قصتي الجميلة معك
كنتُ أرتبُ نفسي صباح كلّ يوم لمصادفةٍ مباغتة، فأنثرُ شعري الأسود
كشلال عطر ٍعلى ظهري, وأرتدي معطفي الأبيض بقبته المصنوعة من الفرو ,وأضع
أقراطي المتأرجحة ,فأبدو كأميرةٍ حسناء.
وفي طريقي إلى عملي تبحث عنك عيناي ,عله الصباح يضحك لي ,ويرقص الياسمين
المتدلي من الجدران.
وإن ضنَََََّ الصباحُ عليهما برؤيتك, مدََّ القلبُ يده إليهما مواسيا".
وإن التقينا وصافحت يدي يدك استمدت أصابعي من كفك ينبوعا"من الدفء ,وإن
رشقتني عيناك بنظرةٍ عابرة ,أقتحم الجمر جسدي و جنَّ الجوري في وجنتي
وحرق الدمع بياض عيني العسليتين .
مصادفةٌ كان لقائي الأول بك, ومنذ ذلك الوقت والعطرُ يفوح فأحاول
اصطناع مصادفة أخرى, تضمنا ,تشبكنا, كما المرة الأولى, حين انعقد طرف
شالي بزر قميصك وسط ساحة الرقص ،تلاقت أصابعنا على صفحة صدرك الواسعة،
تجمّدت الحياة للحظة في ذلك الوقت,وعانقت عيناك عيني حاولنا فك اشتباك
ثيابنا بأيدينا المتشابكة.
أكان قدر أم مجرد حادث عابر ؟!.ربما كان كذلك .
لكنه كان قشرة الموز التي انزلقت بها قدمي إلى عالمك،ومنذ تلك الهنيهة
هرول قلبي إليك ،كنت أنت الشمس وكنت أنا الزهرة التي انجذبت نحوك,هوى
نبضي فوق عشب عينيك الخضراوين .
ما الذي حدث له ذلك اليوم ؟.كيف تغير مسار نبضه الدوري وأزهرت على
موسيقى النبض براعم الحب! .
ذلك اليوم وأنت بجانبي نظرت وأن أبتلع الصمت المرير إلى رزمة الأوراق,
وحسدتها لأنها تنعم بدفء يدك البيضاء.
كنتُ أحاول الاقتراب منك من خلال من حولك , لطالما بكيت على ذكراك ,أنا
التي لم أجلس معك يوماً ولم يجمعنا حديث مشترك ،أحببتك دون مقدمات, ورحتُ
دون إذنٍ منك أبني لي معك بيتا جميلاً وأنجب الأطفال منك دون أن تدري
،ألا يحق لنا أن نحلم؟ سأحلم بك دوما ًطالما أنك حلمي العصيّ .
وفي لحظات توقف فيها عقلي عن التفكير, صحوتُ لأجد أننا انقلبنا رأسا على
عقب في مركبة الموت التي كانت تقلّنا إلى عملنا وإذا بها تقود البعض إلى
حتفهم .
كنتُ بخير, ووسط ضوضاء المنقذين وآهات المصابين أخذت أبحث عنك, وعندما
رأيت وجهك الغالي المدمّى ركضت إليك بلا وعي ,وبين كفي استقر وجهك الحبيب
,ومعهم نقلتك إلى المشفى ويدي في يدك الباردة .
بقيتُ معك في كل لحظة ، وكانت ابتسامة الشكر لاتقدّر بثمن في وجهك .
وكنتُ ممتنةً لذلك الحادث الأليم الذي جعلني أتحول إلى صديقة في حياتك,
بعد أن تركتَ دمك الغالي على ثيابي كالعطر.
في يوم خروجك من المشفى خبأت حنيني وذهبت كي أودعك بعد أن كنتُ أستمدُ من
وجودك هناك ذريعة كي أراك .
وعندما مددتُ يدي لأصافحك, قبضتْ يدك على أصابعي بقوة ورقّة, وكأن الذي
بين يديك عصفورٌ صغيٌر تخاف هروبه.
