أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 03/09/2022

الكاتبة: وصال سمير

       
       
       
       
       

 

حين يغضب القمر-قصص

نماذج من أعمال الكاتبة

بطاقة تعريف الكاتبة

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتبة

 

ولدت في دمشق 1940.

إجازة في اللغات الشرقية (عبري) القاهرة.

دبلوم آداب شرقية.

عملت في وزارة الاعلام- القسم العبري.

عملت محاضرة في كلية الآداب- جامعة دمشق- قسم التاريخ.

مؤسسة لاتحاد الصحفيين في سورية.

عضو جمعية القصة والرواية. 

 

مؤلفاتها:

1- زينة- رواية- دمشق 1990. 

2- ليست جريمتي- قصص- دمشق 1993.

3- بين الحلم والواقع رحلة اغتراب - خواطر - دمشق 1994.

5- عارياً يأتيك صوتي- خواطر - دمشق 1995.

كتبت عن أعمالها دراسات عدة.

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتبة

وطن

هكذا يحدث

إيمان

في قارب الحلم 

 

في قارب الحلم  نغني

 

 

عقارب الساعة قاربت العاشرة ليلاً..

الشوق ملأ فؤادها، وفاض نبع الحنان..

أحست بحالة من الامتلاء الكوني، فأخذت تردد أغنية طالما أعادتها كلّما خطر هو في بالها.

خرجت إلى الشرفة، تستبق اللقاء..

كان الجو رطباً، يوحي بليلة ممطرة..

السحب غطت السماء، والهواء البارد لامس جلدها فأنعشه.. أدركت وللمرة الأولى أنها باتت تهوى الشتاء ببرده وجليده، وتفضله على الصيف.. فوهج حرارته صار يحتّ خلاياها..

أعادت في ذاكرتها في تلك اللحظة كل الليالي الطويلة.. التي قضتها.. تتلوى في فراشها، وتكتوي بالحرّ الشديد..

لم يعد جسدها الأسمر النحيل يصبر على تلك النار الصيفية المنبعثة من الأرض والسماء..

تمنت لحظتئذ أن يأتي الشتاء مبكراً، لتختفي في بيتها خلف السجف السميكة، وقد أقفلت النوافذ والأبواب.. وتدثرت بدفء السحر الذي يملأ المكان..

طالما شبهت البيت بالرحم الكبير.. تختفي فيه، فتحس بالأمان.. طال بقاؤها في الشرفة المطلة على الشارع  العريض.. تراقب مصابيحه الفوسفورية، ثم تنتقل بنظرها إلى المركبات القادمة، علّه يأتي بواحدة منها..

ثم ما لبث البرد الشديد أن دفعها للهروب إلى الداخل.. باثاً في جسدها اللدن رعشة قوية هي أشبه ما تكون برعشة الحب.

الرعشتان، رعشة الحب، ورعشة البرد.. تولدان برودة في الأطراف، وتوقظان ما نام واستقر من الأفكار.. في رأسها، تراقصت خيالات أمتعتها.. تأملت وجهها المنعكس على صفحة المرآة، فأعجبها ألق عينيها وحمرة خديها، ابتسمت ابتسامة مقتضبة، حملتها كل المعاني الدالة على تلك العاطفة الناعمة التي تملأ فؤادها، وتفيض من نظرات عينيها العسليتين الصافيتين..

-ولكنه تأخر..

 

همست لنفسها وهي تروح وتجيء وكأنها تقيس دهاليز بيتها، وتلقي نظرة إلى كل زاوية فيه.. وفي قمة الانتظار، رنّ جرس البيت.

وحين رأته منتصباً أمامها بقامته الفارهة، ورأسه الشامخ.. أفسحت له مكاناً مادة يدها اليمنى بإشارة ترحيب كبيرة..

-أهلاً وسهلاً.. تفضل.. لماذا تقف هكذا.. ألا تود الدخول؟!

تقدم ببطء شديد، وقف في وسط الغرفة.. ثم اختار لنفسه مكاناً أقرب ما يكون إلى المدفأة..

تركت يدها في يده الباردة.. ثم ما لبث الدفء أن تسلل إلى أصابعه الطويلة السمراء..

علقت نظراتها في عينيه السوداوين البراقتين كليالي الصيف المنعشة.. لبثا دقائق على تلك الحال.. وكأن كل واحد منهما يود أن يتبين مقدار الشوق في نظرات الآخر.

وحين اطمأنت، وسكنت أفكارها العابثة الشقية.. وارتاحت لنظراته العميقة المشبعة بدفء الحياة.. حاولت أن تشيح بنظراتها.. وتتركه يرتاح قليلاً من نظراتها المتفحصة..

أنصت سامي لضحكاتها المرحة، وقابل تلك الضحكات بابتسامات ناعمة، افترت عن أسنانه البيضاء وعن تلك الندبة المنغرسة في أسفل خده الأيسر..

-كيف حالك

كانت هذه أولى العبارات التي نطق بها فمها..

-كيف حالكِ أنتِ" وما هي أخبارك"

أجابها بلهجة حيادية لا أثر فيها لأي انفعال.

ثم ما لبث أن نهض من مكانه.. قاس الغرفة جيئة وذهاباً ثم استقر إلى جانبها.. على الأريكة العريضة المحاطة بعدد كبير من الوسائد المختلفة الأحجام والألوان...

غرقت خالدة في صدره العريض مسندة رأسها الصغير.. إلى جانب صدره الأيمن...

شرنقهما صمت مهيب، يشع منه الدفء الوجودي العظيم..

