْمَفرّ؟ البحرُ عن يمينِهِ والصحراءُ أمامَه وعن يسارِه، واللصوصُ خلفَه بسيوفٍ مرفوعةٍ لامعة. أيقنَ أنهُ إن أعطاهم اللؤلؤةَ فسوف يقتلونَهُ لا محالَة فهو خصْمٌ وشاهِد. فألقى اللؤلؤةَ في البحرِ بكلِّ ما يستطيعُ من قوّة.

في نفسِ اللحظةِ وصلَ اللصوصُ إليهِ فقالَ: غوصوا واسترجِعوها.

قالَ أشدُّهم شرّاً وعدوانيّة: بل تغوصُ أنت وتأتينا بها، أو نقتلُك.

قالَ سعدٌ في نفسِهِ: هذا بالضبطِ ما أريدُه. وقذفَ نفسَه في البحرِ وسبح وسبح، ثم غاصَ تحتَ الماءِ وابتعدَ قدْرَ استطاعتِه.. وما زالَ يسبحُ ويغوصُ حتى وصلَ إلى قريتِه، ونادى على قومِه وحكى الحكاية.

أمّا اللصوصُ فكانوا يتابعونَهُ على الشاطئ حتى صاروا على مَقرُبةٍ من القرية. وعندَما شاهدوا اجتماعَ الغوّاصين، أدركوا أنهم قد انكشفوا فهربوا مسرعين.

وعانقَ سعدٌ رجالَ قومِهِ فرِحاً بسلامته.

 

 

جابِرٌ وجُبَير

 

 

((كتبوا هذه الحكاية قبلاً أكثر من مرّة، وكلّ مرّة بشكل جديد، وهذا ما أحاوله الآن، ولعلّي أوفَّق))

رُزِقَ الملِكُ ثلاثَ بناتٍ ولم يُرزَقْ بولدٍ واحد، فأصبحَ قلِقاً يخشى أن ينتقلَ عرشُهُ إلى أقاربِهِ بعدَ وفاتِه. وكلَّما مرَّ الزمنُ وكثُرَت بناتُ الملك، تفاقَمَ( ) بهِ القلقُ حتى صارَ همّاً يُفسِدُ حياتَه، وتعاظَمَ سعيُهُ للحصولِ على الولد.. تزوّج كثيراً وطلَّق كثيراً وخلّف خمساً وستّين بنتاً.. وأخيراً جاءهُ الولد.

حينَ حُمِلَ إليهِ الولدُ فرِحَ لحظةً ثم انتابَهُ هَمٌّ عظيم: الطامعونَ بالعرشِ كثيرونَ وربّما يفكّرون في اغتيالِ( ) الأميرِ أو تسميمِهِ ليرِثوا العرش، فهل يتركُهُ يعيشُ تحتَ الخطر؟ أم يدبِّرُ لـه عيشةً آمنةً ريثما يكبرُ ويصبحُ قادراً على الإمساكِ بالْحُكم؟

أمرَ الملكُ فأرجعوا الطفلَ إلى والدتِه. ثم استدعى وزيرَهُ لعلَّهُ يجدُ لـه تدبيراً يطَمئنُهُ على ولدِه.

جاءَ الوزيرُ سريعاً واستمعَ برَويّةٍ( ) إلى الملِك، وفّكرَ مليّاً( ) ثمّ قال:

-وجدْتُها.. وهي حيلةٌ قديمةٌ عندَ الملوكِ في مثلِ حالتِك.

قالَ الملك:

-فما هي؟

قالَ الوزير:

-نبدِّلُ الأميرَ سِرّاً بوليدٍ لأسرةٍ من الشعب، فينشأُ ابنُ الشعبِ في قصرِكَ على أنهُ ولدُك، وينشأُ الأميرُ عندَ الأسرةِ الشعبيةِ بعيداً عن الخطر. وبعدَ عشرينَ سنة نكشِفُ الحقيقةَ للناس، وننصِّبُ الأمير وليّاً للعهد.

قالَ الملك:

-نِعْمَ التدبيرُ يا وزيرَ الذكاء. فكيف ومتى يكونُ ذلك؟

قالَ الوزير:

-يجبُ أن يتِمَّ ذلك بأسرعِ وقتٍ ممكن، وبشرطِ أن لا تنتبِه الخادماتُ والمربِّياتُ للمسألة.

فقالَ الملك:

-لكنّ خادماتِ الملكةِ والمربِّياتُ رأينَ الأميرَ فورَ ولادتِهِ وحملْنَهُ إليّ.

قالَ الوزير وهو يضحك:

-مسألةٌ بسيطة. سندبِّرُ بديلاً في مثلِ عُمرِ الأميرِ ومثلِ لونِه، وتأمُرُ جلالتُكَ بِحَجْبِ الأميرِ عن الخدمِ والمربِّياتِ أربعينَ يوماً بحُجَّةِ حمايتِهِ من العينِ الحاسدة..

فضحكَ الملِكُ وتابع:

-وبعدَ أربعينَ يوماً تتغيّرُ ملامِحُهُ ولا ينتبِهُ أحد.

-أستأذِنُ يا مولايَ لأبدأَ البحثَ والتدبير.

وخرجَ الوزيرُ مسرعاً منهمِكاً يفكِّر، وأمرَ الملكُ فوراً بحَجبِ الأميرِ عن الجميعِ إلا والدتَه، حجباً يبدأُ الآنَ ويمتدُّ أربعينَ يوماً، بقصدِ حمايتِهِ من العينِ الحاسدة.

××××

بعدَ أيّامٍ ثلاثةٍ لا أكثر، أقبلَ الوزيرُ على الملكِ متلألئَ الوجهِ فرحاً وهو يقول:

-أبشِرْ( ) يا مولايَ أبشِر. وجدْتُ ما قالَه الشاعر..

