قمة السلم
كانت غيوم الحزن تغرقنى، بينما أرى العيون من حولى تقدسنى، وأنا أقف
خلف الميكروفون فى الأوبرا.. أعضاء الفرقة الموسيقية مُمسكين آلاتهم
الموسيقية بحماس.. أرشق نظراتى فى القاعة المكتظة والتى كان الواقفون فيها
أكثر من الجالسين..
لحظتها كنت أوشك على البكاء، لا تعتقدوا أنه بكاء الفرح، بل هو بكاء
الغضب.. أجل.. كنت أريد أن أصرخ.. أنا لست هى.. وكيف أكون أنا هى؟.. ولم
أجد أباً يحطينى بذراعيه.. يدللنى.. يأخذنى إلى أماكن جديدة لم أرها، يفتدى
بفؤاده نسماتى أن تخبو، ونفسه رخيصة من أجل بسمة أرشقها فى عينيه، ولم أجد
حضن الأم الآمن، الذى أختفى فيه من رعب الأكوان، فقد تخلت عنى تلك المرأة
التى أنجبتنى، فمنذ ولدت ويحيط بى ذوى الأردية البيضاء فى كافة التخصصات،
يراقبون همسى وصخبى.. بكائى ومرحى.. يراقبون الهواء الذى أتنفسه، ولكنهم
مهما بالغوا فى تقديم كل ما يبهج نفسىّ.. فأنا أفتقد الحرية.
أننى أمقت تلك السيدة التى يقولون أننى أشبهها حتى فى نبرة صوتها
القوية، مرغمة أنا منذ الصغر على تعلم الموسيقى مثلها، أمقت مهنتها.. فأنا
مثلاً أعشق الرسم وأجد لذة الوحدة مع ريشتى ولوحتى، معهما أتريض فى بساتين
البهجة لأرسم أباً وأما وإخوة.
أننى أمقتها، فقد حظيت هى بمراحل الهزيمة قبل الانتصار، وحتى ذلك لم
احظ به، فأنا وضعت على قمة السلم منذ ولدت.. بدأت من حيث انتهت هى، ولا
يدركون إنها انتهت، وأنا أيضاً انتهيت قبل أن أبدأ.
قد تظنون أننى جننت، ولكنها الحقيقة المؤكدة لدى.. انتبهت لنفسى
عندما بدأت الفرقة فى عزف المقطوعة الأولى، وعندما بدأت أشدو تعالت صيحات
الإعجاب، وعندما انتهيت من المقطوعة الأولى، أفزعنى التصفيق الحاد، وتعالت
الأصوات تطلب منى المزيد، ولكنى شعرت بأننى فى الثمانين من العمر، وما زلت
فى سنى الصغيرة.. تسارعت دقات قلبى، وغشينى الاختناق، وسقطت فى غيبوبة،
حملونى إلى المستشفى، وأجروا عشرات الفحوصات لى، وجاء الطبيب الحاصل على
جائزة نوبل.. نظر فى وجهى، وعلت الابتسامة وجهه، وعندما قرأ التقرير الخاص
بى، استطونت وجهه علامات الكآبة، وتبادل نظرات الهزيمة مع زملائه، وطلب
منهم النقاش فى غرفة مدير المستشفى، وجملته وهو يخرج من باب غرفتى المُكيفة
اخترقت أذنى "إنها تعانى نفس حالتها المرضية فى آخريات عمرها"
ابتسمت.. كان الطبيب يعتقد أنه نجح فى أول استنساخ لسيدة الغناء "أم
كلثوم"، وأتى بى لأكون مثلها أم كلثوم أخرى، ولكننى أمقتها وأمقتهم جميعاً،
ولكن ما يزال فى عمرى أشهر معدودات.. وربما سنوات، ما أشقاى معهم!
وعندما شعرت بأنه لا أحد يراقبنى، أتجهت نحو النافذة وفتحتها.. دخل
الهواء الطبيعى إلى رئتى.. تطلعت إلى السماء.. سقطت القطرات الملحية على
وجهى وأنا أناجى ربى.
مرت أمامى أسراب العصافير الهائمة، فصعدت على النافذة، وفردت يدىّ
كجناحين، وأنطلقت.
أحلام موؤدة
كان اليأس يتوغل داخل أعماقى المحترقة، والقطرات الملحية تنسكب
مدراراً من مقلتى لتحرق وجهى الشاحب، بينما تحاول العربات المنطلقة تحذيرى
بصراخ أبواقها، لكنى لا ألتفت.. أحد المارة سحبنى من نهر الطريق.. انظر ولا
أراه.. تتحرك شفتاه بكلمات لا أفهمها.. أبعد يده، وأسير على الرصيف،
وتخنقنى الزفرات الحارة التى تتصاعد من أعماق صدرى المنقبض.
الآن لا معنى لوجودى.. قدر علىّ أن أحرم من الوجوه الصغيرة التى
ترسم لى ابتسامة تشرق فى داخلى أحلام المستقبل الجميلة.
أأقول ذلك لزوجتى؟
لكن السؤال الذى يعتصر عقلى.. كيف تعرضت لدخان تلك المادة الخبيثة
التى يطلقون عليها الهيدرو.. هيدروبروميك أو ما شابهه؟..
كيف تعرضت لدخانها الأصفر الذى قتل آمالى قبل أن تولد.
أرفع وجهى للسماء متسائلاً: هل أجازى بذنوبى السابقة؟ لقد سكبت
عليها أنهاراً من القطرات الملحية ندماً عليها.
تعترض بصرى تلك اللوحة "معمل تحاليل ما قبل الزواج".. اصطدمت تلك
اللوحة بذكرياتى السابقة، لتعيد إلى ذهنى صورة ذلك الوغد.
انطلقت إلى معمله فى الميدان البعيد.. أدخلتنى السكرتيرة.. وجدته
منكباً بين أبحاثه وأدواته، رفع هامته نحوى، فأدرك من حالتى الرثة كل
تفاصيل المأساة، وبكل سموم الكراهية اتجهت إليه وأحكمت راحتى يدى حول عنقه،
ولكنه كان أسرع فضغط زراً، ودخل حارساه قيدانى فى المقعد.
انطلقت أسئلتى كالرصاص من بين دموعى الغزيرة، وألفاظ السُباب التى
تنهال على رأسه وهو يجلس أمام مكتبه، أعتراه الخجل محاولاً أن يوارى عينيه
بعيداً عن مواجهة نظراتى، بفمه المرتعش طلب منى الصفح قائلاً:
-عندما أتيت أنت وعروسك لفحص الجينات الوراثية حتى لا تشقيا بطفل
مريض، كان العلم الحديث توصل إلى معجزة قراءة كل الشفرات الوراثية للجينات،
حتى السلوكية منها، واكتشفت إنك ستأتى بمجرم إلى الوجود، فخدعتك حتى أدخلتك
غرفة الدخان الأصفر.
كان يسعى لمجتمع أفلاطونى أفضل، لا يسع جنباته أشرار المستقبل، وأنا
لست الأول والأخير فى ذلك.
كدت أن أفتك به لولا حارساه، فصرخت فيه:
-أنجب مجرماً، أو أنجب ملاكاً، ليس من حقك أن تقتل أحلامى بأفكارك
البغيضة.
أخرج من درج مكتبه مبلغاً كبيراً، وبأيد مرتعشة قدمه لى معتذراً،
فألقيت المبلغ فى وجهه تصاحبه بصقتى، فأنقض علىّ حارساه فأمرهما بالتوقف..
فرمقته بنظرة متوعدة.
توسلات خادعة
كنت منكمشاً فى المقعد الوثير، وابتسامة صغيرة تعلو وجهى، بينما
الحقد يملأ سراديب نفسى المعذبة. أرسل نظراتى متأملاً لتلك السيدة ذات
الهيئة الثرية، وهى تربت فى حنان وألم على رأس ابنها الشاب الراقد فى يأس
المرض –كان فى مثل عمرى- ودموعها الجزعة تنهمر عليه، لتغرقنى فى بحار من
الحقد.. ألست شاباً مثله؟ فلمَ يحظى هو بتلك العناية والثراء الشديد؟..
بالطبع عندما كان طفلاً كان يرفل فى رحاب النعمة بين أمه الحانية، وابيه
الذى لا يدخر وسعاً من أجل إسعاده. تنهدت فى حرقة، وعبثاً حاولت أن أوارى
تلك القطرات التى تلألأت فى عينى، والتى أمتزجت بنظراتى المسمومة إلى ذلك
الشاب، فعندما كنت طفلاً يتيماً كان الفقر يسحقنى بالحرمان بين إخوة
كثيرين، يمن علينا أكبرنا بأنه ضحى بأشياء كثيرة، كنا لا نملك غير تصديقه
من أجل أن يعبر بنا الطريق، وبعد أن كبرنا توغلت الأنانية حتى تقطعت خيوط
الإخوة، بعد أن أصبح لكل منهم عشاً صغير.
ولكم كنت ساذجاً!.. عندما أعتقدت أن مؤهلى الجامعى سيشق طريقاً لى
فى صخور الحياة. والآن وتلك المرأة تخادعنى.. تلقى على بالحنان الزائف،
تخبرنى بأنها أمى مثلما هى أمه، فأهز رأسى موافقاً بينما عقلى يرفض مقولتها
الكاذبة. وضعت أمامى الطعام الشهى، فأخذت أتناوله فى سرعة لأهزم وحش الجوع.
فى تلك اللحظة دخل الطبيب معلناً بفرحة مصطنعة، محاولاً تجنب نظراتى
المترقبة، موجهاً حديثه للأب:
-إن التحليلات والإشاعات سليمة، ولا خطر من التبرع.
وقف الطعام فى حلقى، وتسارعت دقات قلبى، وتأملت الطبيب متسائلاً فى
ذهول:
-كيف يخون الطبيب أمانته؟
ألم يكتشف أن قلبى أنهكه الروماتيزم، فيما يجعل تبرعى خطراً، وما
جعلنى أتمادى معكم إلا جوعى وعلمى بمرضى.
تلقيت الإجابة عندما لمحت الطبيب يتبادل مع الأب النظرات
والإيماءات، وأقبل فى هدوء ومعه ورقة إعدامى.. أقصد ورقة الموافقة على
التبرع.
أرتعشت يداى، وتعاطف معى كوب الماء فانسكب على الورقة وطمسها، حاول
الأب أن يتدخل سريعاً ليحضر ورقة أخرى.
فأتجهت نحو الباب، فأعترضتنى السيدة بنظراتها المتوسلة، وجدت نفسى
محاطاً من الجميع، تماسكت، بادرنى الأب بسؤال متلهف، والسيجار الفخم بين
أصابعه:
-إلى أين؟
|