غاص قلبي في صدري كما تغوص الشمس في قلب البحر قلت لي وعيناك تخترقان
عيني : سعيدٌ الذي سيحظى بك لأنك لاتقدّرين بثمن ,أكملتَ وأنت تُفلت من
يدك ذلك العصفور الذي رفض إعتاقه, إذ كيف يطير وهو يحلم أن يحبس داخل
قفصك الصدري :أخبريه أن يهتم بك لأنك كالجواهر النادرة .
غامت الدنيا للحظة في عيني , وأحسست كأن سقف الغرفة سيطبقُ فوق صدري,
جفافٌ سكن حنجرتي, وبصوتٍ مبحوحٍ نهشهُ ذئبُ الألم, ضحكتُ وأنا أفتح يدي
متسائلة :لكن أين هو وأي سبب جعلك تعتقد أنني مرتبطة ؟.
أدرت ظهري تاركةًً ًأحزاني تركضُ أمامي بخفة أرنب داعية لك بالسلامة وأنا
أخفي تلك الجمرة التي حرقت كفي وأضمها إلى صدري كي لا يراها أحد.....
كم.. كنت أتمنى أن تكون أنت هو السعيد .
وقبل أن أفتح الباب ونعشُ حبي يكادُ يرميني أرضاً ,وصل نبيذُ صوتك إلى
أذني لافحاً وجهي كأنفاسٍ تنينيةٍ ومدثرا"جسدي بثوب الفرح الأبيض :
.....هل أستطيع أن أكون ذلك السعيد.
كيف أصبحت أصما
ركضتُ أمام أمي ,فلن أتناول ولو سمكةً واحدةً مهما كان الثمن ,وهل سأدفعُ
أكثرَ مما دفعتُ بسببهِ؟.
ركضتْ أختي ورائي ,وأخذتْ تُدَغْدِغُني ,وعندما فتحتُ فمي المطبق, وضعتْ
قطعةً من لحمِ السمكِ في فمي ,أبقيتُها بعنادٍ بين أسناني, ثم بصقتُها
حين حانتْ الفرصةُ المناسبة .
حاولتْ أمي إقناعي مشيرةً لي بيدها :أنني لن أصبحَ كبيراً إن لم أتناول
السمك .
اصطدمتْ كلماتُها بجدارٍ فولاذي, أتناول السمك؟؟!.هذا مستحيل .
فما زال السمكُ يفتحُ صنبوراً من الماءِ المغلي فوقَ روحي وجسدي الهزيل .
أنا أكرهُ السمك, لأنه كَذبَ عليَّ, وتصنّعَ الغرقَ أمامي, وطفولتي
البريئة صدّْقت كذِبَهُ .
كنتُ في الثالثةِ من عمري, حين أحضر والدي حوضاً من السمكِ إلى منزلنا
,كانت فيه عشراتُ الأسماكِ من جميعِ الألوان .
ذلك اليوم لم أبارحْ المكان ,بقيتُ مقيّداً بحبالٍ الدهشةِ أمامَ
الحوض,سألتُ والدي ببراءة:ألا تختنقُ وهي في الماء ,أنا لا أستطيعُ
الغطسَ في الماء أكثر من ثوانٍ ؟.
نظرَ إلي ضاحكاً, وأجاب خيالي بتهكمٍ :"غشيم لمين بدك تطلع غير
ل....."ونظرَ مشيراً إلى أمي .
لم أعط كلماتهِ أية انتباه,فكلمةُ غشيمْ ...أنتَ لا تفهمْ ...كلُّ هذهِ
الكلماتِ كانت جزءاً من حياتي, ولم أكن أعتبِرُها إهانةً لطفولتي ,تماماً
ككلمةِ جميل وبطل .
عدتُ من جديدٍ لأحدق بتلك الأسماك ,ثم أشرتُ إليها قائلاً: وهل
سننتظرها حتى تكبُرْ كي نأكلها .