فقاطعَهُ الملك:

-دعني من الشعرِ وهاتِ الكلامَ الْمُفيد.

قالَ الوزير:

-الكلامُ المفيدُ في بيتِ الشعرِ فاصبِرْ أرجوك.

ألَحَّ الملكُ وقد فقدَ صبرَه:

-انطِقْهُ بسرعةٍ، خلِّصْني.

فأنشدَ الوزير:

وعلِمْتُ حينَ العِلْمُ زَينٌ للفتى     أنَّ التي ضيَّعتُها كانت معي

قالَ الملكُ بانزعاجٍ وإصرار:

-سَمِعتُ ولم أفهمْ فماذا تعني، وما التي ضيّعْتَها واكتشفتَ أنها معك؟

قالَ الوزير:

-منذُ تلكَ الليلةِ استدعَيتُ المخبِرينَ السرّيين، وأمرتُهم بالبحثِ والاستقصاءِ( ) في بيوتِ الشعبِ عن طفلٍ وُلِدَ لِتَوِّهِ( ) أو منذُ أيام، على أن يبقى البحثُ سرّاً لا يعرفُهُ أحد. واليومَ وجدْتُ الضالّةَ المنشودةَ( ) في قصري أنا: زوجةُ البستانيِّ عندي أنجبَت ولداً يومَ وُلِدَ الأمير. وقد أغريتُها وزوجَها ببعضِ الذهب، فقبِلا بالمبادلةِ عشرينَ سَنة وبِكَتمِ السرّ.

أشرقَ وجهُ الملكِ وارتاحَ في جلستِهِ وقال:

-أحسنتَ أحسنت، الآنَ اطمأنَّ بالي.

وعلى الفَورِ أحضروا الطفلَ والطبيبَ الكحّال( )، فوشَمَ( ) ذراعَ الطفلِ بشعارِ( ) الملكِ ليتميَّز به طولَ عمرِه، ثم أخذتهُ زوجةُ البستانيِّ إلى بيتِها بعدَ أن وضعَت محلَّهُ طفلَها، وأطلَقَ الملكُ على ابنِهِ اسمَ "جابرٍ" وعلى ابنِ البستانيِّ اسمَ: جُبَير.

××××

في أسرةِ البستانيِّ نشأ الأميرُ جابر، فلَقِيَ الحُبَّ والحنانَ من الأبوينِ والأولاد، ونشأ مثلَهم على حبِّ العملِ والتحلّي بمكارِمِ الأخلاق.

ونشأَ جَبَيرٌ في قصرِ الملكِ نشأةَ الأمراء، عِنايةٌ ولَعِبٌ وتعليم، ثم رياضةٌ وفروسيّةٌ وسِباحةٌ ورِمايةٌ للسهامِ ومبارزةٌ بالسيف. وقد بَرَعَ في ذلك كلِّه، لكنه كان يشعرُ بشيءٍ ينقُصُهُ وهو حُبُّ الأبوين. وكلّما تقدَّمَ الزمنُ ترسَّخَ شعورُهُ بأنه غيرُ محبوبٍ فنشأَ لا يشعرُ بالحبِّ نحو أحد. وعندَما كبِرَ كان مثالاً للأميرِ الحازمِ والعسكريِّ الماهِر، لا عيبَ فيهِ إلاّ قسوةُ قلبِهِ وجَفافُ عاطفتِه.

××××

وما أسرعَ ما يَمرُّ الزمنُ، خصوصاً في الحكايات. وهكذا وجدَ الأميرانِ المزيَّفُ والأصيلُ نفسَيهِما في حفلةٍ ملَكيّةِ حاشدة، وأمامَ حقيقةٍ جديدةٍ أعلنَها الوزيرُ بعدَ أن كشفَ عن ذراعِ الأميرِ جابر، وأظهرَ للجميعِ وَشْمَ الملكِ على ساعدِه..

انحنى جابرٌ لأبيهِ تحيّةَ احترامٍ وقال:

-والدي ومولايَ المعظَّم، لئن سرَّني أني غدَوتُ أميراً ووليّاً لعهدِك، فقد أحزنَني فِراقُ أبويَّ الكريمينِ الواقفَينِ أمامَك، البستانيِّ الطيّبِ وزوجتِه، اللذينِ عشتُ بينَهما أجملَ سنواتِ عمري، متمتّعاً بالحبِّ والعملِ والفضيلة. وإني أعاهدُهما أمامَكَ وأمامَ الجميع، أن أبقى وفيّاً لهما ولإخوتي منهما طولَ الحياة.

أشرقَ وجهُ الملكِ فخراً وإعجاباً وقال:

-أحسنتَ يا ولدي أحسنت. هذه حقّاً أخلاقُ الأمراء.

أمّا جُبَير، الذي خسِرَ كلَّ شيءٍ وهوى من قِمّةِ المجدِ في لحظةٍ واحدة، فواجهَ الصدمةَ بقسوةِ القلبِ التي تربّى عليها، وحدّقَ في وجهِ الملك وهو يقول:

-أمّا أنا، فلن أبقى في هذه المملكةِ بعدَ اليوم.

فعاجلَهُ الوزيرُ موبِّخاً:

-أهكذا تشكرُ مولاكَ على نعمتِه؟

قالَ جُبير:

-هل أشكرُه لجعلي عُرضةٍ للقتلِ عشرينَ سنة؟ أم لجعلي سخريةً للناسِ بقيّةَ حياتي؟

قالَ الملكُ باحتقار:

-أنت وقحٌ وبلا أدب.

أجابَ جُبير بجفاف:

-هذهِ تربيتُكم ولا ذنبَ لي.

