أُسوةً بالبطاريق
إذا كانَ انتحارُ البطاريقِ على حافةِ ذلك الجرفِ تضامناًُ مع من سقطَ منها
سهوا ً , مع من كان تضامُنهُ , لينتهيَ تلك النهاية .... لتؤولَ حياتُهُ
إلى ما صارت عليه بعدما كان ذلك القائدُ الذي حين تم َّ سجنُهُ , لهفوة ٍ
صغيرة له في قطعته العسكرية , رفض الإفراج عنه والذهاب من دون رجاله
.....!!
وهناكَ بين جدرانِ السجنِ العالية , أخذ يبني سورا ً .... قرأت ُ ذلك في
دفتر مذكَّراته ِ فيما بعد , لم أكن أعلمُ الكثيرَ عن الأسوارِ أو ما
السورُ الذي كان يعنيه , كل ما فهمته منه هو أنه ُ كان دائما ً يردّد بين
الفينة والأخرى قولاً هو الآخر كان غامضا ً بالنسبة لي, ولم أكن أفهم ما
الغاية منه فقدكان يقول: (( على المرء أن يكون فخورا ً بنفسه أولا ً .... و
أنَّ أعظم النُصُب التذكارية للشهداء ليست من الرُّخام بل هي من وسط
الغابات.... ولم علينا
أن نموِّت َ أنفسنا إذا لم يكن لموتنا دويّا ً صامتا ً ...؟ ))
عرفته ُ منذ ُ عدة سنواتٍ, كان كل َّ شيءٍ باستثناءِ رجلٍ بسيط ٍأو
عابثٍ...
لا زمتُهُ في معظم أوقاته ... رجلٌ شديدُ الاعتدادِ بنفسه, وقورٌ لم
تحوِّلُه ُ وحدتهُ التي كان يعيشها إلى رجلٍ فارغِ المحتوى, يرتادُ أماكن
لا يجب ارتيادها للقضاء على وحدته, أو القيام بسلوكياتٍ غيرِ لائقةٍ...
إنما حاول استثمارَ كلَّ لحظاتهِ وأيامهِ, ما راهن يوما ً على نفسه كي يربح
شيئاً آخر
يقينُهُ بالقادم من الأيامِ كان مبعثُ تفاؤل ٍ دائم ٍ لي , وهذا النوعُ من
اليقين لا ندركه ُ إلا مرة ً واحدة في حياتنا.... و لأن الحياة هي التي
تبلورُ فينا الطبائعَ.... فقد تعلَّمت ُ منه الكثيرَ الكثيرَ وجعلت ُ ما
تعلمته ُ بمثابة شعاراتٍ لحياتي فيما بعد...
رجل ٌ شديد التعلقِ بلوحاتهِ التي كان لاينفكُ يُذيِّلُها بتوقيعِهِ الذي
لم يكن سوى خطاً مستقيماً يلويه من النهاية, ثم يجعلُ نقطةً في نهاية
الالتواء .....
سألتهُ ذات مرّةٍ عن هذا التوقيع ِالغريبِ من نوعهِ , كان حينها ثملا ً
..!! فقد كانت ليلةَ اكتمالِ عام ٍعلى رحيلِهم عنه ُ ..... فأجاب :
أنت تسيرُ مستقيما ً ثم لا تجدُ نفسَكَ إلا وأنك تحيدُ عن استقامتِك دون أن
تدري, وحين تدُركُ ذلك لابدَّ من نقطةِ نهايةٍ لذلك الالتواء......!!!
وذات يومٍ طرقت ُ عليه الباب, و إذا به يلملمُ أشياءه وكتبه ُ فسألته ُ عن
وجهته رد بصوتٍ يشبهُ الهمس: تطوَّعت ُ في أكاديمية حربية (( ثمة ما يجبُ
على القلوب والعقول الولاء له ....))
وإذا لم يكن ولاءُك للوطن بالدرجة الأولى لمن سيكون....؟
و لأنه يجب تذكيرُ الآخرينَ بالحسناتِ التي فعلوها وليس بالسيئاتِ, أخذ
يحرِّضُني على اتخاذِ قرار ٍ مماثل ٍلقرارِهِ, مذكِّرا ً إياي بحسناتي
وبشخصيتي التي يراها قياديةً.
إلا أنني أنهيت ُ الحديثَ بأنني سأفكِّر فيما بعدُ في هذا الموضوعِ.
أصبحت زياراته ُ قليلةً , وتحوَّلت إلى زياراتٍ نادرةٍ فيما بعد , فقد
أعلنَ الولاءَ التامَّ , حتى ارتقى إلى مرتبةِ القائدِ .
رسائله إليَّ لم تكن بالرسائلِ الاعتياديةِ التي يتداولُها الأصدقاءُ , فكل
رسالة كانت ملحمةً صغيرة ً, ووصيةً جاءت في صيغةِ رسالةٍ .
كدَّستُها جميعُها لأنني كنت ُ أعودُ إليها من وقت ٍ لآخرَ....
أذكرُ آخرَ رسالةٍ بعث َ بها إلي.... جعلتني أشعرُ بالاشمئزازِ من هذا
العالمِ الفسيحِ الذي نعيش فيه ونعيشُه ُ ....
حينها تذكَّرت ُ تلك المعلومةَ التي كان يرددُها دائما ُ على مسامعي والتي
يتحدثُ فيها عن تضامنِ البطاريقِ مع بعضها حينما تُقدِم ُ إحداها على
الانتحارِ أو السقوطِ سهواً , ثم أدركت ُ بأنَّه اختارَ نهايةً ما ...؟
يقول تشارلز ديكنز : (( حتى الشمامسة قد يفقدون مؤقتاُ بتأثير من حافز
مفاجىء قوي السيطرة على أعصابهم وينسون وقارهم الشخصي ...))
هذا القديس ُالذي غدا كبناءٍ قديمٍ منهار فقد فعلت شروخُ الصبا فعلها حتى
تحولت إلى شقوقٍ وتصدُّعاتٍ آنَ لها أن توديَ بذلك البنيانِ الذي كان ذاتَ
يومٍ مثالاً ًللمتانةِ والصلابةِ.
وكأوراقِ الشجرِ عندما تهب ُّعاصفةٌ عاتيةٌ تتساقطُ الواحدةُ تلو الأخرى ,
أو كأنما الحياةُ سقطت من شاهقٍ وتناثرت شظاياً ومزقا ً وجدتُه في زيارتِه
الأخيرةِ حين بادرني بهاتفٍ يطلبُ رؤيتي على الفور ...!
كنت ُ حينها داخلا ً لتوِّي إلى المنزل , فإذا بجرس الهاتف يرنُّ , وإذا به
يقول : أوقف كل َّ عمل وتعالَ عاجلا ً إليَّ ..!
هل من شيءٍ ضروريٍ قلت ُ له... لكنه أنهى المكالمةَ وما كان منَّي إلا أن
أعود أدراجيَ وأفتحَ البابَ مجددا ً بعد ما دخلتُه غير مصدقٍ بأنني وصلت ُ
إلى البيت لأنعمَ بشيءٍ من الراحةِ بعد يومٍ شاقٍ وطويل ٍ.
خرجت ُ مسرعا ً و أوقفت ُ إحدى سياراتِ الأُجرةِ الكثيرةِ التي أصبحت
كقوافلِ النملِ تعملُ دون كللٍ أو مللٍ , وطلبت ُ من السائق التوجُهَ إلى
الحيِّ الشماليِّ بأسرعَ ما يمكن .
وهناك نزلت ُ من السيارة بأقصى سرعةٍ ممكنةٍ وصعدت ُ الدرجَ بقفزاتٍ طويلةٍ
, وأخذت ُ أطرق ُ البابَ بكلتا يدي , بعدَ طولِ انتظارٍ فتحَ ليَ البابَ
فإذا به غيرَ الذي كنت ُ أعرفُهُ....!!
أدارَ ظهرهُ وسارَ بخُطى بطيئةٍ حتى دخل إلى غرفته ِالتي كانت تشبِه ُ
مستودعا ً لحالةِ الفوضى التي رأيتها...!!
كتب ٌ هنا وجرائدٌ هناك ملقاةٌ بطريقةٍ تثيرُ الاشمئزازَ, وصورٌ تناثرت في
جميعِ أرجاءِ الغرفةِ, كلَّها تضمُّ لقطاتٍ متنوعةٍ لولديه وزوجته...
رأيت ُ بعضَها ملطَّخا ً بالنبيذِ الذي كان يرتشِفُه ُ بين الفينةِ والأخرى
وعلى إحدى زوايا المنضدةِ الخشبيةِ الجاثمةِ في زاويةِ الغرفةِ لمحت ُ موسا
ً للحلاقةِ , لم أُعِره ُ أيَّ اهتمام ٍ, يقينا ً مني بأنهُ نسيَه ُ هناك ,
فكلُّ ما بالداخلِ كان يستدعي الذهولَ والألمَ ومن ثَمَّ عدمَ الاكتراث ِ,
لأنني طالما وجدتُهُ في حالاتٍ مماثلةٍ ولكن هذه كانت أشدُّها لفتا ً
للانتباهِ , ومع ذلك لم يتبادر إلى ذهني بأنهُ إنما نصب لذاتِهِ مقصلةً
....!
مقصلةٌ تنمُّ عن الحالة التي كان يعيشها بصمت ... لينهيَ بذلك الفصلُ
الأخيرُ من المسرحيةِ التي هجرها الممثلونَ ولم يتبقَّ سواهُ على ناصيةِ
المسرحِ.
كانت عيناهُ تبرقان تحت خِصلاتِ شعره المتناثرةِ على جبينِهِ كقطعتي حطبٍ
تحت الرمادِ....؟
نارُ اليأسِ تظلَُُّ تُحرقُ الأخضرَ واليابسَ حتى يصابَ الناسُ بالهلع
فيهربون وقد تُحيلُ إنسانا ً ما إلى قاتل, ولكن إلى قاتل نفسه وليس
الآخرين....
تحدَّث بصوت ٍ أشبَهَ بالصمتِ وقال: أنتَ وحدك تعلمُ كم كانت معركتي عصيبة
ً... وكم أحرقتُ من مراحلَ حتى يتسنَّى لي إثباتُ جدارةٍ بهذه الحياة
أولاُ.... ومؤخَّرا ً حاولت ُ نسيانهم بالانغماس في الولاء لأعمالٍ ومهامٍّ
للكليِّة , أنا لا أنكرُ بأنَّ الدافعَ الأساسيَّ للتطوّع كان بلورةً
للمبادئ , ولكنها كانت أيضا للتخلُّصِ من حالة الوحدة التي فتكت بي َّ حتى
حوَّلتني على حد قول أحدهم إلى (( بناء قديم منهار )) ولكن ثمة من يرحلون
ويأخذون معهم تفاصيل حياتنا .
وهنا وهو يتابع حديثَه ُ لمحت ُ قولاُ لابن منصور الحلاج كان قد كتبه على
صفحةٍ بيضاءَ بخطٍّ كبيرٍ وجميلٍ:
)) الاتحاد بالإله يتم عبر الحبِّ الذي يحوِّل الكيان ويرفعه إلى مقام
أسمى)
ثم تابعت ُ الاستماع إليه وهو يقول كانوا كلَّ ما أملك والآن وقد رحلو ا
فماذا عساي أن أفعل .
وبعد ذلك رأيته ينهص بتثاقلٍ ليدلُف إلى المطبخ ويُعدَّ لنا القهوة , طلبت
ُ منه أن أُعدَّها أنا مبرراً ذلك بأنه ليس على ما يرام .
وحين عُدت ُ حاملا ً القهوة, فإذا بأبصاريَ تقع ُ على بطل المسرحية غريقاً
في دمه ِ .... وبذلك أنهى المسرحية, ولكن لم يصفق له الجمهور....!!!!
الغروب من
جهة الشرق
(الإنسان يواصل مجده وخلوده عبر الحب)
أراغون
الحزن ذهول ..... أم الذهول حزن موشّى بنظرات وحدها تعي ما تكنّه ..
وتقدم نشراتها في صمت كان للبحر, حين خيّم البعد على إسفلت المسافات.
وحده ... عويل الليل ِ صاخبٌ..... ينبعث من لآلئهِ الدّاجنة التي تغفو على
سطوح المنازل ... حيث التأوهات الثكلى ...!!!
ذات خريف أشبه بلحظات الاحتضار ... في بقعة تحوم في فضائها أسراب القبّرات
الصامتة .... التقت نظراتنا وكانت دهشتي حين بادرتني بحلم :
سأصعد بكِ إلى قمة الهرم .... الهرم ..... نعم هرمٌ غير ُ بائن ٍ لا وجود
له في دنيا البشر..؟
وأنا لما اندفعت ُ أتأمّلُ نظرتك تلك .... ألم تكن ترتدي لبوس الطهر ..؟
هل كانت نظرة ً لعاشق ٍيبحثُ عني منذ سنين , هكذا قلتَ لي فيما بعد:
بأنك وجدتني .... وأني اكتشفتك َ ... اكتشفتُ فيك ذلك المارد الغافي .. ثم
صارت أيامي حدادا ً... ليس بحداد من فقد عزيزا ...!
إّنما حدادُ انتظارِ لحظاتٍ تعلن أنت فيها حنينك ورغبتك في رشف الربيع
النديّ الذي كان يزخر به عمري ... سنيني التي أملكها صارت ملكا لك ..
لماذا وهبتك ما مضى من عمري .. وطوّبت لك َ القادم منه ُ على صفحات بيضاء
دون شروط ...!!
انغمست في دنياك حتى ثملت لحظاتي , وضاق صدري الصغير بحبك ... لكم اشتهيتك
في الفجر ... تلامس بأناملك الهرمة وجهي ....وحين تلامس الشمس الأثلام
الفضية لغيمات الخريف , رغبتُ بالهرولة ِ معك في دروب ٍ ضيقة ٍلم تطأها قدم
إنسان .... وحين كانت الشمس ترفع لنا قبعتها الحمراء بانحناءة رجل ٍ وقور
يعلن الرحيل كنت ادعوك لوليمة الليل ... !!!
لتمارس مع الفراشات متعة الدوران .... متعة الطواف حول النور ... كنت
ادعوك لتطفىء الحرائق فيَّ....!!
هكذا أمضيت معك أشهري الأربعة ... أعوامي المئة ... دهري الهرم ...!
ثمَّ ... دون استئذان .... وبهدأة ريح ٍ ستؤول عاصفة ... حزمت الأمتعة
حقائبك كانت كبيرة ... عديدة .. حين فتشتها لم أجد فيها كلّها سوى أعواد
مشنقة ... وحجر ذبح ٍ كبير وكاتم أنفاس أشبه بمسدس كاتم للصوت .. أطلقت
الرصاصة ومضيت ...
والآن .... لما ستعود ... ستعود .. لا لن أعود أنا ....!!!
أية صلاة ستعيدني إليك بعدما استحالت صلاتك مقصلة ... ذبحتَ على رحاها آخر
أوصالي ....!
يا رجلا ً تزنّر موتي في صلاته ... أما كنت ناسكا ً ادعى صلاة الغفران ثمَّ
قدَّمَ رأسي قرباناً لشهوة اللعنات .....
في لقاءنا الأول استسلمت الأبالسة الداجنة على شفتي القرمزيتين .... لماذا
نازعت ...احتضرت ... ولم تبد ِ حراكا ً لما دهمتها...؟؟؟
هل كنت تزخرف لي الأحلام ... ؟
ألم أكن امرأة أغرقتها رامات الماء في طلاسم الليل , ثم جاءت الشمس وتبخرَّ
الماء غيمة تهرول فزعة من لهيب ٍ تنفثه من صدرك...!!
وكانت جثّتي تندلق ُ في تشققات الأرض التي استحالت أفاع ٍ برؤوس أسطورية
سبعة ...!
ورصعّتَ نعشي بابتساماتك ...!
كيف استحالت العهود أكاذيب تنثرها غيمات الخريف الهائجة مع هبّة كل عاصفة..
ألم تكن أنت نفسك تتعطّش لرشف قطرات ندى الفجر من نهديَّ القبَّتين وتهزُّ
رأسك بالنفي .. لا...لا أرتوي.
كانت أنوار بيتي خافتة حين كنت تجيء , وأنا كنت أجمع كل ما لديَّ من شموع
أوقدها في تلك الزاوية .... ثمَّ حملتني أثقل الأعباء ...؟
أنا التي ذات صباح كنتُ (( حيرا العظيمة )) سيّدة الأولمب أتفاخر
بصولجاني , وبذؤابات ثوبي الطويل الموشّى بنجمات الخلود ...
لماذا صببت عليَّ لعنة ((زيوس)) ليكون غرامك في قلبي عبئا ً ثقيلاً عليَّ
لا يحتمله قلبي الضعيف , وأظلُّ أسكن مفارق الدروب المؤدية إليك ..
ليلة الأمس عاودني ذلك المنام المقيت .. كان فيما مضى حلمي الوحيد أن أرى
مناما ً ثم أستطيع أن أتذكره واتلوه في الصباح ..... والآن صارت تتوالى
عليَّ كهجمات التتار دون رأفة ...
أول مرة نهضت ُ مذعورة أتألم كما الملدوغة بناب أفعى سامة في جحرها حين
رأيتك لأول مرة حليق الذقن ....!!
ثم جاء المنام الثاني بعد أيام معدودات وكنت ُ فيه محبورة الصدر منشرحة
وأنا أداعب عيني اليسرى ... فإذا بي اقتلع رموشي كلها ليرحل النور وأهيم في
بطن غابات لا قرار لها ....!!
أمّا ليلة الأمس فقد كان المنام أشد مقتا ً .... أشدَّ هلعا ً وحزنا ً ,
رأيتك تسير نحوي بأسمال بالية وعينين لا أدري كيف أصفهما ... ثم وقفت تحدّق
بيَّ و أنا الجاثمة في تلك الحفرة العميقة أرميك بحصاتي مرارا ً ولا تصيب ,
وأراك هازئا ً بإخفاقي ..!!
بعد ذلك رحت ُ ابحث في كتب تفسير الأحلام عما تعنيه تلك المنامات ,وبعد بحث
ٍ طويل وجدت بأن كلها تتفق على معنى واحد , وهو أنك اخترت الرحيل .
شيء ما يفقد ذاته ... اختل الميزان .. ولا أدري أي الكفتين أرجّح , وأنت
الذي كنت في كلتا كفتي الميزان , مرة وأنت الرجل الذي أحبّ.... ومرّة وأنت
ترحل ..هل أختار ذاتي معك ....التي تفقد ذاتها و أم أختار رحيلك الذي
يفقدني الحياة , ويضعني على حافة الهاوية ...؟
فيا البحر الصامت أفصح عن أسرارك , ولا تدعني أغرق في الزبد ... كانت هذه
أعظم ابتهالاتي ....تضرعاتي للآلهة...؟
لاريب في أن الصمت هو جزء من عاداتنا , لكن صمتك وأنت َ ترحل يروِّض
العواصف فيَّ ..... ويجعل شجيرات توت العلّيق أشدَّ رأفة بأصابع صغارنا
التي راحت تجمع ما نضج منها ويقذفونها إلى أفواههم البريئة بصيحة زهو
وانتصار ...!
عزلتك اليوم هل هي وسيلتك للانتصار ... وعنادك ... أيما عناد هو .. هل
تمغنط العشب تحت أقدام الحجل ...؟
حصاتك يا رجلا ً يمارس نزقه ُ نزق وطء الحصان الجامح ... صقّلها البحر
بأمواجه التائهة ....
حدادي اليوم صار على أنني بدأت أسأم, بدأت أسأم العمر .... بدأت
أشيخ..أهرم... وهذا المر العضال .. يا داء أوصالي .... ولا دواء لي...!!
يقول قطاع الطرق الذين يسكنون مفارق الآند (( قد نفقد ثمة حياتنا لأن الآند
في الشتاء لا تعيد إنسانا ًأخذته ....))
أكان عليَّ أن أفهم بأنك تنتسب إلى تلك الفئة من الجبال التي تمارس سلطانها
في شتاء الفصول , وأنني أخطأت حين اهتديت ُ ببوصلتي إلى شتاءك لأضيع في
صقيع الجبال المنحوتة في تفاصيلك ...!!!
لا غرابة في أن الشيب الذي اشتعل في رأسك مبكرا ً يبعث الهلع في أسارير
وحوش الصحراء ....!!
سمعتهم يقولون بأنه ما أن يغزو الشيب مفارق شعر حتى تبدأ رسائل الإنذار
بغروب شمس الحياة ...و شيبك لا يعني ذلك بل ينذر بأكثر من ذلك
فقد صار حدادك أخرس يحاور ذرات رمال الشواطىء التي خلعت عنها أثواب الخريف
...
أية صلاة تلك التي ستعيدني إليك ....
الآن يا رجل صباحات الجليد ...
إليك بعضا ً من أسراري :بعدما فتحت حقائب رحيلك ووجدت ُ فيها كلَّ ما هو
معدّ ٌلاغتيالي أقول لك : حين كنت َ تحاول سلوي ... تركي في مهب الريح ...
كنت قد نزعتُ الأصفاد عن معصميَّ ... وبدأت يداي َّ تنزعان رائحة عطرك من
أثوابي كلها .... وبقيت ُ أحبك ... لكن دون تواصل ..؟؟
جبال الآند: تسمى كورديير الاند هي سلسلة جبلية كبرى تشرف على الساحل
الغربي من أمريكا الجنوبية طولها 7500كم أعلى ذراها الآكونكاغا 7010م وفي
السلسلة براكين عديدة .
أضيفت
في 15/06/2009/ خاص القصة السورية / المصدر: الكاتبة
الأفخاخ
كانَ مخموراً كبتلاتٍ وسنا في صباحات الصَّيفِ
الحارَّة...... مخموراً بما فيه الكفاية, ليفقد توازُنهُ واتِّزانهُ, كان
خارجاً للتوِّ من جحيم ِالجنادبِ الثَّكلى التي تمارسُ لعبتها مع اللَّيل
بصريرٍ يصرُّ الآذانَ, إنَّها توَّاقةٌ إلى الظّلامِ, كتوقنا لأمَّهاتنِا
في محاراتِهنَّ المذهَّبةِ, حين تغدو إلى السّماءِ ببريق من نور إلهيٍّ
....!
تأرجحَ... ثمَّ تمايلَ........ ترنَّحَ..... وحين
شعرَ بأنَّهُ سيتهادى بقامتِهِ الممتدَّة على الأرض, ويسقطُ مرتمياً على
خاصرتهِ, أو ربَّما سيتعفَّر وجهُهُُ بذرَّات التُّراب التي قد تغوصُ
بعضُها في جبينهِ, فتتركُ علامةً ستزولُ بعد قليلٍ من الوقتِ, انسحبَ من
معركةِ الهزائمِ, متسارعاً ليسندَ ظهرهُ إلى جدارٍ مقابل ٍللحانةِ التي
خرجَ منها.
بدأ العرقُ يتصبَّبُ منهُ.... آنَ لهُ أن يعرفَ كم
غاصَ في عمق ِالانكسارِ.....!!
فقد شعر بروحه مغمورةً, وهل ثمَّة َمجالٌ للتفكُّر
بشيءٍ, وهو هنا على قارعة ِالطَّريق ِالمؤدَّية إلى لا مكان....!!
زحفت به الذّاكرةُ بعيداً..... بدأ يدندنُ أغنيةً...
بدا منقطعَ الأنفاسِ, بحيثُ أنَّهُ كان يلتهمُ أحرف بعض كلمات ِالأغنية,
وحيناً آخر يقفزُ فوق كلمةٍ ثمَّ يعودُ فيلتقطُ أنفاسَهُ من جديدٍ, فيعلو
صوتُه, توقَّف فجأةً نظر حوله, فإذا به وسط غابةٍ من الظّلام الكثيف..
للمصابيح فيه وميضُ يراعةٍ..... الدُّروب مقفرةٌ إلاَّ من أزيز محرِّكاتِ
بعضِ السَّياراتِ. قال في سرِّه: لمَ أنا هنا...؟
نظر إلى ساعته التي كان يضعُها في معصَمِه الأيمن
لسببٍ لا أعلمُهُ, فإذا بها تشيرُ إلى الثَّانيةَ والنُّصفَ بعد منتصفِ
اللَّيلِ.... ظلَّ ساكناً في ذلك الأفقِ الليليِّ....... المزيدُ من
الظَّلامِ.... والسُّكونُ قاتمٌ يصهلُ كحصانٍ جامحٍ... ثمَّ ابتسم َفجأة
كمن يريدُ الإفصاحَ عن أمرٍ ما.... انقلب سكونُه إلى همهمةٍ, وكأنَّهُ في
قاعةِ المحكمةِ أمام َمجلسٍ من القضاةِ مداناً بجرم, يحاول تارةً الدّفاعَ
عن نفسه, وبعدها يعودُ فيعترفُ بجرمِهِ، وإذ بلغة الإثم تنهال اعترافاً:
نعم يا سيدي القاضي... أنا من قتلهُ بيدي هاتين
اللتينِ لم تعرفا يوماً قتل ذبابة أو نملة تدبُّ على جسدي وقد أخطأت
الاتجاه والمكان.... نحن هكذا يا سيدي القاضي مسالمون, أما حينما نقتل
فإننا نحطِّم الرَّأس أولاً, وأنا الذي انهال على رأسه بمطرقةٍ لم يرَهَا
سواي..... صنعتُها على مدى عمرٍ طويلٍ, بدأتُ أنصبُ حولهُ الفخاخَ منذ
صِغَره......
فقد كان فتى عابثاً، لمْ يعرفْ يوماً الالتزام بأمرٍ
جدَّي أو الالتزام بنصيحة, ترك الدِّراسة جرياً وراء عادات سيئة, أولُ
فخٍّ نصبتهُ له كان بأن يكون عنيداً لا يسمع النَّصيحة قلتُ له:
إياك َوالخضوع َلنصائِحِهم, فهم لا ينفكُّون
يتبرَّعون لنا بنصائِحِهم من قممٍ عاليةٍ وبعدها تركته يتنقَّل في هذا
الدَّغل الفسيح, حافياً, حيث كان الفخُّ التَّالي بانتظاره, حين حشوتُ له
البندقيَّة سُمَّاً من تبغٍ, وغلَّفتها لهُ بغلافٍ ثمين وأنيق, وقدَّمتها
له في مناسبتهِ الأكثرَ تفضيلاً, تسلَّمها بأناملهِ المرحةِ, كأناملِ
حوريَّةِ بحر, خرجت تنفضُ عن أهدابها ما تعلَّقَ بها من قطراتِ ماءِ البحرِ
المالحِ...... تنفّس ملءَ رئتيه, ونفثَ الدُّخان دوائرَ دوائرَ, ومضى على
تخوم ِوادي طيفِ العمر تسبقهُ غربة الوريد الذي ضجر من دخانه.
أما الفخُّ الآخر فقد كان مخفياً في غرفة لها سبعة
أبوابٍ من حديد, أقفالُها من حديد, يدير المفتاح الأوَّل فيدخل سرداباً ثم
يليه ِسرداب آخر, وهكذا حتى يصلَ إلى حيثُ اتصالِ عنق ِالدَّهليزِ بغرفة
مضيئة بالشُّموع...... تلفُّ جدرانها شرائطُ حرير ملوَّنةٌ......... وعلى
المنضدة التي تتوسّط الغرفة زجاجةُ نبيذ وكأسانِ فارغتان..... ثمَّ ومن
وراء السِّتارةِ تخرج جنيَّةُ اللَّيل بردائِها اللاَّمع.... ترقص
كالفراشة, يتحرَّك جسدُها على أنغام موسيقا خافتة أُعدَّت خصِّيصا لتلك
الراقصةِ الفراشة.
وبعد أن تنهي رقصتها.... يحتسيان ِالنَّبيذ.... ثمَّ
تبدأ لعبة الليل الطويل...
هذه الفخاخُ وضعتُها كلَّها أمامه, حين خرجَ أولَ ما
خرج من شرنقتهِ, يتحسَّسُ الحياة من حوله, ويبصرُ أوَّل بزوغ ٍللفجرِ من
الشَّرق الأبدي... ولديَّ أكثر من ذلك لأبوح به لكم.....!!
نعم أنا من قتلتهُ, وبعدئذ تركته يمضي كالهائم على
وجهه, حتى وجدتموهُ أخيراً هنا في هذا الليَّل وحيداً فاقداً
الاتجاهاتِ........ على وجههِ صفحةُ بحرٍ يموج بشحناتِ الضَّياع ِ.....!
بعد أن أنهى الاعترافَ بجرمِهِ, نهضَ ونفضَ عن
ثيابهِ الغبارَ, ثمَّ مشى مترنِّحاً حتى ابتلعَهُ الظَّلامُ في آخرِ أفق
ِلطريق ِطويلة.ٍ...
وفي الصَّباحِ تناقلَ النَّاسُ خبراً مفادُهُ:
أنَّهم وجدوا جثّة لرجلٍ متجلِّد.... مجهول الهويَّة ِ....!
أنثاك
ما أنت إلا ورقة في مهبِّ رياحها.. تركضُ بحذائِك
المتهرئ في غابة الرّمل والحصى, تقطع أغصان الشَّجر المصفَّرِّ من حرقة
الشَّمس, تتصببُ عرقاً, ثمَّ تضعُ الفأس جانباً, تلهثُ, تستجدي الرّيح أن
تهبَّ عليك عاصفةً تمحو آثار العرق... تمدُّ يدك َ بيأسِ التَّائه, إلى
قربة الماء على يمينك, تدلقهُا في أحشائك, يتبلَّل قميصك المزركش بالماء...
تزحف نحوك الأحلام, تغمضُ عينيك... تبتسم, إنَّها حواءُ تغويك....
تجاريها بالغواية... تحترق الأوراق من تحتك, تحتلُّ
النَّار غابة روحك وتضمحلُّ الينابيع, فلا ينطفئ ظمأك...
أنثاك بارعة... انسلَّت من قطيعها, استدرجتك
خلفها... جاريتها.. مشيتَ وراءها...
صحراءً عبرت, قفزت فوق دورانات الرِّمال تبدَّت لك
واحة مرجان.. عطشان أنتْ.. ظمآن تركض.. تسرع... ستشرب... نعم ستشرب تقول
بخفيض صوتك... تهرب منك الواحة..
أنت الغازي القادم من وراء الأحقاب.. تلوِّح لها
بوحشية الغائب, الحاضر, التَّائه في غمام الحضارة....!!!
أنثاك واحة تهرب منك....
يتهرأ حذاؤها... تسقط كما سقطتَ, وأنت َ تعدو خلفها
... تقهقه.. هاهاهاها سوف أصل.... أنا أقترب...
تصل لحدِّ أسوارها, تحطم أوَّلَ حجرٍ في جدار
حلمك.....
تمدُّ يدك, تعانق شجر الخوخ, عيناك مغمَّضتان, تبحثُ
عن منبع الماء... قِربتك فرغت من مائها تتسلق بيديك منارة قلعتها...
تصعد... تصعد .. تصل آخر مساحة لوهمك.. تنظر من علوك لأرضٍ وطأتها
غوايةً.... تتزحزح الحجارةُ بين أصابعك... فتسقط تسقط من علوِّك...
أنثاك أرْدَتكَ قتيلاً...!!!!!