ضحِك أبي وهو يحملُ سيجارته بين الوسطى والسبابة مطلقاً غيمةً من الدخان
:"ولكْ قلّتلّك غشيم, ورح تضل غشيم ".
في المساء, وعندما داعبَ النعاسُ عيني, ذهبتُ إلى الفراش بعدَ أنّ ألقيتُ
عليه نظرةً أخيرة .
استيقظتُ عدّةَ مراتٍ في الليل, وأنا أتسأل ,ماذا حل بالأسماك هل ماتت؟!.
وحين انبثقتْ أشعةُ الشمسِ الأولى, نزَلتُ من السرير, وركضتُ مسرعاً إليها
.
وقفتُ بجانبِ الحوض, وأن أكادُ ألتهمها بنَظراتي ,كانت تنظرُ إليَّ
وتفتحُ فمَها ...ابتسمتُ لها :هل تريدين تناولَ الطعام؟.ركضتُ حافياً إلى
المطبخ, أحضرتُ بعض الخُبز ووضعتهُ في الحوض .
لكنها عادتْ لفتحِ فمها من جديد ,سألتُها : ماذا بك ؟.
وكأنها كادتْ تختنق ,فلم تعدْ قادرةً على التنفس ,يجبُ عليََّ مساعدتُها .
أحضرتُ الكُرسي, لكني لم أصل إلى الحوض ’ فوضعتُ بعض الوساداتِ عليه
,سحبتُ الغطاءَ بصعوبةٍ للوراء وأنزلتُ يدي في الحوض ,لكنها أخذتْ تهربُ
من بين أصابعي الصغيرة وهي تُلاحقها ,صرختُ بها :هيا تعالي ..سأساعدك ..
وأخيراً أمسكتُ بك .
وضعتها على الطاولة ,رقصتْ السمكة رقصتْ كثيراً وأن أنظرُ إليه ضاحكاً
,يا لهناءتي بالتأكيد سيُقَبِلُني والدي عندما يعلمُ أنني أنقذتُ حياتها
.
بقيتْ السمكةُ ترقصُ حتى تعبتْ ونامتْ, المسكينة هي لم تنم طيلةَ الليلةِ
الماضية .
نظرتُ إلى الأسماكِ المتبقية , وواصلتُ مهمتي في إنقاذها وأخيراً هذه
السمكةُ العاشرة و الأخيرة .
أحضرتُ المنشفة وقمتُ بِتغطِيتهم ,وإذا بصوتِ أختي الحاد يملأ المنزل
,خُيّل إلي أن سيارة إسعاف اقتحمت المكان.
وعلى صوتها الحاد استيقظَ الجميع حتى والدي ,اصطفَ الجميعُ أمامي ورأسي
ما يزالُ يقطر ماءً.
بقيتْ عيونهم متشبثةً بي ,فابتسمتُ لهم ونظرتُ إلى والدي وأشرتُ إليها
بفخرٍ :لقد أنقذتُ حياتها ,كادتْ تموت .
لكنه لم يجب بحرف , بل اتسعتْ حدقتي عينيه وانغرستا في قلبي كالسكين .
وتصلّبتْ عضلاتُ وجهه الأحمر, وأخذَ يلطمُ قبضتهُ اليمنى بصفحةِ يده
اليسرى ,وزادَ إيقاع تنفسه .
شعرتُ بالخطرِ يحلّقُ حولي ,لكني أسرعتُ دون أن أفهم سبب تصرفه الغريب
هذا بحمل الأسماك إليه قائلا: أنظر إنها نائمة.
قدحتْ شرارةٌ من الغضبِ في عينيه .
وضعتْ أمي يدها على كتفه محاولةً تهدئتهُ صارخةً بي : لقد ماتت أيها
الغبي ,هي لا تستطيع الحياة خارج الماء .
شهقتُ بأسفٍ ونظرتُ إليها ,لم يخبرن أحدٌ بذلك,لقد بذلتُ الكثير من الجهد
لإنقاذها وفي النهاية تموت .
لكني ضحكتُ لوالدي قائلاً : سيكون الغداءُ اليوم وجبةَ سمكٍ ملونة .
وكالبرق ركضَ والدي إليَ ,صفعني صفعةً هزتْ جسدي وتلاها بالصفعةِ الأخرى .
كانت صفعاتٌُ حارةَ المذاق ,نجمَ عنها سائلٌ حلوٌ أحمر, أخذ يخرجُ من أنفي
وأذني.
زمجرَ غاضباً وأمسكني من شعري الأشقر ورفعني للأعلى حتى شعرتُ بطقطقةٍ في
جلدةِ رأسي ,رفسني بقدمهِ وأنا ألهثُ ككلبٍ بين قدميه .
غبتُ عنهم وجسدي بينهم وأن أدور في دوامة .
استيقظتُ لأجدَ نفسي في المشفى وحولي أمي وأخوتي .
ماذا حدث ؟أين أنا ؟.
كانت أمي تبكي وتتمتمُ هامسةً بكلماتٍ لا أسمعها ,وأخوتي كذلك يحركون
شفاههم دون أي صوت.
همستُ :ماما.
بكتْ أمي وهي تُقبلُ رأسي, فيدي, ثم تستقر عند قدمي, وتقبلهما بلهفة,
وكأنها تراهما للمرة الأولى .
وعندما همستُ بتثاقلٍ :أرفعي صوتكَ أنا لا أسمعك .
فاضتْ الدموعُ في عينيها ,وعادت للبكاء فوقَ صدري الصغير.
من طبيبٍ إلى أخر, ومن تحت آلة إلى أخرى كنتُ أرمى ,أدركتُ أنني لم أعدْ
أسمعُ شيئاً بعد دويِّ تلك الصفعة في أذني, وأدركتُ لاحقاً أنني لن أسمع
شيئاً بعد الآن ,وأن حروف الأبجدية أخذت تغادرُ شفتي واحدة تلو الأخرى
,ولم يبق منها إلا القليل وكأنها تهرب مني تماماً كما هربت تلك الأسماك.
وأطبق الصمت على فمي ككماشة .
أما أبي فكان شعوره بالندم يتفاقمُ كلما نظرَ إليّ , سرعان ما يبكي
وينظرُ إلى أصابعهِ المرتجفة ِلاطماً وجههُ ومتمتماً بكلماتٍ لم أكن
أسمعها أيضاً .....
ربما كان يقول : ماذا فعلتَ بالأسماكِ أيها الأحمق .
وربما كان يقول :"غشيم ورح تضل غشيم ".
وربما كان يقول وهذا ما تأكدت منه لاحقا:"الله لا يوفقني ...الله يكسر
أيدي ....شو عملت أنا "
طائـر الحــب
لست بحاجة إلا للقليل من الوقت، كل ما أطلبه وقتاً إضافياً قبل أن تتوقف
دقات قلبي, وتغفو شمس حياتي عن هذا العالم، عالم البشر المتصحر إلا من
جثث العقول والضمائر.
ترى هل ستسمعون صراخ وجعي المدفون تحت سوط ظلمكم! هل ستستطيع قصتي أن
تمسَّ حياتكم الخاوية الباردة بشعاع بسيط من الدفء.
هي قصة عادية, بل تقليدية ,تحدث كل يوم مع شروق الشمس ، حقيقة لا أعلم ما
هي مفاهيمكم… اليوم تقدمون أعز ما تملكون, وغداً ودون سبب أو مبرر ترفعون
سيوف التجريح، وكأنه عالم الضد. يوم لك ويوم عليك.
منذ الصغر قالت لي أمي أن ابتعد عن البشر صغارهم وكبارهم فهم يرفضون
الظلم ويظلمون يرفضون القتل ويقتلون، يحبون الحقيقة لكنهم أيضاً يرفضونها
مثلما سيقفون أمام حقيقة قصتي السوداء.
آه عفواً عفواً نسيت أن أعرفكم بنفسي… أنا طير … مجرد طير صغير. ربما
ستهزؤون مني طير يتكلم… ولم لا!!
أنتم تنطقون الحجر بمشاعركم الرهيفة فكيف لا ينطق طير!! أو تستغربون لو
علمتم قصتي كما تجرأتم على الوقوف أمام دفق ألمي الروحي.
كنا في عشنا الصغير أنا وأمي وذات يوم ربيعي كانت فيه نسمات الهواء تصافح
شجرة الصنوبر بفرح، تسلق طفل شقي الشجرة، أمسك بنا ونزل ليتقاسمنا مع
صديقه، كنت ورقة يانصيب في يد غيدق أما أخي فكان من نصيب الطفل الآخر.
حملني غيدق كطفل رضيع في لفته بيديه الصغيرتين إلى منزله، تركني أقفز في
أرجاء البيت، قدم لي الحبوب والماء بوجهٍ تتعرش فيه البراءة، كنت سعيداً
إلى أقصى درجات السعادة.
أحببت غيدق.. الطفل الذي ترسم الحياة على وجهه ضحكة دائمة وترمي الشمس
على جبينه إشراقه فجر, ويكحل الحزن عينيه بسواد الحداد، تعطيه الأمومة
فيضاً من رهافة حسها وجميل عواطفها. ضحكته الرنانة التي تدخل القلب
فيهدهد لها فرحاً.
أخذت علاقتي معه تمتد وتتثبت مثل جذع شجرة في أرض صخرية, نمى
الريش بغزارةٍ على جناحي ,هو لم يعلمني الطيران, وأنا
كنتُ راضٍبهذا
العالم, وبهذا الملاك الصغير الذي أصبح صديقي الدائم.
كبر غيدق وكبرت محبتي له وتعلقي الشديد به ,غير أنه أخذ يدخل ميدان
الجفاء وأخذ العوسج ينثر بذاره بين روضة قلبينا دون أن أعلم السبب.
كان دائماً يجلس في السرير يستمع للأغاني الصاخبة ويسرح في براري الخيال
وشبح ابتسامة يرتسم على وجهه.
في أحد الأيام وقف غيدق أمام قفصي وهو يتأملني بطريقة غريبة: سألته:
غيدق ماذا بك يا صديقي هل جننت؟ أخبرني أنه يحب فتاة تدعى روز وهي تبادله
المشاعر ذاتها ,ثم أخذ يركض في أرجاء الغرفة وهو يبسط ذراعيه كطائر
النورس، ويقفز على السرير بسعادة ,ضحك قلبي فرحاً لسعادة صديقي, الذي
أورق الحب في قلبه فتعرش على أبسط الأشياء في هذه الحياة.
وبعد عدة أيام أحضر لي قفصاً فضي اللون، فيه أرجوحة صغيرة، وضعني فيه
فشكرته مغرداً ثم أحضر شريطة حمراء كتب عليها "إلى حبي الأبدي" وكم أحسست
بضعفي أمام هذه الكلمة، شعرت أنني لا أقدم إلا قطرة ماء أمام بحر حبه
الكبير لي، ثم أخذني في نزهة، اكتشفت أنها لم تكن نزهة، أخذني ليقدمني
هدية لروز… هل حقاً بعد كل الأيام التي أمضيناها تقدمني هدية…؟؟
أردت الاحتجاج عليه, لكني ضغطتُ على نافورة ألمي وأوهمت نفسي أنني بهذا
أكون طائر الحب والغرام الذي ينقل رسائل المحبين المعطرة بشذا المشاعر
الدافئة، لابأس فأنا سأكون سعيداً لسعادة صديقي كأمٍ تضحك الحياة في
قلبها كلما بصمة الحياة ضحكت في وجه طفلها.
حزنتُ لفراقه رغم سعادتي مع روز ,تلك الحسناء المغناج النحيفة القد،
المسترسلة الشعر، لطالما تأملتني وقالت بدلعٍ: أحبك… أحبك.
ما أجمل البشر أنهم يُحبون بسرعة.. أدركت لاحقاً أنها كانت تحاكي غيدق
فتنطق بهذه الكلمات رغم تعلق نظرها بي.
تزوج غيدق وروز ,أخذاني معهما إلى العش الزوجي الذي تحرقك ناره في الشهور
الأولى, في حين تنتقل بعد ذلك إلى قارة باردة بعد سنوات أو حتى شهور،
شدَّ الحبُ أمتعتهُ, وفرش الجفاء سجادة الملل في هذا المنزل الصغير ,حتى
أصبحت الغربة كائناً دائم الحضور بينهما بعد أن كانا العسل بحلاوته
والجدول بحيويته.
لطالما نامت ورأسها فوق زنده، لطالما استيقظت على قبلاته وهمساته غير أن
تلك القبل لم تعد قادرة على إيقاظ ذلك الحب، كنت دائماً أصرخ عندما
يبدأان برجم بعضهما بحجارة الكلمات: كفى..كفى أرجوكما، لكن عبثاً صوتي لم
يكن إلا لمسة يدٍ على أوتار عود أمام طبول الضجيج ,اليوم انفجر بركان
الغضب , واشتعلت النار في جسدِ كلٍّ منهما ,وبعد اشتباكٍ حادٍ صرخ بها:
أنت طالق يكفيني ما لقيتُ منك وخرج تاركاً الباب يصفق وراءه معبراً عن
غضبه.
اشتعلت روز أكثر.. أخذت تبكي وتضحك ببلاهة ,ثم لا أعلم ما الذي دهاها
أخذت تكسر كل ما حولها.. الزجاج.. التلفاز.. ثم تفرّست عيناها بي وصرخت :
وأنت أمازلت هنا؟ كنت في القفص لسوء حظي وقفت أمام سطوة حقدها وفتحت عيني
متسائلاً: وأين تريدينني أن أذهب يا روز، اقتربت مني ومرجل الغضب يغلي في
داخلها، أمسكت القفص ثم ضربته بالحائط ورمتني من الطابق الخامس، سقطتُ
على الأرض شبه ميت, أنازع مرارة الروح حين تغادر الجسد، بعد لحظات تقدمت
روز وهي تحمل شظايا انكساراتها أمسكت بي قائلةً: ملعون أنت أيها الطائر.
ورمت بي مثل حجرة في بركة ماء صرخت بها: الآن أنا الملعون ماذا كنت قبل
ذلك؟! طائر الحب؟! طائر الحب الذي شهدَّ حبكما الكاذب المنمق بالخداع.
بعد ساعات عاد غيدق تفاجأ بي حملني مثلما حملني ذات يوم لكني لم أشعر
بنبضاته الدافئة قال بأسف: مسكين أيها الطائر.
صرخت روحي ولماذا تناديني أيها الطائر ألم أعد صديقك، ثم رمى بي بلا عطف
إلى أبناء القط لأصبح قطعة لحم سائغة بين أنيابهم الصغيرة.
ترى ما هي القيم التي تتمسكون بها أيها البشر؟ عن أي فاء تتحدثون؟ لكن
عبثاً فأنتم لا تسمعون إلا صوت مصالحكم، كنت مستعداً أن أفديكما يا غيدق
ويا روز دون تردد… كنت قادراً على وهبِ جسدي الصغير لكما قطعة لحم لحظة
جوع، لكن أن تكونا السبب في قتلي بحبكما الكاذب, أن لا يترك موتي في قلبِ
أيٍ منكما ذرة شفقة.. أن كنتم تدعون أنكم تنسون الإساءة وتغفرون عند
المقدرة فإن روحي لن تنسى… لن تنسى أبداً شهقة الحزن.. دويَّ الألم.
أدرتُ ظهري عن كلِّ شيء, وكذبتُ على نفسي وأوهمتها بالسعادة ونسيتُ زمناً
أعيش به تسقط فيه الإنسانية وترتفع المادة لتصبح فوق كل القيم، زمناً
يعيش به البشر بهيكل فارغ خالٍ من المشاعر.
|