وانصرَفَ صُلبَ القامةِ جامدَ النظرةِ لا يلتفتُ إلى أحد. وحين مرَّ بوالدَيهِ صرخَت أمّهُ تستوقفُه:

-ولدي جُبير، ودِّعْنا على الأقلِّ فنحنُ أبوكَ وأمُّك.

فنظرَ إلى والدَيهِ قائلاً دونَ أن يتوقّف:

-وهل أعرفُكما؟

وتابعَ حتى خرجَ والجمعُ صامتون. أمّا والدته فسالَت دموعُها وهمسَت لزوجِها:

-لننصرفْ نحنُ أيضاً.

فأجابَ زوجُها:

-فقد خسرنا ولدنا لكننا كسِبْنا أميراً وفيّاً رحيماً نشأَ على يدَينا، وسوفَ يكونُ أفضلَ ملك. هذا عزاؤنا عن الخسارة.

  

 

 

الليمونات الثلاث

 

 

كان في قديمِ الزمانِ مملكةٌ صغيرة، أرضُها خيِّرةٌ وأهلُها طيّبون. أمّا الملكُ واسمُهُ "مَيمونٌ"، فكانَ جبّاراً لا يعرفُ الرحمة، ويخافُهُ أصدقاؤهُ قبلَ أعدائه، لكنّ فيهِ نقطةَ ضَعفٍ واحدةَ هي حبُّه الجنونيُّ للّيمون، فإذا رأى ليمونةً ولو تافهةً ضعُفَت إرادتُهُ وصارَ يتلهّفُ عليها كالمحروم، فإن كانَ حينذاكَ مكتفياً من أكلِ الليمون، فإنه يطبِقُ كفَّهُ على تلكَ الليمونةِ لا يترُكُها كأنها كنزٌ من الكنوز.

وقد بلغَ من حبِّه للّيمونِ أن جعلَ صورةَ الليمونةِ شعاراً للمملكة، يُنقَشُ على علَمِها وثيابِ الأسرةِ المالِكة، وثيابِ الوزيرِ وقادةِ الجيشِ وقبّعاتِ الجنود. ثم تمادى في ذلك فأمرَ ببناءِ قصرٍ ملكيٍّ جديدٍ على شكلِ نصفِ ليمونة، وسمّاهُ قبل أن يُبنى: قصرَ الليمونة.

استغرقَ بناءُ القصرِ سنتين، وبدأ الملكُ يستعدُّ لافتتاحه، فدعا الملوكَ المجاورينَ والأمراءَ وقادةَ الجيش، والأغنياء وكبارَ التجّار، وأقامَ في القصرِ احتفالاً لم تعرِف البلادُ أضخمَ منهُ ولا أشدَّ إسرافاً وترَفاً. فبعدَ الموائدِ العامرةِ بما لذَّ وطابَ من الطعامِ وشرابِ الليمونِ بالعسل، رقصَ الجميعُ رقصةَ الليمونة، وهي رقصةٌ ابتكرَها معلّمو الرقصِ عندَ الملكِ مَيمون، لتكونَ الرقصةَ الجديدةَ والوحيدةَ المسموحُ بها في بلادِهِ بعدَ الآن.

في نهايةِ الحفلةِ أمرَ الملكُ ميمونٌ بتوزيعِ الهدايا على الضيوف. وفوجئَ هؤلاء بالخدَمِ يحملونَ إليهم أطباقاً مليئةً بثمارِ الليمونِ الكبيرةِ الناضجة، وحين مدّوا أيديَهم إليها، اكتشفوا أنها جواهرُ ضخمةٌ وسبائكُ ذهبيّةٌ صِيغَت( ) على شكلِ الليمون.. وهكذا بلغَت كُلفةُ الحفلةِ سبعةَ ملايينَ من ليراتِ الذهب.

ردّ الضيوفُ على نعمةِ الملكِ بالثناءِ والتمجيد، وسمّاهُ أميرٌ مجاورٌ لبلادِهِ "ملكَ الليمون"، فازدهى ميمونُ بهذا اللقب، وأعلنَ أمامَ الجميعِ تسميةَ مملكتِهِ "مملكة الليمونة" بعدَ أن كانَ اسمُها "المملكة الميمونة"( ).

××××

في الخريفِ التالي، وثمارُ الليمونِ فجّةٌ( ) صغيرة، اجتاحَت المملكةَ كارثةٌ رهيبةٌ لم تشهدْ مثلَها على الإطلاق؛ موجةٌ مفاجئةٌ وقاسيةٌ من الثلجِ والصقيع. وتكاثفَ الثلجُ طبقاتٍ صلبةً فوقَ طبقات، وبدأ الناسُ يعانونَ من البردِ وقلّةِ الوَقود.

ما كانَ الملكُ المستدفئُ في قصرِهِ يهتمُّ بالناسِ ولا بالبلاد، بل كان دماغُهُ يتقافزُ في رأسِهِ بهَمٍّ واحد: ما مصيرُ أشجارِ الليمونِ وهي لا تحتملُ البردَ ولا تصمُدُ للصقيع؟

كان خوفُ الملكِ في محلّه. وبدأت أشجارُ الليمونِ تيبَسُ وتموت.

تحوّلَ قلقُ الملكِ إلى هلَعٍ وبدأ يتحرّكُ في كلِّ اتجاهٍ كوحشٍ حبيسٍ في قفص، ويوَسوِسُ كالمجنونِ بكلمةٍ واحدة: الليمون.. الليمون..

كان يملِكُ مخازنَ من سبائكِ الذهب، ويقدرُ أن يستوردَ من الممالكِ المجاورةِ ما يشاء، لكنه كان يخشى أن يشمَتَ الملوكُ المجاورونَ ويقولوا: ملِكُ الليمونِ محتاجٌ إلى الليمون..

