أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

الكاتب: د. موسى الحالول-السعودية

       
       
       
       
       

 

 

نماذج من أعمال الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب

 

 

 

 

بطاقة تعريف الكاتب

 

تاريخ الميلاد ومكانه: 1965 الرقة، سوريا

 

الشهادات العلمية:

•إجازة في اللغة الإنكليزية وآدابها، جامعة حلب، سوريا 1987.

•ماجستير في الأدب المقارن، جامعة بِنْسِلفانيا الحكومية، الولايات المتحدة، 1991.

•دكتوراه فلسفة في الأدب المقارن، جامعة بِنْسِلفانيا الحكومية، الولايات المتحدة، 1995

 

الوظائف والخبرات:

•أستاذ مساعد، جامعة الطائف، السعودية، من 2002 حتى الآن

•أستاذ مساعد، جامعة العلوم التطبيقية، الأردن، من 2000-2002

•أستاذ مساعد، جامعة جرش الأهلية، الأردن، 1999-2000

•أستاذ مساعد، جامعة تشرين، سوريا، 1995-1999

 

الكتب المنشورة:

1.ترجمة من الإنكليزية:

•خفايا ما بعد الحداثة. اللاذقية: دار الحوار، 2006.

•هكذا تكلّم الفايكنغ. كوبنهاغن: دار غُدرُن، 2002.

•حكايات الهنود الأمريكيين وأساطيرهم. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،

سلسلة إبداعات عالمية (عدد 334)، 2002.

•حكايات إيسوب. عمّان: دار الحامد، 2001. 

 

2.تأليف:

•قواعد جديدة للنظام العالمي الجديد (مجموعة أشعار وقصص قصيرة بالإنكليزية) عمان: دار الحامد، 2001. 

 

3.تحت الطبع:

•ترجمة الأعمال القصصية الكاملة لإيرنست همنغواي. مجلدان. الكويت:

المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، سلسلة إبداعات عالمية.

•مدخل إلى الترجمة الأدبية (نماذج تطبيقية)

 

زيارة موقع الكاتب     مراسلة الكاتب                                        للتعليق على القصص      مواضيع أخرى للكاتب

نماذج من أعمال الكاتب

العطبة

أبانا الذي في الفاتيكان

حديث عابر في عمان

 نهاية المواطن درويش

 

نهاية المواطن درويش بن نَحْسَبَخْت

 

استبشر المواطن درويش بن نَحْسَبَخْت خيراً عندما وليَ الحجاج بن يوسف أمورَ البلاد والعباد بالطرق الدستورية المعهودة في البلاد العربستانية، التي أصبح اسمها الرسمي حجاجستان. كان الحجاج شديد الحرص على تراث الأمة ويمقت العولمة ومظاهرها التكنولوجية، لذلك حرَّم الفاكس والإنترنت والبريد الإلكتروني وأطباق الستالايت لأنها تنشر الكفر وتُلهي عن ذِكر الله، والعياذ بالله. كان الحجاج يعلن في خطبته الأسبوعية التي تنقلها قناة حجاج تي ڤي أن حكمه سيكون عملاً دؤوباً لا ينقطع لخدمة حجاجستان وإصلاح أمرها وتقويم مَنْ اعوجَّ من رعاياها.

وكان المواطن الحجاجستاني درويش بن نَحْسَبَخْت يحب مولانا بالفطرة كحبه للأغاني الشبابية، وكان يدرك في قرارة نفسه أنه سيأتي يومٌ، وعما قريب، يتفرغ فيه الوالي للقاء رعاياه وتلبية طلباتهم المتواضعة بعد أن يكون قد أنجز عظائم الأمور. وكان اعتقاد درويش هذا يشبه النبوءة. لذلك كان دائم الدعاء لمولانا بدوام الصحة والبقاء ولم يساوره شكٌ في لقائه شخصياً أو في استجابته لطلبه. وازداد يقين درويش عندما انتهت خطبة صلاة الجمعة ذات يوم، ولم يظهر الحجاج على قناة حجاج تي ڤي ليوجه خطابه الأسبوعي كعادته.

في اليوم التالي سمع درويش بعض الناس يقولون لا بد أن يكون الحجاج مريضاً، أو ربما مات، لكن درويش لم يصدقهم. وكيف يمرض أو يموت وهو يدعو له بدوام الصحة وطول البقاء؟ ثم لو كان مريضاً، هل يعقل أن تذيع القناة الوحيدة في حجاجستان الأغاني الشبابية بدلاً من خطب الحجاج التي اعتادوا عليها؟ وفعلاً بعد يومين وبينما درويش منهمكٌ في عمله في مركز تحديد النسل في بلدته الصحراوية النائية، إذا بموكب الحجاج يطوق المكان. لقد جاء الوالي في زيارة ميدانية. ارتبك الموظفون وارتعبوا إلا درويش الذي انفرجت أساريره وراح يردد: الحمد لك يا رب، لقد صدقت الرؤيا، لقد صدقت الرؤيا! ها قد فعلها الحجاج وزار المركز الذي رسم له بنفسه سياسة تحديد النسل، وكذَّب أقوال المشككين الذين قال أحد خُبثائهم إن خطة الوالي ترمي إلى إنقاص عدد الفقراء الذين يُرهقون الدولة ولا يقدمون لها شيئاً بالمقابل.

