اعترافات أبو الخال
قصتي يا سادة توجز في كلمتين ـ الدنيا حظوظ ـ وأنا
لدي من الحظوظ مثل ما لديكم جميعا ً.. بل وربما أكثر .. إنما الاختلاف في
الألوان .. وحظي هو الذي جمعني بكم في هذه اللحظة , لكن مع اختلاف المراتب
.. وبإمكانكم أن تتصوروا كم أنا سعيد بهذا الحظ الذي أقف فيه أمام عدالتكم.
وقبل أن تُصدِروا حكمكم بحقي اسمحوا لي أن أروي
لهيئتكم الموقرة قصتي .. وسأختصر ما استطعت حرصا ً على وقتكم الثمين جدا ً
عرفت في نفسي ميزة أو فضيلة يجدر بكل واحد منكم ومن
السادة الحضور أن يشد على يدي مهنئا ً في زمن قلّ فيه أمثالي .. تلك
الفضيلة أنني ما عهد إليّ ً بعمل إلا أنجزته على خير ما يرام .. لكن حظي
جعلني أُبتلى بأمر لا أحسد عليه فأصحاب الكلمة النافذة في المؤسسة التي
أعمل بها لايقدرون كفاءتي بل يقابلون مهارتي كل َ مرة بما لا يخطر على ذهني
.. فهم لايفتؤون يوكلون إلي الأعمال العسيرة فأنجزها كأحسن ما يكون الإنجاز
وهم لا يأبهون لتعبي وعرقي وجهدي وإخلاصي ..
لكن للحقيقة وللتاريخ أقول لكم إنهم كثيرا ً ما
كانوا يقولون لزملائي :
ـ أبو الخال طيب
وفي ذلك اليوم ـ الله يعطينا خير هذا اليوم ـ وبينما
الماثل أمام عدالتكم يدخل من باب المؤسسة برز أمامي فجأة رئيس الورشة
وبلهفة غريبة شعت من عينيه قال :
ـ من ؟؟ فارس .. يا هلا..
تسمرت في مكاني مؤديا ً له تحية تناسب مقامه .. ثم
أردفت :
ـ أنا رهن إشارة من إصبعك الصغيرة .. مرني يا سيدي
هنا رأيته يرسل نظراته إلى أقصى يساره ثم قال وقد
قطب حاجبيه :
ـ الكراكة.. الكراكة يا أبا لخال
اعترتني من سماعي الكلمة وهو يرددها مرتين رجفة ..
فقد كنا نحن عمال المؤسسة على علم بأن هذه الكراكة آلة عسيرة على الإصلاح
أو الصيانة لذلك جعلها أصحاب الكلمة النافذة وسيلة لعقوبة المقصرين في
العمل إذ يقودهم مراقب إلى هناك ليقضوا يومهم في إصلاح ما لا يصلح للإصلاح
بين الزيوت والشحوم والمياه الآسنة , لكنني منذ انضممت إلى قائمة عمال هذه
المؤسسة أقوم بواجبي على أكمل وجه مما يجعلني في مأمن من العقوبة .. فلماذا
اختارني رئيس الورشة لهذا العمل ؟؟
ـ أتسمعني يا أبا الخال ..
صحوت من شرودي ـ نعم ..نعم .. ياسيدي
ـ أقول لك ـ الكراكة ـ مالك ؟؟ أين النخوة التي
نعرفها فيك يا رجل ؟؟ أنت أبو النخوة وشيخ الشباب
هنا كانت نخوتي قد استثيرت على نحو بالغ فقلت :
ـ أنا لها .. أنا لها يا سيدي
أعلنت ذلك وأنا أحس بسعادة أكبرمن سعادتي بالتعرف
إليكم , فقد رأيت أسنانه من خلال بسمته الصغيرة .. ولعلمكم أنا الوحيد الذي
حظي بشرف هذه الابتسامة ..
ـ ينتظرك عشرة عمال هناك سيكون تحت أمرك .. وهي فرصة
نادرة يا أبا الخال
هززت رأسي وابتسمت له ومضيت إلى "الكراكة "
قابلني العمال بوجوه بائسة ونظرات كسيرة .. باستثناء أحدهم الذي راح يغرس
نظراته القاسية في وجهي وكأنني أنا الذي اخترت له هذه العقوبة .. وبين
الخوف منهم والإشفاق عليهم فكرت في أن أعاملهم بطريقة لم يعهدوها من أحد
قبلي ..لكنهم لم يدعوا لي مجالا ً للاستمرار في تفكيري .. فسألوني بصوت
واحد ..
ـ هل أنت معاقب يا حضرة المراقب ؟؟
وقبل أن أجيب قال ذلك الجالس قرب البحيرة :
ـ طبعا ً.. طبعا ً
فشعرت أنه كان يسخر مني , فبادرتهم بالقول :
أنا غير معاقب .. ولكن لأن مراقبا ً لم يرتكب هذه
المرة ما يستحق عليه العقوبة , وجدوني مناسبا ً فعهدوا إلي ّ بهذه المهمة
..
جلست أمام " الكراكة " اللعينة .. أشعلت سيجارة
وبدأت أعاين الآلة من مكاني .. كان القسم الأكبر منها مغمورا ً بالوحل
والحجارة والمياه التي يطفو عليها الزيت والشحم ..ورأيتني يا سيدي القاضي
اقدح زناد فكري ..
(لو قمنا بتعزيل هذه الآلة بعد سد فتحة القناة
الغربية , وحجبنا الماء عنها , لو قمنا بتنظيف أجزائها الدقيقة وتسليكها
بالزيت والشحم ..لو .. لو ..لو ..) وصرخت صرخة طيب الذكر أرخميدس ( وجدتها)
ثم دعوت الرجال إلى اجتماع مصغر برئاستي وبدأت أشرح لهم طريقة العمل خطوة..
خطوة ..و.. فاعترض أحدهم قائلا :
ـ الله يرضى عليك دعنا بحال سبيلنا ولا تعذبنا ..
بحسبنا ما نلاقيه من رؤساء ورشاتنا وأقسامنا ..
وأكد زميل له بنبرة تحمل توسلا ً حزينا ً :
ـ لقد أصبت بمرض الربو لكثرة ما نزلت بهذه المياه
الآسنة ولن أتحملها اليوم .. كرمى لروح أمك لا تعذبنا..
وبلهجة حاسمة قلت :
ـ ستكون المرة الأخيرة .. وسوف أجنبكم وأجنب غيركم
هذا العمل الكريه والشاق
خلعت سترتي وبنطالي والحذاء ونزلت القناة المائية
معهم , وبدأت العمل إلى جانبهم غيرعابىء بالروائح التي راحت تفتك بصدري
"عفوا ً يا سادتي إن كنت قد دخلت في التفصيلات
كثيرا ً لكن عذري أن للضرورة أحكاما ً أمام عدالتكم "
عند الظهيرة أنهينا العمل,هتف الجميع فرحين ..
حملوني عل أكتافهم وهم يرددون:
عاش المراقب أبو الخال .. لقد عملت الكراكة .. لقد
أصلحها المراقب .. عاش ..عاش
ولا أدري يا سادتي .. صدقوني لا أدري كيف
حسبت وأنا استمع إلى هتافاتهم إنني صاحب العقل الوحيد في المؤسسة .. بل في
العالم من حولي .ز ماذا أفعل لقد سيطر غرور طائش على نفسي أنساني سوء حظي
وأصحاب الكلمة النافذة من مؤسستنا بل وقفت بين العمال العشرة خطيبا أحدثهم
عن المصالح العامة وضرورة التفاني في سبيلها ..فكرت وأنا في طريقي إلى رئيس
الورشة ( لقد حققت مالم يحققه غيري ) لكن فجأة .
سقط قلبي و انتابني خوف سرعان ما تحول إلى هلع ورعب
.. وتساءلت :
ـ أأكون قد ارتكبت خطأ في تنفيذ المهمة ؟!
ماذا قال لي السيد رئيس الورشة ؟أذكر أنه قال :
الكراكة .. الكراكة يا أبا الخال لكن لم يأمرني
بإصلاحها
وفجأة انتصب أمامي رئيس الورشة .. فاستبد بي خوف
رهيب .. ارتفعت دقات قلبي . ارتعشت .. شعرت الدنيا تدور من حولي وقبل أن
أسقط وجدت رئيس الورشة يصرخ بي ..
- ما بك يا ولد ..
استندت إلى الجدار وبصوت متقطع قلت :
- أنجزت المهمة ياسيدي ..
باستغراب وبصوت حاد قال:
- بهذه السرعة
تلعثم لساني .. وازدردت ريقي عدة مرات .. وبصوت خافت
قلت : ..و..و .. لكن ياسيدي .. قد.. قد.. حللت..
صدقوني أن حلقي قد جف تماماً .. ولم أعد قادراً عن
الكلام غير أن صراخه القوي شد الكلمات من جوفي فقلت بسرعة
- لقد أصلحت الكراكة
فتساءل بحدة :
-ماذا قلت " يا زمك " أصلحت الكراكة .. قلها ثانيةً
:
- أعني يا سيدي أن الكراكة بدأت تعمل ..
فهتف :
-أنت أصلحتها ؟!
ثم جذبني من يدي وقال
- هيا إلى الكراكة
وهناك أخذت اشرح له كيف أصلحت الكراكة خطوة .. خطوة
فقال بعد أن ربت على كتفي :
- أين كنت مختبئاً يا رجل ؟؟
وقبل أن أجيبه قال
- تعال معي إلى رئيس القسم
سرت إلى جانبه .. وكاد كتفي يلتصق بكتفه لولا أن
أمرني بالتخلف عنه بضع خطوات كي لا أزعجه برائحة ثيابي الكريهة ..
وفي غرفة رئيس القسم أعدت ثانية طريقة إصلاح الكراكة
.. فهتف رئيس القسم أنت تستحق ..
ثم أخذ ورقة كتب فيها بعض أسطر , وأمرنا أن نتبعه
إلى مكتب السيد المدير العام .
وفي الطريق تساءلت :
- ماذا يقصد رئيس القسم بكلمة تستحق ثم قلت في نفسي:
واضحة يا رجل .. مكافأة ..
وبينما دخل رئيس القسم ولحقه رئيس الورشة إلى مكتب
السيد المدير العام بقيت عند الباب .. أنتظر متسائلاً عن قيمة المكافأة
التي سيمنحها لي المدير العام
رن الجرس دخل الآذن .. لحظات وخرج يسألني :
- أنت فارس أبو الخال
- نعم ..
- تفضل ..
وقفت في منتصف الغرفة متحاشيا ً أن يتقزز السيد
المدير العام من رائحتي الكريهة
أمرني رئيس القسم قائلا ً :
حدث السيد المدير العام عن إنجازك الرائع
ثم وضع ورقة مطوية أمام المدير العام
وللحقيقة فإن أملي بالحصول على مكافأة مجزية من
السيد المدير العام أمدني بفصاحة وبلاغة كبيرتين , فرحت أشرح مستعينا ً
بحركات يدي , لكن جرس الهاتف أسكتني لدقائق خلتها ساعات , ثم عاودت شرحي من
جديد .. لكن المنحوس منحوس .. رن جرس الهاتف اللعين مرة أخرى فنال من
فصاحتي .. وعلى غير انتظار انقبض وجه السيد المدير العام فانزلق لساني إلى
جوفي .. تراجعت خطوتين إلى الوراء , وضع المدير سماعة الهاتف ثم نظر إلي
ّنظرة أرعبتني , فتراجعت من جديد وحين التصق ظهري بظهر الباب أشار السيد
المدير العام بإصبعه إلي ّ قائلا ً:
ـ أنت ثروة قومية !!
التفت بعدها نحو رئيس القسم وقال :
ـ اكتب تقريرا ً بهذا الخصوص
أجابه رئيس القسم بسرعة :
ـ إنه أمامكم فوق المكتب يا سيدي
أدينا التحية جميعا ً وانصرفنا كل في طريقه , ورحت
أحلم بالمكافأة , فأنا ثروة قومية , والثروة تعني المكافأة
عفوا ً يا سادتي أرجو أن يتسع صدر عدالتكم لي فقد
أطلت قليلا ً لكن عذري أن المسألة تعني حياة أو موتا ً .. لابأس عليكم ,
انتهت القصة تقريبا ً..
بعد أيام وحين كنت أهم بالتوقيع في سجل الدوام سمعت
زملائي في العمل يقولون :
ـ يا جماعة فعلا ً إنه ثروة قومية .. يستحق أن يكون
بطل إنتاج .. هذا إنجاز رائع
قلت في نفسي :
ـ أنا المقصود حتما ً .. رقص قلبي فرحا ً .. وكدت
أطير من السعادة .. أسرعت إلى لوحة الإعلانات .. لابد أنها تتزين اليوم
بكتاب الثناء والمكافأة .. هذا هو اليوم الموعود يا أبا الخال ..
أمامي في لوحة الإعلانات بدا القرار الوزاري يتألق
مزهوا ً قرأت :
يثني السيد الوزير على المهندس سرحان الشاطر مدير
عام شركة الكراكات بمناسبة نجاحه الباهر في إصلاح الكراكة رقم (13) مما وفر
على القطاع العام كثيرا ً من القطع النادر ويأمر له بمكافأة مادية قدرها
.....
مادت بي ّ الأرض , غاب نظري , ولم أدر إلا ويداي
الخشنتان تقبضان على رقبة
رجل قيل لي فيما بعد أن اسمه سرحان الشاطر..
المفكرة
لم يعد بوسعي أن أنتظر . . . وهذه الساعة تتراجع
أمام ذاكرتي وتشعل رغبات الدنيا كلها في كياني ......ـ كيف حدث ذلك ؟ . .
كيف؟ . .لا أدري .. لقد توغلت في إعصار أوردتي , واجتثثت خوفي وترددي وحزني
, وأقمت في جداول الدماء مهرجاناً للفرح .ـ أنا لا أعبث بالنجوم... فلماذا
تضيء عيناك القمر كلما عانقته أحلامي ؟ ولماذا انبثقت في عتمة ليلي ملاكاً
لونته كبرياء المرارة؟لم أنتظرك يوما ً . . . لم أطلب إليك الحضور يوما
ًَ.. فلماذا أتيت ؟!! هل كان قدرا ً أن تنسى مفكرتك عندي؟؟هل كان قدرا ً أن
يغري الفضول أصابعي , فتمر بحنان فوق شفاه حروفك فيستفيق الحلم ؟؟هل كان
قدرا ً أن يضعك القدر في دروب عمري فتقطعها بطريقة ما , وتغير ملامحها
بطريقة ما ؟؟
مثل مطر مفاجىء ينهمر شعري فوق جبيني .. يعانق الحلم
جفوني تتوغل أصابعي بين خصلات كلماتك حينا وبين خصلات شعري حينا آخر .
أرفعه. . أرده. .أريح رأسي على يسراي ثم ..ثم أ رمي مفكرتك جانبا ًوأزجر
نفسي وأصابعي الفضوليةـ ماشأني , إنها حياته الخاصة ..شيء ما يحرك بيّ
الرغبة للتوجه إلى الشرفة ...أنهض. . أتجه نحو الباب .. فجأة أرتعش كعصفور
بلله الندى .. كان الناس يتهامسون في حضرة الصمت الذي أعلنه حادث ســـير
كسر ساقي المدينة وهي تشرب قهوتها الصباحية,همسهم يتعالى ..يورق في أذني
حزنا وألما ًوفجيعة ,تمتد حتى العظام المرتعشة ..أعود متعبة إلى الصالة
..أتذكر .. ذات مساء للهناءة قلتَ:ـ لولا أصوات من نحب لما كانت أذاننا
مهمة !!مفكرتك تدعوني إليها أبعد ناظري عنها وأبتعد .. أحاول العبور إلى
أفكار جديدة .. تدخلني في حالة من السطوع الباهر..
صوت طرق على الباب .. لابد أنك أنت ..أتيت لتستعيد
مفكرتك..أسرع نحو الباب , تدفعني لهفة قاتلة ..ترتجف يدي وأنا أمدها
لأفتحه..ينام صوت الجرس.. يستيقظ صوتك ناشرا ً سحراً مميزاًـ لماذا لا تدخل
وتأخذ المفكرة و تهديء ثورة أعصابي؟أفتح الباب..ما من أحد..العتبة خالية
إلا من عبق خطواتك أغلقه كي لا يتسلل ذلك العبق فأغدو أسيرته .....أفكر
بأسى: تأخرت قليلا ً .. كان يجب أن أسرع ..الأشياء تدور من حولي ..الجدران
..اللوحة التي أهديتني إياها ذات يوم لتذكرني بدفء حينا القديم,المقاعد
الشاحبة التي ملت نظراتي إليها ... يلفني التعب بعباءته .. أرتمي على الأرض
تفاجئني ببرودتها , يهزني البرد كنبي فــي حضرة الوحي..أهب مسرعة..أقذف
جسدي على السرير.. أتدثر .. أجمع أجزائي .. أتكور .. تتسـرب حماك إلــــى
صدري ..تحترق مدائن جسدي .. الحريق يتعاظم .. أهرب منه .. وأهرب منك إليك
... ألملم أجزائي .. أضمها إلى أجزائك في توحد مذهل ..نهارا ت تموز تغفو
رويدا ً رويدا ً مثل رموشــك الثقيلـة أرتشــف قطراتٍ من رذاذ مســائي
تنـاثر من زيـزفونــة اغتصبها الرعب فطار منها عصفور شق الهواء تاركا ً فيه
أثرا ً أشد بياضا ً من حليب أمي ...ـ لم يعد بوسعي أن انتظر ...من يضمن لي
أن الغد سـيأتي , وسـيمحو آثـار عطـرك ورائحة سجائرك , وأنفاسك , ويمزق
الوقت بعيدا ً عن مفكرتك ...يأتي صوت أمي مترعا بالدفء والحنانـ أتريدين
قهوة ؟؟يخذلني صوتي, يستوطن هدوء عذب على روحي,أمشي ويدايّ أمـام
صـدري,أداعب أصـابعي ـ أقصد أصابعك ـ كسبحة من مذاق ٍ أعر فه ألمسه ..أرفعه
راية ً في وجهك وكلما خطوت خطوة أجلس لأستريح فيصعد إلى خاطري حلم .. أهز
رأسي فتساقط أفكاري رطبا ً جنيا ً ...تضع أمي صينية القهوة على الطاولة
الصغيرة.. الفنجان يرتعـــــش كما كنت أرتعش قبل أن تدق السـاعة معلنة
التاسعة ليلاً .. ومفكرتك تعلم ماذا تعني لنا التاسعة ليلا ً..يرن جرس
الهاتف.. يهرع إليه الصغير.. يرفع السماعة
ـ ماما ....
يتجمد الزمن ... يدور الفراغ ... تحملني الدهشـــة
نحو الهاتف ...
ـ الو ...ويأتيني صوتك مطراً إعصارياً.. أسطورة
عشتها فــي زمن انتهاء
الأساطير ..ـ عفواً.. نسيت مفكرتي عندك.. أيمكن أن
أزورك غداً لأخذها ؟غلفت أعصابي بثوب من البرودة لففت صوتي بمنديل من
الصقيع .. وسألتاك سؤال العارف المتجاهل :
ـ أنسيتها هنا ..؟ !
وأجبتني :ـ نعمابتسمت ابتسامة ماكرة .. ركضت ْ في
سمائي سحب ٌ .. تهاطلتْ
أمطار ٌ .. اشــتعلت ْ بروقٌ .. وهمســتُ بصوتٍ كدت
لا أسمعه:
ــ يمكنك أن تحضر في أي وقت تشـاء.. ســــأبحث عنها
إذا كنت قد نسيتها عندي ..عندما زغرد جرس الباب .. ارتعشت الدماء في
جسديتلعثمت النبضات في صدري غير أني لم أتحرك .. الصغير صاح بسـعادة عارمة
وهو يفتح الباب !..
ـ ماما ..إنه ..رأيتك تعانق الصغير .. تتقدم نحوي ..
المفكرة في يدي.. كفك اليمنى ممدودة .. أمد يدي .. أصغـــــي لحديث
الأصابع,المفكرة تنزلق من جيبك..الكلمات التي لملمتها بالأمس بدأت تتساقط
من ذاكرتي معلنة بداية عمر دافىء آخر..المفكرة ..تكبر في جيبك.. رائحة
العطر والأنفاس والسجائر تملأ المكان.. خلاياي ترشف ضوع اللحظات التي تعبر
بي إليك من جديد..أردت أن أصرخ أن أبكي..أن أضحك..خشيت أن يتوقف قلبي عن
النبضالمفكرة تنزلق ثانية من جيبك , تستقر في مكان لا يمكن أن تجدها فيه
مهما بحثت عنها..أوحد صراخي ودموعي وضحكتي في سؤال ٍ واحد :
ـ أتريد مفكرة جديدة ..؟؟
عيناك تحطان على وجهي بوله ٍ أحسن قراءته ..
تحتضن الصغير بين ذراعيك ..تقول لي :
ـ أنت التي أريد..!!
يتدفق صوت أمي مترعا ً بالفرح والحنان :
ـ ها ..قد عدتَ أخيراً ؟!!
ـ أتريدان فنجانين من القهوة
؟؟؟
|