البيت أيضاً غرق في السكون..

نغم موسيقي حالم ظلّ يملأ أسماعها..

طال صمتهما، تاركين لقلبيهما حرية البدء في حوار دافئ عميق..

انتقلا فجأة إلى جنة عدن أرضية.. رجل وامرأة وحوار ناعم وقوي حرك ماكمن في جسديهما من أشواق..

لمس وجهها بكفيّه.. وداعبت أصابعه خصلات شعرها المبعثرة على جبينها العريض.. والمسترسلة إلى ما تحت كتفيها.. جذبها إليه،  فتداخل الجسدان في عناق جميل وهامس.. وعلا اللحن الأبدي والأزلي وتردد صداه في أرجاء المنزل الواسع..

ظلا متلاصقين.. وكأنهما يخشيان الانفصال..

وظل الجسدان يتحاوران ويعبران عن لغز الكون..

-كان موقفنا رائعاً.. بالنسبة لمؤتمر شرم الشيخ..

-نعم.. إنها لمؤامرة موجهة ضدنا.. محاولة عزل سوريا عن العالم من حولها..

-ولكن سوريا، أدركت تلك اللعبة.. وعرفت أن امريكا تحاول سحب السجادة من تحت قدميها..

-إن سوريا حكيمة، تدرك جيداً طبيعة الأحداث..

نظرت باستخفاف إلى هذا المؤتمر الذي استمر ثلاث ساعات فقط.. وحضر فيه بعض الزعماء العرب.

تفرع حوارهما، فشمل طبيعة الأحداث التي تمر بها سوريا..

-لا.. لن نستسلم.. بل سنطالب بحقوقنا مهما اشتدت حدة الضغط علينا.. لن نسمح للآخرين بالمساومة على حقوقنا حتى لو أدى موقفنا إلى نشوب حرب بيننا وبين إسرائيل.

-نحن أقوياء.. سنقف في وجه المؤامرة.. وإن متنا وسقطنا في المعركة.. فإن الأجيال القادمة ستحترم موتنا وستقدر موقفنا.

-لماذا لا يفكر الآخرون بالأجيال القادمة..

التاريخ لا ينسى شيئاً.. سيظل الاستسلام وصمة في جبين المستسلمين.

-الرئيس الاميركي، لم يخف تعاطفه مع إسرائيل.. بل قام بجولة، زار بها قبر بيجين وقبر أولئك الذين قتلوا كنتيجة للعمليات الفدائية.

لقد تناسى هذا الرئيس مذبحة الحرم الإبراهيمي..

تنبه الاثنان فجأة إلى كنه هذا الحوار، الذي لا يتلاءم مع أمواج العشق المتدفقة.. ضحكا، وتردد صدى القهقهات في أرجاء الغرفة المستسلمة للعشق والسياسة..

وتساءلا: أيمكن لهذا الحديث أن يكون خاتمةً للقائهما الجميل؟..

-ماذا جرى لنا يا سامي؟.. بل ماذا حدث؟ حتى اختلطت أمامنا الأوراق.. وبتنا لا نميز جيداً متى نتحدث عن السياسة؟

ومتى نتحدث عن الحب؟

-ولكن الاثنين متحدان.. يا عزيزتي.. فأنت لا تنفصلين عن الوطن.. حتى في لحظات الحب..

-الحقيقة.. أننا لا نستطيع أن ننفصل عن الأحداث من حولنا.. فحين نغرق في محيطات الحب، نفتش عن الخلاص مما نحن غارقون فيه من تغيرات حلّت في العالم من حولنا.

امتد حوار الاثنين حتى شمل الكون الرحيب.. ثم تقلص حتى اقتصر على المنطقة العربية.. واختصر أكثر حين اكتفى الاثنان بالحديث عن سوريا ومستقبلها في الواقع الراهن.

نهض من مقعده، قاس الغرفة بخطوات متزنة مرات ومرات.. تنقل ببطء شديد.. عبر أمام عينيها.. كانت نظراتها، تتابع حركاته باهتمام شديد.

-متى ستهدأ؟ استرح قليلاً.. حدثني عن أعمالك..

تململ، ثم توقف، ثم جلس بعد أن غير مقعده..

لم يطل الحديث عن العمل.. بل انتقل الاثنان من جديد إلى مشاكل الحياة اليومية، التي لم تعد تطاق.

الراتب لم يعد يكفي.. والمصروف غدا كبيرا.. وبدأ الناس يخشون على أنفسهم من الفضيحة..

تنهد الاثنان معاً.. وزفرا زفرات طويلة.. بثّا بها كثيراً من همومها..

-ما الذي يجعلنا نستغرق في مثل هذه الهموم؟! قال لها: وهو ينهض فجأة معلناً انتهاء الزيارة.

وقفت مودعة، بعد أن لامست شعره الأسود الناعم بأطراف أناملها النحيلة.

قبلت رأسه، وودعته بنظراتها الحالمة..

تسمرت في مكانها إلى أن اختفى في فتحة الدرج المؤدي إلى الحديقة.

في 9/4/1997.

 

 

إيمان

 

شكراً لك يا رب...

نطق قاسم بتلك العبارة، وهو يشعر بإيمان عظيم يملأ قلبه، ويروي عروقه.

قبل دقائق فقط، أنهى صلاة الفجر، وتلا آيات من القرآن الكريم، أهداها إلى أرواح أبيه وأمه والذين رحلوا من أقاربه وأصدقائه.. مكتفياً بالقول: "أنتم السابقون، ونحن اللاحقون".