وحده درويش ظل مؤمناً بالوالي الجديد وسدّ أذنيه عن اللغو. وهاهو الوالي قد جاء بنفسه ليطمئن على حسن سير العمل ويضع حداً للأقاويل ويُزهق الباطل، إنَّ الباطل كان زهوقا. وبعد أن التقى المسؤولين والعاملين الذين قبّلوا يديه الشريفتين، واطمأن على كل شيء، تقدم نحوه درويش وأراد أن يكلمه على انفراد، دون أن يبدي رغبة في تقبيل يَدَيْ الوالي كما فعل غيره. أراد درويش أن يُظْهِر لزملائه أن الحجاج في قرارة نفسه حاكم ديمقراطي لا يحب التملق. فأسرّها أحد الخبثاء بضاعةً، وامتعض بعض العسس وحاولوا أن يُرغِموا درويش على تقبيل يدي الحجاج، إلا أن مولانا زجرهم ونزل عند رغبة رعيته درويش بن نَحْسَبَخْت. طفرت الفرحة من عيني درويش كما تطفر من عيني طفل في يوم عيد. يا إلهي، أي تواضع هذا؟ مولانا ذاته ينـزل عند رغبة أحد رعاياه! الحمد لك يا رب، لقد صدقت الرؤيا، لقد صدقت الرؤيا!

قال مولانا:

_ ادخل في الموضوع يا درويش، فأنا كما ترى أتفقد أحوال الرعية.

قال درويش:

_ حسناً، يا مولاي، وحفظك العلي القدير ذخراً للأمة ومُفرِّجاً للغَمَّة، صغيرِها وكبيرِها.

_ وهل غمتك صغيرة أم كبيرة، يا درويش؟

_ بل صغيرة يا مولاي!

_ أبْشِر، يا درويش. هي لك كبرت أم صغرت.

_ عظَّـم الله ...

_ قل لي، هيا.

_ يا حجاج اعمل لي غِرة، فرِّح لي قلبي شي مرّة.

_ أو تظنني حلاقاً يا ابن الكافرة؟

_ العفو يا مولاي، لم أقصدك أنت شخصياً، بل أردت أن أعبر عما يجول بخاطري عبر أغنية شبابية معروفة!

_ وما حاجتك للغرة، إذن؟

_ تا حَرقص بنت الجيران اللي عيونا لَبَرّة.

_ لا حاجة لك بها ما دامت عيونها (لَبرّة) كما تقول أنت بلغتك الدارجة.

_ لا تأخذ بظاهر الكلام، يا مولاي. فحقيقة الأمر أنني أحبها وتحبني ...

_ إذن، لماذا لا تتزوجها على سنة الله ورسوله؟

_ المشكلة، يا مولاي، أن ناقتها لا تحب بعيري.

_ أوما تستحيي، أيها اللُّكَّع، أن تعبر عن طلبك الحقير بأغنية هابطة تارة وبقصيدة عصماء تارة أخرى؟ ألم تقرأ مقولتي (القول الفصل في فصل القول) عما يجوز ولا يجوز في قول الشعر التي نشرتها في مجلة »شعر«، رغماً عن أنف أدونيس، قبل سنة؟

_ مقولتكم يا مولاي على عيني ورأسي، لكني كما ترى أعمل في مركز تحديد النسل منذ مطلع الشمس حتى مغيبها، وعندما أعود إلى البيت ليلاً أدس رأسي وأنام كالحملان الوديعة. وإن حدث أن تأخرت في المنام ذات عِشاء، وهي مرات قليلة يا مولاي، فلا أجد سبيلاً للقراءة ...

_ ولماذا؟

_ لأن الكهرباء مقطوعة عن منطقتنا منذ أكثر من سنة.

_ وكيف؟ وبأمر من قُطعت؟ سأقطع يد الذي قطعها!

_ يا مولاي، الكهرباء قطعها مدير المنطقة بعد أن تبين له أن الرعايا لم يكترثوا بسياسة تحديد النسل التي رسمتَها بيديك الشريفتين، فلجأ إلى سياسة قطع الكهرباء من بعد صلاة العصر حتى ضحى اليوم التالي لتحديد النسل حُكماً لا اختياراً.

_ يا له من مدير رائع. سأعينه وزيراً للداخلية والإرشاد القومي فور عودتي إلى العاصمة.

_ فعلاً، يا مولاي، هو يستحق ذلك، إذ تفيد دائرة الأحوال المدنية أنه لا توجد نسبة ولادات تُذكر منذ حوالي ستة أشهر، أما معدل الوفيات فلا زال على ارتفاعه. الأمر، كما ترى، يبشر بالخير.

وهنا تذكر درويش مرة أخرى ما كان المتشككون يقولونه عن مولانا، ورأى حالهم المزرية الآن وهم يرتعدون أمام هيبته وعيونهم كسيرة. أما هو فقد كان يسير كالطاووس بعد أن شفى مولانا غليله من هؤلاء المرجفين في البادية، فتوجه إليهم، وكأنه يعاتبهم:

_ أترون يا حَوَش؟ ألم يقل جورج وسّوف بأن كلام الناس لا بيقدم ولا بيأخر؟

وقبل أن يستطيع أحدٌ الرد، تقدم الذي كان يقول إن سياسة تحديد النسل تهدف إلى إبادة الفقراء، وهمس بعض الكلمات في أذن مولانا الذي احمرّ وجهه وانتفخت عروق رقبته كأنها تنذر بالانفجار، ثم ما لبث أن هدأ. ابتسم ابتسامة رضا ثم نادى مزمجراً:

_ أيها العسس!

فلبّت أسراب العسس بصوت واحد: أمر مولانا المعظَّم!

_ لبّوا حاجة المواطن درويش بن نَحْسَبَخْت. احلِقوا له!

أضيفت في 07/05/2008 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتب

 

 

 

 

حديثُ عابرٍ في عَمّان

  

ألقيتُ عصا الترحال في عَمَّان لاجئاً اقتصادياً. سحرتني المدينة بعماراتها الجميلة وهوائها العليل وأكداس الفاكهة والخضرة المنضدة في نواصي شوارعها النظيفة. جئت إلى عمان لأتنفس ملء رئتيَّ، لأقبر الفقر، ولأستبدل وجعَ حبٍّ ضاع في بلدي بوجعٍ آخر لا يضيع. عمان مدينةٌ ناعمةُ الحجارة، لكن أهلها يبدون للوهلة الأولى أجلافاً قُساةً ما إن تسأل أحدهم سؤالاً حتى يرد عليك بسؤال "إيش؟" فيقبر فيك رغبةَ تكرار سؤال تعلم علم اليقين أنه قد سمعه وفهمه، لكن "إيش؟" هذه امتياز يمارسه ابن البلد عليك أنتَ الطريدَ من بلادك، لكنه يمارسه بلا عدوانية أو استعلاء يدومان طويلاً. تشكره بانكسار ذليل، فيرد عليك بلطف مفاجئ، "حَيّاك الله."

 

في اليوم التالي من وصولي إلى عمان، التقيتُه. لم أعرفه في البداية. رأيتُ كتلة من العضلات تتدحرج نحوي بطريقة عدوانية استفزازية، كأنها جُلمود صخر حطَّه السيل من عَلِ. ومما زاد في فزعي هو أن هذه الكتلة المرعبة كانت ترتدي نظارتين سوداوين تذكرني بالمخابرات. ظننتُه ينوي بي الشر، وكدت أن أتراجع إلى الوراء، أو أغيِّر طريقي حين رأيته يرفع نظارتيه، ويسدد نحوي ابتسامة صارمة ماكرة.

-يا رجل، أنت مرعب من دون نظارات، فما حاجتك إليها؟

وعندما تعانقنا أحسستُ ببراكين عضلاته تزمجر من تحت سترته، ولولا اطمئناني إليه، لولَّيت منه فراراً ولَمُلئتُ منه رعبا. كان قد تخلى عن ملابسه المحافظة لصالح بنطال فرزاتشي وسترة ضيقة الخصر والمنكبين، مبتورة الردنين. حتى شعره كان مقصوصاً على موضة فرزاتشي، وكانت ملابسه تكاد تنفجر تحت براكين عضلاته المنفوخة. لم أكن أعلم أن له مثلَ هذه العضلات. تُرى، هل موضة الملابس هي التي أبرزت ما كان خافياً؟ هل يُعقل؟ ماذا جرى له؟ أهذا فعلاً هو لبيب فصيح المترجم واللغوي الذي أعرف؟ لم تتجاوز هذه الأسئلةُ عتبةَ شفتيَّ اللتين أشقاهما طرحُ أسئلة أكثر عبثية.

- نعم أنا هو صاحبك القديم.

- ما الذي أتى بك إلى عمان؟

- الذي أتى بك! لاجئ اقتصادي! سريلانكي بشهادة!

- أُف! ظننتُك أصبحت من أصحاب الكراسي في البلاد.

- حاشى لله! هذه لا يُؤتّاها إلا ذو حظ عظيم. ما الذي أخَّر انضمامك إلى قافلتنا نحن السريلانكيين؟

- ظروف كثيرة. لكن أخبِرْني: منذ متى وأنت هنا في عمان؟ ما الذي حدث لك؟

- أنا هنا منذ ثلاث سنوات. وما حدث لي كثير، يا صديقي القديم. أنت تعلم أنني قبل آخر لقاء لنا، دُعيت لمقابلة وكيل إحدى الوزارات في حكومتنا الرشيدة كي ينظر في مؤهلاتي في الترجمة. كنت أُمنّي النفس بزوجة متوسطة المهر، وراتبٍ يضمن لي كرامتي وكرامة الخِلفة التي لا بد منها. كنت أكره، من حيث المبدأ، ما تسمّيه حكومتُنا شرف الإعارة إلى البلاد العربستانية الشقيقة، وتعتبر ذلك جزءاً من توجهاتها القومية تجاه هذه البلدان التي تُعاني من تَصَحُّر إيديولوجي شديد.

- أرى بركان العضلات يُخفي بركاناً آخر.

- يا أخي، هل نحن بشرٌ أم أشياء تُعار وتُقرض؟ قل لي، لماذا تتعامل حكوماتنا المتعاقبة وكأن تحسين دخل مواطنيها هو واجب الحكومات الشقيقة، بينما تحسين دخل حكومتنا هو واجبنا نحن؟ مقابل ماذا؟ لماذا لا يُعير وزراؤنا أبناءهم للقضاء على ذلك التصحُّر الإيديولوجي المزعوم لدى بقية الأمة؟

- لقد توقعتُك احتللت مكاناً عليّاً هناك، لكني أرى أنك كبرميل بارود.

- لا لم يحصل هذا. لقد اتصلوا بي في الأول من نيسان لتحديد موعد المقابلة في الخامس من حزيران. كان عليَّ أن أعرف النتيجة سلفاً. كان أحد معارفي قد زكّاني لدى صاحب المقام، فذهبت في الموعد المشؤوم، بينما كانت محطاتنا الفضائية الطالعة على الدنيا حديثاً تلوك بصوت مثقوب وعيداً قديماً، "ويلَك يلّي تعادينا، يا ويلك ويل!"

- طبعاً، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة.

- كما قلت لك، ذهبت في الموعد المشؤوم. تصبب عرقي واضطربْت. تجاهل صاحب المقام تحيتي، وظلَّ يقلِّب أوراقاً أمامه وحين شخص بناظريه الثاقبين نحوي وجدتُ نفسي أتهاوى على المقعد الذي لم يأذن لي صاحب المقام بالقعود عليه. وأعتقد أنه لم يغفر لي تلك الهفوة البروتوكولية.

- وكيف مضت البقية؟

- سألني عن اسمي الرباعي، وعن أعمامي وأخوالي، وعشيرة خالتي، زوجة أبي الأولى رحمة الله عليها.

- لا بد أن صاحب المقام متأثر ببرنامج "من سيربح المليون؟" فجاءت أسئلته على هذا النحو من باب التشجيع والإحماء.

- انتظر يا صاحبي. فصاحب المقام لم يزدني إلا سؤالاً واحداً بعدها. كان سؤالاً نزل عليَّ نزول الصاعقة. سألني: "هل صفحتك السياسية بيضاء من غير سوء أم ماذا؟" حاولتُ أن أبلع ريقي فلم أجده. حاولت الكَرَّة ثانية، فوجدت لساني قد تخشَّب. قلت في نفسي إن هذا ليس سؤالاً، بل مصيدة. هذا مطب، يا لبيب. حار دليلي، وبعد تفكير لا أعلم كم طال، أسعفتني الفطنة وهممت أن أقول: "يا صاحب المقام، إن كنت تظنني من جماعة تروتسكي أو من جماعة بن لادن، فلْيكن بالُك مطمئناً."

- وهل قلت له ذلك؟

- لا، لم أتمكن من ذلك. لم أجد لساني في حلقي. كان قد غادر أخاك اللبيبَ الفصيحَ لسانُه. غادرني كحمارٍ وجد سياج الاسطبل مهتوكاً. أضف إلى ذلك أن سكرتير صاحب المقام دخل ليخبره أن المادِمْوازيل نواعم، مقدمة برنامج "مسؤول ع الهوا،" قد وصلت. قلت في نفسي: "فما مُقامي بأرض نخلةَ إلا كمُقام المسيح بين اليهود." وقفتُ، وظلَّت عشراتُ العبارات المضطربة والأفكار الفجة حبيسةً في قعر حلقي. فُتِح الباب ودخلت المادِمْوازيل نواعم تتقدم فَيْلَقَي صدرها كتيبةٌ من العطور تصمُّ الأنوف. تراجعتُ إلى الوراء، فالبروتوكول يقضي ألا تكون مؤخرتُك، ولا سيما إذا لم تكن من موديل مؤخرة المادِمْوازيل نواعم، آخر ما يراه أصحاب المعالي. وبينما أنا أتراجع بخطوات مرتبكة، دخل المصور يجر حبال الكاميرا وراءه. وعندما قدَّرتُ أنني بلغتُ الباب، هممتُ أن أنتدب يدي عن لساني كي أشكر صاحب المقام. لكن المصور سحب بعنفٍ حبال الكاميرا التي كنتُ قد حططتُ عليها أثناء رحلة عبوري إلى الحرية والفقر، فوقعتُ على مؤخرتي التي استقبلتْها برودةُ المرمر الوردي بشعور لذيذ.

- الحمد لله على سلامتك!

- وظلَّت قهقهاتُهم تطنُّ في أذنيَّ أياماً، ولم أُشْفَ مما أنا فيه إلا حين طرحتني جدتي أرضاً، بعد أن جمعت عليَّ عجائز الحي طبعاً، وصبَّت علي طاسة الرعبة.

- سمعت أن هذا علاج ناجع مجرَّب، وكانت تستعمله نانسي ريغَن مع زوجها.

- لا بد أنه كان يرتعب من تعلقها بصديقها المغنّي فرانك سيناترا!

- هذا ليس من اختصاصي، ثم إني لا أخوض في أعراض الناس، حتى وإن كانوا من الأمريكان. على أية حال، سُررتُ بمصادفتك بعد كل هذا الغياب. لن تُفلت مني الآن. فأنا أعرفك: تَغُطُّ دفعة واحدة كأهل الكهف.

- لا، لن أغُطَّ بعد اليوم. أما الآن، فأرجوك أن تسمح لي لأنني تأخرت على الجِم، وسنلتقي في المساء.

- مَن هذا الجم؟

- إنه مكانٌ أمارس فيه رفع الأثقال.

- أنت المترجم واللغوي المعروف تمارس رفع الأثقال؟

- وكيف أتت هذه العضلات، إذن؟

- هذه أول مرة أسمع فيها أن مترجماً يمارس رفع الأثقال! هذه أشغال شاقة وليست رياضة.

- دعني أصحح لك بعض معلوماتك التي أكل عليها الدهر وشرب. أولاً، أنا لست معروفاً إلا للقلة من أمثالك. وهذه القلة، بلا مؤاخذة، أصبحت كالديناصورات في أواخر العهد الجيوراسي. نحن نعيش في غير عصرنا. نحن ميتون سريرياً. كان المترجمون أيام زمان يأتون إلى الخليفة بما يترجمون، فيعطيهم وزن مترجماتهم ذهباً. لقد أوشكنا على الانقراض يا صاحبي.

- وثانياً؟

- وثانياً، لأن رفعي للأثقال ضرورة لمواكبة نبض الحياة العصرية.

- أنت تتكلم كالتلفزيون.

- يا أخي، أنا أعمل هنا في جامعة أهلية معروفة للقاصي والداني بكثرة الطوشات فيها. وهذه الطوشات كأعيادنا الوطنية التي ما إن ننتهي من الاحتفال بواحد منها حتى يحل علينا عيدٌ ميمون آخر. ولهذه الطوشات نوعان: طوشات بين الطلاب، وعادةً ما تكون بسبب بنتٍ تكلم شاباً من العشيرة المعادية، أو بسبب مباراةٍ في كرة القدم خسرها فريقٌ له بين الطلاب أنصارٌ ذوو حَمَيِّةٍ جاهلية. أما النوع الثاني من الطوشات، فهو بين الطلاب والأساتذة.

- أُف! وصَّلت لحد هون؟

- نعم. طبعاً، الأستاذ هو الخاسر لأنه المتحول في حسابات الجامعة، بينما الطالب هو الثابت. والزبون دائماً على حق، كما تنص لائحة حقوق السوق العربية. أنت أستاذ اقتصاد وتفهم هذه المصطلحات. أما الأسباب فهي عديدة تدور معظمها حول علامة متدنية أو موعد امتحان لا يتناسب مع نشاطات الطالب اللاصَفِّية.

- لكن ما علاقة كل هذا بذهابك إلى ... ماذا تسميه؟

- كانت لي بعض التجارب، وتبين لي أنه لم يعد أمامي من خيار سوى قوة ذراعي. إنها كعصا سيدنا موسى. لم أستخدمها حتى الآن، وأتمنى ألا يأتي يومٌ أضطرُّ إلى ذلك.

- خير إن شاء الله.

- في يوم من الأيام، كنت أعطي محاضرةً في حوالي الثالثة عصراً فسمعت أصوات فرقعة أمام باب القاعة المغلق. خرجتُ فوجدت طالبين كل واحد منهما بحجم ثور. كان كل منهما يقف في طرف من الممر ويتقاذفان علبة ببسي فارغة. جُنَّ جنوني، صرخت فيهما، وإذ لا حياءَ لمن تنادي. ظلت علبة الببسي تطير من جانبيَّ ومن فوقي ومن بين رجليَّ. وعندما اصطدمتْ بي، قال لي أحدهم: "وَلَكْ يا زَلَمِة، رَوَّحتْ علينا الجول. فوت على قاعتك ولا تِتْخَوَّتْ على ...نا."

- أنت ترعبني بهذا الكلام. ماذا فعلت؟

- أوقفتُ المحاضرة وصرفتُ الطلاب. وفي صباح اليوم التالي، ذهبت إلى الدكتور وكيع، رئيس القسم، لأشكو له سوء حالي، فأرشدني إلى ترك المعاصي! قال لي: "استوعِبْ يا عم، استوعب!" تكررت المشكلة عدة مرات، فذهبت إلى الدكتور بديع الزمان عجيب، عميد الكلية والمساهم بنصف رأس مال الشركة المالكة للجامعة، وبعد أخذٍ وشَدّ، احْمرَّ واصفرَّ، ثم نطَّ وامتط، وقال: "إيه، إيش تريدني أساوي؟ إنتَ ما بْتِعْرَف إنّو هظول من السلْط؟"

- ما هي السلط؟

- منطقة غرب عمّان يشتهر أهلها بالمشاكسة.

- وهل كان هذان الطالبان فعلاً من السلط؟

- لا أعرف، لكن ما أعلمه علم اليقين هو أن المُرْجِفين يصورون السلطيين وكأنهم فوق القانون، وهم ليسوا بالضرورة كذلك. هؤلاء الجبناء يظنون أن بإمكانهم إرهابَنا بهذا البُعبع الأسطوري.

- وكيف حَلَلْت المشكلة؟

- حُلَّت من تلقاء ذاتها. انتهى العام الدراسي ولم أرهم بعدها. لكنه في العام التالي، حدث ما هو أسوأ من هذا لأحد الزملاء العراقيين الفارّين من بطش صدام وعقوبات كلينتون الذكية.

- وهل هناك ما هو أسوأ من هذا؟

- نعم. قام أحد الطلاب بضرب أستاذه في ساحة باصات الجامعة لأن الطالب رسب عند هذا الأستاذ في الفصل الثاني من العام السابق. لذلك انتقم منه في أول سانحةٍ من العام التالي، ولولا تدخُّل سائقي الباصات، لَكُنّا قرأنا الفاتحة على روح المرحوم منذ فترة.

- وماذا فعلت إدارة الجامعة؟

- فصلت الطالب! لكنه في اليوم التالي توجَّه زعماء عشيرة الطالب المفصول إلى مجلس إدارة الشركة المالكة، وخيَّروا المجلس بين أمرين أحلاهما مُرُّ: إما التراجع عن قرار الفصل أو انتقال جميع أبناء العشيرة المسجلين في الجامعة إلى جامعة أهلية أخرى، وما أكثرها.

- يا رجل، أنت تُبالغ. هذا خيال علمي!

- بل واقع، ولكنه واقع شبه سحري نعيش تجلياته كل يوم في الجامعات الأهلية بأشكال مختلفة. هذه هي آخر تقليعات العولمة. الحوت الكبير يبلع الحوت الصغير.

- ما الذي حدث؟

- اضطر رئيس الجامعة، بأمرٍ من رئيس إدارة الشركة، إلى بلع قراره القاضي بفصل الطالب. لكنه، والحق يُقال، استبدله بقرار تسريح الأستاذ.

- عفارم عليه! أخي، الله يرضى عليك، خذني إلى هذا ... ماذا تسميه؟

- وما حاجتك إلى الجِم وبناء الأجسام؟ لقد وصلتَ لتوِّك.

- لا أعرف حاجتي إلى ذلك بعد. لكنه، كما نقول نحن الاقتصاديين، استثمارٌ في المستقبل.

أضيفت في 03/12/2006 / خاص القصة السورية

 

 

 

أبانا الذي في الفاتيكان

 

أصر على لقائي، وألح في الطلب. أراد عنوان بيتي ليتشرف بزيارتي، التي يأمل في أن تكون فاتحةً لزيارات متكررة ومتبادلة. استعذت بالله وفوضت أمري إليه.

كنت على شفا حفرة من الانتقال من شقة في بناية متهالكةٍ إلى شقة في بنايةٍ جدرانُها أشد تماسكاً وسكانها أكثر تفاعلاً مع ما يستجد على الساحة الفنية من أغان ومواويل تراثية بأردية حداثية. كانت ابنة جارتنا شهرزاد وأخواتها الصغيرات، في بنايتنا الجديدة، تُشنِّف آذاننا بأغنية "سمرة وانا الحاصودة" من الساعة الواحدة بعد منتصف الليل حتى الثالثة والنصف صباحاً، بينما الكعوب الراقصة تكاد تخترق السقف الإسمنتي الذي يستر عُرينا البدائي ويحول دون التحامنا في طقس تَمّوزيٍّ من النشوة والتمزق. كنت أُطلق كل ليلة شتيمتين أو ثلاثاً بحق جيراني الإرهابيين، وأتذكر أبناء عمومتنا في غوانتانامو. ويظل صُداح علي الديك يُلَعْلِع إلى أن تُسكِته ديوك الصباح، فتسكن البنت اللعوب، وترتخي الأجساد، فتهدأ الكعوب، وتنام شهرزاد.

-ألو، نعم. من؟

-ألم تعرف صوتي؟ أنا الأستاذ أبو النابغة.

-الذُّبياني؟

-أشكرك على هذه المداعبة الظريفة، يا دكتور. أين أنت الآن؟

-لقد خرجنا لتونا من طرطوس.

-إذن ستصل اللاذقية بعد المغرب.

-إن شاء الله.

-أريد أن أتشرف بلقائك. فأنا أتلهَّف للقياك على أحرٍّ من الجمر.

-أعتقد أن زوجتي أحقُّ منك بهذا الشواء. لقد تركتُها منذ الفجر ذاهباً إلى دمشق.

-أعلم ذلك، فقد اتصلت بها عدة مرات لتعطيني رقم جوالك. أين البيت لأزورك وأبارك لك فيه؟

-يا أخي أنا مرهَق. لم أنم سوى ساعة واحدة ليلة أمس. قطعت مسافة سبعمائة كيلومتر ذهاباً وإياباً في هذا القيظ الحارق. وأنت تُصرِّ على لقائي اليوم؟

-نعم. ولا مفرَّ لك من ذلك.

-ليكن ذلك في مقهى السويس، إذن.

-في السويس؟

-في التاسعة تماماً. ستعرفني من قميصي المتسخ.

في مقهى السويس كان ينتظرني كصاحب بقرة تحتاج إلى تلقيح من ثورٍ في القرية المجاورة: أشيبَ الشعر، متهدلَ الشفتين، كالح َالوجه. ظننته خارجاً من تحت الأنقاض، أو مسَّه تسونامي متوسطي. كان المقهى يعج بزبائنه من المثقفين، والمفلسين أدعياء الثراء، وأنبياء الثورة الجدد، والبسطاء الذين يتكلمون الصليباوية على أصولها مع كل نَفَس أركيلة.

-لم أتوقعك بهذه السن، يا دكتور.

-أرجو ألا يكون في ذلك بأس.

- بل على العكس. لقد ازددت بك إعجاباً وتقديراً. لكن الغريب أن الرفيق أمين الفرع لا يعرفك.

-وما وجه الغرابة؟ لم أقف على بابه يوماً لأستجدي منه منصباً أو لأقدم له تقريراً بأحد الزملاء. والله لا أعرف أين مكتبه!

-ولكنكما في نفس الجامعة، وهو مُعلِّمُك.

-اسمع، قد يكون معلِّماً لأمثالك لكنه لن يكون أبداً مُعَلِّماً لي.

-لم أقصد الإساءة، يا دكتور. أرجوك، سامحني. فما أنا إلا مثل أخيك الأكبر.

-ليس عندي شك أنك تود لو كنت بمثابة الأخ الأكبر لي.

أخرج ورقة مطوية وملفوفة بشريط أرجواني من حقيبة يدٍ جلدية، ودسَّها بين يديَّ. طلب مني أن أتكرم عليه بقراءتها. أخذت الورقة ورحت أقرؤها بصمت.

-أريد أن أسمعها برنة صوتك الشاعري الجميل الذي حكى لي عنه كثيرون.

-ولكنها من نَظْمِك أنت، وأنا لم أقرأها بعد. أعطني على الأقل فرصةً لقراءتها.

فعل ذلك لما رأى عدم استجابتي لطلباته المُلِحَّة.

-إنها، كما ترى، من شعر المناسبات. لقد كتبُتها بمناسبة زيارة قداسة البابا يوحنا بولص الثاني للقطر، وقد دبَّر لي ابن عمَّي المحافظ لقاء مع قداسته وقد ألقيتها على مسامعه، فنالت إعجابه لإشادتها بمواقفه النبيلة تجاه قضايانا العادلة، كما أنني أبرزت فيها أن بلادنا هي مهد المسيحية والجسر الذي عبرت عليه إلى أوربا.

-ولكنك لم تقل شيئاً لا يعرفه قداسته.

-ولكنني قلت ذلك شعراً.

-نعم، وما أنصفَ القومُ ضبَّة.  قل لي: منذ متى ظهرت عليك عِلَّة الشعر؟

-الحقيقة، هذه أول قصيدة لي. لكني أقول لك الحقيقة إن ضيعتنا مليئة بالشعراء. في كل بيت شاعر. لقد أفنيت سنيَّ عمري في تعليم أولاد الضيعة في الصباح والزراعة بعد الدوام. بصراحة أكثر، كتبت القصيدة بناءً على تشجيع من أحد تلامذتي، وهو شاعر موهوب، يعمل في وزارة السياحة. وبالفعل منحني البابا أيقونةً نحاسية ذات قيمة، مكافأةً على يتيمتي تلك. لقد علقتها على مدخل بيتي المتواضع، وستراها إن شاء الله عندما تشرفني بزيارة.

انحنى فوق الطاولة الصغيرة التي بيننا وأشار عليَّ أن أمدَّ رأسي بالمثل كأنه يريد أن يفشي سراً خطيراً: "بالمناسبة، الرفيق أمين الفرع كان واحد من اللي علَّمتُن. بس هالحكي من شي تلاتين سنة." تراجع رأسه إلى الوراء وتراجعت.

-ما المطلوب مني؟

-أريدك أن تترجم القصيدة؟

-هكذا، دفعة واحدة؟ لماذا؟ إنها قصيدة مناسبة، ولا أخوات لها بعد. لقد أدَّت غرضها باعترافك أنت.

-أجل، ولكن معرفة قداسة البابا باللغة العربية لا تصل إلى حد المقدرة على تذوق الجماليات التي تزخر بها هذه اللغة العريقة.

-ألَم تقل أنت، بعظمة لسانك، إنها نالت إعجابه وكافأك عليها؟

-نعم، قلت ذلك.

-إذن، لا حاجة لترجمتها. أليس البابا كاثوليكياً؟

-بلى. لكن لا أفهم ما تقصد.

-ما دامت قصيدتك نالت إعجاب أكبر راعٍ للكنيسة الكاثوليكية في العالم قاطبة، فهذا يعني أنها نالت إعجاب أكثر من مليار شخص من أتباعه بشكل تلقائي. أنت يا رجل، بل يا أبا النابغة، تتربع على عرش الشعر. إن مبيعات أي واحد من دواوين نزار قباني، رحمه الله، لم تبلغ أكثر من ثلاثة آلاف نسخة. أما أنت، فالعالم الكاثوليكي كله وراءك.

-الله يُجبر بخاطرك. والله ما خطر لي هذا على بال.

-يا أستاذ، هل تعلم أن كلمة كاثوليكي في الإنكليزية هي مرادفٌ لكل ما هو عام وشمولي؟

-والله؟

- بيني وبينك ابنُ منظورِهم. أقصد، نوح وِبستَر. 

سُرَّ أبو النابغة بما جاد به لسانُ حالي الناطق بالتعب، واقترحت عليه أن أكتب بعض الأبيات أرسلها شخصياً إلى البابا عن طريق سفارة الفاتيكان في دمشق، لكي يعلم قداسته أن ما سمعه من الأستاذ أبي النابغة ليس حالة استثنائية جاءت وليدة لحظتها. أخرجتُ قصاصةً من الورق، وخربشتُ عليها كلماتٍ عجلى قلت له إنها تُشيد بمواقف قداسته النضالية مع الكادحين المتعبين:

أبانا الذي في الفاتيكان،

تقدَّس اسمُك.

ماضٍ فينا حُكمُك،

في الشعر كما في النثر،

يا... يا... يا...

يا مُغيث المتُعبين.

 

 

العُطْبَة

 

منذ سنين بعيدة عاد أبي من إقامة قصيرة في قرية الكافات الواقعة شرقَ مدينة حماة ليروي لنا قصة طريفة عن سوء تفاهم حصل بينه وبين أحد أبناء القرية المذكورة بسبب اختلاف اللهجات. كان أبي قد ذهب بأخي ناجي إلى تلك القرية بعد أن يئس من أطباء الحَضَر في معالجة ساق ابنه من "حيَّة الهَوا" التي أصابته قبل ولادته. يومَ كان بابازْيان، طبيب حلب الأرمني الشهير ومحبوب الجماهير الريفية على ضِفَّتَيْ الفُرات من جَرابْلُس إلى البوكمال، على قيد الحياة لم يجد أبي مشقة في الذهاب إليه، كما فعل قبل سبعة عشر عامًا لإجراء عملية لابنه ذي الثمانية أشهر. أما الآن، فقد مات بابازْيان، ولم يعد أمام أبي سوى "طب العرب."

لم يعرف أبي أيهما أصعب عليه: موت بابازْيان أم معاودة المرض لابنه بعد كل هذه الهدنة الطويلة. فاحتار فيما يفعل. اجتمع أهل قريتنا، ومعظمهم فلاحون وعمال، وأصبح كل واحد منهم فجأةً مختصًا بهذا المرض أو ذاك، لكنهم امتنعوا عن كتابة الدواء المناسب لعلة أخي، لأنهم لا يملكون راشيتات مثل التي يكتب عليها عبد السلام العجيلي الدواء لمرضاه، ولأنهم لا يعرفون الكتابة أصلاً.

أما مَن رَدَعَهُ التواضع عن انتحال صفة استشاري في كذا وكذا من مجالات الطب من أهل قريتنا، ومن بينهم آخرُ زوجةٍ من زوجات جدي لأبي، فقد أحال أبي بحركةٍ واحدةٍ من يده إلى قرية الكافات، حيث "طبيب العرب" إبراهيم حيدر الذي يعالج حَيَّة الهوا وسواها من الأمراض التي تستعصي على أطباء الحَضَر الخايبين. عندما رأى أبي الأيدي المُستنكرة الناصحة، وهي تُقَرِّب مسافة 400 كيلومتر بحركةٍ رشيقةٍ واحدةٍ قائلةً، "هذي الكافات: عند إذني،" هانت عليه مشاق السفر، لكنه لم يتبين الرُّشْدَ إلا ضُحى الغَدِ. وصل أبي إلى الكافات، خائرَ العزم، منهوكَ القوى على نحوٍ لم تُصَوِّرْه حركاتُ الأيدي المستهجنةِ اللائمةِ، كما لم تنبِّهه إلى مشقةِ عودةٍ طولها 400 كيلومتر أخرى. وهناك تبين لأبي أن أخي يعاني من روماتيزم في المفاصل، أي عنده "ريح" بمصطلحنا الفُراتي الدارج. لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا مرضٌ يصلح لعلاجه أطباءُ الحَضَر أيضًا، وهم موجودون في مدينة الرقة التي لا تبعد عن قريتنا سوى خمسين كيلومترًا.

