زيارات سرية
كان هناك ولد صغير ، لم يكن فمه تحت أنفه كبقية الناس ، كان في جانب
وجهه ، تقريبا تحت خده ، لم يكن شكله بشعا ، أو مقززا ، لكنه كان غريبا ،
وغير مألوف . وكان هذا كافيا ، لأن تبص عليه العيون الجديدة ، لفترات طويلة
، وهى تتمتم بأدعية هامسة ، بينما عيون ناس الحتة ، كانت قد تآلفت على ذلك
، بحيث لم يعد يمثل لها أي نوع من الدهشة .
الولد لم يكن يشعر ، بأن هناك شيئا غير عادى في جسده ، كان يستطيع
الكلام ، نعم ، كانت بعض الحروف تتآكل ، ويتساقط منها فتات قليل ، المهم ،
أن الآخرين كانوا يفهمون كلامه . كان قصيرا ، وبدينا ، مع أنه أول من يقوم
من على الطبلية ، تاركا إخوته الطوال ، النحاف ، الذين يمتلكون أفواه تحت
أنوفهم ، يلتهمون بقية الأكل . رغم ذلك ، كان ذكيا ، ولماحا ، فقد علم نفسه
أشياء كثيرة ، منها مثلا ، كيف يضحك كبقية الخلق ، ويدخن السجائر ، التي لم
يكن يشتريها أبدا .
السيدات في الشارع ، كن يقلن انه : " مبروك " . ربما هذا هو السبب ،
الذي جعل أمه ، تعرفه منذ صغره على طرق الجوامع ، مستمتعا بفرش الحصر
للمصلين ، ثم لمها بعد الصلاة .
وكن يقلن أيضا وهن يتسامرن ، عند الأرملة الشابة بائعة الخضار ، انه
: " طيب " . لكنه بعد أن كبر قليلا ، اكتشف انه ليس مبروكا ، ولا طيبا ،
فلم يعد يروح إلى الجامع ، ولم يعد يصلى ، كان ذلك منذ أن بدأ عضوه يؤلمه ،
العضو الذي في حجم نواة بلح ، والمندس بين طيات لحمه ، وكان يقضى وقتا
طويلا ، في عرك ما بين فخذيه ، غير مبال بتقديم تفسير مقنع لأخوته
المتذمرين ، من طول مكوثه في الحمام . وبدأت بنات كثيرات من شارعه ، ومن
شوارع أخرى مجاورة ، وأخريات لا يعرفهن ، يزرنه في أحلامه . كن مرحات
وطيعات ، وكن يقلن وهن يداعبن شفتيه بأطراف أصابعهن : إن فمه جميل . كان
هذا يسعده كثيرا ، أما ما كان يؤلمه حقا ، فهو مواجهته بالرفض القاطع ،
عندما تروح أمه ، التي صارت أرملة من فترة ، لطلب أيديهن ، قائلات لأمهاتهن
في قرف : إنهن يردن رجلا حقيقيا ، وإنهن بعد طول الصيام ، لن يفطرن على
بصلة .
أخوته الطوال ، بدءوا واحدا وراء الآخر، يفتحون بيوتا خاصة بهم ،
تاركيه في البيت وحيدا مع الأم ، وأخذوا يبعثون به إلى المآتم ، ممثلا
للعائلة في تقديم واجب العزاء ، وزيارة المرضى الميئوس من شفائهم . بينما
اكتفوا هم بالرواح إلى مناسبات الطهور ، والسبوع ، والأفراح ، وانتهاء فترة
الجيش ، ورجوع الغائبين في بلاد الغربة .
الجارات الحكيمات ، اقترحن على الأم الحزينة ، أن تبحث عن واحدة
عندها ظروف ، كأن تكون عرجاء مثلا ، أو عوراء ، أو عمياء . حتى هؤلاء سرعان
ما كن يرفضنه ، قائلات : إنهن يفضلن أن يعشن عزباوات .
الأم المكلومة كانت تتربع على كنبة الصالة ، تضع خدها ، على يدها
كثيرا ، وتفكر ، ثم بدأت تعامله كرجل حقيقي ، صاحب بيت ، لا تنام حتى يعود
من مشاويره ، تحضر له الحمام ، وتدعك ظهره ـ الذي لم يطله أبدا ـ بالليفة
، ولا تزور جاراتها حتى تأخذ الأذن ، تساعده في ارتداء الجلباب المكوي ،
وتدعو له بالسلامة ، وبأن يوقف له الله في طريقه أولاد الحلال ، وان يبعد
عن سكته أولاد الحرام .
بينما الولد ، لم يعد يلق بالا لشيء ، فقد انشغل بتدخين السجائر ،
التي لم يكن يشتريها أبدا ، والحرص على القعود في أول صف ، في سرادقات
العزاء ، ومجالسة العجائز ، المشغولين بسرد الحكايات القديمة . مكتفيا بتلك
الزيارات السرية ، التي تتم حسب الظروف ، لبنات شارعه ، والشوارع المجاورة
، وأخريات لا يعرفهن ، المتزوجات منهن وبنات البنوت ، مستمتعا بأنفاسهن
التي تلفح جسده ، وبأطراف أصابعهن وهى تمر ببطء ، وتتحسس شفتيه .
صورة باهتة للعذراء
كعادتي كل يوم .. أطلع من البيت قبل الظهـر ، أصل إلى دكانـة " أبو
سعيد الخياط " . كان منكفئا على ماكينة الخياطة القديمة ، تحت الصورة
الكبيرة للعذراء ، وهى راكبة على حمار ، وبين ذراعيها المسيح ، وخلفهما
يسير في صمت يوسف النجار ، يحمل على كتفه عصا ، معلقا في آخرها صرة . تلك
الصورة ، التي بهتت ألوانها كثيرا ، وما زالت في نفس مكانها على الحائط ،
منذ أن كنت صغيرا ، أحضر إلى دكانته ، ليأخذ مقاس جلابية العيد .
يعتدل في جلسته ، يبص على الشــــارع ، فأرفع يدي لأعلى ، أسمعه
يقــول : " تفضل " . وهو يمد يده للراديو ، المحطـوط بجواره ، يرفع الصوت
قليلا ، ويستمع لموجز الأنباء .
أمشى في الشارع الضيق ، متفاديا روث الحمير ، وعيال المدرسة
الابتدائية ، الذين يتعاركون ، ويرمحون وراء بعضهم ، حتى أصل إلى قهوة "
حجاج الأعور " . أجد خارجها بعض الزبائن ، يدخنون الشيشة ، ويلعبون
الدومينو ، ألقى نظرة سريعة بالداخل ، ثم أقعد في ركني المفضل ، بجوار ضلفة
الباب ، والغارق في عتمة خفيفة ، والمطل على ساحــة صغيرة ، تمتلئ بعربات
الكارو ، المرصوصة بحوار كشــك الجرائد .
يصيح "حجاج الأعور " ، وهو مقرفص على الأرض ، مشغــولا بتنظيف شيشة
: ثواني والينسون يكون جاهز ..
يقول " عصام " المغرم بقراءة كتب الأعشاب : إن الينسون يفيد القدرة
الجنسية للرجال ، لكن الإكثار منه ، يؤدى إلى نتيجة عكسية ، كوب أو كوبين
في اليوم يكفى .
بحركة عفوية ، أكررها كثيرا ، أمد يدي إلى جيب بنطلوني الخلفي ،
أتحسس وجود محفظتي في مكانها . بالأمس قمت بعملية جرد دقيقة لمحتوياتها ،
وجدت بها ، كارنيه نقابة التجاريين ، عضو غير عامل ، مسلسل رقم 536221 ( لم
أدفع الاشتراك ، منذ خمس سنوات ) .. سورة يس ، اشتريتها من امرأة مقابل ربع
جنيه منى ، وبعض الدعوات بالستر والصحة منها .. كيس صغير ، يمتلئ بصور
رفاقي ، في الخدمة العسكرية ، ممهورة من الخلف بأسمائهم ، وعناوينهم
.. تمغات من مختلف الفئات والأنواع .. آخر جواب مـــن س ( مازلت أحتفظ به ،
منذ أن أرسلته مع صديقتها م ، قبل زواجها بأسبوع ) . كانت تعتذر فيه ،
وتبرر الأسباب التي أدت بها إلى القبول ، بالعريس الجاهز ( حفل جوابها
بعبارات كثيرة من نوعية : القسمة والنصيب / العمر بيجرى / الضغوط على كتير
/ موقفي صعب وحرج / أكيد أنت فاهم وحتعذرنى ) .
من ركني الاستراتيجي ، الذي يتيح لي ، مشاهدة ما يحدث في الخارج ،
دون أن يراني أحد ، ألمح الجرائد ، وقد وصلت توا من الأقصر ، يحملها "
ممدوح " فوق كتفه ، وظهـر جلبابه مبلل بالعرق ..
آخذ رشفة من الينسون ، ثم أذهب ، وأشترى الأهرام ، أقرأ بدقة أعمدة
الوظائف الخالية ، وعندما لا أجد شيئا ، أطالع صفحة التليفزيون ، مستعرضا
أفلام السهرة ، أضع الجورنال على حجري ، وأكمل شرب الينسون ، وأنا أبص إلى
الخارج .
كانت هناك ، بنت نحيفة ، قمحية ، من المدرسة الثانوية ، واقفة في ظل
جدار البيت القديم ، المواجه للقهوة ، بجوار عامود النور ، وهى تبص ناحية
شمالها ، حتى أتت زميلتها ثم ذهبتا ..
في الناحية الأخرى ، كانت الحمير ، تأكل من البرسيم القليل ،
المحطوط على عربات الكارو ، وولد قصير ، حاف ، يلف بجردل ماء ، وبعض
العربجية قعدوا على الأرض ، يدخنون السجائر ، يهزرون ويسبون الدين لبعضهم ،
بأصوات عالية .
يعلو آذان الظهر ، من الجامع القريب ..
أقف وأتجه ناحية النصبة ، أدس الحساب في جيب " حجاج الأعور " ،
أطوى الجورنال ، أمسكه في يدي ، وأذهب ..
يوسف
الولد النحيف ، الذي يعشق المشي ، على الأرصفة المزدحمة ، وهو يدندن
بأغنياته الخاصة ، ويقعد على المقاهي ، مستمتعا بمراقبة المارة ، اسمه يوسف
.
الرجال ، سيرمقونه بلا حب ، وهم يقولون في داخلهم : " انه أكثر
نحولا مما كنا نتوقع ". أو يقولون : " انه ولد غريب " . ثم يواصلون سيرهم
المعتاد إلى مصالحهم . تاركيه يتنقل كبهلوان ، من رصيف إلى آخر ، يعطف من
نقوده القليلة ، على الشحاذين ، والمتسولات ، وبائعي المناديل العفاريت .
بينما البنات ، بعد قليل من لقائه ، ستمتلئ قلوبهن بالكره نحوه ،
الكره الذي يجعلهن غاضبات ، وناقمات ، وربما يقذفنه بالحصى ، وهن يقلن : "
انه مختلف ، لماذا لم يخلقه الله مثل كل الناس " . ثم يتركنه من غير وداع .
انه يوسف ، الذي ترك نقشه على قلبي ، وذهب . كان رحيما وهو يفعل ذلك
، لكنه كان أكثر قسوة ، وهو يتوقف عن المشي فـوق الرصيف ، يبص علي ، ويقـول
: " لا تتبعني يا ولـد ، فلن تطيق معي صبرا " .
رغم أن أصدقائه العجائز ، من بائعي الساندويتشات ، وعمال السنترال
في ورديات الليل ، كثيرا ما أوصوه علي ، كانوا يرمقونني ، وهم يقولون له :
" خذ بالك من هذا الولد ، يبدو أنه ابن حلال " .
لكنه ـ بهدوء القديسين ـ سينبهني مرارا ، كلما ضبطني أتأمل في عينيه
الساحرتين : " اسمع ، أنا لست نبيا ولا ملاكا ، افهم هذا " . ثم يتوقف عن
الكلام ، يبتسم قليلا ، وهو يبص على الصغير ، الذي يمد يده لرواد المقهى ،
متصنعا الخرس ، ويعود ليستكمل الحكي ، عن مدينته البعيدة . المبهر ، أن
عينيه كانتا تسافران إلى هناك ، حيث البحر ، والنهر ، والسماء . مصرا في كل
مرة ، على ركوب عربات البيجو ، ودائما يفضل المقعد الأمامي ، بجوار النافذة
المفتوحة . وكنت أكرر له : " قلبك ، هو المشكلة يا يوسف " . لكنه يواصل
الحكي ، عن مغامرات عشق خائبة ، ما زالت تؤرقه حتى الآن ، وعن رغبته
الملحة ، في تدخين سيجارة .
لذلك ، تراجعت في اللحظة ، التي كدت أن اطلب منه ، أن يباركني ،
ويهبني اسمه ، وصحت فيه : " احذر يا يوسف ، ستموت مبكرا " . ليلتفت إلي ،
كانت هناك الابتسامة نفسها ، الابتسامة التي تبرز أسنانه الصغيرة ، والتي
سوف تكون آخر شيء أراه ، قبل أن يومئ لي برأسه ، ويقفز على الرصيف برشاقة ،
وهو يغنى ، ويبتعد .
أضيفت في
17/03/2006/ خاص القصة السورية/ المصدر: الكاتب
الزرزور الرمادي
كان الزرزور الرمادي ، يسكن في شجرة ليمون .
في يوم ، قال لنفسه :
لا بد أن أبحث عن مكان آخر ، إنها شجرة صغيرة ، على فروعها شـوك
يضايقني ، كمـا أن الأولاد ، الذين يـمسكون في أيديهم بنبلة ، سيرون عشي .
نعم ، لا بد أن أبحث عن مكان آخر .
رفرف الزرزور الرمادي بجناحيه ، وطار بين الأشجار .
حط على النخلة . وأخذ يقفز من جريدة إلى أخرى ، ثم قال :
النخلة لا تنفع ، لبناء العش ، الغربان والصقور ، ستراني بسهولة ،
وأشعة الشمس الحامية ، ستكون فوق عشي طول النهار .
لا بد أن أبحث عن مكان آخر .
هز الزرزور الرمادي جناحيه ، وطار إلى فوق ... فوق ... ثم نزل على
شجرة الجوافة .
ثم طار ، ولف حولها مرتين .
قال بأسى :
رائحتها حلوة ، لكنها أيضا لا تنفع ، أفرعها قليلة ، ولا يوجد مكان
لبناء العش .
لا بد أن أبحث عن مكان آخر .
حرك الزرزور الرمادي جناحيه ، حلق عاليا .. وبعيدا .. ثم حط على
شجرة التوت ، الضخمة ، قال الزرزور بفرح :
أنا أحب التوت .
التوت طعمه حلو ، سأبني عشي بين الأوراق الكثيفة ، والفروع
المتشابكة ، هنا لن يراني الأولاد ، ولن تراني الغربان والصقور ، كما أن
الأوراق الخضراء ، ستحجب عنى أشعة الشمس .
أنا أحب شجرة التوت .
شجرة التوت ، لا يوجد بها شوك .
في يوم ، حط زرزور كبير ، على شجرة التوت ، قال : مكان
جميل ، وتوت لذيذ .
نط الزرزور الرمادي ، إلى جـواره ، وهـو يقول : تعال لتبنى عشك هنا
.
ابتسم الزرزور الكبير ، وقال : أنا لي عش ، على شجرة قريبة من هنا .
تكلم الزرزور الرمادى ، بعد أن ابتلع توتة سمراء : أنا أيضا كان لي
عش ، في شجرة الليمون ، لكنى كرهت كل أشجار الليمون ، وجئت إلى هنا ، شجرة
التوت أحلى مكان في الدنيا ، ولن أغيره أبدا .
الزرزور الكبير ، ابتلع هو الآخر حبة توت ، وقال : ليس هناك مكان
جيد ، ومكان رديء ، نحن الذين نجعل المكان ، جميلا ، أو قبيحا .
ثم هز جناحيه ، وقال قبل أن يطير : سلام يا صديقي ، بالتأكيد سنلتقي
مرة أخرى .
في الخريف ، بدأت الأوراق الخضراء تجف ، ثم تسقط ، مع أقل نسمة هواء
، ورقة بعد ورقة ، حتى صارت شجرة التوت ، الضخمة ، مجرد أفرع بنية .
أخرج الزرزور الرمادي ، رأسه من العش ، تلفت حوله ، وقال : ماذا حدث
لشجرة التوت ، أين ذهبت الأوراق الخضراء ، أصبح المكان غير مناسب لي ،
الشتاء قادم ، وأنا لا أتحمل البرد .
الزرزور الرمادي ، طار إلى أعلى .
نظر من فوق إلى عشه الصغير ، وشجرة التوت ، العارية ، وقال :
انتظريني ، سأعود إليك ، في الربيع القادم .
ثم رفرف بجناحيه ، وطار بين الأشجار .
|