وراء التلَّة
فيما كان الحاج صالح ينظر بإمعان إلى الدَّجاجة التي
كانت تتراقص, باحثة عن روحها التي أزهقها الحاج بحدِّ سكِّينه, لتقدِّمها
زوجته, وجبة غداء فاخرٍ مع صحن من البرغل, ستدلق عليه بقايا المرق
والسَّمن, كانت القطّة نذير الشُّؤم تحوِّم في الفناء تتربَّص بجثتها
المغتالة....
أخذت تموء وتموء, تدور حول نفسها ثم حول المكان,
تقترب وتبتعد, وقد اتَّسعت حدقتاها تبحث عن طريقة تختطف بها الرَّأس أولاً
ليتبعه كامل جسد الغنيمة, لأنَّ الحاج بعد أن ذبحها لم يفصل الرَّأس عن
الجسد, وهذه الطَّريقة تقليدية قديمة, لا أعلم ما مفادها... كل ما أعلمه و
هو أنَّهم يوجِّهون رأسها نحو القبلة مقبضين بيد على الرَّأس, لتظهر
الرَّقبة جليَّة, وباليد الأخرى السِّكين, ويكفي أن يكون النَّحر بالوريد
ثم جزء من الحنجرة.
تلوى الرَّقبة إلى الخلف, لتتصدَّع عظامها متهشمة,
محدثة طقطقة, حتى يتأكد من أَّنه أجهز عليها كلياً.
في هذه الأثناء تناهى إلى مسمعه صوتٌ أجشًٌّ من خلف
السُّور الذي تماسك بقدرة قادر....
حاج صالح... أين أنت يا حاج صالح
يردُّ عليه الأخير:
أما زلت خارج السُّور, هيا ادخل, ما الذي جاء بك في
هذا الصَّباح الباكر يا فتاح يا عليم يا خلف...
ألا تعلم بأنَّ اليوم موعدنا لوضع حدٍّ لذلك الرجل
وعلينا أن نجتمع جميعنا من أجل ذلك, قال خلف..
دلف خلف متمايلاً في مشيته, يجرُّ خلفه عكَّازه
عوضاً عن الاتّكاءعليه..
ما زالت جثَّة الدّجاجة في ساحة الدّار, نظر إليها
ملياً ثمَّ قال:
أتعلم يا حجي إننا نزهق أرواح هذه الكائنات توحشَّاً
ولكن والله لحمها لذيذ, ولا غنى لنا عنه ثمَّ تمتم: حين يحين موعدي مع
التراب سأقدم لله روحا طازجة لا رائحة لجسدي فيها..
خلف فيما مضى كان شابًّاً, يجوب ألف مغارة بين فترة
العشاء وحتى ساعات الفجر الأولى, ثمَّ يعود إلى بيته وقد أعياه التَّعب,
لكنه يظهر عدم الاكتراث, تباهياً أمام زوجته الجميلة التي حصل عليها عنوة
من بين مخالب والدها الجّشع ساخراً من كل من تقدَّم إليه بنصيحة مفادها:
إنّها (سيفي) وما أدراك ما (سيفي) التّفاحة التي
استعصت على كل من تقدَّم لاقتطافها, جمالها كالخمر المعتّق الذي يتحسَّن مع
مرور الزمن....
تدخلك هاويةً لا قرار لها, حين ترمقك بنظرة فاحصة,
من تلك العينين اللتين اشتدَّ بياضهما وسوادهما, فبانتا كعيني لبؤة,
تتَّقدان شرَّاً, محدثة عاصفة أفعوانية, لدى شعورها بخطر يحدق بها, وحين
الوداعة تبدوان لك جوهرتين تلجهما زحفاً وتلمس حبَّات الخرز التي تشابكت
فامتزجت ألوانها لتؤلِّفهما.....
تزوجها خلف وأدخلها بيته, مضى على ذلك ثلاثون عاماً,
مع ذلك ما تزال تلك الـ (سيفي) كسابق عهدها لم تتغير, ولم تسلم على مرّ
السنين من ألسنة النّسوة اللواتي يرمقنها بحقدٍ حين يرينها بصحبته, وقد
اعتلت الابتسامة ثغرها, تتنامى ابتسامتها عن رضاها على عيشها في كنف هذا
الرجل الذي لم يخذلها يوماً, وظلَّت تحصِّنهُ كالقلعة المنيعة.
طلب الحاج من خلف الجّلوس, لمعرفة ما عزموا عليه وهو
الذي كان حاضراً دائماّ, مع أهل القرية متضامناً معهم في كلَّ أمورهم.
يكفيه أن يعلم بأنَّ هناك أمر ما, ولابدّ من
الانخراط جميعاً فيه فيكون هو المتقدِّم الأول.
نادى على ابنته ( خانم ) نريد شاياً ...
صوتها ناعم كهسيس العصافير في صباحات الرّبيع
الأقحوانية .....
في الحال يا أبي ... ردّت خانم.
أتعلم بأنَّ هذا ابن الـ (.....)سيكون سبباً في
إفلاسنا يوماً ما...
يعلم بأنَّه بدافع من أخلاقنا الكريمة, وحفاظنا على
كلمتنا, لا نتعامل مع غيره من التُّجار لشراء محصولنا واستئجار حصادته التي
أصبحت كقطعة خردة بالية, ومع ذلك فإننا نسلِّم رقابنا لها لتحصدها واحدة
تلو الأخرى.
ليلة أمس اتفقنا أن نذهب إليه, ونناقشه بالأمر, إلى
متى سيظل يسرقنا.
جاءت( خانم ) بالشاي قدَّمته ثمّ انصرفت, دون أن
تتفوه بكلمة واحدة ...
شربا الشاي المختمر, على عجل ثمَّ انصرفا إلى حيث
يكون الاجتماع.
كان من المفترض أن يكون التّجمع في البيدر الذي يقع
خلف تلَّة القرية من جهة الغرب...
تحدَّثا طويلاً, تارة وعيداً، وتارة أخرى تذمُّراً
من مجرى الأحداث اللاحقة, حتى أنَّهما تخيلا بأنَّ كلَّ شيء بات على ما
يرام, وأنَّ ذلك المرابي قد خضع لمطاليبهم, بفضل تلك الجمهرة أمام باب بيته
الحديدي.
وصلا أخيراً إلى المكان الذي بدا فارغاً بكلِّيتهِ,
أنا لا أرى أحداً قال الحج صالح الذي ارتسمت على وجهه علامات الغرابة...
أين هم الباقون, أنت قلت بأن الجميع سيكون هنا في
هذه السّاعة...
كان على خلف أن يسيطر على الوضع بتأفف غاضب أراهن
بأنَّهم مازالوا مع زوجاتهم في السرير..
سننتظرهم, تعال نجلس على هذه الصخرة.
جلسا على صخرتين متقابلتين, السَّاعة كانت تشير إلى
التَّاسعة حين نظر إلى ساعته.
تحدَّثا مطولاً, تذكَّرا أيَّام الشباب, عرَّجا على
الوضع السياسي الذي كان يسود البلد...
اختلفا وراء تلك التلّة, فكل منهما ينتمي إلى تيار
معين توارثه عن والده, كما يتوارث الأبناء الآباء في ممتلكاتهم.
عقارب السَّاعة تدور بلا هوادة, إنَّها تشير إلى
الحادية عشرة.
خلف بالله عليك ربَّما أخطأت في مكان التّجمع, أو
ساعة اللقاء, قال الحج صالح بتأفف, ألا ترى بأنَّنا مازلنا هنا وحيدين....!
لا أدري ماذا أقول لك ولكنّني أقسم بأننا كنَّا عشرة
رجالٍ, اجتمعنا في بيت (سليمان درويش) واتّفقنا على أن نجتمع صباح هذا
اليوم, في هذا المكان ثمَّ ننطلق منه إلى ذلك المرابي.
انتصف النَّهار, أصبحت الشَّمس في منتصف الفضاء
السَّماوي.
نهض الحاجُّ من مكانه بتثاقل, هيا يا خلف لنمضِ إلى
بيوتنا, فأنا أكاد أشتمُّ رائحة الدجاجة التي ذبحتُها من هنا.
ما رأيك أن تتناول غداءك معنا اليوم, أنت تعلم بأنّ
أختك أم سربست تبذل جهدها ليكون الطعام شهيَّاً وخاصة الغداء, إنّها تؤمن
ولا أدري من أدخل الفكرة في رأسها (بأنَّ أسهل طريق للوصول إلى قلب الرجل
هي معدتهُ) مع أنني أحبُّها ولكنّها دائمة القلق حيال هذا الأمر.
يلفُّ شحوب الموت خلف, لقد أصبح مثل بلبل حائرٍ, لا
يدري أين يحط, يخشى إذا ما أقفل راجعاً أن يأتي الآخرون ولا يجدونه... وإذا
مكث هنا أيضا, أن لا يحضر أحدٌ, والشَّمس لهيب يفرش السّماء, ثمَّ غدا
أخيراً كهرَّةٍ على سطح صفيح ساخن, التهب غضباً وغيظاً وهو يقول:
منذ متى كان لنا اتفاق حتى نتفق اليوم, ثمَّ لفظهما
البيدر وأقفلا عائدين, كلٌّ منهما إلى بيته, ظلَّ الباقون منشغلين بأمور
ربَّما كانت أهمّ من ذلك...
أراغون
الغروب
من جهة الشرق (الإنسان يواصل مجده وخلوده عبر الحب)
الحزن ذهول ..... أم الذهول حزن موشّى بنظرات وحدها تعي ما تكنّه ..
وتقدم نشراتها في صمت كان للبحر, حين خيّم البعد على إسفلت المسافات.
وحده ... عويل الليل ِ صاخبٌ..... ينبعث من لآلئهِ الدّاجنة التي تغفو على
سطوح المنازل ... حيث التأوهات الثكلى ...!!!
ذات خريف أشبه بلحظات الاحتضار ... في بقعة تحوم في فضائها أسراب القبّرات
الصامتة .... التقت نظراتنا وكانت دهشتي حين بادرتني بحلم :
سأصعد بكِ إلى قمة الهرم .... الهرم ..... نعم هرمٌ غير ُ بائن ٍ لا وجود
له في دنيا البشر..؟
وأنا لما اندفعت ُ أتأمّلُ نظرتك تلك .... ألم تكن ترتدي لبوس الطهر ..؟
هل كانت نظرة ً لعاشق ٍيبحثُ عني منذ سنين , هكذا قلتَ لي فيما بعد:
بأنك وجدتني .... وأني اكتشفتك َ ... اكتشفتُ فيك ذلك المارد الغافي .. ثم
صارت أيامي حدادا ً... ليس بحداد من فقد عزيزا ...!
إّنما حدادُ انتظارِ لحظاتٍ تعلن أنت فيها حنينك ورغبتك في رشف الربيع
النديّ الذي كان يزخر به عمري ... سنيني التي أملكها صارت ملكا لك ..
لماذا وهبتك ما مضى من عمري .. وطوّبت لك َ القادم منه ُ على صفحات بيضاء
دون شروط ...!!
انغمست في دنياك حتى ثملت لحظاتي , وضاق صدري الصغير بحبك ... لكم اشتهيتك
في الفجر ... تلامس بأناملك الهرمة وجهي ....وحين تلامس الشمس الأثلام
الفضية لغيمات الخريف , رغبتُ بالهرولة ِ معك في دروب ٍ ضيقة ٍلم تطأها قدم
إنسان .... وحين كانت الشمس ترفع لنا قبعتها الحمراء بانحناءة رجل ٍ وقور
يعلن الرحيل كنت ادعوك لوليمة الليل ... !!!
لتمارس مع الفراشات متعة الدوران .... متعة الطواف حول النور ... كنت
ادعوك لتطفىء الحرائق فيَّ....!!
هكذا أمضيت معك أشهري الأربعة ... أعوامي المئة ... دهري الهرم ...!
ثمَّ ... دون استئذان .... وبهدأة ريح ٍ ستؤول عاصفة ... حزمت الأمتعة
حقائبك كانت كبيرة ... عديدة .. حين فتشتها لم أجد فيها كلّها سوى أعواد
مشنقة ... وحجر ذبح ٍ كبير وكاتم أنفاس أشبه بمسدس كاتم للصوت .. أطلقت
الرصاصة ومضيت ...
والآن .... لما ستعود ... ستعود .. لا لن أعود أنا ....!!!
أية صلاة ستعيدني إليك بعدما استحالت صلاتك مقصلة ... ذبحتَ على رحاها آخر
أوصالي ....!
يا رجلا ً تزنّر موتي في صلاته ... أما كنت ناسكا ً ادعى صلاة الغفران ثمَّ
قدَّمَ رأسي قرباناً لشهوة اللعنات .....
في لقاءنا الأول استسلمت الأبالسة الداجنة على شفتي القرمزيتين .... لماذا
نازعت ...احتضرت ... ولم تبد ِ حراكا ً لما دهمتها...؟؟؟
هل كنت تزخرف لي الأحلام ... ؟
ألم أكن امرأة أغرقتها رامات الماء في طلاسم الليل , ثم جاءت الشمس وتبخرَّ
الماء غيمة تهرول فزعة من لهيب ٍ تنفثه من صدرك...!!
وكانت جثّتي تندلق ُ في تشققات الأرض التي استحالت أفاع ٍ برؤوس أسطورية
سبعة ...!
ورصعّتَ نعشي بابتساماتك ...!
كيف استحالت العهود أكاذيب تنثرها غيمات الخريف الهائجة مع هبّة كل عاصفة..
ألم تكن أنت نفسك تتعطّش لرشف قطرات ندى الفجر من نهديَّ القبَّتين وتهزُّ
رأسك بالنفي .. لا...لا أرتوي.
كانت أنوار بيتي خافتة حين كنت تجيء , وأنا كنت أجمع كل ما لديَّ من شموع
أوقدها في تلك الزاوية .... ثمَّ حملتني أثقل الأعباء ...؟
أنا التي ذات صباح كنتُ (( حيرا العظيمة )) سيّدة الأولمب أتفاخر
بصولجاني , وبذؤابات ثوبي الطويل الموشّى بنجمات الخلود ...
لماذا صببت عليَّ لعنة ((زيوس)) ليكون غرامك في قلبي عبئا ً ثقيلاً عليَّ
لا يحتمله قلبي الضعيف , وأظلُّ أسكن مفارق الدروب المؤدية إليك ..
ليلة الأمس عاودني ذلك المنام المقيت .. كان فيما مضى حلمي الوحيد أن أرى
مناما ً ثم أستطيع أن أتذكره واتلوه في الصباح ..... والآن صارت تتوالى
عليَّ كهجمات التتار دون رأفة ...
أول مرة نهضت ُ مذعورة أتألم كما الملدوغة بناب أفعى سامة في جحرها حين
رأيتك لأول مرة حليق الذقن ....!!
ثم جاء المنام الثاني بعد أيام معدودات وكنت ُ فيه محبورة الصدر منشرحة
وأنا أداعب عيني اليسرى ... فإذا بي اقتلع رموشي كلها ليرحل النور وأهيم في
بطن غابات لا قرار لها ....!!
أمّا ليلة الأمس فقد كان المنام أشد مقتا ً .... أشدَّ هلعا ً وحزنا ً ,
رأيتك تسير نحوي بأسمال بالية وعينين لا أدري كيف أصفهما ... ثم وقفت تحدّق
بيَّ و أنا الجاثمة في تلك الحفرة العميقة أرميك بحصاتي مرارا ً ولا تصيب ,
وأراك هازئا ً بإخفاقي ..!!
بعد ذلك رحت ُ ابحث في كتب تفسير الأحلام عما تعنيه تلك المنامات ,وبعد بحث
ٍ طويل وجدت بأن كلها تتفق على معنى واحد , وهو أنك اخترت الرحيل .
شيء ما يفقد ذاته ... اختل الميزان .. ولا أدري أي الكفتين أرجّح , وأنت
الذي كنت في كلتا كفتي الميزان , مرة وأنت الرجل الذي أحبّ.... ومرّة وأنت
ترحل ..هل أختار ذاتي معك ....التي تفقد ذاتها و أم أختار رحيلك الذي
يفقدني الحياة , ويضعني على حافة الهاوية ...؟
فيا البحر الصامت أفصح عن أسرارك , ولا تدعني أغرق في الزبد ... كانت هذه
أعظم ابتهالاتي ....تضرعاتي للآلهة...؟
لاريب في أن الصمت هو جزء من عاداتنا , لكن صمتك وأنت َ ترحل يروِّض
العواصف فيَّ ..... ويجعل شجيرات توت العلّيق أشدَّ رأفة بأصابع صغارنا
التي راحت تجمع ما نضج منها ويقذفونها إلى أفواههم البريئة بصيحة زهو
وانتصار ...!
عزلتك اليوم هل هي وسيلتك للانتصار ... وعنادك ... أيما عناد هو .. هل
تمغنط العشب تحت أقدام الحجل ...؟
حصاتك يا رجلا ً يمارس نزقه ُ نزق وطء الحصان الجامح ... صقّلها البحر
بأمواجه التائهة ....
حدادي اليوم صار على أنني بدأت أسأم, بدأت أسأم العمر .... بدأت
أشيخ..أهرم... وهذا المر العضال .. يا داء أوصالي .... ولا دواء لي...!!
يقول قطاع الطرق الذين يسكنون مفارق الآند (( قد نفقد ثمة حياتنا لأن الآند
في الشتاء لا تعيد إنسانا ًأخذته ....))
أكان عليَّ أن أفهم بأنك تنتسب إلى تلك الفئة من الجبال التي تمارس سلطانها
في شتاء الفصول , وأنني أخطأت حين اهتديت ُ ببوصلتي إلى شتاءك لأضيع في
صقيع الجبال المنحوتة في تفاصيلك ...!!!
لا غرابة في أن الشيب الذي اشتعل في رأسك مبكرا ً يبعث الهلع في أسارير
وحوش الصحراء ....!!
سمعتهم يقولون بأنه ما أن يغزو الشيب مفارق شعر حتى تبدأ رسائل الإنذار
بغروب شمس الحياة ...و شيبك لا يعني ذلك بل ينذر بأكثر من ذلك
فقد صار حدادك أخرس يحاور ذرات رمال الشواطىء التي خلعت عنها أثواب الخريف
...
أية صلاة تلك التي ستعيدني إليك ....
الآن يا رجل صباحات الجليد ...
إليك بعضا ً من أسراري :بعدما فتحت حقائب رحيلك ووجدت ُ فيها كلَّ ما هو
معدّ ٌلاغتيالي أقول لك : حين كنت َ تحاول سلوي ... تركي في مهب الريح ...
كنت قد نزعتُ الأصفاد عن معصميَّ ... وبدأت يداي َّ تنزعان رائحة عطرك من
أثوابي كلها .... وبقيت ُ أحبك ... لكن دون تواصل ..؟؟
جبال
الآند: تسمى كورديير الاند هي سلسلة جبلية كبرى تشرف على الساحل الغربي من
أمريكا الجنوبية طولها 7500كم أعلى ذراها الآكونكاغا 7010م وفي السلسلة
براكين عديدة .
|