أما ما دفع أبي في الحقيقة لقطع مسافة 800 كيلومتر ذهابًا وإيابًا بدلاً من 100 فهو رغبته في الهروب من مواجهةٍ عاصفةٍ لا بد منها مع أطباء الحَضَر: كان جلد أخي لا يزال يحمل قروح العلاج بالعُطبة التي يزعم أتباعُها ومُريدوها أنها تصلح لكل الأمراض، وكأنها پانَسِيّا الإغريق. ويتألف هذا العلاج الأبوغْريبي من وضعِ لُفافةٍ قماشيةٍ أو أكثر على مَظَنِّ الداء من جسد المريض، ثم تُشْعَل من رأسها، وَتُثَبَّت بملقَطٍ من حديد أو ما شابهه، وتظل تحترق ببطءٍ إلى أن ينطفئ عَقِبُها في الجسد العليل. وقد يستغرق احتراق العُطْبة ساعةً أو أكثر، يتحول خلالها أثرُ اللفافة الحارقة إلى حرقٍ من الدرجة الثالثة في بعض الأحيان. وهذه المدة، بالإضافة إلى ضرورة تثبيت أطراف المريض من قِبَل أربعةِ رجالٍ ذوي بأسٍ شديد، كفيلةٌ بأن تجعل المريضَ يدّعي أنه شفي لئلا يخضع لعُطْبَةٍ أخرى في أماكن أخرى من جسده على يَدَيْ مُعَطِّبٍ آخر.

لحسن حظ أخي أن طبيب العرب عالجه بطريقةٍ رحيمةٍ وناجعةٍ قطعت دابر الداء إلى يومنا هذا. ولم يكن شفاءُ أخي المكسبَ الوحيد لأبي من قرية الكافات، إذ جلبت لنا رحلتُه تلك لفظةَ الروماتيزم الإفرنجيةَ، التي اختصرها أبي إلى روماتيز، وحكايةً طريفةً هَوَّنت عليه وَعْثاءَ السفر وَطَوَتْ عنه بُعْدَه. أما اللفظة فصارت تُزاحِمُ مفردةَ "الريح" بل تُقصيها من تَداوُلِنا اليومي. ورحت أنا ألوكُ هذه اللفظة بلساني الطفولي، مُعتدًّا بمكسبي اللغوي-الطبي الجديد. بصراحة، أصبح مرضُ أخي مفخرةً شخصيةً لي لأن له اسمًا طنّانًا، وهو، برأيي الطبي الرافض سِرًّا شرحَ أبي أعلاه، غيرُ "الريح" الذي يصيب عجائز قريتنا وشيوخَها ولا يشفون منه. وكان إذا سألني الأولاد الآخرون ممن ليس في عائلاتهم مريضٌ بالروماتيز عن معنى هذه اللفظة، أشفقتُ عليهم من جهلهم باللغة والطب الحديث.

كان طبيب الكافات قد أوصى أبي بالبقاء عدة أيام لمتابعة حالة مريضه بشكل يومي. وهنا برزت مشكلةُ أين يقيم أبي وأمي وأخي وعمي محمد في هذه القرية. كانت مشكلةً لم يحسبوا لها حسابًا، إذ ظنوا أنهم سيعودون في يومهم إلى قريتهم. فسأل أبي الحائر أولَّ رجلٍ صادفه خارج عيادة الطبيب عن مأوىً يؤويهم بضعة أيام، فإذا به يشير على أبي بالذهاب إلى المَنْزول. وهنا اخترط أبي عِقالَه ليضرب به هذا السفيه الوقح، لولا تدخلُ عمي ومبادرةُ الرجل للاعتذار. أدرك الرجل على الفور أن لكلمة "منزول" (أي، المَضافة) في مفهوم هذا القادم من ريف الفرات معنى قبيحًا أثار حفيظته. وهي بالفعل كذلك، إذ تعني عندنا "بيت الدعارة،" وهي بالأصل من صادرات مدينة حلب إلينا.

لم يكن أبي عالِمًا لغويًّا ولا خبيرًا في اللهجات، لذلك جاءت ردة فعله ملائمةً لما ظن أنه إهانةٌ له. وللأمانة، وقبل هذه الحادثة بسنين، حاول أبي ذات يومٍ أن ينفتح على اللهجات الأخرى، وبالذات على اللهجة الحلبية، إلا أن شرطيًا ردعه شرَّ ردعٍ عن غِيِّه. كان أبي عائدًا إلى الرقة من سفرة إلى حلب دامت يومًا وليلة، تعلَّم في أثنائها لفظة "فَسْط،" وهي، فيما يبدو، تعريبٌ لكلمةٍ تركيةٍ مُحَرَّفةٍ أصلاً عن كلمة "وسط" العربية. وعندما توقفت سيارة التكسي التي يستقلها أبي وغيره من الركاب عند حاجز أبو قبيع الأمني (الذي لا يبعد كثيرًا عن موقع معركة صِفّين التاريخية)، وسأل الشرطي أبي عمّا يحمله في الصُّرَّة التي معه، ردَّ عليه أبي بلسانٍ حَلَبِيٍّ فصيح: "ما فَسْطا شي." فإذا بالشرطي يرد على أبي بلسانٍ فُراتيِّ مُفْحِمٍ مُلْجِم: "بْساعْ صِرْتِ اِحْلِبي؟ يَوَلّ، مو البارح غَرَّبْت مِنْ هين بْهاي التكسي؟"

كان أبي يظن أنه لا يوجد واحدٌ من أبناء العرب الأصلاء يرضى أن يعمل شرطيًا، هذا من جهة، ومن جهة أخرى أراد أن يستخدم اللهجة الحلبية تسهيلاً للتواصل مع من ظنَّ أنه من حلب. وهكذا كانت كلمة الزجر "يَوَلّ" التي سمعها أبي من ذلك الشرطي كافيةً لإحباط جهوده أبي المبكرة في الانفتاح على الآخر وحوار أتباع اللهجات.

مات أبي، رحمه الله، بعد 11 سبتمبر بسنتين تقريبًا وفي نفسه شيءٌ كأثر العُطْبة من ذلك الشرطي الزنيم.

 

أضيفت في 03/06/2005/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية