حلم النهار
دفعتني بقبضة
يدها التي لا تزال تحتفظ ببعض قوتها قائلة:
ـ قم يا
كسول! الشمس علت الأشجار والسطوح... وجدك في الانتظار!
متثائبا
أنهض، أفرك عيني، أطرد النعاس بقايا الأحلام العالقة بالذاكرة، حين أصل باحة
البيت، يصافحني وجهها الذي به مسحة من جمال لا يزال، برغم رؤيتك خصلات شعرها
البيضاء التي تبص عليك ترى نشاطاً كبيراً وحركة دائبة وهى تجهز وتعد وترص
وتستبعد المكسور أو الذي به احمرار زائد، فهذا هو طعامنا في الفطور، حين
استدارت قاصدة بعض أمورها فوجئت بي، تهلل وجهها بالترحاب، علا ضحكها رغم القسوة
التي تبدو عليها وهى تقول:
ـ أهلا....
أهلا بأعز الحبايب!
ـ أسرع....
الوقت تأخر وهم ينتظرون!
بطول الطريق
كانت جدتى تخب في جلبابها الأسود الباهت بخطوات واسعة تأكل الطريق، تحمل ما
جهزته طوال ليلة الخميس ونشرته في غرفة الخبيز، حتى بات يتلألأ في ضوء القمر،
ذلك الذي كان يغازلني من شيش الشباك المكسور ومع آذان الفجر استيقظت على كركبة
الصاجات والمعارك المعتادة بين القطط والكلاب أمام الباب الكبير المغلق الذي
نفتحه مع شروق الشمس.
كنت ألهث
خلفها، مُمسكا بيدي اليسرى طرف جلبابها وباليمنى أقبض على حقيبتي المدرسية،
بطول الطريق تحكى عنهم، وأنهم منذ البارحة ينتظرون هذه الزيارة الأسبوعية،
فتحوا الأبواب وكنسوا الشارع ورشوه بالماء وسقوا ظمأ الأشجار وفرشوا البسط
وأشعلوا راكية النار ووضعوا كنكة الشاي وتحلقوا حولها في انتظار قدومنا
نحمل لهم الكعك والقرص وبلح العجوة والعنب والبرتقال، مُندهشا أسأل جدتي:
ـ يعنى لا
يوجد عندهم أكل!
ـ لا، لا خير
ربنا كثير يعطيهم من نعمه ويأكلون من رزقه، لكن هذه زيارتنا الأسبوعية، وجدك
يحب أن يأكل من يدي.....!
وكنت كلما
أقترب من بيوتهم، أنكمش في مريلة المدرسة!
وأحتضن جدتي
خائفاً ومرعوباً، تضمني إليها قائلة:
لا، لا تخف!
من يحفظ القرآن لا يخف!
إن القرآن
يحفظ صاحبه وينجيه!
تدلف هي في
طريقها المعتاد، وتتمتم بقراءاتها، تبسمل وتحوقل، ثم تتلو ما تيسر لها، تقول
وأردد صامتاً:
ـ السلام
عليكم!
ـ السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته.
تقرأ بصوت
عال وهى تقبض على يدي، تقطع قراءتها لتشير بإصبعها:
ـ هذا بيت
عمك!
تقرأ سورة
الصمدية والفتح والناس والفلق، ثم تجد صوتها يتغير وتعلوه الحشرجة، فترى فيض
العيون خيوطاً، وهى تقول بحنان بالغ ورقة واضحة:
ـ وهذا بيت
جدك!
تنظر يميناً
ويساراً، تلقى السلام على النساء الزائرات والفقيرات السائلات، تضع يديها في
سيالتها وتعطى لهم دون أن تنظر ماذا تعطى؟
تضع حملها
المزين بالبشكير الكبير الذي لا يخرج من الدولاب المكسور إلا لهذه الزيارة،
يهرول إليها الشيخ عبد العزيز والشيخ مصطفي والشيخ محمد، تفرش لهم الحصيرة أمام
باب جدي، ثم تدفعني للجلوس بجوارهم قائلة: اجلس يا شيخ، واقرأ معهم سورة يس.
إن جدك
يحبها ويحب أن يسعها منك. إن سورة يس لها فضل عظيم.
كنت أجلس
القرفصاء على حافة الحصيرة، أردد آيات السورة التي حفظتها خوفاً من فلكة الشيخ
على نوفل، وبين الآية والآية، كنت أفتش عن عدة الشاي وراكية النار أتلمس رؤية
أشياء جدي التي أعرفها جيدا، فلا أجدها ثم أسرع في القراءة، حتى ألحق بالمشايخ
حين تضبطني جدتي منشغلا في هذا البحث.
تنتهي هي من
توزيع الحصص على المشايخ، ثم تقف أمامي شبه ضاحكة قائلة:
ـ افتح حجرك
يا شيخ حماده وخذ نصيبك لقد أحسنت القراءة اليوم!
في طريقي
للمدرسة كنت أسأل جدتي:
ـ أين جدي
وأصحابه؟
تجيب وهى
تنظر في السماء العالية:
ـ لما تأخرنا
عليهم دخلوا يناموا كانوا سهرانين!
ـ يا جدتي:
أنا أحب جدى قوى! ونفسى أشوفه! أحضنه وأبوسه!
ـ الخميس
الجاى، نصحي بدرى شويه، علشان نلحقهم قبل ما يدخلوا يناموا!
في بيت جدي،
وبالطباشيرة المدرسية، كنت أضع خطوطاً وعلامات على الحائط وبجوار السرير، وأظل
أحسب كم يوماً تبقى على يوم الخميس!
نعم كنت أنام
عند جدتي لأمي، مكان جدي حتى يعود من سفره الطويل، هكذا قالت أمي وهى تجمع
ملابسي، وأكد أبي وهو يوصيني بكتابة الواجب والمذاكرة، ثم يحتضنني طويلا قائلا:
ـ كن رجلا في
غياب جدك!
وحين قلت
لأبى:
ـ إنني أحب
جدتي، لكن حبي لك أشد!
استدار بسرعة
وهو يمسح عينيه بطرف إصبعه قائلا:
ـ سأراك
كثيرا وجدتك سوف تأتى بك لزيارتنا!
هل انتظرت
طويلا رؤية جدي؟
مع الخط
السادس أو العلامة السابعة لا أذكر، وبعد صلاة العشاء دب النشاط في أطراف جدتي
وكثرت الحركة بين غرفة جدتي والباحة وغرفة الخبيز، وتعودت على سماع كركبة الحلل
والصاجات، بين الحين والآخر ولابد أن أسمع من على سرير جدي المعارك الدامية بين
القطط والكلاب ثم ألوذ بالبطانية والدفء!
حين لسعني
الشوق لرؤية جدي صحوت مع الفجر، قمت نشيطاً، أحث جدتي على السرعة حتى أشاهد جدي
وأحضنه وأنام على رجله ولو قليلا كأيام زمان!
بطول الطريق
لا أذكر هل كنت أسير بجوار جدتي أم أهرول أمامها؟
أنفلت
سريعاً، أدخل الشارع النظيف والمرشوش بالماء، تدفعني اللهفة، يلسعني الشوق
لرؤية جدي، حتى إذا وصلت إلى باب بيت جدي، وجدته مقفولا، فبكيت أمام جدتي ورحت
أشد جلبابها الأسود قائلا:
ـ نفسي أشوف
جدي، جدي وحشني قوى!
وكالعادة
جلست مع المشايخ عبد العزيز ومصطفي ومحمد على الحصيرة! لكنني لا أعرف لماذا رحت
أقرأ بصوت عال جداً يعلو على صوت المشايخ! ووجدتني أقرأ ثم أنظر ناحية باب جدي،
أرفع صوتي عالياً، حتى يسمعني أو يكلمني، أو يمد يده فيلمس شعري ثم ينزل بها
على كتفي ويجذبني إليه برفق، ويضمني لحضنه، أو يناديني ويخصني بقطعة من الحلوى
والتي لا تخلو سيالة جلبابه الأبيض منها أبداً.
حين انتهى
توزيع الحصص على المشايخ في الزيارة الأسبوعية قمت بوضع نصيبي في حجر الشيخ
مصطفي قائلا:
ـ يا عم
الشيخ لما تشوف جدي سلم عليه، قل له إنه وحشني قوى!
على غير
العادة، صحبتني جدتي لزيارة أبى، بعد عودتي من المدرسة وتناول الغذاء وقبل
المذاكرة، كانت تمسك بيدي، ورحت أقفز أمامها وخلفها ثم أسير جوارها صامتاً؛
لأنها لم تتحدث معنى كعادتها وتضحك أو تحكى عن جدي ومواقفه وحب الناس له
ومكانته الكبيرة ولم تتحدث عن أحلامها لي وأنها تعدني خليفة جدي الكبير، حين
اختارتني من بين إخوتي للعيش معها.
كانت تسير
وهى تزم شفتيها، مقطبة الجبين، وكنت ألمحها بين الحين والحين، تكلم نفسها عن
السفر، الرحيل والجد، والعم ثم تعود للصمت ثانياً!
حين وصلت إلى
بيتنا وجدته وقد امتلأ بالأقارب، عرفت أن الطبيب زار أبى وأعطاه بعض الأدوية،
على قدر ما فرحت بعودتي البيت، لكنى تألمت من أجله وسألت الله له الشفاء!
بقيت ألعب مع
إخوتي على الترعة الكبيرة، بجوار الجميزة وتحت ضوء القمر، حتى نادتني أمي وهى
تقبل جدتي مودعة فلم أعترض إذا تذكرت قول أبى كن رجلا، فحاولت ألا أغضبه.
مضى يومان أو
ثلاثة، وبينما كنت جالساً في المدرسة حتى حضر خالي وأخذني قبل الفسحة، وفي
الطريق أخبرني دامعاً أن أبى سافر إلى جدي كم بكيت... وبكيت على هذا السفر
الطويل!!!
سفر جدي
وعمى!
وكنت أسأل
نفسي هل أقدر على تحمل سفر أبى أيضاً؟
مع الخميس
الأول لزيارة أبى وجدت الشارع أكثر نظافة، ولا يوجد أثر للتراب ازدادت الأشجار
طولا وعرضاً، امتلأ الشارع عن آخره بالزائرين، لكنني في النهاية عرفت الطريق
إلى حصيرة المشايخ ثم رفعت صوتي بقراءة سورة يس التي يحبها جدي ويحب أن يسمعها
أبى من الشيخ محمد رفعت، ذلك الذي كان يحلو له أن يناديه بـ "كروان الإذاعة"،
حين لسعني الشوق وتلهفت لرؤية أبى، لم أنتظر موعد الزيارة الأسبوعية أصحو
مُبكراً وعلى طريق المدرسة أشاهد تلك البيوت الواطئة والهادئة أدخل الشارع
الواسع أردد ما حفظته من قراءة جدتي، أرفع صوتي دون خوف قائلا:
ـ السلام
عليكم ورحمة الله وبركاته دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن .......
ثم أجد نفسي
أجلس القرفصاء أمام بيت جدي وأبى أقرأ سورة يس وفيض الدموع يسيل شوقاً ولهفة،
للقاء الأحبة جدي وعمى وأبى، حتى أجدني أحس بقشعريرة تسرى في جسدي، فقد كانت يد
أبى التي أعرفها جيداً، تلمس شعري برفق وتنزل على كتفي، فيجذبني إليه بحنان، ثم
يضمني في حضنه وأجد نفسي أذوب... أذوب في هذا الحضن الدافئ، فأمسح دمعي وأقبل
يديه قائلا:
ـ عد
... عد يا أبى ولا تسافر ثانية!
درب الحنيـن
ثمة وحشة،
انكسار وفقد مرير، صبر فاق صبر أيوب، هكذا فكّر وهو يخطو على الدرب الطويل،
يخطو مُسرعاً
على مسئولية مؤذن الجامع الكبير، وهو يعلن أن الدفنة بعد صلاة العصر. لم يكن
في
حسابه أن يخطو هذه الخطوات، أو يحين السير على هذا الدرب، بهذه السرعة.
فكر وهو
يمشى كابيا، صموتاً، ناحية الجامع الكبير:
أنه كان
في حسابه – مثلا – أن يخطف رجليه، وهو في طريقه
لأخته (فوزية)، المحطة الثانية، أن يسير على هذا الدرب للزيارة، كما تعود في كل
مرة، يرجع فيها لقريته، يقف هناك، بعض الوقت، يتزود بالدفء، تعود إليه روحه
التي تسكن معها هناك. بعيداً عن الحسابات ذات الأوقات المحددة الكاشفة عن ضيق
الوقت، فإن كوبة الشاي، عند أخته
(أم
هشام)، تنتظره، فهي باتت المحطة الأولى للثرثرة، مع رشفات الشاي تحكى له عن
الذي يجب
أن
يعرفه، أو لا يعرفه:
ـ
ابن فلان فرحه الأسبوع القادم!
يطالع حروف
اسمه المنقوش بخط ردئ،
فوق دعوة الفرح، يمط شفتيه حسرة وكمداً، يُغمغم:
ـ
بقى فلان ابنه
ها يتزوج
الأسـ
..... !!!
تقاطعه وهى
تنظر إلى شعر رأسه الذي ابيّض قبل الأوان:
ـ لا تغضب
لأنك
لحقت عربة السبنسة في قطار
الزواج!
تقول مُستدركة
وهى تضع كوبة الشاي بجانبها:
ـ
آه! قبل ما
أنسى، صاحبك ........ أبوه مات
يوم
الجمعة!
* * *
خطا بقدميه
المبللتين بماء الوضوء حاجز الميضة إلى صحن الجامع؛
ليواجه تلك الخشبة التي تُطارده
دوماً، بخطف الأحبة، فأدرك حتمية المواجهة، رفع سبابته اليمنى، نطق الشهادتين،
تراجع خطوتين؛
ليصلى ركعتين تحية المسجد، يتمتم خاشعاً:
اللهم لا
تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، وأمتنا على قول: لا إله إلا الله !
* * *
خطا بقدميه،
عتبة الجامع؛
ليقابل الأنفاس الساخنة والحزينة، العيون القلقة، الأيدي تتنافس على حمل
الأمانة؛
ليبدأ
المشوار على الدرب المثقل بالأحزان:
ـ
أجرني!
يرحمك الله!
ـ
عظم الله أجرك
في الدارين!
أخذ نصيبه من
حمل الأمانة، ثلاث مرات، أيقن وهو يستسلم للدرب أن ذلك يكفي لشراء قيراط
في الجنة!
يمشى بين الناس المُهرولة،
ينظر للسماء،
وساعة
يده مرة ثانية، قال في نفسه، وهو يُفكر
كيف يُقلّب
الله هذه الدنيا! أمس بعد صلاة العصر أقبل عليه شوقي البسيونى، بعد غياب خمسة
وعشرين عاماً،
وراكية
النار – خلف البيت الجديد – تُدمدم
تحت البرّاد
الأزرق والشاي المطبوخ!
وهو
يحكى عن أهمية
التمسك بالهوية، ضرورة ألا تأخذنا الفرنجة على حساب هُويتنا،
وأولها الزى! يشير شوقي لنفسه (وهو صاحب منصب مُهم
في أكبر فنادق القاهرة) يجلس بالجلباب البلدي، تحته الصديرى (القطنية).
يهز هو رأسه
مُتسائلا
:
هل
تعرف يا شوقي
أن هذه
الدعوى للعولمة ليست بريئة. إنهم يريدون تذويب هويتنا العربية!
مُقاطعا
يُؤكد شوقي البسيونى:
لهذا أنا
حريص، أربط أولادي بالبلد! فاكر أول كلمة قلتها لك:
برافو عليك،
برافو لمة عيالك حواليك، هنا في البلد، في كل أجازة!
تشتعل غضبة
شوقي البسيونى، فيزداد سُخطاً
على الناس الذين ينسون، يتنكرون لماضيهم! يهل بكير سالم، يشتد العناق
والسلامات، دائماً تتسع الحصيرة للقادم! وكوبة الشاي ساخنة
دوماً
في الانتظار.
يناوله كوبة
الشاي ضاحكاً:
إيه يا أبو
الشُوق
رّوق، هل
أنادى لك:
نجيب أبو
عمارة!
يدور الحديث
مع الدور الثاني من شاي العصرية، يُلملم
السنوات التي تفرّ
قسراً، يتأمل الرءوس
التي
شابت قبل الأربعين، يتدارك الوقت، الشمس تنحني للمغيب، تدمع العيون، تتلامس
الأيدي، تتعانق الأحضان، قبل التفرق والدخول من بوابة السفر.
***
يخطو ناحية
دربها بخطوات واهنة، لم يكد ينتهي من قراءة الفاتحة، حتى وقف أمامها، يواجه
الصبارة
التي
طالت مثل شجرة، انحنت تحتضن بيتها، وهى التي زرعتها، روتها، أوصته بنقلها أمام
بيتها الأخير، طالع اللوحة الرخامية، يقرأ للمرة الثالثة الآية القرآنية (]
كل من عليها فان
[ )،
اسمها والتاريخ! أوغل في نفسه، يبحث عنها، يلمسها!
في الشقة
كانت
عيناه معلقتان على نتيجة الحائط، لم يعد قادراً على حساب كرّ،
وفرّ
الأيام!
يسأل نفسه في
كل زيارة لها: متى تتوقف يده عن قطف الأيام فوق نتيجة الحائط حتى يراها ثانية!
في كل مرة
يدخل الشقة، يشم رائحتها، رائحة طعامها الخارج من حلق فرن الخبيز، صينية
البطاطس باللحمة،
والأرز
المُعمّر،
والخبز
الطري المعجون باللبن الرايب.
بالتأكيد،
سوف يتمدد على السجادة الحمراء، بجوارها قليلا وهى تهز رأسها ضاحكة، تردد:
ـ
آه اتغدى
واتمدد!
سيقاوم النوم
طويلاً، حتى يُطيل
النظر إليها،
ويدها
الدافئة تتخلل شعره وهى تُؤكد:
ـ
إيه يا
شيب! مستعجل قوى كده ليه؟
يضحك وهو
يزحف قليلا؛
ليضع رأسه المجهدة فوق رجلها، يُزيح
مشاكل العمل، تعب السفر، غلاء الأسعار، ثم يرتفع صوته وهو يلعن قرارات الحكومة
الأخيرة مثل مواطن حر!
يقفز قلبه
فرحاً، وهى تنحنى على جبينه، تُقبّله، تحتضن رأسه بيديها، بسرعة يلتقط يدها،
يقبّلها طويلا، الدمعة الحارة تتأرجح في عينيه، وهو ينظر إليها مُعاتباً، يود
أن يسألها:
لماذا سمحت
للأيام أن تفعل به كل هذا؟
فكّر دامعاً
كيف تُجيبه؟ أكان عليها أن تُقيّد أطرافه حتى لا يكبر؟ أن تحتوى رأسه بين
يديها، تضمه إلى صدرها حتى لا تنضجه الشمس، فيكبر وتطيب رأسه مثل سنبلة قمح؟
أكان عليها أن تبقيه
في
حجرها، أو إلى جوارها، ولا تدفع به ناحية درب وجع الرأس الطويل؟ علمته الكتب
وجع القلب، وما حفظ سوى بكائيات مجنون ليلى، ونزق الأدباء على المقاهي،
نرجسيتهم المُتضخمة
دوماً، تشتعل رأسه كل صباح، وهو يُطالع
الصحف الساخنة بنار المطابع، حرائق الفساد، هروب رجال الأعمال، زحام المترو،
الزواج العرفي من أولى ثانوي لرابعة جامعة، لعبة عسكر وحرامية بين الحكومة
ورجال الأعمال، فقرر أن يلعن الحكومة مثل أي مواطن حر!!!
فجأة التفت
لنفسه وهو يقف أمامها يسألها: ما الحل؟
سريعاً وجد
لسانه يُردد آملاً،
راجياً:
الآن دثريه، اسلخي جلده، اخلعي رأسه، انفضيها على عتبة الباب، اغسليها بماء
الطلمبة البارد، طهريها من أدران المدينة، حرائق الكلام على المقاهي الأدبية
التي لا تزيد القلب إلا وجعاً! الآن..الآن احضنيه، ضُميه
مرة ثانية، هدهديه، ثم ألقميه صدرك فبه ظمأ كبير. كان عليك ألا تتركيه يحبو خلف
الكتاكيت في الباحة! ثم يجرى وراء القطط والكلاب أمام البيت! نعم كان عليك أن تُغلقي
البوابة الحديدية، وتبقيه في حجرك حتى لا تراه الشمس وتطوله الأيام!
***
ثمة وحشة،
انكسار وفقد مرير، صبر لا حدود له!
من يُشعل
النار التي خمدت؟ من يُوقظ الجمرات التي تنام تحت الرماد؟
متى تتمدد
الأرض، تهتز شبقة تحت السماء الممطرة؟
ها هي
الليالي الباردة تترى، وراكية النار هامدة، والفرسان غلبهم النعاس فلم يقفزوا
فوق ظهور الخيول التي تخرج من سراديب الحكايات؛
لأن السراديب ردمتها تراب الذكريات.
طوى دفتره
وأجل سرد باقي التفاصيل لمشهد آخر!!!
حبل الوداد
تهز رأسك
مُتعباً، حزيناً، تنفض عنها هذه الأفكار السيئة دفعةً واحدةً، تُدرك أن الولد
خياله واسع مثلك؛ لذلك هو يقفز من اللحظة الآنية إلى فضاء الزمن، يتجول فيه،
يسبح مع من يهوى، يُحب أن يستدعيه لزمنه الحالي، لكن حين تُمعن في كلام الولد،
يتحول شكك إلى يقين؛ لأن كل ما يقوله، يتخيله، يحلم به، يتحول
إلى
إدراك حقيقي! هل ينقلك الولد إلى ماض جميل تُحبه، تهواه؟
كلما تنظر
للولد، تتأمل تفاصيل ملامح وجهه، ترى الطفل الذي كنته، تتذكر كلام جدك:
إذا أردت أن
ترى نفسك صغيراً، انظر إلى أقرب أولادك شبهاً
بك!
تبتسم
للتفاصيل الصغيرة المُتشابهة بينكما، تلحظ تصرفاته البريئة، تهمس لنفسك:
هل كنتُ
بريئاً لهذه الدرجة!
لا تزال تقبض
على مواقف، ذكريات كثيرة، تفاصيل محددة في تلافيف الذاكرة، تُطل على براءة
سنوات الطفولة، أشجارها الخضراء تقف عليها عصافير الجنة، ترقبها، تُغرد معها
عبر نافذة نور الصباح، لا تزال تحييا، تعيش هذه التفاصيل، عبر تلك السنوات
البعيدة/ القريبة، ترفض أن تُغادر أرضها، زمنها، رغم اشتعال رأسك بالشيب
المُبكر، تُردد لنفسك هامساً:
أنا الطفل
الأشيب!
تطرب كثيراً،
متى تسمع الآخرين وهم يؤكدون، أنك برئ،
والمدينة
المتوحشة لم تنل منك، لم تلوثك بعد! أنك تعيش وسط أهل المدينة/ القاهرة الذين
قست قلوبهم مثل الحجارة، بطيبة أولاد البلد، رغم كثرة المؤامرات التى تحاك ضدك
بليل أسود غشيم، بتدبير أولاد الأفاعي.
صوت جدك لا
يزال يتردد داخلك:
ماء النهر
طاهر دوماً؛ لأنه يغتسل من الأدران التي تُلقى فيه أولا بأول!
تبتسم للولد
الذي يُشبهك كثيراً، تهمس مُؤكداً:
نعم التاريخ
كائن حي، شجرة مورقة، أحداث تجرى منذ زمن بعيد، لا تزال تجرى في دمائنا، نتنفس
رائحتها في لحظتنا الراهنة؛ لأنها تتكرر باستمرار!
هل دُهشت
حقاً لكلام الولد؟
أبى ... أبى
لقد رأيت جدي!
مُندهشاً
تتسع عيناك، الولد يُواصل كلامه فرحاً:
ضمني لحضنه
قائلا: إنك تشبهني كثيراً!
حطت طيور
الجسد واهنةً، مزقت بلونة أحلامها سكين الولد، خيوط من عرق بارد، تسيل على
الخدين،
خلف الأذنين،
يدك تتشبث بيد الولد، تقعد به، تأخذه في حضنك، دقات القلب تتلاحق بسرعة، تضمه
أكثر،
بما تبقى من
عافية، هل أدركت وجعك؟ هل أحسست بالسكين البارد الذي استل روحك؟
خائفاً
مفزوعاً تضم الولد، تُخفيه بذراعيّك، تهمس بهلع:
ماذا تعنى
هذه الزيارة؟
يُفرفر الولد
بين ذراعيك، يُواصل كلامه:
قال جدي:
أعرف أن أباك مُغرم بالقصص، فهل قص عليكم قصة ذبح إسماعيل؟
إنها أول قصة
تعلمها في المدرسة، في المساء قصها علينا، بتفاصيل مُدهشة، مُشوقة، كنا نتحلق
راكية النار في ليلة شتوية باردة، نأكل حبات الجوافة، يتعارك أبوك على حبة
الجوافة ذات القلب الأحمر!
مُندهشاً
تهمس لنفسك: هل رأى الولد جده حقاً؟
لقد ذكر
واقعة حقيقية، لم تُخبره بها من قبل! ماذا يحدث بالضبط؟
والدك مات في
ديسمبر 1974، وقتها كنت بالصف الثاني الإعدادي، نحن الآن في ديسمبر 2006.
تضرب كفاً
بكف! مُردداً:
هل رأى
الولد جده حقاً؟ أم رآه في تفاصيل ملامحك؟
حين أكملت
الأربعين، كان كل صاحب من أصحاب والدك، كلما يُقابلك عقب صلاة الجمعة بالجامع
الكبير، في زياراتك المتباعدة لقريتك، يأخذك في حضنه باكياً، يقول بود، محبة،
الدموع تملأ عينيه:
سبحان الله!
لقد أصبحت تُشبه والدك تماماً!
يتأملك مرة
أخرى، قائلا:
حتى تسريحة
شعر أبيك الناعم للوراء!
بود زائد
يمسك يدك، يجذبك إليه مُؤكداً:
نأكل لقمة مع
بعضنا، أنت ابن الغالي!
تجد نفسك
تتعلل بالسفر للقاهرة، الشغل، الأولاد، تُعقب مُؤكداً:
إن شاء الله
الزيارة القادمة يا عمى!
يحضنك مرة
ثانية، وهو يبكى، تجد نفسك تبكى في حضنه مثل طفل صغير!
كان أبوك
يعشق صيد السمك، كثيراً تراه يتردد على البحر الكبير، تجده ينصت لليمام، يُردد
خلفه لحنه الحزين، تراه ينظر للبراح الواسع الأخضر، على مدد الشوف، وقد تعلق
بالسحاب الأبيض، يضمك هامساً:
آه يا ولد!
لو خلق الله لنا جناحين مثل الطيور!
تضم الولد
لحضنك هامساً:
الآن أنت
تُحلّق مع طيور، عصافير الجنة، ماذا تريد من الولد يا أبى؟
تتذكر كلام
جدتك:
احذروا زيارة
الميت لأولادكم!
خائفاً
مرعوباً تضم الولد لصدرك، تُغمض عينيك خشية الآتي، تهم أن تسأل الولد:
هل أمسك جدك
بيدك وهو يُغادر البيت؟
لكنك لم
تستطع؛ لأن الولد تملص منك وفرّ من حضنك، وقف بعيداً يرقبك مُندهشاً، حائراً!
تنكفئ على
نفسك مُحاسباً، مُعاتباً، لائماً، هامسًا:
ماذا أخذت من
ضجيج العاصمة، الأضواء، بعض الشهرة، حرقة الدم في دوامة العمل التي لا تنتهي،
كثرة الهواتف التي تُلح عليك بقضاء حوائج الناس.
اخترت أن
تعيش وحيداً وسط عشرة ملايين يسكنون القاهرة كغرباء، طلعت من الدنيا بابنتين
وولد، ها هو والدك يزورك بعد اثنين وثلاثين عاماً، يقص على ولدك قصة إسماعيل!
لقد قصصت
عليه مئات القصص التي تعلمتها في المدرسة، فلماذا اختار قصة الذبيح إسماعيل؟
يا لقسوة
فرّ، كرّ السنين، الأحلام الخضراء طيبتها نيران الاحتراق بفقد الأحبة، براح
سنوات الطفولة اختزلته الأيام في شقة مُضاءة بالنيون، لا تعرف الفرق بين ليل أو
نهار، كثيراً ما يفاجئك الولد، أيام الأجازات، مُتسائلا: هل طلع الصباح؟
آه من عذابات
الشوق، غياب الأحبة، لو كنا ندرى بهذا الرحيل، الفقد المبكر، كنا تزودنا أكثر،
ملأنا العينين، الصدر، بمحبتكم، فهل الشوق هو الذي دفعك يا أبى للزيارة؟
دامعاً تقف
مُواجهاً بابه الحجري، تقبض على يد الولد، اليد الثانية تمسح غبار السفر
المفاجئ، تُواجهه:
السلام عليك
يا أبى في دار الحق!
أنت تعرف أنى
أحبك!
تشهد أنك ما
غضبت منى يوماً!
يشهد أصحابك
أنى الابن البار بك؛ لأنك أستاذي الأول وصاحبي!
الجميع
يحسدوننا على علاقتنا الحميمة! دائماً كنت أنا بيدك، في الجامع، الشارع،
الأفراح، المآتم!
تماماً أفعل
مع الولد ما تعلمته منك، الصحبة وحسن النصيحة!
هذا ولدى
الوحيد، هو يُشبهك كثيراً!
إنه يحمل
اسمك، أليس هذا دليلا على امتداد حبل الوداد بيننا!
عفواً يا أبى
ها أنا أبادر بالزيارة! سأكررها كثيراً!
عفواً يا أبى
من هذه اللحظة زيارتك لنا لم تعد تُسعدنا!
نعم أحبك،
لكن حبي للولد أشد، هل تريد أن أكرهك؟
نعم يا أبى،
كُف عن هذه الزيارة الـ .....!
حتى لا ينقطع
حبل الوداد الذي يربطنا!
|