اعتاد أن يتوقف عند كل عبارة قرآنية، محاولاً تفسيرها مستخدماً ما جمعه في رأسه من ثروة لغوية.. وثقافة عامة.

يقف عند كل كلمة لحظات طويلة ثم ينتقل بعينيه إلى الكلمة الأخرى.. ثم يهمس لنفسه قائلاً: إعجاز!! نعم إن هذا القرآن لمعجزة كبيرة.

رعشة خفية تسللت إلى جسده الممتلئ.. الذي ينضح بالصحة والعافية.

طوى سجادة الصلاة، وهو يردد آياتٍ كان قد حفظها وثبتت في رأسه لا تبارحه..

البيت غارق في السكون.. تنقل بخطوات لطيفة.. لئلا يوقظ أحداً من أفراد بيته.

خرج إلى الشرفة العريضة والممتدة على مسافة أمتار..

جلس على الكرسي المخصص له بسنادته الجلدية.. وشعر بتلك الاهتزازات المريحة للأعصاب، فاستسلم لها بعد أن أغمض عينيه.. ثم فتحهما فأعجبه لون الخيمة البرتقالي.. ثم مدّ بصره فوقعت عيناه على مشاهد متباينة.. ثم استقر على الهضاب المتماوجة والمتعانقة باستكانة واطمئنان.

حمد الله مرة أخرى.. وأصغى بانتباه وحب كبيرين إلى زقزقات العصافير المختفية في شقوق الجدران، وبين أغصان الأشجار.

أحس أن العالم جميل جداً.. وأن الحياة جديرة بأن تعاش فبدأ يلهج بعبارات الامتنان والشكر لعظمة البارئ.. مما جعله يبدو صغيراً وضئيلاً.. أمام العظمة الإلهية. شعر برعشة خفية، فانكمش في مقعده.

تحسس جلده بأصابعه القوية والصلبة، فأدرك في مساماته تلك القشعريرة التي غطت ذراعيه، وامتدت إلى قلبه.

مدَّ بصره إلى الحقل المجاور.. وقاس بنظراته مساحة السياج المحيط به.. رأى الورود الملونة قد تطاولت وعانقت السور فحولته إلى شريط مفوّف ومتجانس يشد بعضه أزر بعض.

نسائم الصباح اللطيفة، لامست وجهه الأسمر الوسيم. رفع رأسه إلى السماء.. ففوجئ بزرقتها الصافية الخالية من أي شائبة.

شكر ربه مرة ثانية وثالثة على نعمه التي أنعمها عليه.

وتساءل: أيسكن هو في تلك البقعة الجميلة؟

رجع بذاكرته سنين طويلة إلى الوراء.. ثلاثين سنة أو أكثر وترك للصور حرية التتابع أمام عينيّ خياله الجامح.

انتقل نقلة سريعة ومفاجئة، وكأنه عاد إلى نقطة الصفر..

رجع خلال لحظات إلى فراشه المحشو بالخرق البالية.. والذي كان يتقاسمه مع أخيه.. وفي النهار يطويه فينقلب إلى مقعد مريح، يغطيه بملاءة.. ليستقبل عليه أصدقاء الطفولة.

في هذا الفراش العتيق، عرف قاسم برودة فصل الشتاء، فاحتمى من قسوته بالالتجاء إلى أخيه، ومعانقته.. والالتصاق بظهره، وكان الثاني لا يتأفف من أخيه الأصغر بل يتركه على حاله وكأنه يدرك جيداً سرّ تلك الحركات الطفليّة البائسة.

الهواء البارد يتسلل من شقوق النوافذ.. ومن تحت الأبواب ويصل إليه.

أياماً عصيبة عرفها في شبابه أيضاً، وهو يدرك ذلك الفرق الشاسع بينه وبين صديقه أحمد.. الذي كان يقطن في البيت المقابل لبيته.

أمتارٌ معدودة، تفصل بين البيتين.. ومئات الفروق تبرز واضحة بين حياته وحياة أحمد.

أحمد ينام على سرير نحاسي أصفر.. ويغطي جسده بلحاف سميك وغطاء صوفي.. ويستند برأسه إلى وسادة صنعتها أمه كما حدثه أحمد ذات مرة من ريش النعام.. حين لمسها قاسم وجدها ناعمة كالحرير.

بيت أحمد واسع وعريض.. له فناء كبير تتوسطه بركة ماء تسقسق وتحاور أشجار البيت من ليمون، ونارنج، وبرتقال، وتناجي أزهاره من ياسمين أبيض وأصفر وزنابق ملونة.

كان قاسم يتأمل كل ما تقع عليه عيناه.. محاولاً اكتشاف أسرار هذا الاختلاف.. بعيني طفل ذكي كان يتطلع إلى تلك الأشياء.. ويبلغ سروره أوجه حين يزور ذلك البيت الجميل..

كل شيء قد وضع في مكانه، كل شيء قد رتب بذوق رهيف.. أصص الأزهار صفت ونظمت حول البحيرة وفي أركان الفناء.. البركة الرخامية ذات القاع الأزرق والنظيف تستقبل وتحتضن مياه النافورة الفضية.

وأكثر ما كان يلفت اهتمام قاسم المطبخ النظيف ذو النوافذ الواسعة المشرعة للنور والهواء.. وكم كان يملؤه الفرح حين كان يتابع بعينيه الواسعتين حركات أم أحمد وهي تروح وتجيء في مطبخها.. تحضر وجبات الطعام المنوعة.. وكان أكثر ما يجذبه منها تقشيرها لحبات الثوم.. لكي تضعها بغزارة على "الملوخية" ثم تضيف إليها "الكزبرة".

وحين كانت تخرج هالة من الحمام.. وقد أحاطت شعرها الطويل بغطاء مطرز بالورود.. كان يسائل نفسه لماذا لا تضع أخته غطاء مطرز الحواشي مثل غطاء هالة حين تخرج من الحمام؟..

كل مارآه في بيت أحمد كان يختلف عما يراه في بيته.

أم أحمد تغسل الثياب في غسالة كهربائية.. ثم تأتي امرأة غريبة فتمسح لها البلاط وتنشر لها الثياب.

أما أمه فكانت تتربع على بلاط المطبخ وأمامها طبق الغسيل.. وإلى جانب هذا الطبق كان يراقب كفيّها وهما تدعكان القماش حتى ينظف.. هذا المطبخ يتحول فجأة إلى حمّام.. بعد أن يوضع على الوابور وعاء كبير ممتلئ بالماء..

في المساءات، كان قاسم يرى أمه وقد أنهكها التعب متكورة في زاوية من زوايا الغرفة ترفو الجوارب، أو تصلح الثياب.. وحين يحاورها أبوه في هدأة الليل كان صوتها يصله محتجاً غاضباً متذمراً وكارهاً الحياة.

ومع مرور الأيام انتقلت تقطيبة أمه إلى أخواته الثلاث وكانت تلك التقطيبة تنقلب فجأة إلى صراع حاد.. وإلى شجار عنيف، فتنهال الشتائم على رؤوسهن ثم لا يلبثن أن يقتربن منها محاولات إزالة غضبها بمداعبتهن وكلماتهن الحنون.

قاسم الشاب.. كان يرى كل هذا.. ثم لا يدري لم كانت عيناه تتجهان إلى المنزل المقابل لمنزله؟! وتنهال عليه أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة.. لا يملك الرد عليها فيصاب بالصداع.

والمشهد الذي ملأ عينيه وقلبه حسرةً.. هو اضطراره لحمل الصفائح التنكية.. ليملأها بالماء من بيت الجيران.. أو من "الفيجة" القريبة متناوباً تلك المهمة مع أخواته البنات.. هذه المهمة كانت أصعب المهمات.. اذ لا تتوقف حتى يمتلئ المستودع الكبير المبني في زاوية من زوايا المطبخ.

هذه الأمور وأشياء أخرى جعلته يدرك جيداً أن بوناً شاسعاً، يفصل بينه وبين صديقه أحمد.. الذي صار بيته في نظر قاسم مثلاً يحتذى..

علا صوته الداخلي، مفتشاً عن الخلاص، ورسم الأهداف البعيدة والقريبة وأنهاها هدفاً هدفا.. صلباً انطلق في دراسته الجامعية.. نال الدكتوراه وهو يتلظى على نار الفقر والحاجة.

عشرين ساعة عمل في يومه الطويل.. وترك الساعات القليلة الباقية للراحة.

ومرت سنوات طويلة تناسى بها نفسه.. ألف كتباً كثيرة وهو في الثلاثين من عمره.

في الأربعين امتلك قاسم كل شيء.. البيت الجميل، المرأة الحلوة، والابنين الغاليين..

هو الآن، يستريح في سن الخمسين..

وحيداً يجلس في الشرفة.. ويراقب الأبنية التي غطت المكان.. ثم يرجع ليفصل ظروف ماضيه.

شكر الله على الآمال التي تحققت.. الآن لديه وقت للتأمل.. ربما يهبه الله سنوات قليلة يحياها في هدوء.

بيته الآن أجمل بكثير من بيت أحمد.. وزوجه الآن سعيدة لا تشكو من التعب والإرهاق كما كانت تشكو أمه.. ومطبخه يعج بما لذّ وطاب.

لم يعرف قاسم رغم تلك المقارنات التي عقدها مع صديقه أحمد معنىً للحسد.. كان يراقب بحب، ويرسم طريقه بإخلاص.. ليحقق الهدف.. انتفض من رحلته الطويلة التي غرق فيها وكأنها تشابه تلك الورود الملونة الملتصقة بسياج الحقل المجاور والتي تبتسم له بصمت..

صباح الخير يا بابا..

صوت عذب أيقظه من أحلامه.. تامل الشعر الأشقر المسترسل على الظهر الأملس لابنته الشابة.. ثم تناول بلطف فنجان القهوة الذي مدّته الزوجة الجميلة وهي تعانقه بنظراتها الحلوة..

تأمل الاثنتين بحب عميق.. وبدأ يرتشف قهوته الصباحية.. وعبارة شكراً لك يا رب.. ظلت تملأ فمه وقلبه.

12/4/1997.

 

 

هكذا يحدث دائماً..

 

 

شهقت حين رأته منتصباً أمامها بطوله الفارع، وسمرته القاتمة، لا يفصله عنها سوى عدد من الطاولات..

تيبست في مقعدها حين التقت عيونهما، تسمرت، وامتدت نظراتها حتى قاع عينيه، وكأنها تود أن تشده إليها.. كان ذلك اللقاء مفاجأة لها.. لم تكن تتوقعها.. لم يكن وحده.

إلى جانبه الأيسر، كانت تقف فتاة لم ترها "هدوة" في اللحظات الأولى. رأسها الصغير ملفع بغطاء رقيق، يستر خصلات شعرها وجزءاً من عنقها.

تدفقت دماء حارة إلى وجنتيها ووصلت إلى قمة رأسها المتوج بجدائل سوداء طويلة.

في جسدها النحيل سرت رعشة قوية.. مما جعلها ترتبك، وترتجف كعصفور صغير، جرفه تيار لا يرحم..

وظل هو، يتأمل وجهها من بعيد وكأنه يراها للمرة الأولى.. نبهته الفتاة التي ترافقه إلى الطاولة التي انتقتها.. فسار وراءها دون تردد.. كمنوم مغناطيسياً.

وصل نداء إلى فمها المختنق ولكنها أخرسته..

اهتزت الكأس في يدها، وكادت تسقط من يدها النحيلة البيضاء.

سمعت صوت حسان يقول لها باستغراب:

-ماذا دهاك؟ أهناك شيء خطير؟..

ظلت صامتة، ولم تحر جواباً.. ولما أعاد السؤال.. حاولت أن تعمل تفكيرها قبل أن تتلفظ بكلماتها:

-لا.. لا شيء.. لماذا تسألني؟ ليس هناك شيء

-ولكنّ تعابير وجهك، تقول غير ذلك، وشحوبك يدل على ألف معنى.

-قلت لك.. لا شيء.. ألا تصدق؟

-إذاً.. من أين أتتك هذه الرعشات. كادت كأسك تتحطم.

صمتت "هدوة" كالمنومة، محاولة استجماع قواها التي خارت..

وظل حسّان صامتاً، وقد قطّب ما بين حاجبيه، ثم بدأ يرتشف محتوى كأسه رشفة إثر رشفة...

عادت نظراتها تجتاز الفراغ، والمسافة الفاصلة.. لتصل إلى تلك الطاولة اللعينة المنزوية في ركن المطعم الكبير، ثم تحطّ على وجه ذلك الشاب الأسمر الوسيم.. الذي استقر في مقعد، يقابل مقعدها.

رفع ذراعه اليمنى، ومر بكف يده على الجانب الأيمن من رأسه.. ثم أسند رأسه إلى تلك الذراع..

كل ما فيه جذبها لملاحقته.. عيناه اللتان طالما أحبتهما.. نظراته العميقة المستغرقة في حلم طويل، وهدوؤه الآسر.. لم تدر لم أحست بفرح خفي، حين لمحت شحوباً، يكسو وجنتيه وأرنبة أنفه.

-إنه غاضب إذاً.. فليغضب.. ما زال في صدره شيء من الماضي وليحزن وليقتله الندم!!

ألم يتركها تتألم طيلة الشهور الماضية؟.. ألم تفقد ثقتها بنفسها وبالآخرين؟!!

أخذته منها فتاة أخرى.. كما هي العادة في قصص الحب.. نسي حبها الكبير في غمرة إحساسه بالغيرة عليها.. وتساءلت: أهكذا هي الغيرة.. تذهب بالعقل.. وتبقي الرأس خالياً من التفكير الصحيح..؟

ولكن.. أين ذهبت ثقته بنفسه، واعتداده برجولته؟..

إن كل ما فيه، يوحي برجولة آسرة، وساحته المغناطيسية تجذب المراكب، تنزع منها مساميرها، وتتركها محطمة على الشواطئ الصخرية العاتية.

ولكنَّ الطود، تحطم على شواطئ الغيرة، وأصغى إلى همسات أتته متتابعة ومتزاحمة.. فاخترقت حجب نفسه، وزرعت فيها الظنون.

صبّ عليها جام غضبه، متهماً إياها بما لا تعرف.. هربت من وجهه وكأنها لم تعرفه من قبل، دفاعها، لم يعد يجدي.

-هل تقدم لحبيبها شهادات براءتها:

لا لن تفعل، فالماضي المشترك، والعاطفة الكبيرة التي جمعتهما معاً، جديرة وحدها أن تطهر القلب، ليعود إلى صفائه.

الألسنة لم تتوقف، والطوفان جرف معه ذكريات جميلة كادت تتكلل بزواج قريب.

صفق الباب وراءه، ومضى..

تركها وحيدة، مشردة الروح والنفس، تبكي بصمت، وتتحدث بلا رغبة وتحيا وهي تتألم وتتمزق.

وها هي ذي تراه أمامها متأبطاً ذراع أخرى.. وها هي الآن تتقاسم مع شاب آخر تلك الطاولة.

إذاً مضى إلى حاله، وذهبت هي إلى حالها.. وكأن شيئاً ما لم يكن أبداً.

قبل شهر فقط، رنَّ في بيتها جرس الهاتف ليعلمها المتحدث أن حبيبها قد ارتبط بفتاة ذات حجاب.. إذاً.. الحجاب وحده، هو الذي شدّه إلى الأخرى الحجاب وحده، أعاد إليه الثقة في نفسه..

ياله من رجل تقدمي.. يؤمن بحرية المرأة!!!

الشيء الفظيع الذي ما زال يؤلمها.. أنها لم تخنه، ولم تفكر دقيقة بخيانته..

أما ذلك الشاب، الذي اتهمت به، فلم يكن سوى زميل لها في العمل، يسكن في حي قريب من حيها..

صحت من شرودها على صوت حسّان يطلب منها -إن احبت- مغادرة المكان. ولكنها لم تفعل، بل ابتسمت في وجهه ابتسامة جميلة حملتها كلّ ما في قلبها من شوق إليه.. ولم تعد تدري كيف شرحت له بهدوء عجيب، أن كل ما رآه لم يكن سوى زوبعة في فنجان.. أو وقفة قصيرة مع الذات جعلتها تدرك الحقيقة.

إن من يجلس قبالتها.. هو الذي يحبها بصدق.. بينما الآخر جذبته أنوثتها المتدفقة، ومنعته نرجسيته من أن يخترق ذاتها، ليحبها هي بكل وفائها وإخلاصها.. لو أنه عرفها جيداً، وأدرك مكنونات روحها لما تطرق أي شك إلى نفسه.

ودهشت حين سمعت حسّان يقول لها برصانة:

-أتمنى ألاّ أكون مصدر ازعاج لك.. فربما ترغبين بالبقاء وحيدة في مثل هذه اللحظات؟..

-وكيف ذلك؟ إن وجودك إلى جانبي، أعاد إلي الإحساس بإنسانيتي.. أعاد إلي الثقة بنفسي، بالحياة، وبالآخرين..

نهر الحياة المتدفق، لا يتوقف يا صديقي.. نعم لا يتوقف.. فما كان البارحة مستحيلا، أصبح الآن ممكناً وسهلاً..

 

-ولكني ما زلت مصرّاً على معرفة أسباب اضطرابك..

-وهل هذا يهمّك؟

-أظن.. أنه يهمني..

تبادل الاثنان النظرات بهدوء وسكينة.. وتناست هي الشخص الذي يراقبها عن بعد..

غرقت في بحر عينيه.. استراحت على شواطئ روحه الرملية الملساء.. انتقلا في دقائق إلى ظلال غابة من أشجار النخيل..

وحين عادت إلى مقعدها.. لم تجد الرجل الآخر..

همست برقة متناهية: حسّان.. إنك كالصاعق.. فقد نجحت في امتصاص حممي.. قبل أن تهبط الصاعقة لتحرقني، وتدمر كل ما تلمسه بي..

-ووجودك أنت إلى جانبي رائع أيضاً.. كان لا بد من تلك اللحظات كي أعرف مقدار حبي وتعلقي بك..

-أما زلت مصرّاً على معرفة أسباب انهياري؟

ولكنه لم يجبها..

وحين وصلا إلى المنزل، أخذها بين ذراعيه، وترك رأسها يغفو على صدره، فقد أدرك بذكائه أنها رجعت من رحلة طويلة، لاقت فيها من الألم والعذاب الشيء الكثير.

في 1/4/1997.

 

 

وطن

 

  

ضباب ملأ رأسي حين اقتربت من البيت. أرحت فكري قليلاً و أنا

أصغي لدقات غريبة في صدري.

ولكن لماذا يضرب هذا البيت على أوتار روحي؟! اعتدت أن أدخل بيوتاً كثيرة في هذه المدينة المكتظة بالسكان.

وهذا ما يثير بي الدهشة.

لماذا أحببت هذا البيت و أحببت سكانه؟!

وهل جذبني إليهم عددهم الكثير؟ أم جذبني تلك الابتسامة المتفردة المكنوزة في قاع عيني.. التي تزففني بها رشا كلما رأتني؟!!

تركت الآتي يتقدم إلي بالبطء المطلوب ... و لكن .. لماذا يتعقبني الماضي و يلح علي لإيجاد الحلول ؟

تقدمت بخطوات سلحفاتية و أنا أحس بنشوة غريبة ولدها في قلبي باب خشبي عريض بني اللون من صنع نجار ماهر قد برع في تجهيزه كي يتلاءم مع ذلك البيت الواسع الممتد على مساحة كبيرة من أرض الحديقة المحيطة به من كل جانب.

كان البناء مؤلفاً من طابقين دهنا باللون الأبيض الناصع و قد غرقاً في خضرة سندسية رقشت بألوان الورود الزاهية,

هل هناك من ينتظرني ؟ بل هل سيكون هناك إنسان يهمه أمري؟

رفعت يدي لأضعه على جرس ( الفيلا ). و قد هبت براكين من القلق و الحيرة في صدري.  ثم انطفأت فجأة وحلت مكانها مشاعر جديدة و احساسات غامضة حين أطلت رشا بمقامتها الفارهة.

انتظرت مثل هذا البيت سنين طويلة ..و في كل عام أقول غدا سيكون الأجمل, و لكن الأمل بدأ يتلاشى و رحلة العمر الجميلة لم تأت حتى حسبتها لن تأتي أبدا...تساءلت مرات كثيرة:

متى تحمل لي الحياة شيئا من متعها و خيراتها ؟ و لكن هذا السؤال ظل بلا جواب يريحني .

صفحة بيضاء صار رأسي حين رأيتها واقفة أمامي قريبة مني ترمقني بعينيها السوداوين الساحرتين.

ابتسمت ابتسامتها الخالدة التي مسحت الأفكار من دماغي . كل الأفكار مسحتها و لم تبق إلا تلك الابتسامة النضرة الحلوة التي انكشفت عن صفين من الأسنان البيضاء الناصعة .

-هل سيسعدني الآتي أم سيغرقني في الحزن؟

لماذا استخدم الخيال الآن و الواقع يقف عاريا أمامي ؟!

ابتسامة عينيها تحمل لي الكثير من الوعود .

منذ أن رأيتها حملت معي ابتسامتها إلى كل مكان امضي إليه ...حملت معي اتساعها ..دفق حياتها .. نبضات قلبها الصاخبة المتجاوبة مع أمواج روحي المضطربة كبحر هائج.  

يا لهذه الابتسامة الملائكية !!

-ماذا حل بهذا القلب؟

تلوا آية الكرسي و سجدت لله في قلبي الظامئ للعبادة , اتخذت لنفسي ركنا قصيا هامشيا يكاد لا يبين ... و بدأت أثرثر مع نفسي كما هي عادتي في مثل هذه الظروف .