رغمَ هذه المخاوفِ الأليمة، فإن الملكَ لم يفقِدْ عقلَهُ تماماً ولم يَعدَمْ التدبيرَ والحلةَ، فأمرَ مزارعي مملكتِهِ بتدفئةِ أشجارِ الليمونِ بكلِّ الوسائلِ الممكنة، ووعدَ بمكافأةٍ مقدارُها ليمونةٌ من الذهبِ ثمناً لكلِّ ليمونةٍ ينتجُها أيُّ إنسانٍ في المملكة.

××××

كان في المملكةِ فلاّحٌ كهلٌ عركتهُ الحياةُ وعلّمتهُ التجارب، وهو منذ طفولتِهِ مثالٌ للذكاءِ والنشاطِ وحُبِّ الشعرِ والحكايات. كان أبوهُ فلاّحاً فقيراً يملِكُ أرضاً صغيرةً ويعيشُ منها. أما الفتى فقد دفعَهُ الفقر وحبُّ المغامرةِ إلى أعمالٍ مختلفةٍ عديدة. اشتغلَ صيّاداً وبحاراً وجندياً وحدّاداً وفي كلِّ مهنةٍ تخطرُ على البال. مع هذه الأعمالِ كلِّها كان يجمعُ الناسَ حولَه، فيحرّكُ وجدانَهم ويثيرُ خيالَهم بما يقصُّهُ عليهِم من مغامراتٍ وما يخترعُهُ من حكايات، وكانَ يضيفُ إلى روعةِ الحكاياتِ جمالَ الشعرِ والغناء.

حينَ توفّي أبوه، هجرَ أرضَهُ الصغيرةَ الجرداءَ وانطلقَ يتجوّلُ بينَ الناسِ كالطيرِ الْمُهاجرِ: شاعراً شعبياً وقصّاصاً متجوِّلاً في القرى والحاراتِ الشعبية الفقيرة.

لكنّهُ عادَ فلاّحاً بحادثةٍ مُضحِكةٍ مُبكِية: لقد عرَفَ الملكُ ميمونٌ بأمرِه، ورأى أن الانشغالَ بالأدبِ من شعرٍ وحكاياتٍ ليس عملاً منتجاً بل تضييعٌ لوقتِ الشعب، فأمرَ الشعراءَ والقصّاصين أن يعملوا بزراعة الليمون. وهكذا عادَ شاعرُنا فلاّحاً في أرضِ أبيه لكنْ بأمرٍ ملَكي.

ماذا فعلَ ذلكَ الأديبُ الفلاّحُ لينقِذَ أشجارَ الليمونِ في بستانِه؟ فكَّرَ وفكَّرَ ثم تذكَّر: في الحربِ يُضحّي بعضُ الناسِ بأنفسِهم ليعيشَ الآخَرون، فلِمَ لا يضحّي ببعضِ أشجارِ الليمونِ لينقذَ الباقي؟

حملَ بلطتَهُ فوراً ومعَهُ حطَبةٌ مشتعلةٌ واتجهَ إلى الأشجار. قطعَ واحدةً ضعيفةً مصفرّةً ودسَّ تحتَها الحطَبة المشتعلة. وما زالَ ينفخُ وينفخُ حتى أخذت الشجرةُ تشتعل. كانَ اشتعالاً صعباً بطيئاً لكنّهُ كثيفُ الدُّخانِ وهو المطلوب.. ولفَّ الدخانُ الدافئُ الأشجارَ يُدفئُها ويحاربُ الصقيع.

استمرَّ صاحبُنا يضحّي بأشجارِهِ ثلاثينَ يوماً، أحرقَ فيها تسعاً وتسعينَ شجرةً هي كلّ أشجارِ بستانِهِ إلاّ شجرة..

وأخيراً رحلَ الصقيعُ واتجهَ الطقسُ إلى التحسّن، وانفردَت في أرضِ البستانِ شجرةُ ليمونٍ ضخمةٌ واحدة، تحملُ ليموناتٍ ثلاثاً كبيرةً خضراء مصفرّةً تقارِبُ النضوج.

بعدَ شهرٍ من الزمنِ صارت الليموناتُ صفراءَ برّاقةً كنجومِ السماء، تتألّقُ فوقَ شجرةٍ حيّةٍ واحدةٍ تعيشُ بفضلِ تسعٍ وتسعينَ شجرةٍ ضحيّة.

وحانَ وقتُ القِطافِ وامتدّت أناملُ الفلاّحِ إلى الثمارِ مرتعشةً حنونة. قطفَها ووضعَها في كيسٍ قماشيٍّ صغيرٍ علّقَهُ في حزامِه، وانطلقَ نحو قصرِ الليمونةِ في عاصمةِ المملكة، التي تبعُدُ مسيرَ ثلاثةِ أيّام.

×××××

ماذا حدثَ للملِك خلالَ تلكَ الأزْمةِ العصيبة؟ كانَ فقدُ الليمونِ لديه كفقدِ عقله، فثارَ واهتاجَ واضطربَ اضطراباً عظيماً.. عالجَهُ الأطبّاءُ بسَجنِهِ في غرفةِ نومِهِ أربعةً وأربعينَ يوماً، فاعتادَ فقدَ الليمونِ وعادَ إليهِ توازنه ووعيُه. لكنّهُ أصبح ذابلاً مُنكسِراً مُنحَطَّ القِوى، ذاهلاً عن كلِّ ما يرى ويسمع، غيرَ مكترثٍ بكلِّ ما يحدثُ مهما كانَ شأنه. وكانت عيناهُ كشمعتينِ منطفئتينِ إلاّ عندَما يتذكّرُ الليمون، فكانتا تومضانِ وميضاً قلِقاً شاحِباً وتتحرّكانِ حركةً مرتعشة. أمّا جسمُهُ فصارَ ناحِلاً ضعيفاً كأنه كبر مئةَ عام.

