بين يدي إيزيس
... والصوتُ يأتيني من جهاز صغير رقراقاً كنسمة
مناغية: ”الرجاء ربط الأحزمة والامتناع عن التدخين، سنهبط بعد قليل“ كانت
الأضواء المتوهجة تحت عينيّ تبدو لي وكأنها جواهر منثورة على حرير شديد
السواد، وكنت – آنذاك – أشكّل للمدينة ملامح دهشة خالبة.. للناس، والحواري
القديمة، والنهر.. ولنفسي هيئة طائر أسطوري، جناحاه غيمتان ومداه فضاء لا
يُحَد.
ودّعتني المضيفة السمراء كثيراً عند سلّم الطائرة
بابتسامة فائضة.... هتفتُ وأنا أستضيء ببريقها: ”يا لإيزيس الفاتنة“،
وعندمـا كنتُ أرتقي إلى سدرة فتنتها القادمة من الأزل، لكزني إبراهيم في
خاصرتي، فأيقظني على صليل الضيق المنبعث من المسافرين ورائي.
هبطتُ السلّم، لكنّ عينيّ ظلّتا مسكونتين بوجه
”إيزيس“ وابتسامتها، ثم أخذتا تجوسان جسد المدينة المرصّع بالجواهر..
أحسستُ بأن رئتيّ تندفعان خارج صدري كأنما تتشّهيان معانقة الهواء، وكدت
أفعل لولا صوت إبراهيم الذي همس مرتّلاً: ”اقرأ باسم أبي الهول الذي سأل“،
فأسريتُ للحظتي إليه، وقبل أن أتمّ وقفتي عنده أنهضني قائلاً: ”ليس مِن
أبنائي مَن ينحني“، فاستقمت.
كان إبراهيم مبتهجاً، بَدَا لي ذلك من سمرته الداكنة
التي خالطها احمرار متّقد ونحن ندخل الصالة.. قدّمني أمامه في الصف الطويل
الذي استقام دونما إشارة من أحد وراء غرفة زجاجية صغيرة، كانت لفرط ضيقها
تكاد تتشظّى بالجسد المتورّم داخلها.. دفعتُ إلى صاحب الجسد المتورّم بجواز
السفر، فقلّب صفحاته على عجل، ثمّ أعاده إليّ دون أن يباركه بأختامه كما
فعل مع غيري من المسافرين، وقال وهو يرشقني بنظرة باردة ومتسائلة:
- تأشيرة الأمن يا باشا.
الاستغراب الذي تسلّق وجهي وهو يردّ جواز السفر إليّ
ازداد تطاولاً مع كلماته، وعندما رآني لائذاً بالصمت ومنتصباً أمامه كتمثال
أضاف:
- التعليمات يا باشا.
ثم أومأ برأسه إلى مبنى مواجه له تماماً.. تابعتُ
حركته، فارتطمت عيناي بلافتة سوداء مكتوب عليها: ”مباحث أمن الدولة“، وما
إن حركتُ قدميّ نحو المبنى، حتى لجمهما الصوت الذي اندلق في فضاء الصالة
برقّة بالغة: ”يسر ميناء.. الجوي أن يرحّب بالسادة المسافرين على متن
الرحلة 967 ويتمنى للأصدقاء إقامة طيبة وممتعـة في بلادنا“.
كان الصوت يتردد في فضاء الصالة بلغات مختلفة
وإبراهيم يبادلني نظرات مشتعلة بعد أن ردّ رجل الغرفة الزجاجية جواز سفره
إليه أيضاً.. تدفّق ”الأصدقاء“ أمامنا.. شدّتني سحناتهم المتباينة وعيونهم
الملوّنة، ثم الزهو الذي كان يضجّ بينهم وهم يتابعون حفاوة أصدقائهم بهم..
تجذرت قدماي في المكان، ورحتُ ألاحق البهجة التي غزت بعض العاملين في
الصالة.. رجل الغرفة الزجاجية كان أشدّهم إثارة.. راقبتُ نظرته الباردة
التي ساطني بها وهي تتحوّل إلى ابتسامة منتفخة كلّما رطنت ألسنة ”الأصدقاء“
بكلمات الامتنان ليديه اللتين كانتا حاذقتين تماماً وهما تباركان جوازاتهم
بالأختام.. غَلَت الحياة في قدميّ، لكنّ إبراهيم بحركة صادّة منه سمّرني في
مكاني، وهمس - كعادته - مرتّلاً: ”صبرٌ جميلٌ“.
ولم أكد أرد، حتى زلزلتني رعدة مباغتة.. أحسستُ بأن
الأرض تميد بي، ثم تتصدّع، ثم تنشق عن قامة من الضوء، كان كلما ازداد
توهجاً شفَّ عن وجه امرأة أعرفها، رأيتها مرة كإيماضة الحلم ثم اختفت..
رددتُ مرنّماً وأنا أغتسل بالفتنة المتدفقة من وجهها: ”سلام عليك يا إيزيس
حتى آخر الدهر“.
ثم وكالمستسلم لمعراج من النشوة سرتُ وراءها إلى
المبنى المواجه لرجل الغرفة الزجاجية.. قادتني في ممرات ضيقة، وكثيرة،
وموغلة في الالتواء، وإلى غرف طاعنة في العتمة، ورجال غائمي الملامح، ما إن
كانت شفاههم تستطيل عن ابتسامة مرحِّبة بها، حتى يئزّ من مكان خفيّ صوت
ناعب، فتتحول الابتسامة إلى نظرة ممسوسة بالحياد.
مثلومةَ القلب كانت ”إيزيس“ وهي تردّ إليّ جواز
السفر دونما مباركة من رجال المبنى، وكما تصدّعت الأرض عن قامتها / الضوء،
غيّبَتها تحت جلدها الذي بَدَا هذه المرة مجدوراً ومحتشداً بالثآليل.
غادرتُ المبنى، فواجهتني الصالة بصخب مستعر، وبوجه
إبراهيم المتدثر بالخيبة مثلي، ثم برجال ونساء كثيرين فوق امرأة ممددة على
الأرض، ما إن اقتربتُ منها حتى اجتاحتني رعدة مباغتة من جديد..كانت ”إيزيس“
مثخنة بالدماء، و”الأصدقاء“ يعتلون جسدها وهم يؤدون رقصة هستيرية، وكأنني
سمعتُ رجل الغرفة الزجاجية يردد وهو باسط ذراعيه حولهم: ”ادخلوها بسلام
آمنين“.
سلافة
قصّة قصيرة من مجموعة بعنوان: "طائر الجهات المخاتلة".
.. أنتَ تعرفُ كلَّ
شيء من السنوات الخمس والعشرين التي قضيناها معاً، أمّا ما تعرفه من
السنتين الأخيرتين في حياتي فليس كلَّ شيء مع أنني كنت أكتب إليك دائماً..
كنتُ أقول لك كلَّ ما اعتقدتُه مهمّاً، لكنَّ الأيّام الأخيرة كشفت لي
بأنني لم أعطِ الأشياء ما تستحقّه، بأنني كنتُ أفرّقُ بينها بمكيال مثقوب،
وبأنَّ ما أردتُ أن أشيّعه إلى غير رجعة من حياتي، سيرجُّ هذه الحياة
كلِّها، سيقلبها على النحو الذي يجب أن تكونه .
سُلافة يا عبد الله
سُلافة.. سُلافة هي السبب.. لو رأيتَها أنت لصدّقتَ أيّة امرأة من لازورد
هذه السلافة هي التي فعلت فيَّ ذلك.. سأحكي لكَ القصّة من بدايتها..
التقيتُ سُلافة – أوّل مرّة – منذ سنتين.. عندما تقدّمنا معاً إلى اختبار
الوظيفة التي تجمعنا الآن في مكتب واحد، ولم يكن ثمّة ما يثيرني فيها، كأن
عينيَّ كانتا مشدودتين إلى لجّة عماء داكن.. كانت تشدّ على كفّي في تحية
الصباح.. تهصر أصابعي بما تستطيع من قوّة، فأسلّها منها على عَجَل.. أشرب
القهوة من يدها كلَّ يوم، فأقول "شكراً" واحدة ثمَّ أغوص في الأوراق
المطلوب منّي إنجازها.. تسألني عن أشياء كثيرة تخصّني، فأكتفي بواحدة من
السيدتين الوقورتين: "نعم" أو "لا".. تقترب منّي، فأبتعد عنها .
"تلك عادتي مع النساء
جميعهن كما تعرف.. تذكرُ أنَّ ارتطامي بهنّ بدأ مع زواج صاحب الجلالة أبي
من امرأة أخرى، امرأة دميمة، لكنَّ الأموال المحشوَّة تحت جلدها جعلته
يتركنا ليقوقىء بين يديها.. بكتْ أمّي حينها كما لم أرها تفعل ذلك من قبل..
ضمّتنا إلى صدرها بخوف وحنوّ بالغين، ثمّ دعتِ الله أن ينتقم لصبرها الذي
ضيَّعَتُه مع رجل لا يصون العِشْرَة - كما قالت - لكنها هي الأخرى فقدت
صبرها بعد شهور خمسة، ودفعت بنفسها إلى أوّل طالب للزواج منها.. وأخيراً
سميحة التي رمَتْ - في غمضة عين - خمس سنوات من حبّ عاصف في الجامعة وراء
ظهرها لتتزوج رجلاً لا تعرفه من بلاد بعيدة، لكنّه مثل زوجة صاحب الجلالة
محشوٌ تماماً"
هذا الصباح اجتاحني
طوفان خالق.. قدّمت لي سلافة القهوة كعادتها كلّ يوم، ثمّ جلستْ أمامي..
رفعتُ الفنجان إلى فمي، فرأيتُ عينيها تحدّقان فيَّ.. هزّتني رعشة مفاجئة
وأنا ألتقي بهما.. أحسستُ بأن ناراً طائشة تشتعلُ في جسدي كلّه، وأنَّ
دمائي تلهثُ في عروقها كأنّما تريد أن تنفر منها.. أنني في حضرة امرأة من
لازورد حقّاً كما كنتُ أشتهي طوال تلك السنوات التي فرّت من حياتي دون
معنى.
"مرّةً واحدة استطاعت
سُلافة أن تسلبني قوقعة الصمت التي أتحلزن فيها كلّما كانت ثمّة امرأة
تقتنص حيّزاً من المكان الذي أكون فيه.. كنتُ مأخوذاً بقدرتها الفائقة على
إقناع الآخرين وتعديل مواقفهم كلّما حادَثَتْهُم في شأنٍ ما.. قلتُ وهي
تنتهي للتوّ من دفع الشيخ "عطا" المستخدم في المؤسسة إلى تسجيل ابنته في
المدرسة:
- ليتَ لي لسَانك يا
آنسة سُلافة.
فاسّاقط من فمها
شلاّلٌ من الضحك الصاخب، ثم قالت:
- ليسَ باللسانِ وحده
يحيا الإنسان.
قلتُ:
- كأنّما في لسانك
تميمةٌ من السحر
فكررتْ أن ليس
باللسان وحده يحيا الإنسان، ثم أمطرتني بوابل من مدوّنات التاريخ عن رجال
ونساء استطاعوا أن يغيّروا وجه العَالم، ومصائر شعوب، وخرائط دول، و.. وأن
هؤلاء لم يحققوا ذلك بألسنتهم الساحرة فقط، بل بصدقهم، وإيمانهم، و..
وأضافت:
- الكلمة التي تغادر
القلب تدخل القلب يا بسّام.
هكذا دونما ألقاب
نادتني سُلافة، فأحسستُ بأن ثمّة جداراً يتهشم بيننا، ولم أكن أريد ذلك مع
أية امرأة، فاحتميتُ بالصمت".
رأت سُلافة تسمّر
يديّ، والفنجان بينهما، فابتسمتْ.. هزّتني الرعشة الأولى من جديد.. بَدَت
لي ابتسامتها نهراً من النبيذ يشيع الخدر في الرأس من رؤيته فقط.. اكتشفتُ
أيّة هناءة فاتنة تلك التي تضوّعها شفتاها، ولم أكن أنتبه إليها من قبل..
أيَّ ليلٍ آسرٍ يظللُ عينيها، وكنتُ أوصد قلبي أمام نجمتيه.. أيّة شقائق
تضجّ في خدّيها كلّما تحدّثت، وكنتُ أنأى عن العندَم الملتهب فيهما، وصحتُ
بصمت: "يا لسُلافة" ثم غبتُ في اللازورد.
"ومرّة واحدة فقط
أزحتُ أنا غطاء قوقعتي وسألتُ سُلافة كيف تجد وقتاً لتقرأ هذه الكتب كلّها
التي تتحدّثُ عنها،
وثمّة ما يمنعها من
ذلك.. العمل الذي يلتهم يومَها من الصباح حتى العاشرة ليلاً.. من الثامنة
حتى الثانية ظهراً في المؤسسة، ومن الرابعة حتى العاشرة ليلاً في مكتب
تجاري خاص لتحملَ عن أبيها الذي قدّده السلّ مسؤولية الأسرة.. كيف تمتلئ
بهذه السعادة الفائضة منها دائماً والحياة حولها تتشظّى بالذابل من
المسرّات.. كيف.. وأمطرتُها أنا هذه المرّة بوابل من الأسئلة اللاهثة،
فاسّاقط من فمها هذه المرّة عنقود من الهمس الشفيف، قالت:
- أحبَّ ما تفعل يا
بسّام"
لم يدم غيابي في
اللازورد كثيراً.. أنهضني منه رأس سلافة الذي تدثّر بصدري كأنه حمامة هاربة
من صقيع مُزمن، ثم أصابعي وهي تتموّج بين طيّات شعرها المسترسل فوق كتفين
ناحلين، ودمعتان تومضان في عينيها لكنّهما لا تقويان على السقوط، وكأنني
سمعتُها تقول:
- لو كنتَ تنتبه، لو.
فهمستُ دون إرادة مني:
- إلى ماذا يا سُلافة؟
أشارت سُلافة بإصبع
مرتعشة جهة القلب.. تمنيّتُ لو أستطيع أن أضعه أمامها لترى أيّة براكين
مجنونة كانت تتشظّىفيه حينها، وكيف لا تقوى أمطار العالم كلها على ترميد
جذوة واحدة منه، وكانت عيناها ما تزالان تومضان بندى الدمعتين العذراوين
فيهما.
"وتلك كانت مرّة واحدة
فقط أيضاً التي انتفضتُ صارخاً بسلافة التي أسرفتْ في الضحك مع الزير فاروق
بعد أن غادر المكتب، فاستقبلتْ مُضريتي بهدوء مثير وعينين صاخبتين بمشاعر
مختلطة عليّ.. مشاعر غامضة، غائمة، لكنها جميعاً - كما قدّرتُ - كانت تزدهي
بما أثارته من غيرة فيّ، فقلت:
- لا فاروق، ولا غيره،
يعنونني في شيء. هذا المكتب للعمل، وليس لـ..
وكدتُ أسوطُ أذنيها
بكلمة جارحة، لكنها - كعادتها - استقبلت غضبتي بهدوئها المثير، قالت:
- وأنا أيضاً لا
يعنيني فاروق ولاغيره، يمكنه أن يصطاد بنات المؤسسة كلهن إلا سُلافة.. أنا
أعرف نفسي، وأنت تعرفني، وفاروق يعرف، و..
قلت:
- ولكن ما مِن أحد
يرحم يا سـُ…ــ.. أقصد يا آنسة سُلافة.
وأضفتُ وأنا أحاولُ أن
أرمم الشرخ الذي أصاب جداري الأثير:
- ثم إنك تعرفين أن
فاروق هذا ابن ……
وكادت تثب من فمي - من
جديد - كلمة جارحة، خادشة للحياء، لكنما عينا سلافة اللتان اصطخبتا بدمع
مباغت أخمدتا ما كان يتقافز في فمي من كلمات، وقالت وهي تهمُّ بمغادرة
المكتب:
- اسمعْ يا بسّام، هذه
هي المرة الأولى والأخيرة التي أسمح لك فيها بالتحدّث إليّ فيما يعنيني
وحدي، أو بمحاولة الوصاية على علاقتي بالآخرين.
وقبل أن تغلقَ الباب
تماماً، أضافت:
- ثقْ بنفسك يا
بسّام".
هل وضعتُ قلبي أمام
سُلافة حقّاً، فذوّبها أتونه، ولذلك أخذتْ تردد بوجد:
- لماذا كنتَ تنأى؟
لماذا؟.. لماذا كنتَ كلّما سكبتُ في كفّيك ماء لهفتي في الصباحات أطلقتَ
شمسك الحارقة عليه؟.. كلّما أعددتُ لك القهوة على نار القلب أمطرتها بشكرك
اليتيمة تلك؟ .. كلّما طيّرتُ حمائم الكلام إليك أثرتَ صقور الصمت نحوها؟..
كلّما..
وسُلافة توغل في
تراتيلها الليلكية تلك أذكرُ أنني اكتويتُ بالجمر.. اشتعلت في روحي شهوة
عارمة إلى نوم أبديّ في بؤبؤي عينيها الملوّنين بمدى مسفوح من زرقة لا
تنتهي.. رشفتُ لمىً هائجاً.. اغتسلتُ بماء الأرجوان، وقبل أن تأخذني رجفة
الروح، صحتُ - بصوتٍ هذه المرّة – "يا لسلافة"، ثم غبتُ في اللازورد.
|