ز ظلت ترمقني بنظراتها ..تحاملت على نفسي حتى لا اركع أمامها .

آه ...كم أعاني!!

يأس حارق يعشش في فؤادي ..من أنا حتى أتطاول و أتجرأ على النظر إليها؟

و لكن لماذا تشفعني هذه الصبية بنظراتها كلما أتيت إليها ؟ رجوتها في أعماقي أن ترحل ... فلن أستطيع المكوث على هذه الصورة وقتا طويلا.

و حين اطل أبوها بلباسه العسكري نهضت من مقعدي و قد حل في جسدي خوف شديد .

كنت أحس كلما وقعت نظراته علي بتلك الشفقة الكبيرة التي يخصني بها و التي تسبب لي اضطرابا يحزنني اكثر مما يفرحني .

أدركت في وقت مبكر جدا أن علي أن أكون متفوقا في أمور كثيرة حتى يقبلني المجتمع .

و أخلصت لذلك الضابط الكبير الذي منحني رعايته و أنا الرقيب في قطعته الحربية.

و كأنه كان راضيا علي في ذلك الصباح فقد امسك يدي بحنان غريب و ربت على كتفي .

آهٍ ..!! ألم يحرق روحي !! ما اجمل هذه اليد الحانية !!

-إذن .. لست وحيدا في هذه المدينة المعشوقة .. التي اعتدت على دخول كثير من بيوتها في أوقات فراغي لأقدم خدمات كثيرة بأجر أو بدون أجر

فمن أين أتى هذا الانفصال عن تلك التربة التي شهدت نمو غرساتي الأولى ؟

ماتت و تركتني صغيرا ... و كنت طفلها المدلل.

و خلفت وراءها أناسا كرهوني لدرجة كبيرة .

في قاع عيونهم ارتسم حقد قديم ... و في أعماق المدفونة في القبر اختفى خطأ فادح ..

لم تفكر بمستقبلي حتى و لا يوما واحدا ... و لم تفهم طبيعة الأشخاص الذين أحاطوا بها ..

كل هذه الأمور دفعتني للجنون .

ما زال رئيسي يحتسي قهوته الصباحية و يتأمل سحنتي و كأنه يقرأ أفكاري .

كان أمامه متسع من الوقت لتناول الفطور مع أفراد عائلته .

لم يلمح فنجان قهوتي الذي ظل ممتلئا حتى حافته , أشحت بوجهي عنه رغم حبي الشديد له .

في بحور زمن قاس عشت سنين مراهقتي و شبابي , تهت في دروب المدينة و السنين باعدت بيني و بين طفولتي السعيدة ... و صرت احن للحظات من الإحساس بالأمان .

كان رئيسي قد استيقظ من نومه مفعما بالحيوية و النشاط و من ثقته المطلقة بنفسه كنت استمد دافعا للسير وحيدا في معمعة الحياة .

-ماذا يحل بي حين التقي بهذا الرجل ؟

انه رمز لكل ما أصبو إليه ...

ابنته الجالسة أمامي بيضاء رقيقة كزهرات الياسمين . سواد شعرها يحاكي ظلمة الليل... قوامها الجميل يسحرني و يذهب بعقلي ..

غادرتها و سرت خلف أبيها و أنا أفكر بها و باخوتها .. إنها البنت الوحيدة على هذا العدد الكبير من الشباب .

طلب رئيسي أن انحرف بالسيارة إلى طريق ترابي  جانبي .. ووقفنا معا نراقب جدول سعسع و المروج المحيطة به من كل جانب .

في المياه الضحلة للنهر كان هناك عدد من الصبية يمرحون و هم يسبحون .

قمصانهم البيضاء غدت بلون التراب , ووجوههم كانت طافحة بالسعادة .

النسائم العليلة أغرت رئيسي بالبقاء و لكن الوصول إلى مكان العمل كان هدفه الأساس..

تمنيت أن أعود إلى طفولتي التي ضاعت مني في دقائق معدودة .

و بدأت أفسر نظرات معلمي و لا أجد لها أجوبة مقنعة .

-ماذا يريد هذا الرجل مني ؟و هل يشك بإخلاصي؟

-لماذا لا يبوح لي بمشاعره نحوي كي يستريح و يريحني ؟لم يتخل عني منذ أن عرفني ..و لم يشعرني بالمسافة الشاسعة التي تفصل بيني و بينه .

قدر ظالم باعد بيني و بين أمي ... و تركني ممزقا خجلا من نفسي , مما جعلني اعمل ليل نهار كيلا أتذكر مأساتي .

طردت من بيتي الجميل و أنا ما زلت في الإعدادية ... و زرعت في الطرقات معتمدا على شفقة كل من كان يعرف أمي , و يبدو أن حظي في الحياة ضئيل.

و لكن.... هل يبكي الكبار ؟ لقد كبرت الآن و تجاوزت الخامسة و العشرين و حملت رتبة رقيب . و لم اعد صفرا بين البشر ...خضت تجربة قاسية و خرجت منها منتصرا ...النهار كان طويلا ...

و النعاس الآن يتلاعب بي, يخدرني و يقضي على نشاطي . انتصف الليل , و الطعام الكثير الذي التهمته اليوم على مائدة رئيسي ما زال ثقيلا على معدتي و رأسي و عضلة قلبي.

تحسست قلبي فوجدت نبضه ضعيفا..

من أين تولد هذا النهم ؟؟ هل هو ولادي ؟؟ أم انه نابع من نقص الحنان ؟؟

كانت رشا تجلس قبالتي تبتسم و لا تتكلم ... تأكل ببطء شديد و هي تمعن النظر بي ...ظلت تتأملني و كأنها وجدت في وجهي مسخا مسليا ...

وفي الحلم ... رأيتها أمامي ...هربت منها كي أنقذ نفسي من نظراتها التي تفضحني ... و التي تسبب لي بلبلة نفسية لم اعد أطيقها.

صرنا وحيدين من جديد تجمعنا غرفة واحدة ...بكيت أمامها و لم اخجل من دموعي .

مدت يدها الناعمة و بدأت تلمس وجهي ... هربت من جديد و أنا أخشى غضب أبيها ...علي أن أتجلد رغم عظم يأسي و احبس دموعا مختفية خلف جفني و لكنها ادركتني و شدتني إليها.

كانت رشا الخيط الحريري الذي يربطني بالفرح ...و قد طغت على كل شئ في حياتي ... جف ريقي و أنا اتأملها خلسة في الذهاب و الإياب .

و تفصد عرق قلبي و أنا أصغي لدقات الزمن فتقتلعني رياح الغربة .

أين جذوري؟

لم استطع أن أعلن رفضي ... و لم أتمكن من إعلان غضبي . حين جاءت الي عصابة اللصوص و طردتني من بيتي و حرمتني من الطمأنينة و ضوع الياسمين.

أخرجني أفراد العصابة عنوة و أغلقوا الباب خلفي , هددوني و منعوني من الاقتراب من البيت .

وكانت أمي كبقية أمهات العالم حنونا تبكي و تشق ثوبها حين تراني مريضا .

منذ أن فقدتها نمت على وسائد الشوك و على فراش القلق و أضناني خوف خفي.

أنا شاب وحيد في هذا العالم .. اعمل من رأسي حجابا يصون كبدي من لسعة الريح .

بصوت أبح أناجي الآخرين و اصلي لله صلاة خشوع و خوف كي يقبلوني ..

قال لي رئيس بجدية ووضوح أرعباني :

-أتتزوج ابنتي يا صالح ؟؟

تركت لدماغي و أعصابي حرية الدفاع عني ...

-ااموت من الفرح ؟ أم اجن من عظم المفاجأة ؟ و لكن لماذا اختارني أنا ؟

-أسئلة غير قابلة للتفسير .و ليس لها عندي أجوبة مقنعة ... و سمعته يكمل حديثه قائلا :

-إن وافقت على الاقتران بها سوف تكون سعيدا ...

و كيف لا أكون سعيدا و رشا حلم حياتي ؟!

-سأترك لك فرصة للتفكير..

تمنيت أن أجيبه و لكن الجواب علق في حلقي ..

أصغيت إلى تتمة حديثه و لم اصدق سمعي . كنت يا صالح الشخص  الوحيد الذي اشعر ابنتي بإنسانيتها .

-ولكن ماذا يقول هذا الأب الذي عرفته عاقلا دوما ؟

-ولكن يا سيدي هل تحبني ابنتك حقا أم انك أحببت أن تسخر مني و تزيد من مأساتي ؟

و كأنه لم يسمعني بل استمر يقول :

-غدا تلد لك بنين و بنات مثل أمها و يمتلئ بيتك بالضجيج و غدا تخرجك ابنتي من عزلتك .

إن بكم ابنتي لن ينتقل إلى الأولاد بالوراثة فهي لم تولد بكماء.

ستجد يا صالح !! امرأة مطيعة إلى جانبك لا تتعبك بثرثرتها .

و لن تجادلك إذا ما جئت إلى البيت أو إذا غادرته .

فكر يا صالح بالراحة التي ستؤمنها لك ... و لا تأسف أبدا على تلك المرأة التي اصطحبتك من ذلك الملجأ و لم تترك لك مالا و لا عقارا .

إننا كما ترى عائلة كبيرة و موسرة ...

انحبست الكلمات في حلقي ... و أنا أصغي إلى صوت رئيسي و احلم بكل ما اسمع و احلل كل ما قاله غير مصدق .

إن وافقت يا صالح على الزواج ستجد عائلة ترعاك ... عائلة لها اسمها و مركزها الاجتماعي ..

إذن ... لن اشعر بعد الآن بالغربة و الدونية ... و لن انطوي على نفسي كقرد في غابة .. و لن يظهر بعد اليوم القزم في روحي ... أتعبتني كلمة لقيط ... و جرحت مسامعي عبارة أخذته أمه من ملجأ ... انتابني ضعف شديد ... و ميل إلى الهروب.

لن أخشى هذه المرة أباها ... و لن آسف على الهروب إليها ...

ساجد بيتا و امرأة جميلة ... ستلد لي عشرات الأبناء ... سأحظى بالدفء و الحنان ... و ستجد رشا ذراعين قويتين تحميانها من برودة الليل ..

في تلك اللحظة اطل طيفها يرمقني بعينين سوداوين آسرتين ... رفعت يدها لتداعب خصلات شعرها الثائرة التي غطت كتفيها و ظهرها ...

مسح بياضها سواد قلبي ... و ملأ قوامها دفئا ...

اتسعت ابتسامتها الحنون و امتدت حتى حضنتني في أعماقها . و كانت مفاجأة أبيها كبيرة  حين اندفعت إليه بسرعة ...

و الدموع تملأ عيني ... عانقته و اختفيت في صدره العريض . عدت طفلا في الإعدادية ... قلت له بصوت ضعيف :

- موافق يا سيدي موافق ...

 

نماذج اعمل الكاتبة مقدمة من الأديبة لبنى محمود ياسين * خاص بالقصة السورية حرر في 23/11/2004

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية