نزيف استدارات الشطوط
(1)
اهتزت أوصال الأرض.. ارتجت بعنف..تناثرت كل القوائم والأشلاء .
(2)
- كنا نحتاج هزة .
-أخرجنا الزلزال من حدة الصمت .
نظرت للوجوه ..الأفواه المزمومة التى تفرز حروف الأسي. استقرت كلمة فى جمجمتى أيقظت كل حرارة اليوم.
- الزلزال .
بعينين صامتين .
- ليتكلم شاهدتم معى ساعات أكتوبر .
(3)
خلف سواتر الصمت نترقب ..نرصد كل ثوانيه ..تنبطح الرؤ وس فى
الخنادق؛ ندفن ساعات لافحة بالنهار ..باردة بالليل ..نحتضن ماسورة البندقية
..نستكن أسفل الخوذ ..نشعل احتداد البصر الراصد ،الضفة الأخرى ..تحت أنفاس
حبيسة .نستجدى حديثا عن شجاعة "فارس "فجر بكارة السجون ؛ببضع رصاصات؛تتأجج ببطن
خزانة السلاح ..داخل القلب المستعر.أقعى فوق التل. متاخما لبرج مراقبة .حذرنى
رئيسى ..لامنى كى أرتدى خوذتى..تغلق كل منافذ جمجمتى .كانت تهرب منها الكلمات
.تفر عبر الليل فى سكون ،تتسلل إلى القمة .لم أزل فى وضع استعداد للقنص .أقذف
سعار بندقيتى المدفون فى الأحشاء أفضى بكارة كتل الصمت ..يشطر جمجمة فوق الضفة
الشرقية
أطيح بخوذة من فوق التباب والدشم .أرصف فجوة لقبائل الدود تعشش فى
الكهف المتلطخ بالدم الموصوم .يشق أزيز الرصاصة عنف الصمت الضاغط فوق رئة
الليل ..شرايين القلب ..يتنفس رفاق الخنادق والدشم ..يتراقصون طربا ..يهرع
رئيس الجنود نحوى .لم أزل منبطحا .أغمض عينى اليسرى نصف إغماضة .أنظر نحو سن
البندقية الذى يتراكم فوق الماسورة ؛وعينى .يتراكم السواد فوق الضفة الأخرى
؛وحشايا الخوف المدفون .تعبر شظايا القلب جثة القناة الرابضة ..بينى وبين
الجمجمة المصروعة .بدأت قبائل الدود ترتع داخل الكهف .ابتسم دون نأمه .أتمنى لو
عبر القلب مساحات الليل ..واستمر هناك فوق بقايا الجماجم المستديرة ..المشطورة
فوق التباب .
- قف.
ينهرنى رئيسى .أنظر فى عينيه الفرحتين لاغتيالى للصمت الأحمق ,لأزيز
القلب الساكت فى اعتقال .تنفلت رصاصةبعدأيام. تغتال استدارة أخرى ..تنشطر
الخوذة إلى نصفين وتنهار من فوق الساتر الترابى .يتهلل القلب فى الصدر .يحذرنى
رئيسى بحدة .
- لسنا فرقة قناصة.
أبعدنى أمتارا عن خط الضفة ؛عن جثة القناة ,وأمواجها الميتة.
- هذه أوامر.
كان حزينا عندما تلاها على أذنى ..عانقتنى عيناه .ربت فوق كتفى
منفردا.كان الصدر تملؤه جسارة .تنصهر عند أعتاب الليل. تنزف مرارة ساعات
الوهج.والعرق اللزج ..جمرات فى السترة ورأسى وتحت الإبط .ظهرى يؤلمنى عند هبوب
شهر طوبة .أشعر بآلام الروماتيزم ,تخترق العظمة المتاخمة لعضلة المجانص).فى
العتمة تزداد البرودة ,يتراكم الليل فوق جدار الصقيع ..تملأ الشبورة سماء الفجر
..تحول رؤية الضفة المقابلة ..لم تبرح عدد مواطىء الرؤوس المدفونة فوق السواتر
المتحركة نهارا داخل عربات مصفحة ..تظهر كحبة رمل صغيرة ...تترقبها حدقتان
متوقدتان بحدة .
- لدينا أمهر رامى سلاح فى الحى ..كان فى الأعياد يتباهى أهل حارتى
..بإصابتى داخل عربة نيشان(البمب).عند موالد سيدى أبى العباس المرسى وسيدى
جابر. كانوا يراهنون أولاد الأحياء الأخرى .من اللبان وكرموز ومحرم بك
والعطارين ورأس التين والأنفوشى وبحرى ..احتدت نبرتى .كنت أكره المراهنات كان
صاحب عربة النيشان يقايضنى .أصرخ فى وجهه .أذهب إلى شارع محمد كريم "أخرم "من
شارع فرنسا .أصل إلى ساحة اللهو عند المرسى وأحيانا نحو ميدان شارع النصر
..أرمق عند نهاية الشارع واجهة بيتى .كان يتاخم سينيما "كونكورد " تطل الشرفة
على سينيما "ركس".كنت أفضل أفلام سينيما كونكورد على ركس وكرموز وماجيستيك
.لازلت أذكر فيلم "الأربع بلالي المنقوشة" على صدر الممثل الكاوبوى بسينيما
بلازا كان البطل سريع الطلقات لا يخطىء نيشانه .يحطم (البلّى ).فوق الصدر
النازف .يكسوه الدخان.ورائحة البارود تهز أوصال السينيما ..يصرخ الصبية لا
يرمشا جفناى .
-هل تكسب البطل فى النيشان (يقولها أحد الرفاق).
سريعة هى الطلقات من فوهات الغضب .بطيئة لحظات الترقب .
-سوف أسجنك لعصيانك الأوامر يا جندى صلاح.
يزعق فى وجهى .لم أزل منبطحا .عينى لا ترمش من فوق الفتحة الضيقة
؛بأعلى الماسورة الممتدة خلال اليدين القابضتين على قلب البندقية التى تخفق
بعنف.تتدحرج رأس من فوق الضفة الأخرى ..تتدلى الخوذة فى مياه القناة .تجرفها
بعنف. تسير فى اتجاه السويس ..أتذكر غارات الأشهر الماضية التى لفها الصمت ؛بعد
إ شاعة حائط الصواريخ "الروسى"القادم .صوب الإسماعيلية,يؤانس وحشة البحيرات
"المرة "و"التمساح ".يفرد جناحيه ..يظلل مياهها الصافية ..ينزح كدر الماء .يصفى
مرارتها.. تبدو شهدا فى حلقى. لم يزل الجندى رأسه تتدلى بين ساعديه الممتدتين
,يهزها الريح الجارف .يختلط اللغو فى أذنى.
-كيف أصطاد هذا الفأر !؟
-الشبورة كثيفة .
-قناص من صغره أنصاع لأوامر الضابط ..أعود لنداء الرفاق فى ساحات
أبى العباس ..أصوات المزامير؛وقرع طبول الموالد والأعياد يحملنى فوق أعناق
"حميدو "وعضلاته المفتولة ..يتباهى بطلقاتى يرفعنى لأعلى ..أشاهد المآذن
العالية ..ألمسها.تفزع أسراب الحمام..أضحك من القلب ..تمتلىء الأوردة جسارة
أفرغها فى قلب عربة النيشان ..تتفجر كرات البمب.تخلف دخانا وبارودا أراقبه.
أتلذذ رائحته .يتبدد فى عينى .
-لماذا لم تنفذ الأوامر؟
تتراكم الأسئلة ..يتراكم الصمت .يقف من خلف المكتب ..يدور حولى
.يربت فوق كتفى .النياشين والقطع النحاسية تلتمع فوق الأكتاف ومقدمة الصدر .يواجهنى
بعينين حانيتين.
-أنافخور بك لكن..
أشرخ حدة الصمت .
-إلى متى نزدرد حروف الصبر .بات علقما فى الحلوق المتعطشة لمياه
السويس وبور فؤاد والتمساح.
مبتسما.
-انتظر أياما قليلة.
-وما تحمل ؟
-أخبارا سارة لك!
**************
تتحرك عربات نصف جنزير ..وعربات كبيرة الحجم .تحمل صواريخ هائلة
.ألمسها أكتب عليها اسمى ؛بعد البسملة.
-الصواريخ الروسية ستحد من غارات العدو تماما.
-قادرة على التحرك والتمويه.
-وإسقاط الطائرات من فوق رأسى.
يشير اللواء علّى وسط الطابور.
-صلاح الدين هو الأكفأ.ستكون من نصيبه أول طائرة إسرائيلية.نزين
بحطامها الدشم .
يربت على كتفى الجميع فى تهلل .يبتسم القلب منذ سنوات..أصعد فوق
العربة.أضبط زوايا النيشان..يجزع الجميع..أترقب فى وهج الشمس أزيزا عبر الأفق.
***********
كان الجنود طوال الساعات الحارقة ..يدفنون رؤسهم فى الحفر
والخنادق..ينتظرون فى جلل أزيزا يشق القلب الواجف ..الدخان الكثيف الذى يملأ
سماء الأفق ..طوال الشهور الماضية.كانت بندقيتى تصطاد الرؤس عند الفجر ..كانت
تشفى غليل النهار وبرودةالليل ,الذى تترسب فى أوردته كآبة .تتناثر شظايا الغضب
من الحدقتين .تنتزع الاهتزازات العنيفة كل الحنق ؛ترمم جدار القلب .تربت على
أكتاف رجال الإسماعيلية وبور سعيد والسويس ؛نمقت أنفسنا .أخرج بجنون أفرغ الغضب
المتراكم فى أحشاء البندقية ؛ناحية الأزيز والانفجارات .تتبعثر فى الهواء تصيب
كتل الدخان التى توصم مخابئنا .يشدنى الجنود .ارتمى فوق أحضان الغل.أتقلب فوق
وخز الفراش للصباح.
-لن يخترق أزيزكم آذاننا (قالها أحد الجنود وهو يشير إلى السماء
فى انتظار طائرات العدو )
_سوف نصغى لصوت الشظايا والارتطام قالها آخر وهو يشير علىّ .كنت فى
وضع استعداد فوق عربة التنشين .أضبط زوايا الضرب .المصوبة فى ارتفاع زاوية حادة
.تمر الساعات الحارقة .أخلع سترتى .أمسح كفى من العرق ..الكل فى حالة تأهب
ينتظرون أول تجربة لحائط"الصد" من الصواريخ الروسية.
-هل تسقط طائرات العدو حقا؟
يتسرب الشك عبر مسام القلب المكدود..يصرخ آخر.
-سوف تصم الغارات آذاننا.
-شد حيلك يا وحش .
-قناص الرؤس ..سيحطم غاراتهم .
فى الأفق يخترق الأزيز السماء.ينبطح الكل .يشتد الساعد فوق دائرة
التنشين..انفجار.
(4)
محمومة الطلقات فى أصابعى ..نزيف الدخان يتخلف من ذيول الطائرات
المغيرة.يوميا أصبح هذا المشهد يتكرر .يبدو مملا يتراهن البعض على سقوط الطائرة
بعد الطلقة السادسة.الآخر يؤكد أن المجموع. عشرة..والكل يؤكد أنهم ثلاث وسبعون
73 خلال ستة أيام.تكاد تصطدم طائرتان من ارتعاد أجنحتها لفوهات المدافع
المصوبة.
-ادعو لروسيا.
-ادعو لأبو صلاح وأمثاله على امتداد القناة.
-هل يستمرون فى دفع الضحايا من طائراتهم؟
-سمعت عن ضرب بحر البقر ومجزرة أبى زعبل.
-هذه ضربات اليأس .
-متى نعبر الضفة الشرقية؟
-وندوسها بأقدامنا.
-بعد إعلان المبادرة.
-أية مبادرة.!
انفجر ضاحكا .كانت تتسلل الأنباء عن وجود دبلوماسى أمريكى يزور
المنطقة من أجل البحث عن مخرج من المأزق.
-هل يوقف إطلاق النار؟
-مستحيل.
يصرخ صلاح من فوق مقعده الحديدى.
-على جثتى.
-الأوامر صدرت.
-كم المدة.
-ثلاثة شهور.
يشرد..ينخرط فى الصمت..ينظر إلى السماء اللافحة..يعود
للانتظار ،والنظر لأقصى مدى تبصره عيناى من خلف زجاج النظارة
الميدانية.يضغط بعنف تلك المرة ..تتطاير أ شلاء الطائرات بعد عدة طلقات
..يتصايح الجنود أخذ يشرد فى الليل..أيقظته كلمات النهار,حول الرجل ذى الوجه
الأحمر القادم من بلاد رعاة البقر..هل يقذف( البلّى) فى صدر جنود الضفة
الغربية.الخوض فى تلك الأفكار يقتله..يمزق إحساسه..تطفو فوق سطح القناة أجنحة
نزع ريشها من قلب الطائرة ..يجرفها التيار نحو الشاطىء.
-هل يعبر العدو يوما شطوطنا .؟يطأ بأقدامه مدن السويس يصطاد أسماكا
فى بحيرة التمساح..يلهو بقارب صيد فى بور سعيد وبور فؤاد..يعبر نحو
القصاصين؛كما فعل الإنجليز ..يندس الخونة بين صفوف عرابى فى التل الكبير..قتلهم
جدى بعد ذلك عندما مات الخديوى توفيق.
-لن يطأ أحد أرضنا.
زعق.
-لن نوافق على معاهدات مع الأعداء.
-سنبيدهم..نلقيهم فى الجب..فى صحراء التيه.
(5)
الحزن يكسو وجه صلاح وباقى الرجال .صاح قائد اللواء فى الجنود.
-علينا تنفيذ الأوامر.
-ألا تشتاق لر مال سيناء؟.
-أحضرت حفنة منها منذ أيام.
-لم تكن ملازما فى "الكونتلا " ورائدا فى جزيرة فرعون!!
-هل شاهدت قلعة صلاح الدين؟
صاح الجندى صلاح
-إنها ملكى وحدى.
*************
لم يزل ..يخيم الظلام والصمت فوق وجه القائد ..يستمع إلى غضب الجنود
الذى يمتصه.
-مبادرة روجرز علينا احترامها.
صاح صلاح.
-ملعونة كل المبادرات التى توصم أيدينا بالخزى والعار ؛حتى لو
استعدنا أرضنا.
صاح آخر.
(لن يتركونا مهما طال الزمن وأوهمونا بإرجاع الحقوق المسلوبة)
نادى البعض.
-كلنا معك يا صلاح وضد "يارنج"و "روجرز"
-كلنا مع صلاح الدين.
-اضرب غاراتهم .مزق طائراتهم أشلاء من جمرات .النار تطفىء غليل مياه
القناة.رفع الرجل يده .أمرهم بالانصراف بعد أن زعق فيهم.
-لاتخالفوا الأوامر.
(6)
شعر صلاح بمرارة فى حلقه .قالوا من ضرسه الذى تسلل إليه السوس .بدأت
الأيام تمر برتابة ..انسلخ النهار من أصوات الأزيز والانفجارات .راكدة مياه
القناة .تنتظر أن تطفىء غلا
محموما 0رمال الشطوط اكتست بالقنوط وعرق الرجال اللزج.
-حائط صواريخ الصد..طظ.
(قالها بعنف )
ركل الإطارات المجنزرة .دفن وجهه في كفه من لفح الشمس المحمومة
التي شعر بسخونتها منذ إيقاف إطلاق النار.
- لن يهتم أحد بنا.
-سوف يعتري البنادق..الصدأ.
هزم الليل ساعات النهار اللزجة ..مات الملل عند رمال.. الشطوط..كانت
أنفاس الريح تركل أذني.بدأت أسمع أشياء لم أعرها انتباها من قبل .أمسك كوب
الشاي؛ ضغط عليه ..طعنت سخونته برودة أصابعه..لم يزل مصوبا عينيه فوق الضفة
الأخري . لفه الليل الموحل في السواد والصمت .انخرط في براثن الانتظار علّق
عينيه فوق الضفة الشرقية .كان الظلام أفسد منظرها ، استند إلي الدشمة أفرغ
محتويات بندقيته.ألقاها بجانبه..يحصي الرصاصات التي قتلها الصمت.
تعاريج البحر
عتيا كان القارب..تنخر الأمواج جنباته..تعاريج الحواف تفصح عن ساعات الصمود. لم
يلن.تقوس أخشاب" السرو" تشى بسنوات العمر..يحمل فوقها كاهله؛ وأياما
عصيبة..كانت تصمد للريح..لطمات الأسماك العملاقة؛ وهى تتصارع سابحة خلف نتؤات
جذر " فاروس " البارزة من أثر الزلازل. عند الأنفوشى ورأس التين. ماردا كان
الصارى.يشق السماء.. الأشرعة تمتلىء بعباب الريح ، وفيض النوات. يرحل القارب
بعيدا عن العيون.. يشد الحبال بيد معروقة. تفحر السنوات الساعدين.. تبرز عضلات
مفصلية.. تقص بطولات زاخرة بالرأس. يخط ذكريات جديدة مع ميلاد شمس جديدة.. يقص
الصيادون وهم يرونه عبر الأفق البعيد. يفرزون الحكايا عند الشواطىء عن عجائب
الصيد. لم يجرؤ أحد أن يسبر أغوار ما تسكن إليه شراع قاربه.. لتنسج تاريخا لم
يصنعه غيره من الصيادين. قالوا : لولا القارب ما كان الصيد وفيرا. تملأ تضاريس
وجهه الضحكات.. مترعة من القلب الغض.. يترك لهم قاربه العتيق. لم يتحرك. حاولوا
قهره كان عنيدا.. لفظهم عند أول موجة.. عادوا سابحين.. تزداد مساحات الضحكات فى
وجهه.. يشد القارب بالحبال.. طيع لأوامره. يبحر أمامهم فى شموخ.. يشق أمواج
الأنفوشى بجسارة.. تمتلىء الشباك المتهالكة بالأسماك. تفترش حبات الرمال..
تنتشر رائحة اليود.. تملأ الأنوف.. فى المساء يقعى يرتق خيوط الشباك.. يرتق
أوردة القلب.. يشق السكون بضحكة. يفرز حكايا الأيام السابقة و كيف هزم فلول
الأمواج و الأسماك الضخمة. كانت إحداها تملأ القارب من ضخامتها. تحدث أهل الصيد
عنها ليال. ملأت المقاهى المسامرات.
*******
يتلمس مساحات الأخشاب بيدين محمومتين. يتشمم رائحتها. يشعر بلسانه يتمدد داخل
فمه يتضخم
لا يقوى على الكلام.. تزداد حدة الحمى. يجس أحدهم جبينه. تتلون بالحمرة .
- لا حول ولا قوة إلا بالله .
تأتى فتاة صغيرة ببعض الأغطية والدثار المتهرىء. يضعونه فوق الجسد المستسلم.
ترتع فيه السخونة .
- ننقله إلى المستشفى .
- فى الصباح سيكون كالحصان إن شاء الله.
- لم يمرض قط .!!!!!!!!!
- هزمته فلول الأمواج .
- هل سيتصدى لصخب الريح مرة أخرى ؟
- أعرف قصته منذ صباه .
قالها عجوز هدته السنون. فرك فى رأسه المشيب. أمسك علبة صدئة. نزعها من قلب
الصديرى المدموغ بعلامات الصدأ. سعل.. أفرز بقعا صدئة.. فتح العلبة.. أخرج ورق
" بافرا " ، وبعض "التمباك " .. لف السيجارة بأصابع مدربة . وضعها فى فمه.
أشعلها.. سحب أنفاسا مولعة. امتلأت الحجرة بالدخان. لفحته امرأة بدينة كوبا من
الشاى.
( كان يعمل صيادا صغيرا عند المعلم " مرسى " الذى أعجب بحيويته وذكائه وشجاعته.
عندما يخوضون عباب البحار. تشتد الأمواج. لا يهتز. يشرع صدره للريح.. يصيح : "
هلمى سوف أقهر صوتك بزئيرى . لن تكل يداى من التجديف مهما علت الأمواج " . كان
الرجا ل يتعجبون لنزواته. كانت الأمواج العاتية تشعل جذوته ونزقه. لم يتعرف أحد
على هذا السر. قالها أحد الصيادين (سوف يموت مدفونا فى إحدى تلك الأمواج يوما
). ازداد الهوس بالرأس. شرع يديه للسماء.. صاح فى وجه الأمواج:
- كفى أيتها الأمواج .
كانت تصفر الريح.
- كف أيها الريح.
بعد دقائق. ابتلع البحر أمواجه.. أصبح (حصيرة ) هزم صوته الطفولى الزمهرير..
طاش عقل الرجال.. أيكون مخاويا هذا الطفل. ألقى بالشباك كانت سمكة تماثله فى
الطول.. ساعده المعلم "مرسى " . صاح
- عفارم عليك يا واد يا بحر. لا المعلم بحر )
العيون ترتسم فوقها الدهشة.. و أعاجيب الحكايا. لفحة من الهواء الساخن.. تنقلها
نسمة فوق وجوههم.. ينظرون للمعلم بحر، وهو يسبح فى تخوم الحمى. بعض الأيادى
تتشفع له ضارعة لسيدى الطرطوشى والمرسى أبى العباس وسيدى أبى الدرداء.. يد
رقيقة تبدل له ( خرقة) من القماش المبتل فوق جبينه المغموس فى ماء بارد لعمل
بعض ( الكمادات ) . لم تزل الآذان تنتظر كثيرا من الحكايا بشغف عن صباه
و شبابه ونزواته مع بنات الأنفوشى . تهتز أخشاب من الداخل.. تئز إثر مروق فأر .
- سوف يحزن كثيرا حينما يكتشف .......................
- كان الحل الوحيد لدينا...................................................
لم يجرؤ أحد من الرجا ل أن ينطق بباقى الكلمات. كانت الحروف تتعثر فى الحلوق..
ينقبض القلب. تغض الأبصار .
- لو علمت لاستضفته فى بيتى .
صوت خشن لا يهتز .
- لم تسدد له دينه حينما لجأ يوما لك .
نكس رأسه لم يقو على الرد . نزف المعلم بحر عرقا كثيرا طوال عدة ساعات.. عند
حواف الفجر . بدأ يفيق.. يتلمس بعض الأشياء حوله.. يتشمم رائحة الشباك . يبحث
بعينيه عن شىء ما ؛ وسط الرجال والنساء المتشابكين حوله. صوت طنين و همهمات لم
يفهمها حتى الآن. فهمته فتاة صغيرة كانت تبكى طوال الساعات الماضية. نزعت من
فوق الجبين آخر قطعة مبتلة..كانت الحمى قد هدأت . تسربت من الجسد الواهن. أراد
أن يتحرك خارج الكوخ الخشبى..صدمته أخشاب الكوخ. اضطرب لها القلب المضرج فى
دمائه. حاول أن يتلمسها. كاد يقع. سانده أحد الصيادين. تحسسها بكف عتيق ..
لكزها.. طفرت دمعة من عينيه . قالها أحدهم .
- لم نجد غير أخشاب القارب المتهالك نصنع منه دثارا لك .
- القارب أصبح حطاما . فكرنا أن يكون كوخا يقيك من حر الشمس اللافحة ، و برد
الشتاء .
- الحمى كانت ستقضى عليك .
- الحمد لله أنك................................
خر على الأرض . انسرب من بين أيديهم.
|