أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | مواقع | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

إصداراتي الأدبية

أكثر من 25 مليون زائر، لموقع القصة السورية، رغم إنشغالي بالكتابة للثورة السورية، خلال الأعوام العشرة الأخيرة

يَحيَى الصُّوفي

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 04/09/2022

مجموعات قصصية / الكاتب: رياض خليل

طلقة في الهواء

إلى صفحة الكاتب

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

العين المعدنية

خرافة

سعدية

توازن

حول القصة

جحود 

الصندوق

حالة شاذة

تشرد

خطبة

الرجل المسافر

الرجل

الناسك

الحائط

طلقة في الهواء

الطيف

صفقة وهم

 

   

 

 

طلقة في الهواء

الإهداء

إلى أولادي:

- لجين.

-عباب.

- وجد.

- مجد.

أقول لكم: الحياة حبّ وإبداعْ وعملْ. فلأفخرْ وأكبرْ بكم وبعطائكمْ ومستقبلكمْ

 رياض.

 

أفكار حول القصة القصيرة.

 

1- من الشائع خطأً تشبيه القصة القصيرة بـ "اللقطة" وهي مصطلح درامي معروف. والصحيح هو تشبيهها، ومقارنتها بالنص الدرامي ككل. بل وبالدراما كعمل منجز على المسرح أو بالصورة، إنها تكافئ البنية النصية الدرامية.

اللقطة لا قيمة لها بمعزل عن سلسلة اللقطات، التي تبني المشهد، كذلك المشهد لا يعطينا صورة كاملة عن العمل، إلا عبر ترابطه مع بقية المشاهد مع العمل الدرامي.

إن كل جملة في القصة القصيرة تشكل "لقطة"، وكل فقرة أو مقطع يعتبر مشهداً يغطي جانباً جزئياً من القصة ككل.

2- هنالك صلة قرابة بين الجنسين: القصة والنص الدرامي، ولا يمكن نفي العلاقة الحميمية بينهما، ولكن ماهو نوع هذه العلاقة؟

القصة القصيرة ليست نصاً درامياً.. ولا دراما مسرحية أو تلفازية بل هي دراما غير مباشرة، مسرحها الذات المتلقية، بالاستماع أو بالقراءة. والمتلقي هنا له دور كبير في صنع الدراما والمشاركة فيها كبانٍ إيجابي لها في شتى مراحلها.. إنه يؤدي دور المؤلف والمخرج والممثل والسيناريست والمونتير وسوى ذلك من وظائف، لا يمكن ممارستها حيال العمل الدرامي المعروف. بذلك تتخذ الدراما القصصية أشكالاً بعدد قرائها. إن المستمع أو القارئ هنا يتمثل القصة، ويعالجها عبر التخيل، بالتحليل والتركيب، وإعادة إنتاجها بصيغة درامية متخيلة. إنه، أي القارئ، يتخيل الحدث والشخصيات والصراع والمكان والزمان، ويعايش الموقف والنتائج، ويتخذ منها موقفاً نفسياً وذهنياً، بينما الدراما توفر على المتلقي هذا العناد كله. وتقدم له القصة جاهزة،  لكأنها تحدث أمام عينيه وحواسه، وإدراكاته مباشرة. بذلك تتخذ الدراما شكلاً واحداً محدداً سلفاً.

3- وإذا كانت القصة ليست نصاً أو عملاً درامياً، فالعكس غير صحيح، ذلك لأن كل نص أو عمل درامي هو قصة، كما تجمع التعريفات: "الدراما قصة قصيرة، أو هي قصة تروى بالصور". و" النص الدرامي هو قصة مكتوبة بطريقة يمكن معها تنفيذها بالتشخيص أو التصوير" أي أن النص الدرامي هو روح الدراما، هو برنامجها ومخططها على الورق، والخطوة التي تسبق مباشرة التنفيذ. وقد تتداخل وتتوازى معه أحياناً..

إن النص الدرامي معني بالتعبير عن أدق التفاصيل، وعن كل مامن شأنه توضيح خطوات العمل المزمع تجسيده، بينما لاتتقيد القصة بتلك الشروط، ولا تخدمها هذه الحرفة، إنها غير ملزمة بتقنيات الكتابة الدرامية، بل لا يجوز لها أن تسقط في هذا المطب الذي ليس من شأنها، ولا يدخل في إطار وظيفتها.

4- تمتاز القصة بكونها مادة أدبية، قابلة للمعالجة الدرامية، لأن القصة  قاعدتها أي عمل درامي من الناحية النظرية. وبالمقابل تستطيع القصة أن تفيد من تقنيات النص الدرامي إلى الحد الذي لا يسيء لتقنية القصة، ولا يمسّ خصوصيتها، وتوجد نماذج قصصية قصيرة قليلة استخدمت "السينارينو" جزئياً.. وبنجاح، في تعمير القصة، فازدادات قوة وجودة وجاذبية.

5- إن الدراما هي تعبير بالتشخيص أو بالصورة، أما الأشكال الأدبية المقررة والمسموعة، فهي تعبير باللغة ومفرداتها، وفي عصرنا هذا نواجه ثورة إعلاماتية، وثورة اتصالات، تجتاح حياتنا، وتغزو بيوتنا وذواتنا، وتعيد ترتيب وتشكيل البنى الأخلاقية والنفسية والفكرية والفنية، بقوة إغراءاتها.. وتلبيتها للحاجات الفردية والاجتماعية. المتزايدة. ولكل ثورة إيجابياتها وسلبياتها، فهي سلاح ذو حدين حدّ مفيد، وآخر ضار، ومن هنا تبرز أهمية التمييز والاختيار لنتمكن من السيطرة على منجزات الثورة ونوجه حركتها، بدلاً من أن يحدث  العكس. وأكثر ماتتجسد به الثورة إياها في التطور المتعاظم لدور  الاتصال والإعلام المرئي، الذي يشكل التّلفاز أداته الرئيسية الأولى  والحاسوب أداته الثانية.. والنجاح في الربط بين الأداتين عبر شبكة الانترنيت  العالمية ، التي تستخدم الأقمار الصناعية للربط بين مناطق العالم في شتى مجالات الاتصال والتواصل البشري.

6- في هذا العصر ذي المزاج المتقلب، والتبدل والتطور المتسارع، والإنجازات التقنية- العلمية الخارقة. يواجه الأدب بأشكاله  المألوفة.. المقروءة خصوصاً تحدياً كبيراً، يحس به كل أديب ومشتغل في الأدب، هذا التحدي يتجسد بأشكال التعبير المرئي عبر التلفاز..والحاسوب. هكذا تدخل تلك الأشكال  الساحة.. كمنافس فتي وقوي لأشكال التعبير الأدبية التي سادت عقوداً وقروناً من الزمن دون منازع. ودون أن تواجه ضغطاً كالذي تواجهه، هاهي تعاني من التراجع، وتقلص دائرة نفوذها، وحضورها الاجتماعي، مقابل تزايد نفوذ وحضور التعبير المرئي، واتساع دائرته ليعم كل فرد وبيت فما الذي يحدث؟ وماهو مستقبل ذلك الصراع والتحدي؟..

 

7- بالنسبة للمسرحية، من الواضح أنها تراجعت حيال الدراما المرئية. ولكنها تحاول التكيف مع الوضع الجديد، من خلال إمكانية تصويرها وعرضها تلفازياً، ومن ثم إيصالها إلى الجمهور العريض. ودخولها الشاشة الصغيرة، يتيح لها غزو كل بيت.

8- أما الرواية، فهي أكثر أشكال التعبير تأثراً بالغزو التلفازي والوضع الجديد.

قبل عصر التلفاز، كانت الرواية هي التلفاز، الذي يعرض ويصف ويحكي ويمتع ويحرض العقل والخيال، وينمي القدرة اللغوية عند الجمهور.

ولهذا كان لها شعبيتها الواسعة، وحضورها القوي بين الناس.

أما الآن فقد ساء حظها، واتجه الناس إلى الرواية المتلفزة بعد معالجتها درامياً. أو إلى الدراما التي تسود الآن عبر المسلسلات والتمثيليات والأفلام السينمائية المتلفزة (أي المعروضة على الشاشة الصغيرة). ومهما تكن قيمة الرواية، فإن هذا لايساعدها على الانتشار، وفرض النفوذ، والحضور بين الناس كما كانت تفعل سابقاً، كما أنها تجد صعوبة في الإفادة من وسائل الإعلام المقروءة، حيث تضيق تلك الوسائل عن عرض الرواية، إلا في حالات قليلة تعرض فيها الرواية على حلقات. ومع هذا نجد أن هذا التقليد  يتقلص يوماً بعد آخر.. حيث تميل الصحف والمجلات إلى ترشيد استخدام وشَغل مساحاتها لتغطي سائر أشكال التعبير المقروء، ومنه أشكال التعبير الثقافي-الادبي-الإخباري.

هنا يجوز لنا التساؤل عن مستقبل الرواية، وقدرتها على مواجهة التحدي. والاحتفاظ بالقارئ المثابر، القادر على تكريس وقت طويل لقراءة رواية، وقت قد يمتد لأيام.. فهل هذا ممكن؟

9- إن التلفاز والحاسوب يسطوان أكثر فأكثر على شتى أشكال التعبير، ويؤديان وظائفها بشكل متقن. إنهما يؤديان دوراً يتسع ليشمل المعرفة العلمية والأدبية والفنية. يغزوان كل مجالات النشاط الاجتماعي، كالتعليم والتربية والترفيه والإخبار والقصّ والدعاية.. وغيرها كثير. مما يجعلهما أهم أداتين في عصرنا.. لأنهما يسهمان بقوة في إعادة بناء وتربية الإنسان وتشكيل الأذواق، والتأثير في البنى السلوكية والفكرية... وحيال هذه القوة الجبارة، لانملك إلا أن نحاول السيطرة عليها ونتحكم  بها ونوجهها بما يحقق لنا الإفادة منها، والتكيف مع مناهجها وتحاشي كل ماهو سلبي منها، ولابدمن الاعتراف بسلطتها المتعاظمة.

10- نعود إلى القصة القصيرة. كواحد من الأجناس الأدبية المقروءة أو المسموعة. لنقف على وضعها ومستقبلها في حلبة التحدي التعبيري الجديد.

إن القصة القصيرة فن أدبي مرن جداً، حساس جداً، وشديد التأثر بسائر أشكال التعبير، التي يتعايش معها، وسنرى أن حظها من البقاء، ومقاومة عوامل الشيخوخة والنفي كبير جداً، وأنها تملك قابليات للتجدد، والتكيّف مع الظروف والشروط الجديدة.

11- تفيد القصة القصيرة من سائر أشكال التعبير والمعرفة. فهي تؤسس بعض فنيتها على منجزات العلوم، لاسيما الإنسانية منها، مثل علم الاجتماع وعلم النفس، والمنطق. وقد مكنها ذلك من توسيع آفاق تطورها، وقدرتها على اصطياد الأعماق، بما فيها من كنوز والإحاطة بالشخصية والحدث والواقع إحاطة باطنية وظاهرية معاً، بحيث تجعل من اللامرئي المتوارى، مرئياً واضحاً، واستطاعت كذلك أن تستخدم آليات رصد وعرض وبناء جديدة، مما جعلها تتخطى الترتيب المدرسي، والنظام التقليدي لبنيتها.

12- والقصة القصيرة تفيد من المسرحية، الرواية، الرسائل، السيرة، الحكاية، الخبر، "السيناريو" والصحافة بتنويعاتها التعبيرية.. ومن لغة الرسم والموسيقى، والشعر، وكل أشكال التعبير السائدة.

 

13- إن طول القصة القصيرة، وزمن قراءتها، لا يأخذ من المستمع والقارئ إلا وقتاً قصيراً (من بضع دقائق.. حتى نصف ساعة تقريباً)، أي أقل من الزمن الذي تستغرقه مشاهدة حلقة من مسلسل تلفزيوني.

هذه الميزة تتفوق بها القصة القصيرة على الرواية وسواها. إن القصة يمكن أن تلقى على الأسماع، بينما لا يمكن للرواية أن تلقى في قاعة أو مركز ثقافي، بسبب طول المدة.

والقصة القصيرة لها حظ أوفر في النشر والانتشار على صفحات الصحف اليومية والمجلات، لأنها لا تحتكر مساحة كبيرة، وهذا غير متاح للرواية، إلا استثناءً.. وعلى شكل حلقات. ونشر القصص القصيرة تقليد صحفي، قلما تهمله صحيفة أو مجلة سواء كانت سياسية إخبارية أو اجتماعية أو فنية.. أو حتى متخصصة،       لأنها لا تأخذ سوى حيز صغير أولاً، ولأنها تلطف المجلة أوالصحيفة ولأن لها جمهورها ومتذوقيها. إن قصة تنشر في صحيفة يعني أنها تصل إلى جمهور عريض، لأن نسخ بعض الصحف قد تتجاوز عشرات  بل ومئات الألوف. ولقد باتت مادة صحفية دائمة الحضور... كذلك يمكن القصةَ القصيرة أن تذاع، وهو مايحدث في إذاعات عربية ودولية...

 

14- إن المزايا المذكورة تجعل من القصة  فناً لطيف المعشر، خفيف الظل. فالقارئ يستطيع أن يختار مكان وزمان قراءتها. بينما لا يملك هذا الخيار حيال مسلسل أو مسرحية لها مواعيدها وأمكنتها المحددة.

القصة المنشورة في جريدة، مثلاً، يمكن المرءَ أن يقرأها ساعة يشاء وأنّى يشاء: في البيت: الحديقة العامة، المقهى، المكتب أو مكان العمل. في حافلة.. في الطائرات.. في أي مكان آخر، وفي أي وقت صباحاً.. ظهراً.. مساءً.. في منتصف الليل...الخ..

تلك الميزة تجعل العلاقة بين القصة القصيرة والقارئ... ودية.. ديمقراطية، لأنها لا تثقل عليه، ولا تفرض عليه مكاناً ومواعيدَ وشروطاً للتواصل، ولاترهقه ولا تزعجه. إنّها ليست ضيفاً ثقيلاً ومملاً.

15- تتوجه القصة القصيرة بشكلها ومضمونها إلى الآخرين، لتلبي حاجة عندهم، ولتحقق غرضها لديهم، ومن أجل تحقيق هذه المعادلة، ونجاح وظيفتها، تستخدم القصة كل ما يتوافر لها من مقومات فنية، وأساليب تقنية فكرية وأدبية، للاستيلاء على القارئ والظفر به.

16- إنك تدير ظهرك لحديث ممّل. ولكنك تنجذب لحكاية طريفة وشائقة.

وقد تسمع نكتة مرتين..من شخصين مختلفين، وبأسلوبين مختلفين أيضاً. فتجد أن تجاوبك ورد فعلك  يختلفان بين الحالة الأولى والثانية، إذ تشعر بفشل العرض وبروده عند أحدهما، بينما تشعر بنجاح وحيوية العرض عند الآخر. مع أن الفكرة هي نفسها...

17- وهكذا القصة، تحقق النجاح ، وتفرض سلطتها على الآخرين بقدر ماتثير فيهم الفضول والإحساس بالجمال والطرافة في الشخصية والموقف، والمفاجآت المثيرة، والسياق الرشيق، الذي لايتيح لعقل القارئ ووجدانه أن يتراخيا.. ويتأففا.

كثيراً مايقول لك شخص: "هات من الآخِر" وهذا يعني أنه غير مستعد لتضييع وقته بكلام فارغ.. لا يعينه. كل إنسان يود مواجهة المواضيع والأحداث باختصار، وبإيجاز لا يخلّ بالمعنى. وتلك مسؤولية القصة القصيرة، أن تضعك دائماً أمام الجديد والطريف والجميل والمختصر... أمام منعطف تلو آخر، ومفاجأة تلو أخرى... وتأخذ بيدك، وبكل نعومة ولطف، في رحلتها الممتعة لاكتشاف الأسرار والمناطق المجهولة، والنتائج المحتملة. على القصة القصيرة أن تسرق القارئ، وتغزو عقله وقلبه، وتثير مالديه من رغبات وحب، فينسى نفسه.. ويتبعها، ويستغرق في سياقها.. ليشبع ذائقته ويحقق مزاجه، ويلبي فضوله، وحاجته لاستطلاع كل طريف وطارئ من حوله.

18- وأهم فكرة يجب أن يتخذها القاص سنّة له، هي أن المعيار الفني للقصة وجد لخدمة القصة وتمكينها من الوصول بنجاح أكبر إلى الجمهور. إنك إذ تقص تستخدم كل مامن شأنه اجتذاب اهتمام، الآخر الذي تتوجه إليه بالقصة وشدّ انتباهه، فإذا فشلت.. فهذا يعني  فشل أسلوبك، وفشل فنية قصتك.. والنتيجة هي خسارة الآخر ورفضه متابعتك.

إن فنية القصة هي حلقة الوصل بين القاص والمتلقي، وعليها يتوقف نجاح أو فشل العلاقة إياها... وحتى ينجح القاص في تحقيق التوازن داخل تلك العلاقة -المعادلة. لابد أن يتمتع بالموهبة، ويتسلح بالثقافة والخبرة والتجربة، ويؤمن بأن المتلقي مؤشر حقيقي ملموس لنجاح أي قصة.

19- يلاحظ تقصير واضح في مجال البحث الأدبي المتعلق بالقصة القصيرة على الرغم من قيمتها وأهميتها ودورها، ومكانتها الكبيرة بين الأجناس  الأدبية الأخرى. ونحن نفتقر إلى دراسات وندوات وبحوث جادة وكافية حول القصة القصيرة. تقع مسؤولية ذلك على الجميع: أدباءَ، نقاداً، أساتذة أدب عربي، وطلاب دراسات عليا. ولابد من الوقوف على أسباب غياب الاهتمام بالقصة القصيرة نقدياً وسواء داخل الجامعات ومؤسسات البحث الأدبي أوعبر المؤسسات الثقافية والإعلامية المقروءة والمسموعة.

فلا ندوات.. ولا محاضرات.. ولادراسات أكاديمية أو غير أكاديمية تتناول فن القصة القصيرة، في أي جانب من جوانبه.. وإني لأتساءل: هل مردّ ذلك إلى كون القصة القصيرة هي ذلك الفن المتمرد؟ المتمرد على الناقد وعلى نفسه معاً؟!؟

20- يمكنني القول: إن القصة القصيرة هي بنت العصر، وأؤكد أنها ستظل وبالقدر نفسه بنت المستقبل، وعادة راسخة من عاداته الثقافية الأدبية.. وإن التطور العاصف.. الذي لن يتوقف، سيظل يوفر المناخ الأفضل للقصة القصيرة، وسيمنحها المزيد من السلطة والنفوذ، ويوفر لها فرص تجديد شبابها، وزيادة حيويتها وتأثيرها في الحياة الفردية والاجتماعية. وهذا كله يدعو إلى التفاؤل، والاطمئنان على مستقبل القصة وريادتها الأدبية.

4/7/1997 م.

 

 

 

توازن

 

ترى من هو ذلك الرجل؟ تبدوعليه ملامح الأبهة والنفوذ! لابد أن أعرفه.. ولكن كيف؟!

سيادته الفارهة... سحنته المهيبة... تصرفاته... أناقته... كل شيء يؤكد أنه رجل غير عادي.

حدث هذا في نادي الشرق المعروف، الذي يقع في كبد مدينة دمشق.

هذا النادي لا يؤمه إلا علية القوم وأكابرهم، لأن تكاليف سهرة فيه تعادل راتب أو أجر موظف لعام كامل..

لم تكد تقف السيارة تماماً... أمام مدخل النادي، حتى كان واحدٌ  من البوابين... يفتح للسيد الجليل.. باب السيارة الخلفي اليميني. إنه  تقليد اعتاده كل صاحب سلطان.

انحنى البواب ماداً ذراعه اليسرى. باتجاه النادي... وكفه مبسوطة وهو يردد:

- شرفوا سيديّ... أهلاً وسهلاً ... تفضلوا.

وبينما البوّاب يتكلم، كان الزبون الدسم، يخرج ساقه ورأسه وجزءاً من جذعه الأيمن، لينزل من السيارة، وماكاد يكمل خروجه. حتى كانت كفه تمتد إلى البوّاب بورقة نقدية من فئة خمسمائة ليرة سورية، ويتكرّم عليه بنظرة، ومشروع ابتسامة مدروسة. حصل مقابلها على سيل من عبارات الشكر والتبجيل.

انضمّ بواب آخر، لمرافقة الرجل عبر المدخل... ثم اتخذ خدم آخرون أماكنهم على جانبي المدخل، كانوا أشبه بفرقة مراسم، متأهّبة  لاستقبال الضيف الكبير، وراح هذا الأخير يوزع عليهم ورقات نقدية  من الفئة نفسها التي قدمها للبواب الأول.. ولم ينسَ منحهم النظرات وهزات الرأس الخفيفة، ومشاريع الابتسامات غير الكاملة، والصمت.

بدا لي أنهم يعرفونه، وينتظرون قدومه، وما أثار دهشتي كونه وحيداً لا رفيق معه!

عندما أصبح داخل النادي، كان النادلون قد أسرعوا لاستقباله والترحيب الحار به.. ومرافقته إلى أن اتخذ مجلسه الخاص المحجوز له كالعادة، كما صرح بذلك أحدهم.

كان الرجل قليل الكلام، والابتسام.. وكان بخيلاً بحركاته والتفاتاته. يخرج غليونه، يدخن بصمت، بينما كفّاه تنوبان عن لسانه في التعبير عما يرغب ويشتهي، وأحياناً لا يبخل باستخدام رأسه نيابه عن لسانه.

وكان النُّدُل -وياللعجب- يترجمون لغته بدقة وتفوق، ويفهمونها تماماً.فهاهم يحضرون له طعامه المدروس بعناية.. إضافة إلى مقبلاته ومشروباته المفضلة؛ التي يتعامل معها برفق ولين ونعومة وبطء... كأنه يخشى أن يمسّها بسوء. هكذا يمضي سهرته وحيداً، وسط اهتمام بالغ من العاملين في النادي، الذين لا يكفون يحومون حوله كالنحل، طمعاً في رشفة رحيق من جيبه الجواد.

ما إن أنهى الرجل عشاءه، حتى طقطق بأصبعيه: الوسطى والإبهام...  وسرعان ماقدمت له فاتورة الحساب على صحن. وسرعان ماوضع الرجل المبلغ المطلوب فيه، لكأنه درج عليه، أو لكأنه محسوب سلفاً بالنسبة إليه.. قال ولأول مرة:

-وزعوا الباقي فيما بينكم...

نهض... بينما كان أحد الندل يتبرع بتقويم سترته، والتأكد من حسن قيافته. سار الرجل بخطوات رزينة، لكأنه يمشي على البيض، بينما كان يشيّعه عدد من الشغيلة حتى غادر النادي، وأذناه تطنان بصدى عبارت الحمد والثناء والتبجيل.

ومرّت الأيام. وشاءت المصادفات أن ألبّي دعوة إلى مطعم العرّاد، الذي يتوسط نهر بردى، بعد قدسيّا.. غربيّ دمشق.

كانت دعوة إلى العشاء والسهرة على برنامج فني.

جلست وأصحاب الدعوة إلى طاولة، وبينما كنا نتبادل أطراف الحديث، كانت عيناي تستطلعان المكان ووجوه الزوار المتوافدين.

وفجأة توقفت نظراتي المترددة على وجهه. اتسعت حدقتا عينيّ، قلت في نفسي: "هل أكذب عينيّ؟!.. أنا في حلم أم في علم؟! أم هل يخلق من الشبه أربعين؟!"...

لاحظ صديقي الذي يجلس قبالتي، ماطرأ على وجهي من تغيّرات. سأل:

-مابك؟ ماذا هنالك؟

- لاشيء...

- وجهك يكذّبك!

- أشبّه على أحدهم...

- بسيطة...

لعله الشقيق التوءم، إنها لمفارقة لا معقولة.

في هذه اللحظة اقترب نادل من طاولتنا... ليسألنا حاجتنا... رأيت في النادل طرف الخيط يوصلني إلى غايتي... لن أدع هذه الفرصة التي طالما انتظرتها تفلت من بين يدي، لقد جاءني الحل على يديه وقدميه.

طلبت من النادل الاقتراب مني.. أعطاني أذنه وهو ينحني، سألته:

... من ذلك الشخص هناك؟! انظر بطرف عينك، لا تدعه يلاحظنا. وجه النادل عينيه بالاتجاه الذي أشرت إليه.. ثم نظر في وجهي وهو يبتسم ابتسامة ذات معنى. قال:

- هل تعرفه؟

- أشبه عليه..

- إنه سليم السرحان..

أحسست أن النادل يود التهرب من فضولي، فنقدته ورقة من فئة مئة ليرة، وطمأنته.

-لن أفشي السرّ... لا غاية لي سوى الفضول.. نيتي سليمة.

- هنا عرفت أن النادل قد فهم قصدي. فقال:

- إنه هو....هو بشحمه ولحمه...

- وضح أكثر...

- إنه الرجل نفسه الذي تشاهده في ...

- نادي الشرق؟

- نعم.. في نادي الشرق.

- ياللغرابة!! غير معقول...

- صدقني... أنا لا أكذب.

- شكراً لك... لا بأس..

واستغرقت في المفارقة، ولم أشعر بالنادل كيف ابتعد، عدت إلى مراقبة الرجل... كان نشيطاً...خفيفاً، يتجول بين الطاولات، ينحني لهذا الزبون... يقدم الطلبات، يمسح الطاولات بأدب جم... ولباقة تليق بنادل  محترف حقاً

عاد النادل. وتلاقت نظراتنا، غمزته، فانحني برأسه إلى جوار رأسي سألته:

.... ولكن لماذا؟ وكيف؟...

- سيدي! كثيرون سألوني، وكنت أسرد لهم الحكاية نفسها، كأني أسطوانة تكرر الأغنية نفسها، هذا الرجل قصته قصة ياسيدي إنه يعمل هنا منذ زمن طويل، إنه الشيف (رئيس النادلين)، ومع ذلك يقوم أحياناً بعمل النادل،.بمحض رغبته، إنه يحب عمله ويتقنه والجميع يشهدون له بالخبرة والتفوق وحسن التدبير والتعامل مع الزُّبُن.

سليم السرحان لم يتزوج حتى الآن، ولم يدخر قرشاً أبيض ولا أصفر... كل ذلك بسبب تلك "السوسة" (العادة) التي تسيطر عليه، تصور ياسيدي. كل مايجمعه خلال أسبوع ينفقه هناك في سهرة واحدة.. ينفقه على  شخصيته الأخرى التي يعبدها.. ويصدقها، ويتمسك بها. إنه ممثل بارع يستأجر سيارة فخمة بسائقها، يقضي سهرة في نادي الشرق تليق بدوره كسيد آمر، هناك يتحول من خادم إلى مخدوم محترم، من رجل عادي إلى رجل غير عادي..ولو  لبضع ساعات...يدفع ثمنها باهظاً.

2/9/1995م

 

 

خِطبة على الهاتف

 

(في اليوم الأول)

- ألو....

*  نعم....

- من يتكلم؟

* من تطلب؟

- هل أنت أنت؟

*  نعم .... أنا....أنا....

- إذن من يتكلم.... أعني مااسمك؟

* غلطان.

        وصفق جمّول السماعة بانزعاج، وهو يشتم الهواتف ومن صنعها ولكن الهاتف عاد ليرنّ من جديد، رفع السماعة. بادره الصوت: 

-ألو....

* أنت؟ ألا تذوق؟‍ استحِ على دمك.

- عفواً... أنت تسيء الظنّ بي..

* حسناً ما الرقم الذي تطلبه..

- أنا لا أطلب رقماً.. أنا أريدك أنت بالتحديد..

* هل تعرفني؟

- لا.... لم أتشرّف بعد.

* إذن؟

- إذن من يحدثني؟ قل لي أرجوك..؟

* قل  لي أنت أولاً.. مااسمك؟

- قل لي أنت أولاً.. أنا من يسألك

* أوه.... من سلطّك علينا.... أيها الـ..

        وصفق السماعة.... قاطعاً الخط.... بينما كانت زوجه قد لاحظت لهجته الغاضبة. وأتت تستطلع الخبر، نظر في وجهها.... والشرر يتطاير من عينيه.... فوجئت زوجه.... قالت:"لماذا تنظر إليّ هكذا؟ هل تشك بي؟"... وقبل أن يردّ عليها، كان جرس الهاتف يرن للمرّة الثالثة.... رفع السماعة ووضعها ليقطع الخط.... وهو يتمتم شاتماً لاعناً أولاد الحرام، الذين يتسلّون بإزعاج الناس هاتفياً، رنّ الهاتف رابعة. رفع السماعة. بادر:

* ياوقح... لو كنت رجلاً... لواجهتني...

- حقاً.... هل في صوتي أنوثة.... حتى تخالني امرأة. هل تشك برجولتي؟ صدقني.... أقسم لك. إنني رجل.... رجل حقيقي...

* إذا لم تتوقف عن السخرية والإزعاج.. فسأريك يابن الـ...

- أرجوك.... لا تعذبني.... أنا قصدي شريف.

* واضح.... واضح....

- سأكون أحسن منك وأقول لك من أنا..

* جميل.... هكذا تحلّ المشكلة.

- أنا اسمي عامر.... عامر بن ربيع سلمان.... هذا هو اسمي الثلاثي الكامل.... نعم الكامل.... عمري سبع وعشرون سنة....

* أنا لا أعرفك.... لم اسمع باسمك....

- أدري.... ولكنك ستعرفني.... ستعرف كل شيء عني....

* ما المناسبة ياسيّد....

- أعطني عنوانك....

* أيضاً....

- صدقني ياعمّي.... عفواً.... هل أنت عمّي....أقصد في المستقبل؟

* هل تحدثني أنت من مستشفى المجانين (لزوجته) ما الذي يحدث؟  ماذا فعلنا....حتى حلت علينا هذه البلوى؟‍!

- نصف الالف خمسمائة.... دعني أشرح لك...

رمى جمّول السماعة، وراح يرفع ذراعيه صائحاً:

* ياهو.... ياعالم.... ماهذه المصيبة التي حلت علينا....

        أغلقت زوجه الخط.... طلبت منه أن يمسك أعصابه، قالت:  "كل شيء بالعقل.. من رأيي أن تسمعه للآخر... وتفهم منه ماذا يريد بالضبط".

        ورن الهاتف خامسة، رفع جمّول السماعة، بادر بالقول:

* أنا جميل بن ملحم الخليل... عمري خمسون عاماً. رجل مستور والحمد لله.... والآن.... ماذا تريد ياسيّدي.

- استغفر الله.... أن أكون سيدك.... بل أنت سيّدي.... وعمي

* لم أفهم!

- أنا ياعمي صهرك...

* صهري؟!

- أقصد صهرك في المستقبل...

* (لزوجه) سمعت؟ (يقهقه كالممسوس) يقول: إنه صهري.. إنه سيكون صهري (للرجل) هكذا إذن؟!

- إذا كنت موافقاً فأعطني العنوان من فضلك، لنبحث التفاصيل  ونتفق على كل شيء.

* وماذا لو قلت لك: إنك غلطان. وأنه ليس عندي بنات للخطبة والزواج؟! (لزوجته) هل عندك بنت عازبة؟! الرجل يخطب على الهاتف! هل سمعت في حياتك بخطبة على الهاتف؟! عش كثيراً تر الكثير....

- لست غلطانَ....

* (يضحك ساخراً) حسناً يا.. ماذا قلت اسمك؟

- عامر.. عامر سلمان.. رجل... صدقني رجل.. عمري... سبع وعشرون سنة.. (يتظاهر بالمسايرة) حسناً.. حسناً ولكن أمهلني لأفكّر.. لا أستطيع أن أعطيك جوابي الآن..

- ولكن البنت موافقة!

* نعم؟!

- وأمها موافقة أيضاً..

        يلتفت بذهول نحو زوجه:

* سمعت؟! أنت موافقة على تزويجه ابنتكِ (يقرّب السماعة من أذنها) اسمعي.. اسمعيه بنفسك(للرجل) ماذا قلت؟

- قلت : البنت موافقة.. وأمها موافقة....  لم يبق سواك ياعمي..

* (لزوجته) توافقين من وراء ظهري؟!

        تجيب الزوجة:

        "هل نسيت نفسك؟! أنا ليس عندي بنات حتى أوافق أو أرفض".

* (يتابع لزوجه) فعلاً.... لقد نسيت...الرجل أخذ عقلي بكلامه...سيجننني بالتأكيد...أعجبك؟! ها أنذا سمعته للآخر! يريد أن يتزوج ابنتنا...  يقول: إن البنت وأنت موافقتان. من هو المجنون برأيك؟

- آلو.. آلو.. عمّي.. أرجوك.. لاتقفل السماعة بوجهي...

يترك جمول السماعة مفتوحة... ويضحك بشكل هستيري...بينما تتولى زوجه إغلاق الخط....بوضع السماعة على الجهاز...ثم تنزع "فيش" الهاتف... وتقول لزوجها:

-" هكذا أفضل. دعه يحاول ماطاب له. وأنت تجاهل كل ماحدث... هدئ أعصابك.. واسترح".

* إذا لم يكف عن إقلاق راحتنا.. فسأطلب مراقبة الخط....

- لا تهز بدنك...لسنا وحدنا الذين يعانون من إزعاجات كهذه..

 

(في اليوم الثاني).

رنّ جرس الهاتف. تردّد جمّول، همّت الزوجة برفع السماعة. منعها. رفع السماعة، قربها من أذنها. سمع صوت امرأة:

المرأة: ألو....

*      : من...؟

المرأة  : بابا؟

*      : من تريدين ياآنسة؟

المرأة  : ألَسْتَ السيد جميل؟

*      : هو بذاته..

المرأة  : أبي.. أنا فدوى... ابنتك فدوى..

        ودار الزمن في رأسه... أحس بصوتها يوقظ قلبه. تابعت المرأة:

المرأة  : طلّقتَ أمي.. قلنا: هذا يمكن احتماله.. ستة عشر عاماً... لم تسأل عنا خلالها... قلنا: هذا أيضاً يمكن احتماله. أما أن تنسانا...  أن تمحونا من ذاكرتك  إلى هذا الحد.. فهذا مالا يمكن احتماله... فهل أنت أبٌ حقاً؟ هل أنت أبي؟ وهل أنا من صلبك حقاً؟ أي إنسان يفعل هذا؟!

* فدوى... لا أصدق...

المرأة  : بل صدق... صدقني لولا أنني مضطرة لك... لما اتصلت بك ولا كلمتك... عمري الآن ستة عشر عاماً.. الرجل الذي اتصل بك خطبني من أمي.. أمي التي رميتها.. وفرطت بها... كما فرطت بي. أمي التي طلبت من الرجل أن يبحث عنك ويلتقي بك ليطلب يدي منك... باعتبارك وليّ أمري.. ومرجعي.. هل توافق على الرجل ياوليّ أمري المحترم؟

        جمول بدا وكأنه فقد لسانه... ولاحظت زوجه أنه يبكي  بصمت، والدموع تسيل على خديه..

        عندما أنهت فدوى كلامها.. طلب منها والدها أن يتكلم مع عامر..

        أمسك عامر السماعة وقال:

-      مرني ياعمي.. أنا تحت أمرك..

* عامر... يابني.. سجّل عنواني فوراً.. أنا بانتظاركما...

25/9/1995م

 

 

تشرّد

 

حدث هذا في أواخر شهر آب من العام 1995م في مطعم يربض على شاطئ مدينة طرطوس. كان الوقت صباحاً.

قال نبيل: اخترقت الاستغاثات المتلاحقة رأسي كطلقات الرصاص. انتزعتني من أغلال نومي الثقيل.. بادئ الأمر.. توهمت أنني أحلم، لكن تواصل  صرخات الاستنجاد.. قطعت عليّ شكوكي وأوهامي، وتيقنت من صحوتي.

أخذ صراخ الصبي يتحول في أعصابي إلى صدمات كهربائية مؤلمة، فانتفضت واقفاً، وهرعت لاستطلاع مايجري، بينما تعكّر الصباح  الرائق في عينيّ. فكرة واحدة استولت عليّ: إنقاذ الصبي.. مهما كانت الأسباب. وبغضّ النظر عن النتائج.

رأيت المشهد الفظيع. وفار الغضب والنخوة في رأسي، وسخرت من عبارة: "الإنسان حيوان عاقل"!؟!

- أغيثوني... دخيل الله..التوبة.. التوبة...

ورأيتني أردّ على كلمات الصبي الجريحة هذه، بصراخ وزعقات حيوانية شرسة. وأنا ألتقط عصا، لا أدري كيف عثرت عليها،  وأندفع كالمجنون نحو الجَمْعَة اللابشرية مهدداً:

- ابتعدوا... ابتعدوا عنه أيها الحمقى الأوغاد، ابتعدوا وإلا فسأضرب وأقاتل حتى الموت.

كان عدد من شغيلة المطعم يتحلقون حول الصبي، أحدهم يدلق عليه الماء البارد، بعد أن جردوه من ثيابه، وآخر ينهال على جسده الطري ّالمبلول ضرباً مبرحاً، بأنبوب ماء مطاطي (نربيج)، والصبي  يتوجع ويصرخ معولاً، ازرقّ جسمه واحمرّ من أثر الضرب الوحشي وترك النربيج آثاراً شنيعة على جسده.. لقد أكل من لحمه الطري بقسوة. وجه الصبي احتقن...  كاد يختنق ويموت ألماً ورعباً. وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره. وكان بقية الشغيلة يتفرجون بلا مبالاة. وبعضهم يهوشون ويحمسون الشغيل الذي يضربه للاستمرار في تعذيبه وضربه. وتساءلت عما إذا كان هؤلاء من طينة البشر! ياللهول!! ويالوحشية الإنسان العصرية!!

تحولت إلى حيوان مفترس، لمقاومة الذئاب والضباع، وتخليص  ذلك الأرنب الصغير البائس من بين براثنها وأنيابها. وكنت مقتنعاً إن قوانين الغابة لا تزال سارية المفعول تحت جلد حضارتنا المزعومة.

حينما شاهدني الجميع في تلك الحالة.. ذعروا وفوجئوا.... فتراجعوا وتجمدوا كالتماثيل، اتسعت أحداقهم وفغرت أفواههم دهشة  وفضولاً وترقباً. قلت بلهجة آمرة حازمة وجازمة:

- آمركم بالابتعاد عنه. اليد التي ستمتد إليه سأقطعها..

حاول الشغيل الذي كان يضربه أن يتكلم... فزجرته...

- اخرس... وانتظر حتى أرى ما المشكلة... وليمض كلٌّ في حال سبيله.

تفرّقت اللمّة الآدمية. وبقيت والصبي وحدنا.

كانوا قد أوثقوا يديه الصغيرتين، ورجليه بشدّة. وكان الصبي مايزال  يرتعش وينشج، على الرغم من براعم الاطمئنان التي راحت تتفتح وتلتمع في عينيه وأسارير وجهه البريء، رمقته بحنان، وأنا أطمئنه:

- لا تخشَ أحداً... ما دمت أنا معك. لن أدع أحداً يؤذيك...

وكان أول مافعلته هو حلّ وثاق الصبي... بهدوء ورفق، ثم ألبسته ثيابه، بعد أن جففت جسده بعض الشيء، وظل الصبي صامتاً لا يقوى على الكلام. أخذته إلى غرفتي الخاصة، حاول أن يتكلم، وطلبت  منه أن يؤجل ذلك حتى يلتقط أنفاسه.. ويهدأ، مسدت براحة كفي  على شعره، وأنا أبتسم في وجهه برقة وحنّو.

عندما هدأ بعض الشيء. طلبت منه أن يحكي لي عما جرى. قال:

- أنا يتيم. مات أبي، أمي لاتقدر أن تطعمنا...

كان يتكلم بشكل متقطع من أثر الإرهاق والتوتر. وكانت كلماته ممزوجة بالبكاء والألم. سألته:

- من أنت؟!

- من بلدة "الضمير"...

- وماجاء بك إلى هنا؟!

- أمي تركتنا نفتش عن شغل في أي مكان لنحصل على الطعام، رحت أشتغل هنا وهناك.. حتى وصلت إلى هنا. أخدم في هذا المطعم بأكلي وشربي...

- ألا يعطونك أجرة؟

- أجرة قليلة جداً. اضطرت لسرقة خمسمائة ليرة منه لأرسلها لأمي..

- ولماذا سرقت خمسمائة الليرة؟

-لأساعد أمي. أنا أحب أمي كثيراً. وأكره السرقة كثيراً. أمي أيضاً  تكره السرقة، ولو سمعت بما فعلته لعاقبتني بشدة.

- هل طبت أمك المساعدة؟

- لا.. لم تطلب. ولكنها تقول: إن أختي الرضيعة مريضة، وأنها لاتملك ثمن العلاج... ولا ثمن الحليب لإطعامها، حليب أمي قليل لا يشبعها...

- السرقة جريمة. لا تحل المشكلة. بل تضيف إليها مشكلة أكبر..

- هذه أول مرة.. صدقني..

- ويجب أن تكون آخر مرة. ستخسر كل شيء لو فعلت ذلك.. ولن تجد من يشغّلك أو يساعدك..

- أعدك ألا أكررها...

نهضت. أخرجت من سترتي ورقة من فئة مائة ليرة، قدمتها للصبي:

- خذ، هذه أجرة سفرك إلى دمشق ومنها إلى "الضمير". حاول أن تجد عملاً في مكان قريب من أمك.

- وماذا... عن...؟

- لا عليك. أنا سأدفعها له. ولن أدعه يؤذيك...

دفعت المبلغ للشغيل الذي سرق منه، وطلبت منه أن يكفّ  شرّه عن الصبي، وكنت قد رافقت هذا الأخير حتى صعد إلى الحافلة التي مضت به إلى دمشق.

نسيت أن أذكر: إن شغيلة المطعم وصفوني منذئذٍ بـ "المجنون".

الاثنين 4/9/1995م.

 

 

العين المعدنية البيضاء

 

...جلسنا على طاولة خشبية مستديرة، مواجهةً جلسنا، اخترنا الزاوية الجنوبية الغربية، واجهتها البلّورية تسمح لنا بإطلالة..على مدى واسع.

خيوط الشمس تلوّح مودّعة النهار المرهق.

قِلّةٌ من الروّاد تبعثروا حول عدد من الطاولات، كانت الردهة فسيحة، طاولات وكراسيّ كثيرة تنتظر بملل وصمت.

بين الفينة والأخرى تتصادم عيون الرواد... ولا يمكن الجزم.. إن كان هذا يحدث مصادفة، أو عن قصد.

الندل يتحركون كالدمى، بينما الطاولات والكراسي تظل ساكنة.. مسترخية.

أحدهم يصفق. نادل يفهم المعني. يسرع... يعطي أذنه للزبون. الزبون يصب في أذنه كلاماً. النادل يدون الطلبات على صفحة من دفتر صغير في يده. ثم ينتصب...يتراجع. يدور. يمضي. الزبون ليس وحده. معه رجل ذكر...وامرأة مستهلكة، إنهم ثلاثة. بينما نحن اثنان. أنا... وهي.

الثلاثة مجاورن لنا. لقد استقرت طلباتهم على سطح الطاولة. وأخذوا يغازلون الطعام وهم. يتحدثون ويبتسمون.

الرجل الذي صفق. كان يختلس النظرات إلينا، وبتحديدٍ أدقّ...إليها هي.. التي تجلس مواجهتي تماماً.

كانت تبادله النظرات.. والابتسامات المقنّعة، وكان الرجل  ذا ملامح مذكّرة، والكرسي الذي يجلس عليه لا يبعد عن طاولتنا سوى بضع خطوات.. ثلاثة أمتار تقريباً.

هي لاحظت أنني ضبطتها.. حاولت التملص بالقول:

- كم هو وقح!!

ثم ابتسمتْ بشفتيها.. وعينيها معاً.

من جهتي تنكرت باللامبالاة.

منذ شهرين كنت أعتقد أنها تلائمني، وترضي ذوقي. كان إعجابي بها يذوب إثر كلّ لقاء.. وكانت صورتها تتغير... وتخسر ألوانها. هرب الرونق من وجهها.. فبدا جافاً...مستهلكاً..

هي تأففت. طقطقت بإبهامها وسبابتها، النادل فهم الإشارة هرع إليها. أمرته:

- غيّر هذه الموسيقى الميتة.

- تريدين أغنية محددة؟!

- أي شيء يرقّص

- أمرك

انزعجت. تذكرت الأشياء التي تحبها هي، والأشياء التي أحبها أنا. كنت أعدد لها فتشمئز، وكانت تعدّد لي فأغضب. لم يَرِدْ اسمي مرةً في لائحة ماتحب، وكان اسمها يمّحي في لائحة ماأحب.

كانت تتذمّر،  وتنتقدني، إذا أهديت إليها وردة، أو شمعة، أو كتاباً، وتصخب فرحاً إذا قدمتُ لها فستاناً أوقطعة حليّ ثمينة...أو مبلغاً من المال.. أو إذا دعوتها إلى سهرة في مكان كالذي نحن فيه الآن.

كنا نتحدث طويلاً... وكان الحديث يتكرر...كما تتكرر هي...والآن يبدو لي أن الكلام قد تبدد، وفقد وظيفته.

سال المساء على صفحة الأفق، وطمس المدى الفسيح خلف الواجهة البلورية اللامعة.

على الطاولة... جارتنا، كان الرجل شبه المذكر يوجّه كلاماً للمرأة، المرأة تهزّ رأسها...تضحك...تلتفت إلينا.. بل إليها هي.. إلى التي تجلس قبالتي، الرجل الآخر على الطاولة نفسها بدا حيادياً.

المرأة ليست حيادية، إنها تثير اشمئزازي. بدينة، قصيرة، قصة شعرها تشبه قصة شعر الرجل. وعمرها حسب الظاهر في الخمسينات.

كثفت التجسس...لاكتشاف المؤامرة الجديدة..

هاهي (أقصد التي معي) تهرّب نظرة مستسلمة مصحوبة بابتسامة حذرة للرجل شبه المذكر...ثم تنقل نظرتها وابتسامتها نحوي...وتراوغني مغازلة؟

- حبيبي...

نهضتُ بذريعة التعب من الجلوس. تمطّيتُ. تنقَّلَتْ ساقاي في المكان الضيق حول الطاولة، تفحصت الأشياء  والمواقع. ثم اتخذت مجلسي بشكل مغاير... صرت إلى جانبها. أعطيت ظهري لجارتنا: أقصد الطاولة المجاورة، التي يجلس حولها الرجلان والمرأة، وأعطيت وجهي  وعينيَّ للبلّور...الذي فهم خطتي، وكتم السرّ.

ازداد المشهد وضوحاً، هي اطمأنت، فراحت عيناها  تلعبان بحرية أوسع. تذكرت العبارة التي طالما تستفزني بها: "الطريق إلى قلب الأنثى عينها"..

ولكن عينها -(أقصد التي تجاورني)- كالبلّوعة!

البلّور يقدم تقريره بالصورة الصامتة ... و... بصدق.

داخل البلّور لم أجد لنفسي مكاناً، كان الرجل شبه المذكر يجلس في مكاني بالضبط. وجهه يكاد يلصق بوجهها، عيناها تعانقان عينيه!؟

كفي تعتصر شوكة طعام معدنية باردة بينما الحريق يلتهم مافي داخلي.

الآن! استوعبت كلام النادل... حين ادعيت الرغبة في قضاء حاجة. انتحيت بالنادل هناك...عند المراحيض. وضعت فمي في صيوان أذنه العميق، بعد أن كبست كفه بالمعلوم. قال:"هي أعطتني أكثر"... أعطيته المزيد. فتحرر لسانه. استطال أخذ يلعب...ويرسم القصة بمهارة...وموهبة:

"تعرفه. يلتقيان هنا. تدفع عنه الفاتورة"

هنا؟! وربما على الطاولة نفسها، والكرسي نفسه الذي أجلس عليه، النادل صادق. البلور صادق. إنه يجلس معها في مكاني تماماً، على الكرسي نفسه!

لقد فهمت الآن، لماذا لحقت بها المرأة الخمسينية ذات مرة.. إلى المراحيض، في هذا المكان نفسه..

الشهران يحتشدان في رأسي، بكل مافيهما، أستطيع الآن أن أفهم كل ماتقوله وتفعله.. (أقصد التي معي). الآن أعرف لماذا ومتى تبكي وتضحك، ولماذا عيناها تلعبان وتتأرجحان في كل اتجاه.

لقد احتملت...وصبرت طويلاً..لم يبق فيها سوى الأشواك والمرارة والرائحة النتنة...

يدي تضغط على الشوكة المعدنية الباردة، ذات الأسنان المدببة، عيناي تصوبان على بؤرة عينيها، اللتين زالت فيهما الألوان، سوى البياض المخيف.

والشكل المحدودب. بدتا كبيرتين جداً.

كالصدى تقرع في رأسي العبارة التالية:

عينها بلّوعة... بلوعة... بلوعة....

الحريق يستفحل في جسمي.. يدي تمسك الشوكة بثبات أسنان الشوكة تلتمع..عيناها تجحظان وتجمدان تماماً وعيناي تصوبان بدقة. يدي ترتفع.. ترتفع.. ثم تهوي بالشوكة الغاضبة على عينها اليمنى، ثم اليسرى...الشوكة ترتد كالنابض عن عينيها، الشوكة ترتجف كأنها تصطدم بكرتين فولاذيتين. أسنان الشوكة تلتوي، تئن ألماً... فيما عيناها ظلتا جامدتين.. سليمتين من أي خدش خفتُ.. ابتعدت هارباً.. وقبل الخروج نظرت ورائي.. لم أجد من يلاحقني، امتدت عيناي إليها.

كانت لا تزال تجلس.. إلى الطاولة.نفسها. لكنها لم تكن وحيدة... كانت تضحك بشهوانية، وكان الكرسي الذي كنت أجلس عليه قد استبدل بي الرجلَ شبه المذكر.

الجمعة في 25/4/1997م

 

 

خرافة

 

وقف إزاء المرآة، دهش. اقترب منها، حدّق جيداً، ماهذا؟! جالت نظراته، رأى السرير.. الخزانة.. الجدار.. السقف... وكل محتويات الغرفة، كلها بدت له واضحة... جليّة خلال المرآة! إذن لا عيب فيها... إنها تعكس الأشياء وتفاصيلها جيّداً. تعجب! هزّ الخوف قلبه، تساءل عن تلك الظاهرة المستحيلة؟ ما تفسيرها؟! غير معقول؟ ثمة سرّ غامض...مرعب. تحرك. استدار.  التصق بالمرآة، ابتعد عنها...لا فائدة! تلمّس جسده جزءاً جزءاً...ثيابه، نظر إلى أعضائه وأطرافه، تأكد من وجودها، بدت له طبيعية تماماً.

خطرت له فكرة: "سأخرج...وأسأل من أصادفه لأتأكد" بدت له الفكرة سخيفة وخطيرة، لأنهم سوف يؤولونها تأويلاً يسيء لسمعته وكرامته، واستنتج: "سيعتبرونني مجنوناً إذا بحت لهم بالسرّ"..صمم على استشفاف الحقيقة منهم بصورة غير مباشرة. خرج. سار بخطوات مضطربة. الشك يعتصر رأسه. صادف جاره. حيّاه. ردّ الجار التحية مشفوعة بابتسامة مجاملة. تابع. توقف عند محل تجاري يعرف صاحبه، اصطنع معه حواراً.

لم يسفر الحوار عن أي وضع غير عادي. نظر إلى زجاج واجهة المحل، الزجاج  يعكس صورة الشارع والأشياء كالعادة.. إذن العيب فيه.. وليس في المرآة، ولا في الزجاج..

كان الوقت ظهراً.. تابع طريقه عبر الشارع...فكرّ ملياً، راقب المارّة، لفتت انتباهه ظلالهم التي تتقدم بعضهم، وتتبع بعضهم الآخر، طبقاً لاتجاه سيرهم...أوحت له تلك الظلال بفكرة. ربما تفسّر حالته المنافية للطبيعة؟!

بحث عن ظلّه أمامه، لم يجد أثراً له... عكس اتجاه سيره، متوقعاً أن يكون الظل وراءه، لم يجد أثراً له. استدار أكثر من مرة حول نفسه بلا جدوى.

أحس بعض المارة ينظرون إليه باستغراب، استاء من نظراتهم المريبة. "يعتقدونني مجنوناً؟!" هكذا قال بينه وبين نفسه. توقف لحظة،  رفع رأسه إلى السماء، سعياً لرؤية الشمس، انبهرت عيناه من شدّة سطوعها.

طأطأ. أغمض عينيه مستسلماً للرعب الذي اجتاح أوصاله. أمام المرآة في البيت لم يعثر على صورته أو طيفه. مع أن الأشياء كلها كانت تبدو فيها. هو فقط لم يجد لنفسه مكاناً في المرآة، ولا في زجاج الواجهات العاكس للأشياء..

 

وهاهو لا يجد لنفسه ظلاً، مع أن لكل شيء حوله ظلاً، أشجار الشارع السيارات.. المارّة.. إلا هو.. لا ظل له. لا طيف في زجاج أو مرآة؟! متى  حدث ذلك؟ لا يدري. حار في الأمر غير الطبيعي. هل يتكلم؟ يصرخ؟ يجمع  الناس من حوله؟ هل يذهب إلى المشفى ويسأل الأطباء عن حالته؟... هكذا كان نهر الأسئلة يتدفق مزدحماً في رأسه، دون أن يفسح له مجالاً للاختيار..

ماذا سيفعل الآن؟ ومامصيره؟ "ربما حجروا عليّ في مشفى للأمراض النفسية والعصبية... ربما جعلوني مادة للاختبارات الفيزيائية...هذا خطير مؤلم..مرعب..لا..لا.." وصمت لحظة،. وراح ينظر إلى الأشياء من حوله، وراح الآخرون ينظرون إليه بشكل عادي جداً. لم يلاحظ في نظراتهم مايوحي  بالغرابة. لم يستطع أن يقاوم فضوله الذي فاض عن الحد. استوقف أحد المارة.

سأله: "هل تراني؟ هل ترى ظلّي؟" دهش الشخص...تفحصه بعينيه من  أخمص قدمه حتى رأسه.. جسّ بكفه جبينه. ارتسمت على شفتيه ووجه إشارة تعجب كبيرة!.  أجاب: "هل تعاني من شيء؟" هم بالمتابعة. منعه، قال له بلهجة حاسمة: "أجبني بوضوح وتحديد عن سؤالي"، ولكي يتخلص الرجل منه أجابه: نعم أراك.. وأرى ظلك...أنا متأكد، ولكن أستغرب مثل هذه الأسئلة....لم يسبق أن سألني شخص كهذه الاسئلة الطريفة". ابتسم الرجل...وانسل ذاهباً، بينما كان صاحبنا ساهماً  يتأمل ويحلل كلامه...

بعد قليل، تفحص نبضه. ذعر، لا نبض في شريان الرسغ، جسّ جبينه. كان بارداً...فكر أن يسأل شخصاً آخر... امتنع. توصل إلى أنه لا حلّ لمعاناته من خلال الآخرين.

عاد إلى منزله...دخل الغرفة، وقف إزاء المرآة عبثاً، لم يجد طيفه فيها.

أسرع إلى المطبخ، تناول سكيناً كبيرة بعض الشيء، ضغط برأس شفرتها على لحم ساعده، لم يشعر بأي ألم. نقلها إلى فخذه. حزّ اللحم. وصعق رعباً.

إنه لشيء خارق للطبيعة. لم ير الدم. لم تسقط قطرة منه تدل على وجوده.

وضع السكين إزاء صدره، مكان القلب. اخترقت السكين الصدر والقلب، ثم انتزعها، وشطر لحم بطنه، من الأعلى إلى الأسفل، دون أن يشعر بالألم، كما لم يلاحظ وجود الدم ولا سيلانه، تفحص أحشاءه، أخرج قلبه. تأمله.

تحسسه، لم يكن ساخناً، كان أشبه بكتلة من المطاط، شعر بالنعاس يسطو عليه، قاومه سدى، سقط في مكانه، وغط في نوم عميق لا قرار له.

 

 

سعدية

 

...البدر يبتسم باستحياء، يرش فضته على جبين سعدية. تأبطت ذراعه، شبكت أصابع أكفها الدافئة بأصابع كفه الفولاذية.

سرت رعشة لذيذة في جسدها، انطلقت من صدرها كلمة: "حبيبي" نسيم الصيف يتلوى، يلف جسديهما. يعابثهما. ينتعشان.

يتابعان نزهتهما القصيرة المعتادة على الدرب الأليفة والوحيدة. همس  أسامة في أذنها: "أحبك" فشعت عيناها، وعكستا ضياء البدر السهران. ابتسما، واستمرا يتمشيان...وقد تخاصرا.

حاول أن يقبلها. قاومت بنعومة. وأقنعته قائلة:

- لاتستعجل ياحبيبي... غداً زفافنا..

 

قال أسامة: أنت زوجتي منذ أول الدهر، وستظلين إلى الأبد.

قالت: ومع ذلك الاصول هي الأصول..

قال: حبنا أقوى من كل المبادئ والأعراف والأصول.

قالت: والناس يا أسامة؟!

قال: مالنا ولهم. كلها ليلة ويكون عقد الزواج قد تم. من سيعرف؟

قالت: أموت بحبك..

قال: بعيد الشرّ...لا تلفظي هذه الكلمة...أرجوك ياسعدية.

قالت: أنت تاج رأسي، ومنى عيني.. أسامة... معك أحس أني لا أملك نفسي. لا أستطيع أن أرفض طلباً لك. معك أصبح بلا إرادة، ولا عقل، فدتك نفسي.. ياحبيبي...ولكن أرجوك...لا تطلب مني هذا..

قال: كلانا شخص واحد، أنت مليكتي. سيدة قلبي، ومؤنسة روحي، ياجنتي وسعادتي..

قالت: حسبك...النسيم يسمعنا...قد يشي بنا.. والقمر يختلس النظر إلينا، انظر...إنه يبتسم كطفل مشاغب.

نظرت إلى وجهه. رأته ينظر معاتباً.سألته:

- هل غرت من القمر؟

- ثقتي بك بحجم القمر والدنيا. أنت لي تماماً... أنا واثق من نفسي ومنك واثق من حبنا الراسخ كالجبال، التي لا تزحزحها الريح ولا العواصف آه..ياسعدية...أتمنى أن أغفو وأفيق، فنصبح زوجين... زوجين حقيقين، تحت سقف واحد. غداً سأريك ياسعدية...

- أتهددني؟ قالتها مازحة..

- ياوردة عمري....

***

... توافد المدعوون. وغصّ المكان الفسيح حول البيت بالناس. أطفال وشباب وكبار ونسوة، ثلاثة طبول تقرع بشدة، وحلقة من المحتفلين تشكلت، حلقة من الرجال والنساء... تشابكت أكفهم، وراحوا يرقصون بضراوة، والقرباطي مسعود تنتفخ أوداجه، وهو يعزف على المزمار "المجوز" ومزمار القرباط الآخر المعروف بفتحته الواسعة أيضاً، تولّى العزف عليه قرباطي آخر.

في صدر المكان قبالة ساحة الرقص... صفت طاولات مغطاة بأطباق وأوعية الطعام والشراب.

بدت سعدية كالجوهرة وسط الحفل، وإلى جانبها يجلس أسامة. يتداولان عواطف الحب بصمت بليغ.

المدعوون يرشقونهما بعبارات التهنئة والثناء والود، وكانوا يحسّون بهما. كطائرين يوشكان أن يقلعا... ويرتفعا من شدة الفرح.

بدت أم سعدية مكتئبة...  وعلى وجهها مشروع بكاء ناقص. وعيناها تصارعان الدمع. بينما أم أسامة كانت لا تتوقف عن الرقص والزغردة...

كانت الزّفة لا نظير لها، وكان حب أسامة وسعدية حكاية مكتوبة على الدروب والأشجار والليالي الوديعة، وجبين القمر الولهان. عندما أوشكا أن يدخلا غرفتهما، صاحت أم أسامة:

- ابق رجلاً يا أسامة. ارفع رأسنا عالياً...لا تخذلنا يابني. رمق أسامة أمه وحماته، قال، وهو يتبختر كالديك:

-لا عليكما...سترون.

كانت سعدية نهباً لمزيج من مشاعر الخوف والقلق والسعادة، وتبرعمت على ثغرها ابتسامة غامضة.

أغلق أسامة الباب، وغابا عميقاً داخل الغرفة المخصصة، بينما بقيت ثلة من النسوة: قريبات وصديقات أم أسامة وأم سعدية، ينتظرن الفرج خارج الغرفة.. ويتلهين بتداول الملاحظات والتعليقات على العرس والعروسين.

طال انتظارهن بعض الشيء. أكدت ذلك إحدى النسوة فاكفهر وجه أم أسامة، وشعرت بالإهانة. كانت  واثقة دائماً بفحولة ولدها. سماته كلها تفصح عن رجولته. وفكرت أم أسامة متشككة: "لن يخذلنا...لكن...لقد تأخر فعلاً... الله يسترنا" أم سعدية ضاق صدرها، ولم  تعد تحتمل الصبر. إنها تنتظر "العلامة". روحها صارت في أنفها فلم تتمالك إلا أن قالت لأم أسامة: "دقي الباب...حثيه استعجليه". قالت امرأة: " نريد العلامة يا أم أسامة"..

وبقيت أم أسامة... تلوك غيظها بصمت، ولم تجد ماتردّ به عليهن. ارتسم الوجوم على الوجوه، أم سعدية تطلق من صدرها زفرة طويلة مرتفعة اللحن، كأنها زفرة قطار. اقتربت أم أسامة من الباب.. حاولت أن تظفر بحرف.. بكلمة... بهمسة... بصوت. عبثاً كانت محاولاتها... ضربت كفاً بكف دون أن تحرك فمها، انتحت جانباً، وقرفصت.

***

لم يكن الليل داخل الغرفة... يشبه ذلك الليل، الذي كان يحرسهما على الدرب الوحيد، ولم يظهر البدر الأنيس، الهواء كان راكداً... هامداً كجثة.

نيران العار تلدغ أسامة. أسامة العاشق...الواثق بحبيبته ثقته بنفسه...أسامة الولهان يحس أن آلاف العقارب تطبق  على قلبه الطري. السم يسري في الجسد.. يتفجر كالبركان.

بدأا ملاكين...طائرين... شفافين...متلألئين...عزفا أوبرا الحب مارسا طقس الحياة... بفصولها وألوانها. امتزجا. ذابا في إيقاع راقص نشوان. أكلا  التفاحة... وشما عبير الجنة.

خمد البركان قليلاً، سعدية استمرت تغلي سعادة هانئة مطمئنة. لكن أسامة شعر بمرارة الحنظل في فمه، خمن أن التفاحة معطوبة، مدوّدة. صحا من سكرته، عاد إلى عقله المزود بذاكرة غير مرنة. تحسس الأشياء  مرات ومرات. يئس. لم يجد ثمة لوناً أحمر. شعرت سعدية بتغيراته المريبة... انتقلت تلك التغيرات -بالعدوى- إليها انتشرت في جسدها، سرت في أوصالها، وانعكست في وجهها وعينيها قلقاً وخوفاً وفضولاً:

- ماذا حدث لك..ياحبيبي؟

- صمت...

- إنك تخيفني يا أسامة.. يانور عيني.... ونبض قلبي

- صمت.

أرجوك أتوسل إليك...أخبرني...ماالأمر...ماذا حدث لك؟

وبقي أسامة مذهولاً... وزادته عبارات سعدية استغراباً ودهش، بدت سعدية وردة نضرة تفتحت على يديه.. وجه سعدية يقول لو كان للبراءة اسم آخر، لكان سعدية!! إذن؟ أيهما الأصدق؟ الواقع؟ أم الوهم؟!

وفكر أسامة " لعله الحب يعمي قلبي وعقلي.. ما أراه هو الصحيح لن أكذب عيني...وحواسي".

تململت سعدية وتكورت على نفسها، وشدت الغطاء، لتستر جسدها الطري المرتعش. تمزقت في عينيها صورة أسامة، تمنت أن تنشق الأرض  وتبتلعها، وأسامة يفترسها بنظراته المتوحشة.. التي تفصح عن نياته الخطرة..المهددة..

سمع أسامة همهمات النسوة خارجاً، تخيّل نفسه ملوثاً.. مهزوماً عارياً إلا من الخزي، ورأى النسوة تلوك كرامته المهدورة، ورجال القرية يدوسون سمعته... يقرّعونه، ويشتمون رجولته.. ويصمونه بأحط الألقاب والصفات. وتذكر بيت الشعر الذي كان يردده معلم المدرسة:

"لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى

       

        حتى يراق على جوانبه الدم"

 

كان أسامة متردداً...وفجأة ارتفع صوت بكائه..لأول مرة تراه سعدية يبكي بحرقة وألم. ذعرت، هالها هذا المنظر غير المعقول.. انطلقت من ثغرها الطفولي العبارة التالية وبلهجة حازمة حادة:

- حسبك ياأسامة. الرجال يبكون.

- صمت ونشيج أسامة

- افعل مايريحك ياحبيبي...ولكن...ولكن.

- ولكن ماذا؟

- ولكن أود أن أعرف ماذا يحدث؟

انتبهت إلى الخرقة البيضاء الناصعة التي رفعها بأصابعه عالياًوهو يعلق بحقد:

- وتتظاهرين بالبراءة؟! أين أضع وجهي من هؤلاء الذين ينتظرون العلامة، وامصيبتاه...

- ولكن أحداً لم يمسني، صدقني ياحبيبي... أنا بريئة... طاهرة..

- بريئة! هه.. (يريها الخرقة البيضاء) وهذا هو الدليل ...

- أنا لا أفهم شيئاً.. لا أعرف لماذا؟... أؤكد لك أنني بريئة...

وارتفعت أصوات النسوة المنتظرات، وسمع صوت والدته تستحثه على إنجاز عمله.. والدخول بسعدية، صاحت:

- ارمِ لنا بالعلامة ياأسامة.. هدّنا النعاس...

ولم يعد أسامة يحتمل أكثر، رمى بشكوكه وتردده وحبه أرضاً.. داس قلبه وعقله وأيامه معها. قالت سعدية:

- لا تفعلها ياحبيبي.. قد يقتلك الندم.. أخاف عليك ياحبيبي...

كانت يده أضعف من أن تقاوم تلك العبارات الأخيرة التي لفحته بها سعدية... واندفع أسامة كالأعمى، وغرز السكين في وجه البدر اللامع، فتأوه الضياء، وانبجس العقيق من الفضة، أعولت الريح، وبكى الليل، وتصدّع الدرب الوحيد... الذي طالما احتضن خطواتهما الوئيدة النشوى.

صرخ الدم: "بريئة... بريئة...بريئة"، سمعت صراخه القرية فتوجعت البيوت والأشجار والطيور. وعزفت الريح لحن الوداع.

لم يعد أسامة يرى شيئاً سوى اللون الأحمر، فتح الباب قليلاً...

رمى بالعلامة الحمراء في وجه النسوة. وصفق الباب بقوة... وارتفعت الزغاريد من النسوة، لتوقظ القرية الهاجعة على النبأ المنتظر.

***

 

عندما عاين الطبيب الشرعي جثة سعدية، حرر تقريره ومما ورد فيه:

"إن المقتولة لم تكن ثيباً، بل ظلت عذراء بكراً، لأن غشاء البكارة من النوع المطاطي، الذي لا يزول إلا بعمل جراحي، أو بعد الولادة الأولى".

 

 

طلقة في الهواء

 

قال: إنه مثير... ومسلٍّ

قلت: دعنا منه، الذي فينا يكفينا

قال: اسمعه...راقبه ولو لمرة واحدة، احكم عليه بنفسك...

قلت: حسناً...لنجرّب.

اقتربنا منه، كان يجلس القرفصاء، لم يحلق شعر ذقنه منذ أيام، اختلط فيه البياض والسواد بنسبة أكبر مما هو عليه شعر رأسه المنفوش، ثيابه رثة...متسخة...وغير متوافقة مع مقاسات جسده الضئيل المعروق.

وقفنا قبالته، بادرناه بالتحية، لم يردّ. كأنه لم يسمعنا أو يرنا. أغراه صديقي بالقول: "ردّ علينا وخذ "مصاري". ومع ذلك بقي صامتاً...لا يبالي...وظلت عيناه جامدتين، لا ترمشان، ظلتا مشدودتين إلى شيء ما...شيء بعيد كالأفق.. قلت لصديقي: "إنه شارد الذهن". علّق صديقي مبرّراً: "تلك عادة العباقرة...نعم إن التأمل والشرود عادة العباقرة...لعله يعيش لحظة إبداع وابتكار!!" طلبت من صديقي أن نمضي في سبيلنا. قال: "أنت دائماً هكذا...بصلتك محروقة". ثم التفت إلى الرجل. بعد أن أخرج من جيبه ورقة نقدية وعلبة تبغ وقداحة. مد يده بها إلى الرجل وهو يقول: "تفضل ياأستاذ عطوان.. مافيه شيء من قيمتك".

استيقظ عطوان من رحلة خياله، تماماً مثل قطّ اشتمّ لتوه رائحة لحم طري، فاستنفرت حواسه وغرائزه، رمقنا بنظرات جائعة واختطف الأشياء من يد صديقي بلذة وحماسة.

دهشنا واستمتعنا بمراقبة سلوك عطوان، الذي مالبث أن انتزع لفافة، وأشعلها، وأخذ يدخنها بشراهة وصمت، بينما بقينا أنا وصديقي نراقبه بصمت، وننتظر الفرصة المناسبة لمحاورته.  أخيراً رفع بصره نحونا، وراح يتأملنا بارتياب وخبث، ثم فاجأنا بقوله:

"هذا الكرم ليس لله، هاتوا من الآخر"

علق صديقي: سامحك الله يا أستاذ عطوان! أهكذا تعامل من يحبك ويهتم بك، صدقنا لا غرض لنا إلا راحتك... وإذا شئت نمضي حالاً"..

بدا التأثر على وجه عطوان. فاستدرك قائلاً:

- " مهلاً... خفت أن تكونا مدسوسين...ولكن لا يهمني...حتى لو كنتما من القطيع...واعلما علم اليقين أنه لا فرق بين الجاسوس والمغفل والخروف".

دهشت، وازدحم الضحك في حلقي، ولم أتمالك إلا أن سألته:

- هل ترى علاقة بين الجاسوس والمغفل والخروف؟

وانطلقت من صدر عطوان قهقهات منغّمة، وشعرت حينئذ بعدم الإحراج، وبأنني قادر على الضحك مثله، وسرت عدوى الضحك إلى زميلي الذي قال وهو يضحك: "ألم أقل لك!! إنه مثيرٌ ومسلٍّ".

هدأ عطوان قليلاً وعلّق:

- لدّي فراسة قوية، كنت أحس أنكما من القطيع.. ماع... ماع...

واستمر يقلد ثغاء الحملان،  ونحن غارقان في الاستغراب والدهشة والتساؤل عما يعنيه بعباراته ووصفه لنا.

زهير.. صديقي تدخّل بلباقة وقال لعطوان، وهو يشير إليّ:

- أعرفك بالأستاذ ناصر. إنه صديقي.. يريد أن يتعرف بك، ويسمع منك بعضاً مما تبتكره مواهبك الفذة.

سأل عطوان متردداً:

- ولماذا؟ هل هو صحفي؟

- أمسك زهير طرف الخيط، وأجاب:

- أنت ذكي فعلاً...كيف حزرت؟

- قلت لكما: لدي فراسة قوية؟

- إذن هلاّ تكرمت علينا، واسمعت الأستاذ ناصر؟!

- ليس قبل أن تبيّض الفال... وتدفع... الفن يحتاج إلى الخبز..

ونقده صديقي ورقة نقدية للمرة الثانية.. وبدا الحبور على وجه عطوان فقال: "الآن صرت قادراً على الكلام والعمل... حسناً سأوجز لكما قصتي، قبل أن أقدم لكما عرضاً نموذجياً تطبيقياً لعمل من أعمالي  المشهورة عالمياً"..

وراح عطوان يسرد لنا نتفاً من سيرته، ومما قاله لنا:

"كنت عضواً بارزاً في "الأوركسترا" الوطنية، وحينما أتيحت لي فرصة الترقية، لقيادة الفرقة الموسيقية، تعرضت لمؤامرة دنيئة، وخانني أعز أصدقائي وتلامذتي، وروجوا حولي شائعات خطيرة ومغرضة، حتى إن البعض اعتبرني هرطقياً...مشعوذاً، كما شكك آخرون بموهبتي وخبرتي وجدارتي وإخلاصي.. أوه.. ياللحسد والنذالة والأنانية...أوغاد...خونة...خراف...صدقاني..لم تكن عقولهم في رؤوسهم قطعاً. كانت عقولهم في قرونهم... نعم في قرونهم"...

وأخذ عطوان يطلق من فمه ثغاء ممطوطاً...مقهوراً.. وساخراً.. ماع... ماع... واستطرد قائلاً:

- إنهم مجرد قطيع...والقطيع بحاجة إلى رعاة.. وجزارين.. وذئاب...بحاجة إلى أي شيء إلا "المايسترو"... أنا الموسيقار عطوان أكفأ  "مايسترو" عرفه التاريخ، لكنهم  ليسوا بحاجة إليّ. بل إلى شيء آخر لا علاقة له بالموسيقى والفن والإحساس.

قطع كلامه، وغرق في قهقهات منغمة ومريرة، ثم انقلب فجأة إلى النحيب والبكاء، وكأنه صادر عن إنسان مفجوع.

في هذه الآونة كان قد تجمع حولنا رهطٌ من الفضوليين المستطلعين،  وبدا بعضهم يعرف الرجل عطوان، كانوا يحيّونه، وينادونه باسمه مضافاً إلى لقب "موسيقار" و"مايسترو"، وكان بعضهم يقدم له نقوداً.. وسجائر، ويمطرونه بعبارات الثناء والمدح والتعظيم تمهيداً لاستدراج موافقته على تلبية طلباتهم وترجياتهم له بتقديم عرض من عروضه الممتعة.

- عطوان لا تبخل علينا.

- السيد عطوان ملك الموسيقا.

- المعلم عطوان أستاذ النغم.

- نحن جمهورك، وأنت موسيقارنا المفضّل.

شعر عطوان بنشوة الفخر والاعتزاز، فنهض واقفاً، ونفش جسمه بكبرياء، وصلف وجدية مبالغ بها إلى درجة الإضحاك، رفع يديه وصاح:

- هدوء... هدوء...

وصمت الجميع، وتابع عطوان:

- شكلوا نصف دائرة...

وفعلوا... فقال:

- لا أستطيع أن أخيب آمالكم، ياجمهوري الحبيب. سأقدم لكم  آخر مؤلفاتي. إنها ملحمة سيمفونية رائعة أسميتها سيمفونية الخروف.

وانطلقت من بعض الأفواه أصوات ثغاء، مافتئ أن اشترك فيها صوت عطوان بطريقة ملحّنة: ماع... ماع.. ماع...

رفع عطوان يديه وصرخ: يكفي.. حسبكم.. الهدوء الهدوء....".

 

لبى الحاضرون طلبه، وصمتوا بانتظار الجديد، تابع عطوان:

- أريد الهدوء... كما لو كنتم في طقس عبادة..

صمت الحشد، الذي كان يتزايد، وينمو، ويترعرع، بينما غاصت كفُّ عطوان اليمنى داخل قميصه البالي، عند الجهة اليسرى من صدره، ليخرج عصاه الموسيقية، ويجعلها في وضع أفقي بالنسبة إلى صدره، رفع يده الثانية إلى المستوى نفسه، ثم انطلق يؤدي حركات كالتي يؤديها مايسترو حقيقيٌ عاشقٌ لفنّه. وقد أَصْحَب عطوان حركاته، أصواتاً موسيقية، راح يطلقها من فمه، لتجسيد إيقاعات الآلات المختلفة، وبشكل متفاوت الشدّة والحدّة: "بم...بم... ترك... دج...ترم...بم...الخ". وكان يحرك أعضاء جسده بما ينسجم مع الإيقاعات التي يمارسها. وكانت تلك الإيقاعات تنساب هادئة حيناً، وتندفع صاخبة معربدة أحياناً. ومالبث عطوان أن خرج عن المألوف، لينتقل إلى أهازيج وصياح وهتافات غير مترابطة..." يتخللها صوت ثغاء خراف متقطع "ماع... ماع...ماع..."

لم يستطع الجمهور أن يحبس الضحك، الذي تراكم وازدحم في الصدور والحلوق والأفواه... بسبب ذلك الاستعراض الملهائي المدهش.

فبدأت تفرقع ضحكة هنا، ترفدها ضحكة من هناك، إلى أن تشكل  سيل هادر من الضحك، امتزج بأصوات وحركات تحاكي مايفعله السيد عطوان، وارتفع الصفير والتصفيق، وراح الحشد يرقص ويدبك  ويردد وراء عطوان عباراته وأهازيجه.

بلغ الهرج والمرج حداً مرعباً، فبرز من بين الحشد رجلٌ ضخمٌ ذو هيئة جادّة...صارمة...مخيفة وعدوانية...وقف في مركز نصف الدائرة، دفع الرجل عطوان جانباً...أزاحه بسهولة، رفع ذراعيه، صاح مهدداً متوعداً: "حسبكم، تفرقوا... وإلاّ"...

لم يكترث لصياحه أحدٌ، بسبب الضجيج والصياح والاندماج في الحالة الانفعالية الجماعية المتنامية، فما كان من الرجل الهيوب إلاّ  أن شهر مسدساً أخرجه من وسطه، ثم أطلق طلقة في الهواء.أخرست الطلقة الضجيج، وفرّ الناس مذعورين في كل اتجاه  بينما اختزلت أصواتهم المرعوبة فيما يشبه ثغاء قطيع من الخراف  حينما تتعرض لخطر هجوم الذئاب عليها.

وفي هذه اللحظة كان عطوان يضحك ملء يأسه وحزنه.. ويثغو كحمل ضائع يفتش عن قطيعه.

الأربعاء في 29/5/1996م

 

 

الحائط

 

زوجتي روت لي هذه القصة الطريفة، عن أمها، عن أصحاب العلاقة مباشرة، وهم من معارفها وجيرانها في آن واحد.

هشام... العريس في حي الصالحية الدمشقي المعروف. وهو شاب  في الثلاثين من عمره، يميل إلى السمنة والاعتدال في الطول، تربّى في جوّ تقليدي عادي... محافظ إلى حدّ ما. وهو من أسرة متوسطة الحال مادياً واجتماعياً. وتمكن هشام من متابعة دراسته، والتخرج كمهندس  ميكانيكي، ونجح في الحصول على عمل أيضاً، استطاع شراء شقة من غرفتين وصالة.. وأثثها خلال سنوات قليلة.. أما اهتمامه  بالجنس الآخر فقد كان شبه معدوم، بعضهم يعزو السبب إلى طبيعته  الخاصة الخجولة والمحافظة.. والمهم أنه لا يعرف إلا القليل عن النساء ومعاشرتهن.

ناهد في الخامسة والعشرين من عمرها، لديها محل للحلاقة النسائية، وتملك شقة محترمة في حي كفر سوسة، حيث ولدت وترعرت في كنف أسرة ميسورة، وناهد تتمتع باستقلال نسبي، وحرية كافية لاتخاذ قراراتها بنفسها، كانت مدلّلة من في أسرتها، ولا ينقصها شيء سوى عريس الهنا.

لمياء هي أخت المهندس هشام، وصديقة ناهد، وكانت لمياء تتردد إلى صالون ناهد، كلما رغبت في قصّ شعرها وتسريحه، وكانت ناهد بدورها تزور لمياء في بيتها... وبالتالي تعرف أفراد الأسرة، الأب.. الأم.. الإخوة.. والأخوات وهم بدورهم يعرفونها. ويعرفون وضعها.. وكل شيء عنها... وعن أسرتها....

وفي حين أن ناهد لم تلفت انتباه هشام، كانت أم هذا الأخير وأخته تفكران في تزويجه بناهد. وأطلعتا الأب على الفكرة، فوافق دون تردد، لأنه كما قال عن ناهد:

بنت مكملة... لا ينقصها شيء.... جمال ومال وأصل....

 طرح الأهل الفكرة على المهندس هشام، فوافق، وفي اليوم التالي زاروا بيت ناهد، وتولت لمياء جسّ نبض ناهد واستطلاع رأيها بالموضوع، تجاوبت ناهد، ووافقت، وتم الاتفاق على فتح الموضوع مع أهل ناهد بعد يومين.

اجتمعت الأسرتان.. وقرأ الجميع الفاتحة.... بمناسبة الخطبة.

واتفقا على "كتب الكتاب" خلال أسبوع، وبعد مفاوضات شاقة اتفق على أن يكون معجل الصداق مائة وخمسين ألف ليرة، ومؤجله  مائة ألف  فقط، وقد تم كل هذا في حينه.

وعرف من بعض المتطوعين لتسقُّط أخبار الناس، أن العروس كانت تبغي استكمال كسوة شقتها من معجل المهر، بعد أن تحصل عليه نقداً من عريس الهنا، وكانت تنظر إلى الزوج من وجهة نظر العرض والطلب وتقلبات سوق العرسان، الذي يبعث على التشاؤم.

أما عن رؤية أهل العريس، فلم تبتعد كثيراً عن الفلسفة السابقة، وكانوا يرون في ناهد صفقة رابحة.. لا تكلفهم كثيراً.. لأنها بنت  منتجة، وصاحبة ملك... إضافة إلى كونها جميلة...

العريس والعروس تحابّا، بعد عشرة وألفة. أمضيا معاً أوقاتاً حلوة، وسهرات لطيفة، نسيا خلالها توجيهات الأهل وتوصياتهم ونصائحهم المعروفة.

قالت ناهد مازحة:

- سأحضر معي ليلة الدخلة قطاً.. لأقطع رأسه...

أجاب هشام مازحاً:

- وأنا سأحضر نَمِراً، لأقطع رأسه ليلة الدخلة... وسأدوس قدمك، عندما ندخل الغرفة...

وبمشقة ابتسمت ناهد.. وقالت في نفسها:

- سنرى من سيربح المعركة..

ثم قالت بصوت واضح:

- لم ترني شقتك!!

- شقتي؟! قولي شقتنا...

ذهبا إلى شقة العريس، دخلا... عاينت ناهد الشقة بشيء من  اللامبالاة.. سألها هشام:

- ألم تعجبك؟

قالت:

- الفرش معقول.. والشقة لاباس بها مؤقتاً... سنغيرها لاحقاً، نستبدل بها شقة أكبر وأفضل ...ولكن...

- ولكن ماذا حبيبتي... نهودتي؟!!

- من الأفضل أن نلغي الحائط بين الغرفتين، لدمجهما...

- لا أفهم...

- تصبحان غرفة نوم واسعة... مريحة.. وعصرية... هكذا أفضل..

- غير معقول!

- حالياً تكفينا غرفة نوم.. وصالون...

- تمزحين؟!

- أبداً.. تلك رغبتي وإرادتي...

- أنا تعجبني شقتي هكذا...

- ماذا؟ أليست شقتي كما هي شقتك؟! ألست من سيعش فيها؟! أنا سيدة المنزل.. ومايريحني عليك أن تفعله..

- أرجوك ناهد...

- هذا آخر كلام عندك...

- نعم.. الشقة ستبقى على حالها.. أنا رجل البيت، وصاحب القرار الأول والحاسم بشأنه، ما أريده وأقوله، هو مايجب أن يتمّ...

-لا.. أنت غلطان جداً.. إنك لم تشترني.. أنا لست عبدة عندك... ولن أكون...

- أنت زوجتي الآن..

- لا... لم أصبح زوجتك بعد... ولن أدعك تتحكم بي... مازلنا على البَّرْ...

- ناهد...

- هشام... لنعد من حيث أتينا...

...تفاقمت المشكلة... وتفرعت، واتسعت دائرة الصراع  لتشمل أهل العروسين، فقد تمسك كل فريق بموقفه... ورفض أي تنازل وتفاهم... وضاعت هباءً كل محاولات التوفيق، وإصلاح ذات البين بين الفريقين المتصارعين، وبقي الجدار الفاصل بين الغرفتين، جداراً فاصلاً بين طرفي النزاع...

وبعد التهديدات، والتحديات المتبادلة، حسم الامر بإرسال ورقة الطلاق للعروس، التي حاولت كسر كلمة العريس، وقطع رأس القط في ليلة الدخلة بوقت مبكر.

أهل العروس جنّ جنونهم... ولم يطل الوقت حتى رفعوا الراية البيضاء، وأعلنوا التوبة والطاعة، وسعوا جاهدين لإعادة زجاج الحب المكسور دون جدوى.

الجمعة في 7/6/1996م

 

 

حالة شاذة

...وجودي في هذا المكان حالة شاذة..

أنا الآن أطل على المدينة... على معظم المدينة... عبر نافذة واسعة، إطارها من الالمنيوم الملون، كذلك زجاجها ملوّن بسمرة خفيفة ورشيقة.

الطاولة التي أجلس إليها.. تكاد تلتصق بالنافذة.. عليها غطاء أبيض، مرتب.. ونظيف...على الغطاء صحنان مسطحان أبيضان... ومتقابلان.

وعلى كل منهما منديل أبيض، يوجد أيضاً كأسان فارغان، ونفاضة سجائر كريستالية فاخرة وثمينة..

عفواً...نسيت ذكر أهم شيء، إنه السيد (م) الذي يجلس برفق على الكرسي، عند الطرف المقابل من الطاولة، والسيد (م) هو صاحب الدعوة إلى هذا المكان المرتفع.. الهارب من "ألف ليلة  وليلة". علاقتنا لا تزال طرية.. طازجة.. وغير واضحة.

هو من طبقة النجوم، وأنا رقم من الجمهور العائم.

كنت مبهوراً بفخامة المطعم المرتفع جداً، والذي يسمح برؤية الفضاء المشرع.

 لاحظ السيد (م) انبهاري...سألني متودداً:

- إن شاء الله أعجبك المكان؟

اختلّ الهدوء... بدخول عصابة آدمية، سرعان ماتبين أنها تتألف من نجمةٍ، تجرّ وراءها نجيمة، وثلاثة ذكور، الذكور يرتدون ثياباً محتشمة.

السيد  (م) حيّا العصابة، وهو ينهض قليلاً.. بعضهم رفع يده بالتحية، والبعض اكتفى بهز الرأس، جلس السيد (م) التفت إليّ، ولم يتخلص من ابتسامته بعد، قال:

- إنها النجمة.. الكبيرة.. تعرفني.. وتحترمني..

هنا أحسست بأن السيد  (م) ليس خارقاً تماماً...شخص يقترب من طاولتنا. يضع عليها أطباقاً متخمة بأصناف الطعام.. الشهيّ بمنظره.. ورائحته.

لم أبدأ إلا بعد أن بدأ السيد  (م)، التقطت أسلوبه في التعامل مع جمهرة الأطباق، وحاولت تقليدها، جاءت محاولتي متعثرة قليلاً، شجعني السيد  (م) بالقول:

- خذ راحتك...

أصوات العصابة ترتفع وتهبط كأمواج البحر، السيد  (م) يلتفت إليهم بين الفينة والأخرى .. ويبتسم، أما أنا فكنت آكل، وأتأمّل  وأقارن.

بيتي يبحث عن الشمس، يقف في مصراع حيّ مهرَّب، هواؤه فاسد.. وراكد. الصراصير بأنواعها تستعمر مطبخه، وتتعدى بغاراتها على أحشائه الاخرى، بيتي معتل ومستعبد، بينما هذا المكان كالنسر.

غداً سأحدث زملائي في العمل.. لا أستطيع السكوت على العجائب التي أراها. بأدق التفاصيل سأشرح.. وأصف، بل سأرسم صورة مجسّمة لكل مارأيته وسمعته وأكلته، صوت زميلي في العمل يقتحم أذني لا أعرف كيف استطاع الصعود عبر الهواء الحرّ إلى هذا العلو الشاهق حيث أجلس...صوته قرع أذني المواجهة للنافذة:

- ماهو الثمن؟!

ارتبكت.. ثم قلت لنفسي: حتى الآن لم يحرجني السيد  (م) بطلب يخالف القانون والأنظمة، أوراقه كلها سليمة نظامية.. ثم إنه ألح بدعوته لي..لم أقبل حالاً..

جفلتُ، وجفلتْ موجودات المطعم، بسبب ضحكة مبعثرة، خدشت الهواء والهدوء، النجيمة هي التي رشتها. الذكور الثلاثة جاملوها بضحكات لزجة، بينما عاتبتها النجمة بصوتها الخشن:

- عيب.. اخفضي صوتك..

علّق السيد (م)، بعد أن لا حظ استغرابي:

- إنهم نجوم!

عقّبتُ مبرراً:

- بعض النسوان عندنا يفعلن كذلك.

 تذكرت الدجاجة البلدية: أم صبحي.. كيف توقوق، وهي تلاحق أطفالها، الذين يعبثون كالجراء، لاحظت الفرق بينها وبين تلك الجاموسة... صاحبة الصوت المسترجل، أقصد النجمة، الحقّ أن صوت أم صبحي أحلى.

بدأت أشعر أنني لست عديم القيمة، وأن موجودات المطعم أقل شأناً مما توهمت في البداية.

شخص يرفع الأطباق.. وقد بقي منها مايشبع عائلة كبيرة..

تمنيت لو كانت أم صبحي وجراؤها معنا، إذن لأكلوا وشبعوا دون أن يضطروا للحس الأطباق.

عاد الشخص ليقدم لنا الفواكه الممتازة، كانت حبّات التفاح اللامعة مغرية، فوجدت العذر لآدم وحواء، أخذت حبّة كبيرة جذابة، فوجئتُ بها مدوّدة.

لاحظها مضيفي.. السيد  (م) علل:

- إنها حالة شاذّة...

وعقبتُ مبرراً:

- عندنا يأكلونها، حتى ولو كان فيها دنياصور.

ضحك مضيفي ملء خاصرتيه لذلك التشبيه، وقد انتبهت محتويات المطعم لحضكته الجامحة بشيء من الفضول، قلت لنفسي: عندنا بعض الرجال يفعلون هكذا! وأحسست أن السيد  (م) ليس خارقاً (م) ولامختلفاً جداً عنّا، وللأمانة أعترف أنه كان طيّباً معي، وأميل إلى اعتبار دعوته لي نوعاً من كرم الأخلاق.. والأريحية... لأنه لم يحرجني بطلب منافٍ لشرفي الوظيفي حتى الآن.

شيء مايتحرك تحت طرف الصحن، يظهر ويختفي.. كاللص تماماً شيء صغير... بنّي قاتم... طوله أقلّ من سنتيمتر.. ولكنه سريع الحركة... يطلّ ثم يلوذ بأسفل الصحن...راقبته... تأكدت من هويته. إنني أعرفه، شخصيته مألوفة جداً لي، لدي خبرة طويلة به... و... من غير تخطيط... صرخت بقوة.. وثقة:

صرصور... صرصور... أنا واثق.. متأكد.. إنه صرصور.

مضيفي السيد  (م) وضع أصابع كفه المضموم بعضها إلى بعض عضها قبالة فمه.  أخذ يبعدها ويقربها بسرعة من شفتيه، وهو يرجوني بصوت مخفوض:

- اسكت.. اسكت.. فضحتنا يارجل..

قلت: ولكنها الحقيقة.

قال: مستحيل.. أنت تتوهم.

قلت بصوت مرتفع: انظر إليه...إنه صرصور...سلني أنا...أنا أخطئ في أي شيء عدا هذا...

قاطعني: ياصديقي إنها حالة شاذة... أرجوك أصمت.

قلت: أقنعتني...هذا معقول...ممكن...ولكن عندنا هذه الحالة ليست شاذة..

التمَّ بعض الخدم...تحلقوا حول طاولتنا...بحيث عُزلناعن باقي تضاريس المطعم. أحدهم وضع فمه في أذن مضيفي...غطاها بشفتيه الغليظتين. خادم آخر في يده منديل، يده ترتعش...وهي تقترب من الصرصور، يقبض عليه، ثم يزفر، ويمسح وجهه المتعرق بمنديل آخر.

سكان المطعم وموجوداته تهامست، مستفسرة، وظل الجواب حبة اسبرين مهدئة ملفوفة بعبارة "حالة شاذة" التي ظلت تتردد كالصدى في الفضاء المحصور للمطعم الممتاز.

دمشق / الاثنين في 28/4/1997م

 

 

الصندوق

 

...طال مرض الشيخ صالح...وطال انتظار أهل القرية لمعرفة النهاية المتوقعة لمرضه المتفاقم. قال أحدهم:

- الموت رحمة له ولعائلته...

قارب الشيخ صالح الثمانين من عمره، قضاها بالجدّ والدأب والسعي لتأمين حياة لائقة لأفراد أسرته، ونجح في توسيع رزقه وماله مع المحافظة على مايرضي الله، كان طيّب الخلق والسيرة، لطيف المعشر، راجح العقل.. حريصاً على حب ذوي القربى.. ومدّ يد المساعدة لهم عند الحاجة.

وكان الشيخ صالح لا يني يحدث أبناءه عن والده وأمه وجده وأصله وفصله، وحسبه ونسبه، ويقص سير أجداده وأمجاد عائلته.. وويوصي أبناءه بالاحتذاء بهم، والسير على منوالهم، ليكونوا جديرين  بحمل اسم العائلة التي ينتمون إليها.

وللشيخ أبناء وبنات. تزوج كبارهم.. وبقي صغارهم تحت كنفه، كان الصغار حزينين لمرض الشيخ: والدهم..ينكبون على رعايته في أيامه الأخيرة، وكانت أمهم: زوجة الشيخ لا تفارقه...تسهر على راحته، وتستمع إلى كلماته وتمنياته الأخيرة..

وكان المتزوجون من أبنائه وبناته، يعودون كلّ يوم، ليطمئنوا على حاله ومآله..

كان الشيخ يحب النوم على فراش يبسط على الأرض...وكان يكره النوم على الأسرّة، ويكره كذلك النوم مع الآخرين سوى زوجته.

وفي غرفته الخاصة..قرب فراشهِ، الذي يتخذ إحدى زوايا الغرفة، ثمة صندوق مرصع لامع..متوسط الحجم، كان الشيخ شديد الحرص عليه..لا يفتحه أمام أحد من الناس، بمن فيهم أعضاء أسرته، وعرف عنه أنه كثيراً ما كان يقول:

- هذا الصندوق هو حصتي من إرث والدي، إنه من ريحة أبي المرحوم. ولم يسمح لأحد أن يسأله عن محتوياته، وكان الجميع يعرفون أن مثل هذا السؤال يثير غضبه ولومه.

وكان الشيخ صالح، يحكم إقفال منافذ غرفته، كلما يغادرها ولو لزمن قصير، زيادة في الحرصْ على صندوقه.

كنّته تكاد تنبعج من ضغط الفضول والجشع، لمعرفة مافي ذلك الصندوق كانت تقول لزوجها:

- لن يهنأ لي بال حتى أعرف حقيقة الكنز الذي يخفيه والدك عنك.. أكيد أن أمك تعرف الحقيقة، وكذلك إخوتك إلا أنت..

- حسبك ياامرأة "إن بعض الظن إثم".

فتعلق بصوت منخفض:

- متى سيستريح ويريحنا؟!

صهره راح يذكر ابنة الشيخ: زوجته:

- أتذكرين عبارته التي يكررها دائماً؟!

- أي عبارة؟!

- "خبئ قرشك الأبيض ليومك الأسود".

- أتعني...

- وهل لها معنى آخر... أكيد... صندوقه ملآن بالأصفر والأبيض.

- حصتنا ستصل إلينا... لن يأكلوا حقي

ويضحك الصهر ساخراً..يعلق.

- كم أنت طيبة...

- ماذا تريدني أن أفعل؟!

- أقيمي هناك..ابقي عند والدك الشيخ، حتى يقضي الله فيه قضاءه.

-كثيرون يسهرون على مرضه.

- أنت ابنته..أحق الناس بالعناية به، وأنت أقرب الناس إليه، وله عليك حق الرعاية في تلك المصيبة.

اشتد مرض الشيخ، وبات موته شبه مؤكد بين لحظة وأخرى.

فتوافد الأقرباء..والمعارف..وغص المكان..داخل البيت وخارجه بالناس..يروحون ويجيئون تباعاً..إلى أن أعلن نبأ موت الشيخ على الملأ.

الابن طلب من زوجته البقاء في غرفة الشيخ.

البنت سمعت نصيحة زوجها، وبقيت في غرفة الشيخ.

كانت القرية تشيع الشيخ صالح إلى مثواه الأخير، في مقبرة العائلة.  وكانت ابنة الشيخ وكنّته تراقبان الصندوق، وتراقب كل منهما الأخرى وتحصيان الداخل والخارج إليها ومنها.

استمرت الحال أسبوعاً، جرى في نهايته تأبين للشيخ شاركت فيه القرى المجاورة.

وخلال ذلك الأسبوع، تهامس البعض حول الميراث، ومصير  الصندوق، وحقيقة محتوياته.. وكمّيتها، وتداولوا حول كيفية تقاسمها بين مستحقيها من الورثة، وأهم ماكانت الكنّة تسأل عنه هو مفتاح الصندوق: "أين هو ياترى؟!" وتساءل الصهر: "إذا كان لا يتخلى عن المفتاح لحظة واحدة..فمن الذي يكون قد أخذه..واحتفظ به؟!"

قالت الكنة: ربما كان مع حماتي.

وقال الصهر لزوجته: عينك على الصندوق..قد يسرقه أحدهم ونحن لا نعرف من حصل على المفتاح.

إبان الأسبوع، اجتمع كل من له شأن ومصلحة في الميراث من أهل بيت الشيخ صالح، وترحموا عليه، وقرؤوا الفاتحة على روحه الطاهرة وعددوا صفاته ومناقبه، وتذكروا آخر أعماله الطيبة.

نظرت زوجة الشيخ في وجوه الحاضرين جميعاً.. وطلبت نهم الإنصات لما ستقول... فسكت الجميع، وتحفزت أعصابهم وحواسهم لسماع كلامها، وافتتاح ندوة الميراث.

كانت الأم تدرك حقيقة مايفكر به كل واحدٍ منهم..فبادرتهم بالقول:

- كلكم راغبون في بحث مشكلة الميراث.. اطمئنوا كلُّ سيأخذ حقه الذي يقرره الشرع والدين...

- وماذا عن الصندوق؟!

وتوالت الاستفسارات:

- الصندوق؟

- نعم..حقاً..الصندوق..علينا أن نفتحه ونتقاسم مافيه.

- قال الصهر: ولكن أين المفتاح؟!

لم يجبْ أحد عن ذلك السؤال. فكرر الصهر:

- المفتاح مع من؟

لزم الجميع الصمت ثانية.. وبدأ الشك يرتسم على وجوه الحاضرين كلٌّ حيال الآخر... ثم توالت الانكارات من الورثة:

- لماذا أنا؟!

- لست أنا

- لا أدري...

ولاحظت الكنة:

- هذه لا تحتاج إلى ذكاء.

والتفتت بنظرها إلى حماتها وهي تستطرد:

- معروفة.. الرجل لا يعطي سره إلا لزوجته، معقول أن يعطي المفتاح لأحد غيرها!!

وانصبت نظرات الحضور على وجه زوجة الشيخ صالح، فارتبكت وهي تحلف:

- لا...والله العظيم لا أعرف أين هو؟..لم يعطني المفتاح.

- ولم تأخذيهِ؟! قال الصهر بخبث ومكر.

- آخذه؟! لا..لم آخذه..ولم أنتبه لهذا الأمر، كنت مشغولة بحزني عليه.. لم افكر بهذا قطعاً..

واستنتج الابن المتزوج:

- إذن المسألة أصبحت مكشوفة..أحدهم سرق المفتاح..

دحض الحضور هذه الفكرة، لأن الجميع يعرفون أن الغرفة لم  تخلُ لحظة من الناس والأقرباء... حتى خلال تشييع الشيخ ودفنه وتأبينه..

تساءل الابن:

- وما الحل؟!

حسمت البنت الموقف، بالقول:

- نكسر القفل أمام الجميع.

وافق الجميع على الفكرة بحماسة ظاهرة، ولم تنبس الأم بكلمة.

بحضور ورثة المرحوم، ومختار القرية، تمَّ خلع قفل الصندوق، وفتح غطائه..

تدافعوا وتحلقوا حول الصندوق، أحنوا ظهورهم، وتدلت رؤوسهم المتلاصقة فوق الصندوق المفتوح، حتى كادت تدخل. في جوفه. الأم: زوجة الشيخ وحدها بقيت بعيدة تداري حزنها ودموعها، وكان الصندوق الثمين فارغاً..خاوياً إلا من الهواء.

دمشق

الخميس 6/6/1996م

 

 

جحود

 

كان الصمت أغنية حزينة في وجهها..وهي تندب

- واأسفاه على حظك ياعفاف، من كان يصدق أن حسين يفعلها؟ كنتِ له زوجة صالحة، وقفتِ معه في الضراء قبل السّراء، في الشدّة قبل الفرج؟؟ ضحيت في سبيله. تركتِ ابن النِعَمْ والأصول وتزوجْتِهِ، قدّمتِ  له كل خيرٍ وعون، ومع ذلك فقد فعلها.

هكذا كانت أم عفاف تتحدث وتبكي من شدة القهر والغيظ..وكانت جارتها أم فيصل تصغي إليها متأثرة بما ترويه، قالت مواسية:

- معقول؟! معقول نقابل الخير بالشرّ؟ قال: يامُؤَمِّن الرجال.. يا مُؤمّنَ الميّة في الغربال.

- ماذنبها المسكينة؟ فوق حقّه دقّه. هذا جزاء المعروف؟

- عفاف لا تستأهل إلاّ الخير، رِجْلها برأسهِ، هذا ابن حرام..أين كان يخبّئ كل هذا؟!

- شكيتك لله ياحسين، الله لا يسامحك..ولا يوفقك.

- طولي بالك يا أختي.. حكمتك يارب. أريد أن أفهم...عفاف  ماذا يعيبها؟! حتى يفعل بها الكلب ذلك؟! وجهها يوحّد الذي خلقه، يقول للقمر: قم لآخذ مكانك، صبيّة ولا كلّ الصبايا، راكزة وعاقلة ومكمّلة... علم وجمال وأصل وأخلاق عالية... أين سيجد مثلها السافل؟! ومن ستتحمله مثلها؟ من تفعل له مافعلته عفاف؟؟!

- الله يشرشحه أكثر مما هو، مشرشح.

كانت عفاف صامتة، وكان صمتها مرعباً. لقد صدمت المسكينة، وأخذها الدُّوار، وتجمدت أحاسيسها وأفكارها. بضعة أيام قضتها وهي على هذه الحالة. حالتها تبكّي الحجر. لاتكاد تأكل لقمة، وبدا عليها الشحوب والهزال....

والد عفاف المشهود له برجاحة العقل منع ابنه فارس من ارتكاب  الجريمة، قال:

- كلٌّ يأخذ قيمته... ويعمل بأصله، ومامن ظالمٍ إلا سيبلى بأظلم.

الإنسان فانٍ..لا يخلّف وراءه غير سمعته. حسين ماعنده شرف ولا مبدأ، وسوف يقع في شر أعماله.

علّقت الجارة قائلة:

- يسلم فمك. الحيّة إذا لم تجد ماتعضّه، تعضّ بطنها "تفوه" عليك يانذل..الله يمهل ولا يهمل. سيجازيك ياواطي.

خمس سنوات مضت على زوج عفاف بحسين، وهي تعلفه، وتطيّب خاطره، بعد أن طرد من عمله لأسباب شائنة، بمهارة ممثل عتيق كان يقنعها ببراءته:

- مظلوم ياعفاف. والله العظيم مظلوم، كله تلفيق ومكيدة.. يحسدونني..يكرهونني..ماذا أفعل؟!

- لا يهمك..يفرجها الله..أنا معك.

وكانت عفاف موظفة، تصرف على زوجها... الذي لم يوفق في الحصول على عمل دائم بعد طرده، وكان حسين متقلب المزاج... لا يستقر على رأي ولم تكن معاملته وعشرته سهلة. عندما يحتاج إلى المال لقضاء حاجة ما، يصبح عصبياً نزقاً، يثور بسرعة، ولا تنطفئ ناره...ولا يتوقف نباحه حتى ترمي له عفاف بعظمة مناسبة، كانت عفاف تشتري له التبغ والثياب، وكان حسين يحب المظاهر والأناقة، ويقول: "لبسيني ولا تطعميني..الناس لهم الظاهر" ورغم عدم اقتناع عفاف بتصرفاته وفلسفته، فقد كانت تسايره.. صوناً لعش الزوجية، وخوفاً عليه من التصدع والانهيار. كانا على خلاف متواصل، وكان الحل دائماً لمصلحة حسين. إنه -كما يقول بعظمة لسانه: "رجل البيت، وصاحب القرار والكلمة الأخيرة في كل مايتعلق بشؤونه".

قالت الأم:

- لقد صبرت عليه المسكينة كما لم تصبر امرأة.

استطردت الجارة:

- الله يخزيه.. ويسوّد عيشته، سيرته تسمّ البدن..ماسمعت المثل الذي يقول: "من أمّنك لا تخونه ولو كنت خواناً...من كان يتصور أن حسيناً خوان وغدار هكذا... ياعيب الشوم عليه.

وقال الأب مطيّباً خاطر ابنته:

- اعتبري أنك لم تربحي أصلاً...

بقيت عفاف صامتة جامدة، فتولت الأم الردّ:

- عفاف منزعجة من الخيانة والغدر، لا من الخسارة، المال يأتي ويروح، أما الإنسان، فهو أكبر خسارة.. إنها لا تعوّض.

- حسين ليس إنساناً، إنه ضبع... ثعبان تحت التبن.

- ياويله من الله، يصرفهم على صحته إن شاء الله.

فارس شقيق عفاف قال:

 

- أين سيهرب مني؟ سأجعله يموت ألف مرة، سأنكشه من تحت سابع أرض...

وكان حسين قد هرب، واختفى بعد فعلته الشنعاء، ولم تعلم عفاف  بما أقدم عليه إلا بعد أن أرسل لها ورقة الطلاق بالبريد، وبعد أن جاءتها رسالة من المدعوة ليندا التي كانت من أعزّ صديقاتها، تخبرها فيها أنها وحسين قد تزوجا، وأنهما يقضيان شهر العسل من مكان ما حرصت على عدم ذكر اسمه في الرسالة، ومما جاء فيها:

"صديقتي المغفلة عفاف، حسين لم يحبّك يوماً..ويقول: إن أكبر غلطة ارتكبها أنه تزوجك، وقال: إنك عديمة الكرامة... وغبية، وإنك امرأة مسترجلة..وباردة. أنا لا ذنب لي، هو لا يريدك. وإذا لم آخذه أنا..فقد تأخذه امرأة غيري، أنا لم أخنك..بل هو الذي خانك"...

 ولم تجد عفاف في تلك الرسالة مايشير إلى أن ليندا تعرف شيئاً عما قام به حسين.

وبقي وجه عفاف أغنية حزينة صامتة، تستعرض صدى الأيام، وماسرقته منها:

يومها طارت من الفرح، ونسيت كل سيئاته، ضمته، عانقته، بكت فرحاً، زغردت، رقصت، بدت كمن طق عقلها، حسين هو الآخر بقي ذاهلاً، عضلات وجهه تراخت..تهدّلت من الخوف الممزوج بالريبة والفضول... حدقتاه اتسعتا لفهم ماحدث.

- ( أخيراً جاء الفرج ياحبيبي..اضحك..غنّ...وارقص الآن نستطيع أن نفعل مانريد، أن نحقق أحلامنا...حسين..حبيبي  سنشتري بيتاً..وسيارة..وسنستثمر ماتبقى في مشروع تجاري  مارأيك؟! لماذا أنت صامت ياحبيبي؟! قل شيئاً..هنئني  هنئ نفسك". وظل حسين مدهوشاً... ولم ينبس بكلمة. حينئذٍ ودّت عفاف أن تختصر عليه الصبر والانتظار. وقذفت بالخبر  في وجهه دفعة واحدة:

"لم أضن عليك بشيء ياحسين، وهبتك قلبي.. وكل ما أملك. أنا لست آسفة على شيء.. أنا آسفة على الأيام التي قضيتها معك حمقاء مغفلة. لم أكن أصدق أنك بهذه الخِسَّة، تعتقد أنك خدعتني؟ أنت غلطان، لم تخدع سوى نفسك.

أنا ربحت إذ كشفت حقيقتك الشنيعة، ربحت نفسي وماتبقى من عمري. أما أنت فستخسر كل شيء.. حتى نفسك.. لأنّك غير قادر على العطاء والحب، غير قادر على فهم نعمة الحياة مع الآخرين.

أنت أناني..أنت مرض..وباء..كتلة سرطانية من الحقد والكراهية والجشع..الآن صدقت ماقالوه عنك..صدقت أنك لص..مخادع..ماكر.".

كانت عفاف قد اشترت ورقة يانصيب دون أن تخبر زوجها، وقدربحت الجائزة الكبرى، فأخبرته، وقدمت له الورقة بنيّة طيبة، ولم يخطر لها على بال أن يفعل مافعله.

غاب حسين منذ حصل على الورقة..انتظرته عفاف..ساعاتٍ..ولم يعد..أياماً..خافت عليه..بكت عليه بحرقة وألم ومرارة، خشيت أن يكون قد تعرض لمكروه..وكانت تدعو الله أن يعيده لها سالماً..لم تفكر عفاف لحظة واحدة بالمال..والجائزة. بل بسلامة زوجها... وعودته إليها. لقد قلقت كثيراً. وقررت أخيراً العودة إلى بيت أهلها. أخبرتهم..وانهالت الاستنتاجات من قبل أفراد أسرتها:

- ربما تعرض لسطو عصابة من اللصوص!

-ربما قتله شخص  وسرق المال!

- لنسأل المستشفيات..لعله صدم بسيارة..

- لنسأل مخافر الشرطة..ونطلب منهم إذاعة بحث عنه..

- ولماذا لا يكون  هونفسه قد سرق المال واختفى به بعيداً..

 

- ولماذا يفعل؟! مادامت أن زوجته منحته إياه بمحض إرادتها..

- أنا لم أرتح له في حياتي..

واستمر البحث... واستمر سيل الاستنتاجات عن الرجل دونما فائدة. بعد حوالي شهرين، وصلت ورقة الطلاق.. وتلتها رسالة صديقتها المخلصة جداً ليندا...

وتبين لاحقاً... أن حسين كان يعشق ليندا، وأن ليندا كانت تصدّه برفق، وتحافظ على "شعرة معاوية" بينها وبينه،  وأن كل شيء كان يجري من وراء ظهر عفاف... وأهم من هذا  كله تبين أن ليندا قد عرفت أن حسيناً ربح الجائزة الكبرى  وأنها اطلعت على الخبر والصورة. وتظاهرت بعدم المعرفة أمامه، وغيرت من أسلوبها معه.. إلى أن اصطادته ومالديه من غنائم دفعة واحدة، ثم فصفصته... أكلت خيره، وبصقته قشرة تافهة لا قيمة لها، ولا مكان لها إلا في أوعية القمامة.

14/9/1995م

 

 

الرجل المسافر

 

- ياسيّدي!

-..........

- ياسيّدي المبجل..تكرّم عليّ بكلمتين.

- أمر...؟!!

قدم الرجل المسافر للموظف رقم (7) ورقة، كتب عليها أشياء كثيرة، ولصق في  أسفلها طوابع، نظر الموظف رقم (7) لحظة في الورقة التي بقيت في يد المسافر،  ثم التفت إلى صاحبها قائلاً:

- سَلْ موظفاً آخر.

- أي موظف؟

- أي موظف

أذعن الرجل المسافر للأمر، لأنَّ الموظف رقم (7) كان قد أدار له ظهره ومضى..قبل أن يفسح المجال لأي تطور في الحوار.

ذهب الرجل المسافر إلى الموظف رقم (317): ناداه مرتين أو ثلاثاً، التفت الموظف المعنيّ نحو الرجل المسافر لثوانٍ معدودات، قرأ في وجهه ويده التي  تحمل الورقة سؤالاً عن شيءٍ ما، فتهرّب  منه بهزةٍ من رأسه، وإشارةٍ من يده تأمره بالتريث قليلاً، انتظر الرجل المسافر طويلاً دون فائدة، فالموظف رقم (317) لم يظهر ثانية، بعد أن حجبته أروقة وغرف البناء التي لا تحصى.

لجأ الرجل المسافر إلى الموظف رقم (68)، فنظر الموظف رقم (68) إليه، دون أن يقترب منه، ابتسم له، بعد أن اكتشف بحدسه المدرّب، حاجة الرجل إلى الاستفسار عن شيء ما، تحركت يد الموظف رقم (68) بما يفيد أنه لا يدري، ولكنه استطرد:

- ولكن... سلْ آخَرَ.

ودوت كلمة "سَلْ" في رأس الرجل المسافر كالصدى: "سل...سـ..لْ...سـَ" لم يهدأ الصدى... حتى ابتلعت أمعاء المبنى ذلك الموظف، بينما راحت دهشة الرجل المسافر تعرش في كل الأنحاء..وعادت لفظة "سلْ" تدور وتطنّ في دماغه كالنحلة..واختطفه الطنين إلى حين.بعدها استفاق من شروده مع مرور موظف آخر قربه، كان الموظف رقم (4251)، صاح الرجل المسافر:

- سيدي..اعمل معروف

توقف الموظف رقم (4251) وعلت فمه ابتسامة رقيقة، شجعت الرجل المسافر على المتابعة:

- سيدي...أرجوك..

قاطعه الموظف (4251) : أظنك تعاني...وتلعن "البيروقراطية"... هه؟!  ومدّ الموظف يده آخذاً الورقة من يد الرجل المسافر، وانكمش هذا الأخير مترقباً  وهو يبلع ريقه ويدعو في سرّه، أن ينجو من الورطة التي يقع فيها، تفحّص الموظف الورقة، ثم نظر إلى الرجل المسافر، وهو يتمتم "بسيطة" تهلل وجه الرجل المسافر وهو يهمس "مازل العالم بخير" تنحنح الموظف رقم (4251)، وطلب من صاحب الورقة الانتظار قليلاً، ومضى مبتعداً عنه.

وصل الموظف إياه إلى الموظف رقم (713). لاحظ الرجل المسافر شفاههما وهي تتحرك. لم يتمكن من ترجمة مايدور بينهما من حديث. كان الضجيج يلتهم أحشاء المبنى، وكان قلب الرجل المسافر يخفق ويضطرب، تحت تأثير أفكار متعارضة، وعيناه لا تفارقان حركة الموظف رقم (4251)، الذي ابتعد عن الموظف (713). واتجه نحو الموظف رقم (2740) تكرر المشهد نفسه. دخل الموظف (4251) غرفة. خرج منها.

والورقة ماتزال بيده، تلاشى في رواق، ظهر من رواق آخر، وقف إلى الموظف رقم (918). صافحه.. تكلما.. تفارقا.. سار.. انعطف غاب..؟ ظهر..يصافح.يبتسم.يتكلم.يودّع.يتصل... ينفصل.. يدخل.يخرج.يتبعه.يقترب.

زاغت عينا الرجل المسافر، وهما تتابعان حركته، عاد الموظف رقم (4251) إلى الرجل المسافر، الذي داهمه شعور غامض بالارتياح، الموظف متفائل.. مبتسم: "هل استطاع حلّ المشكلة؟” قال الرجل في نفسه: مدّ الموظف الورقة إلى المسافر وهو مايزال يبتسم، قال:

- هذه لا تصلح.

- لماذ؟!

- لأنها لا تصلح.. فيه خطأ.

- ماهو هذا الخطأ.

- الخطأ هو الخطأ.. الخطأ عكس الصحيح

- لم أفهم ياسيدي.

- أنت تضيّع وقتي.

- ولكن؟!....

- تعليمات من

- تعليمات المسؤولين

- أرشدني من فضلك إلى أحدهم.

- هذه ليست وظيفتي..

أكمل الموظف جملته، واتبعها ابتسامة مزهوّة، لكأنه أنجز مهمة خارقة، ثم انسحب مبتعداً عن المسافر، ودون أن يصغي إلى الكلمات والعبارات المتلاحقة والمتدفقة من فمه.

عادت النحلة إلى الدوران والطنين في رأس الرجل المسافر، تلح عليه بالسؤال والاستفسار عن المسؤول. بالبحث عمّن يمكن توجيه السؤال إليه، تصاعد الطنين كالأبخرة: "المسؤولون.. مسؤولون.. مسـ..ؤو...لو..ن..لون..لون...ن...ن..."

تسارعت حركة الكلمات كالدوامة.. دار رأس الرجل..كاد يقع.

استراح قليلاً ثم جرى، وبسرعة كاريكاتيرية آلية، سأل جميع موظفي المبنى عبثاً، خرج منه، دخل مبنىً آخر، خرج، دخل ثالث. رابع سابع. مائة.. ألف....فـ...

الرجل المسافر للموظف رقم صفر:

- من هم المسؤولون؟!

- المسؤولون هم المسؤولون... هم المسؤولون... المسـ...

- شكراً...

- الرجل المسافر للموظف رقم (9487539867)3

- هل تدلني على مكان أحد المسؤولين؟

- ليس لهم مكان محدد.

 الرجل المسافر للموظف رقم (؟):

- هل تعرف اسم أحد المسؤولين؟

- أعرف أسماء المسؤولين التي حفظتها من كتب التاريخ..

- متى أستطيع أن أقابل أحدهم؟

- ؟؟!!؟

- أرجوك.. أرشدني....

- ربما بعد قرن

- هل سأبقى كل هذه المّدة دون سفر..

-...........

هزّ الرجل المسافر رأسه حزيناً، وهو يتخيل المسؤولين أشباحاً بلا شكل ولا لون، يصولون... يجولون... يسيّرون المصالح العامة... يديرون شؤون البلاد والخلق. يضعون التشريعات والأنظمة. يتخذون القرارات. يعاقبون.. يكافئون.. "ولكن كيف يتم ذلك؟! ولماذا؟!" لو يحالفه الحظ، ويظفر بأحدهم!! "حينئذ يمنحونني ما أشتهي.. يحلّون مشاكلي... ليتني واحد منهم، مؤكد أنهم يعتمرون "طاقية الإخفاء".. لو أصبحت منهم أستطيع أن أسافر وأعود.. وأفعل مايطيب لي، دون حاجة لمراجعة موظف ولا مسؤول. وراح الرجل يضحك... ويقهقه بصوت ارتفع... وارتفع.. ثم هبط فجأة كالزئبق في مقياس حرارة، وضع في قالب من الثلج.

 

 

الرجل الذي فقد وزنه

 

أشياء غريبة تحدث لي، ومن حولي! الناس لا يطيقون معاشرتي. الأصدقاء.. الأقرباء ينفضّون عني. تجتاحني العزلة، ينمو القلق كالأشواك في نفسي، تتزاحم الشكوك والأسئلة في رأسي، تملأ تشعبات وتعاريجه دماغي بضوضاء لا طائل منها، بعضهم نبهني إلى شحوب وجهي ونحول جسدي. نصحوني بالتفاؤل والصبر. لكن اليأس يكاد يسلبني إرادتي، لولا ذكراها القوية، التي تنقذني في اللحظة الأخيرة.

تعلقت بها، تواعدنا، ولم يثمر الوعد حتى الآن، أحسّ بها تعرّش في تفاصيل جسدي، تزهر، تخضّر. تثمر. صورتها تشتد سطوعاً كشمس الظهيرة، تلك ابتساماتها تشعشع كالنجوم، تضيء دياجير فؤادي الهرمة. نظراتها المتراقصة تغرّد... تعزف ألحان الحب والبشرى. أنفاسها العليلة الريّا تسكرني، فأهيم، أحلق، أكتشف كوكباً، وآفاقاً، أنسى كل ماحولي، وأغرق في فضاء لا يكفّ عن الاتساع والصفاء.

جرس الباب يرنّ، يفرّ الحلم. أفتحُ، يستحوذ علي الإحباط والخيبة. إنه مجرد واحد من الأصدقاء الذين يزعمون الحرص والمحبة لي.

- تفضّل...

- مابك؟ هل شربت شيئاً؟!

 جلسنا. سألني عن أشياء كثيرة، لكن ذهني ظلّ شارداً، لم أجبه. نهض. خرج بعد أن وعدني بالعودة لاحقاً...

صفقت الباب وراءه، دفعتني بعض ألفاظه التي علقت في دماغي نحو الخزانة، كنت أضع فوقها ميزاناً، أنزلته، قست وزني، ذهلتُ، لم أتوقع ذلك الانخفاض الكبير لثقلي. وبحركة عفوية انتقلت لأقف إزاء مرآة الخزانة...

أنعمت النظر في شكلي، كبرت دهشتي، لأنني لاحظت فرقاً بين صورتي كما تبدو لي، وبين الثقل غير الملائم لها. صحيح أنني نحيل نوعاً ما، ولكن نحولي لا يشير إلى أنني فقدت كل هذا القدر من وزني.. ظاهرة عجيبة!!

تذكرت الرجل الذي زارني منذ لحظة، تمنيت لو أنه لم يغادرني... لو أنه يعود، فأسأله عن السرّ... والسبب؟!  إذ ربما كنت مخطئاً في تقديري؟ ربما خانتني أحاسيسي؟! أو أنني أعاني من خداع بصري لا أفهمه؟! 

سرقني الخوف. وغرقت في جوّ من الكآبة والارتباك.. ولم أعد قادراً على التركيز، ما الذي حلّ بي؟ أتراني يبستُ كشجرة هرمة؟! أم اعتراني الذبول كوردة قصيرة العمر؟! ورحت أستعرض شريطاً من الأساطير، التي سمعت بها، وقرأتُ عنها، الأساطير التي تحفل بالظواهر العجيبة الخارقة، لعلني أعيش حالة من هذا القبيل؟!

عاد الزائر، ابتهجتُ لقدومه، استغرب ابتهاجي، لأنني لم أقابله بمثل هذا من قبل، تبادلنا بعض عبارات ودية. ولم أصبر أكثر، هرعت.وجدتُ  الميزان على الأرض، كنتُ قد نسيت إعادته إلى مكانه، أحضرته حيث يجلس الرجل- الصديق.وقفت عليه متلهفاً، نظرت إلى المؤشر.الذي استقر على الرقم إياه، طلبت من الزائر أن يشهد.. ويرى مقدار وزني.. وما إنْ  وقف ونظر حتى عاد المؤشر للارتفاع إلى رقم أعلى بكثير من الرقم الذي كان يستقر عنده، استغربت تلك الظاهرة العجيبة، أنا أرى الرقم مختلفاً إذا نظرت إليه وحدي، أما عندما ينظر سواي إليه، فإنه سريعاً مايغير مكانه إلى رقم طبيعي؟!! ابتسم الرجل الزائر: "لابأس.. صحتك معقولة"... ثم عاد وجلس في مكانه. وجلستُ، وأنا أتساءل حائراً عن السرّ.

الرجل: مابك؟!.. أراك عدت كماكنت في زيارتي السابقة لك؟!

طلبت منه أن يقف معي إزاء مرآة الخزانة، ففعل..وسألته عن شكلي:

- هل تجد تناسباً بين شكلي ووزني؟!

- طبعاً...

- شكراً.. تفضل لنجلس.

وجلسنا.. وحدثته عن أفكاري وهمومي، ثم عن حبيبتي، التي فارقتني تاركة لي وعداً بالرجوع، وتحقيق الحلم المشترك... وبينما كنت أسرد حكاياتي، كان الرجل يتابعني باستغراب ودهشة واهتمام، ولم يستطع إخفاء ابتساماته ونظراته التي تكذبني وتهزأ من كلامي، وتتهمني بأشياء غير مستحبة، ولا متوقعة من رجل مثلي.

وأحسست كذلك بمشاعر الإشفاق تفيض من وجهه حيالي، وفي النهاية قال:

- أنصحك بمراجعة طبيب أمراض عصبية ونفسية؟

تجمدت أحاسيسي ومشاعري، وبدأ الغضب ينضح من وجهي، نهض الزائر خائفاً، وقبل أن يفتح فمه بكلمة صحت به:

- اخرج أيها اللعين، إياك أن تكلمني بعد الآن.

وخرج الرجل مسرعاً، طلباً للنجاة من شتائم أخرى، لكنه أكد لي:

- بل سأعود، وسأقف إلى جانبك، لأن الصديق عند الضيق..

في هذه اللحظة جذبني صوت حبيبتي يصيح بي:

- دعه.. إنه صديقك، ومن العار أن تطرده، لم يبق لك سواه، تذكر ذلك.

التفت خلفي، لم أجد طيفها الجميل، الذي يعودني بين الفينة والأخرى. عدت إلى مجلسي، والتعب يثقلني.. ثم اختطفني الوسن في رحلة خرافية من نوع آخر..

داهمتْ نومي، بدتْ كالعروس في ليلة الزفاف. قالت:

- حان موعد لقائنا، قريباً ستصعد إليّ.

- أين؟!

- إلى حيث يجب أن نعيش معاً.

بسطت جناحيها وطارت مبتعدة حتى غابت عن عيني...

كان وزني ينقص مع كل يوم من الأيام الشاردة من عمري . صممت على استشفاف الحقيقة من شاهد آخر، ووزني يقترب من الرقم صفر. نزلت إلى الشارع... حيث يوجد أكثر من ميزان لدى بعض المحلات التجارية، وقلت في نفسي:"ربما يوجد عطل في ميزان البيت الذي أستخدمه! إنه قديم. سأجرب ميزاناً آخر عمومياً".. وقفت عند ميزان يضعه صاحبه أمام محله التجاري. تأملته، أخرجت من جيبي قطعة نقود معدنية مناسبة، وقفت على قاعدة الميزان المخصصة لذلك. أدخلت قطعة النقود عبر الثقب المعد لإسقاطها في داخله، تحرك المؤشر، وأنا بأشد اللهفة لمعرفة الرقم الذي يعبر عن ثقلي.. استقر قريباً جداً من الصفر، صعقت! ذعرت! ماهذا؟! وقبل أن أنزل شعت فكرة في رأسي. إنها حلّ مقبول. أشرت إلى صاحب الميزان بيدي ليأتي إليَّ. جاء:

- ماذا تريد؟ أية خدمة؟!

- أرجوك.. نظري ضعيف.. هلاّ تفضلت عليّ بقراءة وزني...

وعندما نظر الرجل إلى ساعة الميزان والمؤشر الذي في داخلها، فوجئت بالمؤشر وقد انتقل بغمضة عين إلى رقم مرتفع يتناسب وشكلي. وقبل أن يعلمني الرجل  بالرقم نزلت، ورحت أركض كمن أصابه مسّ، بين المارّة، الذين أخفقوا في الإمساك بي. ولم أتوقف حتى صرت داخل منزلي. أحكمت إقفال الباب  والنوافذ، ثم استلقيت على سريري، وأنا ألهث من شدّة الإعياء والرعب.

اعتزلت في منزلي أياماً، جرس الباب يقرع سدى، كل يوم أقيس وزني، حتى بلغ الصفر، مع أن شكلي لا يتغير، وحجمي طبيعي، لكني كنت أحس بنفسي مثل رواد الفضاء، الذين يلهون ويتحركون كالريشة داخل مركبتهم الفضائية، جربت ذلك، وتأكدت منه، صرت أقفز في فضاء غرف البيت بخفة ورشاقة. أقف على السقف بالمقلوب، أو على الجدران بشكل أفقي مع أرض الغرف. وكنت سعيداً بهذا الوضع الخارق للطبيعة، هل هي معجزة؟ لكن أحداً لا يحس بها... كيف أقنعهم؟! سيناقشونني بقانون الجاذبية، وعلاقته بالثقل، الذي هو تعبير عنها. إنها مقولة علمية.. ولكن مامعنى أن أفقد وزني..ومن ثَم  أن تفقد الأرض جاذبيتها بالنسبة إلي على الأقل؟! شيء محيّر.. مخيف... ومثير أيضاً.. لا أحد يصدق.. لأنني أفتقر إلى البرهان...البرهان؟!!... ها...ها...هنا طرف الخيط. عليّ أن أملك البرهان.. أن أصنعه... أصوغه... وأقدمه للناس من حولي...

وأخيراً لم أجد سوى برهان واحد... خيار لابد منه.. وهو يتطلب مني الانتظار  حتى ينتصف النهار، حيث يكون الخلق في ذروة اجتماعهم وحضورهم ونشاطهم... فيشهدون بأم أعينهم الحقيقة، دونما حاجة إلى وسيط منطقي، أعني البرهان. هذا ممكن. ثمة حقائق كثيرة  تعرف مباشرة، ولا تحتمل التعليل والتأويل، غداً سيعرف الناس أن اللامعقول هو المعقول بعينه، وأن المستحيل بنظرهم ممكن الحدوث...

في الصباح جربت الميزان للمرة الأخيرة.. فوجدتني عديم الوزن.. وعند النظر توجهت نحو باب الشرفة.. وكنت أقيم في الطابق السابع من عمارة شاهقة.. وقبل أن أفتح الباب.. رأيتها.. كانت حبيبتي.. تقف قبالتي. ويفصل بيننا الزجاج... حبيبتي التي لم ألتق بها في أي مكان من الأمكنة التي أعيش فيها.. هناك في العالم السفلي.. لا أثر لها،  كنت أتأملها عندما أكون وحيداً، وكانت تولد من الهواء والماء والضوء، وتمّحي فجأة من أمام ناظري.

هاهي تبدو كغيمة، تدعوني للحاق بها، على جناح الأثير.. فتحت باب الشرفة.. نظرت إلى الأسفل.. بدا الناس كالنمل والبراغيث..

أحسست بنفسي خفيفاً، صرت مثل هيكل مطاطي مجوف ومنتفخ يضغط عليّ غاز من الداخل.. غاز خفيف جداً، مثل غاز الهيليوم أو الهيدروجين، فوجدتني أغادر الغرفة والشرفة، وأنطلق في الهواء... نظرت إلى الناس في الأسفل... إنهم لا ينظرون نحوي، لا يشاهدون معجزتي.. برهاني هذا محزن.. مؤلم حقاً.. لأنهم لن يصدقوني.. ورحت أقترب منهم.. والهواء ينزاح ويهرب من حولي.. خفت.. وشعرت بالأرض والناس والأشياء تندفع بسرعة إلى الأعلى.. نحوي طبعاً، ولم أجد فرصة بعدها للتساؤل: هل عاد إليّ وزني؟‍!

دمشق 2/1/1995.

 

 

الناسك

 

حدثٌ طريفٌ، لا يقدم عليه إنسان عادي عاقل، مؤكد أنه مجنون.بعضهم وصفه بالفاسق المارق، لم أجد تعليلاً مقنعاً إلا بعدما أجريت تحقيقاً حول الرجل، الذي أطلقت عليه صفات مثل: درويش.. ناسك...بهلول... زاهد. تلك صورة الرجل بين أهالي قريته، حتى إن أناساً منهم ينظرون إليه كـ"ولي" له مكانته وحظوته عند الله.

أبو زاهر سائق سيارة الأجرة بين القرية والمدينة قال:

- إنه لزم صومعته منذ أكثر من ثلاثين سنة. وإنه لا يعرف المدينة وعاداتها، بل يسمع حكايات عنها وحسب.

المختار أبو فاضل روى لي قصة الرجل. قال:

- خرج من صومعته، صادفه أبو زاهر إلى جوار الطريق الاسفلتي الجديد. الناسك لأول مرة يشاهد الإسفلت، الطريق عُبد منذ بضع سنوات فقط، كان ترابياً وعراً، أما الآن فهو سهل، وبدلاً من عبوره على الحمير والبغال، صارت السيارات تتولى هذه المهمة.

صمت المختار ليأخذ نفساً، ورشفة قهوة.. وهو ينظر نحو أبي زاهر، الذي فهم مايريده المختار، فتابع بدلاً منه قائلاً:

- الناسك بركة على أهالي قريتنا، لذلك كانوا يؤمّنون له كل ما يحتاج إليه من مأكل وملبس.. وغيره من أسباب المعيشة، كانت حياته سهلة بسيطة، واحتياجاته محدودة جداً، صدقني إذ قلت لك: إنه ربما نسي معنى كلمة: نقود، أو مال، إنه لا يحتاج إلى هذا الشيء الذي يسبب لنا أفظع المشاكل والعداوات. أعني النقود، الرجل مرتاح البال، نقي السريرة، ولم يمسّه "الشيطان الأصفر". حتى الآن.

التقط المختار الحديث ثانية.... وتابع:

- لا أعرف ما الذي دفعه بعد هذه العزلة إلى دخول عالمنا.. والسفر  إلى المدينة. مع أنه لا حاجة له بها؟!

سألته:

- ألا أستطيع أن أزوره وأكلمه؟!

 هزّ رأسه موافقاً. مضينا إليه. استقبلنا بابتسامة طفولية بريئة. وكنت قد عرفت من المختار إنه ينظر إلى زواره بالعين نفسها سواء كانوا من معارفه، أو غرباء عنه. كان يرتدي ثياباً بسيطة... اعتاد ارتداءها اتقاءً للبرد، وبحكم العادة والمألوف. سألته: "لماذا فعلت ذلك في المدينة؟"

ودهش الناسك وأجاب: "حتى الآن لا أعرف لماذا غضبوا وضحك بعضهم، لم أفعل مايستوجب كل ذلك الهرج والمرج الذي كاد يخنقني، أهل قريتي يختلفون عنهم، شعرت أن أحداً لا يعرفني من المارة، وأنهم لايعرف بعضهم بعضاً، كأني بهم وقد تخاصموا. لا أحد يلقي التحية على الآخر، وهم يمر بعضهم بالبعض  الآخر، الكتف تكاد يلامس الكتف،ولا يلتفتون ولا يأبه بعضهم ببعض هذا غريب عجيب حقاً". أخذ الناسك نفساً عميقاً، وبدا كأنه يزيح ثقلاً عن صدره، زفر زفرة تنم عن الاحتجاج... وتابع: "لا أدري لماذا فكرت لأول مرة بالثياب وضرورتها، خلت أنها هي السبب في كل ذلك. وددت أن أضرب لهم مثلاً، أن أفعل شيئاً كي يقلدوني وتحلّ المشكلة".

كدت أضحك لولا أنني خفت أن أجرح مشاعر الناسك، لقد قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تصرفه العجيب في شارع من شوارع المدينة، حيث يزدحم المارّة من الناس كافة.

لقد فهمت الآن القصة. الناسك اعتقد لوهلة أن الأنسب أن يتخلص الناس من ثيابهم التي يختبئون في داخلها، ولو للحظات، كان يعتقد أنها طريقة ليعرف بعضهم بعضاً. فبادر إلى خلع ثيابه قطعة قطعة، لأنه كما قال : "دهشت لأن أحداً من الناس لم يتعرّفني.َّ..كما هي الحال في قريتي الصغيرة.. وخلت أن ثيابي هي السبب..في القرية يعرفونني كما أنها، عيونهم تخترق ثيابي، وتغوص في جسدي بسهولة".

وحين  أخذ الناسك يتصرف هكذا.. بدأ يلفت الأنظار إليه بحكم الفضول والغرابة في تصرفه، فاعتقد أنه ينجح في تحقيق رغبته وفكرته في التكاشف مع الآخرين... فتابع التعري، والابتسامة تتسع على ثغره، وبدا كطفل فرح بما يفعله بسبب جذب الأنظار إليه، وبسبب الضحك والقهقهات التي راحت تتعالى وتطوقه.

لم يبق غير السروال الداخلي... حينئذ احتج البعض، وهربت وولولت النسوة من المارة، واختلطت أصوات الساخرين والمحتجين وعبارات الاستنكار وتزايد الحشد من حوله، بعضهم طلب استدعاء شرطة الآداب  لاعتقاله..سمعهم..تحول فرحه إلى خوف متنامٍ، دفعه بالغريزة إلى الهروب. جرى باتجاه "كراج" القرية. أحس بمئات الأقدام تطارده. عرقله السروال، ووحّد من سرعة جريه. توقف للحظات؛ وهو يتخلص بحركات مرتبكة من سرواله الداخلي، أصبح عارياً تماماً، تصاعد الصراخ وأنواع الشتائم والقهقهات، وسمع صفير وزعيق سيارات الشرطة، وهو لا يفقه مدلوله ومغزاه، تزايد الرعب في جوفه ركض بسرعة أكبر، امتلأت الشرفات بالمشاهدين المتفرجين، مئات من المطاردين وراء الرجل العاري، تدفعهم أسباب شتى.. وصل الرجل "الكراج". لاذ بالسائق "أبو زاهر"، ابن قريته، الذي خلع آلياً سترته، وألبس الرجل العاري بسرعة، دفعه إلى داخل سيارته، شغّل المحرك وانطلق به مسرعاً إلى القرية، دون أن يفهم سبباً لكل مايرى ويحدث... وفي الطريق حدثه الناسك وشرح له الموقف.

راح أبو زاهر يضحك حتى كاد يغمى عليه من شدة الضحك. أما الناسك فقد استسلم للصمت والدهشة كطفل بريء.

ومن القرية... مضى الناسك عائداً إلى فردوسه الصغير، دخل صومعته المزدحمة بالنور والفرح والاطمئنان، ولم يخرج منها ولا ابتعد عنها بعد ذلك.

 

 

الطيف

 

تقف على الشرفة، تومئ لي. تبتسم. قلبي يقفز. يخرج من جسدي، يصدح أغنية حب. تطير الأغنية، تحطّ على كتفها، تهمس في أذنها ألحاناً شفافة...

ما أجملها. هاهي ذي تضحك، ضحكاتها تنتشر كالشذى، توقظ طفولتي المنسية في مكان ما من ذاكرتي، يتقهقر الزمن، أغرق في صخب الألوان المرحة، نلعب نتبادل كلمات ولغة ليس لها قواميس وأحرف، ونمضي في رحلة استكشاف ممتعة دونما رقيب، ولا حدود، تتلاشى بيننا الحدود والفواصل والأسوار، نصنع معاً بيتاً وحديقة، ونرسم أشكالاً لا يفك رموزها سوانا.

إنها هي... مازلت أذكرها، تلك ملامحها، تفاصيلها، صوتها المتراقص، وجهها المتفتح كالوردة، هاهي ذي تقف على الشرفة، قريبة مني. لا يفصلني عنها سوى أمتار. إنها تلوح لي، تدعوني. كدتُ أنسى نفسي في غمرة النشوة، وأقفز إليها. لكني تذكرت، وقلت: ذلك مستحيل. ما العمل؟!

 

لوحت لها، رميت إليها بقبلة، فعلت كما فعلت، ناديتها، ونادتني باسمي. إذن عرفتني. لقد نطقت باسمي. أليس هذا برهاناً كافياً؟!

كانت المسافة الفاصلة بيننا قصيرة، لكن الهوة كبيرة، لو قفزت، وأخفقت فسوف أسقط من علو كبير، وسأتحطم حتماً، وأسبب لها الأسى والفجيعة، لا أريدها أن تذرف دمعة واحدة.

المهم أننا التقينا، شاهد كلّ منا الآخر، بعد غياب مديد، غياب لا ندري بعض أسبابه، ربما الضباب..العتمة المتكاثفة..الزحمة المتزايدة، وغيرها.. وغيرها ربما كانت هي السبب، أوالجدار الذي يفصل بيننا.

مازلت واثقاً أننا كنا متقاربين دائماً من حيث الزمان والمكان، وعناصر أخرى. لكن أشياء كانت تحجب كلاً منا عن الآخر بوحشية وقسوة وطغيان. أشياء لا تحصى كانت تمنع أحدنا من رؤية الآخر، ومحاولاتنا العنيدة للقاء والعناق، وأداء سيمفونيتنا الخاصة، بعيداً عنهم، الإخفاق يولد الحنق والحسد والعدوانية، نحن نجحنا في حبنا، فامتلأت طريقنا بالعقبات والعراقيل.. ولم نشعر بالألم، حاصرونا بشتى أنواع الحصار، ولم نتراجع، كان حبنا أقوى من الاسمنت والمعادن والسجلات والكومبيوتر والصحف والتاريخ، حبنا لا يقهر... لا يموت أبداً.إنها هي. أعرفها وتعرفني.. صرخت:

- كيف نلتقي؟

- الآن.. اهبط، سأنتظرك عند الباب..

- ونمضي معاً؟

- سنخرج من هذه الغابة.

- إلى؟!

- إلى الفردوس.. حيث لا يفترس كائن كائناً آخر...

- هل هو بعيد؟

- هيا اهبط.. سأتبعك.. إذا ترددت فسأرحل؟!

-لا...لا...أرجوك... لا حياة لي إلا معك...

وهبطت بسرعة.. كانت تقف عند المدخل... اقتربتُ منها، بعد أن تجاوزت المسافة العرضية للشارع، فتحت ذراعيها لاحتضاني بعد لأيٍ، عانقتها دخلت يداي في جسدها بسهولة ويسر، كأنما تدخل يداي الهواء أو الماء، أعدت التجربة، مررت بذراعي في وسطها، اخترقتها، دخلتها بكامل جسدي وخرجت منها، صعقت، ماهذا؟ ما الذي أمامي؟! إنني أراها تشع بألوانها الزاهية، تبتسم..تضحك..ولكن؟! أهي مجرد صورة..خيال..طيف؟!؟ ...

اجتمع الناس حولي، يرقبون وجهي وحركاتي وكلماتي..صرخت بها..طلبت مني أن ألحق بها. سارت. سرت وراءها، وسار الناس ورائي ركضتُ..ركضتْ.ركضوا...طارت كأنها غيمة رقيقة. لكني لم أستطع الطيران وراءها، لأنه كان ثمة مايشدني إلى الأرض بقوة لا تقهر.

20/1/1995م

 

 

صفقة وهم

 

1- قبل الزواج:

تعانقتا. دارتا في مكانهما دورتين. كانت نهلة لا تكف.. تصيح:

- افرحي لي.. هنئيني..افرحي لي يامنال.

نبت لنهلة جناحان. راحت تدور حول منال فراشةً بلون الغبطة والنشوة والحظ السعيد. بدت وكأنها عثرت على كنز. منال الحائرة شاركتها الفرحة، قبل أن تسألها عما حصل. والواقع أن نهلة لم تترك لصديقتها فرصة للاستفسار، كانت تمطرها بالقبلات الساخنة بسخاء، وتهتف:

- الحظ..لقد جائني الحظ يا منال..باركي لي..

- عريس؟

علقت نهلة معاتبةً.. مستنكرةً:

- وتقولينها هكذا؟! عريس؟!..لا..إنه ليس عريساً..إنه عريس (تشدد على اللفظة الثانية) "لقطة"، أتعرفين مامعنى عريس "لقطة" ياهبلاء؟! وهل هناك في الدنيا  أهم من العريس؟!

وضحكت منال من قلبها، وقالت مهنئة:

- مبارك عليك.. أنت تستأهلين كل خير. أجابتها نهلة:

- أنت أولى المدعوات هه.. أولى المدعوات. قالت منال:

- احكي لي عنه يانهلة.. فضفضي.. كيف.... وأين تعرفتما؟!!

- لا... لا.. هذا كله غير مهم.

- حسناً.. احكي عن المهم ياعزيزتي.

- منال..آه..لوترينه.. بالتأكيد سأريك إياه، وستحكمين عليه بعينيك... بعينيك الجميلتين الزرقاوين، حذرتها منال بقولها:

- لا تقولي هذا..إذا سمعك..سيغار. تابعت نهلة:

- بزته الأنيقة، ربطة عنقه..توافق الألوان. طوله. تناسقه طلعة وجهه البهية المهيبة. حذاؤه اللامع الجديد. رزانته..وقاره..كله جديد..وعصري.. وجميل..واضح أنه ابن أكابر..رجل شبعان مهيب وخفيف الدم معاً. إنه ساحر... ساحر حقيقي. لا تملكين أمامه إلا الخضوع والانقياد والاستسلام.

- مااسمه؟!

- لا..لا..هذا غير مهم..اسمه غير مهم..لو رأيت سيارته ذات الطراز الحديث والفخم... لو رأيت حقيبة "السمسونايت" في يده اليمنى...عفواً..في يده اليسرى..نعم لقد تذكرت كان في إصبع من أصابع كفه اليمنى خاتمٌ ذهبيٌّ ثقيلٌ وثمين... وفي يده.. بل في معصم يده اليسرى ساعة ذهبية باهظة.الثمن. اعذريني لأنني أتأتئ وأتلعثم..إنها الفرحة..الفرحة هي السبب.

وأخذت نفساً عميقاً..وتراخت جالسة.. أغمضت عينيها لتستريح قليلاً ومضت في مركب شفيف، في بحر أزرق نشوان. وانطلقت تناجي نفسها، لكأنها نسيت وجود منال معها:

- عريس... صدقيني.. عريس.هذا شيء ليس قليلاً...(لمنال) مالك تلفظينها هكذا بشحٍ.. ولا مبالاة. (لنفسهَا) مثلما تمنيت وحلمت واشتهيت. إنه نفسه.. فارس أحلامي.. ياللعجب! ياللحظ السعيد! (لمنال) شيء لا يصدق..هه..إنه الشخص نفسه الذي طالما راودني طيفه في أحلام يقظتي..ومنامي. أيعقل هذا؟ لونه.. قوامه.. ابتسامته أسنانه اللؤلؤية. والأهم من ذلك كله، "فيللته" الرائعة وسط مزرعته الغناء..لو رأيتها يامنال.. إنها جنة... فردوس لو رأيت المسبح والورد والأشجار. لو رأيت الأثاث والغرف..تصدقين؟! تصدقين لو قلت لك:   إنه حسب حساب كل شيء..إنه رجل عاقل..عملي..دقيق..تصوري..حتى لعب الأطفال الخاصة غرفة نومهم ذات الأثاث المدهش والألوان الزاهية... حتى هذه لم ينسَ تحضيرها واقتناءها.. لقد أعدّ لكل شيء عدته... سلفاً هل سمعت برجل يخصص غرفة جاهزة لأطفاله... ألعاب وأسرّة لأطفاله..وقبل أن يعرف من هي ذات الحظ السعيد، التي سيكون من نصيبها؟! وتكون من نصيبه:

قاطعتها متشككة:

- هل هذا معقول؟ قبل الزواج؟ نهلة... لعل في الأمر شيئاً!

- أتكذبين عيني هاتين يامنال؟! تشكين بصحة عقلي وحواسي؟ أم أنني مراهقة..تحلم.وتتوهم؟!

- أنا لم أقل..لم أقصد

- أنت تحسدينني

- أنا؟!

- نعم..أنت..لقد رأيت كل شيء ولمست كل شيء.. تحققت من كل شيء.. صدقيني..أحياناً يبدو الواقع أغرب من الخيال..وها نحن فيها.. هل أدع هذه الفرصة التي قد لا تتكرر تفلت من يدي؟ هل أأقبل أم أحجم؟

وتذكرت منال المثل الذي يقول: "يشتري المعلف والعليقة قبل أن يشتري الحصان"..من يفعل هذا؟! لابد أن في الأمر سرّاً...

استطردت نهلة:

- ليس فيه سوى علّة واحدة.. تافهة.. إنه.. (تتردد) إنه...

- قولي.. لا تستحي..أنا أختك!

- إنه ابن قرية... ليس ابن قرية تماماً.. من يراه لا يصدق أنه فلاح... عصام يعيش كابن المدن تماماً... حتى تصرفاته راقية. تظنين أنه من باريس أو لندن أو سويسرا.. كل يوم في دمشق لا يذهب إلى قريته إلا ليلاً.. قريته قريبة جداً من دمشق...

قالت منال:

- ماالعيب في ذلك... الفلاح ليس أقل شأناً.. ابن المدينة لا يفضل ابن القرية في شيء.. نحن في عصر زالت فيه مثل هذه المفارقات...

- ليس كل الناس ينظرون للأمر مثلك...

- على كل حال ليست أزمة...

- طبعاً... بالتأكيد يامنال.. لا يمكن لهذا أن يشكّل عائقاً... أبداً... أبداً...

- وأهلك؟!

- أهلي؟!.وهل سيصح لهم حظ كهذا.. عريس ولا في الأحلام... لقد تأكدوا من كل شيء.. وشجعوني.. أقصد باركوا مشروع زواجنا من دون تحفظ.

- إذن ستسكنين في القرية..

-لا... لقد شارطته، قلت له: لن أقيم في القرية بشكل دائم، إنما للترفيه والاستجمام فقط. لا أستطيع الحياة في القرية، ولا الابتعاد عن أهلي...

- وماذا كان جوابه؟

- شيء معروف..سيستأجر لي بيتاً..سيدفع عشرة آلاف ليرة أجرة شهرية..عقد إيجار سياحي لمدة ستة أشهر..

- لابد أنه ثري جداً بالفعل...وإلا فمن أين له أن يدفع مثل هذه الأجرة العالية؟!

- قلت لك.. إنه لقطة، إنه لا يعرف مامعه.. وكم معه من أموال.

 

- في هذه الحالة.. من الأفضل أن يشتري لك بيتاً في دمشق.

-لا..هذا غير وارد..يقول: إنه لا يحبذ تجميد أمواله في عقار... استثمار الأموال أفضل..إنها تتضاعف بشكل خيالي.

- أتمنى لك التوفيق يانهلة... وأن أزورك وأنت عروس. وانهالت نهلة تبذّر قبلاتها على وجنتي منال... شاكرة وداعية لها بحظ مماثل.. تعانقتا. دارتا دورتين في مكانهما... قبل أن تودعا إحداهما الأخرى.

2- بعد الزواج:

نهلة ومنال التقتا بعد غيابٍ، تعانقتا، لكنهما لم تدورا في مكانهما دورتين، كانت نهلة تشهق باكية، مالت برأسها إلى صدر منال، خبأت وجهها الحزين فيه، ضمتها منال بحنان مواسية:

- كل مشكلة ولها حلاّل..دعيني أفهم ما المشكلة؟!

جلستا. كانت الكلمات تعتصم في حلق نهلة. خجلاً وحرجاً وخيبةً، وكان الألم يثقل صوتها، ويلجم لسانها... شجعتها منال على استفراغ مافي نفسها من هموم وقهر:

- الحصر يضرّ بصحتك.ابكي.. اصرخي... اشتمي.. افعلي مايريحك... ويخفف عنك..

بصعوبة كانت العبارات تتشكل..بطيئة ..ثقيلة..متهالكة..وكانت شفتا نهلة تتحركان بمشقة:

- أتذكرين يامنال يوم التقينا ثلاثتنا..قبل الزفاف بيوم.

- انسي..انسي هذا ..أرجوكِ

- لا.بالعكس..لن أنسى..هذا درس لا ينسى..يومها عرّفتك بعصام وهمستِ في أذني قائلة: "ضربكِ العمى..من أين عثرت على الحلقة المفقودة بين القرد والإنسان..ألا ترينه حقاً.. إنه سعدان.. شمبانزي حقيقي"..يومها أجبتكِ: لو ترينه بعينيَّ.. لابعينيكِ!" وقلتِ: "لو كان أغنى رجل في العالم لرفضته، أنا لا أعيش مع قرد مقابل كنوز الأرض كلها"..وقد ساءني كلامك..جرحني.. وتخاصمنا.

ضمتها منال وقالت:

- دعينا من تلك الذكريات المؤذية..ولندخل في لب ّالموضوع.

- عجباً يامنال... كيف يرى الناس الأشياء... كلٌّ بمنظاره.. كيف تتغير النظرة من شخص  إلى آخر..بل وعند الشخص ذاته. نعم الشخص ذاته يتغير موقفه ورؤيته حيال كل شي.. القباحة يراها جمالاً، ثم تنعكس الرؤية بعد زمن وتجربة، فنرى الجمال قباحة، تصدقين؟  الآن أتذكر كلامك..وصفك..نصحك الآن (أرى عصاماً أقبح مما كنتِ تصفينه، فعلاً كنت عمياء، ولكن ما الفائدة؟ ما الفائدة عندما نصحو بعد فوات الأوان....

- ماتقولينه غير كافٍ لتعليل انزعاجك إلى هذا الحد..

- مهما حكيت لك فهو قليل....

- ليس ورائي مايشغلني. أنا أسمعك...

- استأجر لي منزلاً مفروشاً بأجرة شهرية، سكناً بعقد سياحي. كان يغيب كثيراً عن البيت.. وكنا قليلاً مانقضي عطلة في قريته الواقعة على الحدود السورية- اللبنانية. فوجئت بوجود بيت أخيه في الفيلا، هو وزوجتاه وأولاده الكثر في الطابق الأرضي وكان عصام قد قال لي: "إنهم في زيارة"، ثم اعترف لي أنهم يملكون نصف الفيلا.. وكان عصام يعير أخاه السيارة .. وشعرت بعد ذلك.. أن لأخيه حقاً فيها.. فسألتُ عصاماً، وأجابني؟!! السيارة شراكة.. مناصفة... بيني وبين أخي"، قلت: "لِمَ لم تخبرني"، أجاب: "لمْ تسأليني"...

قاطعتها منال:

- كل هذه الأمور عادية... يمكنك أن تتحمليها...

- ليتها كذلك يامنال.. ليت الأمر عند هذا الحد وحسب.

- أوه... هنالك المزيد؟؟!

- اكتشفت أن كل شيء كان زائفاً ..سراباً..وهماً.

- غير معقول...

- بل هو المعقول بعينه..تشاجرنا في الفيلا..أنا وزوجة أخيه قالت: "إنني أتصرف في الفيلا وكأنها ملكي"، قلت لها: "هي كذلك"، فصرخت في وجهي بلهجة حاسمة وهي تشكل دائرة بإبهام وسبابة كفيها، وتقربها من وجهي: "فتحي عينيك هكذا..أنت وزوجك ضيوفنا.. إذا كان عصام يكذب عليك..فهذا ليس ذنبنا".

وصعقت... من هول ما أسمع! وتابعت زوجة أخيه:

- زوجك "أندبوري" "شرشوح" إذا لم تصدقي.. فأنا مستعدة لأفقأ في عينيه حصرمة. سلي من تريدين..وستعرفين الحقيقة. بكيت وأنا أسمع كلامها..الذي مزق أعصابي..وسألتها عن السيارة، فأخبرتني قائلة:

- السيارة لزوجي.. يعيرها عصاماً بعدأن يترجاه ويبوس يده وجهاً وقفا..وأحياناً يؤجره إياها..زوجك ياست مهرّب.. يستخدم سيارة أخيه للتهريب مقابل حصة اتفقا عليها..

كانت منال مشدودة الأعصاب والأحاسيس، كمن تشاهد عرضاً درامياً غرائبياً شائقاً... وتابعت تقول:

- لقد غشني الواطي...غشني بوابل من الأكاذيب والمخاتلة.. إنه لا يملك شيئاً، يعيش على النصب والاحتيال والدَّين والتهريب. عصام مجرد كائن مزيف..  غشاش حرباوي السلوك..معجون بالأمراض والعقد النفسية والسلوكية..تصوري... يقول: إنه يريد أن يتباهى على أهل قريته..فهو تزوج بنت مدينة.. تفوق كل بنات قريته فهماً وجمالاً، ويقول إنني ركضتُ وراءه... وأنني مستهامة به.. التافه.. قال أنا مستهامة بقباحاته!! هنا كظمت منال ضحكة داهمت حلقها بصعوبة بالغة بينما استمرت نهلة تعدد وتحصي وتصف وتحلل وتبكي نادبة حظها الأسود.

وتراءى لمنال أن صديقتها نهلة تحولت إلى شريط كاسيت لا ينتهي.

18/9/1995

هذا الكتاب

مجموعة قصصية تحمل هموماً ذاتية واجتماعية يعالجها الكاتب بوصفه فرداً وضميراً للمجتمع ويجهد الكاتب في تناول قضايا مجتمعه ذات الطموح النبيل لتكون الحياة خالية من المؤسيات والمقلقات في آن معاً.

وتمتاز الموضوعات المطروحة بقربها من الذات القارئة لما تمسه من مشتركات بين الشخصيات المتحركة داخل النصوص والذات القارئة نفسها حيث تصير الأحداث حقلاً واحداً تتقاسمه الشخصيات بالسلوك والذات القارئه بالتعاطف والانشداد.

 

أضيفت في 15/06/2007/ خاص القصة السورية

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2021  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية