أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

مجموعات قصصية / الكاتبة: وصال سمير

حين غضب القمر

إلى صفحة الكاتبة

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

نقطة الصفر

لوحة

حين يغضب القمر

عالمان

التفاؤل هو السبب

نسمات عليلة

البطر

زواج مصلحة

أغنية وإيقاع

البصارة

حين يهتز الوتر

صرخة

وقفت عارية إلا

أمل بنت بلدي

في قارب الحلم

إيمان

هكذا يحدث 

في عمر الربيع

بخطى رتيبة

 

حين غضب القمر

 

عالمان

 

 

حركاتها المغناج، وصوتها الرقيق العذب، وكلماتها المتقطعة والمعجونة بدلال بكر، جعلت عريسها، يوافق على طلبها الصغير، الذي لن يكلفه سوى البقاء أسبوعاً كاملاً معها في البيت، أي سبعة أيام فقط.

أيام العسل قصيرة، ولا بد من استغلالها استغلالاً حسناً.. وحين لمحت العروس الصغيرة الرضا وقد ارتسم على وجهه الوسيم، وحطّت نظراتها في رياض عينيه البنيتين الواسعتين.. ورأت عصافير روحها تحلق في أجواء من البراءة والحب.. أحست أن الكون لم يعد يكفي لانطلاقاتها المرحة.

في اليوم الأول، ارتدت الحسناء الغضة فستان عرسها الأبيض المتواثب حولها، فبدت فاتنة تحت الأضواء الساطعة.

عبق جسدها اللدن، أسكر الزوج العاشق.. ووصاله معها كان ملحمة حب حقيقية -فقد تزوجها بعد فترة من الحب طويلة- واستيقظ مع الفجر على لحن زقزقاتها المرحة.. وقابل سعادتها بغبطة عريضة.

في اليوم الثاني، ارتدت ابنة العشرين فستاناً بلون الزهور. كانت جميلة.. ولكنها بدت أقل فتنة.. وكأن مصباحاً قد انطفأ في قلبها.. فكان إقبالها على عريسها أقل حرارة.. لذا حاول العريس أن يكسو حركاته بشيء من الدفء المطلوب.

في اليوم الثالث.. زادت من زينتها، فبدت الزينة متكلفة فيها الكثير من الصنعة.

تأملها العاشق بنظرة طويلة ومتفحصة.. وكأنه وقع فجأة على شيء لم يره من قبل.. لذا أشاح بوجهه عنها دقائق معدودة. ثم اقترب من زوجه، وضمها بين ذراعيه، واكتفى منها بالعناق.

في اليوم الرابع.. كانت الحسناء السمراء الفاتنة مرحة كطير غرّيد.. أما هو فقد أصابه الملل، بدأ يتحدث عن العمل، ومشاكل العمل، وأسهب في الحديث عن خططه المستقبلية.

في اليوم الخامس.. تململ حين وقعت نظراتها الملتهبة على صفحة وجهه.. رافضاً قضاء كل ساعات النهار معها.. فدعا إليه الأصدقاء.

في اليوم السادس.. تنفس الصعداء، حين انشغلت عنه بصاحباتها اللواتي جئن لتهنئتها، تنهد بعمق، وأخرج زفرات طويلة من صدره العريض، وابتسم لوجهه المنعكس على صفحة المرآة.

أغلق باب الغرفة، ورفع صوت الموسيقا، وبعد دقائق أحس بالاختناق، ولكنه ضغط على أعصابه، كيلا ينفجر من الحسرة.

وحين قبلته في المساء، أبعدها عنه دون أن يدري. فاحمرت خجلاً، ثم شحبت على أثر الصدمة العنيفة.

في اليوم السابع.. ظلت العروس نائمة. حاول ألا يوقظها.. بل أصرّ على ذلك.. حين تسلل إلى الحمّام، أخذ دوشاً دافئاً، دلق ماء الكولونيا على جسده الفارع، ارتدى ملابسه بسرعة مذهلة، خرج من البيت، صفق الباب وراءه، وبدأ يغني أغنية حلوة..

12/11/1996.

 

 

حين غضب القمر

 

غضب القمر، حين انتصبت كتمثال من الجمال، يفصل بينه وبين عشّاقه.

امتلكه النزق، فغاب عن أبصارهم، وبقيت هي وحدها متوردة مغناجاً.

سواد عينيها، سحر قلوب الناظرين إليها.. فتناسوا روعة القمر في الليل البهيج.

الألق البهي في ناظريها أطياف حلم، امتدت، واتسعت، حتى غطت الكون من حولهم.

تألم القمر الوردي، وهو يرى عشاقه، يلتفون حولها وهي تطلق ضحكاتها ضحكة إثر ضحكة عبر إيقاع موسيقي.. ويتأملون تقاطيع وجهها بنظرات سكرى، يسكنها الإعجاب الشديد.

صرخ القمر المستدير المتوهج الذي يتصدر قبة السماء، حين رأى النظرات تتجه إلى الأرض وتنسى السماء.. وتساءل بحرقة ومرارة: أهجره عشاقه؟؟

استكان هو أيضاً لضحكاتها الناعمة.. وابتدأ يعيد حساباته مع نفسه ومع الآخرين.. فأعطى الحق لعشاقها.

حين اكتشف هو نفسه أنه سرق نظرات سريعة منها، أشاح بوجهه خيلاء وغروراً وهو يقول:

-سأستعيد ذات يوم نظرات عشاقي.. ولكن.. بعد أن تختفي تلك الحسناء الواقفة بثقة شديدة بيني وبين من أحبوني مذ عرفوني.

غطى وجهه الجميل بهالة شفيفة.. وغيمة ظليلة.. تقعر واستند على جنبه الأيمن.. ثم استدار حائراً، تقعر، واستند على جنبه الأيسر مستعيداً في ذاكرته حالات العشق القديمة.. ثم أصرّ على الاختفاء.

الورود الملونة المغروسة في الحقل الواسع غضبت أيضاً.

فعشاق عطورها نسوها.. وتنسموا عطر تلك الواقفة بين أصدقائها وبينها.

ظلت الغانية تضحك وتضحك، وظل اللؤلؤ يخرج من فمها، وأقمار صغيرة تبزغ من نظراتها المخمورة..

اكتفى الواقفون أمامها بأشعة عينيها.. فلم يتعبوا عيونهم برؤية القمر.. واكتفوا بعطرها.. فلم يتنبهوا لعطر الورود. تعاون القمر والورود.. اتسع القمر حتى ملأ صفحة السماء.. ونشر نوره على الكون الواسع.. وامتد ضوع العطور حتى احتضن العالم..

وغابت الغانية في ضوع العطور، وضوء القمر. فرآها عشاقها أجمل.. وقد سكنها النور والعبق.

5/12/1996.

 

لوحة

 

الورود موزعة في كل مكان، في عش الزوجية الصغير، وقد وقف الشابان متقابلين وسط ضوع الزهور.

حملت الصبية الحلوة شمعة طويلة بيدها اليمنى، ومشعلاً في يدها اليسرى.

فوقها انتصبت خيمة ملونة، هي كالستر..

باعدت الفتاة قليلاً ما بين ساقيها وكأنها تتحفز لانطلاقة جديدة، رسمت هدفاً لها على الدريئة الحياتية.

وقف الشابان من جديد متعانقين على صخرة مرتفعة.. أما الدب الواقف أمامهما فقد بدا ساكناً وهادئاً.. وكأنه خضع لإرادتهما..

مد يده اليمنى ليسلم عليهما.. وقد ارتدى بذلة غامقة.. تسلقت الفتاة ظهر الدب.. واستقرت على مساحة ظهره المتسقة.. ثم صعد الشاب أيضاً..

في السماء كانت تحلق سلحفاة.. وقد برز رأسها الصغير خارج بيتها الغضروفي.

في طريق الشابين، أطل خفاش صغير.. ظل الشابان متعانقين وأمامهما شارة النصر.

امتدت الأيدي المتعانقة تحمل مشاعل، أضاءت طريق الحبيبين، وقف شيخ وقور وباركهما.

الخبر، انتشر مثل الإشاعة.. ووصل إلى الأمكنة البعيدة، والحفل، ابتدأ بالرقص الجماعي.

أما الفتاة، فقد رقصت وحيدة، فتهادت بثوبها الأبيض المفوف بقماش الدانتيل..

تسامقت، وهي ترقص.. ومدّت ذراعيها كجناحي طائر أبيض.. أحاطتها الأسئلة.. وغنت فيها السعادة...

فتيات جميلات، افترشن الأرض، يتأملن بهاء العروس.. عجوز تكورت على نفسها وانطوت وقد أحنت رأسها.. وكأنها تعود بذاكرتها إلى الماضي البعيد. كانت كئيبة وبائسة وغريبة في حفل بهيج، يفيض بعبق الشباب..

التف الشابان وراحا في بوح طويل.. التحما.. وكأنهما نسيا عالم الأرقام.. وتجاهلا كل من كان في الصالة الدافئة.

فتاة رقيقة انزوت في ركن قصي.. لم تشارك في الفرح، ولم تظهر الغضب.. غرقت في حال من انعدام الوزن..

هرب شاب وفتاة إلى الشرفة.. حيث سرق منها الشاب قبلة خاطفة.. عادت وهي  تحلم بأكثر من قبلة.

نمت زهرات "التوليب" في حديقة البيت.. وأطلت برؤوسها الملونة.

غرق البيت بالضياء..

رحل الشاب إلى البعيد.. وجلست الصبية الحالمة، تسترجع ذكرياتها، وترحل إلى المحيطات البعيدة، إلى حيث رحل الحبيب.

في الشرفة جلست، وقد أحست بالبرد يلفح وجهها.. فغطت ظهرها بعباءة مخملية جميلة.

جلست بين جماعة من الصديقات. وكانت أحلاهن. وأكثرهن وفاء . فازداد جمالها.

عبثن، فلم تعبث معهن، وتحدثن، ولم تنطق إلا بكلمات قليلة. الأرقام ، خرجت من أفواههن .. وتماهت في ألسنتهم..

وظلت صامتة، تحلم برجوع حبيبها.. وقد غرقت بالنغم.. خرجن يملؤهن الفقر الروحي، ويشرنقهن عبء المادة.. وبقيت هي غنية.. غنية جداً.

وحين عاد الحبيب  بعد غياب طويل .. فقد ازداد شموخاً وانتصبت قامته حين وقف منتصراً قبالة حبيبته المشتاقة.. بكت العاشقة بحرقة.. فنبت الشوق في  صدره.

وتنامى فصار شجرة باسقة

في 4/9/1996

 

 

 

نقطة الصفر

 

 

مدت بصرها إلى البعيد.. إلى حيث تصطدم الهضاب بالأفق المقفر..

إلى تلك النقطة.. التي تلاقت بها الروابي السمر مع زرقة السماء المختفية خلف تلال أشحبها غبار المدينة.

من حاضرها المضطرب بدأت تناجي ماضيها.. وقد عصمت عينيها عن رؤية المستقبل.

المجهول.. يختفي خلف هذا الأفق المتعرج، الذي رسمته التلال الصاعدة والهابطة دون أي نظام.

مشاعر متضاربة ومتفاوتة في الشدة، تركها في صدرها هذا اليوم الشتوي المعربد.

 

الغيوم السودا، تبشر بليلة ممطرة.. والجبال الجرداء تستجدي منابع الغيث أن تأتي.

غرقت وحدها في لحظات الدفء.. وأنستها الراحة، التي تنعم بها للحظات هموم الحياة.

الريح الحرون، هزت أشرعة النوافذ، ولسعت وجوه المارة بفيض برودتها.

تساءلت باسترخاء: أيستطيع الإنسان أن يحيا بمعزل عن الآخرين؟؟ ولكن تعبها الأصم أسكتها، وكبّل حركاتها تاركاً سؤالها بلا جواب. الأيام الطويلة التي عاشتها، فتحت عينيها على أمور كثيرة لم تتبينها من قبل.

ازدادت الرياح شدة، فطردت السحاب، بعد أن نهشته وشتتته ومزقت خيوطه.. فتلاشى دون أن يخلف وراءه شيئاً من المطر.

غضبت وهي ترى العاصفة تقضي على كل شيء.. تدمر وتخرب، وتترك الأرض ظامئة.

الدفء الحنون، أعادها من جديد إلى سكينتها.. فاكتفت بمراقبة الكون من خلال النافذة العريضة الممتدة أمام ناظريها.

 

منذ مدة طويلة.. لم تعد الأحداث تعنيها، وكأنها مسافرة في قطار سريع.. تطل عبر النافذة إلى المشاهد المتتابعة بسرعة عجيبة.. يصعب معها تحليل ما ترى.. وسرعة القطار تجعلها ترى الأشياء متشابهة.. متعاقبة.. مكرورة.. لا يحمل أحدها، ما يثير الدهشة، أو يرضي الظمأ إلى شيء جديد..

أسعدها دور المراقبة المحايدة.. تمثله على مسرح الحياة..

ترى، وتلمح، وتلاحظ.. ولكنها لا تحاول أن تتعمق في الأمور لتصل إلى مغزى الوجود.

فهي تأخذ ما يأتي- كما هو عليه دون الدخول في التفاصيل، كمن يرى الحياة معروضة على شاشة "تلفاز" لا يملك جهازه.. بل يراقب ما يجري من خلال نافذة كبيرة، تفصل بينه وبين جيرانه.

ارتاحت لهذا الدور المسلي.. فبدت مستسلمة تملؤها الغبطة وقد عقدت مصالحة مؤقتة بينها وبين العالم.

لن يدفع بها حب الاستطلاع من جديد إلى استجلاء مضامين الأحداث.

سنوات طويلة مشحونة بالأحداث الغريبة عاشتها وكانت كافية لرفع الأسوار بينها وبين العالم الخارجي..

لذا.. أصرت على أن تضيف في كل صباح سوراً جديداً.. حتى غدت بعيدة عما يحدث في المجتمع، ولكن.. هل حققت سعادتها؟

تركت هذا السؤال معلقاً في الفراغ.. لا يلقى جواباً.. فالجواب بحاجة إلى إعمال الذهن.. وهي حريصة على ترك رأسها في حالة عطالة. فلماذا تفقد دماغها الفوسفور المختزن فيه؟

نعم.. ستوفر هذا الفوسفور إلى الأوقات العصيبة.. وربما لن تأتي تلك الأوقات أبداً..

وحين حاول الشك أن يتسلل إلى روحها.. أمسكت بيدها سوطاً، وهوت به علىجسده الشوكي، فطردته قبل أن يتسلل إلى مخدعها.. استمرت في مقاومتها، فاغتالت القلق.. فبيتها لا يتسع لتلك المشاعر السلبية.

امتلأ رأسها بالاستسلام والاطمئنان.. واحتفظت بظل ابتسامة على شفتيها الرقيقتين.

ولكن سؤالاً خبيثا فاجأها..

هل أصبحت قدرية إلى هذا الحد؟؟

وجاء الجواب على هذا السؤال سريعاً لا يحتاج لأي عناء:

-نعم.. صرت قدرية.. أدركت تلك الحقيقة قبل سنوات، وأحست أنها تأخرت في معرفة هذه الحقيقة.. التي انجلت أمامها بوضوح، حين تأملت حياتها الماضية فوجدت -ولسوء الحظ- أنها لم تختر شيئاً من هذه الحياة.

كانت تجد نفسها في كل مرة أمام مفارق الطرق.. وفي كل مرة كانت تشعر بأيد خفية تسحبها صاغرة، وتمضي بها إلى حيث تشاء..

همست لنفسها من جديد: يا ترى.. لو رجعت إلى نقطة الصفر.. ماذا كنت سأختار؟؟

وجاءها الجواب لا لبس فيه ولا غموض..

سأرفض كلّ ما مرّ بي.. نعم سأرفضه بكل ما فيه.. بنيت حياتي على أوهام كاذبة.. كأجنة خارج الأرحام.. من اللاحقيقة صنعت بيتاً.. وأنجبت أطفالاً، وها أنذا.. أعانق الوحدة والاغتراب..

هاجمتها قوة جديدة.. انتزعت نفسها من أحضان غطائها الصوفي الناعم.

قاست بقدميها الحافيتين ممرات البيت جيئة وذهاباً.. هزتها ثورة غضب واحتجاج.. أشعلت كل ما سكن في روحها من مواجع.

لم تجد أمامها مخرجاً سوى ارتداء ملابسها بسرعة جنونية، غادرت المنزل، وقد غطت عنقها النحيل وأعلى كتفيها بغطاء سميك.. حملت معها مظلتها السوداء.. وهرولت في الدرب وهي تحمل همومها، ونوبات جنونها إلى حيث يتواجد الآخرون.

10/10/1996.

 

 

أغنية.. وإيقاع

 

 

قالوا لها: أنت أنثى..

خجلت.. تقلصت.. ثم انزوت.. وانطوت، واخفت وجهها الجميل وراء القناع.

وحين خرجت إلى النور بعد دهور طويلة فاجأتها غمزات الرجال..

-عودي إلى هناك، إلى ركنك الصغير.. لا تستبيحي حرمة النساء.. أتودين التحليق في أرجاء الفضاء؟؟

ارجعي إلى بيتك.. اختفي وراء جدرانه.. فأنت ما زلت طفلة تحبو.. تعلمي السير الصحيح، ثم اخرجي إلى الضياء وإلا فاختاري العتمة.

 

انكمش جلدها اللدن، شحب لونه، غدا خريفيا، كثير التجاعيد.

بحثت عن نفسها في الماضي البعيد.. الموغل في القدم.. اكتشفت بعد تعب طويل أنها كانت حلوة، ناعمة، قوية، قادرة على زرع العشق والاحترام في قلوب الرجال، رأت.. ولعظم دهشتها أن امهات امهاتها.. كن رائعات وجدّات آبائها كن عظيمات أيضاً.

تساءلت عن سر ذلك التغير الذي حلَّ ببنات جنسها، ولما أدركته بكت بحرقة.

أيقنت.. أنه لا بد لها من قفزة.

خرجت من جديد، فأعمى عينيها النور الباهر..

رجعت إلى البيت، اختفت وراء الجدران العالية، يملؤها الإحساس بالهزيمة..

في صمت مهيب.. بدأت تكتشف الطريق.. وتتعلم.. كيف تخطو في الظلام؟؟

من أجل طرد الاشباح وشياطين الجهل.. تزودت بشمعة مضيئة ثم بشمعتين.. ثم استبدلت الشمعات بمصباح ساطع..

 

مارست تجاربها العديدة.. كَبَتْ ثم نهضت وقد اعتاد نظرها على النور القوي..

فتحت باب بيتها من جديد.. لاحظت قرص الشمس، يتصدر كبد السماء.. والحر لافح من حولها.

غطت عينيها براحتيها.. ثم رفعتهما.. فتحت جفنيها ببطء شديد.. ثم ابتدأت تتأمل الطبيعة من حولها.. وقد نسيت الخوف والتردد.. أحست أنها تحتاج لسنوات طويلة لتتعلم أغنية الحياة.. وعشرات السنين لتتقن الرقص على إيقاعات العصر الحديث.

عارية وجدت نفسها أمام مرآة الحياة..

تأملت جسدها الفارع الممتلئ بكنوز الرغبة، ثم أشاحت بوجهها عما يثبط همتها.

أرادت أن تقول شيئاً للآخرين.. وحين وجدتهم لا يلتفتون لكلامها، انعقد لسانها، وأحست بالعجز.. فاض الحسن من هضابها ووديانها وروابيها الخالدة.. وشكل جداول من عصارة الكروم الخيرة.

لم تقل شيئاً.. ظلت صامتة.. ولكنها باحت بأشياء كثيرة.. تعلمت أن صمت المرأة هو سرُّ جمالها.. فصمتت، وتركت مواطن الفتنة، تتحدث عن نفسها..

 

لم يرضها أن يكتفي الآخرون بتأمل جمالها..

أحست بالإهانة.. وغطاها الخزي، فهي ليست سلعة تعرض في واجهات المخازن.

فاض فمها بكلمات مارقة.. تحمل من التمرد الشيء الكثير.. غابت في محيطات من العنفوان، والكبرياء، والثقة.. غنت من جديد نغم الحياة.. قبل أن تمضي عليها سنوات قليلة.

وأتقنت الرقص على إيقاع المتغيرات الجديدة.. وهي ما زالت في ربيعها الندي الزاخر بالخصب والعطاء.

سمع الآخرون الغناء، فانتشوا من خمر طيب الفكر وسحر الكلام..

ورأوها.. ترقص في لجج الأحداث.. على أنغام الرفض والإصرار.. وصوت الحقيقة والواقع، فأعجبهم رقصها، وسحرهم غناؤها..

تمايلت بقدها الأهيف.. وسهام الفكر تنطلق من رأسها المشع بأسرار الوجود.

غدت أكثر جمالاً.. وأكثر إيقاعاً. وازدادت أعداد المعجبين بها..

 

شهقت.. وحلقت على أجنحة السعادة، وهي ترى الكون يفتح ذراعيه لها.. وقد امتد أمامها كفارس مشتاق.. يحتضن معشوقته، بعد أن فك عنها الحصار.

اتخذت مكانها في صدره.. اتسعت بوجوده.. واستسلمت لألوان المعرفة الحياتية.

غنت بصوت مرتفع.. فأصغى الكون إلى غنائها الإنساني الرائع.

صدحت على مسرح الحياة.. وأنصت الآخرون إلى أوبرا حياتية.. ممتلئة بالأحداث.. مصبوغة بالغنى.. ملونة بالمفاجآت..