××××

لا أحدَ يعلَمُ كيفَ عرَفَ الملكُ بأمرِ الليموناتِ الثلاث، لكنّهُ عرَفَ على كلِّ حالٍ فالحكّامُ لا تخفى عليهم خافِية. لبِسَ أفضلَ ثيابِهِ وصارَ حيويّاً ممازحاً، يلقي أوامرَهُ يَمنةً ويَسرةً وهو يبتسمُ تارةً ويعبِسُ تارة، ويداهُ تفتِلان شارِبيهِ بهِمّةٍ لا تعرفُ الكلَل. أمرَ بالاستعدادِ لاستقبالِ الفلاّحِ وليموناتهِ، وتفحّصَ الليمونات الذهبية التي ستكونُ ثمناً ومكافأة. ثم حملَ عصاً طويلةً من شجرِ الليمونِ وسارَ يشرفُ بنفسِهِ على الزيناتِ والفرقةِ الموسيقيةِ الملكيّة، ويوزّعُ ابتساماتِهِ وفُكاهاتِهِ على الجميع.

××××

دخلَ الفلاّحُ بعدَ طولِ انتظار. وبعدَ التحيّة الليمونيّة الملكيّة. صمتَ لحظةً فعَمَّ الجميعَ صمتٌ وترقّب ثقيلان، ثمّ شقَّ الصمتَ بثقةٍ وقوّةٍ وهو يقول:

-مولايَ الملكَ المعظَّمَ أعطِني الأمان.

أجابَ الملكُ وهو يغالبُ قلقَهُ ويتظاهرُ بالثقةِ بنفسهِ:

-لكَ الأمانُ، تكلّمْ، هل حدثَ شيء؟

بلعَ الفلاّحُ ريقَهُ ثم تابعَ والعيونُ تكادُ تأكلُهُ بنظراتِ القلقِ والانتظار:

-لقد حملْتُ الليموناتِ الثلاثَ وتوجّهتُ فوراً إليك، لكنّ أحداثاً جرَت معي في الطريقِ أنقصَتْها ليمونتينِ وأبقت لك ليمونةً واحدة.

سألَ الملكُ مصفرّاً ومختنقاً بالغضب:

-مَن سرَقَ الليمونتينِ حتى أقتلَه؟

قالَ الفلاّح مبتسماً وهادئاً:

-لم يسرقْهما أحد.. والأحداثُ التي جرتْ معي سوفَ تسُرُّ جلالَتك، فاسمحْ لي بسَردِها ثمّ احكُمْ بنفسِك.

خشيَ الملكُ أن يُظهرَ أمامَ الجمعِ لهفةً زائدةً وقلّةَ ثقةٍ بنفسِه، فتظاهرَ بالهدوءِ والبرودةِ وقالَ للفلاّح:

-تكلّمْ ولا تختصِر. أنا أستمِع.

فبدأ الفلاّحُ يحكي فقال:

-اعلَموا يا مولايَ أنّ قريتي بعيدةٌ من هنا مسيرَ ثلاثةِ أيّام. ولقد مشَيتُ في البدايةِ يومينِ وليلةً دونَ راحةٍ ولا نوم. ثمّ هدّني التعبُ والنعاسُ فأويتُ إلى بيتٍ في قريةٍ على الطريق. كانَ في البيتِ امرأةٌ فقيرةٌ وزوجُها طريحُ الفراش. كانت المرأةُ رغمَ الفقرِ كريمةً خيِّرة، أطعمتني عشاءها وقدّمَت لي فِراشَها ونامَت على الحصير.

وبينما أنا أكادُ أغفو سمعتُ زوجَها يَهذي وهو نائم. اقتربتُ منهُ فوجدْتُه مصاباً بحمّى شديدة. عيناهُ تنظُرانِ إليَّ كأنهما جمرتان، وأنفاسُهُ تتلاحقُ مثلَ مِنفاخِ الحدّادِ وهو يصارعُ الموت. وأنا أعلَمُ أن الليمونَ دواءٌ للحمّى، فهل أبخلُ عليهِ بليمونةٍ وأتركهُ يموت؟ ولو كانَ مولايَ الملكُ مكاني، أما كان يضحّي بليمونةٍ لأجلِ مريض؟

نهزَ الملكُ رأسَهُ إلى الخلفِ نهزةً سريعةً كأنّما وخزَهُ شيءٌ بين كتِفيه، وأطلَقَ كلمةً أرادَها واضحةً فخرجت ناشفةً مكتومة:

-طبعاً، طبعاً.

فتابعَ الفلاّح:

-هذا ما قدّرتُهُ وفعلْتُه. ثم نِمتُ حتى الفجرِ ونهضتُ كي أتهيّأُ للمسير. كانت حرارةُ الرجُلِ قد انخفضَتْ وبدأ يستعيدُ وعيَهُ ويتماثلُ للشفاء.

تابعتُ المسيرَ طولَ النهارِ وشعرتُ بعطشٍ شديد. اتجهتُ إلى قرية أعرفُها حقَّ المعرفة، وأعرفُ أنّ فيها بئراً وحيدة وماؤها مُرٌّ كريه، لكنني أقبلتُ أستقي فنادتني امرأةٌ من بيتٍ قريبٍ ودعتني كي أشربَ من عندِها. كانَ ماؤها صافياً لذيذاً كأطيبِ ما يكون، وعرفتُ أنها أحضرتهُ من نبعِ ماءٍ بعيدٍ كما يفعلُ أهلُ تلك القرية. وبينما أنا أسألُها عن الماءِ وتجيبُني اقترَب منّا ولدُها الصغيرُ وبدأ يتشمّم. لقد اجتذبَتهُ رائحةَ الليمونِ فلهُ رائحةٌ فائحةٌ فاضِحة. سألَني: ماذا تحملُ في هذا الكيسِ الصغيرِ وما هذه الرائحة؟ ففتحتُ الكيسَ وعرّفتُهُ بثمرةِ الليمون. والأطفال يا مولايَ لا يكتفونَ بالنظرِ إلى الأشياءِ الجديدةِ عليهم، بل يرغبونَ بالتفحّصِ والتذوّقِ إن أمكن، ودونَ الخِبرةِ والتجربةِ لا يكتملُ لهم عِلمٌ ولا معرفة. تردّدتُ لحظةً وخِفتُ من غضبِكَ ثم فكّرت: ألا يجودُ مولانا على الطفلِ الصغيرِ الجاهل، بليمونةٍ واحدةٍ ولأجل العلمِ والمعرفة؟

انحنى الملكُ إلى الأمامِ فجأةً وانكمَش. تطلّعَ حولَهُ وخافَ أن يتصرّفَ أيَّ تصرّفٍ يذكّرُ بأيام اضطرابِهِ وحبسه، فيشمتَ به الشامتون ويطمعَ بهِ الطامعونَ ويتمادى عليهِ السفهاء، وفضّلَ أن يظهرَ أمامَهم بمظهرِ المتسامِحِ الكريمِ والْمُنْعِم المتفضِّل، فسعلَ مرتينِ ثلاثاً ثم قال:

-طبعاً، طبعاً.

فقالَ الفلاّح:

-وأنا يا مولايَ قدّرْتُ إرادتَكَ الحكيمة، وضحّيتُ بالنيابةِ عنكَ بليمونتِكَ الثانيةَ فهل أخطأت؟

قالَ الملكُ غير منتبِهٍ لأنّ عقلَهُ كانَ شارداً من الغضب:

-طبعاً، طبعاً.

وصحّحَ فوراً:

-أقصِدُ أنك لم تخطئْ طبعاً. طبعاً لم تخطئ.

أخرجَ الفلاّحُ الليمونةَ الوحيدةَ من كيسِهِ وألقاها في الهواءِ ثم تلقّاها بيدِهِ وقال:

-أمّا هذهِ يا مولاي، فهي هديّةٌ منّي إليك.

جُنّ جنونُ الملكِ من الغيظ. فلاّحٌ يتفضّلُ عليهِ بهديّة، ويساوي في هداياهُ بينَ الملكِ وبينَ فلاّحٍ آخَر وابنِ فلاّح؟! هذه وقاحةٌ ما بعدَها وقاحة، وجريمةٌ ما مثلُها جريمة." فهل يعاقبُهُ فيبدو بخيلاً لئيماً ضعيف الإرادة، أم يفاجئُ الجميعَ بمكافأتِه، فيظهَرَ أمامَهم أسمى من الخطأِ وأكرَمَ من الكرماء؟"

أعجبَهُ الحلّ الثاني، فأمر للفلاّحِ بالليموناتِ الثلاثِ المصنوعةِ من الذهب.

هل يحزِرُ القارئُ ما فعل صاحبُنا بالذهب؟ استوردَ بهِ ألفَ غرسَةٍ من أشجارِ التّفاحِ لأنه أحبَّ الفواكِهِ إلى الأطفال.

 

 

 

سَمراءُ اليمَن

 

 

عاشت في قديمِ الزمانِ وفي بلادِ اليمن، فتاةٌ عجيبةٌ اسمُها سَمراء. كانت أعجوبةً في الجمال؛ بشَرتها سمراءُ ذهبيّة، وخدّاها متورّدانِ مِثلَ رغيفينِ من خُبزِ التنّورِ الناضج، أمّا عيناها فواسعتانِ برّاقتان، لكنّ أحداً لم يعرفْ لونَهما على الإطلاق، فكلّما نظرَ إليها إنسانٌ أدهشَهُ بريقُهما الغريبُ الوهّاجُ وأذهلَهُ كأنما نظرَ إلى صاعقة.

لم يكنْ جمالُها وحدَهُ أعجوبةَ زمانِها، بل كانت قصّةُ حياتِها هي الأعجبَ والأغرب. كان أبوها خادماً في القوافلِ التجارية، تدفعُهُ زوجته إلى العملِ والكسبِ دفعاً، فيتحرّكُ بهمّةٍ متراخيةٍ وتذمُّرٍ دائم. كان شخصاً كسولاً لا يهتمُّ بشيء. وذاتَ مرّة ذهبَ مع قافلةِ ولم يَعدُ، وانقطعَت أخبارُهُ بعدَها ولم يفطَنْ إليهِ أحد.

أمّا الأمُّ فكانت على عكسِهِ قويّةَ الهِمّة، واسعةَ التدبيرِ دائمةَ الحركة. لا يراها الناسُ إلاّ داخلةً في بيتٍ وخارجةً من آخرَ، وهي تشتري وتبيعُ كلَّ ما يخطرُ على البالِ وما لا يخطر: أمشاطٌ وأساورُ وخواتمُ ومناديل.. ومع تجارِتها الصغيرةِ هذه كانت خطّابةً ماهرة؛ تدبِّرُ خِطبةَ أيَّةِ امرأةِ لأيِّ رجُل. خطّابةً لم تعرفْ اليمنُ أقدرَ منها على إقناعِ المخطوباتِ المتردّداتِ والرافضات، ولا أمهَرَ منها في الحصولِ على المكافآت.

نشأتْ سمراءُ وحيدةً ومُلازِمةً( ) لأمِّها، فتعلّمَت فنونَ البيعِ والشراءِ والترغيبِ والمساومة. وحينَ بلغَت سنَّ الخامسةَ عشرةَ آنَ أوانُها للخِطبةِ والزواج.

تقدّمَ لخطبتِها رجالٌ كثيرونَ كهولٌ وشبّانٌ وفقراءُ وأغنياء، لكنّ الفتاةَ وأمَّها كانتا تسخرانِ من الجميع، وتطمحانِ إلى زواجِ الفتاةِ بأغنى رجُلٍ في كلِّ اليمن.

وذاتَ يومٍ تحقّقَ مَسعى المرأتين، إذ تقدَّمَ لخِطبةِ الفتاةِ شيخُ تجّارِ العاصمةِ صنعاء. كانَ عجوزاً تجاوزَ السبعين، تزوّجَ أربعَ نساءٍ وخلّفَ عشراتِ الأبناءِ والبنات. لكنّه عندَما عرَفَ أنه مقبولٌ عندَ سمراءَ طارَ عقلُهُ من الفرح، فطلَّقَ جميعَ نسائِهِ وابتعدَ عن بناتِهِ وأبنائهِ، وخاضَ مع سَمراءَ وأمِّها مساومةً صعبةً دامت شهوراً طويلة: عرضَ عليهِما مَهراً مقدارُهُ ألفُ دينارٍ فرفضتا رفضاً قاطِعاً. وبعدَ مدّةٍ زادَ المهرَ إلى عشرَةِ آلافٍ فقوبِلَ منهما برفضٍ غيرِ حازم. ثمّ زادَهُ إلى مئةِ ألفٍ فصارتا تتردّدانِ وتتلاعبان: تَقبَلُ الأولى فترفضُ الثانية، ثمّ تَقبَلُ الثانيةُ فترفضُ الأولى. واستمرَّ هذا التلاعُبُ عدّةَ أشهُرٍ ففقدَ العجوزُ صبرَهُ وقرّرَ حسمَ المساومة، وعرضَ مَهراً مقدارُهُ وزنُ الفتاةِ من الذهب. وهنا نالَ الموافقة.

××××

في حفلةِ الزواجِ حضرَ القاضي وكبارُ التجّارِ والأغنياء، وأقيمت الزيناتُ وسطعَت الأنوار. وأحضرَ الخدَمُ ميزانَ القوافلِ وهو أكبرُ ميزانٍ للتجارة، فوقفت سمراءُ في كِفّةٍ منهُ وبدأَ شيخُ التجّارِ يصبُّ الدنانيرَ في الكِفّةِ الثانية، وعندَما تساوَت الكِفّتانِ واعتدلَ الميزان، ضُرِبَت الطبولُ ونُفخَ في الزُمورِ وعمَّ الرقصُ والهِياج. وسجَّلَ القاضي عقدَ الزَواجِ بماءِ الذهب، ثم انهمكَ الجميعُ في الطعامِ والشرابِ والرقصِ والغناءِ حتى الصباح.

أفاقوا عصرَ اليومِ التالي وكانت أولى المفاجآت: اكتشفَ الخدَمُ الأمَّ ميتةً في الغرفةِ التي خصَّها بها شيخُ التجّارِ في قصرِه، وقد اختفى من تحتِ سريرِها مَهْرُ ابنتِها من الذهب. كيفَ اختفى وأينَ ومَن الفاعل؟ لم يعرفْ أحد. وأقبلَ شيخُ التجّارِ وعروسُهُ سمراءُ يتصرّفانِ بكلِّ هدوء، وانتقلَت الأمُّ إلى مثواها الأخيرِ في موكبٍ صغيرٍ صامت.

××××

تمضي الأيامُ والشهور، وشيخُ التجّارِ يحلُمُ بأن يعيشَ في سعادتِهِ هذه ألفَ عام. أمّا عروسُهُ فكانت تنتظرُ موتَهُ باليومِ والساعة، كي ترِثَ من ثروتِهِ الهائلةِ حِصّةً ضخمة. وطالَت أحلامُ شيخِ التجّارِ وطالَ انتظارُ سمراء، وصارَ صبرُها يتضاءلُ يوماَ بعدَ يوم.

وأخيراً قرّرَت أن تعجِّلَ النهاية، فأولَمَت لأصدقاءِ زوجِها المقرّبينَ وليمةَ عَشاءٍ فخمة، وقدّمَت لـه الطعامَ والشرابَ بيدِها، واشتركَت مع المغنّياتِ في الغناء. فجأةً شهقَ العجوزُ وماتَ دونَ أن يعلَمَ أحدٌ بالسُمِّ الذي وضعَتهُ خِلسَةً في كأسه.

تخلّصت منه دونَ أن يتّهمَها أحدٌ فقد كانَ منذُ سنواتٍ على أعتابِ الموت، وبدَت وفاتُهُ طبيعيّةً أمامَ أصدقائه.

××××

ثريّةٌ حسناءُ في أوَّلِ الشبابِ فهل يتركُها الطامعون؟

بدأَ التجّارُ يحومونَ حولَها ويتقرّبونَ إليها، لكنّها كانت تحلُمُ حلُماً أبعدَ وتطمحُ طموحاً أعلى فأعلى. ولم تمضِ شهورٌ قليلةٌ حتى تزوّجها أميرُ صنعاء، وكان شابّاً طائشاً متهوّراً متفرّداً بِحُكمِه، لا يتّخذُ وزيراً ولا يشاورُ حكيماً، ولا يحسُبُ للناسِ أيَّ حساب.

أمّا سمراءُ فكانت تشعرُ بالرضى لأنها بلَغَت درَجةً عاليةً في دَرَجِ طموحِها، لكنّها تفكّرُ وتخطِّطُ خططاً خبيثة، كي تصعدَ الدرجةَ الأخيرةَ إلى الذِروة، إلى قِمّةِ القِمَمِ والمجدِ العظيمِ ولو بأيِّ ثمن. أن تحكُمَ كلَّ اليمنِ وتكونَ ملِكة.

وكانت تعرفُ أنّها إن دبَّرَت مِيتةَ الأميرِ فسوفَ يرتابُ فيها الجميع، ولن تتركَها الأسرةُ المالِكةُ في القصرِ لحظةً واحدة. فلجأتْ إلى طريقةٍ مألوفةٍ في قصورِ الحكّامِ المتسلّطين، الذينَ إن عجزوا عن الوصولِ إلى الحكمِ بالقوّةِ وصلوا بالوِشاياتِ والأكاذيبِ والمؤامراتِ والاغتيالات، فلا تخلو قصورُهم أبداً من اغتيالٍ أو مؤامرة.

بدأت سمراءُ توَسوِسُ لزوجِها بالليلِ والنهار، وتملأ رأسَهُ بالطمعِ في عرشِ أخيهِ أميرِ تَعِزّ. وما كانَ زوجُها بحاجةٍ إلى كثيرٍ من الإغراءِ والتحريض، فهو نفسُهُ وأخوهُ وأبوهُ من قبلِه، نشَؤوا وعاشوا في سلسلةٍ من الصراعاتِ الداميةِ على المالِ والسُلطة.

وعلى ضِفّتي وادي زُبَيدٍ بينَ صنعاءَ وتعِزّ، حشدَ الأميرانِ جيشيهِما، ثم التقيا بسيفيهِما، وكانت سمراءُ قد أعدَّت قاتِلاً مأجوراً ليقضي على المنتصرِ منهما.

انتصرَ أميرُ تعزَّ قاتلاً أميرَ صنعاء، فعاجلَهُ القاتلُ المأجورُ فقتلَه، فامتشقت سمراءُ سيفَها وصرخَت بالثأرِ من القاتل، فتكاثرَ عليهِ الجنودُ ومزّقوه، وبرزَت سمراءُ بينَ الجيشينِ مدافِعةً عن الحقِّ والعدالةِ وأعلنت نفسَها وريثةً للعَرشَينِ وملِكةً على عُمومِ اليمن.

××××

حكمَت سمراءُ اليمنَ خمسَ سنوات. ملِكةً مُطاعةً مطلَقَةَ السُلطة، لا يعارضُها أحدٌ ولا ينازِعُها العرشَ أحد. لكنّها تعاني مشكلةً في نفسِها جعلَتْها دائمةَ الصمتِ والقلق.

كانت كلّما مرَّ عليها يومٌ جديدٌ زادَ شكُّها فيمَن حولَها وخوفُها من الاغتيال. ويوماً بعدَ يوم، أخذت تبتعدُ عن رجالِ القصرِ وقادةِ الجيش، وتبدِّلُ خدَمَها باستمرار.

كلّ تدبيراتِها لم تحملْ إليها الطمأنينةَ وراحةَ البال، صارَت عصبيّتُها تزدادُ يوماً بعدَ يوم، وشهيّتُها للطعامِ تضعُف، وجسمُها يَهزُلُ وتتلاشى قواه، حتى صارت جِلداً على عظمٍ وهيكلاً عصبيّاً نحيلاً دائمَ الارتعاش. أمّا عيناها البرّاقتانَ الأعجوبتان، اللتانِ دوّخَتا كبارَ قومِها وأوصلَتاها إلى قِمّةِ الشهرة، فقد غارتا في مِحجَريهِما، واستقرَّ فيهِما بريقُ الرعبِ والجنونِ بعدَ بريقِ الروعةِ والجمال.

كان آخرَ تدبيرٍ أوحى بهِ خوفُها من الاغتيال، أن ربَّت مجموعةً من أشبالِ النُمورِ في غُرفةِ نومِها وقاعةِ العرش. صنعَتْ لها أقفاصاً مَطليّةً بالذهب، وصارت تطعمُها بيدها وتداعبُها وتتحبَّبُ إليها، حتى اعتادَت عليها النمورُ وصارت تسرحُ في قاعاتِ القصرِ كالقِطَطِ الأليفة. وكانت تحبِسها في النهارِ وتُطلِقُها في الليلِ بعدَ أن تتأكّدَ من إغلاقِ أبوابِ القصرِ الخارجيّةِ والداخليّةِ كلِّها. عندَها فقط كانت تأمَنُ وتنام.

××××

في ليلةٍ من ليالي الشتاءِ كانت نهايةُ سَمراءِ اليمَن. كانت السماءُ تتمزّقُ بالبُروقِ والأرضُ تتزَلزَلُ بالرُعودِ والأشجارُ تتقصَّفُ بالعاصفة. أمّا الأمطارُ القارِسةُ البَرْدِ فكانت تنصبُّ غزيرةً ثقيلةً صاخبة.

في تلكَ الليلةِ أثناءَ العاصفة، ضحِكَت سمراءُ أوّل مرّةٍ منذُ تولّت عشرَ اليمن. قفزَت من سريرِها وهي تقهقه، وبدأت تفتحُ نوافذَ القصرِ وأبوابَهُ وتُطلِقُ النمورَ من أقفاصها وهي مستمرةٌ في القهقهة.. ثم خرجَت من القصر في ثيابِ النومِ الرقيقة، وأخذت تجري في سوادِ الليلِ وسطَ عناصرِ العاصفة.. تتعثّر وتتخبَطُ وتسقطُ ثم تنهض.. يُبهِرُها البرقُ تارةً وتارةً يُعميها الظلام.. حتى سقطت أخيراً ونامت نومَةَ الأبَد. لقد أرادَتِ المجدَ بأيِّ ثمن، فكان الثمنُ ضحاياها في البداية، ثم سعادتَها وروحها ذاتها.

 

أضيفت في 06/03/2006/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية