قضيةُ خاسرة
أرجوك لا تخبر بناتي..
فالضوء لم يدخل من النافذة ذلك المساء، اسأله.. أمي حلفت ألف يمين
قالت: "اذهبي وأحضري كرات الصوف سننتهي الليلة والشتاء لايرحم".
لم تكن لدي النية في العودة قبل حلول الظلام. فالعتمةُ يا جار
تختصرُ اليوم، وتسرع بي إلى الفراش. أنام على جنب واحد، ولا أجد بي قوة لألكزه
ليوقف شخيره المتصل. منذ عشرين عاما وصوت الحافلة القديمة المختبئة بين رئتيه
يشاطرني الأحلام، وإذا توقفت أقلق عليه، أمرر يدي أمام أنفه لأتأكد من أنه حي.
تنبعث في الليل رائحة جيوبه الأنفية، ويحزنني كثيراً أنه لا يملك المال لإجراء
العملية. صار شخيره حنونا مع الأيام، صار صوتاً أليفاً يدل على رجولة ممهورة
بالكدح والتعب.
اشتريت الصوف في عز الصيف، عندما كانت الأسعار رخيصة بجنون شهي. ولم
أجد وقتا باردا لأحيك له كنزة دافئة. كنت أخرج الكرات الزرقاء من الكيس كل مساء
وأعيدها لأنَّ وبرها يسبب لي حكّة، فالأكزيما التهمت أصابعي ومعجون الجلي غيرُ
ناعمِ على اليدين كما يدّعون.
قالت أمي:" صار الجو باردا الآن نباشر الحياكة".
صدقني يا جار لم يكن في نيتي أبدا أن أعود قبل العتمة. فهو يتعب يا
خلق الله يتعب كثيرا في عز البرد. وجهدُ امرأتين في الحياكة يجعلنا نتقاسمه
وننتهي بسرعة. الصدر لي والظهر لها وذراع لكل واحدة. إنها أمي نعم.. وهي تجيد
الحياكة، ستكون محظوظاً إن استطعت رؤيةَ يديها السريعتين وهما تضربان السنانير
ببعضها. منذ ستين سنة وهي تحيك الصوف. حاكت الموهير في أيام الرخاء والخيش في
الأيام العصيّة، ولم تدعنا نشعر يوماً بالبرد.
أمي تحبه أيضاً، لأنني دوما أذكُرُه أمامَها بكل خير، ولا أسمحُ
لأحدٍ أن يسيءَ إليه. وماذا تريدُ أمٌ من صهرها سوى أن يكون رحيما بابنتها؟؟
لم يمنعني يوما من زيارتها، بل كان يدفعني دفعا إليها، يشهد الله
أنه صاحب دينٍ ومعروف، يتوضأ في اليوم خمسَ مرات، صائمٌ قائم لا يدع فرضا. لا
يشبه أبدا رجال هذه الأيام، فالديجيتال لم يدخل بيتنا، وهو يؤكد لي بأنه يخاف
على بناته من مساخر التلفزيون. وعندما تحجّبْت طار عقله وقال بأنه أحبني أكثر.
أهدى ابنتي الكبرى حجابا وهي ماتزال في الصف الخامس، ودعمتُ قراره أمامها رغم
أنها كانت تبكي في غيابه. قلتُ له بيننا:" يارجل مازالت صغيرة ". قال لي:
"صغيرة!! إنها تفوقك أنوثة، يجب أن تعتاد من الآن على الستر والحشمة، وإلا
سأضطر لغسل عارها بالدم".
لا لا إلا العار والدم.. الرجال تفور دماؤهم للأقاويل يا جار، وعلى
الطرقات يشاهدون يومياً أشكالاً وألوانا. لا يمكنني أن ألومَه لأنه يهجس
بالعار. فأنا لم أنس بعد كيف عايرني بعد الزواج لأنني قدمت له القهوة أيام
الخطوبة بفستان بلا أكمام. كان يمسك يدي من تحت المائدة بحضور والدي، ويتابع
حديثه المتزن دون أن يرف له جفن. يرفع ثوبي، يقرص فخذي وأبي في الكرسي المقابل
تماما يقطع له صدر الدجاجة المحمّرة. بعد سنة من زواجنا كان عليّ أن أرضخ
عرفانا لأنه تغاضى عن صمتي وتزوجني. ماذا كان عليّ أن أفعل؟ أنا لا أعرف حتى
الآن ما الذي كان عليّ فعله.
قرصةُ زند، قبلةٌ في الهواء، ذراعه مخفية وراء الكنبة ويعبث بشعري
بإصبعٍ واحد، كان هذا منتهى الحب، الحب الذي لم أعرف غيرَه سوى الطاعة
والهرولة، لم يخطر في بالي أبدا أنه كان امتحانَ شرف.
قالت أمي: "تدخل العروس إلى بيتها يا ابنتي وتخبئ تحت الطرحة كيس
الغسيل".
كان هذا الهراء كل حياتي. عشرون عاما وأنا أسمع عن مداعبات تدفع
بالدم إلى أذني وتصفر برأسي كطنجرة الضغط. النساء يثرثرن كثيراً يا جار، ولا
يحلو لهن الحديث إلا عن هذه الأمور. أكاد أعرف ما يحدث في غرف نومهن جميعا
بالتفصيل، ولكنني لا أعرف ما يحدث في غرفة نومي. أغمض عيني على الكون الأبعد
وأغيب في العتمة. فكيف سأجيب على سؤاله: "من أين تعلمت هذا؟"
أمي قالت: "الرجل يحب زوجته قطة مغمضة."
كان هذا الهراء كل حياتي يا جار..
لم يكن في بالي أبدا أن أعودَ إلى البيت قبل أن يتصل بي ليلا ويقول:
جهزي الأولاد سأمر لآخذكم.
إنها العادة. يوم الخميس عند أهلي والجمعة عند أهله. ولا فرق بين
أولاد الحلال. هنا بيتي وهناك بيتي، وحيث يكون ذِكْرُه تكون عزوتي، وكيفما أدار
ظهره ألقي عليه بُردةَ البيعة. "سنباشر بالكنزة من اليوم"، قالت أمي، "اذهبي
وأحضري الصوف". تركت أولادي وعدتُ إلى البيت.