رأت وجه الحظ.. الذي خلقته بيديها الاثنتين.. وارتاحت لجمال قسماته.

انتشت.. وهي تصغي لدقات قلبها المتدفق بدماء الواقع.. وحين تأملت وجهها المنعكس علىصفحة المرآة، أصابتها الدهشة.. أطلت أمامها امرأة لم تعرفها من قبل.

ابتسمت، وافتر ثغرها عن ابتسامة مشفوعة بالثقة والتواضع والكبرياء..

 

ارتاحت كثيراً.. لأنها لم تعد تنعي حظها، أو تخفي حبّها للوجود.

خرجت هذه المرة.. ولم تعد إلى البيت بسرعتها القديمة نفسها ، بل عادت ببطء شديد.. يملؤها الفرح والإحساس بالنصر.

12/1/1996

 

 

زواج مصلحة

 

 

اخذها من يدها، وسار بها بين جموع الحاضرين..

في الصالة الواسعة المضاءة بمئات المصابيح.. ضمها إليه بشوق حنون.. وبدأ يرقص معها..

كانت الفتاة السمراء ذات الشعر الأسود الطويل صغيرة، ناعمة، تكاد لاتبين بين ذراعيه الطويلتين القويتين، ذابت الصبية ابنة السادسة عشرة في صدره، واسترخت لطيب رائحته.. وتناست عيون الآخرين...

وتساءل الرجال: من تكون تلك الفتاة ذات الثوب الزهري؟ ولم اختارها وائل من بين مئات الصبايا؟؟

وتساءلت العجائز: ابنة من هذه الفتاة.. التي يعانقها قريبنا.. أما كان الأجدر به أن يختار واحدة من بناتنا؟؟

واستنفرت نظرات الفتيات.. تابعن بعيونهن النهمة.. حركات وائل.. ورقص وائل، وتمنين أن تمحّي تلك البنت الناعمة من الوجود.

نظرات الأم بدأت تحوم في أرجاء الصالة.. ولمحت فتاة طويلة القامة.. شقراء الشعر.. تهرول إلى والد وائل وهي تبكي..

أخذها الأب من ذراعها.. تحسّس تلك الذراع البضّة، ثم لفّ كتفيها بذراعه اليمنى.. وضمّها إلى صدره.. وهو يعللها بأمر ما.

ملأ الخوف والفزع قلب الأم.. وأصغت إلى الهمسات التي تنطلق من الأفواه..

-أهذه هي خطيبة وائل؟

وحين كانت الإجابات تتضارب.. سمعت صوتاً لطيفاً، يؤكد أن تلك الفتاة هي حبيبة وائل.. وبعد التخرج ستكون خطيبته..

-أما وجد وائل في عائلته الكبيرة فتاة أخرى غيرها؟.

ظل الحبيبان يرقصان متعانقين.. ويدوران كفراشات الحقول لا يعرفان ماذا يدور من حديث حولهما..

وبقيت الفتاة الشقراء الطويلة.. مختفية في زاوية صغيرة من صدر الأب العاقل.. الذي أحاط به التجار من كل جانب..

فهمت الأم.. أن الصيّاغ جاؤوا أيضاً إلى حفلة الزفاف، وأن أب الفتاة الشقراء هو واحد منهم.

العروس المحتفل بها هي أخت الفتاة الشقراء.. والأب ينوي تزويجها من وائل..

كاميرا الفيديو.. تابعت حركات وائل ورشا.. متناسية العروسين المحتفى بهما.

علقت العيون جميعها بالراقصيْن الساحرين.. الشاب الطويل الأسمر، ذو الشعر الكثيف.. والقامة الفارعة.. والفتاة الصغيرة الناعمة ذات الشعر الأسود الطويل.. والعينين السوداوين المشعتين بالفرح.

شريط من الذكريات مرّ سريعاً في رأس الأم الجزعة.. فالحب بينهما بدأ منذ الطفولة.. مذ كانا تلميذين في المدرسة الثانوية..

أنهى وائل دراسته الجامعية.. وبعد سنة واحدة ستنهي رشا دراستها أيضاً..

ولكن.. ماذا تفعل صغيرتها مع كل هؤلاء الطامعين..؟؟ لا.. لن يسمح هؤلاء لهذا الشاب أن يخرج من حصارهم.. آلمتها تلك النتيجة.. وحين عادت الفتاة إليها.. ضمتها إلى صدرها.. وهي تخشى عليها من الغد..

ودعهما وائل.. وسار معهما حتى باب الفندق الكبير.. متمنياً لحبيبته ليلة جميلة.

بكت رشا بعد أسبوع واحد من حفلة الزفاف.. وشرقت بدموعها..

-وائل.. يا أمي سيسافر إلى أميركا.. إلى حيث يقيم أخوه الأكبر.. نعم، صدّقي.. سيسافر.. ويتركني.. فهو لا يملك القدرة على مقاومة أبيه.

وائل.. يا أمي ما زال صغيرا، ولا يملك مالا ولا عقارا..

بكت الأم أيضاً.. ونشجت.. وتابعت النحيب.. وكأنها دفنت قبل دقائق فقط إنساناً عزيزاً عليها.

علا صوت بكاء المرأتين.. وحين انتبهت رشا لبكاء أمها وإلى صوت نشيجها وحشرجات صدرها.. أصابتها نوبة من الضحك.. وكأنها نسيت مصيبتها.. ظلت رشا تضحك والأم تبكي.. وبعد دقائق عصيبة من عمر الزمن.. خجلت الأم من بكائها.. حين سمعت ضحكات رشا.. مسحت الأم دموعها.. وبدأت تضحك.. وسمع الجيران ضحكاتِ المرأتين..

5/1/1997.

 

 

البطر

 

الخريف العبق بألوانه، كان قد أرسل سحره الخفي فتسلل إلى روحي وقلبي، وإلى أمكنة النشوة في خلاياي.. فأحسست أنني خفيف ورشيق، وعدت بسنوات عمري أعواماً إلى الوراء.

جاء وكانت عقارب الساعة تقارب الثانية عشرة ظهراً.. وكنت قد بدأت عملي في الساعة الثامنة صباحاً.. ولم أنجز سوى جزء يسير منه.

وحيداً كنت مع نفسي، غارقاً في الحال التي صنعها هذا الفصل الرائع، الذي أدمنت عشقه.

وحين صافحني، لمحت اكفهرار وجهه.. وصدمتني هالات زرقاء قد أحاطت بعينيه..

للمرة الأولى، أراه على هذه الحال.. وتساءلت عما جاء به إلى مكتبي في هذه الساعة الحرجة.. فما زال أمامي عمل كبير يجب أن أنهيه قبل أن أمضي إلى بيتي..

ولما جلس صامتاً.. وقد عقد ساقيه.. وركز غليونه في الجانب الأيمن من فمه.. سألته عما به.. فتمهل قبل أن يقول لي.. تعيس.. تعيس.. وحزين.. بل غارق في الحزن.

وحين بدأ يشرح لي آلامه الجسيمة، غدت بشرته السمراء داكنة، وتعصفرت، وكأنها خلت من أي إشراق داخلي نابع عن الروح.

رأيت أمامي وجهاً لحمياً صامتاً، ممتلئاً بالشحوم.. وقد تدلّى جانبا خديه حتى كادا يصلان إلى منتصف عنقه.. فأدركت في تلك اللحظة بشاعة اللحم الذي لا يتخلله النور الذي نصنعه بأنفسنا حين تتصل قلوبنا مع السماء.. طالبين منها العون، ونحن نكد ونعمل طيلة النهار كي نجد خبز يومنا.

لا أدري من أين أتتني تلك القسوة؟ ومن أين تولدت تلك الساديّة وأنا أراه يبدل غليونه الذي احترق تبغه، بسيجار غليظ من ماركة مشهورة.. فتخيلت عدد الدولارات التي يحرقها كل يوم.. مقابل هذا التدخين.

بدا وجهه أمامي أكثر استدارة.. وقد عقد ما بين حاجبيه كمن يحيا مأساة رهيبة.. مما زاد عينيه ضيقا.. فلم أعد أرى أمامي سوى ثقبين ضيقين ممتلئين بما يشبه سواد العين، وانبريت أقول له:

-حدثني.. عما بك..؟ لا تطل انتظاري.. لقد أرعبتني.. أحدث شيء خطير لأحد أفراد عائلتك.. أم هل وقعت في محنة؟! ولكنه صعقني.. حين بدأ يحدثني.. شارحاً بإسهاب رتابة الحياة التي يحياها.. فقد ملّ من كل شيء.. وفكر بالانتحار.

-أأنت متضايق إلى هذه الدرجة؟؟ نطقت بهذا السؤال متعجباً.. وأجابني بإصرار:

-أكثر مما تظن.

كان التعب، قد أخذ مني كلَّ مأخذ، وكنت أنتظر انتهاء الدوام لكي أسرع إلى بيتي، أتناول لقمة.. ثم آوي إلى فراشي لكي أتابع عملي في مكتب آخر حتى العاشرة ليلا..

فمن أين جاءني هذا الصديق الشاكي ليحدثني عن رتابة الحياة.. وأنا لا يمكن لي أن أفسر هذه الرتابة لأن العمل يشغلني من ساعات الفجر الأولى وحتى آخر الليل..

لا أدري.. لم دبت بي حماسة لم أعهدها بي من قبل.. فانبريت أدافع عن الأيام وكأنها جزء مني وقلت بقسوة لم يكن يتوقعها:

-إنه البطر يا صاحبي.. نعم البطر" والبطر يعمي النظر". فأنت تملك كل شيء.. المال، والأولاد، والمرأة المطيعة.. والبيت الدافئ والمريح وتملك أيضاً كل ما ملكت يمينك من النساء.. ففي كل يوم لك غزوة جديدة.. فمن أين أتتك الرتابة؟..

حملق عينيه غير مصدق.. فقد عهدني دمثا أمضي معه إلى سهراته الليلية.. أسامره، وأحاوره، ونعلق معا على الفتيات اللواتي يجئن للترفيه عنه.. وأقبل أن يدفع الحساب في نهاية السهرة.. لذا قام من مكانه غاضباً وقال لي بألم مصطنع:

-حرام عليك.. لماذا تظلمني؟.. والله.. أنا وحيد أحيا في صحراء ليس بها أي واحة.. ولا ينزل بها أي مطر.. خذ كل أموالي.. وامنحني سعادتك.. واعطني هذه البسمة الدائمة التي ترتسم على شفتيك.

-أتحسدني على ابتسامتي النابعة من هموم قلبي.. يا لك من أناني.. ورغم كل ما فيك من صفات سيئة، أعترف أنني أحبك.. فصداقة الطفولة لا تمّحي أبداً.

وحين استقر من جديد.. عاد وأشعل قداحته الذهبية ليعيد الدفء إلى سيجاره الهافانا؟؟.. عادت إليّ حمى الهجوم وأنا ألمح ذلك الكسل مرتسماً في قاع عينيه.. واللامبالاة الصارخة في حركاته.. فتابعت نصائحي، وكأنني غدوت مربياً عادلاً أمام هذا الطفل الكبير.. الذي بدا كصبي شقي، لعب في الشارع في يوم ممطر.. فبلل ملابسه، وعفر وجهه.. بما لا يحب المربي ولا يرضى لذا قلت بإصرار غريب:

-أأعد لك أسماء النساء اللواتي عرفتهن خلال سنة واحدة.. اتق الله يا صديقي.. أغرقت في اللذة التفننية.. فعدت إلى القرون الوسطى، حيث كان ينظر إلى المرأة على أنها مجرد جسد.. فأنت.. ما أن ترى فتاة جديدة، حتى يسيل لعابك.. ويتلبسك الشيطان، فترسل ناظريك في لحمها.. وتنبت لك أنياب.. وتتطاول أظافرك لامتصاص دمائها.

-أهذه هي صورتي لديك؟ وهل جئت إليك لتجرحني بلسانك السليط؟

-لا هذا ولا ذاك.. ولكنني في الحقيقة أحتقر بطرك -وصديقك يا رفيقي من صدقك -فإن سحنتك أثارت حفيظتي في هذا الصباح الجميل.. انظر إلى الكون من حولك.. تره ما زال جميلاً.. وبألم شديد، وضعف أشد، سحب كلمات من فمه ليقول لي:

-لقد ظلمتني ظلماً شديداً.. وأنت حتى الآن لا تعرفني..

-قل ما تشاء.. فلن أحاسبك على أقوالك.. فالفراغ يكاد يقتلك.. وأنت تبدل سيارة بأخرى وامرأة بأخرى.. ابحث لك عن عمل يريح أعصابك- اتعب جسمك يسترح عقلك-

-أتعطيني دروساً في الحياة.. أهذه هي خاتمتي؟

-البطر.. ها أنذا أعود إلى المعضلة..

لم أرك مرة إلاّ حزينا، نلت شهادتك الجامعية، ولم تعمل بها، وحولت مزرعتك الواسعة إلى مكان للاجتماع بالنساء..

-ولكنك تشاركني معظم غزواتي..

-أنا لا أشاركك سوى جزء من حياتك البريئة.. فحبي لك يدفعني لمسايرتك.. أما نساؤك فهن لا يشغلنني أبداً.. فزوجتي في البيت تنتظرني دائماً.. وقد اخترتها حبيبة بملء ارادتي.. فابحث يا صديقي عن حب كبير يملأ فراغ حياتك.. ولتشرف على العمال الذين يشتغلون في حقلك.. عندئذ لن تشكو من رتابة الحياة.

ولما لاحظت الامتعاض والضيق قد نبتا في وجهه المسود، الذي تقلصت عضلاته.. أشحت بوجهي عنه خجلا.. وتوقفت عن الهجوم لإيماني الداخلي بأنه يحمل في صدره قلباً نقيا.. ولكنه الفراغ.. يملأ قلبه حسرة. هذا الفراغ الذي يحاول أن يملأه بالنساء وعالم النساء..

وهذا الدواء لا يشفي عليلا.. (     )آلمني منه.. إصراره على إغواء المحصنات من النساء..فما أن يجد فتحة في سور بيت ما حتى يخترقها وينفذ إلى حدائقها مستخدماً كل ما يملك من وسائل.. يحيا- مع تلك المخدوعة بلسانه العذب- يوما أو ربما يومين ثم يمضي إلى أخرى.

-أنت معقد يا صديقي.. فأنت تغار مني.. لأنني أملك كل شيء، وأنت لا تملك شيئاً.. الآن فهمتك.. وفهمت غضبك كلما رأيتني مع نساء جديدات..

-فلتقل ما تشاء.. ولتصفح عما تشاء.. والآن لقد شغلتني عن عملي.. وها أنذا أطوي أوراقي لأذهب إلى بيتي، فليلعنك الله.. لأنك عكرت صباحي الجميل..

بأن الغضب الشديد على وجهه.. فازداد سواده وغدا قاتماً كليلة معتمة وقال بتحد ونزق:

-أمن أجل تلك الإهانات جئت إليك؟.. أتشتمني في مكتبك؟ أتنسى صداقتي لأنني شكوت إليك حالي؟

-إن كنت قد فهمت هذا من أقوالي.. فلتذهب إلى الجحيم..

كاد ينفجر من الغضب.. حمل كيس تبغه.. ووضعه في حقيبة جلدية فاخرة.. ثم رتب سجائره "الهافانا" ببطء شديد.

ثم نهض من مقعده بعنف.. وغادر المكتب قبل أن يودعني، وقد أدار ظهره لي.. ثم خرج، وصفق الباب وراءه صفقة شديدة.. أحسست بنور يتسلل إلى قلبي.. وبراحة شديدة.. نابعة من ضميري.. وهتفت بنشوة:

أخيراً.. قلت كلمتي دون أن أخشى غضب صديقي..

10/2/1997.

 

 

نسمات عليلة.. في جو خانق

 

 

ما أن اجتازت سيارة الأجرة التي تقلني إلى "الكسوة" مسافة ليست بالطويلة، خارج حي الميدان.. حتى أشار علي السائق بأنني وصلت إلى المكان المطلوب..

اندفعت إلى المعمل، مفعمة بالأمل.. في ذلك الصباح الخريفي الجميل.. وأنا أتأمل السحب البيضاء المتفرقة فوق بساط سماوي أزرق.

فوق الباب الأسود العريض والمرتفع.. المغطى بغبار كثيف علقت لوحة كبيرة، كتب عليها اسم المعمل..

أشعة الشمس الضعيفة والواهية، تسللت إلى روحي فأحسست بسعادة خاصة.. ارتسمت ابتسامة على شفتي.. كان المصنع غارقاً في السكون، لا صوت، لا زعيق، ولا شجار.. النسائم الصباحية العليلة، أوحت إلي بقضاء يوم باسم ولطيف.

وقفت أمام الباب الخارجي المغلق بإحكام، أفتش عن الجرس الكهربائي، لأعلن عن وصولي، وجدته مختفيا وراء طبقة سميكة من الغبار الذي تراكم، فبدا رمادياً داكناً. ضغطت على الجرس بعنف شديد.. انتظرت لحظات.. ثم أعدت الضغط دون توقف.. ثم انتظرت، ولكنني لم أر أحداً..

أعدت الضغط مرات ومرات، وموجات من الخجل تعصف بي..

امتد بصري إلى المساحة الهائلة من الأرض التي شغلها معمل البرادات.. رأيت أمامي بستاناً كبيراً غنياً بأشجاره المتنوعة، من مثمرة وغير مثمرة.. أشجار السرو أحاطت بالمكان من كل جوانبه وشكلت سوراً طبيعياً.

البناء الكبير الذي توسط البستان كان مغطى بالأتربة فلم أتبين لونه الحقيقي..

لم أتزحزح من مكاني.. وفي صدري تردد سؤال حائر:

-لماذا لا يأتي أحدهم ليفتح لي الباب؟؟؟

من بعيد، ظهر رجل بثياب العمل.. بدأت أتبين نحوله كلما اقترب مني بخطوات بطيئة ومتكاسلة.. وكأن أمر الواقفة أمام الباب لا يعنيه.

وحين وصل إلي.. رفع نظره للمرة الأولى.. تأملني بدهشة واستغراب، وكأنه لم يتوقع قدوم فتاة في مثل سني..

ثم بدأ يقيسني من رأسي، وحتى قدمي.. ثم قال باسترخاء أغاظني:

-ماذا تريدين؟

أجبته وقد عقد الإحراج لساني: أريد مقابلة المدير.. هل هو موجود؟

ظل صامتاً برهة قصيرة، وكأنه يفكر في الجواب.. ثم ما لبث أن فتح الباب على مصراعيه.. دون أن يقول شيئاً.

وحين سألت عن غرفة المدير.. وأين تقع؟

اكتفي بإشارة مبهمة، اتجهت على أثرها إلى الجهة اليمنى من المكان.. تعثرتُ بأكوام متفرقة من هياكل البردات، مما اضطرني إلى إزاحة أجزاء منها بقدمي..

صعدت درجات قليلة.. وحين وصلت للطابق الأول من البناء، قادتني لافتة صدئة إلى غرفة الإدارة..

وهناك قادني سهم مرسوم بلون أزرق شاحب إلى غرفة المدير.

تقدمت بخطوات مترددة في الممر الضيق والطويل حتى وصلت إليها.. رائحة واخزة، ملأت الفراغ.. مما جعلني أتنفس بصعوبة.

قرعت الباب قرعات خفيفة، ثم فتحته دون أن أنتظر السماح لي بالدخول.

وراء طاولة عريضة، وعلي كرسي دوّار، جلس رجل كهل وقد وضع رأسه بين راحتيه وكأنه يفكر بمسألة صعبة الحل. لذا ارتعد حين رآني منتصبة أمامه.. كشيطانة انشقت عنها الأرض..

نظر إلي باستغراب.. ثم تنبه إلى جلسته، فانتصب واقفاً وقد عقدت لسانه المفاجأة.. وبحركة آلية، مدّ يده اليمنى لمصافحتي..

وقبل أن يسألني عن هويتي.. انطلقت أقول له:

-أنا صحفية.. جئت لإجراء مقابلات مع العمال..

-أهلا وسهلا بك.. ارتسمت على وجهه علامات اهتمام والتمعت عيناه ببريق محبب.. أما وجهه الأبيض والمستدير فقد أوحى إلي بشيء من السذاجة.

ولاحظت الحماسة التي دبت فيه فجأة من خلال الألق الأخضر في عينيه الواسعتين.. وكأنه أُستنفر بكليته لتقديم المساعدة لي.

حانت مني التفاتة إلى الجانب الأيسر من الغرفة.. فوقع نظري، وللمرة الأولى مذ دخلتها على نافذة عريضة، فتحت على مصراعيها.. وفي الزاوية المقابلة أطلت فتاة حلوة من خلف مكتب صغير.. وقد أسدلت شعرها الأشقر الطويل على كتفيها.. وتركت خصلات مبعثرة منه تغطي جبينها العريض.

وحين وقع نظري عليها، لاحظت حمرة تعلو وجنتيها، حمرة طبيعية.. ربما أثارها الخجل من رؤيتي في غرفة المدير..

وكان من المفروض أن أمرَّ على غرفتها قبل غرفته لتأذن لي بالدخول.

نظراتي المتطفلة، بدأت تنوس بين المدير وبينها وكأنني أعقد مقارنة بينهما.

بدأ المدير، يحدثني عن تاريخ المصنع، بينما كنا نحتسي القهوة.. ويشرح لي مقدار الجهد الذي بذله حتى وصل المعمل إلى المستوى الذي أراه أمامي.. ثلاثة آلاف عامل.. يعملون فيه.. وينتجون عدداً كبيراً من الثلاجات في كل عام.. تغطي حاجة البلد، ويصدر الباقي إلى دول الخليج.

كانت كلماته تتدفق من فمه سريعة وغير مترابطة.. مؤكدة حسن سير العمل.

ثم نادى سكرتيرته الحسناء.. التي تقدمت وحيتني فملأ أنفي عطرها الفواح.. وتبينت أنه من نوع فرنسي غالي الثمن.. ضوعه يوحي بأن صاحبته، قد اغتسلت في غابة من أوراق الصنوبر والغار.

كانت "يارا" كما فهمت اسمها من المدير فتاة في العشرين من عمرها.. مليئة بالحيوية والحركة.. وأجمل ما فيها خجلها الواضح الذي يضرج خديها كلّما وقعت نظرات المدير عليها.. وربما أثار هذا الخجل إحساسه بفحولته، واطمأن لهذا الإحساس، فترك النافذة مفتوحة بين غرفته وغرفتها.

دخل معاون المدير -كما فهمت من تقديمه لي- وهو يرتدي نصف ملابسه.. أشحت بوجهي عنه، وقد صفعني هذا المنظر الذي لم أكن أتوقعه...

وتساءلت: أمكان عري وعمل؟؟

واخترق الباب عامل ثان وثالث.. أحدهما كان يحمل سكينا حادة..

-ماهذا؟ سأل المدير باستغراب..

وبصوت غريب كصوت وحش مجروح، ابتدأ العامل الطويل ذو القوام الممتلئ يشرح للمدير أسباب المشادة التي قامت بينه وبين زميله القصير والنحيل.

لم يسمح له المدير بإكمال شرحه.. أمره بمغادرة الغرفة وهو يردد ألفاظاً قاسية: بعدين... بعدين.. اخرجا الآن.. لعنكم الله أنتم الاثنين.. اغربا عن وجهي..

وكأنه قد لمح إحراجي.. فبدأ يعتذر عن كل ما رأته عيناي.. وخرجت من فمه كلمات متقطعة ممتلئة بالأسف، كان يحاول بها أن يبين أسباب العري.. فالجو بالمعمل خانق.. والعمال مضطرون إلى الاكتفاء بما يستر العورة..

لبثت صامتة.. وصدمتني غضبة خفية، صعب علي تفسيرها.. وأنا أهبط مع المدير ومعاونه إلى الطابق الأرضي عبر سلم داخلي حيث يوجد العمل والعمال.

صرّ المدير على أسنانه وهو ينطلق بكلمات بذيئة لأحد العمال وكان قد استلقى على السقيفة تاركاً عمله..

-انهض يا.. سمعت صرير أسنانه، وكلماته السوقية اخترقت سمعي.. وكل ظنه أن شيئاً منها لم يصلني.

الضجيج ملأ أذنيّ.. وصوت الآلات جعلني أتراجع إلى الوراء وأصوات العمال الخشنة قد تداخلت وتشابك بعضها ببعضها الآخر.. مصحوبة بضحكاتهم الصاخبة.. وغمزاتهم المريبة.. وكنت قد أصبحت بينهم.

مررت على خطوط الإنتاج.. وتعرفت على رؤساء الأقسام.. ورأيت المادة الخام.. كيف تنتقل من قسم إلى قسم آخر.. متحولة من شكل إلى شكل جديد.. ثم تخرج على شكل برادات متقنة الصنع من الطرف الثاني لخط الإنتاج.

فرحتي تجاوزت خجلي.. فكل ما يغني وطني يغنيني.. ولكني حزنت.. وأنا أرى العمال يشتغلون في ظروف صحية سيئة.. في قبو رطب.. عششت به العنكبوت.. بدت حركاتهم بطيئة ممتلئة بالملل.. يستعينون بألفاظهم الفجة والسوقية للخروج من مآزقهم.. متناسين مديرهم الذي يقف بينهم.

-أين مكان العاملات؟..

فوجئ المدير بسؤالي..

وأجفله سؤالي الثاني:

-أهناك حواجز تفصل بينهن وبين العمال؟

رمقني بنظرة غريبة.. وأجابني ببرود ظاهر يحمل الكثير من الامتعاض..

-لا مكان للعاملات هنا.. أتريدين أن تجعلني من هذا المصنع مكانا للفجور.

صدمني جوابه القاسي.. فتماديت في أسئلتي قائلة:

-أتعني أنك لا توظف الفتيات؟

جاء رده سريعاً هذه المرة:

-ولماذا أشغلهن.. أتريدين أن أدخلهن لهذا الجو الغريب.. أما سمعت حوار العمال.. وسلوكهم الفج مذ أن وصلت؟

-ادخلْ تلك التجربة.. ولن تندم أبداً.. صدق أنك لن تندم!!

وربما سخر مني كعادة الرجال.. حين تبدي النساء رأياً مخالفاً لآرائهم.. ولا سيما في اللحظات الأولى.. حين يفاجئهم الرأي بما يذهب بصوابهم.. ثم لا يلبثون أن يأخذوا به بعد ساعات معدودات.. وقد استملحوا مضمونه.

انطلقت أشرح له بإسهاب.. أن وجود العلاملات إلى جانب العمال.. سوف يهذب سلوكهم.. ويشذب الفاظهم.. ويحسن من مظهرهم الخارجي.

علامات دهشة واستغراب، ارتسمت على وجهه.. فقد اعتبر طلبي جرأة ووقاحة لا يقدر عليهما.. ولمحت بين كلماته سمات الرفض القاطع والصريح.

-إذاً.. كيف تستطيع أن تحول هذا المصنع إلى بيت كبير يملؤه البهجة والفرح؟

نجح مرات كثيرة في توجيه الحديث إلى مواضيع أخرى اعتبرتها بنظري أموراً ثانوية.

وأحسست فجأة بعيون العمال تنغرز في جسدي بوقاحة وصلف، وكأنني كائن غريب قد ورد للتو من كوكب آخر. مما أشعرني بالندم لأني جئت وحدي.. فالمكوث ساعة في هذا الجو الرهيب ليس بالأمر السهل..

جرّدني العمال من ثيابي مرات ومرات.. وشعرت بعريي. وامتلكني الخجل الرهيب.. الذي أخفيته وراء حديثي الجدي.. ووجهي الصارم.

الاختناق عضّ عنقي.. وأنا أتابع جولتي في أقسام المعمل المختلفة، والعمال يجيبونني عن أسئلتي.. وهم يتغامزون على تلك الفتاة الوقحة التي جاءت إلى هنا.. لتجري مقابلات معهم.. وقبل أن أغادر المصنع.. عدت ثانية.. لأذكر المدير بضرورة تشغيل العاملات.

اكتفى بأن قال: إن شاء الله..

وحين هبطت إلى فناء المصنع.. وقعت عيناي من جديد على تلك الأكوام المرمية بإهمال وفوضى في أرجاء المكان.

وعلى الغبار العالق برؤوس الأشجار الموزعة على مساحات كبيرة من الأرض.

وزاد دهشتي مسبح كبير محاط بالورود والأزهار وقد علته الطحالب والأشنيات.. وتكدس التراب على المقاعد الخشبية المحيطة به.

ساءني كل ما رأيت..

وحين غادرت المعمل.. أقفل الحارس الباب ورائي وهو يكاد يلعنني.. فقد اضطر لترك كوب الشاي الذي كان يحتسيه بتكاسل واسترخاء، وهو يجلس على كرسي صنع من القش..

ثلاث سنوات مرت على تلك الزيارة.. وعدت مرة ثانية مرغمة لأقوم بمثل المهمة نفسها.. في البداية تهت عن المكان.. وحين تساءلت مستغربة أجابني شاب نظيف كان واقفاً هناك، وقد ارتسمت ابتسامة حلوة فملأت محياه:

-المعمل هنا يا آنسة.. لا لم تخطئي المكان..

كل شيء قد تغير هنا.. دهن الباب الخارجي بلون أسود جديد وسويت الحديقة المترامية الأطراف.. وكدست بقايا الهياكل في زاوية بعيدة خلف المصنع...

وبان لون الدرج المؤدي إلى غرفة المدير.. والتمع رخامه.. أصص من الأزهار الملونة ملأت غرفة المدير.. وفي الغرفة المقابلة جلست فتاتان.. إحداهما تضرب على الآلة الكاتبة.. والثانية تنظم أوراقاً صفت أمامها.

أمسك المدير بيدي، وسار بي دون الإستعانة بمعاونه.. وهو يبتسم لي ابتسامة كبيرة.. وفي الطابق الأرضي.. فوجئت بعدد كبير من العاملات.. القويات والنشيطات.. اللائي اختارهن المدير بعناية من القرى المجاورة.

والجميع ظهروا بلباس العمل.. الذي يعطى لهم مرتين في السنة. رأيت أمامي خلية نحل.. يعمل أصحابها بنشاط وحيوية عجيبين.. لم تصل إلى أذني كلمة نابية واحدة..

لم يعد في المعمل عري.. ورحلت الوحشية التي أخافتني إلى غير رجعة.

وحين ودعني المدير.. هبط معي حتى الباب الخارجي..

ورافقني إلى البناء الجديد.. الذي يضم حضانة لأطفال العاملات.. ابتسمت للشاب الذي وقف يودعني عند عتبة الباب الكبير.. وقد امتلأت بدفء محبب.. وحملت معي منظر المياه المتدفقة إلى المسبح الذي دهنت أرضيته بلون أزرق جميل.. وانعكست عليه شمس الصباح.. فبدا مغرياً لتلك الأجساد المتعبة بعد يوم عمل طويل.

5/3/1997.

 

 

التفاؤل.. هو السبب

 

أحيا هذه الأيام، وكأنني في حالة انتظار.. أصغي إلى صوت نفسي الذي ملأنّي بالضجيج.. ترتسم الأحداث، وتدون في ذاكرتي سطورا سطورا. كل يوم يفاجئني بما لا أريد.. كل ما اختزنه في أعماقي، يقطر دما، فقد جفت دموعي منذ آلاف السنين.

لذا.. فاجأني تحفزي في هذا الصباح الممطر الجميل. وامتلأ جسدي بدفق غريب، دفعني إلى ارتداء ملابسي بسرعة عجيبة، وكأنني أكاد، أخرج من جلدي.. وأحسست أن بقائي في المنزل سوف يسبب لي توقفا في ضربات قلبي.. ربما هاجمتني نوبة من نوبات الجنون.. هزت كياني، وكأنني على موعد مع الحبيب. لم أقاوم تلك الهجمة، بل استسلمت لها.. فهي تغزوني على فترات متباعدة، وأعترف، أنني أقف مهزومة أمامها.

هل يقاوم أحدنا نوبات الجنون، حيث يتصارع الروح مع الجسد، ويتخاصم أحدهما مع الآخر، وكل منهما يبغي الطلاق الأبدي.. خرجت من بيتي، وصفقت الباب بقوة، كادت تهشمه..

غمرت روحي حالة من اللامبالاة.. دفعتني للتسكع في طرقات المدينة علني أهرب من ذاتي.. وعجبت من نفسي وأنا أتحدث على هذه الصورة، وأنا إنسانة نهاية القرن العشرين.. أأستسلم ببساطة للكون الذي يضحك من حولي في هذا الصباح الساحر.. فأنطلق لاهية، متناسية، ما يدور حولي من جرائم في هذا العالم؟

هل التفاؤل عاد إلي بعد هجر طويل؟؟

أم أن مفاجآت مثيرة سوف تملأ حياتي غبطة، وتضيء ما أظلم من روحي؟

أم هي النسائم الناعمة سحرتني وأنا العاشقة للجمال؟

لم ترضني موجات السعادة، التي جرفتني للاستسلام للحلم.. ولكن لماذا نضع العراقيل في طريق سعادتنا؟ بل يجب أن نضع العراقيل.. أهناك ما يسمى سعادة في نهاية هذا القرن المارق؟ الكون في حال من التخبط، وشريعة الغاب تسيطر بلا رحمة. القوي ينهش الضعيف.. وليته يكتفي بذلك، بل يصول، ويجول باحثاً عن فرائس جديدة في أرجاء هذا الكون.

كشفت لنا الأيام الغطاء عن جرائم، يرفضها الضمير الإنساني ولكن السؤال هنا: هل هناك ضمير إنساني؟ ... معاذ الله.. ولماذا يكون؟ وإن كان نائماً لم يصحو؟ وهو لم يعد له دور في زحمة الأحداث المتسارعة، وفي زخم الحياة المضطربة كبركان هائج.

وللحظات قصيرة.. ابتسمت عيون الأزهار الملونة.. كانت غارقة في العشب الأخضر الندي.. وأعترف أنني بادلتها الابتسام.. وأنا أتخيل أطفال بلدي يمرحون بينها بأقدامهم الصغيرة مثل عصافير الدوري.

وفجأة.. استقرت في قلبي صفعة قوية.. وكأنها أبت أن أستسلم لحالات من الطفولة.

وقعت عيناي على مشهد رهيب، لم يصدقه عقلي.. ورفضته روحي.. أحسست بغثيان شديد.. الدماء علقت بي.. هطلت من عيني وفمي.. قتلتني..

وحين رأيت وجهي في المرآة، خفت من نفسي.. الدماء غطتني من رأسي وحتى قدمي.. قطع رأسي، رميت بأيد غليظة على الأرض الباردة. تلفت حولي، فرأيت جثثاً.. تملأ المكان، جثثاً لشباب في عمر الزهور.

كثرت الغصات في حلقي.. تأملت وجوههم المشعة بالبراءة والحالمة بمستقبل أفضل..

ما الذي جاء بي إلى هنا؟ إلى الحرم الابراهيمي في مدينة الخليل؟.. ومن الذي دفعني للصلاة في هذا الفجر الحزين؟ نسيت كل شيء.. وأصغيت إلى صوتي يشارك الآخرين عبارة "الله أكبر" هلل الجميع.. وصلينا جماعة.. ثم هتفنا قائلين: "يا رب يا رحمن يا رحيم.. خلصنا من كيد الظالمين.. وخلص أطفالنا من كيدهم اجمعين.. يا رب.. أعد إلينا فلسطين.

يا رب.. أعنا على إكمال ما بدأناه.. وهبنا القوة لاسترجاع ما فقدناه.. طالت صلاة الفجر، وطال النداء، وطال الدعاء..

وحين غرقنا في محيط من النشوة الإلهية.. أيقظتنا زخات متتابعة من الرصاص، عكرت سكون الكون من حولنا. وسقطت أنا مضرجة بدمائي، وسقط الشباب وهم ساجدون.. مات الجميع.. ولكن كيف تخرج هذه الكلمة القبيحة من فمي.. لا.. لم يموتوا.. بل حلّقوا.. صعدت أرواحهم إلى البارئ العظيم.. تشكو له ظلم الأيام..

اخترقتني زخات الرصاص من جديد..

كنت أسقط، وأنهض، وكأنني أستعذب طعم الألم..

ثقب الرصاص عينيّ، أذنيّ، فمي، واستقر في عنقي وقلبي.. اختفى صوتي.. تدفقت دمائي.. وخرجت من مسامات جلدي...

لم أعر دمائي التفاتا.. انتزعت نفسي من أحضان الموت.. لأمسح دماء أبناء أمي.. جففتها بخصلات شعري.. بوجهي.. بقلبي.. بمشاعري وأحاسيسي.. غدوت ضمادات.. ضمادات بيضاء ناصعة كلون الطهارة.

انتصب أمامي وجه كريه.. لطمني على وجهي لطمة، سببت لي دواراً غريباً.. ربض اليأس على صدري.. وملأتْ الدهشة ناظري.. وجاءت الأحلام، فأفزعتني، وهشمتني..

وها أنذا أموت.. ثم أحيا.. ثم أذبح من جديد.

بدأت أتلوى كمن فقد السيطرة على نفسه.. هاجمني صوت الغربان، فأثار ضجة مخيفة من حولي.. كل ما رأيته أرعبني.

أصوات الشهداء جميعها، شقت جبيني، صغرتُ وصغرتُ.. تضاءلت وتضاءلتُ.. متُ.. حييتُ.. تمزقتُ، صرختُ وضاع صوتي في الضجيج.. وعرفت المجرم، وهالني الحقد المرتسم على سحنته. عرفت اسمه.. ولكن.. ماذا تهمني الأسماء؟..

الجميع لهم اسم واحد.. ولا فرق بين.. الأولين والآخرين ممن حصدوا الإيمان والبراءة؟

اقتربت من المجرم بسرعة عجيبة.. فقأت عينيه، جدعت أنفه، وقطعت أذنيه.

العالم صامت من حولي.. أصغيت من جديد، علني أسمع صوتا عادلا.. ولما فشلت، أطلت وجوه أبناء الحجارة، وسمعت صوتهم المدوي يقول بحرقة وثبات: نحن هنا عانقتهم.. والدماء ما زالت تغطيني.

هزني الخبر.. مذبحة في الخليل..خمسون قتيلا.. ومئات من الجرحى.. مذبحة في الحرم الابراهيمي.. القاتل رجل مجنون.. جاء إلى المسجد وحيداً.. ولم يخف أحداً وراءه..

ترددت الأصوات تنفي الجريمة..

ووصلني صوت ظالم يقول: لم تسمونها مذبحة.. إنها مجرد حادثة لإطلاق الرصاص؟‍‍‍!!

وغرقت من جديد في ضجيج الكلمات والعبارات..

يا لسخفي.. لا أصلح أنا لشيء.. فلأعترف بجبني..

أطفال الحجارة فعلوا كل شيء.. ماذا فعلت أنا؟

هم سقطوا هناك.. وأنا ما زلت أحيا.. أتابع نشرات الأخبار.. وأصغي إلى عدد القتلى..

أنا أراقب من هنا.. وهم يموتون ثم يبعثون، ثم يموتون من جديد.. ويملؤون الأرض ضجيجاً.. والسماء شكوى وانينا..

مشاهد المجزرة، ما زالت ترافقني، تملؤني الدماء، تسد حلقي.. أختنق.. فمتى ينتهي اختناقي؟.

التفاؤل هو السبب.. وحده دفعني للاعتقاد أنني سعيدة، يالتفاهة عقلي!! أصابني الخبل فأحسست بالفرح، كيف تفرح إنسانة نهاية القرن العشرين؟!!

15/1/1997

 

أمل.. بنت بلدي

 

 

من مقعدها.. حيث كانت تجلس.. كان ينبثق نور شفيف، يشرنقها من رأسها وحتى أخمص قدميها.. كل ما فيها مضيء.. شعرها الأسود البراق.. وجهها ناصع البياض.. عيناها، شفتاها، ساقاها.. وقد التفتا باسترخاء وثقة عجيبين.

-من هذه المرأة الفاتنة؟.. سألت نفسي بتردد وانبهار أتعجب امرأة بامرأة أخرى؟ هذه ليست حالاً طبيعية. يقولون: إن المرأة عدوة المرأة..

ويقولون أيضاً: إن المرأة تغار من المرأة..

ولكن.. هذه.. كانت صنفاً من النساء غريباً..

أحسست بانجذاب شديد إليها.. انطلقت، أتحدث، وأتحدث، ولا أمل من الحديث.. وشاركتني هي الحديث كان اسمها أمل..

وكم كانت دهشتي كبيرة.. حين تلاقت أفكارنا.. ونحن نتحدث عن الطبيعة، والحياة.. عن الحب، وعن تلك الأغنية الأزلية التي غناها الرجل والمرأة منذ الأزل.. وما زالا يغنيانها دون توقف.

انتقل الحوار إلى مواضيع الساعة.. الشرق الأوسط، أميركا، أوروبا، الدول العربية، إسرائيل والصهيونية.

حديثها المنطقي أفصح بسهولة عن سعة إطلاعها.. ودبّت بها حماسة كبيرة حين بدأت تتحدث عن بطولات شعبنا وقوته المعنوية الرائعة.

قد يمحي الزمن في ثوان.. وقد يتوقف العالم في لحظة ما. صديقتها التي كانت جالسة إلى جانبها، كانت تتأمل وجهها بحب وحنان كبيرين.

وحين عرفتني عليها، قالت: إنها صديقتي ورفيقتي.. وهي ساعدي الأيمن في المدرسة.. ورفيقتي في التجوال.

صاح حازم مستغرباً ومحتجاً: كيف تمحور الحديث بينك وبين أمل؟.. أدقائق معدودة تخلق صداقة قوية؟.. ضحكت وضحك الثلاثة الآخرون.. وقلت مازحة:

-أتغار.. يا حازم؟ نعم إنني أحس بتلك الصداقة التي وصفتها.. إنها صداقة ترتفع عن منطق الزمن، تتجاوزه، ترجع به إلى الوراء، وتتقدم به إلى الأمام.. تنسج انسجاماً عمره ساعة، أو بعض الساعة.. ولكنه طويل، ومستمر.. عميق، وممتد.

سعادتي بلقاء أمل جعلتني أتساءل: كيف كفرت بنساء بلدي؟؟.

وها هي أمامي واحدة منهن.. يا لي من ساذجة.. إنها حقيقية.. من لحم ودم، ومن روح وشعور شفيف.

تجسمت فجأة، كما رسمتها في خيالي، جميلة.. مثقفة، واثقة بنفسها، عميقة التفكير.

حسبت في الدقائق الأولى، أنها لم تتجاوز الثلاثين من عمرها.. وأنها ما زالت صبية، تنتظر عريسها.. وفوجئت حين سمعتها، تتحدث عن أبنائها الأربعة.. وعن زوجها وبيتها.

بانت على قسمات وجهها الدهشة، حين قلت لها بثقة واضحة:

-أمل.. أعتقد أن زوجك رجل عظيم،

 

وجاء جوابها سريعاً:

-كيف عرفت؟ وكيف توصلت إلى هذه النتيجة؟.

أجبتها، كما كانت تجيب أمي في مثل هذا الموقف:

-المرأة هي مرآة الرجل.. وها أنت ماثلة أمامي.. مرآة صافية نظيفة، جميلة، صريحة، لا تشوبك شائبة.. ففي حالتك، يعود الفضل كل الفضل لزوجك.. الذي لم يكبح جماحك، بل تركك تنمين كزهرة برية عبقة.. يفوح ضوعها في كل مكان.

صادقت على كل كلمة من كلماتي.. وأكّدت بزهو أن زوجها عظيم حقا، كما وصفته لها.. وربما هو أكثر من ذلك..

انطلقت تصفه لنا: وحب غامر، فاض من عينيها ومن نبرات صوتها.. قالت: إن شخصيته القوية والمتماسكة هي سبب انجذابها إليه.

يتركني، أتخذ قراراتي.. ويتيح لي الاعتماد على نفسي في أشياء كثيرة وهامة.

تضرجت وجنتاها، حين رددت اسمه.. وكأنها عادت بذاكرتها إلى أيامها الأولى معه.. حين اختارها من بين فتيات كثيرات كان يفتش بينهن عنها..

حديثها الذي يفيض بكنوزها الدفينة، أثار كوامن نفسي فرحت أناجي امرأة طالما حلمت بها في الماضي الطويل.. وكنت قد تعرفت على مثيلاتها في الجاهلية والإسلام.. حضرن الغزوات، ووقفن إلى جانب الرجل، يشجعنه، ويبعثن ما فتر من الهمة فيه.. يسقينه من أرواحهن شجاعة وإقداما..

ثم عدت بذاكرتي إلى عهود التدهور.. في ظل الحكم التركي.. الذي خرب ودمر قيما عظيمة كانت.. وسجن المرأة خلف الجدران الشاهقة، سجنها ضمن جدران نفسها... فتآكلت من الداخل الداخل.. وانقلبت إلى "حرمة" عليها كل الواجبات، وليس لها حق من الحقوق ففقدت النطق، وعجزت عن التعبير عما يجيش في خاطرها.

سبقها الرجل.. وتخلفت مسافات طويلة عنه..

كل تلك الصور، تتابعت في خيالي.. وأنا أتأمل تلك المرأة الجالسة بثقة أمامي.. فأبتسم لكل العظماء الذين ساهموا في تحرير المرأة.. وإعادتها إلى الصفوف الأمامية لتتبوأ دورها في الحياة.

اشتد الحوار بيننا نحن الأربعة.. واشتد الحماس..

 

كنت أحلل أفكار أمل.. وأتابع إجابات حازم ونهى..

وكنت ألتقي مع أمل بمعظم أفكارها.

إنها تهفو لأشياء كثيرة.. كما اهفو أنا..

وتحلم بمواضيع كبيرة، تعيد لعالمها العربي ألقه، ونوره الساطع كما أحلم أنا.

وتشجع صداقات رائعة، تعقدها مع الرجل الذي يحترم المرأة.. كما أشجع أنا.

مرت ساعات، وحوارنا لم ينقطع.. بل يتوالد، ويتشعب، ويعطي زنا بق فكر جديدة.

أما حازم، فكان يوافقنا على أمور، ويخالفنا في أمور أخرى كثيرة..

وأطلت نهى، تردد أفكارنا.. مؤيدة ومناصرة لأمل.. وفجأة.. تركتنا أمل، ومضت إلى حيث نادتها آذنة المدرسة.. وحين عادت بعد أقل من ساعة.. كان وجهها محتقناً.. وقد استقر غضب شديد في قاع عينيها، وما أن اتخذت جلستها من جديد.. حتى انطلقت تفسر لنا موقفها.

-تخيلوا ماذا فعلت الموجهة.. كادت توقع بفتاة مراهقة وتدفع أهلها لقتلها..

-وكيف حدث ذلك؟

-أكدت لأم الفتاة أن ابنتها عابثة.. وتحرض الفتيات الأخريات على الانحراف.

-ماذا تقولين؟؟ أيعقل هذا؟

-نعم.. وجدتُ الأم هناك تبكي، وتنعي حظها في ابنتها..

-وماذا حدث بعد ذلك؟

شرحت للأم كلمات الموجهة بأسلوب آخر.. بعيد عن الاستفزاز.. وأكدت لها أن ابنتها كبقية الفتيات في مثل سنها تريد أن تؤكد أنها جميلة.. والموجهة تخشى عليها من ألاعيب الشباب.. وربما بالغت الموجهة في لومها للفتاة.. نعم الموجهة هي المخطئة.. فنحن لم نلحظ سلوكاً منها منافياً للحشمة.

ثم بينتُ لها.. أن البنات هنا.. جميعهن بناتنا.. ونحن مسؤولون عنهن ما دمن لدينا.

وبذلك.. نجحت في إسكات ثورة الأم.. وجعلت الموجهة تبكي. .. نعم تركتها تبكي.. لتنال عقابها عما فعلت، فليس من حقها أن تفعل ذلك. كيف ترمي السهام القاتلة إلى قلب الأم المسكينة..

 

تنبهت أمل لغضبها وثورتها.. فاعتذرت اعتذاراً كشف عن سلوكها التربوي الكبير..

تأملتُها مليّاً وقلت بفخر:

لو كانت نساؤنا جميعاً مثلك، لظهر جيل جديد.. تتفاخر به أمتنا العربية.. فأنت الأم.. التي تهز السرير بيمينها، وتهز العالم بيسارها.

13/10/1996.

 

 

وقفت عارية إلاّ..

 

ظلام دامس لف الكون، وأخفاه عن العيون..

وشهر كانون الأول، تكشف عن برده القارس، ورياحه العاصفة.. مما زاد شعور -هبة الله- بالخوف والقلق والوحدة..

انتابت جسدها النحيل رعشتان.. رعشة البرد ورعشة الظلم.. أما الرعشة الأولى فمداواتها سهلة.. ولكنها احتارت كيف تداوي الثانية.

من أجل الرعشة الأولى، غطت جسدها الرقيق بغطاء صوفي ناعم.. ولكن رعشة الظلم الذي حاق بها، لم تفارقها..

برقت عيناه ببريق الانتصار، قهقه بخبث واضح.. بعد حديث طويل أجراه معها عبر الهاتف.. تأكد من خلاله أنه دفعها دون رحمة إلى بئر مظلمة من القهر والذل والاندحار.. حاولت أن تتماسك وتقف صلبة أمامه.. ولكنه ما لبث أن سمع صوت نشيجها وتأوهاتها يأتيه عبر أسلاك الهاتف فانتشى...

-إنه.. إذن لم يضع وقته..

شبت النيران في جسدها -وهي تصغي إلى صوت ماض.. يستعذب آلامها- وامتدت ألسنتها إلى جوارحها فاحرقتها..

وتساءلت: أأبكي وهو يضحك؟..

خرجت التنهدات من صدرها متتابعة كطفل تلقى صفعات من أمّه.. ونام باكياً.. ثم استيقظ من رقاده.. وما زالت الدموع محتبسة في عينيه.. والنشيج يتردد في عروقه.

الهجمة كانت قوية وصاعقة.. لم تتح لها وقتاً للتفكير.. لقد جردها من أوسمتها.. وحرمها من المنصب الرفيع الذي وصلت إليه بعد جهد جهيد.

أحست في تلك اللحظات العصيبة بالحاجة للمسة حنان.. تتركها عليها يد ناعمة.. ليرتاح رأسها المتعب.

وحين أنهى المكالمة.. استسلمت لآهاتها.. مدفوعة بإحساسها بالضعف، وعدم القدرة على الوقوف في وجه من ظلمها.. لأنه كان يملك كل شيء، ولا تملك هي شيئاً.. وكان منصبه أكبر الأسلحة التي يمتلكها.

تذكرت وهي مستلقية على سريرها في تلك الليلة الباردة كيف أنقذت نفسها من الألم الممض.. بأن تناولت وعلى دفعات حبات كثيرة من الأسبرين.. لتنقذ نفسها من الموت بالجلطة أو بارتفاع ضغط الدم..

شريط طويل من الذكريات.. دفعها من جديد للتساؤل.. ولكن لماذا أراد أن يوصلني إلى هذه الحال؟. هل هو التشفي؟ أم هل هو الانتقام؟.

غرقت في ظلام الغرفة الواسعة. مصغية لصوت الصمت من حولها.. مما زاد إحساسها بتلك الهجمة التي مضى عليها سنوات وما زالت تعاني من نتائجها.. لقد أخذ منها كل شيء.. وقتل كل ما حققته من نجاحات.

سيل عارم جرفها، وأغرقها في طوفان من المشاعر المتباينة والمتضاربة، التي تناوبت على رأسها كمطرقة الحداد وهو يسوي أطراف الحديد المنصهر.

حاولت -هبة الله- من جديد، أن تلملم شتات فكرها، ولكنها أحست بالفشل فقد باتت بعد كل هذه السنين لا تستطيع أن تميز بين رأسها وقدميها.. وربما استقر الفكر الصحيح في حذائها المرمي بإهمال إلى جانب السرير الغارق في الظلام.

تلاشى النوم من عينيها.. ولاحت لها سحنته القاسية، وعيناه الممتلئتان بالشماتة.

كان سعدي الحداد قصيرا وممتلئاً.. يميل لون بشرته إلى الشقرة الداكنة المشبعة بلون الشبق.

وكانت هي حلوة وناعمة.. وأجمل ما فيها كان انتصاب قامتها ورأسها المرفوع بكبرياء.

مشيتها القوية والراسخة، دفعت بسعدي الحداد إلى الجنون.

لذا أمسك بيده مقصاً حاداً، وقص به طموحاتها، ورماها مهيضة الجناح لا تقوى على التحليق.. وهي ترى الفضاء ممتداً أمامها، يدعوها للانطلاق.

لم يكتف بذلك، بل هدر دمها، وعفر وجهها وعنقها ورأسها.. انتفضت كالملسوعة أمام ضحكاته التي ملأت الكون من حولها.. أطلّ عليها بنظراته المذبذبة.. فدب الرعب في قلبها.. قطرات عرق بارد غطت جبينها، وتحت إبطيها.. فكادت تنسى برد كانون وثلج كانون.

وهي تتأمل حركته الأفعوانية.. وهو يروح ويجيء أمامها ليسرق منها معنى الأمان.

صرخت.. وكأنها نسيت أنها وحيدة في غرفتها.. والبيت غارق في السكون..

تلوت في سريرها.. وكأن ما حدث في الأمس البعيد قد عاودها الآن.. لم تملك وقتها حق الاعتراض.. فاستسلمت لمصيرها.. مسحت دموعاً انهمرت بغزارة على وجنتيها السمراوين.. ثم لم تعد تدري من واقعها شيئاً.. وكأن النوم قد أخذها إلى حلم غريب.. وقفت فيه شامخة فوق بقعة من الأرض يكسوها الغرين.. التصقت قدماها بالوحول.. كانت عارية تماماً إلا من ملابسها الداخلية.. ولم تكن تخشى عريها..

تسمرت في مكانها.. والرياح تهب من كل جانب.. ولا تنجح في زحزحتها.. وكأنها ملت من مقارعتها.

كان سعدي الحداد، يقف قريباً منها.. وهي لا تراه..

تأملت صفحة السماء المغطاة بسحب ممطرة.. فاشرأب عنقها.. ولكنها تذكرت فجأة أنها مقصوصة الجناح ومثبتة في هذه البقعة الصغيرة من الأرض..  قربها، وقفت جماعة من النساء.. وقد التففن التفافاً يسمح لهن بالثرثرة.

تأملت وجوههن، فوجدتها خالية من التعابير.. شفاههن كانت تتحرك حركة آلية.. ووصلت إلى سمعها مقاطع تحمل من الشماتة والاتهامات الشيء الكثير.

تأملتهن.. وحدقت باستغراب إلى عيونهن وأفواههن فملأتها الدهشة..

عرفتهن جميعاً.. كن قبل أيام معدودات صديقات لها.. يبتسمن في وجهها، فما الذي حدث يا ترى؟ وما الذي غيرهن إلى هذه الدرجة.

عاشت هبة مع تلك المرأة القصيرة والممتلئة سنوات طويلة.. أما هذه الناحلة، التي يكسو الشحوب وجهها.. والتي تزم شفتيها وتضغط عليهما بلؤمْ شديد.. فكانت أقرب صديقة لها.. وكم حدثتها عن همومها.. فوجدت لديها السلوى.

أكانت تستر قلبها الأسود وصدرها الممتلئ بالأحقاد تحت ثيابها الجميلة والبراقة؟.. فقد ورثت عن زوجها الشهيد أموالاً كثيرة ثم تزوجت بشاب يصغرها بسنوات عديدة.

أما البقية الباقية من النسوة، فكن يكلن  المديح لها كلما قابلنها.. ويتشدقن باسمها.. لماذا انقلبن فجأة إلى كومة من صبار.. أو إلى حفنة من الأعشاب الضارة التي إذا اقتلعت من التربة نما الزرع نمواً أفضل..

أصغت إلى سيل الاتهامات وهو يخرج من أفواههن.. انقلبت دون أن تدري إلى تمثال من الدهشة.. فغرت فمها، وفتحت عينيها على سعتهما.. وهي تتأمل تلك المجموعة من النساء.. اللواتي انقلبن إلى أفواه واسعة الأشداق.

نظرت النساء إليها بشماتة غريبة، وفي عيونهن ارتسمت ردود فعل سلبية وهن يصغين بانتباه شديد لحديث المرأتين الثرثارتين القصيرة الممتلئة، والنحيلة الشاحبة.

أحست هبة بألم واخز.. وهي مثبتة في مكانها، لا تستطيع أن تبارحه. في منحدر قريب، وقف عدد من الرجال.. وحين نظرت هبة إليهم عرفتهم وميزتهم.. نظراتهم إليها اختلفت قليلاً عن نظرات النسوة.. فبعضهم كان يتأملها بأسى وحزن شديدين وكأنه لا يصدق ما قيل عنها.

وبعضهم شارك النساء شماتتهن. فظهر الكره والحقد على وجهه.

انتظرت.. علّها تسمع كلمة رحمة.. ولكن واحداً لم يتجرأ على النطق بعبارة تعيد الثقة إلى نفسها.

انهالت عليها الاتهامات المارقة.. فازداد إحساسها بالظلم.. فهي متهمة بجرائم لم ترتكبها.

علقت نظراتها بالرجال والنساء في آن معاً.. وفي ناظريها ارتسمت تساؤلات كثيرة.

علا صوت قوي وحاد يقول لها بغضب شديد:

-اصمتي.. كفاك ثرثرة، وتفاخراً بنفسك.. كفاك حكمة.. أما مللت من تقديم النصائح؟!

كان هذا الصوت صوت سعدي الحداد.. وقد انتصب أمامها ناعما ملسا.. بوجهه الوسيم ذي النظرات الصفراء.. فذكرها بثعلب كانت قد رأته في حديقة الحيوانات. وطغت على سطح ذاكرتها صورة تلك الفتاة المراهقة.. التي وقعت في شراكه.. بعد أن أمّلها بأشياء كثيرة.. وأغرقها في محيطات من كلمات الحب البراقة.. فسحرها.. وحين حذرتها هبة منه.. استشاط غضباً.. فقد اعتبر عملها تدخلاً في شؤونه الخاصة.

ولما زادت هبة في تحذيرها للفتاة.. التي كانت تنقل إليه تفاصيل الحوارات الطويلة التي حدثت بينهما.. اتخذ قراراً...

لقد عرفت الآن فقط ذنبها.. إنها النصيحة.. قدمتها لفتاة من قريباتها.. وها هي ذي تلقى العقوبة.

رفعت ذراعيها إلى السماء معاهدة إيّاها بأنها إذا ما شاهدت إنساناً يندفع إلى التيار.. فإنها ستعمل على إغراقه.

توقفت عربة صغيرة يجرها حصانان، أمسكها شخص مجهول من يدها وأجلسها بين امرأتين.. كان المكان ضيقاً جداً ولكنها لم تتذمر.. فالصفعة ما زالت قوية.. وما أن سارت قليلاً حتى بكت السماء مطراً أسود مشبعاً بالسخام..

خرجت امرأة من الحمام بعد أن اغتسلت وكان الماء ما زال عالقاً بشعرها الأسود الطويل، وهي عارية تماماً.. نظرت هبة إلى ورقة التوت وأدركت أنها الفضيحة.. وأن الأمر معها لن يكون سهلاً.

عانقت حبيبها عناقاً حاراً فذابت في النشوة..

 

ظهرت بقعة من النور أمامها.. فصرخت قائلة: أنا ظلمت يا الله.. سجدت وهي تبكي.. جاء إنسان مهيب الطلعة وقال لها:

انهضي.. قفي على قدميك بقوة.. لا تركعي.. وكانت إشاراته لا تحمل أي لبس.

نادت بيأس شديد.. لا.. لن أنهض قبل أن يعود حقي، ارتفعت سبابة، ووضعت على فمها وكأن صاحبها يقول لها:

-اصمتي الآن.. حقك سوف يعود لك.

أخذها الرجل بين ذراعيه، وضمها إلى صدره ضمة مشبعة بالحنان.. عانقها في صمت جليل.. قبل وجنتيها.. ومسح جبينها ثم مشطت أصابعه الطويلة والنحيلة شعرها القصير...

قالت القصيرة والممتلئة: إن نظراتها إلي كانت تزيد من إحساسي بقصري.. فحين تقف أمامي أحس بالتلاشي ويذهب طولي في عرضي.. فأبتعد عنها وجلة خائفة.. لذا لن يريحني سوى رؤية خنجر مسموم يغرز في جنبها.

وقالت الناحلة الصفراء الشاحبة: أنا لا أرتاح إليها.. ولا أود رؤيتها. تبدو صادقة وفجة وأنا لا أحب هذا النوع من النساء.

وقال رجل مهووس: إنها لجميلة وجذابة.. انتظرت سقوطها طويلاً فلم تسقط.. ولم أتمتع بساعات هنيئة معها..

جاء الرجل الطيب من جديد.. مسح دموعها.. ثم ابتعد عنها وهو يودعها بابتسامة حلوة..

غرقت بين جمهرة من البشر.. كانوا يبتسمون لها.. سعدي الحداد.. ابتسم أيضاً في وجهها ابتسامة أدهشتها.. بدت أسنانه قوية وقاطعة.

هتفت هبة: أمن جديد أراه أمامي؟ وبمثل هذه البساطة؟ أخذها جانباً وقال لها وهو يتخذ صورة الغباء:

-أرضي عنك الآخّرون؟..

اعتذر بشدة.. وانهمرت دموعها.. وكم كانت دهشتها كبيرة، حين لم تحس بتلك الدموع تحرق جفنيها.. بل كانت باردة كبلسم شفت به تقرحات ناظريها.

وعندما فتحت عينيها.. تسللت إليهما أشعة شمس الصباح.. التي داعبت وجهها بلطف.. فأحست براحة عجيبة.. تمطت في سريرها متكاسلة ومتراخية.. وكأن حقها قد عاد لها.

ولم تدر هي نفسها.. كيف نسيت بتسامح غريب عبث الآخرين بها.

10/11/1996.

 

 

صرخة

 

أحسست فجأة أنني غير قادرة على البقاء في البيت.. اخترت مغادرته.. دون أن أعلن عن مكان وجودي..

الرصيف الرمادي يمتد أمامي إلى ما لا نهاية.. وهدير السيارات يملأ سمعي.. كنت بحاجة إلى مثل هذا الضياع.. الصخب أخذني بقوة، فهمت في طريقي.. لا أدري إلى أين أتجه؟

وما أن ابتعدت عن بيتي مسافة ليست بالطويلة.. ممتلئة بمئات الأفكار.. حتى ملأت سمعي صرخة غريبة سمرتني في أرضي.. تلتها صرخة ثانية وثالثة فغاض الدم في وجهي وأحسست بخوف شديد.

سيل متدفق من الصرخات كأنها خرجت من رأسي مخلوطة بكلمات ملزوزة بعضها إلى بعض، شكلت في داخلي نغماً حزيناً يائساً.. قادماً من مكان بعيد من كائن بعيد، تائه في قلب الدنيا.. كان الصوت صوت امرأة متوجعة يعلن عن شيء مجهول.. استنفرت المرأة كل طاقتها لتعلن عن أمر ما.. عن ألم ما.. توجعها حرق أعصابي.. وقد غدت تلك الأعصاب قابلة للإحتراق في السنوات الأخيرة..

شحوب مبيض كسا وجهها الأسمر، فبدت كشبح مخيف ظهر فجأة يهدّد ويتوعد. حدقت إليها غير مصدقة ما أرى.

كانت تحدث نفسها، تحطم نفسها، تليح بيديها في فراغ موحش، وكأنها ترد وحوشا تبغي التهامها.

أنفاسها اللاهثة ترددت في صدرها النحيل..

