العجوز
يأتي في حلته الزرقاء الداكنة.. وشعره الابيض
المتطاير أسفل قبعته . عيناه تميلان الى الزرقة والعرق دائما على جبهته
صباحا أو مساء
اسلاك دراجته الذهبية تدور تنتقل من الشمس الى الظل
ومن الليل الى النهار . لا تشعر انه يتوقف ابدا .. يدور .. ويدور
* * * *
البحر ليس كأى بحر .. ربما لأن الورود الحمراء
تساقطت عليه الصيف الفائت , ربما لأن الطيور البيضاء ملأته يوما عن أخره
حتى انك لا ترى شيئا غيرها .. ربما لانهم قالوا أن جنية البحر نثرت حبات
الملح فوق الغرقى ثم ملأت اجسادهم بالعطر .. ربما .. ربما .
* * * *
يوم ان اتى العجوز سألته عن البحر ... قال:
الموت سر والبحر سر ونجمة السماء التى لمعت على وجه
الطفل الذى مات منذ قليل .. غابت ولم تعد .
جمعت اوراقى . حاولت ان أرسم العجوز .. لم أجد شيئا
بل طارت الورقة وأمطرت السحب مطرا فضيا لم ينته
الفتاة التي تأتى مرة واحدة
لم يرها قبل ذلك ، لكنه أحس أنه رآها منذ ألف عام
وعام ، كان مدفوعا
إليها بقوة لا يدريها أو يشعر بها من قبل ذلك ، كانت
جميلة كوردة
تفتحت تواً وابتسمت للسماء ، وضعت يدها على جبهته
وسألته :
- أما زلت وحيدا ولم تحب ... ؟
- لم أحب قبل ذلك
- لماذا .. ؟
- لم أجد من أحب ... أو ماذا أحب
- ألم تحب الوطن ... ؟
- الوطن شئ لا نراه وحلم نتمنى أن نصل إليه ولا نصل
أبداً.
- ألم تحب الأم ... ؟
- نحب الأم دائماً بعد أن تغيب وتنداح الذكريات ولم
تغب الأم بعد.
- ألم تحب أي فتاة .. ؟
- ... بحثت عن فتاة سمعت عنها صغيراً ، قالوا ..
انها تأتى مرة
واحدة ، تتناثر عليها الوردة البيضاء قبل أن تلمس
جبهة المريض الذي
يموت ...
- ألم تجدها ..؟
... وجدتها في صورة أمي القديمة وهى ماتزال فتاة ...
وجدتها فى
شهرزاد أميرة الليالي .. وجدتها في أليس وسندريلا
وست الحسن وأميرة
الثلج الأبيض ... لكنني عرفت أنهن مجرد حكايات ،
والحكايات أحلام
قديمة يحكيها البسطاء كي يتحملوا الحياة.
... ضحكَت حتى امتلأت عيونها بذلك الأمل الذي لا
يأتي ... الذي تراه
في عيون الحمام ولحظات الدفء بعد يوم بارد جداً ...
وقالت :
- ستحيا وحدك ... وتموت وحدك ..
.... واختفت تلك الفتاة ولم تعد بعد ذلك.
صفية
بدأ النهار , ولمعت الأوراق بخيوط الشمس الأولى ،
وتسرب الضوء إلى عيني ، بينما تغادرالعصافير أشجارها ، وتختفي فى السماء
.تختفي كما اختفت صفية من المدينة والأرض.
.. صفية .. أول يد دافئة لامست يدي .. أول قبلة لم
يزل طعمها فى قلبي .. أول انتظار للقمر عندما يلامس البحر , ويحبو بضوئه
على المياه ، ويقترب من شرفتها وشرفتي . يغازل وجهينا ، ويتناثر عند الصباح
، مختفياً فى رمال البحر
...تفرقنا بعد أن هجرنا مدينتنا إلى مدينة أخرى ..
وأخرى .. والحرب رماد يتطاير حولنا ..
والسيارات تحمل أشياءنا ، والقطارات تدفعنا بعيداً
عن البحر والرمال .
.... ولمّا انتهت الحرب , وتوقف الرصاص , وعاد بحر
المدينة يقذف بأمواجه إلى الرمال ، وتعلو البيوت والعمارات ، وتختفي شوارع
وتظهر أخرى .. انتظرت صفية , ولم تأت ...... ومن وقتها تجرني قدماي . إلى
ذلك البيت القديم ، انتظر أن تنظر لى صفية من شرفتها ولاتنظر.
وأعود مرة أخرى . أختفي بين الناس , أتلاشى بينهم .
وأتنقل من حبيبة إلى حبيبة أخرى ...،....،.......
وأتذكر صفية عند مغادرة العصافير لأشجارها وقت لمعان الأوراق بالصباح
الجديد
قمر
لم أر القمر بمثل هذا الوضوح من قبل . يكاد أن يلمس
قلبي . ضؤوه يتلألأ في موجات البحر التي تأتى من بعبد .
أحدثه: كم أنت جميل ..... ؟
اشعر بابتسامته ، واشعر بعقارب ساعتي البيضاء تدق في
قلبي , وكأنها تخبرني بالموعد . أعود للانتظار . أراها تأتى من بعيد. .
قدماها على الرمال لهما رفيف أجنحة الفراشات , وعيناها تلمعان في ظلمة
الليل ، فتتناثر نجمات السماء على الماء , وتترقرق قطرات المطر على اصابعى
وما أن تقول..... احبك .... حتى تختفي
وأعود من جديد . انظر إلى القمر , الذي لم أره بمثل
هذا الوضوح من قبل
مرثية
(1)
البحر .. تغوص فيه عيناه , يذوب القمر فى صدره عطرا ربانيا يلا
رائحة , قدماه تلامسان التراب , يدخله الدفء فى ذلك المساء ..
الشباك معقودة على اسماك تزفر نورا وذهبا ، يبحث عن نفسه فى أجواء
مدينته .. يتصاعد الى اين .. لا يدرى .
(2)
صوت : آه يا مصر آه يا مصر .... لسه فيكى سجن وقصر ... وجوه متلاحقة
مشدوهة صامتة .. تبحث عن شىء لا تدريه !!!
دقات ساعة الحامعة تلامس القلب .. يطير مع حلم ما ، لم يحلم به بعد
(3)
فى غرفته صورة عبد الحليم .. صوت الماء يعلو امام صدره , ثم يتحول
هادئا .
صوت : ما عادش فى المنديل كناريا ..... عشان اطيرها فى سبق خسران
صوت أهدأ: اذكرينى فقد لوثتنى العناوين فى الصحف الخائنة... اذكربنى
فاتا منذ الهزيمة لا لوت لى غير لون الضياع
(4 )
يركض وحده فى الاتجاه المعاكس للبحر
مظروف ابيض قديم
لونه أبيض ، مال للاصفرار بفعل الزمن، وجدته بين ركام الجرائد
والمجلات . ما أن لامسته بيدى
حتى ومض قلبي بحنين يشبه براءة أناشيد الأطفال ، ونشيج أحزاننا
القديمة.
إنه مظروف أبيض قديم يحوى صور قديمة تخصني ، جمعتها يوماً ،ودسستها
بين ركام الأشياء.
إنتباتنى وقتها رغبة فى أن أتخلص من شخص يقبع داخلي ، وأبدأ حياة
شخص آخر أتمناه .
دفعني شيخ كبير لتلك الرغبة . حدثني عن أن الحياة مجرد لحظة نحياها
الآن ، وليس لمّا قبلها أي معنى ، لأن الماضي يتلاشى ويختفى . أعتقد أنه
واجه بتلك الفكرة موتاً وشيكاً توقعه .
المظروف هادئ فى يدي كأنه ينتظرني ، ويعرف متيقناً ، أنني حتماً
سأعود إليه , وأضعه أمام عيني وأرى ما به من صور ... صورة .... صورة مع
تتابع الصور أمام عيني شعرت بأن كل ما حولي ينظر إليّ ... النافذة ...
الكراسي ... الكتب .... المجلات ...
حتى القمر الذي بدا بعيدا واهناً ، شعرت به ينظر إليّ ، بينما الصور
تتساقط على الأرض.
|