كانت حارتنا كحالها دوماً مزروعة بمباخر الإلفة، أصل إليها فينشرح
صدري، وأدخل الباب مرفوعة الرأس، أتبع أثر رائحتي إلى غرفة الكراكيب، فمنذ
عشرين سنة والجدران تتعطرُ بي، والعتمة تحفظني فتبعدُ عثراتِها لأخطو، أمد يدي
في الدرج الصغير وأخرج الكيس. عشرون كرةً صوفيةً زرقاء أتراها تكفي لاحتضان
ظهره؟ سنرى... سنارتان جديدتان غليظتان لحياكة الضفيرة تكفيان، وأمي عندها
سنارتان قديمتان.
لا يحدث كثيرا أن أسمع صوتاً غريباً في بيتي، أنت اشهد بالحق ياجار،
هل سمعت لنا صوتاً طيلة عشرين عاما؟ فكيف إذا لم يكن هناك أحد؟ نحن لا ندير
الأغاني في بيتنا، لأن رجلَ البيت يخاف على عقول البنات من الوسواس. وإذا
دندنّا فسراً وبهمسٍ خجول. نحن عائلةٌ مستورة، ألحاننا ضحكات بريئة لثلاث بنات
يتكومْنَ في غرفة واحدة، يكتبْنَ فيها الوظائف ويحفظْنَ القرآن والأناشيد.
نتجمع حول زوايا وأضلاع مائدة مربعة لنأكل ما فيه النصيب. نطفئ الأنوار باكراً
وننام. حتى العصفور الوحيد الذي يتأرجح في سجنه في سقف المطبخ يحترمُ نظامنا
وينام. وينفض تغريدَه قبل المنبّه ليوقظنا في الصباح. لا يحدث في بيتنا أكثر من
هذا أبداً ياجار.
أمي تدعو الله دوما ألاّ يغيّر علينا. فنحن سعداء، وما السعادة سوى
أن تعيش وتموت دون أن تنغصَ حياتك فضيحة؟ وكما أحكي لك تماما، اهتديت إلى الصوف
والسنانير دون أن أشعل نوراً، لا يمكن أن أتعثر في بيت يحفظ بلاطه مداسي
ويتجنبُ أثاثُه الارتطامَ بي. وسمعت صوتاً لم أسمع مثله في حياتي. ربما سمعت
عنه لكنني لم أسمعه من قبل. نحن كعصافير الغابة ياجار، نألفُ زئير الأسود
ونمرحُ على ظهورها، لكن رصاصةَ صيادٍ واحدة تفزعنا وتطيرُ بالأمان من قلوبنا.
أزّ الصوت كرصاصةٍ في أذني، شهقَتْ، نفثتْ، أجفلتني، وقَفْتُ لكنها استمرت
تدوّي. مشيتُ في ممرّي وتسندتُ بجدراني وتمهلتُ أمام غرفتي ودفعت بابي...
لو رأيتَ ما رأيتُ في بيتك ياجار، كان منسوب الدم ارتفع حتى غطى
ركبتيك. أنا ضعيفةٌ ياجار، مجردُ امرأةٍ ضعيفة رأت في بيتها غولاً. غولٌ عارٍ
يغطيه الشعر والعرق، تلهث حافلةٌ قديمة في صدره ويعتلي امرأة أخرى. عندها فقط
أغمضَتْ العتمةُ عينها عليّ، ورفعَتْ لي يدي المُمْسِكة بالسّـنّارة وأغمدتها
في ظهر الغول. عَلِقَت السنارة المعدنية في ظهره وسال خيط رفعٌ من الدم، وتحولت
ضحكات المرأة إلى صراخ. نسيني أثاث المنزل وتورّطَتْ بغرابة خطواتي بلاطاتُه
فوقَعت. هجم عليّ وانتزعَ حجابي. باغتته العتمةُ بيدي وغرسَتْ في عينه السنارة
الأخرى فهي تعرف أنني لا أنكشف على غرباء.
أنا لم أصرخ ياجار لأنني لا أحب أن تتلوث حرمة الصمت. أخذا يزمجران
كإعلان عن فضيحة. في درجي الأول على يمين المرآة مقص أعرف مكانه دون معونة
العتمة، هاجمني فارتطم ذقني بحرف السرير والتفتُّ أصدّه فأربكهُ الظلام وهوى
جسده على المقص.
يا خسارة يا جار، لو لم يبق الكيس معلقاً بمعصمي لبقي هذا الصوف
أزرقَ اللون ولم يكن أحمر من قبل. كنا سنحيك منه كنزةً صوفية ليتدفأ ظهر الغول
في هذا البرد، وتتوقفَ الحافلةُ القديمةُ على قارعة رئتية ويهدأ شخيرها في
الليل. أتشوّقُ لأعرفَ ما الذي ستقوله أمي الآن...
أرجوك لا تخبر بناتي.
نسرين طرابلسي
2/12/2004
في المحطة مرتين
لم أتخذ قراريَ الأرعن بين ليلةٍ وضحاها، ولا أنا ذاهبةٌ يأساً في
رحلةٍ وراءَ مجهول. بل أخرج وأنا بكامل أناقتي وقواي العقلية، مرتديةً نضجي
الثلاثيني، معتمرةً كل أفكاري ومعتقداتي وفلسفتي الخاصة في الحياة، سعيا وراء
قصة حب.
سأكتب تاريخ اليوم في سيرتي الذاتية كإحدى اللحظات الحاسمة في
عمري، عمري الذي قضيته أبحثُ عن سرِّ الحبِّ وخفاياه، دون أن أصلَ إلى نتيجةٍ
واحدة محددة وجلية الوضوح. دوماً نفسُ الأخطاء، وغالبا نفس الخطوات والمطبّات
والحُفَر.
لم أعقد العزم على فكرتي هذه في نفس اليوم الذي خرجتُ فيه من باب
المحكمة الشرعية وعلى جبيني دمغة مطلقة، بعد خمسة عشر عاما من زواج ناجح، مع
رجل تحسدني عليه كل النساء. سنوات لم يتخللها مشهد عنف واحد، بل إن الصفعة
الوحيدة التي طبعها زوجي (سابقاً) على وجهي، ولوية الذراع التي كادت أن تكسره،
لم تترك ذلك الأثر العميق في نفسي، وأستطيع أن أؤكد أن باقةَ الأزهارِ الحمراء
التي تلقيتها في صباح تلك الليلة المميزة ودموعَه التي أغرقت شعري في عناق
اعتذار حميم، أنستني وبسرعة طعم اللّطمة وأسبابها الواهية.
لم ألملم أمتعتي بعد شجارٍ مرير، ولم نختلف على أساسياتٍ أو تفاهاتٍ
طيلة تلك الأعوام. كان كلُّ شيء يبدو متوازناً، متألقاً، وعلى ذلك القدر من
الاستقرار الذي لا يمكن أن يتوقع له أحد من المقربين، نهايةً مفجعة كانفصالنا
الذي كان.
أخذتُ القرارَ بتركِهِ قبلَ خمسِ سنوات تقريباً، منذ أن بدأ
الروتينُ الذهبي يمسحُ حياتنا بلمسات "ميداس" ، لا ليزيدها بريقا وثراءً
بالطبع، بل ليحيل مذاقها إلى مذاق معدني.
كنا نخطف الأبصار كأجمل عروسين، وأتقنّا الدور الذي جعلنا ثنائيا
ناجحاً في المجتمعات والحفلات والرحلات الصيفية الجماعية. يمكنني أن أقول بأننا
كنا مختلفين تماما كالسالب والموجب، وحققنا المعادلة الصعبة التي توازن القارب
وتضع في يد كلّ ربان مجدافاً وتمنحه فرصتَه كنصف قائد.
ولكن... من قال إن الحبَّ توازنٌ ومعادلة وثمارٌ لامعةٌ بلونٍ واحدٍ
وبلا طعم؟؟
نعم، تعذبت كثيرا لأبلغَه قراري، وتطلب الأمر خمسَ سنواتٍ لأستجمع
جرأتي وأدعوه للعشاء الأخير وأقولَ له بكلّ مودةٍ ودموعي تنهمرُ دون توقفٍ
أسفاً عليه:
-"طلقني"...
أنا ذاهبة الآن إلى موعدٍ، انتظرته طويلا. موعدٌ مع حبي الأول الذي
أسماه إحسان عبد القدوس "الوهم الكبير". ولو كان يصحُّ إلقاءُ اللومِ على أحد
ما، لكنتَ يا إحسان المسؤول عن حياتي الزوجية الناجحة، بسبب كتابك "زوجة أحمد"
، فمنذ أن أهداهُ لي صديقٌ حسن النوايا قبل زواجي، ونفّذتُ ما جاءَ فيهِ بالحرف
والكلمة، أصبحت حياتي مُحْكَمةً بطريقةٍ لا تطاق.
لست ذاهبة لأستعيد هذا الحب، لا، فهو لم يعد يناسبني. أنا ذاهبة
لأقوّض الوهم، وأكتب الخاتمة للعلاقة الوحيدة التي بقيت نهايتها معلقة. ذاهبة
لأضع حدا لتلك الأفكار العذراء المترفة التي مازالت تؤرقني، وتدور في أعماقي
كحكايات الأساطير. ذاهبة لأجمع روميو بجولييت، وأمنح بثينة لجميل، وأعقد بين
قيس وليلى. ذاهبة لأكتب خاتمة واقعية لكل الرومانسيات الحالمة، لأثبت لنفسي
أنني لم أكن على حق، فأعود لبيتي عودة الزوجة الخاطئة، وأطلب السماح، وأدفع ما
تبقى من عمري على أقساط منتظمة، في الخميس الأول من كل شهر.
لماذا أبدو أجمل من كل يوم أيتها المرآة المخاتلة؟
لماذا تعيدين لي بهاء طفولتي وأنا مدججة بكل أحابيل النساء؟
لماذا تمسحين عن وجهي كل الخطوط المائلة وتنيرين بخبث ظلال العمر
تحت عيني؟
بشيطنة مضمرة لا إرادية، وقعت يدي على فستان مخطط من موضة
الثمانينيات، تصادف أنها عادت لتكون موضة السنة، فارتديته. وبدوت بتنورتي
القصيرة وشعري الطويل المُسبَل، تماما كهيئتي إلى لقاء الحب الأول. كانت
المدينة القديمة تعزف أنشودة المطر، والشوارع مبتلة بأيلول كأول أيام المدرسة،
إلا أنني تمنيت سماع دقات قلبي بأذني تطغى على ازدحام ساحة "جورج خوري"...
قلبي متماسكٌ تماما.
خلته سيغرف من مخزون الحنين، ويعينني على لحظات تاقت إليها
الذاكرة، وبَرَدَتْ بخشونتها كل الأسطح الملساء لأيامي الرتيبة الماضية. لن
أرضى بالخذلان، سأبحث بجهد عن خيبة أخيرة لأعيش بسلام، وأختم بالشمع الأحمر آخر
الأفكار المقْلِقَة عن حب لا يهزمه زمن.
أخذ الهاتف يرن على الطرف الآخر، والرنين في قلبي يوزّع صداه في
الجمجمة...
- أنتِ ثانيةً؟
-نعم أنا...
-ماذا تريدين؟ قلت لك في المرة الأخيرة إذا لم توافقي على لقائنا
فسأغلق السماعة..
-...
-هــا؟؟
-حاضر سنلتقي.
-ساحة "جورج خوري" في تمام الخامسة.
- كيف ستعرفني؟
-أنتِ تعالي إليّ، ألم تقولي بأنك ترينْنَي كلّ يوم وتعرفينني
جيداً؟
-حاضر.
كمرايا السيرك، عكستني سمينة، محدبة، ووجهي ممطوط. حشرتني بين
دفتيها، أخلع وأرتدي كل ثياب العائلة. بفستان العيد بدوت فظيعة بكشاكشه
الملونة، كدمى الواجهات التي تسيّل لعاب طفولتي. بفستان أختي الكبرى تجاوزت
عمري ببضع سنوات، واللون القاتم الخريفي داعب ورودي بشحوب غامض. أرخيت ذنب
الحصان المشدود فوق رأسي، وأجرمت بحق تموجاته تمشيطاً وتمليساً حتى بدا صارما
وموحيا كستارة مسرح قبل بدء العرض. حشرت قدمي بحذاء أمي، وأسرعت هرباً أبتلع
ألم إصبعي الكبير المحشور في مقدمته المدببة، قبل أن يثير اختفاء الأشياء
تساؤلاً حول وجهتي المشبوهة.
لم تعد الأمور مخيفة بذات القدر، لكن لذة الخوف تتسرب إلى دمي. في
رأسي صورة لشاب مفتول الجسد مربوع القامة. يغطي عينيه بنظارة (ريبان) سوداء.
ويمشي بسرعة مجدفا بذراعيه. طريقُه مشدودٌ إلى الأفق وينتهي عند حدوده. له لحية
متناسقة الوقار كمسيح منزّه، وشعر أجعد كيوحنا المعمدان ضحية سالومي، وابتسامة
مواربة المعنى كشيطان الغواية الذي لا يقدر عليه أحد. وله مكان ثابت في الساحة
الكبيرة حيث يقف كل مساء يقلب الوجوه والفساتين، وكأن الساحة بيته، وكل المارة
زوار لديه.
كانت صورته تكبر في رأسي كل يوم، كشجرة مزروعة في خيال خصب. أراه
مرة بهالة نور فوق رأسه تتبعه كلما تحرك، يمد يداً من البياض ويقدم لي أوراقا
عليها كتابة، وتزكم أنفي رائحة بخور قوي، فيما يتلاشى الحلم في الدخان فأنتشي
بيقظة الغافل عن الدنيا. ومرات يكبس على نومي بقرنين وذيل ينتهي بشوكة، ويمد لي
لساناً كلسان حرباء ويمسك أوراقا عليها كتابة ويضحك، فأختنق بعجاج حريق يعسعس
في الوسادة، أسعل وتدمع عيناي، وأقوم متعوذة كالناجي من الجحيم.
في أي هيئة سيلاقيني؟ لا بد أن الزمن انتقم لي من وسامته. سيأتي وقد
انحسر الشعر الغزير والتمعت صلعة، وشيب مهيب تخلل لحية وقورة. تتقدمه بطن مرخية
وتتأرجح على جانبيه ذراعان واهنتان. أم سيأتي بصورته الآسرة؟ مفلتاً أزرار
قميصٍ أسود كاشفاً عن صدر تغطيه شعيرات طرية تتغلغل في حلقات سلسلةِ فضةٍ
يتدلّى منها نابٌ عاجي؟
لا أقدر أن أتذكر أكثر. ولا أقدر أن أخمّن أكثر. فصوته مازال يغمرني
منذ أمس بدهشة العجب:
-أنتِ!!!
-نعم أنا...
- أي معجزة تأتي بكِ دوما في أوان المطر؟
-سأحكي لك عندما أراك...
-سنلتقي!!؟
- ساحة "جورج خوري" في تمام الخامسة.
-ولكن...
-قل إنك لا ترغب في لقائي وسأقفل الخط.
-حتما أريد أن أراكِ لن أفوت الفرصة.
هل أعود أم أمضي؟؟
انقلبت جرأتي ترددا. مخاوفي أجبن من المضي ورغبتي أقوى من العودة.
حذاء أمي يلقن إصبعي الكبير درساً قاسياً. والعيون كلها تشير إليّ:انظروا هذه
الفتاة تُعلّقُ قلبَها الراجف كقلادةٍ فوق صدرها. خوفي من العيون منعني من
الالتجاء إلى حضن أقرب شجرة على الرصيف، أدفن وجهي في جذعها وأبكي أبكي. أشد
على حزمة أوراق كانت حجةَ لقائنا، خواطر كتبتها عنه، وضعت كآبة مراهقتي كلها
بإنشاءٍ صادقٍ للقاء مُتَخَيّل يكاد يصير شعراً. لا أريد أن أذهب، أريد أن أعود
إلى سريري وأحتضن دمى القماش وأسمع "بِزْعَل منك بهرب لَيْك" للبندلي و"لمّا
بسمع صوتك بنسى كل الي بدي قولو" لمصطفى يوزباشي . وأتحين وحدتي، رافضة كل
الزيارات والمشاوير العائلية، وأنتهز غياب الآخرين وهدوء الفراغ، وأرفع السماعة
وأضعها ألف مرة قبل أن أتماسك ما أن يهمس بخبث ونعومة "ألو". أريد أن أراه كل
صباح وهو يقطع كل الدروب ماراً بباب المدرسة. أراه ولا يراني، لأنه يمر لنراه
نحن، ليستعرض في عيوننا مراياه المبهورة، ليسبّل شعره إلى الوراء بماء وردنا،
ليخفي وراء نظارة الـ(ريبان) غرور أربعة وعشرين عاما من الصخب الفتي، ليحفظ
الوجوه التائهة في ساحة "جورج خوري" بحثا عنه، ويرد في غرفته على هواتف مجهولة
تذوب لهمسة الـ(ألو)، ثم يغمى عليها قبل أن تُقْفِل الخط.
كان يمكن أن يحدث ذلك كما خططت له، لولا أن الطبيعة ثارت في وجهي،
وأرعدت وأزبدت حتى خلتها أمي، تلف شعري على ذراعها وتصرخ نادبة ضلال ابنتها
الصغرى وطيشَها المأفون. خلتها تبكي وتخلع عن قدمي حذاءها الجديد، وتهوي بكعبه
المدبب على رأسي تفتح فيه ثغرة لإخراج الدم الفاسد. خلتها تسحب حزام والدي
الجلدي وتهوي على جسدي المسكون لطرد الجن. خلتها ترفع شعري عن رقبتي وتشير لأخي
هناك ليحز السكين. خلتها تمزق حزمة الأوراق وتنثرها فوق حثتي. خلتني ميتة في
صباح الغد مما سيمنعني أبدا من الذهاب إلى المدرسة، بينما يمر هو ساحراً صديقات
الرصيف، حتى لينسين لحظة مروره أن يبكين عليّ.
تآمر المطر على موعدي ثانية ورسم خيوطاً موصولةً بالأرض. رطّب
البللُ خصلات ملّسْتُها بالحرارة فتكرمشت متموجة كستارة مسرحية رُفعت للتو.
أغرتني أشجار الرصيف بعناق باكٍ، لكن المطر اشتد عاصفا بالمارة سريعا للاحتماء
هاربين. بدوتُ غريبةً في مهرجان الشتاء بتنورةٍ قصيرة –لا تناسب عمري- تهدّلت
كشاكِشُها، وريحٌ ماجنةٌ تَنْسَلّ تحتها تتدفأ بساقي. شددت قلبي المتهدج بالصور
والأغنيات، كعصفور نسي طريق الشمس وأخذ ينتفض قبل أن يموت.
سأمشي طريقا طويلةً إلى البيت، لأن ما لم يحدث في أوانه لن يحدث
أبدا، ولأن قطار الحب لا يقف في نفس المحطة مرتين. استسخفت نفسي، وبكيت على زوج
دافئ يضحك لنكاتي السخيفة، ويمتدح أطباقي المحروقة، ويستسلم لمشيئتي كلما أدرت
له ظهري وغرقْتُ في حلمٍ قديم.
في الساحةِ الكبيرة، سيكونُ رجلٌ جميلُ الطلة، عاش شبابَه طولاً
وعرضاً يزرعُ على الطرقات وهماً، تاركاً زوجته في أمسيةٍ ماطرة من أيلول،
واقفاً تحت مظلةٍ سوداء، ينتظرُ بلهفةٍ فتاةً أخلفت موعدها للمرة الثانية خلالَ
عشرين عاماً.
نسرين طرابلسي30/11/2003
نشرت في مجلة البيان الصادرة عن رابطة الأدباء (الكويت)العدد
412 نوفمبر 2004 وألقتها الكاتبة في ثلاث أمسيات قصصية بأداءٍ درامي في عام
2004 في السفارة السورية في الكويت وفي المركز الثقافي العربي بدمشق وفي
المنتدى الاجتماعي بدمشق.
أضيفت
في 30/03/2005/
* خاص القصة السورية
نصٌ منفرد على آلة الحنين
عندما أفتح سيرة
دمشق أمام أصدقائي، وأبدأ بتحيزي البار للمدينة التي تلعب دور البطولة في
سيناريو حياتي، يتهمونني بالشوفينية. حتى أن أحدهم قال لي: أنت دمشقية نعم،
ولكن دمشق ليست ملكا لك وحدك. ولم يكن دمشقيا ولا سوريا ولكنه كان عربيا
مستفَزّاً. ولكنني عبثا أشرح لهم بأنني لست متعصبةً لدمشق ولا متطرفةً لها
ولكنني فقط أحبها لأنها شريان لطالما ضخ في جسدي مطر ينابيعه العذبة. وهي
النشيد الأول الذي دغدغ سمعي بحفيفه قبل أن أغادر عتمة الرحم لأصرخ أول
احتجاجاتي في أجوائها. وهي القصيدة التي تفيّأت بظلال مفرداتها وأنا أتعلم
الكتابة بقلم الرصاص وأخط أول الكلمات البسيطة. وهي الطُّعم الذي حصّنني ضد
استطابة أمكنة سواها. وهي الأيقونة التي أرفع لها صلاة الاستسقاء عندما تجف
واحات الغربة. وهي الذات المتأصلة التي يلذّ لي الحديث عنها كلما أردت تعزيز
وجودي التائه في عالم بلا حدود. وهي تجربة الحرية الأولى بين شوارعها، تأخذني
إليها دون خارطة وتوصلني إلى البيت كلما ضاعت الطفلة الفضولية في مهرجان
المتاهات. وهي الحب الذي يداهمني بعذريته كلما أوليته النسيان المؤكد. وهي
الحكايات المصطفّة على بوابة الكتابة تنتظر دورها لتندس في كتاب يحمل حروف
اسمي. وهي الفطيرة المعجونة بمذاقها والتي تحفظ مكانها في الجوف فارغا، محروما،
جائعا لها أبدا.
يأتي الصيف في موعده وكذلك باقي الفصول. وعندما يقترب العالم بفوضى عارمة من
إكمال علامات النهاية، تبقى دمشق تتأرجح على سفح قاسيون بدلال واعتدال. قد تهجم
أمواج حر الصيف لتتعدى على شواطيء الخريف. وقد يتجاهل المطر ابتهالات العطش.
لكن الشوارع ما تلبث أن تكسيَ عريّها بأوراق الخريف والمظلات المبللة. ويقيم
الدمشقيون طقوس إخراج الملابس الصيفية والشتوية في موعدها. وبين الشهر والشهر
تتلون بخصوبة أيامها المتتالية، وفنون طقسها الأليف، تقسو وتحنو لنبقى كلنا مدى
الحياة أطفالا معلقين بثوبها. بالعيشة الحقيقية. بكل ما فيها من العذاب والراحة
لتبقى محيرة ومعتدلة وناقصة من زيادة الاكتمال.
وككل الأطفال الذين أفسدهم دلال الطبيعة يتأفف الدمشقيون. إذا تأخر البرد تجدهم
يقولون:"سنموت من الشوب". وإذا تأخر المطر:" سنموت من العطش" وإذا تأخر
الحر:"سنموت من البرد". الحقيقة أنهم كما يقول المثل: لا يعجبهم العجب!!
إذا قلت لهم: الله ما أجمل مدينتكم. ينفثون في وجهك غبار السأم ويُخرجون "الخمير
والفطير"، ويبدأون في موشح من التذمر يجعلك تلعن الساعة التي تحدثت فيها. وإذا
هممت بالسير معهم فيما يذهبون أوقفوك بحدّتهم المعهودة وقالوا: الله يديمها.
أعود من غربتي كل سنة وقد خارت قواي تحت حمل الشوق ونزف الحنين. أعود وفي رأسي
ألف موال أغنيه ما أن تدخل الطائرة الأجواء السورية. وتلمّني البوابة بحر
الأجواء الطبيعية غير المكيفة. أبتسم للجميع وأبتلع غيظي من روتين البيروقراطية
المتآكلة والتي امتدت شروشها في منافذ المطار ( يقولون تغيّر الحال، سأسافر
لأتأكد). آتي وأغني موالي الأول، سأبتسم لكل شيء في وطني." يا حنون يا غالي
يلّي ترابك كحل العين". وأبدأ بتوزيع الابتسامات لموظف الأختام الذي يرسلني إلى
غرفة المحفوظات (بسبب جواز سفر لي فقد منذ خمس سنوات) وأهدهد انتظاري الطويل
بعد أن يكون كلُّ من على الطائرة سبقوني إلى حزام الحقائب. ولكن كل شيء لا يهم
ما دامت الجاهة كلها في استقبالي لتمسح عني بأيديها المباركة مسّ الوحدة وجنون
الغربة.
أعود يتردد في بالي موال البوح الذي يبدأ بأوووووف طويلة وينتهي بآاااااااه
أطول. ولكن لا بأس، يتأجل ذلك إلى ما بعد دعوة الغداء الأولى. ولكن يبدو أن هذا
الموال لم يعد يطرب أحدا. السّميعة كلهم تحولوا إلى مطربين. وتتآمر الأسئلة على
إجازتي، كم تتقاضين؟ كم ادخرتِ؟ متى ستشترين منزلا في الوطن؟ وللحفاظ على ماء
الوجه الذي أنفقته أيام الغربة، أضع كل زينتي لأتجمّلَ وأتهرّب من الإجابات
بدبلوماسية. وتبدأ قافلة من الجِمال المحملة بالنصائح النفيسة تخرج من أفواههم،
وأهز رأسي موافَقةً وتفاجؤاً بكل الملاحظات التي كانت غائبة عني مع خالص الشكر
وجزيله، لأولئك الذين يغمرون أيديهم بالماء، ويتحدثون عن هول الحرائق.
"المعاش ما عم يكفّي"... وتراهم يضحكون من غمرة الفرح ويتناقلون النكات
والطرائف، ويَخرجون كل جمعة إلى الطبيعة، ويتزاورون ويتآزرون، ويتنعّمون
بالهواء ويسافرون إلى البحر، ويستدينون لتَعمَر الموائد، ويكتملُ القمر
والجيوبُ خاوية، فيخرجون إلى الشرفات لاحتساء قهوة الأحبة وهموم المساء.
يتبادلون الهم بين ياسمينة هنا وفلّة هناك. ويخرجون وقد تخففوا وثرثروا...
ويعودون للنوم مرتاحي البال.
موال الماضي يبدأ بياليل ولا ينتهي. أجوب دمشق القديمة كباحث مخلص في زوايا
التاريخ. أتلمس الجدران الخارجية للجامع الأموي وأشتري عرنوس ذرة من بائع
العرانيس، وأنتظر أذان المغرب أمام الجامع وأدور بكاميرا الفيديو مع صوت
المؤذن. جازمةً: سأؤرّخ أن هذا أجمل أذان سمعته في حياتي. الحمائم تبدو في
باحته الكبيرة وعلى حواف البحرة وكأنها تتوضأ. أتابع مسيرتي وامرأة دمشقية
تبتسم لانبهاري، أسمعها تهمس لرفيقتها:سيّاح.
أتدرج حتى الباب الخلفي للجامع وأمسح خشبه العتيق بنظرة إعجاب، ثم أنزل الدرج
الحجري وأترك لأصابعي متعة مصافحة شالات الحرير في محلات البضائع القديمة،
أواني خزفية ومصنوعات يدوية خشبية وصيغة فضية أثرية، لا أقاوم شهوة تجريبها
واقتناء قطعة مطعّمة "باللابيس لازولي" أو اللازورد الأزرق أو خاتم مرصع
بالفيروز المعروق، أو خلخال مشنشل بالقطع النقدية، أو معضد بقفل كبير. أجرب
عباءة سوداء بدوية اشتراها التاجر ومازالت معفرة برمال البادية. تكاد تشكيلاتُ
المطرّزة الحمراء تقطر بدم المرأة التي غرست إبرتها في مسامات القماش، فلا أقدر
على دفع ثمنه المرتفع. وأبتاع بساطاً ملونا بتموجات الأصيل، وتواشيح الغروب.
وأدور في غابة الأراجيل بين خصورها وقدودها الممشوقة المزينة بعمامات من قماش "الدامسكو"
المقلّم، وبطونها الزجاجية المطعمة بالصور والنقوش، وأشتري واحدة فضية محزّمة
بالرخام. ولا يبقى معي الكثير لأشتري لوحات مصفرّة لدمشق القديمة رسمها
المستشرقون، وأكتفي بنسخة مقلدة. وأحمل كنزي الثقيل متفهمة تماما لماذا يسحر
الشرق الغرباء، ويسيل لأشيائه الصغيرة لعاب التاريخ. وأصل إلى مقهى "النوفرة"
وأزهو وأنا أخطو من وراء عدسة الكاميرا إلى الداخل، فيرمقني الحكواتي من فوق
نظارته الصغيرة ويتابع قراءته لسيرة عنترة مبالغا ليشدّني معتقدا أنني أجنبية،
فأباغتُ روادَ المقهى: السلامُ عليكم. يرفع يده بالسلام مندهشاً ويأخذ وضعيةً
أمام كاميرتي، ويقول مازحا:" هالو ورحمة الله، فكرتك خواجاية، وكنت رح قلك نو
بروبلم". ويهوي بسيفه المعدني على طاولة أمامه صارخا: "باطل". فيضج الحضور
ضاحكين، ويستمر في نبرة الإلقاء المعهودة للحكواتية ويضفي بخفة دمه على السيرة
بعض الفكاهة عندما يحاول ترجمتها للسياح بإنكليزيةٍ بلهجة شامية. أطلب شايا
لأتدفأ، فالأمسيات الصيفية لا تخلو من نسمة باردة. وجوّ المقهى يتنفسُ حميميةَ
اختلاط الأجناس والثقافات، والحكواتي يتربع على عرشه المرتفع، يمتطي صهوة
الشخصية، ويسرح في مضارب بني عبس، ويتغزل بكل عبلة شقراء تخطو عتبة المقهى
متلهفةً لسماع أشعار سيد الرجال عنترة.
وفي المساء أسير تحت المدادات الخضراء التي تجد في كل ظلٍّ مرتعا لها في حارات
دمشق، قاطعة العصرونية، وأدور حول القلعة بمحاذاة النهر الذي كان!! حيث يُفتحُ
الطريق ليلا ليسمح للسيارات التي تأتي بالزوار إلى المطاعم الشعبية كمطعم أبو
العز ودمشق القديمة. ويتهادى صوتُ المواويل في ثنايا الليل، يزيدُ غوايةَ
المدينة.
موال الحاضر يقبض قلبي، يا حادي العيس سلفني ولو دمعة... العمارةُ فارغة،
أترابي كلُّهم كبروا وتزوجوا وانتقلوا إلى بيوت أخرى. ومنهم من هاجروا وسافروا
إلى منافي الرزق. والعجائز الذين كانوا يزينون الشرفات بانتظار أحبتهم،
ويشوّشون الأمسيات برمي النرد في طاولات الزهر، رحلوا إلى خاتمة المطاف.
السلالم اليوم موحشة ولا أحد يفتح الباب على وقع خطواتي ليسألني عن حالي.
صناديق البريد في أسفلها يعلوها الغبار، والمدخلُ ممتليءٌ بأوراق الشجر والفراغ
والضجر. في الحارة جيل جديد من الشبان والفتيات لم يعيروني اهتماما، لا أحد
منهم يعرفني، لقد صرت غريبة. أسير بمحاذاة مستشفى القديس لويس على طريق مدرسة
"المعونة الخاصة"، تتخاطفني الذكريات، أدخل باب المؤسسة الاستهلاكية فتفوح
رائحة العفونة، أبتسم بحزن، مازال النخب الثالث من المحصول متاحا للمواطنين!!
أصل حائط المدرسة لا ألتفتُ إليها، أتحسس وخز الألم لضرب العصا على كفي، لقد
كنت شقية حقا، في مدرسة تؤكّد معلماتها دوما أن الضربَ ممنوعٌ وأنه أسلوبٌ
تربويٌ غير نافع. ألاحظ أنني أخفضت رأسي وأحنيت ظهري فأستقيم عند نهاية جدارها.
لقد أصبحت الآن حرة تقريبا. تصفر كل الزوايا، والمحال الشهيرة في حي القصاع
تسدل أغلقتها، فيخبرني أبو نبيل "الخضري"- دون أن يتذكرني- أن اليوم أحد. كيف
نسيت أن العطلة هي يوم الأحد. لابد لي أن أنعش روزنامة الأيام أثناء إجازتي.
سكابا يا دموع العين سكابا... وتبدأ مواويل العودة بالعويل. وأبدأ بحزم حقائبَ
لم أنته من إفراغها بعد. ثيابٌ لم أضعها على بدني لأتباهى بها أمام المدينة،
لأوهمها بأنني مازلت أحلى الصبايا، وأنني أليق بطقسها وناسها، وتقلباتها. أعود
أفرش الملاءات البيضاء فوق قطع الأثاث. كأشباح أليفة أنيقة. أصبح البيت الدافيء
باردا، كأنما تلال الملاءات أكوام ثلج الفراغ. الثلج البارد الذي يصفر ذكريات
الشتاء والصقيع بسيمفونية الحنين الأبدي، إلى الحميمية الدافئة لحبات الكستناء
الراقصة على صفيح المدافيء. والأبيض يغطي كل شيء في المدينة المرتجفة تحت وطأة
كانون الأول. أعود في عز الصيف وقد انتهت الإجازة الخاطفة بقسوة في قلبي المرهف
المشتاق، تماما كما ينتهي اللقاء الأول بالحبيب بعد طول هجران. أختم جواز
المغادرة وأرمي نظرة أخيرة على المودعين الذين يبكون للوداع بحرارةِ بكائهم
للّقاء...
دمشق.. سأزرع فسيلة حبكِ على طريق العودة، ولو في ساعة القيامة.
وجهُ الغيرة الوقّاد
سمٌ في زادها.. شوك في ثوبها.. أفعى في فراشها.. غولة في مرآتها.. آااااه...
ليتها تموت..
بعض الناس لهم الحظ كله، وهي منهم. كل شيءٍ يسير في تيارها. أشرعتها لا تقاومها
ريح.. بل إن الموج يسجد لربان حياتها، والمنارات لا تَهدي إلا فتوحات مركبها،
وفي الظروف الحالكة تتفتح فوق رأسها نجمةٌ وحيدةٌ لتضيء بوصلتَها إلى شاطيء
الغنيمة، بينما تتخبطُ اتجاهات الآخرين.
سأقول لها اليوم مباشرة وبدون لفٍ أو دوران: لينا.. صداقتنا لم تعد ممكنة.
ولماذا تحزن؟؟ هي تقول دوما:"ألف صفعة صراحة ولا قبلة خداع" سأجربها اليوم.
لا لن أجربها.. سأنزع صمّام رمّانة صمتي وأقذفها في وجهها، وسأضحك حتى أنقلب
على ظهري ولا أقوى على القيام، كسلحفاة مقيتة. سيتحول شعرها الناعم إلى كرة
عليق، وينتفخ دمّلٌ أحمر كأنوف المهرجين فوق شفتيها السوداوين، ووتتبعثر
أناقتها مع كرامتها مزقةً مزقة، وقبل لحظة انفجارها... يكون كل الأصحاب تلقوا
دعوات هاتفية من فاعل خير مجهول، ويتجمعون حولنا ليشهدوا انهيار ملاكهم المفضل،
بينما أنا أضحك وأضحك وأضحك..
سأقول لها.. لأن ما يحدث يتعبني فعلا...
ما الذي يجبرني على الاحتفاظ بصداقتها؟؟
كل ما بيننا متنافر بقسوة متناهية. من السهل جدا أن تكون طيبا ورزينا ومتزنا
ومتسامحا ومعطاءا عندما تكون جميلا إلى هذا الحد، ومن السهل أن يغفر لك الآخرون
خطاياك المتكررة عن طيب خاطر، لا بل ويتطوعون بأنفسهم لإصلاحها أيضا. ومن السهل
أن تكون بشوشاً وكريم الخلق عندما يكون كل شيء في وجهك وروحك معداً مسبقا
لاستقبال الحياة، وأنت مدلل وحيدٌ لأبوين يريان شعاع النور يخرج من(...). بينما
يكون من الصعب جدا أن تخاصمك المرايا، ويرعاك اليتم، وتتآكلك الوحدة، وتتآمر
عليك أفخاخ الدنيا ومطباتها فتأتيك أفواجا لتفتح مداساً متورطا تحت خطواتك في
كل الجهات، ثم ينبغي أن تكون رحبا متسعا وطريفاً وعاقلا وصديقا حميما لواحد من
الصنف الأول. هذا لا يجوز... ولا يمكن أن يستمر بمطلق الأحوال.. يجب أن تنتهي
المهزلة...
لستُ متجنيةً، ولا حقودة، أنا فقط متعبة وثائرة. سأضع اليوم حدا لمسألةٍ
مؤرّقة.
لم أرد على هواتفها نهاية الأسبوع. أصبح رقمها مزعجا، ورنين الهاتف المتشابه
يزعق لاتصالها، أعرفه حتى قبل أن أنظر إلى الشاشة المضيئة، فأتكهرب.
لم يعد عدلاً أن أرافقها إلى التسوق، فلتتوقف عن دعوتي. عليها أن تكتشف الأمر
بلا فراسة زائدة، فكلّما جرّبَتْ خرقةً، لبستها وأكلت من جسدها بهاء ورونقا..
كلّما اشترَتْ أحمر شفاه، ازداد مبسمها تكوراً وامتلاءً.. كلما جربَتْ حذاءً
بدا وكأنه الحذاء البلوري المفقود...
وأنا، كتلة الأخطاء الحميدة. كأن دور الأزياء كلَّها، حتى أرخصها، لا تتوقع
وجود كائن مثلي على هذه الأرض. أتفزر في أسمالي وأتكلف ثروة لأخرج بهيئة بسيطة،
حتى لم أعد أطمع بموضة ولا بمواكبة عصرية للخطوط والألوان الدارجة، فقط أنشد
شيئاً يستر عيوبي والسلام. أحاول بالمساحيق أن أعدّل تشكيل وجهي السريالي. أخط
تحديدا مثيرا فوق شفتي الفاترتين، وأبالغ في وقاحة الكحل الأسود لأوسّع ثقوب
عيني المائلتين، وأبحث دوما عن بياض كلسيٍ يخفي كلفي ونمشي وباقي البقع
العنيدة. أحشر قدميّ المنهكتين فوق أعلى الكعوب، وأتحمل نهاراتي مقلقلةَ الخطى
لأنهض قليلا بهامتي الواطئة...
أتعذبُ.. أتعذب بشدة...
فيما مضى، كان الطعام لذّتي الوحيدة، وطريقتي الميسرة لأتعلم مصالحة العالم.
بعد اقتحامها لحياتي، صار الأكل انتحارا بطيئاً يمزق معدتي، ففقدت الإحساس
بالحلو والمالح، وصرت أزيد عيار الفلفل لأستطعم لسعة ما في كل لقمة تنزل في
جوفي كشفرات حادّة. لكني لا أتوقف إلا لأفرغ ما في جوفي غصبا دفعة واحدة، أدس
إصبعي في حلقي وأتقيأ، لأسمح لأنفاسي بالجريان، فأراني في المرآة فارغة من
الرونق واللون. وهي تجلس أمامي بعود رشيق، يكاد لا يزاحم حيز الهواء، تطلب سلطة
خضراء وماء معدنيا، وتترك في طبقها بضع قطع من الطماطم والخس، وتتنهد بالشبع
الأكيد، تصنعٌ لا يحتمل...
عدوة الرجال، هكذا يطلقون علي، والشارب الخشن في وجهي يتطاول على حدودهم دون
رحمة. أتحدث مع زملائي بتجرد عن أنوثتي المفترضة، أحاول أن أمنحهم ثقة كاملة،
ووعيا ودودا، لكنهم يرفضون بعيون فظة إلا أن يسترقوا استغرابهم من شاربي. خطر
لي ذات يأس أن أستعير من طقوسهم اليومية موس الحلاقة، كان يوم طويل من العمل في
انتظاري، وعلي أن ألحق بحافلة السابعة تماما، ولا وقت لتجهيز عجينة السكر.
واجهت المرآة، والماء الساخن يتدفق في الحوض والرغوة البيضاء تعلو وتتضاعف..
وفقاعات شفافة تنساب من عيني...
ليتني حززت معصمي بالموس وانتهيت...
اليوم سأقول لها بكل لطفٍ ممكن: إن القسمةَ غيرُ عادلة، وسأدّعي أن المسألة
غيرُ شخصية. تعبت أسمع عن عشاقها وخطابها.. وأنا مازلت أتجرع سم حب من طرَفٍ
واحد غضضت بعده الطرْفَ عن كل الرجال. كيف أحببته ويكاد يفوقني أنوثة، وجسدي
يثقل عليَّ وطأة خفته. لا يوجد بيني وبينه أي انسجام هو الآخر، لعله الاختلاف
في كل شيء، لعل كل ما ينقصني كان فائضاً لديه، فحلمت أنني مسحورةٌ وبقبلةٍ منه
سأتحول إلى ظل جميل. يلقي التحية المُشفِقة ويكلفّني بواجباته، ثم يخرج للتسكع
بين مكتب وآخر، شاي هنا وقهوة هناك، حتى آخر الدوام، فأكتفي بنظرة الرضا
وأتجاهل استغلالَه السافر. هي نبهتني مراراً للأمر!! لكن صباحَه يستحق، ووجهه
الذي يهلّ عليّ كالبشارة يستحق...
أتراها تغار؟ إنها تغار.. نعم تغار.. تغار مني. أخيراً صار لدي ما يثير
غيرتها... مَنْ مِنْ موظفات الشركة لا تتمنى أن يلقيَ بعبئه على كاهلها؟؟ كان
يجب أن أكون فَطِنة للعلاقة... ياااااااه كل هذا الوقت وهي تغار؟ يا لغبائي !!
الآااان أفهمُ كيف تستنفر نصائحها وتحذيراتها كلما وجدتني غارقة في دراسة
ملفاته، وتقفز من وراء مكتبها بعد أن يحييني ويسلمني العمل ويغادر، وتعنفني
لأنني بلهاء. لا... لست بلهاء. كان الحل الوحيد لاستمالته أن يجد في كنفي
الراحة التامة.
قد لا أكون جميلة أبدا، إنما يمكن أن يعتادني الناظر، كما يعتاد اللسان تكرار
الأخطاء الشائعة. هي نفسها تعترف مراراً بأن جمالها نقمة، وأنها كانت تتمنى لو
أنها فتاةٌ عادية لتبتعد عنها الأيدي المبتهجة بالواجهة البراقة، وتظفرَ مرةً
بشخص يملك خلف عينيه بصرا ينفذ إلى الروح.
سأكون له الراحة والأمان. سأحتمل كل استهتاراته المضنية، ليعلم أن شابا مثله
يحتاج فتاةً مثلي لمشوار الحياة، و معي سيبني العش قشة قشة، فأنا غير مكلفة،
عاملة، متفانية، أقدر قفص الزوجية، وفوق هذا وذاك لن يخشى علي عيون الرجال.
سيقذفني في العمل ويمضي، ويكفيني أنني في آخر النهار سأكون في منزله، تحفة
القناعة الثمينة...
يا للرحمة، كم أنا مفعمة بالمزايا، وأُبخس نفسي قدرها حقا...
سأطلب قهوة.. أرشفها ريثما يصل الباقون..
- صباح الخيــــــر
- صباح النور.
- وين كنت يا عاطلة خميس وجمعة وأنا اتصل بجوالك لأعطيك آخر الأخبار؟.. لو
تعرفي شو صار حتخبطي راسك بالحيط...
- خير شو صار؟
- مبارح سيد الحسن زميلك النعنوع..
- ...
- إجا خطبني هو وأمه...
- ...
- بس طبعا أنا رفضت، حتى أنني لم أتنازل بتقديم القهوة.. ما فشر هالإتّكالي...
***
سهل جدا أن ترفض فتاةٌ عريسا (لُقطة)، عندما يكون كل شيء في هذه الدنيا ظالما
وساديا لأخرى..
ليتني يومها حززت معصمي وانتهيت...
10/10/2003
|