كدت أهرع لأخذ رأسها إلى صدري.. وأبكي معها.. ولكني خجلت.. وتساءلت بحيرة:

ما سر عذابها يا ترى؟.. وما الذي نغص عليها حياتها.. حتى خرجت هكذا.. يدفعها الألم إلى مثل هذه الحالة الهستيرية..

دق قلبها بعنف شديد في صدري.. وكأن صدري صار صدرها.. أحسست بالاختناق فتحسست عنقي بأطراف أناملي..

 

اقتربت من تلك المرأة أكثر وأكثر وكأن خيوطاً وهمية تربط بيني وبينها.

بحثت عن سر هذا التفجر الإنساني في قلبي.. وعن لغز تلك الثورة التي تشنها علىالكون امرأة واحدة.

وسمعتها تهمس والكلمات تخرج غير مفهومة من فمها الذي يشبه فمي- لم أعد قادرة على الاستمرار- أحس بعجزي- كل شيء قد تغير- لا أملك ما يحل المشكلة.

بدت فجأة جدية تتقن فنّ الصبر والتحمل..

يبدو أن عاصفة حياتية، هبت عليها فحطمت كل أشرعتها وزعزعت كيانها.. فاجتثتها من أرض الواقع.

بكاؤها ونحيبها رسما خطوطاً سوداء على بشرتها السمراء. كانت حانقة فما سبب حنقها يا ترى؟..

كنت أحدق إلى وجهها وفي قلبي استقر رعب هائل.. إنها لتشبهني شبهاً تاماً.. لباسها النظيف، حذاؤها الجديد واللامع.. وجهها الذي يدل على الأصالة والنبل.. لون عينيها بلون عيني، وجهها يشبه وجهي، فمها أيضاً مثل فمي.. قامتها الطويلة والمنتصبة تشبه قامتي.

تشبهني في كل شيء.. وربما وجدت فيها صورتي.. فرق وحيد يفصل بيني وبينها.. أنا أقف الآن هادئة.. شعري منظم.. وهي تبدو ثائرة. وقد تشعث شعرها وتلطخ وجهها ببقع سوداء وحمراء.

سحابة ارتفعت بيني وبينها.. ربما رسمتها دموعي التي انحدرت على وجنتي غصباً عني..

ولكن.. ما علاقتي بهذه المرأة؟ ولم أقف محاذية لها وكأنها أنا؟ أنا صورة السكينة؟ وهي صورة الغضب والثورة.

بدت المرأة شاحبة كشحوب الموت.. وكأنها خرجت للتو من القبر بعد أن أزاحت التراب المنهال عليها.. وبدأت ترتجف كوليد فقد أمه.. غير قادرة على التخلص من أجواء لا ندركها. وحالات لا نستبينها.

لا أدري.. لم انفلتت تنهدات من صدري.. أأنا أتعاطف معها إلى هذا الحد؟.. سالت دموعي من جديد، فمسحتها في صمت.

 

كلماتها المعلنة بدأت تشرح قضيتها.. فهي ممتلئة بالخيبة والإحباط وغارقة في لجج الحياة الصعبة.. ولا تتقن السباحة في محيط نهاية القرن العشرين.

أحسست بجراحها، وقد كشفت عيناها السوداوان عن أسرار نفسها. بت كأنني أعرفها حق المعرفة.. تتكلم هي فأجد صدى لكلماتها في نفسي.

وحين حاولت مسح دموعها صدتني بقسوة ووحشية..

قلت بحنان كبير: أنا امرأة مثلك.. لي مشاكلي وأحزاني..

صاحت صه.. أنت هادئة.. لا تشكين من شيء.

نظراتها الهائجة: أثارت الرعب في روحي.. وحديث العقل لا ينهي المشكلة.

واحترت.. وأنا أتأمل تفاصيل وجهها.. حتى سمرتها كانت سمرتي.. وأنفها هو أنفي.

عنقها، صدرها، وكتفاها، كلها كانت أنا..

ظلت تغمغم بكلمات، كانت تخرج من فمها ناقصة، وكأن لسانها عجز عن متابعة أفكارها المنطلقة كتيار جارف..

وحين التصقت بها من جديد.. احتدت، وزمجرت، مستغربة تطفلي. وقد بدت كطفل شقي، مزق الأولاد وجهه في الأزقة الضيقة وعلته القذارة 

تضاربت مشاعري نحوها وناست بين حب وكره، بين عطف وقسوة..

تمنيت، للحظات، أن أضمها إلى صدري.. أن أخفف عنها.. ولكنها كانت متمردة كفرس حرون.

عاصفتها اقتربت مني. وحاذت مخيلتي، وكأن عدوى آلامها قد انتقلت إلي. بدأت اتحسس جسدي.. وأتساءل:

هل أنا أحلم؟ أم أنني أحيا واقعاً مريراً؟..

مشاعر الحسرة تسربت إلي ووصلت إلى جنبات نفسي.. ففاضت، وبدأت تعطي أكلها. قلت لها بلطف شديد: لكل مشكلة حلّ. وأنت لم تعدمي الحلول كلها هاتي ما عندك أمراً أمراً وربما نجحت في مساعدتك على إيجاد الحل.

-قالت: أنا موظفة.. وراتبي محدود.. ينتهي في الأيام الأولى من الشهر.. والأولاد لا يدركون تلك الحقيقة.. ولن يفهموا ما حل في العالم بعقولهم القاصرة.

يفتحون الثلاجة فيجدونها فارغة.. يطلبون النقود فأرفض إعطاءهم إياها. ينظرون إلى أيدي الآخرين فيجدونها ممتلئة.. يعودون إلى البيت ممتلئين بسخط دائم علي....

تجرأ اليوم أحدهم وقال: لماذا تنكرين نعمة الله عليك.. اخرجي من هذا المكنوز.

ابني هذا لن يدرك أبدا أن العالم يسرع نحو النهاية.

وكل شيء يحتاج إلى مال.. أفهمت الآن مأساتي؟..

كنت أصغي إليها ولا أحير جوابا، فكل ما تحدثت عنه كان صدقاً.. وكل فكرة شرحتها وجدت صداها في نفسي.

دموعها المنهمرة، دفعتني للبكاء.. وكأنها تحدثت بلساني.. استعذت من الشيطان -قاتله الله- كم يثير في نفوسنا من الوساوس!!

لقد صار الفقر هاجساً.. تعملق، وبدأ يترك وشمه على جلودنا. بدأت أطمئن مثيلتي، وأهدئها، وأنا لا أومن بكلمة واحدة مما أقول.. بل أكذب عليها، وعلى نفسي.

أنا أتألم مثلها.. أثور كما تثور.. وأنفجر كما تنفجر.. وأبحث عن الحلول ولا أجدها، ولا أخجل من إعلان غضبي.

أخذت تلك المرأة من يدها.. وعدت بها إلى بيتي.. أغلقت الباب بالمفتاح.. ثم فتحته.. فاللصوص يدركون أين تختبئ النقود؟

ظل الجو بيني وبين المرأة مشحوناً بالتوتر. ثم هطلت أمطار، وتلاشى سحاب..

اقتربت منها، ومسحت دموعها، وشطفت وجهها.. وحين حاولت تجفيفه، اختفت تلك المرأة، ولم أجد أمامي سوى وجهي.. وقد بدا شاحباً.. ممتقعاً مصفرا.. وكأنني قمت، تواً، من مرض شديد.

20/11/1996

 

 

حين يهتز الوتر

 

نظرت إليه بتمعن وتفحص وقالت هامسة: ربما هو.. كان يجلس على طاولة بعيدة.. وحوله يلتف عدد من الأصدقاء.. نظر إليها هو أيضاً نظرة يخالطها الشك والحيرة.

لم يتقدم إليها، ولم تتقدم إليه.. فربما اختلف شكله قليلاً.. وربما اختلف شكلها أيضاً.

سنوات عشر.. مرت حتى الآن، مسافة طويلة، فصلت بينهما منذ لقائهما الأول. هناك في أحضان الطبيعة.. في تلك البقعة التي تسكنها الينابيع.. ويحتلها الشجر المثمر.. وتملأ جنباتها أشجار الصنوبر والسرو والحور والصفصاف.

بقعة يتوسطها جدول رقراق، يمتد بين بساتينها المنبسطة في حضن الوادي.. وتمتد البساتين حتى تصل إلى قمة الجبل، رافقها في جولة طويلة بين الحقول، أمسك بيدها.. وقطع معها الغدير، ضحكت كثيراً، وشاركها ضحكاتها.. حين تبللت ملابسها.. وعلقت الرمال الناعمة بين أصابع قدميها.. تسلقت معه الجبل المؤدي إلى مغارة. يسكنها أحد الشعراء الهاربين من الصخب.. ولا يأتي إليها إلا كل من له ولع بالمغامرات وتسلق الجبال.

تفصد العرق من جبينها الأبيض العريض.. وملأت السعادة قلبها. وهي تتسلق الجبل العالي، مدفوعة بحب الاستطلاع لرؤية ذلك الشاعر المجنون.

وحين وصلت الجماعة إلى قمّة الجبل.. اضطروا جميعاً للإنحناء والاعتماد على حواجز جبلية.. لكي يصلوا إلى المغارة، التي بدت واسعة من الداخل، محاطة بسقف صخري قاس.. وعلى الأرضية الممهدة، استقرت طاولة خشبية صغيرة.. صف حولها عدد من الكراسي المنخفضة.. التي حيكت مقاعدها من خيوط نباتية لينة.. هي أقرب للقش.. وربما أخذت من أعواد القصب المزروعة في أماكن متفرقة من تلك البقعة..

في الجهة اليمنى من المغارة تربع موقد صغير، ركب من تقابل حجرين متساويين في الحجم والارتفاع.. تفصلهما كومة من الرماد المتفحم.. عليها وضع إبريق لصنع الشاي قد جلله السواد من كل أطرافه.

في اللحظات الأولى، فاجأها برود الشاعر.. الذي ما لبث أن ابتسم ابتسامة ودوداً.. وحين ابتدأ الحديث، خرجت ألفاظه رقيقة، وبرقت عيناه بوميض من الترحاب..

وضع الشاعر في الموقد أعواداً جافة.. ثم رش عليها "زيت الكاز" ورما فوقها كبريتا مشتعلاً.. فالتهب وأضاءت وجوه الحضور.

وحين وزعت أكواب الشاي ذات اللون العقيقي بدأ حديث السمر.

انبجس النور من خارج المغارة.. ووصل عبق الزهور البرية إلى أنوف السمار مع النسائم العليلة المحملة بالدفء..

الوقت كان بداية الصيف، وشمس أيار، أتت حميمة.. بأشعتها الفضية.. التي تسللت وصافحت وجوه الملتفين حول المنضدة المنخفضة.

في صدر المغارة ركّز سرير حديدي.. ستر بفراش مبرقع بألوان شتى.. وغطي هذا الأخير بغطاء من نوع رخيص توسطته وسادة.. أما الغطاء الصوفي فقد طوي ووضع في أسفل السرير.

رشفات الشاي ظلت تتردد في أرجاء المغارة مصحوبة بحوار ممتع.

نظر إليها بعينين واسعتين جميلتين.. فاستراحت لنظراته الدافئة كدفء الربيع.. واستسلمت لتلك النظرات وكأنها طفلة صغيرة، تتقبل كل ما يقدم لها من هدايا.

نظراته المشبعة بالحنان أشاعت في قلبها الفرح.. فشعرت بجمال المكان وسحره.

والمغارة.. أعادتها إلى حياة الإنسان البدائي.. الذي مارس رجولته على المرأة التي تشاركه المغارة.. حين أعلن قوته بقسوة تصحبها الرهبة والرغبة.

وكأن تلك المشاعر البدائية قد انتقلت إليها.. فأحست فجأة بكثير من العاطفة.. وشيء من الخوف.

في طريق العودة، حيث تقوم الذرا الجبلية المنبسطة.. بدأا.. الهبوط معا إلى السهل الممتد في أسفل الهضاب..

قدم لها أزهاراً برية ليلكية وصفراء.. وأهداها غرسات ذات شفاه مفوفة تشبه البنفسج والنرجس.

صمتا وهما يقطعان المسافة المؤدية إلى الوادي.. وحديث رائع دار بين قلبيهما.. لم يصل إلى أفراد المجموعة..

سافرت، وتركته هناك.. وهي تحمل في صدرها تلك الساعات الغريبة الغنية بالعطاء.

والآن.. تراه من جديد أمامها.. رددت اسمه وهي تتأمل وجهه الأسمر النحيل.. وتراقب ارتعاشات شفتيه الرقيقتين وهو يحادث أصحابه.

ما زالت في ربيع أيامها.. ووصل هو إلى منتصف الخريف.. الأبواب الموصدة تساقطت الواحد بعد الآخر.. الأسوار المرتفعة اختفت أيضاً.. والبيت فتح على مصراعيه.

الحراس ناموا.. والعوائق المزروعة على الدرب، ذهبت إلى غير رجعة وانتقلت إلى حيز الاحتمالات.. فربما تسللت إليها أشعة الشمس الدافئة... وربما هبت عليها عواصف هوجاء.

ربما عشق بيتها ضوء القمر.. ربما.. وربما..

وقفت التساؤلات متراصة متدافعة أمام نوافذ القلب المشرعة، تنتظر الجواب.

إنه هو.. غاب فجأة كما ظهر.. ملول، يرفض الرتابة الحياتية.. ويدفع الآخرين معه للتجديد.

يرفع فجأة رايات الفرح الخضراء، ثم يعقبها دون مقدمات برايات الانتظار القاتمة.

قالوا: إنه عاصفة.. وهو النسيم العليل.. يذكر بأنفاس الربيع العبقة، ثم يفاجئ بعاصفة ثلجية باردة...

قادر على التبدل والتغير.. يضيء قلوب الآخرين، ثم يشيع بها الظلام.. ساعات قليلة تفصل بين النور المشع والظلمة الحالكة.

وها هو من جديد.. ينتصب أمامها بابتسامته المنتصرة. يمسك بيدها. ويأخذها مهزومة إلى دياره المرصعة بأوراق الورود المتوجة بألوان مرحة.

أخذها بين ذراعيه.. قبلها.. استنشق عبيرها.. فتح مسامات جسده، وأدخلها إلى هناك.

تسطحت، شفت، تداخلت في مساماته، التصقت، وقد شدها إليه ضوع رجولته الواثقة.

لحظات.. مسروقة من الخلود.

تمنت عليه، وتمنت على نفسها.. وتجسدت الأمنيات.. عذبتها أفكارها.. عصفت بها رغباتها.. ألجمها تردده، وقيد مشاعرها الخوف من المجهول.

هو يؤمن باقتناص اللحظة.. وهي تؤمن بضرورة استمرار الحلم.

أرهبتها صفعات اليقظة.. وأغرقتها بمئات الضربات الموجعة.

عالم جديد، وجميل.. توالد، وتنامى بسرعة، جاوزت حدود الزمن.

ليل طويل.. وغفوات ممزقة ومتلاشية.. ونوم بلا رحمة.. هاجمها نور الصباح.. أيقظها بعنف.. اقتلعها من فراشها وهي تئن وتتأوه.

مساحات جسدها تنادي، اسم واحد تردد في خلاياها المتعبة.. اسم لا تمله.. تعيده وتعيده.. وفي كل مرة يكتسب هذا الاسم نغماً جديداً ويعلو كلحن شجي.. فتبتسم وتغضب.. حدثته عن أمنياتها، وحدثها عن الفرص الكثيرة المتاحة لهما.

سألها عن معنى الانجذاب.. وحدثته عن ساحته المغناطيسية. سألها عن معنى الجاذبية.. فحدثته عن أسرار الطبيعة.. وعن الأرواح الشاردة والعالم الأثيري وعن الأمور التي يصعب تفسيرها.

وشرحت بإسهاب كيف ينجذب الإنسان إلى بعض الأشخاص وينفر من بعضهم الآخر..

ابتسم في خبث ظاهر.. وبادلته هي ابتسامة صادقة.

قال: أنت امرأة رومانسية..

وقالت: أنت إنسان واقعي.. بعيد عن الخيال.. وتتماشى بسهولة مع قانون الرياضيات.

أجابها بمرح ظاهر: أنا واقعي.. ولكن لا مناص من قليل من الرومانسية، حتى لا أصل لدرجة الجمود.. وأنا لست قاسيَ القلب كما تحسبين.

قالت: أنت تخاف جموح عاطفتي.. لذا تضع العراقيل أمامي.. أقوم أنا بعملية مد.. فتعيدني إلى الصواب بعملية جزر.

-كلما رأيتك أكثر.. تجلت أمامي أحاسيسك الرهيفة.. فأنت تخفين رقتك وراء ستار من القسوة.

-أخشى على أمواج عواطفي أن تهجر شواطئها.. وتطغى حتى تغمر المساحات كلها.. أخاف عليها، فأقولبها، واعلبها.

وفي ساعات خالدة، أطلق ينابيعها لأرتوي، وأسقي من حولي.

قال لها: إنك امرأة غريبة. أصدقاؤك كثيرون، يأتون إليك محملين بمشاعرهم.. وربما يجذبك الحب إلى عدد منهم.

قالت: لا.. واحد فقط يملأ خيالي، ويسكن قلبي.. والآخرون أصدقاء أحاورهم حواراً إنسانياً غير قابل للانتهاء.

-ما نوع عطائك للحبيب؟

-سؤال عجيب.. من يسكن قلبي.. أتح له امتلاكي.. يراني نبع عطاء.. ويغرف مني ما شاء له الغرف..

-سعيد أنا بهذا الحوار..

-أتمنى.. ألا ينتهي.. فهو يسعدني أكثر مما يسعدك.. قال لها بعد تفكير طويل: النساء يردن الكثير، ولا يكتفين بالقليل.. وهن يرغبن في امتلاك كل شيء.

-الفارق بيني وبينهن.. أنني أكتفي بالقليل القليل.. فأنا اختزن الكلمات الصادقة. وأرسم على صفحات قلبي البسمات المحبة.. وأخط صور الحبيب في عقلي ووجداني.. لذا لا أحس نفسي فقيرة أبداً..

-حديثك.. يفاجئني.. نحن الرجال، نتذوق النساء، ففي كل أنثى نقف على طعم جديد.

قال بثقة كبيرة: -الأنثى الحقيقية، لا تعلن عن أنوثتها إلا أمام رجلها، الذي تختاره بنفسها.

-قالت بسخرية مرة: مسكينة تلك المرأة.. فهي ستحس بالوحشة الطويلة في طريق بحثها عن الحبيب.

-ومسكين ذلك الرجل.. لأنه يضيع الحب الحقيقي في لحظة اغتراب عن قلبه.. حين يمر بنزوة عابرة.. تحمل أسباب موتها. وأنا لم أتمن يوماً أن أكون رجلاً..

-أما أنا.. فسعيد جداً لكوني رجلاً.. سيد بيتي.. وسيد نفسي.. وسيد المجتمع.

-وأنا سعيدة جداً لكوني أنثى.. عذبة.. تغني نشيد الحب الخالد.. نشيد الأمومة الرائعة.. ونشيد البيت الغارق في السعادة.

مسحورة، جلست في زاويتها، ذاهلة.. استندت إلى وسادتها.. سارت كالمنومة.. عقدت لسانها الدهشة.. أخذتها الجنيات إلى عوالم سحرية.

رقصت، غنت.. أطفأت لهيب الشموع.. استسلمت غير آسفة لصدر حبيبها، رددت أغنية العالم.." رجل وامرأة" كأسان من الخمرة المعتقة، شفاه عاشقة وجنة عدن جديدة.

ابتدأت فصلاً جديداً في "مسرحية الحياة".

ارتفع الستار.. وانكشف عنها وعنه.. يعيدان بحيوية قصة بدء الخليقة.. آدم وحواء جديدان، ظهرا في ملابس عصرية.. حملا مشاعر عرفها الإنسان مذ رأى النور.

سمعا تصفيق الحضور.. شاركهما الجمهور نبضات قلبيهما ملتفين.. ظهرا على المسرح.. متعانقين.. وقد تداخلت أطرافهما تداخلاً يصعب التمييز معه بين حدودهما.. وقفتهما معاً حملت معنى الخلود.. معنى التكامل والانسجام.. برزا كتمثال من الدفء والحنان والاستسلام للحلم.

انتقلت عدوى الحب إلى المشاهدين.. انطلقت عقيرتهم بالغناء.. إحياءً لهذا المشهد الإنساني الرائع..

الستار، ظل مرفوعاً.. وظل العاشقان يرددان معاً أغنية الحياة، أغنية الخصب.. وفي كل مرة.. كانت تكتسب وقعاً جديداً..

30/11/1996

 

 

البصّارة

 

 

قرقرة النارجيلة، ذات الإيقاع المحبب، جعلته يستسلم لها.. مداعبا ثغرها المدبب بشفتيه، متناسياً حياته، اسمه، وعنوانه.

من تقع عليه عيناه في هذه اللحظة، يحسب أنه أمام عاشق قد كواه الغرام، وأضناه الجوى.

لم يشعر بقدومها، حين اقتربت منه وطقطقت بالودع في قاع كفّ يدها اليمنى..

تسمرت أمامه وعلى ملامحها سمات التردد..

تأملت وجهه عله يلمحها، وأحدثت حركة خفيفة بصدفاتها الملونة ذات الأشكال المتباينة..

ولكنه ظل مستغرقاً في قرقرة النارجيلة.. في ذلك اللحن اللطيف، الذي يهواه الرجال، ويلجؤون إليه في ساعات الفرح والترح.. وفي أوقات فراغهم.. يهربون من بيوتهم إليه.

السحر يقف قبالته، وهو لا يراه..

والساحرة تغريه بصدفاتها.. وبلعبتها المسلية.. التي ابتدعها خيال الغجر.

انتصبت الشابة السمراء بقدها الأهيف، وعنقها الطويل الذي زين بالحلي.. ثم استندت بخصرها النحيل إلى طاولة هذا الشاب. وحين شعرت أنه لم يعرها اهتماماً.. انتقلت إلى طاولات أخرى.. ثم عادت إليه وهي تتبختر بثوبها الموشى والمطرز بخيوط حريرية ناصعة.. وتداعب عقودها التي تدلت بأطوالها المتفاوتة حتى خصرها..

ربما أثارها شروده.. اقتربت منه هذه المرة.. وألقت عليه بالتحية ثم فاجأته بقولها:

-بتريد تشوف بختك؟

-ابتعدي من هنا.. هادا.. اللي كان ناقصني..

-شو عم تقول

-عم أقول.. ابتعدي.. واغربي عن وجهي..

ولما لاحظ أنها ما زالت مسمرة في مكانها.. كاد ينهض ليصفعها ولكنّه اكتفى بطردها:

-أما قلت لك اذهبي.. لماذا لم تذهبي؟ تقفين أمامي كالصنم.. هل أنت صماء..؟ ألا تفهمين كلامي؟!!

-جرب هذه المرة.. لن تندم.. صدقني لن تندم.. فأنا ماهرة بمعرفة المستقبل..

ضايقه جوابها..

-المستقبل.. هل أنت تعرفين الغيب يا عبيطة.. إنك تعرفين فقط الشعوذة والكذب واللعب على العقول.. وأنا حتى الآن ما زلت محتفظاً بما بقي لدي من عقل..

حين التفت إليها من جديد.. استراحت عيناه لنظراتها الضاحكة.. المشبعة بعبث طفلي ساحر.

جلست دون أن يأذن لها بالجلوس.. وكأنها قرأت حروف موافقته على وجودها.. وسمعته يقول باستكانة:

-سأسلم أمري لله.. ما في فائدة من الكلام.. الغجر هم الغجر.. لن تختلفي عنهم.. وهم لن يتبدلوا ويتغيروا مهما تبدل وتغير العالم من حولهم.

همس بتلك العبارة، ثم انصرف من جديد، إلى قرقرة النارجيلة.. فردت الصبية صدفاتها.. وِأشارت بإحدى أصابعها إلى صدفة كبيرة ثم هتفت بمرح ظاهر.. أرى الآن أخباراً مفرحة ستصلك عن قريب.

قطب ما بين حاجبيه، وتقلصت ملامح وجهه.. وزم شفتيه وظهر ألق غريب في عينيه.. يشبه الدموع.

غطت الصبية السمراء الفاتنة وجهها بكف يدها اليسرى.. وكأنها رحلت إلى البعيد.. ثم سمع صوتها يقول:

-شايفة.. هلأ دموعا في عينيك.. هذا لن يطول.. ستأتيك السعادة لتمسح دموعك. تأمل هذه الصدفة المتوجهة إلى السماء الزرقاء.. إنها تشير إلى هلال الأمل..

كاد يصرخ في وجهها ليقول لها: اخرسي أيتها اللعينة.. كفاك كذباً ونفاقاً.. إن تابعت حديثك هذا.. سأصفعك على وجهك..

التفت إليها.. فوقعت عيناه على وجهها المخضب بحمرة الحياة.. وشد انتباهه استدارة هذا الوجه.. وهاتان العينان الضاحكتان بحبور.. وهذا الصوت المزقزق كالعصافير..

-هي أفضل مني.. هتف لنفسه.. حياتها أكثر صعوبة من حياتي.. ورغم ذلك هي تضحك وتمرح.. نحن أهل المدن نخلق من الحبة قبة.. ومن المشكلة الصغيرة قضية مستعصية.. ولكن.. تباً لهذه الغجرية.. كم تبدو سعيدة!!

لسانها منذ انطلق.. لم يتوقف عن الحديث.. كانت تشرح ما تراه أمامها وكأنه أمر يقيني..

-انظر.. أيها السيد.. هذه الصدفة ستخرجك من الضيق.. أنت واقع في ضائقة.. ولا تريد أن تعترف لي.. ولكن ما علش أنت تستطيع أن تخرج من هذه الفتحة الصغيرة..

تأمل الفتحة التي أشارت إليها الغجرية وكاد يضحك.. وهو يتخيل نفسه وقد دق جسمه ونحل.. وصار بإمكانه أن يخرج من هذا الثقب إلى العالم الرحب.

-ذكية هذه الغجرية، وفيها شيء من حكمة أجدادها-

من أين جاءت بهذا الحديث؟.. إنها تمثل.. نعم تمثل علي.. ولكنها تتقن التمثيل..

ليتني أصبح مثلها.. فهذا الجمود الذي أحسه في داخلي يكاد يقتلني وكأنني مصبوب في قالب.. كل ما أراه حولي يزعجني.. حتى الطعام.. لم أعد أشتهيه..

أنا لست مقولباً.. ولكني معقد.. هذه التسمية تلائمني أكثر.. أي لست واقعياً.. أحيا في الخيال والوهم.. والإثنان يؤديان إلى الحزن والقلق والشكوى الطويلة..

صوت الصبية الغريبة سكن في أذنيه، وملاّ سمعه.. فاستراح إليه..

-ستشعر بالراحة بعد التعب.. اهدأ قليلاً.. واصبر.. فما بعد الضيق إلاّ الفرج.

انظر إلى هذه الصدفة ذات اللون الزهري.. إنها صدفة الحياة السعيدة..

حاول مقاطعتها مرات ومرات..

أراد أن يلغي كل ما قالت.. وحاول أن يغلق الأبواب التي فتحتها أمامه قبل أن يعرف ما في داخلها.

ثم استكان لنظرات الغجرية.. ولعبثها.. وتمنى أن يحيا دقائق من العبث والمرح.. وأن ينسى جديته.. ومزاجه الصعب ولو لوقت قصير.

وهمس لنفسه قائلاً:

- ما يجري الآن أمامي هو شيء مسل.. فلماذا أهرب منه.. "قليل من الترفيه يفرح قلب الإنسان"..

رفع عصام رأسه.. فوقعت نظراته على عيني الصبية.. ولاحظ تلك الثقة المطلة من نظراتها المعجونة بخمرة الحياة..

انتقل بنظراته إلى ثغرها الباسم والمستدير.. الذي تكشف عن صفين من الأسنان البيضاء شديدة اللمعان.

وسمع في أعماقه صوتاً يقول: -أنا شديد الإعجاب بهؤلاء الغجر.. الخارجين على الأعراف والتقاليد التي رسمتها القوانين التي تخدم الأقوياء..

فهم يحيون بعيداً عن كل ما يعكر الصفو.. يحيون حيواتهم يوماً بيوم ولا يحسبون حساباً للمستقبل.. ليتني أرحل معهم.. ليتني أصبح واحداً منهم..

أنفاس الغجرية الفاتنة.. كادت تلامس أنفاسه..

ربما كانت صادقة.. قد كشف الإله عنها شيئاً من حجب الغيب.. طمأن نفسه بتلك العبارات.. لذا ظل صامتاً.. يصغي إلى نبرات صوتها الآتي إليه عبر إيقاع موسيقي..

-ما هي الخسارة التي ستحل بي إن بقيت على هذه الحال؟!

فأنا خسرت كل شيء.. فلماذا أتمسك بالواقع المعاش إلى هذه الدرجة.

تأملها من جديد.. فرآها عظيمة.. حركاتها تدل على الإرادة والإصرار، رآها أشد قوة منه.. هو الآن يحس بضعفه، هارب من كل شيء.. من المسؤولية.. والعمل.. ومن الأصحاب والأهل..

وتساءل بحيرة:

-أأظل صامتاً هكذا؟؟.. وأمامي هذه الغجرية المجنونة.. التي تتفجر الحياة من كل عرق من عروقها؟

أتمنى أن أظل على تلك الحال يوماً كاملاً.. أربعا وعشرين ساعة.. فأنا فقدت كل شيء.. لم يبق لدي ما أخشى عليه من الضياع..

لن يضيرني البقاء مع هذا الكائن الجميل.. ذي العينين الضاحكتين.. والقلب النقي..

أحس لكلماتها صدى في نفسه..

وهي لم تكن تدري أنه لا يعنيه شيئاً مما نطقت به..

استعذب صوتها، وإيقاع نبراتها.. والنغم الموسيقي العذب.. الذي يأتيه مليئاً بالحماسة والاندفاع..

صبت في سمعه عبارات التفاؤل.. وبدأ يرضيه حديثها عن المستقبل.. وعن الآمال التي تنتظره في مفرق طرق.. رغم إيمانه بأنها تكذب..

أعاد بذاكرته المتعبة كل ما مر به في أيامه الماضية..

توالت الصور متتابعة.. بدأت بطيئة ثم ما لبثت أن تسارعت.. وتحولت إلى خناجر تدمي حلقه.. وعلى إيقاع صوت الغجرية الإنساني رأى نزفه..

كل ما انجزتُه.. "ذهب مع الريح"

سمع صوتا كأنه مناجاة..

-ما بك.. يا أخي.. ألا تصغي إليّ.. لم تجبني حتى الآن.. على كلمة واحدة من كلماتي؟!!

أأسكت أم أستمر في حديثي؟..

أجابها بصرخة كلها حماسة:

-استمري أيتها البنت الكذوب.. حديثك الملفق يكاد يذهب عني الغم والكدر.. ويعيدني إلى صوابي..

وحين نظر إليها من جديد.. رأى فرحا طفلياً مشاغباً قد ارتسم في عينيها. وكأن قامتها صارت أطول.. زاد شموخها.. وانتصب ظهرها فأبدى عنقا ملسا جميلاً.. تأمل خديها النضرين، ووجهها المفعم بالصحة والعافية..

وتساءل من جديد:

-من أين يأتيها هذا الانسجام مع نفسها ومع الآخرين.. إنها لسعيدة سعيدة؟؟

غرق في دياجير عينيها الفاحمتين المرصعتين بنجوم المعاناة.. ظلت تتحدث وتضحك ملء شدقيها.. وكأنها ولدت في أحضان السعادة..

تخيلها وهي تجوب الطرقات وتقيس الشوارع جيئة وذهابا.. وتجالس مجموعات متباينة من الأشخاص ذوي طباع مختلفة وبيئات متضاربة.. ثم تعود في المساء إلى بيتها، لتعطي كل ما جنته إلى أولياء أمرها.

ربما لا تملك بيتا.. حتى ولا غرفة تأويها.. بل تحيا تحت خيمة ساكنة.. تحت ظلال الأشجار.. ضائعة في مكان مهجور من أطراف المدينة.

أحس أن الغجرية قد نجحت في مهمتها.. وقد أعادت إلى روحه البائسة شيئاً من التفاؤل.. ولكنه دهش حين سأل نفسه:

-هل وصلت إلى هذا الحد من الهزيمة..

ولكنه صمت؟‍!!

أيام كثيرة مرت.. وهو يحيا حياة غريبة.. هي أقرب لحال انعدام الوزن.. لا يفكر بشيء.. لا ينجز أي عمل.. ولا ينتج شيئاً.. حياته غدت كالموت البطيء..

أيقظته الصبية وهي تشير إلى إحدى الصدفات بسبابتها.. وتظهر له كل من تآمر عليه.. واقتلعه من عمله.. رأى ذلك القصير، النحيل، الشاحب.. وهو يسير خلفه حاملاً له حقيبته..

أحس بسم يسري في عروقه.. مسح قطرات من العرق غطت جبينه.. لقد كشفت الغجرية السرّ.. تباً لها..

شرنقهَ الخجل.. ودهش.. وتساءل كيف فتح قلبه لهذه الغريبة.. ودقائق قصيرة جمعت بينه وبينها.. تمنى لو تبقى معه لا تبارحه.

وحين لاحظت الصبية اهتمامه بها.. ارتسمت الدهشة في ناظريها.. وقد أدركت هذا الحزن العميق المستقر في صدره.. وهذا ما شجعها على الاستمرار في الحديث مستخدمة فراستها وكل ما تعلمت من أفراد قبيلتها..

-إنك تتألم.. لأن الغدر أحاط بك من كل جانب..

ها هي الحرباء تنظر إليك بوجهها الملون..

انتفض وقد اعترته رعدة.. ودبت ثورة عظيمة في كل عضلة من جسده.. هاج.. وطوح بيده.. فسقطت النارجيلة.. أسرع النادل معتذراً.. ووعده بأنه سيجلب له نارجيلة أخرى.. ذات جمرة متقدة..

رأى الشخص البغيض.. يتبوأ مكانه في العمل.. بعد أن امضى هو سنوات... في بناء المصنع.. وتجهيز خطوط إنتاجه.. وحين رأى الثمار الأولى لجهوده جاء حامل حقيبته.. وقعد مكانه..

لم يقبل أن يوقع على الصفقات المشبوهة.. وهذا الثاني.. وافق على كل شيء دون تردد..

إنه لأمر مثير للجنون..

غادر المصنع بملء حريته.. لم يطرده أحد.. ولكن ما حدث دفعه إلى اتخاذ قراره.. أيصبح هذا الصعلوك رئيسه في العمل.. وهو لا يملك المعرفة ولا الموهبة..

لم يجد أمامه سوى فكرة الرحيل.. الرحيل هو الحل المنطقي.. الذي يعيد إليه إحساسه بكرامته..

استرق النظرات إلى الغجرية.. وكأنه يريد أن يجد بها ذاته الضائعة..

شاركته دون أن تدري أحاسيسه وهمومه.. وجد صوتها أقرب الأصوات إليه.. بل هو صوته أو صدى ذاته المتوجعة..

لن يفتح قلبه للآخرين.. فالآخرون لن يعيدوا إليه ما سلب منه.. وهذه الغجرية ستمضي بعد دقائق في طريقها بعد أن نطقت بكلمات، كان قد حرص على أن يخبئها في صدره.. هي لسانه الآن.. تتحدث بما يجب أن يسمع.. وتردد أموراً هي سر معاناته.. دمه الآن يفور، ويمور وهو مشدود بخيوط خفية إلى جليسته وكأنه اتحد بها، واتحدت به.

-أمامك سفر طويل.. انظر إلى هذا الطريق العريض.. لن تجد به عقبات وقد فتح أمامك.. به ستجد كل ما تتمنى.. ورب السموات سيرافقك في خطواتك لا تحزن.. ولا تتألم.. امسح دموعك.. لا تخجل!! فأنا أراها مختفية خلف جفنيك..

رفع رأسه، ونظر إليها نظرة طويلة، وكأنه يريد أن يشكرها، أحاسيسه بدأت تصحو، وقلبه أخذ ينبض بانتظام في صدره، وكأنه خارج للتو من حمّام بخاري، ترك به كل سموم جسده، كلمات الصبية الحلوة، أذابت جبل الجليد، سبح في مائه، فانتعش رأسه، وتنبهت مشاعره النائمة.

تأمل وجه الفتاة الغجرية من جديد.. وأبحر في عينيها دون أن يراها ودون أن يدرك سحر قسماتها، وكأنها البرزخ.. الذي نقله إلى ربيع عطر.

اقتلع نفسه من كرسيه.. نظر إليها نظرة أخيرة.. ثم غادر المكان بسرعة عجيبة بعد أن ترك بين يديها كل ما يملكه في جيبه.. فتحت فمها لتتحدث مرة أخرى عن مستقبله.. ولكنه لم يتح لها تلك الفرصة.. وحين سار في الشارع وغرق في الازدحام  لمح عينيها تجحظان أمام تلك المفاجأة.

في 24/3/1997.

 

 

في قارب الحلم  نغني

 

 

عقارب الساعة قاربت العاشرة ليلاً..

الشوق ملأ فؤادها، وفاض نبع الحنان..

أحست بحالة من الامتلاء الكوني، فأخذت تردد أغنية طالما أعادتها كلّما خطر هو في بالها.

خرجت إلى الشرفة، تستبق اللقاء..

كان الجو رطباً، يوحي بليلة ممطرة..

السحب غطت السماء، والهواء البارد لامس جلدها فأنعشه.. أدركت وللمرة الأولى أنها باتت تهوى الشتاء ببرده وجليده، وتفضله على الصيف.. فوهج حرارته صار يحتّ خلاياها..

أعادت في ذاكرتها في تلك اللحظة كل الليالي الطويلة.. التي قضتها.. تتلوى في فراشها، وتكتوي بالحرّ الشديد..

لم يعد جسدها الأسمر النحيل يصبر على تلك النار الصيفية المنبعثة من الأرض والسماء..

تمنت لحظتئذ أن يأتي الشتاء مبكراً، لتختفي في بيتها خلف السجف السميكة، وقد أقفلت النوافذ والأبواب.. وتدثرت بدفء السحر الذي يملأ المكان..

طالما شبهت البيت بالرحم الكبير.. تختفي فيه، فتحس بالأمان.. طال بقاؤها في الشرفة المطلة على الشارع  العريض.. تراقب مصابيحه الفوسفورية، ثم تنتقل بنظرها إلى المركبات القادمة، علّه يأتي بواحدة منها..

ثم ما لبث البرد الشديد أن دفعها للهروب إلى الداخل.. باثاً في جسدها اللدن رعشة قوية هي أشبه ما تكون برعشة الحب.

الرعشتان، رعشة الحب، ورعشة البرد.. تولدان برودة في الأطراف، وتوقظان ما نام واستقر من الأفكار.. في رأسها، تراقصت خيالات أمتعتها.. تأملت وجهها المنعكس على صفحة المرآة، فأعجبها ألق عينيها وحمرة خديها، ابتسمت ابتسامة مقتضبة، حملتها كل المعاني الدالة على تلك العاطفة الناعمة التي تملأ فؤادها، وتفيض من نظرات عينيها العسليتين الصافيتين..

-ولكنه تأخر..

 

همست لنفسها وهي تروح وتجيء وكأنها تقيس دهاليز بيتها، وتلقي نظرة إلى كل زاوية فيه.. وفي قمة الانتظار، رنّ جرس البيت.

وحين رأته منتصباً أمامها بقامته الفارهة، ورأسه الشامخ.. أفسحت له مكاناً مادة يدها اليمنى بإشارة ترحيب كبيرة..

-أهلاً وسهلاً.. تفضل.. لماذا تقف هكذا.. ألا تود الدخول؟!

تقدم ببطء شديد، وقف في وسط الغرفة.. ثم اختار لنفسه مكاناً أقرب ما يكون إلى المدفأة..

تركت يدها في يده الباردة.. ثم ما لبث الدفء أن تسلل إلى أصابعه الطويلة السمراء..

علقت نظراتها في عينيه السوداوين البراقتين كليالي الصيف المنعشة.. لبثا دقائق على تلك الحال.. وكأن كل واحد منهما يود أن يتبين مقدار الشوق في نظرات الآخر.

وحين اطمأنت، وسكنت أفكارها العابثة الشقية.. وارتاحت لنظراته العميقة المشبعة بدفء الحياة.. حاولت أن تشيح بنظراتها.. وتتركه يرتاح قليلاً من نظراتها المتفحصة..

أنصت سامي لضحكاتها المرحة، وقابل تلك الضحكات بابتسامات ناعمة، افترت عن أسنانه البيضاء وعن تلك الندبة المنغرسة في أسفل خده الأيسر..

-كيف حالك

كانت هذه أولى العبارات التي نطق بها فمها..

-كيف حالكِ أنتِ" وما هي أخبارك"

أجابها بلهجة حيادية لا أثر فيها لأي انفعال.

ثم ما لبث أن نهض من مكانه.. قاس الغرفة جيئة وذهاباً ثم استقر إلى جانبها.. على الأريكة العريضة المحاطة بعدد كبير من الوسائد المختلفة الأحجام والألوان...

غرقت خالدة في صدره العريض مسندة رأسها الصغير.. إلى جانب صدره الأيمن...

شرنقهما صمت مهيب، يشع منه الدفء الوجودي العظيم..

البيت أيضاً غرق في السكون..

نغم موسيقي حالم ظلّ يملأ أسماعها..

طال صمتهما، تاركين لقلبيهما حرية البدء في حوار دافئ عميق..

انتقلا فجأة إلى جنة عدن أرضية.. رجل وامرأة وحوار ناعم وقوي حرك ماكمن في جسديهما من أشواق..

لمس وجهها بكفيّه.. وداعبت أصابعه خصلات شعرها المبعثرة على جبينها العريض.. والمسترسلة إلى ما تحت كتفيها.. جذبها إليه،  فتداخل الجسدان في عناق جميل وهامس.. وعلا اللحن الأبدي والأزلي وتردد صداه في أرجاء المنزل الواسع..

ظلا متلاصقين.. وكأنهما يخشيان الانفصال..

وظل الجسدان يتحاوران ويعبران عن لغز الكون..

-كان موقفنا رائعاً.. بالنسبة لمؤتمر شرم الشيخ..

-نعم.. إنها لمؤامرة موجهة ضدنا.. محاولة عزل سوريا عن العالم من حولها..

-ولكن سوريا، أدركت تلك اللعبة.. وعرفت أن امريكا تحاول سحب السجادة من تحت قدميها..

-إن سوريا حكيمة، تدرك جيداً طبيعة الأحداث..

نظرت باستخفاف إلى هذا المؤتمر الذي استمر ثلاث ساعات فقط.. وحضر فيه بعض الزعماء العرب.

تفرع حوارهما، فشمل طبيعة الأحداث التي تمر بها سوريا..

-لا.. لن نستسلم.. بل سنطالب بحقوقنا مهما اشتدت حدة الضغط علينا.. لن نسمح للآخرين بالمساومة على حقوقنا حتى لو أدى موقفنا إلى نشوب حرب بيننا وبين إسرائيل.

-نحن أقوياء.. سنقف في وجه المؤامرة.. وإن متنا وسقطنا في المعركة.. فإن الأجيال القادمة ستحترم موتنا وستقدر موقفنا.

-لماذا لا يفكر الآخرون بالأجيال القادمة..

التاريخ لا ينسى شيئاً.. سيظل الاستسلام وصمة في جبين المستسلمين.

-الرئيس الاميركي، لم يخف تعاطفه مع إسرائيل.. بل قام بجولة، زار بها قبر بيجين وقبر أولئك الذين قتلوا كنتيجة للعمليات الفدائية.

لقد تناسى هذا الرئيس مذبحة الحرم الإبراهيمي..

تنبه الاثنان فجأة إلى كنه هذا الحوار، الذي لا يتلاءم مع أمواج العشق المتدفقة.. ضحكا، وتردد صدى القهقهات في أرجاء الغرفة المستسلمة للعشق والسياسة..

وتساءلا: أيمكن لهذا الحديث أن يكون خاتمةً للقائهما الجميل؟..

-ماذا جرى لنا يا سامي؟.. بل ماذا حدث؟ حتى اختلطت أمامنا الأوراق.. وبتنا لا نميز جيداً متى نتحدث عن السياسة؟

ومتى نتحدث عن الحب؟

-ولكن الاثنين متحدان.. يا عزيزتي.. فأنت لا تنفصلين عن الوطن.. حتى في لحظات الحب..

-الحقيقة.. أننا لا نستطيع أن ننفصل عن الأحداث من حولنا.. فحين نغرق في محيطات الحب، نفتش عن الخلاص مما نحن غارقون فيه من تغيرات حلّت في العالم من حولنا.

امتد حوار الاثنين حتى شمل الكون الرحيب.. ثم تقلص حتى اقتصر على المنطقة العربية.. واختصر أكثر حين اكتفى الاثنان بالحديث عن سوريا ومستقبلها في الواقع الراهن.

نهض من مقعده، قاس الغرفة بخطوات متزنة مرات ومرات.. تنقل ببطء شديد.. عبر أمام عينيها.. كانت نظراتها، تتابع حركاته باهتمام شديد.

-متى ستهدأ؟ استرح قليلاً.. حدثني عن أعمالك..

تململ، ثم توقف، ثم جلس بعد أن غير مقعده..

لم يطل الحديث عن العمل.. بل انتقل الاثنان من جديد إلى مشاكل الحياة اليومية، التي لم تعد تطاق.

الراتب لم يعد يكفي.. والمصروف غدا كبيرا.. وبدأ الناس يخشون على أنفسهم من الفضيحة..

تنهد الاثنان معاً.. وزفرا زفرات طويلة.. بثّا بها كثيراً من همومها..

-ما الذي يجعلنا نستغرق في مثل هذه الهموم؟! قال لها: وهو ينهض فجأة معلناً انتهاء الزيارة.

وقفت مودعة، بعد أن لامست شعره الأسود الناعم بأطراف أناملها النحيلة.

قبلت رأسه، وودعته بنظراتها الحالمة..

تسمرت في مكانها إلى أن اختفى في فتحة الدرج المؤدي إلى الحديقة.

في 9/4/1997.

 

 

إيمان

 

شكراً لك يا رب...

نطق قاسم بتلك العبارة، وهو يشعر بإيمان عظيم يملأ قلبه، ويروي عروقه.

قبل دقائق فقط، أنهى صلاة الفجر، وتلا آيات من القرآن الكريم، أهداها إلى أرواح أبيه وأمه والذين رحلوا من أقاربه وأصدقائه.. مكتفياً بالقول: "أنتم السابقون، ونحن اللاحقون".

اعتاد أن يتوقف عند كل عبارة قرآنية، محاولاً تفسيرها مستخدماً ما جمعه في رأسه من ثروة لغوية.. وثقافة عامة.

يقف عند كل كلمة لحظات طويلة ثم ينتقل بعينيه إلى الكلمة الأخرى.. ثم يهمس لنفسه قائلاً: إعجاز!! نعم إن هذا القرآن لمعجزة كبيرة.

رعشة خفية تسللت إلى جسده الممتلئ.. الذي ينضح بالصحة والعافية.

طوى سجادة الصلاة، وهو يردد آياتٍ كان قد حفظها وثبتت في رأسه لا تبارحه..

البيت غارق في السكون.. تنقل بخطوات لطيفة.. لئلا يوقظ أحداً من أفراد بيته.

خرج إلى الشرفة العريضة والممتدة على مسافة أمتار..

جلس على الكرسي المخصص له بسنادته الجلدية.. وشعر بتلك الاهتزازات المريحة للأعصاب، فاستسلم لها بعد أن أغمض عينيه.. ثم فتحهما فأعجبه لون الخيمة البرتقالي.. ثم مدّ بصره فوقعت عيناه على مشاهد متباينة.. ثم استقر على الهضاب المتماوجة والمتعانقة باستكانة واطمئنان.

حمد الله مرة أخرى.. وأصغى بانتباه وحب كبيرين إلى زقزقات العصافير المختفية في شقوق الجدران، وبين أغصان الأشجار.

أحس أن العالم جميل جداً.. وأن الحياة جديرة بأن تعاش فبدأ يلهج بعبارات الامتنان والشكر لعظمة البارئ.. مما جعله يبدو صغيراً وضئيلاً.. أمام العظمة الإلهية. شعر برعشة خفية، فانكمش في مقعده.

تحسس جلده بأصابعه القوية والصلبة، فأدرك في مساماته تلك القشعريرة التي غطت ذراعيه، وامتدت إلى قلبه.

مدَّ بصره إلى الحقل المجاور.. وقاس بنظراته مساحة السياج المحيط به.. رأى الورود الملونة قد تطاولت وعانقت السور فحولته إلى شريط مفوّف ومتجانس يشد بعضه أزر بعض.

نسائم الصباح اللطيفة، لامست وجهه الأسمر الوسيم. رفع رأسه إلى السماء.. ففوجئ بزرقتها الصافية الخالية من أي شائبة.

شكر ربه مرة ثانية وثالثة على نعمه التي أنعمها عليه.

وتساءل: أيسكن هو في تلك البقعة الجميلة؟

رجع بذاكرته سنين طويلة إلى الوراء.. ثلاثين سنة أو أكثر وترك للصور حرية التتابع أمام عينيّ خياله الجامح.

انتقل نقلة سريعة ومفاجئة، وكأنه عاد إلى نقطة الصفر..

رجع خلال لحظات إلى فراشه المحشو بالخرق البالية.. والذي كان يتقاسمه مع أخيه.. وفي النهار يطويه فينقلب إلى مقعد مريح، يغطيه بملاءة.. ليستقبل عليه أصدقاء الطفولة.

في هذا الفراش العتيق، عرف قاسم برودة فصل الشتاء، فاحتمى من قسوته بالالتجاء إلى أخيه، ومعانقته.. والالتصاق بظهره، وكان الثاني لا يتأفف من أخيه الأصغر بل يتركه على حاله وكأنه يدرك جيداً سرّ تلك الحركات الطفليّة البائسة.

الهواء البارد يتسلل من شقوق النوافذ.. ومن تحت الأبواب ويصل إليه.

أياماً عصيبة عرفها في شبابه أيضاً، وهو يدرك ذلك الفرق الشاسع بينه وبين صديقه أحمد.. الذي كان يقطن في البيت المقابل لبيته.

أمتارٌ معدودة، تفصل بين البيتين.. ومئات الفروق تبرز واضحة بين حياته وحياة أحمد.

أحمد ينام على سرير نحاسي أصفر.. ويغطي جسده بلحاف سميك وغطاء صوفي.. ويستند برأسه إلى وسادة صنعتها أمه كما حدثه أحمد ذات مرة من ريش النعام.. حين لمسها قاسم وجدها ناعمة كالحرير.

بيت أحمد واسع وعريض.. له فناء كبير تتوسطه بركة ماء تسقسق وتحاور أشجار البيت من ليمون، ونارنج، وبرتقال، وتناجي أزهاره من ياسمين أبيض وأصفر وزنابق ملونة.

كان قاسم يتأمل كل ما تقع عليه عيناه.. محاولاً اكتشاف أسرار هذا الاختلاف.. بعيني طفل ذكي كان يتطلع إلى تلك الأشياء.. ويبلغ سروره أوجه حين يزور ذلك البيت الجميل..

كل شيء قد وضع في مكانه، كل شيء قد رتب بذوق رهيف.. أصص الأزهار صفت ونظمت حول البحيرة وفي أركان الفناء.. البركة الرخامية ذات القاع الأزرق والنظيف تستقبل وتحتضن مياه النافورة الفضية.

وأكثر ما كان يلفت اهتمام قاسم المطبخ النظيف ذو النوافذ الواسعة المشرعة للنور والهواء.. وكم كان يملؤه الفرح حين كان يتابع بعينيه الواسعتين حركات أم أحمد وهي تروح وتجيء في مطبخها.. تحضر وجبات الطعام المنوعة.. وكان أكثر ما يجذبه منها تقشيرها لحبات الثوم.. لكي تضعها بغزارة على "الملوخية" ثم تضيف إليها "الكزبرة".

وحين كانت تخرج هالة من الحمام.. وقد أحاطت شعرها الطويل بغطاء مطرز بالورود.. كان يسائل نفسه لماذا لا تضع أخته غطاء مطرز الحواشي مثل غطاء هالة حين تخرج من الحمام؟..

كل مارآه في بيت أحمد كان يختلف عما يراه في بيته.

أم أحمد تغسل الثياب في غسالة كهربائية.. ثم تأتي امرأة غريبة فتمسح لها البلاط وتنشر لها الثياب.

أما أمه فكانت تتربع على بلاط المطبخ وأمامها طبق الغسيل.. وإلى جانب هذا الطبق كان يراقب كفيّها وهما تدعكان القماش حتى ينظف.. هذا المطبخ يتحول فجأة إلى حمّام.. بعد أن يوضع على الوابور وعاء كبير ممتلئ بالماء..

في المساءات، كان قاسم يرى أمه وقد أنهكها التعب متكورة في زاوية من زوايا الغرفة ترفو الجوارب، أو تصلح الثياب.. وحين يحاورها أبوه في هدأة الليل كان صوتها يصله محتجاً غاضباً متذمراً وكارهاً الحياة.

ومع مرور الأيام انتقلت تقطيبة أمه إلى أخواته الثلاث وكانت تلك التقطيبة تنقلب فجأة إلى صراع حاد.. وإلى شجار عنيف، فتنهال الشتائم على رؤوسهن ثم لا يلبثن أن يقتربن منها محاولات إزالة غضبها بمداعبتهن وكلماتهن الحنون.

قاسم الشاب.. كان يرى كل هذا.. ثم لا يدري لم كانت عيناه تتجهان إلى المنزل المقابل لمنزله؟! وتنهال عليه أسئلة كثيرة تحتاج إلى أجوبة.. لا يملك الرد عليها فيصاب بالصداع.

والمشهد الذي ملأ عينيه وقلبه حسرةً.. هو اضطراره لحمل الصفائح التنكية.. ليملأها بالماء من بيت الجيران.. أو من "الفيجة" القريبة متناوباً تلك المهمة مع أخواته البنات.. هذه المهمة كانت أصعب المهمات.. اذ لا تتوقف حتى يمتلئ المستودع الكبير المبني في زاوية من زوايا المطبخ.

هذه الأمور وأشياء أخرى جعلته يدرك جيداً أن بوناً شاسعاً، يفصل بينه وبين صديقه أحمد.. الذي صار بيته في نظر قاسم مثلاً يحتذى..

علا صوته الداخلي، مفتشاً عن الخلاص، ورسم الأهداف البعيدة والقريبة وأنهاها هدفاً هدفا.. صلباً انطلق في دراسته الجامعية.. نال الدكتوراه وهو يتلظى على نار الفقر والحاجة.

عشرين ساعة عمل في يومه الطويل.. وترك الساعات القليلة الباقية للراحة.

ومرت سنوات طويلة تناسى بها نفسه.. ألف كتباً كثيرة وهو في الثلاثين من عمره.

في الأربعين امتلك قاسم كل شيء.. البيت الجميل، المرأة الحلوة، والابنين الغاليين..

هو الآن، يستريح في سن الخمسين..

وحيداً يجلس في الشرفة.. ويراقب الأبنية التي غطت المكان.. ثم يرجع ليفصل ظروف ماضيه.

شكر الله على الآمال التي تحققت.. الآن لديه وقت للتأمل.. ربما يهبه الله سنوات قليلة يحياها في هدوء.

بيته الآن أجمل بكثير من بيت أحمد.. وزوجه الآن سعيدة لا تشكو من التعب والإرهاق كما كانت تشكو أمه.. ومطبخه يعج بما لذّ وطاب.

لم يعرف قاسم رغم تلك المقارنات التي عقدها مع صديقه أحمد معنىً للحسد.. كان يراقب بحب، ويرسم طريقه بإخلاص.. ليحقق الهدف.. انتفض من رحلته الطويلة التي غرق فيها وكأنها تشابه تلك الورود الملونة الملتصقة بسياج الحقل المجاور والتي تبتسم له بصمت..

صباح الخير يا بابا..

صوت عذب أيقظه من أحلامه.. تامل الشعر الأشقر المسترسل على الظهر الأملس لابنته الشابة.. ثم تناول بلطف فنجان القهوة الذي مدّته الزوجة الجميلة وهي تعانقه بنظراتها الحلوة..

تأمل الاثنتين بحب عميق.. وبدأ يرتشف قهوته الصباحية.. وعبارة شكراً لك يا رب.. ظلت تملأ فمه وقلبه.

12/4/1997.

 

 

هكذا يحدث دائماً..

 

 

شهقت حين رأته منتصباً أمامها بطوله الفارع، وسمرته القاتمة، لا يفصله عنها سوى عدد من الطاولات..

تيبست في مقعدها حين التقت عيونهما، تسمرت، وامتدت نظراتها حتى قاع عينيه، وكأنها تود أن تشده إليها.. كان ذلك اللقاء مفاجأة لها.. لم تكن تتوقعها.. لم يكن وحده.

إلى جانبه الأيسر، كانت تقف فتاة لم ترها "هدوة" في اللحظات الأولى. رأسها الصغير ملفع بغطاء رقيق، يستر خصلات شعرها وجزءاً من عنقها.

تدفقت دماء حارة إلى وجنتيها ووصلت إلى قمة رأسها المتوج بجدائل سوداء طويلة.

في جسدها النحيل سرت رعشة قوية.. مما جعلها ترتبك، وترتجف كعصفور صغير، جرفه تيار لا يرحم..

وظل هو، يتأمل وجهها من بعيد وكأنه يراها للمرة الأولى.. نبهته الفتاة التي ترافقه إلى الطاولة التي انتقتها.. فسار وراءها دون تردد.. كمنوم مغناطيسياً.

وصل نداء إلى فمها المختنق ولكنها أخرسته..

اهتزت الكأس في يدها، وكادت تسقط من يدها النحيلة البيضاء.

سمعت صوت حسان يقول لها باستغراب:

-ماذا دهاك؟ أهناك شيء خطير؟..

ظلت صامتة، ولم تحر جواباً.. ولما أعاد السؤال.. حاولت أن تعمل تفكيرها قبل أن تتلفظ بكلماتها:

-لا.. لا شيء.. لماذا تسألني؟ ليس هناك شيء

-ولكنّ تعابير وجهك، تقول غير ذلك، وشحوبك يدل على ألف معنى.

-قلت لك.. لا شيء.. ألا تصدق؟

-إذاً.. من أين أتتك هذه الرعشات. كادت كأسك تتحطم.

صمتت "هدوة" كالمنومة، محاولة استجماع قواها التي خارت..

وظل حسّان صامتاً، وقد قطّب ما بين حاجبيه، ثم بدأ يرتشف محتوى كأسه رشفة إثر رشفة...

عادت نظراتها تجتاز الفراغ، والمسافة الفاصلة.. لتصل إلى تلك الطاولة اللعينة المنزوية في ركن المطعم الكبير، ثم تحطّ على وجه ذلك الشاب الأسمر الوسيم.. الذي استقر في مقعد، يقابل مقعدها.

رفع ذراعه اليمنى، ومر بكف يده على الجانب الأيمن من رأسه.. ثم أسند رأسه إلى تلك الذراع..

كل ما فيه جذبها لملاحقته.. عيناه اللتان طالما أحبتهما.. نظراته العميقة المستغرقة في حلم طويل، وهدوؤه الآسر.. لم تدر لم أحست بفرح خفي، حين لمحت شحوباً، يكسو وجنتيه وأرنبة أنفه.

-إنه غاضب إذاً.. فليغضب.. ما زال في صدره شيء من الماضي وليحزن وليقتله الندم!!

ألم يتركها تتألم طيلة الشهور الماضية؟.. ألم تفقد ثقتها بنفسها وبالآخرين؟!!

أخذته منها فتاة أخرى.. كما هي العادة في قصص الحب.. نسي حبها الكبير في غمرة إحساسه بالغيرة عليها.. وتساءلت: أهكذا هي الغيرة.. تذهب بالعقل.. وتبقي الرأس خالياً من التفكير الصحيح..؟

ولكن.. أين ذهبت ثقته بنفسه، واعتداده برجولته؟..

إن كل ما فيه، يوحي برجولة آسرة، وساحته المغناطيسية تجذب المراكب، تنزع منها مساميرها، وتتركها محطمة على الشواطئ الصخرية العاتية.

ولكنَّ الطود، تحطم على شواطئ الغيرة، وأصغى إلى همسات أتته متتابعة ومتزاحمة.. فاخترقت حجب نفسه، وزرعت فيها الظنون.

صبّ عليها جام غضبه، متهماً إياها بما لا تعرف.. هربت من وجهه وكأنها لم تعرفه من قبل، دفاعها، لم يعد يجدي.

-هل تقدم لحبيبها شهادات براءتها:

لا لن تفعل، فالماضي المشترك، والعاطفة الكبيرة التي جمعتهما معاً، جديرة وحدها أن تطهر القلب، ليعود إلى صفائه.

الألسنة لم تتوقف، والطوفان جرف معه ذكريات جميلة كادت تتكلل بزواج قريب.

صفق الباب وراءه، ومضى..

تركها وحيدة، مشردة الروح والنفس، تبكي بصمت، وتتحدث بلا رغبة وتحيا وهي تتألم وتتمزق.

وها هي ذي تراه أمامها متأبطاً ذراع أخرى.. وها هي الآن تتقاسم مع شاب آخر تلك الطاولة.

إذاً مضى إلى حاله، وذهبت هي إلى حالها.. وكأن شيئاً ما لم يكن أبداً.

قبل شهر فقط، رنَّ في بيتها جرس الهاتف ليعلمها المتحدث أن حبيبها قد ارتبط بفتاة ذات حجاب.. إذاً.. الحجاب وحده، هو الذي شدّه إلى الأخرى الحجاب وحده، أعاد إليه الثقة في نفسه..

ياله من رجل تقدمي.. يؤمن بحرية المرأة!!!

الشيء الفظيع الذي ما زال يؤلمها.. أنها لم تخنه، ولم تفكر دقيقة بخيانته..

أما ذلك الشاب، الذي اتهمت به، فلم يكن سوى زميل لها في العمل، يسكن في حي قريب من حيها..

صحت من شرودها على صوت حسّان يطلب منها -إن احبت- مغادرة المكان. ولكنها لم تفعل، بل ابتسمت في وجهه ابتسامة جميلة حملتها كلّ ما في قلبها من شوق إليه.. ولم تعد تدري كيف شرحت له بهدوء عجيب، أن كل ما رآه لم يكن سوى زوبعة في فنجان.. أو وقفة قصيرة مع الذات جعلتها تدرك الحقيقة.

إن من يجلس قبالتها.. هو الذي يحبها بصدق.. بينما الآخر جذبته أنوثتها المتدفقة، ومنعته نرجسيته من أن يخترق ذاتها، ليحبها هي بكل وفائها وإخلاصها.. لو أنه عرفها جيداً، وأدرك مكنونات روحها لما تطرق أي شك إلى نفسه.

ودهشت حين سمعت حسّان يقول لها برصانة:

-أتمنى ألاّ أكون مصدر ازعاج لك.. فربما ترغبين بالبقاء وحيدة في مثل هذه اللحظات؟..

-وكيف ذلك؟ إن وجودك إلى جانبي، أعاد إلي الإحساس بإنسانيتي.. أعاد إلي الثقة بنفسي، بالحياة، وبالآخرين..

نهر الحياة المتدفق، لا يتوقف يا صديقي.. نعم لا يتوقف.. فما كان البارحة مستحيلا، أصبح الآن ممكناً وسهلاً..

 

-ولكني ما زلت مصرّاً على معرفة أسباب اضطرابك..

-وهل هذا يهمّك؟

-أظن.. أنه يهمني..

تبادل الاثنان النظرات بهدوء وسكينة.. وتناست هي الشخص الذي يراقبها عن بعد..

غرقت في بحر عينيه.. استراحت على شواطئ روحه الرملية الملساء.. انتقلا في دقائق إلى ظلال غابة من أشجار النخيل..

وحين عادت إلى مقعدها.. لم تجد الرجل الآخر..

همست برقة متناهية: حسّان.. إنك كالصاعق.. فقد نجحت في امتصاص حممي.. قبل أن تهبط الصاعقة لتحرقني، وتدمر كل ما تلمسه بي..

-ووجودك أنت إلى جانبي رائع أيضاً.. كان لا بد من تلك اللحظات كي أعرف مقدار حبي وتعلقي بك..

-أما زلت مصرّاً على معرفة أسباب انهياري؟

ولكنه لم يجبها..

وحين وصلا إلى المنزل، أخذها بين ذراعيه، وترك رأسها يغفو على صدره، فقد أدرك بذكائه أنها رجعت من رحلة طويلة، لاقت فيها من الألم والعذاب الشيء الكثير.

في 1/4/1997.

 

 

هي.. في عمر الربيع

 

 

شعرت فجأة بعيون النسوة، تنغرز في وجهها وصدرها وساقيها الممتلئتين.. حالما دخلت القاعة الكبيرة المؤدية إلى مكان الاحتفال السنوي، الذي أقيم تكريماً للطالبات المتفوقات.

كادت تتعثر في مشيتها، فأزاحت طرف ثوبها الضيق وأبعدت خصلات شعرها الأشقر الطويل المسترسل حتى منتصف ظهرها والذي يغطي جبينها العاجي العريض. ثوبها الأسود الطويل، كشف عن الجانب الأيسر من جسدها الجميل..

أغاظتها العيون المتطفلة، وبعثت بها موجات من الغضب والحدة.. كانت تلاحقها دون توقف.. أحست بتلك النظرات تمزق جلدها.. وكأنها تقول لها باحتجاج شديد:

-ارجعي إلى بيتك!! خففي من تلك الزينة!! ارتدي ثوباً أكثر حشمة!! ثم عودي لحضور ذلك الحفل. كانت المرأة شابة في عمر الربيع، تضج بالحياة، ونبض الحياة.

ولكن دخولها على هذه الصورة، أحدث حركة مفاجئة في قاعة الانتظار.. التي انقلبت إلى معرض للصور الضوئية.. مجسدة المناسبات القومية التي مرت على البلد خلال عام كامل.

تقدمت الشابة الحسناء بخطوات وئيدة، رغم تلك النظرات، ورغم ما ارتسم على وجوه النساء من علامات الاستهجان والدهشة.

حاولت أن تشغل نفسها بتأمل اللوحات المعروضة بكثافة على جدران القاعة.

تعاطفُ الرجال معها كان كبيراً، تقدم إليها الواحد بعد الآخر محاولاً تقديم المساعدة لها، مما زاد من غضب النساء، فاطلقن عبارات جارحة:

-يا لعقول الرجال.. كم هي صغيرة!!

-ما أن يروا أنثى مغرية حتى يهرعوا إليها.

ازدادت ثقة المرأة الحسناء بنفسها.. فتشاغلت عن النساء بالغرق وسط مجموعة كبيرة من الرجال.

-هؤلاء الرجال.. هم الأساس وهم المهمون في نظري.. لماذا أتعب ذهني بالتفكير بكل هؤلاء النسوة الغبيات؟.. إنهن يغرن مني.. أدركتُ تلك الحقيقة منذ زمن طويل.

فأنا ما زلت في عمر الزهور.. فلماذا لا أحيا حياتي حسب قناعاتي؟.

تناست نظرات النساء، واختفت بين جماعة من الرجال، تصغي إلى كلمات الإعجاب المتناثرة حولها من كل حدب وصوب.

وفجأة.. دخلت إلى القاعة امرأة سمراء ذات قامة هيفاء، وقدّ رشيق لفتت أنظار الجميع ببساطة ثيابها، وخفة حركتها.

توجهت بعفوية وتلقائية إلى الحسناء، قبلتها قبلات خفيفة معبرة عن مدى اشتياقها.

تضرج وجه المرأة الشقراء، ذات القوام الممتلئ والملتف حين رأت صديقتها في ذلك الازدحام.

رفعت يدها اليمنى، وأبعدت خصلات شعرها المتدحرجة على وجنتيها، وارتفع صوتها بكلمات حلوة، وكأنها اكتسبت ثقة جديدة.. تناست تماماً جميع النساء، واكتفت بتلك الواقفة أمامها كظلها.

ابتعدت المرأتان الحسناء الشقراء، والسمراء النحيلة إلى نهاية القاعة تتأملان كل لوحة، وتعلقان تعليقات خاطفة..

وحين سمح بالدخول إلى قاعة الاحتفالات.

احتلت السمراء الهيفاء، والشقراء البضة مكانين بارزين في القاعة الواسعة. مما سمح لكاميرات الفيديو بالتركيز عليهما.. وبالمرور مرّاً سريعاً على من بقي في القاعة.

استمرت عروض الطالبات ساعتين أو أكثر..

وعينا الشقراء تقعان كلما التفتت صدفة على ملامح الاشمئزاز في عيون النساء.. وكأنهن تناسين العروض، وجعلنها محوراً لتأملاتهن.

ولا سيّما حين كانت تلف ساقيها فينزاح الثوب عن جزء كبير من فخذيها.

وصلتها همسات مختلطة:

-هذه المرأة.. لا تحترم نفسها.. جاءت إلى هذا الحرم المقدس مرتدية ثوباً فاضحاً..

تململت في جلستها، وفكرت مرات كثيرة بالهروب، وأفضت بهواجسها لصديقتها التي تتابع بهدوء كل ما يجري على المسرح.. ولكن الأخيرة منعتها بإشارة مقتضبة، وحين وقعت عيناها على البقعة البيضاء من فخذ جارتها ابتسمت ابتسامة خبيثة وهي تنظر في وجهها، لم تكن راضية هي أيضاً عن الصورة الاستعراضية التي تراها أمامها.. ولكن.. ماذا تفعل؟ والذي حدث قد حدث.. لا تستطيع في تلك اللحظة أن تغير ثياب صديقتها.. تلك الطفلة الكبيرة.. التي تتصرف كأي فتاة لم تبلغ بعد سن الرشد.

كيف يدرك الآخرون جوهرها الطيب وقلبها النقي.. ليغفروا لها تلك الزلات.. كما تغفرها هي لها؟!

وما أن انتهت العروض، حتى هبت المرأة الشقراء وهربت من القاعة إلى البهو العريض.. قبل وصول أية واحدة من النساء.

هرباً غادرت المكان، وحين وصلت إلى الشارع، تنهدت تنهيدة طويلة متنفسة الصعداء..

تتالت زفراتها، وانهال من فمها سيل من الشتائم:

-إنهن متطفلات. كل إنسان حر في تصرفاته.

تدفقُ الكلمات من فمها كشف عن صفي أسنانها البيضاء والمتناسقة.. أصغت المرأة السمراء إليها محاولة ألا تثير غضبها.. وحين وصلت الاثنتان إلى مقهى صغير.. دخلتا لاحتساء كوب من الشاي.. وحين وقعت نظرات المرأة السمراء على وجه صديقتها الجميل المضرج بحمرة الغضب.. انفجرت ضاحكة ضحكات خبيثة.

-ولكنّ ثوبك هذا.. مثير للاهتمام.. لا تلومي الأخريات.. لو أنك قصرت تلك الفتحة قليلاً لأنهيت الإشكالات.. فغرت الشقراء فمها وجحظت عيناها وفوجئت بكلمات صديقتها.. رغم ثقتها الكبيرة بمحبتها، لم تكتف المرأة السمراء بذلك بل أضافت قائلة:

-أتدرين.. إن ثوبك هذا مثير؟..

-أنا قصدت هذا الإغراء.

-إن كان الأمر كذلك، فلا تتضايقي من تطفل النسوة.

لا يستطيع أحدنا أن يسكت ألسنة الآخرين.. ولن يعتذروا هم عما يصدر عنهم. ليس من حقنا أن نلومهم على نظراتهم الغريبة.. فعيونهم لا تقع إلا على الأخطاء.

-وأنت تلومينني أيضاً.

لكن السمراء ذات العينين السوداوين البراقتين ابتسمت ابتسامة حملتها كلّ ما تكنه للأخرى من الود وقالت بود ظاهر:

-حدثتك وأنا محرجة.. فأنا لا أود أن أفضي إليك بتلك الكلمات لذا سأصمت الآن.. اقبلي اعتذاري..

-إنهن يغرن مني.. فأنا الأكثر جمالاً والأكثر فتنة.

عادت السمراء إلى صمتها، مستهجنة كل كلمة نطقت بها صديقتها، تعاظمت مرارتها، وهي تصغي لتلك الكلمات المبتذلة.. وفي سرها كانت تدرك تمام الإدراك، أن كل واحدة من النساء، تستطيع أن تفعل فعلتها، فتبدي محاسنها وتجذب نظرات الرجال إليها..

من السهولة بمكان.. أن تلفت أية امرأة اهتمام أي رجل... ارتجفت السمراء رجفة خفية.. ومنعت فيضاً من الكلمات كاد يخرج من شفتيها.. واكتفت بإحتساء الشاي الذي قدم إليها.

ولكن الشقراء المتباهية بحسنها، لمحت من جديد شاباً يجلس إلى الطاولة المجاورة.. وقد تسمرت نظراته على تلك الفتحة التي تكشف عن لون رخاميّ جميل.. انتقلت نظرات الشاب إلى تفاصيل الثوب الأسود الكاشف عن نهدين بارزين متدليين من فتحة الثوب العريضة.. تململت، محاولة ستر فتحة الثوب الكاشفة عن الفخذين ولكن كيف تتمكن من ستر النهدين؟..

ماذا ستقول لهذا الشاب؟؟  أتفقأ عينيه؟

أتقتله؟

بوسعها أن تصفعه على وجهه وهي غارقة في هذا التخبط.

اشتد هياجها.. تناست كوب الشاي.. تحركت في مقعدها وكأنها تبحث عن ملجأ..

لم تعد ترغب بالبقاء.

نهضت فجأة.. قيامها المجنون أفزع صديقتها الغارقة في شرودها.. هربت ، وتبعتها الأخرى.

اتسعت خطوات الصبية، فتمزق الثوب من الجانب الأيسر.. كادت تصرخ.. هرولت إلى سيارة الأجرة..

كان كل شيء فيها ممزقاً.. كلّ شيء.. مشاعرها، أحاسيسها وفستانها الأسود الطويل الذي يصل إلى أسفل قدميها.. ارتاحت، حين جلست في المقعد الخلفي الذي يستر عريها الفاضح.

وحين دخلت بيتها، صرخت وهي تتأمل صورتها المنعكسة على صفحة المرآة الكبيرة.

لم تكن تنوي الإساءة إلى نفسها.. أرادت فقط أن تبدو جميلة، وحاول الآخرون خنقها..

-سأقتلهم جميعاً.. لماذا لا يدعونني أعيش بسلام؟..

لا.. إنها غلطتي.. فلأعترف بها.

لم تكن راضية عن صورتها المنعكسة على صفحة المرآة.. شاهدت أمامها امرأة غريبة.. مضطربة.. مشعثة.. واستهجنت تلك الفتحة الطويلة في الجانب الأيسر من ثوبها وكأنها تراها للمرة الأولى.

ووقعت عيناها على نهديها البارزين والمكورين المطلّين بوقاحة من فتحة الثوب.

وإذا بها تعترف بما جنت يداها وهي تهتف بصوت منكسر:

-لماذا ألوم الآخرين..؟

عليّ أن ألوم نفسي.. فأنا الكائن المريض والمستهجن..

10/5/1997.

 

 

بخطا رتيبة نمضي

 

ولكن.. هل سأخدع مرة أخرى؟...

أعاد تلك العبارة، واجترها بلذة كبيرة.. وقد ارتسم صدى معناها على قسمات وجهه.. زمّ شفتيه وبدا الإصرار واضحاً على سحنته.. ظهر عليه التردد والانفعال، فتضرج وجهه بلون قرمزي.. وهو يقطع المسافة الصغيرة عشرات المرات.. تلك المسافة التي تفصله عن مكان اللقاء.

لم يكن مجبراً على هذا الموعد.. بل اختاره بملء ارادته.. وكأنه يمارس هواية خفية، يعذب بها نفسه، يذيبها، وهو يمارس تجارب فاشلة مكرورة.

أيذهب إليها الآن.. أم يرجع إلى بيته؟

هي.. تنتظره منذ عشر دقائق.. ولكن.. هل عشر دقائق طويلة.. فليجعلها أطول، ليدرك مدى حرصها على لقائه.

تابع طريقه بخطا مضطربة، فتارة يسرع في خطواته، وتارة أخرى يتئد، ويعود إلى حركات رتيبة.

مرات ومرات، قاس الطريق، وهو يتأمل واجهات المخازن المصطفة بعناية على جانبي الشارع، تضيئها مصابيح ملونة تتبادل بينها الأدوار، فحين يطفأ عدد منها تحل مكانها مصابيح أخرى.

تأمل الرصيف الرمادي، وغرز نظراته في أحجاره المربعة.. محاولاً عدّها.. اقترب أكثر من مرة من المطعم الصغير القابع في زاوية منعزلة من الشارع العريض. وقد اختاره من بين مئات المطاعم الموزعة على أنحاء المدينة.

مدينة سياحية.. همس في سره. ولماذا لا تكون كذلك؟ والسياحة مصدر كبير للرزق.

ولكن.. من يستفيد من تلك الأموال؟.. علق السؤال في طرف حلقه، وأحس أنه ممجوج.. بلعه.. ولكنه شرق بريقه.. فأصابته نوبة من السعال..

أراد أن يشرب ماء.. ولكنه لم يجد أمامه سوى بائع العصير.

-حسن إذن.. سآخذ كوباً من عصير البرتقال، لأطلب كأساً من الماء.. ولكن كوب الماء أولاً..

وحين ناوله النادل الماء المتلألئ في الكوب اللامع.. دلقه في حلقه.. وهو يتنفس الصعداء.

أحس بالراحة، وهو ينتظر كأس العصير وحين صارت في قبضته العريضة، بدأ يرتشف ما فيها قطرة إثر قطرة.

أعجبته وقفته، وهو يسند ذراعه اليمنى على طرف المصطبة الرخامية النظيفة.. التي يفوح منها ضوع مواد التعقيم.

نسي الموعد، وهو يتأمل وجوه كل هؤلاء، الذين جاؤوا ليشفوا ظمأهم في هذا المكان الصغير..

بدأ ينقل نظراته الملتهبة، بين صفوف الفاكهة المعروضة بإتقان في أرجاء الدكان والمرصوفة على الرفوف العريضة المحيطة بثلاثة جوانب من هذه الزاوية الضيقة.

أحس بالندم، لأنه لم يتناول كأساً من "المانجو" قال بحسرة:

-المانجو ألذّ من البرتقال.

عاد من جديد، ليقيس الرصيف المؤدي إلى المطعم، لم يتراجع في هذه المرة.

بل تقدم بخطوات بطيئة من السلم المؤدي إلى الطابق الأول من البناء الشاهق والعريض، الذي يضم مئات المكاتب التجارية، ومئات مخازن البيع.

من خلال النافذة العريضة، لمحها تجلس في مقعدها، وقد ارتسم القلق على وجهها الطفلي الجميل. فصارت تنقل نظراتها بين محتويات الطاولة الصغيرة.. وبين فتحة الباب العريض.. المؤدي إلى المطعم..

وكلما تقدم إنسان، أحست أنه هو..

ظل يراقب حركاتها، ويختلس النظر إلى تعابير وجهها، وكأنه يستعذب عذابها وانتظارها.

لم لا تمضي إلى بيتها؟.. وقد مضت ساعة كاملة على موعد مجيئه..

ألا تشعر بكرامتها؟

بل هي خنزيرة لعينة، مثلها مثل الكثيرات من الفتيات.

هبط الدرجات بسرعة عجيبة.. سار قليلاً.. ثم ما لبث أن عاد، إلى حيث يراها دون أن تراه.. لماذا لا يعذبها؟ لماذا لا يتلذذ بسحر نظراتها الموجَعَة؟

في قلبه، سكنت عيناها الخضروان البديعتان..

ماذا تفيدني العيون الحلوة؟ تباً لها.. إنها سبب عذابي..

هذا الوجه الصافي كنور الصباح.. إنه ليأسرني.. ولكن.. لن أترك شيئاً يأسرني.

راقبها باهتمام وهي تهمس للنادل ببضع كلمات.. ثم تروح في شرود طويل.. وكأنها تأكدت من أنه لن يأتي.

شربت كوباً من الماء.. ثم أخذت قطعة من "التوست" ودهنتها بالزبدة المستوردة.. وبدأت تأكلها ببطء شديد. أيفاجئها بدخوله.. بعد طول انتظار؟ أم يظل يراقبها، ويملأ عينيه من سحرها دون أن تراه..

أعجبته تلك الفكرة.. فتسمر في مكانه، يتابع حركاتها وهي ساهمة في ظنونها وحيرتها.

نظرت إلى الساعة الكبيرة ذات العقارب الملونة.. المعلقة على الجدار العريض.. الموشى بالرسوم.. والتحف الفنية.. ثم انتقلت بنظراتها إلى ساعة يدها الذهبية.. التهمت الوجبة المختصرة بسرعة.

قطّبت جبينها الناصع والعريض.. رفعت خصلات شعرها بأصابعها البيضاء النحيلة.

تدفقت الدماء إلى وجنتيها، التمعت عيناها..

دفعت الحساب تاركة "البقشيش" في قائمة الطعام المطوية أمامها.. وحين همت بالمغادرة، اختفى في مدخل البناء.. لقد انتصرتُ.. -هاجمته موجة من الكبرياء-

هذه هي المرة الأولى، التي انتصر فيها على نفسي.. فهذه الفتاة لن تختلف عن الأخريات اللواتي عرفتهن في السنوات الماضية.

خمساً وثلاثين سنة، قضيتها على هذه البسيطة لم أحقق فيها شيئاً من النجاح.

لم أستفد من شهادة الهندسة.. ولم أربح من تفوقي الدراسي.

ماذا تفعل الهندسة؟ وماذا تفيد الشهادة؟ لا أملك بيتاً.. لا أملك غرفة واحدة، أتقاسمها مع أي فتاة في هذا العالم.

كل واحدة منهن، كانت تتركني دون استئذان حين تدرك بغريزتها أنني لا أستطيع الاقتران بها ولا تكتفي بتركي.. بل تصمني بكلمة "خائن".

أقسم.. بأنني لست خائناً، وأقسم بربي أنني لا أحب الخيانة..

ولكن.. ماذا أفعل؟

أنا عاجز.. عاجز لدرجة القهر..

أأبكي كما تبكي النسوة؟ إنه لأمر يحيرني.. أبي عاجز أيضاً، لا يستطيع مساعدتي.. وأمي أيضاً.. كل يوم، ألمح نظرات الأسى، ترتسم في عينيها حين أودعها في الصباح، وحين أرجع مساء إلى البيت.. نادتني أمي ذات يوم قائلة: متى ستتزوج يا بنيّ؟ فالعنوسة ليست وقفاً على المرأة.. الرجل يصبح عانساً أيضاً.. حين تظهر التقطيبة على سحنته.. إنك لا تكاد تلقي علينا التحية.

لم تسمع أمي الجواب.. ولن تسمعه أبداً.. سيظل أشواكاً في حلقي.. ولكن نظراتي أفصحت عما في نفسي وكأنني أعاتبها قائلاً لها:

أأنت أيضاً يا أمي.. ألا تدركين معاناتي؟..

والآن انتصرت..

لن أخدع بعد اليوم أحداً..

رأيت فتاتي، وهي تسير على الرصيف بخطوات واسعة.. تابعت حركاتها، ودمائي تغلي في عروقي.

لو شاركتها جلستها، وتقاسمت معها طاولة واحدة، ماذا أستطيع أن أتحدث معها؟ ليس هناك أي حديث مشترك.. لا أحلام لدينا، لا آمال، ولا وعود. سرت في الاتجاه المعاكس.. الدموع ملأت عيني وقلبي.. واليأس كاد يقتلني.

وحين وصلت إلى منزلنا الضيق، المختفي في ذلك الزقاق المظلم، فتحت نافذة غرفتي الملتصقة ببيت الجيران..

لمحت فتاة لطيفة، تقف أمامي في النافذة المقابلة.. تسمرت لحظات، ثم ما لبثت أن غادرت النافذة، وأغلقت رتاجها، اختفيت في زاوية الغرفة، وأغلقت الباب من الداخل..

كنت أغلي.. كنت أفور كبركان هائج.. أو كثور مجنون..

ركزت المسدس على صدغي الأيمن.. وحين حاولت ضغط الزناد، سمعت صوت أمي يناديني، ويهتف بلهجة حنون..

تعال يا بنيّ!! نحن ننتظرك على العشاء.

24/4/1997.

هذا الكتاب

مجموعة قصصية تعالج هموماً إنسانية تنبع من ذات الكاتبة وتتحدث عن ما يعتلج في نفسها من شجون وأحزان وعواطف وأحاسيس وهي  في غالبيتها تعبر عن معاناة المرآة الوحيدة الموحشة والمظلومة . وذلك بلغة شفافة أسهمت في بناء أهم عناصر القصة فنياً الحبكة والتشويق.

 

أضيفت في 15/06/2007/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية